ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾.التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿وَالْعَصْرِ (١)﴾؛ أي: أقسم بالعصر، أقسم سبحانه (١) بالعصر وهو الدهر؛ لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عز وجل وعلى توحيده، ويقال لليل: عصر، وللنهار: عصر، ومنه قول حميد بن ثور:
وَلَمْ يَنْتَهِ الْعَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ | إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَمَنَّيَا |
وَأمْطُلُهُ الْعَصْرَيْنِ حَتَّى يَمَلَّنِيْ | وَيَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ وَالأَنْفُ رَاغِمُ |
يَرُوْحُ بِنَا عَمْرٌ ووَقَدْ قَصُرَ الْعَصْرُ | وَفِيْ الرَّوْحَةِ الأُوْلَى الْغَنِيْمَةُ وَالأَجْرُ |
(٢) الرازي.
والزمان هو الأستاذ الأكبر والمعلم الأول الذي يُعلِّم الأفراد والشعوب أن العاقبة للعاملين المخلصين المتقين، وأن الخسران للعاملين الخائنين الظالمين، ومن لم يؤدبه الأبوان أدّبه الزمان؛ لأن الزمان إنما هو مؤدب أكبر ومرشد أعظم، وصروف الدهر وتقلبات الأيام كلها عبر وآيات بينات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن أجل ذلك أقسم الله تعالى به إرشادًا إلى علو مرتبته وإلى أنه شاهد صدق على أن الناس جميعًا في خسارة إلا المؤمنين الصالحين.
وقال مقاتل إن المراد به صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى التي أمر الله
وفي "الكامل" للهذلي: ﴿والعصر﴾ و ﴿الصبر﴾ ﴿والفجر﴾ ﴿والوتر﴾ بكسر ما قبل الساكن في هذه كلها، وقرأ هارون وابن موسى عن أبي عمرو والباقون بالإسكان كالجماعة. انتهى.
وقال ابن خالويه: ﴿وتواصوا بالصبر﴾ بنقل الحركة عن أبي عمرو، وقال صاحب "اللوامح": قرأ عيسى البصرة: ﴿بالصبر﴾ بنقل حركة الراء إلى الباء؛ لئلا يحتاج أن يأتي ببعض الحركة في الوقف، ولا إلى أن يسكن فيجتمع ساكنان، وذلك لغة شائعة، وليست شاذة بل مستفيضة، وفي ذلك دلالة على الإعراب وانفصال عن التقاء الساكنين، وتأدية لحقّ الموقوف عليه من السكون. انتهى.
وقد أنشدنا في الدلالة على هذا في شرح "التسهيل" عدة أبيات، كقول الراجز:
أَنَا جَرِيْرٌ كُنْيَتِي أَبُوْ عُمِرْ | أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَسَعْدٌ فِيْ الْعَصِرْ |
وحاصل المعنى: أن الله سبحانه وتعالى أقسم (٢) بالدهر؛ لما فيه من أحداث وعبر يُستدل بها على قدرته وبالغ حكمته وواسع علمه، انظر إلى ما فيه من تعاقب الليل والنهار، وهما آيتان من آيات الله، كما قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ وإلى ما فيه من سراء وضراء، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وراحة وتعب، وحزن وفرح إلى نحو ذلك مما يسترشد به حصيف الرأي إلى أن للكون خالقًا ومدبرًا، وهو الذي ينبغي أن يوجه إليه بالعبادة، ويُدعى لكشف الضر وجلب الخير إلى أن الكفار كانوا يضيفون أحداث السوء إلى الدهر، فيقولون: هذه نائبة من
(٢) المراغي.
