تفسير سورة الفجر

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الفجر مكية وهي ثلاثون آية.

سورة الفجر
وهي ثلاثون آية مكيّة
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣)
قوله تعالى: وَالْفَجْرِ هو قسم، وجوابه: إن ربك لبالمرصاد أقسم الله تعالى بالفجر يعني: الصبح، والفجر فجران المستطيل، وهو من الليل والفجر، المعترض وهو من النهار.
ويقال: أراد به أول يوم من المحرم. ثم قال عز وجل: وَلَيالٍ عَشْرٍ يعني: عشر ذي الحجة، ويقال: إنها الأيام العشر، التي صام فيها موسى- عليه السلام- وهي قوله: وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ [الأعراف: ١٤٢]. ويقال: هي أيام عاشوراء.
ثم قال عز وجل: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال قتادة: الخلق كله شفع ووتر، فأقسم الله تعالى بالخلق. وروى الحارث، عن علي رضي الله عنه، أنه قال: الشفع آدم وحواء، والوتر الله سبحانه وتعالى. قال ابن عباس: الوتر آدم فتشفع بزوجته حواء، وقال عطاء: الشفع الناس، والوتر الله سبحانه وتعالى. وقال الحسن: الشفع هو الخلق، والذكر والأنثى، والوتر الله تعالى. وقال: أقسم بالصلوات، والصلوات منها ما هو شفع، وهو الفجر، والظهر والعصر، والعشاء ومنها ما هو وتر وهو الوتر في المغرب. ويقال: إنما هو الأعداد كلها، شفع ووتر.
وعن ابن عباس: الشفع أيام الذبح، والوتر يوم عرفة.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ٤ الى ١٤]
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)
577
قال عز وجل: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قال الكلبي: يعني: ليلة المزدلفة، يسير الخلق إلى المزدلفة. وقال القتبي: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ يعني: يسرى فيه، كقوله: ليل نائم، أي: يُنام فيه.
وقال الزجاج: أصله تسري يسري، إلا أن الياء قد حذفت منه، وهي القراءة المشهورة بغير ياء، يقرأ بالياء. قرأ حمزة، والكسائي، والشفع والوتر بكسر الواو. والباقون بالنصب، وهما لغتان. يقال: للفرد وَتْرٌ ووِتْر. وقرأ ابن كثير يسر بالياء، في حالة الوصل والقطع. وقرأ نافع بالياء، إذا وصل، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والقطع، لأن الكسرة تدل عليه.
ثم قال عز وجل: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ يعني: أن هذا الذي ذكرناه، قسماً لذي لب من الناس. ويقال: إن في ذلك قسم صدق، لذي عقل ولب ورشد، والحجر اللب.
ثم قال عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ يعني: ألم تعلم، ويقال: ألم تخبر، واللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التقدير، يعني: فذلك خبر عاد إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ يعني: عاقبة قوم عاد، وقال بعضهم: هما عادان، أحدهما عاد وإرم، والآخر هم قوم هود. وقال بعضهم:
كلاهما واحد، ويقال: إرم اسم للجنة التي بناها، فمات قبل أن يدخلها، وذكر فيها حكاية طويلة عن وهب بن منبه. ثم قال: ذاتِ الْعِمادِ يعني: الفساطيط، والعمود عمود الفسطاط.
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ يعني: في القوة والطول، ويقال: ذاتِ الْعِمادِ يعني: ذات القوة، ويقال: ذاتِ الْعِمادِ يعني: دائم الملك، طويل العمر. ويقال: ذاتِ الْعِمادِ أي: ذات البناء الرفيع. وروى أسباط، عن السدي قال: عاد بن إرم، فنسبهم إلى أبيهم الأكبر. كقولك: بكر بن وائل. ويقال: لا ينصرف إرم، لأنه اسم قبيلة. وقال مقاتل:
ذاتِ الْعِمادِ يعني: طولها اثنا عشر ذراعاً الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ في الطول والقوة، وإرم اسم أب قبيلة ينسب إليهم، وهو إرم بن سمك، بن نسمك، بن سام، بن نوح عليه السلام. وقال الكلبي: ذاتِ الْعِمادِ يعني: كانوا أهل ذات عمود وماشية، فإذا هاج العمود، يعني: يبس العشب، رجعوا إلى منازلهم. ويقال: عاد وإرم شيء واحد.
