وهي مكية باتفاق سوى ما حكى ابن عطية عن أبي عمرو الداني أنه حكى عن بعض العلماء وأنها مدنية.
وقد عدت العاشرة في عداد نزول السور. نزلت بعد سورة الليل وقبل سورة الضحى.
وعدد آيها اثنتان وثلاثون عند أهل العدد بالمدينة ومكة عدوا قوله ﴿ ونعمه ﴾ منتهى آية، وقوله ﴿ رزقه ﴾ منتهى آيه. ولم يعدها غيرهم منتهى آية، وهي ثلاثون عند أهل العدد بالكوفة والشام وعند أهل البصرة تسع وعشرون.
فأهل الشام عدوا ﴿ بجهنم ﴾ منتهى آية. وأهل الكوفة عدوا ﴿ في عبادي ﴾ منتهى آية.
أغراضها حوت من الأغراض ضرب المثل لمشركي أهل مكة في إعراضهم عن قبول رسالة ربهم بمثل عاد وثمود وقوم فرعون.
وإنذارهم بعذاب الآخرة.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم مع وعده باضمحلال أعدائه.
وإبطال غرور المشركين من أهل مكة إذ يحسبون أن ما هم فيه من النعيم علامة على أن الله أكرمهم وأن ما فيه المؤمنون من الخصاصة علامة على أن الله أهانهم.
وأنهم أضاعوا شكر الله على النعمة فلم يواسوا ببعضها على الضعفاء وما زادتهم إلا حرصا على التكثر منها.
وأنهم يندمون يوم القيامة على أن لم يقدموا لأنفسهم من الأعمال ما ينتفعون به يوم لا ينفع نفس مالها ولا ينفعها إلا إيمانها وتصديقها بوعد ربها. وذلك ينفع المؤمنين بمصيرهم إلى الجنة.
ﰡ
أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُمْ وَأَنَّ مَا فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْخَصَاصَةِ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَهَانَهُمْ.
وَأَنَّهُمْ أَضَاعُوا شُكْرَ اللَّهِ على النِّعْمَة فَلَمَّا يُوَاسُوا بِبَعْضِهَا الضُّعَفَاءِ وَمَا زَادَتْهُمْ إِلَّا حِرْصًا عَلَى التَّكَثُّرِ مِنْهَا.
وَأَنَّهُمْ يَنْدَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَنْ لَمْ يُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ يَوْمَ لَا ينفع نفسا مَالُهَا وَلَا يَنْفَعُهَا إِلَّا إِيمَانُهَا وَتَصْدِيقُهَا بِوَعْدِ رَبِّهَا. وَذَلِكَ يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَصِيرِهِمْ إِلَى الْجنَّة.
[١- ٤]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)الْقَسَمُ بِهَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْضَهَا دَلَائِلُ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وَسَعَةِ قُدْرَتِهِ فِيمَا أَوْجَدَ مِنْ نِظَامٍ يُظَاهِرُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ ذَلِكَ وَقْتُ الْفَجْرِ الْجَامِعِ بَيْنَ انْتِهَاءِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَابْتِدَاءِ نُورِ النَّهَارِ، وَوَقْتُ اللَّيْل الَّذِي تمحضت فِيهِ الظُّلْمَةُ. وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ أَوْقَاتٌ لِأَفْعَالٍ مِنَ الْبِرِّ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، مِثْلَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ، وَاللَّيَالِي الشَّفْعِ، وَاللَّيَالِي الْوَتْرِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ تَحْقِيقُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ فِي الْكَلَامِ مِنْ طُرُقِ تَأْكِيدِ الْخَبَرِ إِذِ الْقَسَمُ إِشْهَادُ الْمُقْسِمِ رَبَّهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ.
وَقَسَمُ اللَّهُ تَعَالَى مُتَمَحِّضٌ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ.
وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ [الْفجْر: ٦] وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفجْر: ١٤].
وَلِذَلِكَ فَالْقَسَمُ تَعْرِيضٌ بِتَحْقِيقِ حُصُولِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُنْكِرِينَ.
وَالْمَقْصِدُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقَسَمِ بِأَشْيَاءَ، التَّشْوِيقُ إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ.
والْفَجْرِ: اسْمٌ لِوَقْتِ ابْتِدَاءِ الضِّيَاءِ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ مِنْ أَوَائِلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ حِينَ يَتَزَحْزَحُ الْإِظْلَامُ عَنْ أَوَّلِ خَطٍّ يَلُوحُ لِلنَّاظِرِ مِنَ الْخُطُوطِ الْفَرْضِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي
فَالْفَجْرُ ابْتِدَاءُ ظُهُورِ النُّورِ بَعْدَ مَا تَأْخُذُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ فِي الِانْصِرَامِ وَهُوَ وَقْتٌ مُبَارَكٌ لِلنَّاسِ إِذْ عِنْدَهُ تَنْتَهِي الْحَالَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى النَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَبِيهُ الْمَوْتِ وَيَأْخُذُ النَّاسُ فِي
ارْتِجَاعِ شُعُورِهِمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى مَا يَأْلَفُونَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمُ النَّافِعَةِ لَهُمْ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْفَجْرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمُنَاسَبَةِ عَطْفِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فَجْرٌ مُعَيَّنٌ: فَقِيلَ أُرِيدَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ وَهُوَ عَنْ قَتَادَةَ.
وَقِيلَ: فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ الْفَجْرُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْحَجِيجُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَهَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ، فَيَكُونُ تَعْرِيفُ الْفَجْرِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ: هِيَ لَيَالٍ مَعْلُومَةٌ لِلسَّامِعِينَ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا عَشْرٌ وَاسْتُغْنِيَ عَنْ تَعْرِيفِهَا بِتَوْصِيفِهَا بِعَشْرٍ وَإِذْ قَدْ وَصَفْتَ بِهَا الْعَدَدَ تَعَيَّنَ أَنَّهَا عَشْرٌ مُتَتَابِعَةٌ وَعُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِهَا مَعَ أَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ لِيُتَوَصَّلَ بِتَرْكِ التَّعْرِيفِ إِلَى تَنْوِينِهَا الْمُفِيدِ لِلتَّعْظِيمِ وَلَيْسَ فِي لَيَالِي السَنَةِ عَشْرُ لَيَالٍ مُتَتَابِعَةٍ عَظِيمَةٍ مِثْلِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الَّتِي هِيَ وَقْتُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَفِيهَا يَكُونُ الْإِحْرَامُ وَدُخُولُ مَكَّةَ وَأَعْمَالُ الطَّوَافِ، وَفِي ثَامِنَتِهَا لَيْلَةُ التَّرْوِيَةِ، وَتَاسِعَتُهَا لَيْلَةُ عَرَفَةَ وَعَاشِرَتُهَا لَيْلَةُ النَّحْرِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا اللَّيَالِي الْمُرَادَّةُ بِلَيَالٍ عَشْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ،
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ (الْمَكِّيِّ) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى»
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَمْ يَصِحَّ وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: رِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ وَعِنْدِي أَنَّ الْمَتْنَ فِي رَفْعِهِ نَكَارَةٌ اهـ.
وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِ لَيالٍ عَشْرٍ عَلَى الْفَجْرِ أَنَّ الْفَجْرَ وَقْتُ انْتِهَاءِ اللَّيْلِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّيْلِ جَامِعُ الْمُضَادَّةِ، وَاللَّيْلُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَمَّا أُرِيدَ عَطْفُهُ عَلَى الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ خُصَّتْ قَبْلَ ذِكْرِهِ بِالذِّكْرِ لَيَالٍ مُبَارَكَةٌ إِذْ هِيَ مِنْ أَفْرَادِ اللَّيْلِ.
وَكَانَتِ اللَّيَالِي الْعَشْرُ مُعَيَّنَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ غُيِّرَتْ
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقِ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ».
وَهَذَا التَّغْيِيرُ لَا يَرْفَعُ بَرَكَةَ الْأَيَّامِ الْجَارِيَةِ فِيهَا الْمَنَاسِكُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَهَا لِأَجْلِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ إِذْ هُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ خَاصَّةً.
فَأَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ تَعْيِينٌ لِإِيقَاعِ الْعِبَادَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِإِيقَاعِهَا حِكْمَةً عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلِذَلِكَ غَلَبَ فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ إِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْوَقْتِ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالسَّبَبِ الْمُعَرَّفَ بِالْحُكْمِ وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ نَفْسَ الْحِكْمَةِ.
وَتَعْيِينُ الْأَوْقَاتِ لِلْعِبَادَاتِ مِمَّا انْفَرَدَ اللَّهُ بِهِ، فَلِأَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ حُرُمَاتٌ بِالْجَعْلِ الرَّبَّانِيِّ، وَلَكِن إِذا اختلت أَوِ اخْتَلَطَتْ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَالُهَا أَوِ اخْتِلَاطُهَا بِقَاضٍ بِسُقُوطِ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لَهَا.
فَقَسَمُ اللَّهِ تَعَالَى بِاللَّيَالِي الْعَشْرِ فِي هَذِهِ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَسَمٌ بِمَا فِي عِلْمِهِ مِنْ تَعْيِينِهَا فِي عِلْمِهِ.
والشَّفْعِ: مَا يَكُونُ ثَانِيًا لِغَيْرِهِ، والْوَتْرِ: الشَّيْءُ الْمُفْرَدُ، وَهُمَا صِفَتَانِ لِمَحْذُوفٍ،
فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ
ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ وَمُنَاسَبَةُ الِابْتِدَاءِ بِالشَّفْعِ أَنَّهُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ فَنَاسَبَ قَوْلَهُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَأَنَّ الْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنَّسَائِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَذِكْرُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ تَخْصِيصٌ لِهَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ، بَعْدَ شُمُولِ اللَّيَالِي الْعَشْرِ لَهُمَا.
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي «الْعَارِضَةِ أَنَّ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «وَعِنْدِي أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَشْبَهُ».
وَيَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ.
وَقِيلَ: الشَّفْعُ يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ مِنًى، وَالْوَتْرُ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ فَتَكُونُ غَيْرَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ.
وَتَنْكِيرُ لَيالٍ وَتَعْرِيفُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ اللَّيَالِيَ الْعَشْرَ لَيَالٍ مُعَيَّنَةٌ وَهِيَ عَشْرُ لَيَالٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَتَعْرِيفُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمَا مَعْرُوفَانِ وَبِأَنَّهُمَا الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ مِنَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ.
وَفِي تَفْسِيرِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ اسْتَقْصَاهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَأَكْثَرُهَا لَا يَحْسُنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَتْ فِيهَا مُنَاسَبَةٌ لِلْعَطْفِ عَلَى لَيَالٍ عَشْرٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْوَتْرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَبَكْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَهُمْ بَنُو سَعْدٍ أَظْآرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَهْلُ الْعَالِيَةِ، فَهُمَا لُغَتَانِ فِي الْوَتْرِ. بِمَعْنَى الْفَرْدِ.