٢ - وقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)﴾ جواب القسم، و ﴿أل﴾ في ﴿الْإِنْسَانَ﴾ استغراقية بدليل ذكر الاستثناء بعدها، فإن صحة الاستثناء من جملة أدلة العموم والاستغراق، وهي: التي يخلفها كل، ويصح الاستثناء من مدخولها؛ أي: إن كل فرد من أفراد الإنسان لفي خسران في مُتاجَره، وغبن في مساعيه، وصرف أعماره في أعمال الدنيا وضلال وخطأ عن الحق، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقيل: إن ﴿أل﴾ فيه عهدية؛ أي: للعهد الحضوري، وهي ما عهد مصحوبها ذهنًا؛ أي: إن الإنسان المعهود في ذهنك يا محمد وهم جماعة من صناديد قريش، كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأول أولى لما في لفظ الإنسان من العهموم ولدلالة الاستثناء عليه، والخسر (١) والخسران: النقصان وذهاب رأس المال وفى حق جنس الإنسان هو نفسه وعمره، والتنكير فيه للتفخيم؛ أي: لفي خسران عظيم، لا يعلم كنهه إلا الله في متاجرهم وصرف أعمارهم في مباغيهم، ويجوز أن يكون التنوين فيه للتنويع؛ أي: نوع من الخسران غير ما يتعارفه الناس، قال الأخفش: ﴿في خسر﴾؛ أي: في هلكة، وقال الفراء: عقوبة، وقال ابن زيد: ﴿لفي شر﴾، وقرأ الجمهور (٢): ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ بضم الخاء وسكون السين، وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى: ﴿خسر﴾ بضم الخاء والسين، ورويت هذه القراءة عن عاصم، والمعنى: إن جنس الإنسان لفي نقصان؛ لأنه ينقص عمره كل يوم وهو رأس ماله، فإذا ذهب رأس ماله ولم يكتسب به الطاعة يكون على نقصان طول دهره وخسران، إذ لا خسران أعظم من استحقاق العقاب الدائم، وكيف لا يكون الإنسان في خسران ووراءه ذلك المصير المحتوم الذي قد صدر فيه الحكم من رب العنة، وكل نفس ذائقة الموت وإن عاشوا، فإلى أمد قصير وعيش حقير، ثم يتركون لذائذ الدنيا وبهجتها إلى الرمس الضيق الصغير، ثم يواريهم التراب وان كان ملكًا كبيرًا، وكأن لم يكونوا شيئًا مذكورا، فإذا لم يكونوا
(٢) الشوكاني.
والخلاصة: أي إن هذا الجنس من المخلوقات لخاسر في أعماله ضربًا من الخسران إلا من استثناهم الله تعالى، فأعمال الإنسان هي مصدر شقائه، لا الزمان ولا المكان، وهي توقعه في الهلاك، فذنب المرء في حق بارئه ومن يمن عليه بنعمه الجليلة وآلائه الجسيمة جريمة لا تعدلها جريمة أخرى.
٣ - ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا واعترفوا وأيقنوا بالخالق عَزَّ وَجَلَّ وآمنوا به وبرسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، وصدقوا بالقدر خيره وشره من الله تعالى، واعتقدوا اعتقادًا صحيحًا أن للعالم كله إلهًا خالقًا قادرًا يرضى عن المطيع ويغضب على العاصي، وأن هناك فرقًا بين الفضيلة والرذيلة، فدفعهم ذلك إلى عمل البر والخير.
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: اكتسبوا الفضائل والخيرات الباقية، فربحوا بزيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم، فهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفاني الخسيس، واشتروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات، فيا لها من صفقة ما أربحها، وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم، واستدل بعض الطوائف بالآية على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار؛ لأنه لم يستثن من الخسران إلا الذين آمنوا إلخ.
والتقصي منه أن غير المستثنى في خسر لا محالة؛ إما بالخلود إن مات كافرًا، وإما بالدخول في النار إن مات عاصيًا لم يُغفر له، وإما بفوات الدرجات العالية إن غُفر له.
والمعنى: أي جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح، فإنهم في ربح لا في خسر؛ لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، والاستثناء متصل، ومن قال: إن المراد بالإنسان الكافر فقط، فيكون منقطعًا، ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة، ولا وجه لما قيل من أن المراد بهم الصحابة أو بعضهم، فإن اللفظ عام لا يخرج عنه أحد ممن يتصف بالإيمان والعمل الصالح.
وقوله: ﴿وَتَوَاصَوْا﴾؛ أي: أوصى وأمر بعضهم بعضًا ﴿بِالْحَقِّ﴾ ويتحاثوا عليه؛ أي: بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره،
﴿وَتَوَاصَوْا﴾؛ أي: أوصى بعضهم بعضًا وتحاثوا ﴿بِالصَّبْرِ﴾؛ أي: عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها، وعلى ما يبلو الله به عباده من البلايا، وتخصيص (١) هذا التواصي بالذكر مع اندراجه تحت التواصي بالحق لإبراز كمال الاعتناء به، أو لأن الأول عبارة عن رتبة العبادة التي هى فعل ما يرضي به الله تعالى، والثاني عبارة عن رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله سبحانه وتعالى، فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تشوق إليه من فعل أو ترك، بل هو تلقي ما ورد منه تعالى بالجميل والرضا به ظاهرًا وباطنًا، ولعله سبحانه إنما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاءً ببيان المقصود، فإن المقصود بيان ما فيه الفوز بالحياة الأبدية، والسعادة السرمدية، وإشعارًا بأن ما عدا ما عُدَّ يؤدي إلى خسر ونقص حظ أو تكرمًا، فإن الإبهام في جانب الخسر كرم، ؛ لأنه ترك تعداد مثالبهم وأعرض عن مواجهتهم به، وكرر التواصي لاختلاف المفعولين، وهما قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾، وقوله: ﴿بِالصَّبْرِ﴾، وعبارة "الشوكاني": هنا: وفي جعل (٢) التواصي بالصبر قرينًا للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه، ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ وأيضًا التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق، فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ومزيد شرفه عليها وارتفاع طبقته عنها. انتهى.
