تفسير سورة الفجر

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الفجر مكية
وهي ثلاثون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ والفجر ﴾ أقسم سبحانه بالصبح، أو بصبح يوم١ النحر، أو صلاة الفجر
١ هذا هو الذي عليه كلام أكثر السلف/١٢ منه..
﴿ وليال عشر ﴾ عشر ذي١ الحجة، أو العشر الأول من المحرم، أو من رمضان
١ وقد ورد في فضل هذه العشر أحاديث، وليس فيها ما يدل على أنها المراد بما في القرآن هنا بوجه من الوجوه/١٢ فتح.
﴿ والشفع والوتر ﴾ يوم النحر شفع لأنه عاشر، ويوم عرفة وتر لأنه تاسع، أو اليومان من أيام التشريق، والوتر اليوم الثالث، أو الصلاة المكتوبة منها شفع، ومنها وتر، أو الخلق والله، والقول١ فيهما أكثر لكن الذي أوردناه ما اتفق عليه أكثر السلف والثلاث الأول منقول بالحديث أيضا
١ وفي الفتح بعد نقل الأقوال الكثيرة، ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين، والضعف الظاهر، والاتكال في التعيين على مجرد الرأي الزائف والخاطر الخاطئ، والذي ينبغي التعويل عليه، ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب، وهما معروفان واضحان، فالشفع عند العرب: الزوج، والوتر: الفرد، فالمراد بالآية إما نفس العدد، أو ما يصدق عليه من المعدودات، بأنه شفع أو وتر، وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية، فإن كان الدليل يدل على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك، وإن كان الدليل يدل على أنه مما دلته هذه الآية، ولم يكن ذلك مانعا من تناولها لغيره، ولم يجزم ابن جرير بشيء من الأقوال في الشفع والوتر/١٢..
﴿ والليل إذا يسر ﴾ : إذا يمضي، أو إذا يسري فيه كقولهم صلى المقام، والمراد ليلة المزدلفة، أو مطلق الليالي
﴿ هل في ذلك ﴾ : المقسم به من هذه الأشياء ﴿ قسم ﴾ : مقسم به ﴿ لذي حجر ﴾ : عقل، فالاستفهام للدلالة على استحقاقها، لأن يعظم بالإقسام بها فيدل على تعظيم المقسم عليه، وتأكيده من طريق الكناية، أو في ذلك القسم قسم له، فلدلالة على أن ذوي العقول يؤكدون بمثله المقسم، فيدل على تأكيد القسم عليه أيضا، وجواب القسم محذوف نحو : ليعذبن إن لم يؤمنوا، ويدل عليه قوله :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ﴾
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ﴾ أي : عاد الأولى، يعني أولاده سموا باسم أبيهم، وهم الذين بعث الله فيهم هودا فكذبوه، وأهلكهم ﴿ بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال ﴾ الآية ( الحاقة : ٦، ٧ )
﴿ إرم ﴾ عطف بيان لعاد على حذف مضاف، أي : سبط إرم، فإنهم أولاد عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح، أو عاد بن عوص بن إرم، أو اسم بلدتهم، أي : عاد أهل إرم علم قبيلة أو بلدة فلم ينصرف ﴿ ذات العماد ﴾ هم سكان بيوت الشعر التي ترتفع بالأعمدة، أو طوال الأجسام على تشبيه قدهم بالأعمدة، أو أبنية بنوها
﴿ التي لم يخلق مثلها في البلاد١ : مثل تلك القبيلة للقوة وعظم التركيب، وفي الحديث٢ " كان الرجل منهم يأتي على الصخرة، فيلقيها على الحي- أي : القبيلة-فيهلكهم "، وقيل : لم يخلق مثل أبنيتهم، وأما حكاية جنة شداد بن عاد المشهورة المذكورة في أكثر التفاسير فعند المحققين من السلف والمؤرخين أنها من مخترعات٣ بني إسرائيل، ولا اعتبار له
١ وقد ذكر جماعة من المفسرين، أن إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها، ودورها، وبساتينها، وأن حصباءها جواهر، وترابها مسك، وليس بها أنيس، ولا فيها ساكن من بني آدم، وأنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع تارة تكون باليمن، وتارة تكون بالشام، وتارة تكون بالعراق، وتارة تكون بسائر البلاد، وهذا كذب بحت لا ينفق على من له أدنى تمييز، وزاد الثعلبي في تفسيره فقال: إن عبد الله بن قلابة في زمان معاوية دخل هذه المدينة، وهذا كذب على كذب، وافتراء على افتراء، وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء، وفاقرة عظمى، ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجرءون على الكذب تارة على بني إسرائيل، وتارة على الأنبياء، وتارة على الصالحين، وتارة على رب العالمين، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها، بل موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة والأقاصيص المنحولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه فحرفوا وغيروا وبدلوا/١٢ فتح..
٢ ذكره ابن أبي حاتم/١٢ منه..
٣ قال الحافظ ابن كثير: لا تغتر بما ذكره جماعة من المفسرين من ذكر مدينة يقال لها إرم ذات العماد، فإن ذلك كله من خرافات الإسرائيليين من وضع الزنادقة، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس، فهذا وأمثاله مختلق لا حقيقة له/١٢..
﴿ وثمود الذين جابوا ﴾ : قطعوا ﴿ الصخر بالواد ﴾ : وادي القرى كما قال تعالى :﴿ وتنحتون من الجبال بيوتا ﴾ الآية ( الشعراء : ١٤٩ )
﴿ وفرعون ذي الأوتاد ﴾ : ذي الجنود الكثيرة، أو لأنه يعذب بالأوتاد، أو له جبال وأوتاد يلعب بها عنده
﴿ الذين ﴾ صفة للمذكورين ﴿ طغوا في البلاد ﴾
﴿ فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ﴾ الإضافة بمعنى من، أي : سوطا من المعذب به، أي : نصيبا أو شدة عذاب، فإن السوط عندهم غاية الإهانة
﴿ إن ربك لبالمرصاد١ هو مكان يترقب فيه الرصد، وهذا تمثيل لإرصاده العباد بالجزاء، وأنهم لا يفوتونه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرصد خلقه فيما يعملون، قيل : هو جواب القسم، وما بينهما اعتراض
١ عن مقاتل بن سليمان قال: أقسم الله:" إن ربك لبالمرصاد" يعني: الصراط/١٢..
﴿ فأما الإنسان ﴾ هو كالمبين لقوله :﴿ إن ربك لبالمرصاد ﴾ لأنه لما ذكر أنه تعالى يرصد خلقه في أعمالهم يعد بعض ذمائمهم١ ﴿ إذا ما ابتلاه ربه ﴾ أي : امتحنه بالنعمة ﴿ فأكرمه ﴾ بالمال ﴿ ونعمه ﴾ بالسعة ﴿ فيقول ربي أكرمن ﴾ دخول الفاء في خبر المبتدأ، ولما في ( أما ) من معنى الشرط، وإذا ظرف ليقول أي : أما الإنسان فيقول وقت ابتلائه بالغنى : ربي أكرمن
١ وفي النسخة (ن): أعمالهم..
﴿ وأما إذا ما ابتلاه ﴾ : اختبره بالفقر ﴿ فقدر ﴾ : ضيق ﴿ عليه رزقه فيقول ربي أهانن ﴾ أي : وأما هو فيقول وقت ابتلائه بالفقر : ربي أهانني
﴿ كلا ﴾ ردع عن القطع بأن الغنى إكرام والفقر إهانة، فكثيرا ما يكون بالعكس ﴿ بل لا تكرمون اليتيم ﴾ أي : بل فعلهم أقبح من قولهم
﴿ ولا تحاضون ﴾ : يحثون أهلهم ﴿ على طعام المسكين ﴾ أي : على إطعامه
﴿ وتأكلون التراث ﴾ : الميراث ﴿ أكلا لما ﴾ : ذا لم، أي : جمع بين الحلال والحرام، فإنهم لا يورثون النساء والصبيان
﴿ وتحبون المال حبا جما ﴾ : كثيرا مع الحرص
﴿ كلا ﴾ ردع لهم عن دينك وإنكار ثم أتى بالوعيد فقال :﴿ إذا دكت الأرض دكا دكا ﴾، أي : دكا بعد دكة حتى سويت الأرض والجبال، فلم يبق تلال ولا وهاد، ظرف ليتذكر الإنسان
﴿ وجاء١ربك ﴾ : لفصل القضاء جيئة تليق بقدسه من غير حركة ونقله ﴿ والملك صفا صفا ﴾ مصطفين محدقين بالجن والإنس
١ قال شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه في شرح حديث النزول: قال الشيخ أبو عثمان: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب، كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك يثبتون ما أنزل الله في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله تعالى:﴿هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام﴾ (البقرة: ٢١)، وقوله عز وجل:﴿وجاء ربك والملك صفا صفا﴾ ثم ذكر بسنده عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا" كيف ينزل؟ قال: قلت: أعز الله الأمير، لا يقال لأمر الرب كيف، ينزل بلا كيف، ثم ذكر بسنده مناظرة إسحاق بن إبراهيم مع بعض الجهمية عند الأمير عبد الله بن طاهر، فسأل عن حديث النزول الصحيح هو، قال: نعم، فقال له بعضهم: أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم، قال: كيف ينزل؟ فقال إسحاق: أثبته فوق؟ فقال: أثبته فوق، فقال: إسحاق: قال الله عز وجل:﴿ وجاء ربك والملك صفا صفا﴾، فقال الأمير عبد الله: هذا يوم القيامة، فقال إسحاق: أعز الله الأمير من يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟!
ثم ذكر ابن تيمية ثلاثة أقوال لمثبتي النزول في خلو العرش إلى أن قال: والقول الثالث:- وهو الصواب وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها –إنه لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه، مع دنوه ونزوله إلى السماء، ولا يكون العرش فوقه وكذلك يوم القيامة، كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض، بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك، وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.
وهذه المسألة تحتاج إلى البسط، ثم بسط الكلام في الرد على منكري النزول، وإبطاله شبههم إلى أجزاء كثيرة، وذكر كلام الحافظ ابن مندة في خلو العرش، ثم رده ردا طويلا مشبعا، وأثبت أن العرش لا يخلوا منه، وذكر المذاهب في نزول الرب والكلام فيه إلى أن قال: والقول المشهور عن أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة من أنه يأتي وينزل، وغير ذلك من الأفعال اللازمة، قال أبو عمر الطلمنكي: أجمعوا- يعني أهل السنة والجماعة- على أن الله يأتي يوم القيامة، والملائكة صفا صفا لحساب الأمم، وعرضها كما شاء، وكيف شاء ﴿هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر﴾(البقرة: ٢١)، وقال تعالى: ﴿وجاء ربك والملك صفا صفا﴾ وقال: وأجمعوا على أن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا على ما أتت به الآثار، كيف شاء لا يجدون في ذلك شيئا، انتهى مختصرا، وملتقطا/١٢..

﴿ وجيء يومئذ بجهنم ﴾ في صحيح مسلم " يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها "، ﴿ يومئذ ﴾، بدل من " إذا دكت " ﴿ يتذكر الإنسان ﴾ معاصيه، أو يتعظ ويندم ﴿ وأنى له ﴾ أي : أنى ينفعه فإن اللام للنفع١﴿ الذكرى ﴾
١ قال الزمخشري- وتبعه القاضي: لا بد من تقدير حذف المضاف، أي: ومن أين له منفعة الذكرى؟ وإلا فبين "يتذكر الإنسان"، وبين " وأنى له الذكرى" تناقض، والشارح أشار إلى رده بأن اللام للنفع، فلا حاجة إلى تقدير/١٢ منه..
﴿ يقول يا ليتني قدمت ﴾ : الأعمال الصالحة ﴿ لحياتي ﴾ : هذه، أو وقت حياتي في الدنيا
﴿ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ﴾ أي : لا يعذب أحد من الزبانية أحدا، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل تعذيب الإنسان وإيثاقه فإن عذابه أشد، فضمير عذابه للإنسان والإضافة إلى المفعول، وهذا أرجح١ الوجوه لكن على هذا يلزم أن عذاب بعض الكفار أشد من عذاب الشياطين، فكأنه كذلك، وكذلك معنى يعذب، ويوثق على قراءة المجهول
١ لأنه موافق لقراءة المجهول فتأمل/١٢ منه..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:﴿ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ﴾ أي : لا يعذب أحد من الزبانية أحدا، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل تعذيب الإنسان وإيثاقه فإن عذابه أشد، فضمير عذابه للإنسان والإضافة إلى المفعول، وهذا أرجح١ الوجوه لكن على هذا يلزم أن عذاب بعض الكفار أشد من عذاب الشياطين، فكأنه كذلك، وكذلك معنى يعذب، ويوثق على قراءة المجهول
١ لأنه موافق لقراءة المجهول فتأمل/١٢ منه..

﴿ يا١ أيتها النفس المطمئنة ﴾ أي : يقول الله للمؤمن من ذلك، المطمئنة : الساكنة الدائرة مع الحق، أو المطمئنة بذكر الله، أو الآمنة من عذاب الله
١ لما وصف حال من اطمئن إلى الدنيا، وصف حال من اطمئن إلى معرفته وعبوديته، فقال:﴿ يا أيتها النفس﴾ الآية/١٢ كبير..
﴿ ارجعي إلى ربك ﴾ : إلى جوار الله، وثوابه، يقال لها ذلك عند الاحتضار، وعند البعث، وفيه إشعار بأن النفوس قبل الأبدان كانت موجودة في عالم القدس، وعن بعض١ من السلف معناه : ارجعي يا نفس إلى صاحبك، أي : بدنك الذي كنت فيه ﴿ راضية مرضية ﴾ : عند الله
١ نقل ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، وهو قول عكرمة والكلبي، واختاره ابن جرير/١٢ منه..
﴿ فادخلي في عبادي ﴾ أي : في زمرة الصالحين، الذين هم عباد الله على الحقيقة
﴿ وادخلي جنتي ﴾ عن سعيد بن جبير : مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم نر على خلقته، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت عليه هذه الآية على شفير القبر لا ندري١ من تلاها، رواه الطبراني عن غيره.
والحمد لله حق حمده.
١ أخرجه ابن أبي حاتم/١٢ فتح..
Icon