ثم قال عز وجل: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وهم قوم صالح، نقبوا الجبل، وقلعوا أحجاراً لا يطيق مائتا رجل بالوادي. وقال الكلبي: هو واد القرى. ثم قال عز وجل:
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ يعني: قواد الكفرة الفجرة، الذين خلقهم الله تعالى أوتاداً في مملكته، ليكفوا عنه عدوه. ويقال: إن له بيتاً أوتد فيه أوتاداً، فإذا عذب أحد، طرحه فيها. ويقال:
سمي بذي الأوتاد، لأنه كان إذا غضب على أحد، وثقه بأربعة أوتاد. ويقال: الأوتاد وهي الصلب، إذا غضب على أحد، صلبه كقوله لأصلبنكم ويقال ذو الأوتاد يعني ذا الملك الثابت الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ يعني: عاداً وثمود وفرعون عصوا في البلاد فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ
578
يعني: أكثروا في الأرض المعاصي فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ يعني: أرسل عليهم ربك سَوْطَ عَذابٍ يعني: شديد العذاب حتى أهلكهم إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ يعني: مرّ الخلق عليه.
ويقال: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ يعني: ملائكة ربك على الصراط، يعني: يرصدون العباد على جسر جهنم في سبع مواضع. وقال ابن عباس- رضي الله عنهما: يحاسب العبد في أولها بالإيمان، فإن سلم إيمانه من النفاق والرياء، نجا وإلا تردى في النار، وفي الثاني: يحاسب على الصلاة، فإن أتم ركوعها وسجودها في مواقيتها نجا، وإلا تردى في النار، والثالث:
يحاسب على الزكاة، فإن النار. وفي الخامس في الحج والعمرة، وفي السادس بالوضوء والغسل من الجنابة، وفي السابع بر الوالدين، وصلة الأرحام، ومظالم العباد فإن أداها نجا وإلا تردى في النار.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١٥ الى ٢٢]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)
ثم قال عز وجل: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ قال الكلبي: نزلت في أمية بن خلف ويقال: في أبي بن خلف، إذا ما ابتلاه، يعني: اختبره ربه فَأَكْرَمَهُ يعني: ورزقه وَنَعَّمَهُ يعني: أعطاه النعمة فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ يعني: اجتباني وفضلني، وأنا أهل لذلك وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ قرأ أبو عمرو، وابن عامر في إحدى الروايتين، فقدر بالتشديد، والباقون بالتخفيف، ومعناهما واحد أي: فقتر عليه رزقه، وأصابه الجوع والأمراض فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ يعني: طردني وعاقبني، شكاية لربه.
قال الله تعالى: كَلَّا أي: حقاً يعني: ليس إهانتي وإكرامي، في نزع الماء والولد، والفقر، والمرض، ولكن إهانتي في نزع المعرفة، وإكرامي بتوفيق المعرفة، والطاعة. وقال قتادة: لم يكن الغنى من كرامة، ولم يكن الفقر من الذل. ولكن الكرامة مني، بتوفيق الإسلام، والهوان مني بالخذلان عنه. إنما المكرم من أكرم بطاعتي، والمهان من أهين بمعصيتي. ثم قال: بَلْ لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ يعني: لا تعطون حق اليتيم، وكان في حجر أمية بن خلف، يتيم لا يؤدي حقه. فنزلت الآية بسببه، فصار فيها عظة لجميع الناس. قرأ أبو عمرو، وابن عامر في إحدى الروايتين، فقدر بالتشديد، والباقون بالتخفيف، ومعناهما واحد.
ثم قال عز وجل: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ يعني: لا يحثون أنفسهم، ولا غيرهم على طعام المسكين. ويقال: لا تحاضون على إطعام المسكين. ويقال: لا يحض بعضهم بعضاً. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم وَلا تَحَاضُّونَ بالألف، يعني: لا يحث بعضهم بعضاً. وقرأ أبو عمرو، ولا يحضون بالياء يعني: لا يحثون، والباقون لا تحضون بالتاء على المخاطبة. ثم قال: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ يعني: الميراث أَكْلًا لَمًّا يعني: شديداً.
كقولك: لممت الشيء إذا جمعته ومعناه يأكلون مال اليتيم، أكلاً شديداً سريعاً.
وَتُحِبُّونَ الْمالَ يعني: كثرة المال وجمع المال حُبًّا جَمًّا يعني: شديداً. ويقال:
كثيراً. قرأ أبو عمرو ويكرمون، ويأكلون، ويحبون كلها بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء، على معنى الخطاب لهم. ثم قال عز وجل: كَلَّا يعني: حقاً إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا يعني: زلزلت الأرض زلزالها، والتكرار للتأكيد. ثم قال: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ قال بعضهم: هذا من المكتوم الذي لا يفسر وقال أهل السنة وجاء ربك بلا كيف وقال بعضهم معناه وجاء أمر ربك بالحساب والملك صَفًّا صَفًّا يعني: صفوفاً، كصفوف الملائكة، وأهل الدنيا في الصلاة.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧)
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)
ثم قال عز وجل: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تحضر وتدنو من الكفار، وروي عن عبد الرحمن بن حاطب قال: كنا جلوساً عند كعب يذكّرنا، فجاء عمر رضي الله عنه، فجلس ناحيته وقال: ويحك يا كعب خوّفنا، فقال كعب: إن جهنم لتقرب يوم القيامة، لها زفير وشهيق، حتى إذا قربت ودنت، زفرت زفرة، لا يبقى نبي ولا صديق، إلا وهو يخر ساقطاً على ركْبتيه. فيقول: اللهم لا أسألك اليوم إلا نفسي، ولو كان لك يا ابن الخطاب عمل سبعين نبياً، لظننت أن لا تنجو. فقال عمر رضي الله عنه: والله إن الأمر لشديد.
ثم قال: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ يعني: يتعظ الكافر وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يعني: من تنفعه العظة، ويقال: يومئذ يتذكر الإنسان، يعني: يظهر الإنسان التوبة، يعني: أين له التوبة، يعني: كيف تنفعه التوبة يومئذ. يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي يعني: يا ليتني عملت في حياتي الفانية لحياتي الباقية. ثم قال عز وجل: فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ قرأ الكسائي لا يعذب، بنصب الذال، ولا يوثق بنصب التاء. والباقون كلاهما بالكسر
580
فمن قرأ بالنصب فمعناه: ولا يعذب عذاب هذا الصنف من الكفار أحد، وكذلك لا يوثق وثاقه أحد. ومن قرأ بالكسر، معناه لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد، الملك يومئذ لله وحده، والأمر بيده. ويقال: معناه لا يقدر أحد. من الخلق، أن يعذب كعذاب الله تعالى، ولا يوثق في الغل والصفد كوثاق الله.
ثم قال عز وجل: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ التي اطمأنت بلقاء الله عز وجل، ويقال:
الْمُطْمَئِنَّةُ يعني: الراضية بثواب الله تعالى، القانعة بعطاء الله، الشاكرة لنعمائه تعالى. يقال لها، عند الفراق من الدنيا ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ يعني: ارجعي إلى ثواب ربك، إلى ما أعد الله لك في الجنة. ويقال له يوم القيامة راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي يعني: مع عبادي الصالحين في الجنة وَادْخُلِي جَنَّتِي يعني: ادخلي الجنة بلا حساب، ويقال: هذا الخطاب لأهل الدنيا، يعني: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ في الدنيا، التي أمنت من عذاب الله، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً يعني: فَادْخُلِي فِي عِبادِي يعني: ادخلي في عبادي، وفي طاعتي، وادخلي في جنتي ويقال: معناه تقول الملائكة: يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ما أعد الله لك راضية، فادخلي في عبادي على محض التقديم، يعني: يا أيتها النفس المطمئنة، الراضية بما أعطيت من الثواب، مرضية بما عملت، وادخلي جنتي مع عبادي والله تعالى أعلم.
581
Icon