وخلاصة ما سلف (٣): أن الناس جميعًا في خسران إلا من اتصفوا بأربعة أشياء: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فيعملون الخير ويدعون إلى العمل به، ولا يزحزحهم عن الدعوة إليه ما يلاقونه من مشقة وبلاء،
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
أقسام الصبر: والصبر من الخلال الشخصية التي ينبغي للمرء أن يتدرع بها ويروَّض نفسه عليها منذ الحداثة والصغر، على الآباء والأمهات أن يربوا أولادهم على الصبر واحتمال الأذى، والصبر في أصل معناه اللغوي: الحبس، وهو باعتبار متعلَّقه ينقسم ثلاثة أقسام:
١ - حبس النفس عن فعل السوء والشر ودواعي الهوى والشهوة، وكل ما يمس كرامة الإنسان ويشوّه سمعته.
٢ - الصبر على المكروه والألم وتحمل الرزايا والمصائب، وكل ما يقلق الراحة وينغص العيش، ومثل ذلك الصبر على ما يفوت الإنسان من المآرب والحظوظ الدنيوية.
٣ - الصبر في مواطن الخوف والذعر، بل في مواطن الخطر أحيانًا دفاعًا عن حق، من حماية لمصلحة أو وقاية لعرض وشرف، وهذا النوع من الصبر يسمى: الشجاعة والإقدام، والشجاعة ضرب من الصبر، قال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.
قال بعض الحكماء: ليس الصبر الممدوح صاحبه أن يكون الرجل قوي الجسد على الكد والتعب؛ لأن هذا تشاركه فيه الدابة، ولكن أن يكون للنفس غَلُوبًا، وللخطوب حَمُولًا، ولجأشه عند الحفاظ مرتبطًا؛ أي: مالكًا نفسه عند الغضب، قال لقمان لابنه: الذهب يجرَّب بالنار، والعبد الصالح يجرب بالبلاء،
فَلَوْ كَانَ يُغْنِيْ أَنْ يُرَى الْمَرْءُ جَازِعًا | لِحَادِثَةٍ أَوْ كَانَ يُغْنِيْ التَّذَلُّلُ |
لَكَانَ التَّعَزِّيْ عِنْدَ كُل مُصِيْبَةٍ | وَنَائِبَةٍ بِالْحُرِّ أَوْلَى وَأَجْمَلُ |
إِنَّ الْبَلَاءَ يُطَاقُ غَيْرَ مُضَاعَفٍ | فَإِذَا تَضَاعَفَ صَارَ غَيْرَ مُطَاقِ |
اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الإِدْلَاجِ فِيْ السَّحَرِ | وَفِيْ الرَّوَاحِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِيْ الْبُكَرِ |
إِنِّيْ رَأيْتُ وَفِيْ الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ | لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُوْدَةَ الأَثَرِ |
وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِيْ شَيْءٍ يُؤَمِّلُهُ | وَاسْتَشْعَرَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ |
يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ | وَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيْهِ خُسْرَانُ |
عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا | فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ |
وَتَجَلُّدِيْ لِلشَّامِتِيْنَ أُرِيْهِمُ | أَنِّيْ لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ |
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا | ألْفَيْتَ كُلَّ تَمِيْمَةٍ لَا تَنْفَعُ |
﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾.