واللَّيْلِ عَطْفٌ عَلَى لَيالٍ عَشْرٍ عَطَفَ الْأَعَمَّ عَلَى الْأَخَصِّ أَوْ عَطَفَ عَلَى الْفَجْرِ بِجَامِعِ التَّضَادِّ. وَأَقْسَمَ بِهِ لِمَا أَنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ حِكْمَتِهِ.
وَمَعْنَى يَسْرِي: يَمْضِي سَائِرًا فِي الظَّلَامِ، أَيْ إِذَا انْقَضَى مِنْهُ جُزْءٌ كَثِيرٌ، شُبِّهَ تَقَضِّي اللَّيْلِ فِي ظَلَامِهِ بِسَيْرِ السَّائِرِ فِي الظَّلَامِ وَهُوَ السُّرَى كَمَا شُبِّهَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: ٣٣] وَقَالَ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضُّحَى: ٢]، أَيْ تَمَكَّنَ ظَلَامُهُ وَاشْتَدَّ.
وَتَقْيِيدُ اللَّيْلِ بِظَرْفِ إِذا يَسْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ تَمَكُّنِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّاسُ أَخَذُوا حَظَّهُمْ مِنَ النَّوْمِ فَاسْتَطَاعُوا التَّهَجُّدَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: ٦] وَقَالَ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: ٢٦].
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِدُونِ يَاء وَصْلًا وَوَقْفًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ يُوَافِقُهَا رَسْمُ الْمُصْحَفِ إِيَّاهَا بِدُونِ يَاءٍ، وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا الْيَاءَ فِي الْوَصْل وَالْوَقْف اعْتَمَدُوا الرِّوَايَةَ وَاعْتَبَرُوا رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةً أَوِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ الرَّسْمَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَقْفِ.
وَأَمَّا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ فَلَا يُوهِنُ رَسْمُ الْمُصْحَفِ رِوَايَتَهُمْ لِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ جَاءَ عَلَى مُرَاعَاةِ حَالِ الْوَقْفِ وَمُرَاعَاةُ الْوَقْفِ تَكْثُرُ فِي كيفيات الرَّسْم.
[٥]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : آيَة ٥]
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ جَوَابِهِ أَوْ دَلِيلِ جَوَابِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الْوَاقِعَة: ٧٦].
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَكَوْنُهُ بِحَرْفِ هَلْ لِأَنَّ أَصْلَ هَلْ أَنْ تَدُلَّ عَلَى التَّحْقِيقِ إِذْ هِيَ بِمَعْنَى (قَدْ).
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِمَّا أَقْسَمَ بِهِ، أَيْ هَل فِي الْقسم بذلك قَسَمٌ.
وَتَنْكِيرُ قَسَمٌ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ قَسَمٌ كَافٍ وَمُقْنِعٌ لِلْمُقْسَمِ لَهُ، إِذَا كَانَ عَاقِلًا أَنْ يَتَدَبَّرَ بِعَقْلِهِ.
فَالْمَعْنَى: هَلْ فِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ لِلسَّامِعِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ صَاحِبُ حِجْرٍ.
وَالْحِجْرُ: الْعَقْلُ لِأَنَّهُ يَحْجُرُ صَاحِبَهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي، كَمَا سُمِّيَ عَقْلًا لِأَنَّهُ يَعْقِلُ صَاحِبَهُ عَنِ التَّهَافُتِ كَمَا يَعْقِلُ الْعِقَالُ الْبَعِيرَ عَنِ الضَّلَالِ.
[٦- ١٤]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : الْآيَات ٦ إِلَى ١٤]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)
لَا يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ وَلَكِنَّهُ: إِمَّا دَلِيلُ الْجَوَابِ إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا فُعِلَ بِهَذِهِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ الدَّالُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ، فَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ لَيَصُبَّنَّ رَبُّكَ عَلَى مُكَذِّبِيكَ سَوْطَ عَذَابٍ كَمَا صَبَّ عَلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ.
وَإِمَّا تَمْهِيدٌ لِلْجَوَابِ وَمُقَدِّمَةٌ لَهُ إِنْ جَعَلْتَ الْجَوَابَ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ اعْتِرَاضٌ جُعِلَ كَمُقَدِّمَةٍ لِجَوَابِ الْقَسَمِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ لِلْمُكَذِّبِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ، فَيَكُونُ تَثْبِيتًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: ٤٢].
فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَثْبِيتًا لَهُ وَوَعْدًا بِالنَّصْرِ، وَتَعْرِيضًا لِلْمُعَانِدِينَ بِالْإِنْذَارِ بِمِثْلِهِ فَإِنَّ مَا فُعِلَ بِهَذِهِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ مَوْعِظَةٌ وَإِنْذَارٌ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ فَعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ قُصِدَ مِنْهُ تَقْرِيبُ وُقُوعِ ذَلِكَ وَتَوَقُّعُ حُلُولِهِ. لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِالنَّظَائِرِ وَاسْتِحْضَارَ الْأَمْثَالِ يُقَرِّبُ إِلَى الْأَذْهَانِ الْأَمْرَ الْغَرِيبَ الْوُقُوعِ،
لِأَنَّ بُعْدَ الْعَهْدِ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهِ يُنْسِيهِ النَّاسَ، وَإِذَا نُسِيَ اسْتَبْعَدَ النَّاسُ وُقُوعَهُ، فَالتَّذْكِيرُ يُزِيلُ الِاسْتِبْعَادَ.
فَهَذِهِ الْعِبَرُ جُزْئِيَّاتٌ مِنْ مَضْمُونِ جَوَابِ الْقَسَمِ، فَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فَذِكْرُهَا دَلِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْجَوَابِ
وَالرُّؤْيَةُ فِي أَلَمْ تَرَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةً عِلْمِيَّةً تَشْبِيهًا لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْوُضُوحِ وَالِانْكِشَافِ لِأَنَّ أَخْبَارَ هَذِهِ الْأُمَمِ شَائِعَةٌ مَضْرُوبَةٌ بِهَا الْمُثُلُ فَكَأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ.
فَتَكُونُ كَيْفَ اسْتِفْهَامًا مُعَلِّقًا فِعْلَ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً وَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ آثَارَ مَا فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، وَتَكُونُ كَيْفَ اسْمًا مُجَرَّدًا عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ.
وَعُدِلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِإِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ:
فَعَلَ رَبُّكَ لِمَا فِي وَصْفِ رَبٍّ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْوَلَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَلِمَا تُؤْذِنُ بِهِ إِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مِنْ إِعْزَازِهِ وَتَشْرِيفِهِ.
وَقَدِ ابْتُدِئَتِ الْمَوْعِظَةُ بِذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ لِشُهْرَتِهِمَا بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ وَذُكِرَ بَعْدَهُمَا قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِشُهْرَةِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِبِلَادِ الْعَرَبِ وَهُمْ يُحَدِّثُونَ الْعَرَبَ عَنْهَا.
وَأُرِيدَ بِ «عَادٍ» الْأُمَّةُ لَا مَحَالَةَ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [هود:
٥٩] فَوَجْهُ صَرْفِهِ أَنَّهُ اسْمٌ ثُلَاثِيٌّ سَاكِنُ الْوَسَطِ مِثْلَ هِنْدٍ وَنُوحٍ وَإِرَمَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ اسْمُ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَهُوَ جَدُّ عَادٍ لِأَنَّ عَادًا هُوَ ابْنُ عُوصِ بْنِ إِرَمَ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ الْبَائِدَةَ يُعْتَبَرُونَ خَارِجِينَ عَنْ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِ «عَادٍ» لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِ «عَادٍ» الْقَبِيلَةُ الَّتِي جَدُّهَا الْأَدْنَى هُوَ عَادُ بْنُ عُوصِ بن إرم، وهم عَادٌ الْمَوْصُوفَةُ بِ الْأُولى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النَّجْم: ٥٠] لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ قَبِيلَةٌ أُخْرَى تُسَمَّى عَادًا أَيْضًا. كَانَتْ تَنْزِلُ مَكَّةَ مَعَ الْعَمَالِيقِ يُقَالُ: إِنَّهُمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَاد الأولى فَعَاد وَإِرَمَ اسْمَانِ لِقَبِيلَةِ عَادٍ الْأُولَى.
وَوُصِفَتْ عَادٌ بِ ذاتِ الْعِمادِ، وذاتِ وَصْفٌ مُؤَنَّثٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِعَادٍ الْقَبِيلَةُ.
وَإِطْلَاقُ الْعِمَادِ عَلَى الْقُوَّةِ جَاءَ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
وَنَحْنُ إِذَا عِمَادُ الْحَيِّ خَرَّتْ | عَلَى الْأَحْفَاضِ نَمْنَعُ مَنْ يَلِينَا |
وَوُصِفَتْ عَادٌ بِ ذاتِ الْعِمادِ لِقُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا، أَيْ قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا هُمْ أَشَدُّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [مُحَمَّد: ١٣] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غَافِر: ٢١].
والَّتِي: صَادِقٌ عَلَى «عَادٍ» بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ كَمَا وُصِفَتْ بِ ذاتِ الْعِمادِ وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: تَغْلِبُ ابْنَةُ وَائِلٍ، بِتَأْوِيلِ تَغْلِبَ بِالْقَبِيلَةِ.
والْبِلادِ: جَمْعُ بَلَدٍ وَبَلْدَةٍ وَهِيَ مِسَاحَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ مُعَيَّنَةٌ بِحُدُودٍ أَوْ سُكَّانٍ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبِلادِ لِلْجِنْسِ وَالْمَعْنَى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ الْأُمَّةِ فِي الْأَرْضِ.
وَأُرِيدَ بِالْخَلْقِ خَلْقُ أَجْسَادِهِمْ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا طِوَالًا شِدَادًا أَقْوِيَاءَ، وَكَانُوا أَهْلَ عَقْلٍ وَتَدْبِيرٍ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِأَحْلَامِ عَادٍ، ثُمَّ فَسَدَتْ طِبَاعُهُمْ بِالتَّرَفِ فَبَطِرُوا النِّعْمَةَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ فِي بُلْدَانِ الْعَرَبِ وَقَبَائِلِهِمْ.
وَقَدْ وَضَعَ الْقَصَّاصُونَ حَوْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ قِصَّةً مَكْذُوبَةً فَزَعَمُوا أَنَّ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مُرَكَّبٌ جُعِلَ اسْمًا لِمَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ أَوْ بِالشَّامِ أَوْ بِمِصْرَ، وَوَصَفُوا قُصُورَهَا وَبَسَاتِينَهَا بِأَوْصَافٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، وَتَقَوَّلُوا أَنَّ أَعْرَابِيًّا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قِلَابَةَ كَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيفَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ تَاهَ فِي ابْتِغَاءِ إِبِلٍ
وَمُنِعَ ثَمُودَ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأُمَّةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَوُصِفَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ جابُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ الَّتِي جابت الصخر بِتَأْوِيلِ الْقَوْمِ
فَلَمَّا وُصِفَ عُدِلَ عَنْ تَأْنِيثِهِ تَفَنُّنًا فِي الْأُسْلُوبِ.
وَمَعْنَى جابُوا: قَطَعُوا، أَيْ نَحَتُوا الصَّخْرَ وَاتَّخَذُوا فِيهِ بُيُوتًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الشُّعَرَاء: ١٤٩] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ثَمُودَ أَوَّلُ أُمَمِ الْبَشَرِ نَحَتُوا الصَّخْرَ وَالرُّخَامَ.
والصَّخْرَ: الْحِجَارَةُ الْعَظِيمَةُ.
وَالْوَادِ: اسْمٌ لِأَرْضٍ كَائِنَةٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مُنْخَفِضَةٍ، وَمِنْهُ سُمِّي مَجْرَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَادًا وَفِيهِ لُغَتَانِ: أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ دَالًا، وَأَنْ يَكُونَ آخِرُهُ يَاءً سَاكِنَةً بَعْدَ الدَّالِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِيَاءٍ فِي آخِرِهِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِيَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَبِدُونِهَا فِي الْوَقْفِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُرَاعَاة الفواصل مثل مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفجْر: ٤] وَهُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ وَالْقِرَاءَاتُ تَعْتَمِدُ الرِّوَايَةَ بِالسَّمْعِ لَا رَسْمِ الْمُصْحَفِ إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهَا الْحُفَّاظُ مَا عَسَى أَنْ يَنْسَوْهُ.
وَالْوَادِ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَنَازِلِ ثَمُودَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَادِي الْقُرَى، بِإِضَافَتِهِ إِلَى «الْقُرَى» الَّتِي بَنَتْهَا ثَمُودُ فِيهِ وَيُسَمَّى أَيْضًا «الْحِجْرَ» بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَيُقَالُ لَهَا: «حِجْرُ ثَمُودَ» وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ خَيْبَرَ وَتَيْمَاءَ فِي طَرِيقِ الْمَاشِي مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، وَنَزَلَهُ الْيَهُودُ بَعْدَ ثَمُودَ لَمَّا نَزَلُوا بِلَادَ الْعَرَبِ، ونزله من قبائل الْعَرَبِ قُضَاعَةُ وَجُهَيْنَةُ، وَعُذْرَةُ وَبَلِيٌّ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْوادِ لِلظَّرْفِيَّةِ.
وَالْمُرَادُ بِ فِرْعَوْنَ هُوَ وَقَوْمُهُ.
وَوَصْفُ ذِي الْأَوْتادِ لِأَنَّ مَمْلَكَتَهُ كَانَتْ تَحْتَوِي عَلَى الْأَهْرَامِ الَّتِي بَنَاهَا أَسْلَافُهُ لِأَنَّ صُورَةَ الْهَرَمِ عَلَى الْأَرْضِ تُشْبِهُ الْوَتِدَ الْمَدْقُوقَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْتَادِ مُسْتَعَارًا لِلتَّمَكُّنِ وَالثَّبَاتِ، أَي ذِي الْقُوَّة عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: ذاتِ الْعِمادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ فِي ص [١٢].
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ عَادٍ وَثَمُودَ
وَفِرْعَوْنَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِفِرْعَوْنَ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ وَقَوْمُهُ.
وَالطُّغْيَانُ شِدَّةُ الْعِصْيَانِ وَالظُّلْمِ وَمَعْنَى طُغْيَانِهِمْ فِي الْبِلَادِ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ طَغَوْا فِي بَلَدِهِمْ وَلَمَّا كَانَ بَلَدُهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْبِلَاد أَي أرضي الْأَقْوَامِ كَانَ طُغْيَانُهُمْ فِي بَلَدِهِمْ قَدْ أَوْقَعَ الطُّغْيَانَ فِي الْبِلَادِ لِأَنَّ فَسَادَ الْبَعْضِ آئِلٌ إِلَى فَسَادِ الْجَمِيعِ بِسَنِّ سُنَنِ السُّوءِ، وَلِذَلِكَ تَسَبَّبَ عَلَيْهِ مَا فُرِّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ لِأَن الطغيان يجرّىء صَاحِبَهُ عَلَى دَحْضِ حُقُوقِ النَّاسِ فَهُوَ مِنْ جِهَةٍ يَكُونُ قُدْوَةَ سوء لأمثاله وملئه، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطْغَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَذَلِكَ فَسَادٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ بِهِ اخْتِلَالَ الشَّرَائِعِ الْإِلَاهِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُثِيرُ الْحَفَائِظَ وَالضَّغَائِنَ فِي الْمَطْغِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الرَّعِيَّةِ فَيُضْمِرُونَ السُّوءَ لِلطَّاغِينَ وَتَنْطَوِي نُفُوسُهُمْ عَلَى كَرَاهِيَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ بِهَا فَيَكُونُونَ لَهَا أَعْدَاءً غَيْرَ مُخْلَصِي الضَّمَائِرِ وَيَكُونُ رِجَالُ الدَّوْلَةِ مُتَوَجِّسِينَ مِنْهُمْ خِيفَةً فَيَظُنُّونَ بِهِمُ السُّوءَ فِي كُلِّ حَالٍ وَيَحْذَرُونَهُمْ فَتَتَوَزَّعُ قُوَّةُ الْأُمَّةِ عَلَى أَفْرَادِهَا عِوَضَ أَنْ تَتَّحِدَ عَلَى أَعْدَائِهَا فَتُصْبِحُ لِلْأُمَّةِ أَعْدَاءٌ فِي الْخَارِجِ وَأَعْدَاءٌ فِي الدَّاخِلِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الطُّغْيَانُ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْبِلادِ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، أَيْ فِي بِلَادِهِمْ وَالْجَمْعُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ، أَيْ طَغَتْ كُلُّ أُمَّةٍ فِي بِلَادِهَا.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الْأَعْرَاف: ٥٦] وَكَانَ مَا أَكْثَرُوهُ مِنَ الْفَسَادِ سَبَبًا فِي غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ.
وَالصَّبُّ حَقِيقَتُهُ: إِفْرَاغُ مَا فِي الظَّرْفِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِحُلُولِ الْعَذَابِ دَفْعَةً وَإِحَاطَتِهِ بِهِمْ كَمَا يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَى الْمُغْتَسِلِ أَوْ يُصَبُّ الْمَطَرُ عَلَى الْأَرْضِ، فَوَجْهُ الشَّبَهِ مُرَكَّبٌ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْكَثْرَةِ وَنَظِيرُهُ اسْتِعَارَةُ الْإِفْرَاغِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [الْبَقَرَة:
٢٥٠] وَنَظِيرُ الصَّبِّ قَوْلُهُمْ: شَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ.
وَكَانَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَ هَؤُلَاءِ عَذَابًا مُفَاجِئًا قَاضِيًا.
فَأَمَّا عَادٌ فَرَأَوْا عَارِضَ الرِّيحِ فَحَسِبُوهُ عَارِضَ مَطَرٍ فَمَا لَبِثُوا حَتَّى أَطَارَتْهُمُ الرِّيحُ كُلَّ مَطِيرٍ.
وَأَمَّا ثَمُودُ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ.
وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَحَسِبُوا الْبَحْرَ مُنْحَسِرًا فَمَا رَاعَهُمْ إِلَّا وَقَدْ أَحَاطَ بِهِمْ.
وَالسَّوْطُ: آلَةُ ضَرْبٍ تُتَّخَذُ مِنْ جُلُودٍ مَضْفُورَةٍ تُضْرَبُ بِهَا الْخَيْلُ لِلتَّأْدِيبِ وَلِتَحْمِلَهَا عَلَى الْمَزِيدِ فِي الْجَرْيِ.
وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ كَلِمَةَ سَوْطَ عَذابٍ يَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ عَذَابٍ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ (أَيْ يَقَعُ بِالسَّوْطِ)، يُرِيدُ أَنَّ حَقِيقَتَهَا كَذَلِكَ وَلَا يُرِيدُ أَنَّهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ.
وَإِضَافَةُ سَوْطَ إِلَى عَذابٍ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ صَبَّ عَلَيْهِمْ عَذَابًا سَوْطًا، أَيْ كَالسَّوْطِ فِي سُرْعَةِ الْإِصَابَةِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ تَذْيِيلٌ وَتَعْلِيلٌ لِإِصَابَتِهِمْ بِسَوْطِ عَذَابٍ إِذَا قُدِّرَ جَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَوَابَ الْقَسَمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
فَعَلَى كَوْنِ الْجُمْلَةِ تَذْيِيلًا تَكُونُ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ تَثْبِيتًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَتَصْرِيحًا لِلْمُعَانِدِينَ بِمَا عَرَّضَ لَهُمْ بِهِ
وَعَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ الْقَسَمِ تَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ لَا يُرَادُ مِنَ الرَّصْدِ إِلَّا دَفْعُ الْمُعْتَدِي مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ وَمَا قَبْلَهُ اعْتِرَاضًا تَفَنُّنًا فِي نَظْمِ الْكَلَامِ إِذْ قُدِّمَ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْقَسَمِ مَا هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ وَتَنْظِيرٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ عِقَابِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِلَخْ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الْخَطَابَةِ إِذْ يُجْعَلُ الْبَيَانُ وَالتَّنْظِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ وَيُجْعَلُ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ وَالْعِلَّةِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ صَالِحًا لِلِاعْتِبَارَيْنِ مَعَ قَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُقَدَّمِ وَالْمُبَادِرَةِ بِهِ.
وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى رَبُّكَ فِي قَوْلِهِ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ رَبُّهُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَنْتَصِرَ لَهُ، فَهُوَ مُؤَمِّلٌ بِأَنْ يُعَذِّبَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ انْتِصَارًا لَهُ انْتِصَارَ الْمَوْلَى لِوَلِيِّهِ.
وَالْمِرْصَادُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَتَرَقَّبُ فِيهِ الرَّصَدُ، أَيِ الْجَمَاعَةُ الْمُرَاقِبُونَ شَيْئًا، وَصِيغَةُ مِفْعَالٍ تَأْتِي لِلْمَكَانِ وَلِلزَّمَانِ كَمَا تَأْتِي لِلْآلَةِ، فَمَعْنَى الْآلَةِ هُنَا غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، فَهُوَ هُنَا إِمَّا لِلزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ إِذِ الرَّصْدُ التَّرَقُّبُ.
وَتَعْرِيفُ «الْمِرْصَادِ» تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ يُفِيدُ عُمُومَ الْمُتَعَلِّقِ، أَيْ بِالْمِرْصَادِ لِكُلِّ فَاعِلٍ، فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِعُمُومِ علم الله تَعَالَى بِمَا يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ، بِحَالِ اطِّلَاعِ الرَّصَدِ عَلَى تَحَرُّكَاتِ الْعَدُوِّ وَالْمُغِيرِينَ، وَهَذَا الْمَثَلُ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاةِ كُلِّ عَامِلٍ بِمَا عمله وَمَا يعمله إِذْ لَا يُقْصَدُ الرَّصْدُ إِلَّا لِلْجَزَاءِ عَلَى الْعُدْوَانِ، وَفِي مَا يُفِيدُهُ مِنَ التَّعْلِيلِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ فِيمَا أَصَابَهُمْ بِهِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْله لَبِالْمِرْصادِ لِلظَّرْفِيَّةِ
[١٥- ٢٠]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : الْآيَات ١٥ الى ٢٠]فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦). كَلَّا
دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْوَاقِعَ بَعْدَهَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ.
وَدَلَّتْ (أَمَّا) عَلَى مَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَصْلُ مَعْنَاهَا وَمُقْتَضَى اسْتِعْمَالِهَا، فَقَوِيَ بِهَا ارْتِبَاطُ جَوَابِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَقَبْلَ الْفَاءِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا، فَلَاحَ ذَلِكَ بَرْقًا وَامِضًا، وَانْجَلَى بِلَمْعِهِ مَا كَانَ غَامِضًا، إِذْ كَانَ تَفْرِيعُ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْفَاءِ عَلَى مَا قَبْلَهَا خَفِيًّا، فَلْنُبَيِّنْهُ بَيَانًا جَلِيًّا، ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ اشْتَمَلَ عَلَى وَصْفِ مَا كَانَتْ تَتَمَتَّعُ بِهِ الْأُمَمُ الْمُمَثَّلُ بِهَا مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِهِ مِنَ النِّعَمِ، وَهُمْ لَاهُونَ عَنْ دَعْوَةِ رُسُلِ اللَّهِ، وَمُعْرِضُونَ عَنْ طَلَبِ مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، مُقْتَحِمُونَ الْمَنَاكِرَ الَّتِي نُهُوا عَنْهَا، بَطِرُونَ بِالنِّعْمَةِ، مُعْجَبُونَ بِعَظَمَتِهِمْ فَعَقَّبَ ذِكْرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، بِاسْتِخْلَاصِ الْعِبْرَةِ وَهُوَ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ مُمَاثِلٌ لِحَالِ أُولَئِكَ تَرَفًا وَطُغْيَانًا وَبَطَرًا، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى خَطَاهُمْ إِذْ كَانَتْ لَهُمْ مِنْ حَالِ التَّرَفِ وَالنِّعْمَةِ شُبْهَةٌ تَوَهَّمُوا بِهَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ مَحَلَّ كَرَامَةٍ، فَحَسِبُوا أَنَّ إِنْذَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ لَيْسَ بِصِدْقٍ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَا هُوَ وَاقِعٌ لَهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ بِهِمْ أَدَلُّ عَلَى كَرَامَتِهِمْ عِنْدَهُ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِخِلَافِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا الْعَالَمِ عَالَمٌ آخَرُ يُضَادُّهُ، وَقَصَرُوا عَطَاءَ اللَّهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عِبَادُهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَكَانَ هَذَا
الْوَهْمُ مُسَوِّلًا لَهُمُ التَّكْذِيبَ بِمَا أُنْذِرُوا بِهِ مِنْ وَعِيدٍ، وَبِمَا يُسَرُّ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ ثَوَابٍ فِي الْآخِرَةِ، فَحَصَرُوا جَزَاءَ الْخَيْرِ فِي الثَّرْوَةِ وَالنِّعْمَةِ وَقَصَرُوا جَزَاءَ السُّوءِ عَلَى الْخَصَاصَةِ وَقَتْرِ الرِّزْقِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ التَّعَرُّضُ لِإِبْطَالِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٥، ٥٦].
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْوَهَمُ أُصُولًا انبنى عَلَيْهَا، وَهِي: إِنْكَارُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْكَارُ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، وَتَوَهُّمُ دَوَامِ الْأَحْوَالِ.
وَالْمَعْنَى: هَذَا شَأْنُ رَبِّكَ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ فَيَتَوَهَّمُ خِلَافَ ذَلِكَ إِذْ يَحْسِبُ أَنَّ مَا يَنَالُهُ مِنْ نِعْمَةٍ وَسَعَةٍ فِي الدُّنْيَا تكريما مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَمَا يَنَالُهُ مِنْ ضِيقِ عَيْشٍ إِهَانَةٌ أَهَانَهُ اللَّهُ بِهَا.
وَهَذَا التَّوَهُّمُ يَسْتَلْزِمُ ظَنَّهُمْ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةً عَلَى غَيْرِ حِكْمَةٍ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [فصلت: ٥٠].
فَأَعْلَمُ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ بِالْحَقِيقَةِ الْحَقِّ وَنَبَّهَهُمْ لِتَجَنُّبِ تَخْلِيطِ الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ السَّامِيَةِ، وَتَجَنُّبِ تَحْكِيمِ الْوَاهِمَةِ وَالشَّاهِيَةِ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ الْأَحْوَالَ الدُّنْيَوِيَّةَ أَعْرَاضٌ زَائِلَةٌ وَمُتَفَاوِتَةُ الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَضَلَالِهِمُ الَّذِي كَانَ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّابِغَةُ فِي آلِ غَسَّانَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَكَانُوا مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ:
مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ | قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ |
وَلَا يَحْسِبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ | وَلَا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ |
وَاقْتِصَارُ الْآيَةِ عَلَى تَقْتِيرِ الرِّزْقِ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالْآفَاتِ لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ صِحَّةُ الْمِزَاجِ وَقُوَّةُ الْأَبْدَانِ فَلَا يَهْلِكُونَ إِلَّا بِقَتْلٍ أَوْ هَرَمٍ فِيهِمْ وَفِي ذَوِيهِمْ، قَالَ النَّابِغَةُ:
تَغْشَى مَتَالِفَ لَا يُنْظِرْنَكَ الْهَرَمَاِِ
وَقَدْ عُرِفَ هَذَا الِاعْتِقَادُ الضَّالُّ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ طَرَفَةُ:
فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ | وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ |
فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي | بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ |
فَنَبَّهَ اللَّهُ عَلَى خَطَأِ اعْتِقَادِهِمْ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مُمَاثِلِهِ مِمَّا اعْتَقَدَهُ الْأُمَمُ قَبْلَهُمُ الَّذِي كَانَ مُوجِبًا صَبَّ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أَحْوَال الدُّنْيَا لَا تُتَّخَذُ أَصْلًا فِي اعْتِبَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ الْمُطَّرِدَ هُوَ جَزَاءُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ أَفْرَادَ الْجِنْسِ وَلَكِنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مُرَادٌ بِهِ النَّاسُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ فِي الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: ٣] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: ٤، ٥] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الْفجْر: ٢٣] الْآيَةَ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، فَقِيلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ أَوْ أَبُو حُذَيْفَة بن الْغيرَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَقِيلَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ، وَقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمُسَمَّوْنَ أَعْلَامُ التَّضْلِيلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنِِْ
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ ضَلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمِنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لِبَعْضِ جَهَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُخَيِّلَ إِلَيْهِمْ مَا يَحْصُلُ لِأَحَدٍ بِجَعْلِ اللَّهِ مِنِ ارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا وَالْمَعْلُولَاتِ بِعِلَلِهَا فَيَضَعُوا مَا يُصَادِفُ نَفْعَ أَحَدِهِمْ مِنَ الْحَوَادِثِ مَوْضِعَ كَرَامَةٍ مِنَ اللَّهِ لِلَّذِي صَادَفَتْهُ مَنَافِعُ ذَلِكَ، تَحْكِيمًا لِلشَّاهِيَةِ وَمَحَبَّةِ النَّفْسِ وَرَجْمًا بِالْغَيْبِ وَافْتِيَاتًا عَلَى اللَّهِ، وَإِذَا صَادَفَ أَحَدَهُمْ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا جَلَبَ لَهُ ضُرًّا تَخَيَّلَهُ بِأَوْهَامِهِ انْتِقَامًا مِنَ اللَّهِ قَصَدَهُ بِهِ، تَشَاؤُمًا مِنْهُمْ.
فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا مَا نَالَهُمْ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِكَرَامَةِ اللَّهِ.
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا مَا صَادَفَهُمْ من فتور الزرق إِهَانَةً مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لَيْسُوا بِأَحَطَّ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ.
فَذَلِكَ الِاعْتِقَادُ أَوْجَبَ تَغَلْغُلَ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي إِشْرَاكِهِمْ وَصَرَفَ أَنْظَارَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا جَرَتِ الْوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِيَّةُ فِتْنَةً مِنْ ذَلِكَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَقِصَارِ الْأَنْظَارِ وَالْجُهَّالِ بِالْعَقِيدَةِ الْحَقِّ كَمَا أَفْصَحَ أَحْمَدُ بْنُ الرَّاوَنْدِيِّ (١). عَنْ تَزَلْزُلِ فَهْمِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِقَوْلِهِ:
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ | وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقَا |
هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَفْهَامَ حَائِرَةً | وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقَا |
_________
(١) هُوَ أَحْمد بن يحيى أَبُو الْحُسَيْن ابْن الراوندي بواو مَفْتُوحَة ثمَّ نون سَاكِنة نِسْبَة إِلَى راوند قَرْيَة من قرى قاسان بنواحي أَصْبَهَان. كَانَ من الْمُعْتَزلَة ثمَّ صَار ملحدا توفّي سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، وَقيل سنة خمس وَأَرْبَعين وَقيل سنة ثَمَان وَتِسْعين.
قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَام: ٤٤] وَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الْأَعْرَاف: ٩٤، ٩٥] وَقَالَ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التَّوْبَة: ١٢٦].
وَتَصَرُّفَاتُ اللَّهِ مُتَشَابِهَةٌ بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ النَّاسِ وَبَعْضُهَا جَارٍ عَلَى مَا قَدَّرَهُ مِنْ نِظَامِ الْعَالَمِ وَكُلٌّ قَدْ قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ وَسَبَقَ عَلِمُهُ بِهِ وَرَبَطَ مُسَبَّبَاتِهِ بِأَسْبَابِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَسَائِطَ وَالْمُتَبَصِّرُ يَأْخُذُ بِالْحَيْطَةِ لِنَفْسِهِ وَقَوْمِهِ وَلَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ وَهْمُهُ وَلَمْ تَنْهَضْ دَلَائِلُهُ، وَيُفَوِّضُ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ. وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الْمَحْكِيَّ عَنْهُمْ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ الْمُهْتَدِينَ بِهَدْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُتَبَصِّرِينَ فِي مَجَارِي التَّصَرُّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَقَدْ نَجِدُ فِي بَعْضِ الْعَوَامِّ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ مِنَ الغافلين بقايا مت اعْتِقَادِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِإِيجَادِ التَّخَيُّلَاتِ الَّتِي تُمْلِيهَا عَلَى عُقُولِهِمْ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّعِظُوا بِمَوْعِظَةِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُعَجِّلُ جَزَاءَ الْخَيْرِ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: ٩٧]. وَقَدْ يُعَجِّلُ الْعِقَابَ لِمَنْ يَغْضَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَدْ حَكَى عَنْ نُوحٍ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نوح: ١٠- ١٢] وَقَالَ تَعَالَى:
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاء غَدَقاً [الْجِنّ: ١٦]. وَلِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ عَلَامَاتٌ أَظْهَرُهَا أَنْ تَجْرِيَ عَلَى خِلَافِ الْمَأْلُوفِ كَمَا نَرَى فِي نَصْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ عَلَى الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الْقَاهِرَةِ. وَتِلْكَ مَوَاعِيدُ مِنَ اللَّهِ يُحَقِّقُهَا أَوْ وَعِيدٌ مِنْهُ يَحِيقُ بِمُسْتَحِقِّيهِ.
وَحَرْفُ (أَمَّا) يُفِيدُ تَفْصِيلًا فِي الْغَالِبِ، أَيْ يَدُلُّ عَلَى تَقَابُلٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنْ ذَوَاتٍ وَأَحْوَالٍ. وَلِذَلِكَ قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْكَلَامِ، فَلَيْسَ التَّفْصِيلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهَا بِمَعْنَى تَبْيِينِ مُجْمَلٍ قَبْلَهَا، بَلْ هُوَ تَفْصِيلٌ وَتَقَابُلٌ وَتَوَازُنٌ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ
فَالْمُفَصَّلُ هُنَا أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ الْجَاهِلِ فُصِّلَتْ إِلَى حَالِهِ فِي الْخَفْضِ وَالدَّعَةِ وَحَالِهِ فِي الضَّنْكِ وَالشِّدَّةِ فَالتَّوَازُنُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا بِالظَّرْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ إِلَخْ وَفِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ إِلَخْ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَيْسَ مِنْ
قَبِيلِ تَبْيِينِ الْمُجْمَلِ وَلَكِنَّهُ تَمْيِيزٌ وَفَصْلٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ تَشْتَبِهُ أَوْ تَخْتَلِطُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ (أَمَّا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ وَيَكُونُ بِالْخَيْرِ وَبِالضُّرِّ لِأَنَّ فِي كِلَيْهِمَا اخْتِبَارًا لِثَبَاتِ النَّفْسِ وَخُلُقِ الْأَنَاةِ وَالصَّبْرِ قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: ٣٥] وَبِذِكْرِ الِابْتِلَاءِ ظَهَرَ أَنَّ إِكْرَامَ اللَّهِ إِيَّاهُ إِكْرَامُ ابْتِلَاءٍ فَيَقَعُ عَلَى حَالَيْنِ، حَالٍ مَرْضِيَّةٍ وَحَالٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ وَكَذَلِكَ تَقْتِيرُ الرِّزْقِ تَقْتِيرُ ابْتِلَاءٍ يَقْتَضِي حَالَيْنِ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النَّمْل: ٤٠] وَقَالَ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: ٣٥] وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ الِاخْتِبَارُ بِالضُّرِّ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: إِذَا جَعَلَ رَبُّهُ مَا يَنَالُهُ مِنَ النِّعْمَةِ أَوْ مِنَ التَّقْتِيرِ مَظْهَرًا لِحَالِهِ فِي الشُّكْرِ وَالْكُفْرِ، وَفِي الصَّبْرِ وَالْجَزَعِ، تَوَهَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ بِذَلِكَ أَوْ أَهَانَهُ بِهَذَا.
وَالْإِكْرَامُ: قَالَ الرَّاغِبُ: أَنْ يُوصَلَ إِلَى الْإِنْسَانِ كَرَامَةٌ، وَهِيَ نَفْعٌ لَا تَلْحَقُ فِيهِ غَضَاضَةٌ وَلَا مَذَلَّةٌ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِ شَيْئًا كَرِيمًا، أَيْ شَرِيفًا قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦]، أَيْ جَعَلَهُمْ كِرَامًا اهـ يُرِيدُ أَنَّ الْإِكْرَامَ يُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَكْرُمَةِ وَيُطْلَقُ عَلَى جَعْلِ الشَّيْءِ كَرِيمًا فِي صِنْفِهِ فَيَصْدُقُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَكْرَمَهُ بِأَنْ يُصِيبَ الْإِنْسَانَ مَا هُوَ نَفْعٌ لَا غَضَاضَةَ فِيهِ، أَوْ بِأَنْ جُعِلَ كَرِيمًا سَيِّدًا شَرِيفًا. وَقَوْلُهُ: فَأَكْرَمَهُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِلْإِكْرَامِ وَقَوْلُهُ: فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ مِنَ الْمَعْنَى الثَّانِي لَهُ فِي كَلَامِ الرَّاغِبِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَعَّمَهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ يُنْعِمُ عَلَى الْكَافِرِينَ إِيقَاظًا لَهُمْ وَمُعَامَلَةً بِالرَّحْمَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ
وَمَعْنَى نَعَّمَهُ جَعَلَهُ فِي نِعْمَةٍ، أَيْ فِي طِيبِ عَيْشٍ.
وَمَعْنَى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَعْطَاهُ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ، وَمِنْهُ التَّقْتِيرُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الدَّالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ وَيُقَابِلُهُ بَسْطُ الرِّزْقِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشورى: ٢٧].
وَالْهَاءُ فِي رِزْقَهُ يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْإِنْسانُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ،
وَيَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى رَبُّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ.
وَالْإِهَانَةُ: الْمُعَامَلَةُ بِالْهُونِ وَهُوَ الذُّلُّ.
وَإِسْنَادُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ... فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى لِأَنَّ الْكَرَامَةَ وَالنعْمَة انساقت للْإنْسَان أَوِ انْسَاقَ لَهُ قَدَرُ الرِّزْقِ بِأَسْبَابٍ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ وَسُنَنِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا يُصَادِفُ بَعْضُ الْحَوَادِثِ بَعْضًا، وَأَسْبَابُ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حُصُولِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَبَيْنَ مَنْ تَقَعُ بِهِ مِنَ النَّاسِ فِي فُرَصِهَا وَمُنَاسَبَاتِهَا.
وَالْقَوْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَهُوَ التَّكَلُّمُ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ عَنِ اعْتِقَادٍ. فَالْمَعْنَى:
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي، مُعْتَقِدًا ذَلِكَ، وَيَقُولُ: رَبِّي أَهَانَنِي، مُعْتَقِدًا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ عَنْ أَنْ يَفْتَخِرُوا بِالنِّعْمَةِ، أَوْ يَتَذَمَّرُوا مِنَ الضِّيقِ وَالْحَاجَةِ، وَنَظِيرُ اسْتِعْمَالِ الْقَوْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: ٧٥]، أَيِ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ فَقَالُوهُ وَاعْتَذَرُوا بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ رَبِّي على فعل أَكْرَمَنِ وَفعل أَهانَنِ، دُونَ أَنْ يَقُولَ: أَكْرَمَنِي رَبِّي أَوْ أَهَانَنِي رَبِّي، لِقَصْدِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ جَازِمًا بِهِ غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ.
وَجَمُلَتَا: فَيَقُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَوَابَانِ لِ أَمَّا الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، أَيْ يَطَّرِدُ قَوْلُ الْإِنْسَانِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ كُلَّمَا حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَكُلَّمَا حَصَلَ لَهُ تَقْتِيرُ رِزْقٍ.
وَحَرْفُ كَلَّا زَجْرٌ عَنْ قَوْلِ الْإِنْسَانِ رَبِّي أَكْرَمَنِ عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ. وَقَوله:
رَبِّي أَهانَنِ عِنْد مَا يَنَالُهُ تَقْتِيرٌ، فَهُوَ رَدْعٌ عَنِ اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَمَنَاطُ الرَّدْعِ كِلَا الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْهُمَا صَادِرٌ عَنْ تَأَوُّلٍ بَاطِلٍ، أَيْ لَيْسَتْ حَالَةُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا دَلِيلًا عَلَى مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مُرَادُ اللَّهِ بِالطُّرُقِ الَّتِي أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً إِلَى قَوْلِهِ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٠٣- ١٠٥]. فَرُبَّ رَجُلٍ فِي نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ وَرُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَطْرُودٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ.
فَمَنَاطُ الرَّدْعِ جَعْلُ الْإِنْعَامِ عَلَامَةً عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ إِكْرَامَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَجَعْلُ التَّقْتِيرِ
عَلَامَةً عَلَى إِرَادَةِ الْإِهَانَةِ، وَلَيْسَ مَنَاطُهُ وُقُوعُ الْكَرَامَةِ وَوُقُوعُ الْإِهَانَةِ لِأَنَّ اللَّهَ أَهَانَ الْكَافِرَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَوْ شَاءَ إِهَانَتَهُ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ الْكُفْرِ لَأَهَانَ جَمِيعَ الْكَفَرَةِ بِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ.
وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ إِثْبَاتِ إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْسَانَ بِقَوْلِهِ: فَأَكْرَمَهُ وَبَيْنَ إِبْطَالِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا لِأَنَّ الْإِبْطَالَ وَارِدٌ عَلَى مَا قَصَدَهُ الْإِنْسَانُ بِقَوْلِهِ: رَبِّي أَكْرَمَنِ أَنَّ مَا نَالَهُ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَامَةٌ عَلَى رِضَى اللَّهِ عَنْهُ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ لِشَأْنِ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ النَّاسَ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَسْرَارًا وَعِلَلًا لَا يُحَاطُ بِهَا، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَهَالَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ إِدْرَاكِ سِرِّهَا بِأَقْيِسَةٍ وَهْمِيَّةٍ، وَالِاسْتِنَادِ لِمَأْلُوفَاتٍ عَادِيَّةٍ، وَأَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَتَطَلَّبُوا الْحَقَائِقَ مِنْ دَلَائِلِهَا الْعَقْلِيَّةِ، وَأَنْ يَعْرِفُوا مُرَادَ اللَّهِ مِنْ وَحْيِهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ أَنْ يَحِيدُوا بِالْأَدِلَّةِ عَنْ مَدْلُولِهَا. وَأَنْ يَسْتَنْتِجُوا الْفُرُوعَ مِنْ غَيْرِ أُصُولِهَا.
وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ فَهُمْ يَضَعُونَ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيَتَوَسَّمُونَ التَّوَسُّمَ الْمُسْتَنِدَ إِلَى الْهَدْيِ وَلَا يَخْلِطُونَ وَلَا يَخْبِطُونَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ: أَكْرَمَنِ، وأَهانَنِ بِيَاءٍ بَعْدَ النُّونِ فِي الْوَصْلِ وَبِحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ.
وَقَرَأَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَهُمَا ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَهُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصحف بِدُونِ نون بعد الياءين وَلَا مُنَافَاةَ بَين الرِّوَايَة وَاسم الْمُصْحَفِ. وكَلَّا رَدْعٌ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ أَيْ لَيْسَ ابْتِلَاءُ اللَّهِ الْإِنْسَانَ بِالنَعِيمِ وَبِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ مُسَبَّبًا عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ تَكْرِيمَ الْإِنْسَانِ وَلَا عَلَى إِرَادَتِهِ إِهَانَتَهُ.
وَهَذَا رَدْعٌ مُجْمَلٌ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ لِتَبْيِينِهِ اكْتِفَاءً بِتَذْيِيلِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ فِي نِعْمَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفجْر: ١٤] بَعْدَ قَوْلِهِ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [الْفجْر: ١٣].
بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ١٨ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ١٩ وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ٢٠
بَلْ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ مُنَاسَبَةُ الْمُقَابَلَةِ لِمَضْمُونِ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ مِنْ جِهَةِ مَا تَوَهَّمُوهُ أَنَّ نِعْمَةَ مَالِهِمْ وَسَعَةَ عَيْشِهِمْ تَكْرِيمٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُكْرِمُوا عَبِيدَهُ شُحًّا بِالنِّعْمَةِ إِذْ حَرَمُوا أَهْلَ الْحَاجَةِ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَإِذْ يَسْتَزِيدُونَ مِنَ الْمَالِ مَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ دَحْضٌ لِتَفَخُّرِهِمْ بِالْكَرَمِ وَالْبَذْلِ.
فَجُمْلَةُ: لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ اسْتِئْنَافٌ كَمَا يَقْتَضِيهِ الْإِضْرَابُ، فَهُوَ إِمَّا اسْتِئْنَافُ ابْتِدَاءِ كَلَامٍ، وَإِمَّا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَّا وَأُخْتِهَا كَمَا سَيَأْتِي وإكرام الْيَتِيم: سدخلته، وَحُسْنُ مُعَامَلَتِهِ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ لِفَقْدِ عَائِلِهِ، وَلِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتْرُكُهَا الْآبَاءُ لِأَبْنَائِهِمُ الصِّغَارِ. وَقَدْ كَانَتِ الْأَمْوَالُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَدَاوَلُهَا رُؤَسَاءُ الْعَائِلَاتِ.
والْيَتِيمَ: الصَّبِيُّ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ، أَيْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتَامَى. وَكَذَلِكَ تَعْرِيفُ الْمِسْكِينِ وَنَفْيُ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ نَفْيٌ لِإِطْعَامِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهِيَ دَلَالَةُ فَحْوَى الْخِطَابِ، أَيْ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْمَسَاكِينِ لَا يَنْفَعُونَهُمْ وَلَوْ نَفْعَ وَسَاطَةٍ، بَلْهَ أَنْ يَنْفَعُوهُمْ بِالْبَذْلِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وطَعامِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا بِمَعْنى المطعوم، فالتقدير: وَلَا تحضون عَلَى إِعْطَاءِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمِسْكِينِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاسْتِحْقَاقِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَصْدَرِ أَطْعَمَ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَحُضُّونَ عَلَى إِطْعَامِ الْأَغْنِيَاءِ الْمَسَاكِينَ فَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمِسْكِينِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ.
والْمِسْكِينِ: الْفَقِيرُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ.
وَقَدْ حَصَلَ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نُفِيَ إِكْرَامُهُمُ الْيَتِيمَ وَقُوبِلَ بِنَفْيِ أَنْ يَحُضُّوا عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَحُضُّونَ عَلَى إِكْرَامِ أَيْتَامِهِمْ، أَيْ لَا يَحُضُّونَ أَوْلِيَاءَ الْأَيْتَامِ عَلَى ذَلِكَ، وَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُطْعِمُونَ الْمَسَاكِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَضُّ عَلَى الطَّعَامِ كِنَايَةً عَنِ الْإِطْعَامِ لِأَنَّ مَنْ يَحُضُّ عَلَى فَعْلِ شَيْءٍ يَكُونُ رَاغِبًا فِي التَّلَبُّسِ بِهِ فَإِذَا تَمَكَّنَ أَنْ يَفْعَلَهُ فَعَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: ٣] أَيْ عَمِلُوا بِالْحَقِّ وَصَبَرُوا وَتَوَاصَوْا بِهِمَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَا تُكْرِمُونَ، وَلَا تَحُضُّونَ، وَتَأْكُلُونَ، وَتُحِبُّونَ» بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ الْآيَاتِ لِقَصْدِ مُوَاجَهَتِهِمْ بِالتَّوْبِيخِ، وَهُوَ بِالْمُوَاجَهَةِ أَوْقَعُ مِنْهُ بِالْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ لِتَعْرِيفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَضْحًا لِدَخَائِلِهِمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [الْبَلَد: ٦، ٧].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَحُضُّونَ بِضَمِّ الْحَاءِ مُضَارِعَ حَضَّ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ
والتُّراثَ: الْمَالُ الْمَوْرُوثُ، أَيِ الَّذِي يُخْلِفُهُ الرَّجُلُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَارِثِهِ وَأَصْلُهُ:
وُرَاثٌ بِوَاوٍ فِي أَوَّلِهِ بِوَزْنِ فُعَالٍ مِنْ مَادَّةِ وَرِثَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ الدُّقَاقِ، وَالْحُطَامِ، أُبْدِلَتْ وَاوُهُ تَاءً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا فَعَلُوا فِي تُجَاهَ، وَتُخَمَةٍ، وَتُهْمَةٍ، وَتُقَاةٍ وَأَشْبَاهِهَا.
وَالْأَكْلُ: مُسْتَعَارٌ لِلِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ انْتِفَاعًا لَا يُبْقِي مِنْهُ شَيْئًا. وَأَحْسِبُ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ إِذْ لَمْ أَقِفْ عَلَى مِثْلِهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَتَعْرِيفُ التُّرَاثِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ تُرَاثُ الْيَتَامَى وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مِنْ أَمْوَالِ مُوَرِّثِيهِمْ.
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: تَأْكُلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ التُّرَاثُ الَّذِي لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، وَمِنْهُ يَظْهَرُ وَجْهُ إِيثَارِ لَفْظِ التُّرَاثِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَتَأْكُلُونَ الْمَالَ لِأَنَّ التُّرَاثَ مَالٌ مَاتَ صَاحِبُهُ وَأَكْلُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ الْمَالَ عَاجِزٌ عَنِ الذَّبِّ عَنْ مَالِهِ لِصِغَرٍ أَوْ أُنُوثَةٍ.
وَاللَّمُّ: الْجَمْعُ، وَوَصْفُ الْأَكْلِ بِهِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ أَكْلًا جَامِعًا مَالَ الْوَارِثِينَ إِلَى مَالِ الْآكِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢].
وَالْجَمُّ: الْكَثِيرُ، يُقَالُ: جَمَّ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ، إِذَا كَثُرَ، وَبِئْرٌ جَمُومٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ:
كَثِيرَةُ الْمَاءِ، أَيْ حُبًّا كَثِيرًا، وَوَصْفُ الْحُبِّ بِالْكَثْرَةِ مُرَادٌ بِهِ الشِّدَّةُ لِأَنَّ الْحُبَّ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي النَّفْسِيَّةِ لَا يُوصَفُ بِالْكَثْرَةِ الَّتِي هِيَ وَفْرَةُ عَدَدِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ.
فَالْجَمُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ، أَيْ حُبًّا مُفْرِطًا، وَذَلِكَ مَحَلُّ ذَمِّ حُبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ إِفْرَادَ حُبِّهِ يُوقِعُ فِي الْحِرْصِ عَلَى اكْتِسَابِهِ بِالْوَسَائِلِ غَيْرِ الْحَقِّ كَالْغَصْبِ وَالِاخْتِلَاسِ
وَالسَّرِقَةِ وَأَكَلِ الْأَمَانَاتِ
[٢١- ٢٦]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : الْآيَات ٢١ الى ٢٦]كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦)
كَلَّا: زَجْرٌ وَرَدْعٌ عَنِ الْأَعْمَالِ الْمَعْدُودَةِ قَبْلَهُ، وَهِيَ عَدَمُ إِكْرَامِهِمُ الْيَتِيمَ وَعَدَمُ حَضِّهِمْ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَأَكْلِهِمُ التُّرَاثَ الَّذِي هُوَ مَالُ غَيْرِ آكِلِهِ، وَعَنْ حُبِّ الْمَالِ حُبًّا جَمًّا.
إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ٢١ وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ٢٢ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ٢٣ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ٢٤ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ٢٥ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ٢٦ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ [الْفجْر: ٦] الْآيَاتِ إِلَى الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَإِنِ اسْتَخَفُّوا بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ أَوْ أُمْهِلُوا فَأُخِّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ عَذَابًا لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ يَنْتَظِرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَتَذَكَّرُونَ قَسْرًا فَلَا يَنْفَعُهُمُ التَّذَكُّرُ، وَيَنْدَمُونَ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ.
فَحَاصِلُ الْكَلَامِ السَّابِقِ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ مَغْرُورٌ يَنُوطُ الْحَوَادِثَ بِغَيْرِ أَسْبَابِهَا، وَيَتَوَهَّمُهَا عَلَى غَيْرِ مَا بِهَا وَلَا يُصْغِي إِلَى دَعْوَةِ الرُّسُلِ فَيَسْتَمِرُّ طُولَ حَيَاتِهِ فِي عَمَايَةٍ، وَقَدْ زُجِرُوا عَنْ ذَلِكَ زَجْرًا مُؤَكَّدًا.
وَأُتْبِعَ زَجْرُهُمْ إِنْذَارًا بِأَنَّهُمْ يَحِينُ لَهُمْ يَوْمٌ يُفِيقُونَ فِيهِ مِنْ غَفْلَتِهِمْ حِينَ لَا تَنْفَعُ الْإِفَاقَةُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَقَوْلُهُ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفجْر: ٢٧]، وَأَمَّا مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ إِلَى قَوْلِهِ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ فَهُوَ تَوْطِئَةٌ وَتَشْوِيقٌ لِسَمَاعِ مَا يَجِيءُ بَعْدَهُ وَتَهْوِيلٌ لِشَأْنِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي عُرِّفَ بِإِضَافَةِ جُمْلَةِ دُكَّتِ الْأَرْضُ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُمَلِ وَقَدْ عُرِّفَ بِأَشْرَاطِ حُلُولِهِ وَبِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ هَوْلِ الْعِقَابِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ الْكُرَةُ الَّتِي عَلَيْهَا النَّاسُ، وَدَكُّهَا حَطْمُهَا وَتَفَرُّقُ أَجْزَائِهَا النَّاشِئُ عَنْ
فَسَادِ الْكَوْنِ الْكَائِنَةِ عَلَيْهِ الْآنَ، وَذَلِكَ بِمَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ زَلَازِلَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: ١] الْآيَةَ.
ودَكًّا دَكًّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُمَا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُؤَكِّدِ لِفِعْلِهِ.
وَلَعَلَّ تَأْكِيدَهُ هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ آيَةٍ ذُكِرَ فِيهَا دَكُّ الْجِبَالِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ أَمْرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا تَحْقِيقَ وُقُوعِهِ حَقِيقَةً دُونَ مَجَازٍ وَلَا مُبَالَغَةٍ، فَأُكِّدَ مَرَّتَيْنِ هُنَا وَلَمْ يُؤَكَّدْ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [١٤] فَ دَكًّا الْأَوَّلُ مَقْصُودٌ بِهِ رَفْعُ احْتِمَالِ الْمَجَازِ عَنْ «دُكَّتَا» الدَّكُّ أَيْ هُوَ دَكٌّ حَقِيقِيٌّ، ودَكًّا الثَّانِي مَنْصُوبًا عَلَى التوكيد اللَّفْظِيّ لدكا الْأَوَّلِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ إِرَادَةِ مَدْلُولِ الدَّكِّ الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ دَكَّ الْأَرْضِ الْعَظِيمَةِ أَمْرٌ عَجِيبٌ فَلِغَرَابَتِهِ اقْتَضَى إِثْبَاتُهُ زِيَادَةَ تَحْقِيقٍ لِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ.
وَعَلَى هَذَا دَرَجَ الرَّضِيُّ قَالَ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ مَنْعِ تَأْكِيدِ النَّكِرَاتِ (أَيْ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا) شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ جَوَازُ تَأْكِيدِهَا إِذَا كَانَتِ النَّكِرَةُ حُكْمًا لَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ»
. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا فَهُوَ مِثْلُ: ضَرَبَ ضَرَبَ زَيْدٌ اهـ.
وَهَذَا يُلَائِمُ مَا فِي وَصْفِ دَكِّ الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة: ١٤] وَدَفْعِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْمَصْدَرَيْنِ فِي تَأْوِيلِ مُفْرَدٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ. وَتَأْوِيلُهُ. أَنَّهُ دَكٌّ يَعْقُبُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا تَقُولُ: قَرَأْتُ الْكِتَابَ بَابًا بَابًا وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ بَعْدِهِ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سَكَتَ عَنْ بَيَانِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: «قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَعَلَّهُ قَالَهُ فِي «أَمَالِيهِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْكَافِيَةِ» وَفِي نُسْخَتِي مِنْهَا نَقْصٌ وَلَا أَعْرِفُ غَيْرَهَا بِتُونُسَ وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْكَلَامُ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» بَيَّنْتُ لَهُ حِسَابَهَ بَابًا بَابًا، أَيْ مُفَصَّلًا. وَالْعَرَبُ تُكَرِّرُ
قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ أَوْفَى بِحَقِّ الْبَلَاغَةِ فَإِنَّهُ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى التَّوْكِيدِ وَالتَّوْكِيدُ حَاصِلٌ بِالْمَصْدَرِ الْأَوَّلِ.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» : وَقِيلَ: فَبُسِطَتَا بَسْطَةً وَاحِدَةً فَصَارَتَا أَرْضًا لَا تَرَى فِيهَا أَمْتًا
وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ يَعْنِي: أَنَّ الدَّكَّ كِنَايَةٌ عَنِ التَّسْوِيَةِ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ مِنْ لَوَازِمِ الدَّكِّ، أَيْ صَارَتِ الْجِبَالُ مَعَ الْأَرْضِ مُسْتَوِيَاتٍ لَمْ يَبْقَ فِيهَا نُتُوءٌ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ صِفَةَ وَاحِدَةً مَجَازًا فِي تَفَرُّدِ الدَّكَّةِ بِالشِّدَّةِ الَّتِي لَا ثَانِيَ مِثْلَهَا، أَيْ دَكَّةٌ لَا نَظِيرَ لَهَا بَيْنَ الدَّكَّاتِ فِي الشِّدَّةِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: هُوَ وَحِيدُ قَوْمِهِ، وَوَحِيدُ دَهْرِهِ، فَلَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ: دَكًّا دَكًّا بِهَذَا التَّفْسِيرِ. وَفِيهِ تَكَلُّفٌ إِذْ لَمْ يُسْمَعْ بِصِيغَةِ فَاعِلٍ فَلَمْ يُسْمَعْ:
هُوَ وَاحِدُ قَوْمِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا فَ صَفًّا الْأَوَّلُ حَالٌ مِنَ الْمَلَكُ وصَفًّا الثَّانِي لَمْ يَخْتَلِفِ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّهُ مِنَ التَّكْرِيرِ الْمُرَادِ بِهِ التَّرْتِيبُ وَالتَّصْنِيفُ، أَيْ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ، أَوْ خَلْفَ صَفٍّ، أَوْ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ دُونَ صِنْفٍ، قِيلَ:
مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ يَكُونُونَ صَفًّا حَوْلَ الْأَرْضِ عَلَى حِدَةٍ.
قَالَ الرَّضِيُّ وَأَمَّا تَكْرِيرُ الْمُنَكَّرِ فِي قَوْلِكَ، قَرَأْتُ الْكِتَابَ سُورَةً سُورَةً، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ تَأْكِيدًا إِذْ لَيْسَ الثَّانِي لِتَقْرِيرِ مَا سَبَقَ بَلْ هُوَ لِتَكْرِيرِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ مَعْنًى. وَالْمَعْنَى: جَمِيعُ السُّوَرِ وَصُفُوفًا مُخْتَلِفَةً اهـ. وَشَذَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ سَكْتَ عَنْهُ. وَلَا يَحْتَمِلُ حَمْلُهُ عَلَى أَنه مفعول مُطلق مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ.
وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَى اللَّهِ إِمَّا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ جَاءَ قَضَاؤُهُ، وَإِمَّا اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ ابْتِدَاءِ حِسَابِهِ بِالْمَجِيءِ.
والْمَلَكُ: اسْمُ جِنْسٍ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيُرَادِفُهُ الِاسْتِغْرَاقُ، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ.
وَالصَّفُّ: مَصْدَرُ صَفَّ الْأَشْيَاءَ إِذَا جَعَلَ الْوَاحِدَ حَذْوَ الْآخَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمَصْفُوفَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصَّفّ: ٤] وَقَوْلُهُ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا فِي سُورَةِ طه [٦٤].
وَاسْتِعْمَالُ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كَاسْتِعْمَالِ مَجِيءِ الْمَلَكِ، أَيْ أُحْضِرَتْ جَهَنَّمُ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا فَكَأَنَّهَا (جَاءَ) بِهَا جَاءٍ وَالْمَعْنَى: أُظْهِرَتْ لَهُمْ جَهَنَّمُ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا
جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها
[الزمر: ٧١] وَقَالَ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات: ٣٦] وَوَرَدَ
فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ: «أَنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا»
وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ وَأُمُورُ الْآخِرَةِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ.
وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَعِيدُ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا وَإِلَّا فَإِنَّ الْجَنَّةَ أَيْضًا مُحَضَرَةٌ يَوْمَئِذٍ قَالَ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشُّعَرَاء: ٩٠- ٩١].
ويَوْمَئِذٍ الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ جِيءَ وَالتَّقْدِيرُ: وَجِيءَ يَوْمَ تُدَكُّ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا إِلَى آخِرِهِ.
ويَوْمَئِذٍ الثَّانِي بَدَلٌ مِنْ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ وَالْمَعْنَى: يَوْمَ تُدَكُّ الْأَرْضُ دَكًّا إِلَى آخِرِهِ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ. وَالْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ مَعًا فِعْلُ يَتَذَكَّرُ وَتَقْدِيمُهُ لِلِاهْتِمَامِ مَعَ مَا فِي الْإِطْنَابِ مِنَ التَّشْوِيقِ لِيَحْصُلَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ مَعَ حُسْنِ إِعَادَةِ مَا هُوَ بِمَعْنَى إِذا لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ لِطُولِ الْفَصْلِ بِالْجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا إِذا والْإِنْسانُ: هُوَ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ [الْفجْر: ١٥] الْآيَةَ فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِبُعْدِ مَعَادِ الضَّمِيرِ.
وأَنَّى اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى: أَيْنَ لَهُ الذِّكْرَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَيْنَ لَهُ نَفْعُ الذِّكْرَى.
وَجُمْلَةُ: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بِاللِّسَانِ تَحَسُّرًا وَتَنَدُّمًا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْإِنْسانُ أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَتَذَكَّرُ فَإِنَّ تَذَكُّرَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَحَسُّرٍ وَنَدَامَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ يَتَذَكَّرُ وَمَفْعُولُ قَدَّمْتُ مَحْذُوفٌ لِلْإِيجَازِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِحَياتِي تَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّوْقِيتِ، أَيْ قَدَّمْتُ عِنْدَ أَزْمَانِ حَيَاتِي فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْحَيَاةَ الْأَوْلَى الَّتِي قَبْلَ الْمَوْتِ. وَتَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ قَدَّمْتُ
الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِأَجْلِ أَنْ أَحْيَا فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَالْمُرَادُ: الْحَيَاةُ الْكَامِلَةُ السَّالِمَةُ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ فِي الْعَذَابِ حَيَاةُ غِشَاوَةٍ وَغِيَابٍ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الْأَعْلَى: ١٣].
وَحَرْفُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي لِلتَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِهَذَا التَّمَنِّي فِي يَوْمِ وُقُوعٍ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ رَابِطَةٌ لِجُمْلَةِ لَا يُعَذِّبُ إِلَخْ بِجُمْلَةِ دُكَّتِ الْأَرْضُ لِمَا فِي إِذا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَالْعَذَابُ: اسْمُ مَصْدَرِ عَذَّبَ.
وَالْوَثَاقُ: اسْمُ مَصْدَرِ أَوْثَقَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُعَذِّبُ بِكَسْرِ الذَّالِ ويُوثِقُ بِكَسْرِ الثَّاءِ عَلَى أَنَّ أَحَدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَاعِلُ يُعَذِّبُ، ويُوثِقُ وَأَنَّ عَذَابَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصَدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ فَضَمِيرُ عَذابَهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ عَذَابًا مِثْلَ عَذَابِهِ، وَانْتِفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الشِّدَّةِ، أَيْ يُعَذِّبُ عَذَابًا هُوَ أَشَدُّ عَذَابٍ يُعَذَّبُهُ الْعُصَاةُ، أَيْ
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِبَنِي الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا عَذَابُ الشَّيَاطِينِ فَهُوَ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ كُفْرًا وأَحَدٌ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ لِاسْتِغْرَاقِ جنس الْإِنْسَان فأحد فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ قَالَ تَعَالَى:
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: ١٩] فَانْحَصَرَ الْأَحَدُ الْمُعَذِّبُ (بِكَسْرِ الذَّالِ) فِي فَرْدٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ ذَالِ يُعَذَّبُ وَفَتْحِ ثَاءِ يُوثَقُ مَبْنِيَّيْنِ لِلنَّائِبِ.
وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: «حَدَّثَنِي مَنْ أَقْرَأْهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ يُعَذَّبُ وَيُوثَقُ بِفَتْحِ الذَّالِ وَفَتْحِ الثَّاءِ»
. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ وَأَقُولُ أَغْنَى عَنْ تَصْحِيحِ إِسْنَادِهِ تَوَاتُرُ الْقِرَاءَةِ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْعَشْرِ وَكُلُّهَا مُتَوَاتِرٌ.
وَالْمَعْنَى: لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْمُتَحَسِّرُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوَثَقُ أَحَدٌ مِثْلَ وَثَاقِهِ، فَ أَحَدٌ هُنَا بِمَنْزِلَةِ «أَحَدًا» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: ١١٥].
وَالْوَثَاقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَصْدَرِ أَوْثَقَ وَهُوَ الرَّبْطُ وَيُجْعَلُ لِلْأَسِيرِ وَالْمَقُودِ إِلَى الْقَتْلِ.
فَيُجْعَلُ لِأَهْلِ النَّارِ وَثَاقٌ يُسَاقُونَ بِهِ إِلَى النَّارِ قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ [غَافِر: ٧١، ٧٢] الْآيَةَ.
وَانْتِصَابُ وَثاقَهُ كَانْتِصَابِ عَذابَهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِمَعْنى التَّشْبِيه.
[٢٧- ٣٠]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٣٠]
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)
لَمَّا اسْتَوْعَبَ مَا اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِنْذَارِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالْعَكْسِ فَإِن ذَلِك مِمَّا يَزِيدُ رَغْبَةَ النَّاسِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَرَهْبَتَهُمْ مِنْ أَفْعَالِ الشَّرِّ.
فَهَذَا قَوْلٌ يَصْدُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَلَيْهِ. وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ مَا فِي وَصْفِ (رَبِّ) مِنَ الْوَلَاءِ وَالِاخْتِصَاصِ. وَمَا فِي إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّفْسِ الْمُخَاطَبَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهَا.
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ فَلَفْظُ رَبِّكِ جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَعَطْفُ فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَطْفُ تَلْقِينٍ يَصْدُرُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَحْقِيقًا لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ مُسْتَعَارٌ لِلْكَوْنِ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْمُضِيفِ قَالَ تَعَالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: ٥٥] بِحَيْثُ شُبِّهَتِ الْجَنَّةُ بِمَنْزِلٍ لِلنَّفْسِ الْمُخَاطَبَةِ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْهُ بِوَعْدِ اللَّهِ عَلَى أَعْمَالِهَا الصَّالِحَةِ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُغْتَرِبَةً عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَقِيلَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَيْهِ، وَهَذَا الرُّجُوعُ خَاصٌّ غَيْرُ مُطْلَقِ الْحُلُولِ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا جَرَى عَلَى مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ عَذَابِ الْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ فَتَكُونُ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطْمَئِنَّةِ.
وَالْأَمْرُ فِي ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ مُرَادٌ مِنْهُ تَقْيِيدُهُ بِالْحَالَيْنِ بَعْدَهُ وَهُمَا راضِيَةً مَرْضِيَّةً وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ فِي الْوَعْدِ وَالرُّجُوعُ مَجَازٌ أَيْضًا، وَالْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ: فِي عِبادِي وَقَوْلُهُ: جَنَّتِي الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ. فَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَمَّا تَصَدَّقَ بِبِئْرِ رُومَةَ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ حِينَ قُتِلَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمَّا صَلَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ هَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْبَعْثِ لِتَرْجِعَ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَادِ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ [الْفجْر: ٢١] إِلَخْ كَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَالرُّجُوعُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ وَالرَّبُّ مُرَادٌ بِهِ صَاحِبُ النَّفْسِ وَهُوَ الْجَسَدُ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأَبِي صَالِحٍ: يُقَالُ هَذَا لِلنَّفْسِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ
رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَحْسَنَ هَذَا؟ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ الْمَوْتِ»
. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ هَذَا يُقَالُ لِنَفْسِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْمَوْتِ تُبَشَّرُ بِالْجَنَّةِ.
وَالنَّفْسُ: تُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٦] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْأَنْعَام: ١٥١] وَتُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ الَّتِي بِهَا حَيَاةُ الْجَسَدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يُوسُف: ٥٣].
وَعَلَى الْإِطْلَاقَيْنِ تُوَزَّعُ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةُ كَمَا لَا يَخْفَى.
والْمُطْمَئِنَّةُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اطْمَأَنَّ إِذَا كَانَ هَادِئًا غَيْرَ مُضْطَرِبٍ وَلَا مُنْزَعِجٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُكُونِ النَّفْسِ بِالتَّصْدِيقِ لِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا اضْطِرَابِ بَالٍ فَيَكُونُ
ثَنَاءً عَلَى هَذِهِ النَّفْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هُدُوءِ النَّفْسِ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا فِتْنَةٍ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِعْلُهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الْمَزِيدِ وَهُوَ بِوَزْنِ افْعَلَّلَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَهْمُوزُ اللَّامِ الْأُولَى وَأَنَّ الْمِيمَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ كَمَا يُنْطَقُ بِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَصْلُ الْفِعْلِ: طَأْمَنَ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مَكَانِيٌّ فَقُدِّمَتِ الْمِيمُ عَلَى الْهَمْزَةِ فَيَكُونُ أَصْلُ مُطَمْئِنَّةٍ عِنْدَهُ مطأمنّة ومصدره اطمئنان وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٠] وَقَوْلِهِ:
فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْرِيفِ أَوِ التَّخْصِيصِ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ إِلْهَامًا فِي قُلُوبِهِمْ يَعْرِفُونَ بِهِ أَنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ.
وَالِاطْمِئْنَانُ: مَجَازٌ فِي طِيبِ النَّفْسِ وَعَدَمِ تَرَدُّدِهَا فِي مَصِيرِهَا بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ فِيهِمْ حِينَ أَيْقَنُوا فِي الدُّنْيَا بِأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَقٌّ فَذَلِكَ اطْمِئْنَانٌ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ أَثَرِهِ اطْمِئْنَانُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَوْنَ مَخَائِلَ الرِّضَى وَالسَّعَادَةِ نَحْوَهُمْ وَيَرَوْنَ ضِدَّ ذَلِكَ نَحْوَ أَهْلِ الشَّقَاءِ.
وَقَدْ فُسِّرَ الِاطْمِئْنَانُ: بِيَقِينِ وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَفُسِّرَ بِالْيَقِينِ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَبِالْإِخْلَاصِ فِي الْعَمَلِ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الِاطْمِئْنَانِ الْمَقْصُودِ فَمَجْمُوعُهُ مُرَادٌ وَأَجْزَاؤُهُ مَقْصُودَةٌ، وَفُسِّرَ بِتَبْشِيرِهِمْ بِالْجَنَّةِ، أَيْ قَبْلَ نِدَائِهِمْ ثُمَّ نُودُوا بِأَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
وَالرُّجُوعُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ كَمَا عَلِمْتَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
والراضية: الَّتِي رضت بِمَا أُعْطِيَتْهُ مِنْ كَرَامَةٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْطَائِهَا كُلَّ مَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ.
وَالْمَرْضِيَّةُ: اسْمُ مَفْعُولٍ وَأَصْلُهُ: مَرْضِيًّا عَنْهَا، فَوَقَعَ فِيهِ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ فَصَارَ نَائِبَ فَاعِلٍ بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ زِيَادَةُ الثَّنَاءِ مَعَ الْكِنَايَةِ عَنِ الزِّيَادَةِ فِي إِفَاضَةِ الْإِنْعَامِ لِأَنَّ الْمَرْضِيَّ عَنْهُ يَزِيدُهُ الرَّاضِي عَنْهُ مِنَ الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا فَوْقَ مَا
رَضِيَ بِهِ هُوَ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْبُشْرَى الْإِجْمَالِيَّةِ تَفْصِيلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي فَهُوَ تَفْصِيلٌ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِتَكْرِيرِ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى أَهْلِهَا.
وَالْمَعْنَى: ادْخُلِي فِي زُمْرَةِ عِبَادِي. وَالْمُرَادُ الْعِبَادُ الصَّالِحُونَ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْإِضَافَةِ مَعَ قَرْنِهِ بِقَوْلِهِ: جَنَّتِي وَمَعْنَى هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [العنكبوت: ٩].
وَإِضَافَةُ (جَنَّةٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ كَقَوْلِهِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: ٥٥].
وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ هِيَ مِمَّا يَزِيدُ الِالْتِفَاتَ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ حُسْنًا بَعْدَ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ:
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ وَتَكْرِيرُ فِعْلِ وَادْخُلِي فَلَمْ يَقُلْ: فَادْخُلِي جَنَّتِي فِي عِبَادِي لِلِاهْتِمَامِ بِالدُّخُولِ بِخُصُوصِهِ تَحْقِيقًا لِلْمَسَرَّةِ لَهُمْ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٩٠- سُورَةُ الْبَلَدِسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي تَرْجَمَتِهَا عَنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» :«سُورَةَ لَا أُقْسِمُ» وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْبَلَدِ». وَهُوَ إِمَّا عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي أَولهَا، وَإِمَّا لِإِرَادَةِ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ مَكَّةُ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَلَعَلَّ هَذَا قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: ٢] أَنَّ الْحِلَّ الْإِذْنُ لَهُ فِي الْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَمَلَ وَأَنْتَ حِلٌّ عَلَى مَعْنَى:
وَأَنْتَ الْآنُ حِلٌّ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا رَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَعُزِيَ لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى إِبْطَالِهِ بِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي رَدِّهِ بِذَلِكَ مُصَادَرَةٌ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُرَّدَ بِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَى قَوْلِهِ:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: ٥- ١١] ضَمَائِرَ غَيْبَةٍ يَتَعَيَّنُ عَوْدُهَا إِلَى الْإِنْسَانَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ [الْبَلَد: ٤] وَإِلَّا لَخَلَتِ الضَّمَائِرُ عَنْ مَعَادٍ. وَحَكَى فِي «الْإِتْقَانِ» قَوْلًا أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ مِنْ أَوَّلِهَا.
وَقَدْ عُدَّتِ الْخَامِسَةَ وَالثَّلَاثِينَ فِي عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ق وَقَبْلَ سُورَةِ الطَّارِقِ.
وَعَدَدُ آيِهَا عشرُون آيَة.
أغراضها
حَوَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ التَّنْوِيهَ بِمَكَّةَ. وَبِمُقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا. وَبَرَكَتِهِ فِيهَا وَعَلَى أَهْلِهَا.