﴿وَالْعَصْرِ (١)﴾. ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿العصر﴾: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالعصر والدهر، وجملة القسم مستأنفة. ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَفِي﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿في خسر﴾: جار ومجرور خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء ﴿الَّذِينَ﴾: مستثنى من ﴿الْإِنْسَانَ﴾ في محل النصب على الاستثناء، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلته. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَتَوَاصَوْا﴾: فعل ماض وفاعل مبني بفتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾. ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿تواصوا﴾. ﴿وَتَوَاصَوْا﴾: فعل وفاعل معطوف أيضًا على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿بِالصَّبْرِ﴾: متعلق به.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالْعَصْرِ (١)﴾ قال في "القاموس": العصر مثلثة العين، وبضمتين الدهر، والجمع أعصار وعصور وأعصر وعُصُر، والعصر اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس، ويحرك، والغداة والحبس والرهط والعشيرة، والمطر من المعصرات والمنع والعطية، يقال: عصره يعصره، وبالتحريك الملجأ والمنجاة كالعصر بالضم إلى آخر هذه الصاد الطويلة.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾ والإنسان هو هذا النوع من المخلوقات، وهو لفظ يقع على الذكر والأنثى من بني آدم، وربما أنثت العرب، فقالوا: إنسان وإنسانة، فقال:
إِنْسَانَةٌ تَسْقِيْكَ مِنْ إِنْسَانِهَا | خَمْرًا حَلَالًا مُقْلَتَاهَا عِنَبُهْ |
﴿لَفِي خُسْرٍ﴾؛ أي: لفي خسران ونقصان، وذلك لأن الإنسان لا ينفك عن خسران؛ لأن الخسران هو تضييع عمره، وذلك لأن كل ساعة من عمر الإنسان إما
﴿لَفِي خُسْرٍ﴾؛ أي: لفي غبن وخسارة، وفي "المصباح": خسر في تجارته خسارة - بالفتح - وخسرًا وخسرانًا، ويتعدى بالهمزة، فقال: أخسرته فيها، وخسر خسرًا وخسرانًا أيضًا هلك، والخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال، والمراد به ما ينغمس فيه الإنسان من الآفات المهلكة.
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فحكم بالخسران على جميع الناس إلا من كان آتيًا بهذه الأشياء الأربعة، وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فهذه الأمور اشتملت على ما يخص نفسه، وهو الإيمان والعمل الصالح وما يخص غيره، وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهما معطوفان على ما قبلهما من عطف الخاص على العام للمبالغة. اهـ. "رازي".
والحاصل: أن كل ما مضى من عمر الإنسان في طاعة الله فهو في صلاح وخير، وما كان بضده فهو في خسر وفساد وهلاك. اهـ. "خازن".
وقوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ فعل ماض من باب تفاعل مأخوذ من المواصاة، وهي التقديم إلى الغير بما يعمل به مقرونًا بوعظ ونصيحة من قولهم: أرض واصية؛ أي: متصلة بالنبات، يقال: واصيت إليه بكذا؛ أي: قدمته إليه إذا أمرته قبل الحاجة إلى الفعل. اهـ. "كرخي" بتصرف.
﴿بِالْحَقِّ﴾: وهو كل ما حكم الشرع بصحته، ولا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله من توحيد الله تعالى وطاعته واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. اهـ. "خطيب"، وقيل: الحق هو ما تصدّر من حقيقة ثابتة أرشد إليها دليل، قاطع، أو عيان ومشاهدة، أو شريعة صحيحة جاء بها نبي معصوم.
﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ والصبر: هو قوة للنفس تدعوها إلى احتمال المشقة في العمل
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ | هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيْمُ |
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِيْ السِّقَامِ وَذِيْ الضَّنَى | كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيْمُ |
لَا تْنَهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ | عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيْمُ |
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: إدخال ﴿أل﴾ الاستغراقية على ﴿الْإِنْسَانَ﴾؛ ليعم المؤمن والكافر بدليل الاستثناء بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أو العهدية؛ ليخص الكافر المعهود، كما مر في مبحث التفسير.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾؛ ليدل على التفخيم والتعظيم؛ أي: لفي خسر عظيم ودمار شديد، لا يعلم كنهه إلا الله سبحانه.
ومنها: تكرار ﴿تواصوا﴾؛ لاختلاف المفعولين، وهما قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ و ﴿بِالصَّبْرِ﴾.
ومنها: تخصيص ذكر التواصي بالصبر مع اندراجه تحت التواصي بالحق؛ لإبراز كمال الاعتناء به، أو لأن الأول: عبارة عن رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضي الرب سبحانه، والثاني: عبارة عن العبودية التي هي الرضا بما فعل الرب سبحانه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الهمزة مكية، نزلت بعد سورة القيامة، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١)﴾ نزلت بمكة، وهي: تسع آيات، وثلاثون كلمة، ومئة وثلاثون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر سبحانه في السورة السابقة أن جميع أفراد الإنسان منغمسون في الضلال إلا من عصم الله.. ذكر هنا بعض صفات أهل الضلال.
وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها أنه لما قال فيما قبلها: إن الإنسان لفي خسر.. بيَّن هنا حال الخاسر.
التسمية: سميت سورة الهمزة؛ لذكر لفظ الهمزة فيها.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - سورة: الهمزة كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *