تفسير سورة طه

المنتخب
تفسير سورة سورة طه من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم المعروف بـالمنتخب .
لمؤلفه مجموعة من المؤلفين .

١ - بدأ الله تعالى السورة بهذه الحروف لتحدى المنكرين، والإشارة إلى أن القرآن مُكَوَّن من هذه الحروف التى تتكلمون بها، ومع ذلك عجزتم عن الإتيان بسورة قصيرة أو آيات من مثله.
٢ - إنا ما أوحينا إليك - أيها الرسول - هذا القرآن ليكون سبباً فى إرهاق نفسك أسفاً على إعراض المعرضين عنك.
٣ - لكن أنزلناه تذكرة لمن يخاف الله فيطيعه.
٤ - قد نزل عليك هذا القرآن من عند الله القادر خالق الأرض والسموات الرفيعة العالية.
٥ - عظيم الرحمة على ملكه استوى.
٦ - له - وحده - سبحانه ملك السموات وما فيها والأرض وما عليها، وملك ما بينهما، وما اختبأ فى الأرض من معادن وخيرات.
٧ - وكما شملت قدرة الله - عَزَّ وَجَلَّ - كل شئ قد أحاط علمه بكل شئ، وإن ترفع صوتك - أيها الإنسان - بالقول، فإن الله يعلمه، لأنه يعلم حديثك مع غيرك ويعلم حديث نفسك.
٨ - هو الله الإله الواحد المستحق للعبادة دون سواه؛ إذ هو المتصف بصفات الكمال، وله الصفات الحسنى.
٩ - هل علمت - أيها النبى - خبر موسى مع فرعون؟
١٠ - حين أبصر ناراً فى مسيره ليلا من مدين إلى مصر، فقال عند ذلك لزوجه ومن معها: انتظروا فى مكانكم، إنى أبصرت ناراً، أرجو أن أحمل لكم منها جمرة تدفئكم، أو أجد حول النار من يهدينى إلى الطريق.
١١ - فلما بلغ مكانها، سمع صوتاً عُلْوِيا يناديه: يا موسى.
١٢ - إنى أنا الله ربك، فاخلع نعليك تكريماً للموقف، فإنك بالوادى المطهر المبارك وهو «طوى».
١٣ - وأنا الله أصطفيك بالرسالة، فاصغ لما أوحيه إليك لتعلمه وتبلغه قومك.
١٤ - إننى أنا الله الإله الواحد، لا معبود بحق سواى، فآمن بى واعبدنى، وداوم على إقامة الصلاة لتظل فى ذكر دائم بى.
١٥ - إن الساعة - التى هى موْعد لقائى، وقد أخفيت موعدها عن عبادى، وأظهرت لهم دلالتها - آتية لا محالة، لتحاسب كل نفس على ما عملت وتُجزى به.
١٦ - فلا يصرفنك يا موسى عن الإيمان بالساعة والاستعداد لها من لا يصدق بها، ومال مع هواه فتهلك.
١٧ - وما تلك التى تمسكها بيدك اليمنى؟
١٨ - وأجاب موسى: إنها عصاى أعتمد عليها فى مسيرى، وأسوق بها غنمى، ولى فيها منافع أخرى، كدفع أذى الحيوان.
١٩ - قال الله سبحانه لموسى: ارم بها على الأرض.
٢٠ - فرمى بها موسى، ففوجئ بها تنقلب حية تمشى.
٢١ - فارتاع منها، فطمأنه الله قائلا: تَناوْلها دون خوف، فإننا سنعيدها عصا كما كانت.
٢٢ - وأَدْخِل يدك فى جيب ثوبك مضمومة إلى جنبك تخرج بيضاء ناصعة من غير داء، وقد جعلناها لك معجزة ثانية على رسالتك.
٢٣ - لِنُرِيك بعض معجزاتنا الكبرى لتكون دليلا على صدقك فى الرسالة.
٢٤ - اذهب إلى فرعون وادعه إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، فإنه قد تجاوز الحد فى كفره وطغيانه.
٢٥ - فتضرَّع موسى إلى ربه أن يشرح له صدره، ليذهب عنه الغضب، وليؤدى رسالة ربه.
٢٦ - وسهِّل لى أمر الرسالة لأؤدى حقها.
٢٧ - وفك عُقْدة لسانى لأبين.
٢٨ - ليفهم الناس فهماً دقيقاً ما أقول لهم.
٢٩ - واجعل لى مؤازراً من أهلى.
٣٠ - هو أخى هارون.
٣١ - اشدد به قوتى.
٣٢ - وأشركه معى فى تحمل أعباء الرسالة وتبليغها.
٣٣ - كى نُنَزِّهك كثيراً عما لا يليق بك.
٣٤ - ونردد أسماءك الحسنى كثيراً.
٣٥ - يا ربنا: إنك دائماً بصير بنا، ومتكفل بأمرنا.
٣٦ - نادى الله رسوله موسى قائلا: قد أعطيتك ما سألت، وهذه منة عليك.
٣٧ - ولقد سبق أن تفضلنا عليك بمنة أخرى دون سؤال منك.
٣٨ - حين ألهمنا أمك إلهاماً كريماً كانت فيه حياتك.
٣٩ - ألْهمناها أن تضعك - طفلا رضيعاً - فى الصندوق، وأن تلقى به فى النيل، لننجيك من قتل فرعون، إذ كان يقتل من يولد فى بنى إسرائيل من الذكور، وسخرنا الماء لِيُلْقى الصندوق بالشاطئ، وشاءت إرادتنا أن يأخذ الصندوق فرعون عدوى وعدوك، وأحببتك حب رحمة وولاية، ليحبك كل من يراك، ولتربى تربية كريمة ملحوظاً برعايتى.
٤٠ - واعلم يا موسى سابق عنايتنا بك حين مشت أختك ترقب أمرك، فلما صرت فى قصر فرعون، ورأتهم يبحثون لك عن مُرْضِع دلَّتهم على أمك، فرددناك إليها لتفرح بحياتك وعودتك، ولتكف عن الحزن والبكاء، ولما كبرت وقتلت خطأ رجلا من قوم فرعون نجيناك من الغم الذى لحق بك، وخلَّصناك من شرهم، فذهبت إلى مدين ومكثت فيها سنين عدة، ثم عدت من مدين فى الموعد الذى قدرناه لإرسالك.
٤١ - واصطفيتك لوحيى وحمل رسالتى.
٤٢ - اذهب مع أخيك مُؤَيَّدين بمعجزاتى الدالة على النبوة والرسالة، ولا تضْعُفا فى تبليغ رسالتى، ولا تغفلا عن ذكرى والاستعانة بى.
٤٣ - اذهب مع أخيك هارون إلى فرعون، إنه كافر تجاوز الحد فى كفره وطغيانه.
٤٤ - فادعواه إلى الإيمان بى فى رفق ولين، راجين أن يتذكر ما غفل عنه من الإيمان، ويخشى عاقبة كفره وطغيانه.
٤٥ - فتضرع موسى وهارون إلى الله قائلين: يا ربنا إننا نخشى أن يُبادرنا فرعون بالأذى، ويتجاوز الحد فى الإساءة.
٤٦ - فطمأنهما الله بقوله: لا تخافا فرعون، إننى معكما بالرعاية والحفظ، سميع لما يقول، مبصر لما يفعل، فلا أمكِّنه من إيذائكما.
٤٧ - فاذهبا إلى فرعون فقولا له: إننا رسولان إليك من ربك، جئنا ندعوك إلى الإيمان به، وأن تطلق بنى إسرائيل من الأسر والعذاب، قد أتيناك بمعجزة من الله تشهد لنا بصدق ما دعوناك إليه، وبالأمان من عذاب الله وغضبه لمن اتبع هداه.
٤٨ - وإن الله قد أوحى إلينا أن عذابه الشديد واقع على من كذبنا وأعرض عن دعوتنا.
٤٩ - قال فرعون فى طغيانه وجبروته: فَمَنْ ربكما يا موسى؟.
٥٠ - فأجابه موسى: ربنا الذى منح نعمة الوجود لكل موجود، وخلقه على الصورة التى اختارها سبحانه له، ووجَّهه لما خلق.
٥١ - قال لفرعون: فما شأن القرون الماضية وما جرى لها؟.
٥٢ - قال موسى: عِلْمُ هذه القرون عند ربى - وحده - وهى مسجلة فى صحائف أعمالهم، لا يغيب عن علمه شئ منها ولا ينساه.
٥٣ - هو الإله المتفضل على عباده بالوجود والحفظ، مهَّد لكم الأرض فبسطها بقدرته، وشق لكم فيها طرقاً تسلكونها، وأنزل المطر عليها تجرى به الأنهار فيها، فأخرج سبحانه أنواع النبات المختلفة المتقابلة فى ألوانها وطعومها ومنافعها، فمنها الأبيض، ومنها الأسود، ومنها الحلو، ومنها المر.
٥٤ - ووجَّه - سبحانه - عباده إلى الانتفاع بما أخرج من النبات بالأكل ورعى الأنعام، ونحو ذلك. فذكر أن فى هذا الخلق وإبداعه والإنْعام به دلائل واضحة، يهتدى بها ذوو العقول إلى الإيمان بالله ورسالاته.
٥٥ - ومن تراب هذه الأرض خلق الله آدم وذريته، وإليها يردّهم بعد الموت لمواراة أجسامهم، ومنها يخرجهم أحياء مرة أخرى للبعث والجزاء.
٥٦ - ولقد أرينا فرعون على يد موسى المعجزات البيِّنة المؤيدة لرسالته وصدقه فى كل ما أخبره به عن الله وعن آثار قدرته، ومع هذا فقد تمادى فرعون فى كفره، فكذّب بكل ذلك، وأَبَى أن يؤمن به.
٥٧ - قال فرعون لموسى: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا، وتجعلها فى يد قومك بسحرك الذى فَتَنْت الناس به؟.
٥٨ - وإنا سنبطل سحرك من عندنا، فاجعل بيننا وبينك موعداً نلتقى فيه، ولا يتخلف منا أحد.
٥٩ - فأجابه موسى: موعدنا يوم عيدكم الذى تتزينون فيه مبتهجين به، فيجتمع الناس فى ضحى ذلك اليوم، ليشهدوا ما يكون بيننا وبينكم.
٦٠ - فانصرف فرعون وتولى الأمر بنفسه، فجمع وسائل تدبيره، وعِلْيَة من السحرة، وأدوات السحر، ثم حضر فى الموعد بكل ذلك.
٦١ - قال لهم موسى يحذرهم هلاك الله وعذابه، وينهاهم عن اختلاق الكذب، بزعمهم ألوهية فرْعون وتكذيبهم رسل الله، وإنكارهم المعجزات، وهددهم بأن الله يستأصلهم بالعذاب إن استمروا على هذا، ويؤكد خسران من افترى الكذب على الله.
٦٢ - فذعروا من تحذير موسى، وتفاوضوا سرا فيما بينهم متجاذبين وكلٌّ يشير برأى فيما يلْقَون به موسى.
٦٣ - وأجمعوا فيما بينهم على أن موسى وهارون ساحران، يعملان على إخراجهم من بلادهم، بإخراج السلطان من أيديهم، وذلك بالسحر ليتمكن بنو إسرائيل فيها، وليبطلا عقيدتهم الطيبة فى زعمهم.
٦٤ - فاجعلوا ما تكيدون به موسى أمراً متفقاً عليه، ثم احضروا مُصْطَفِّين، لتكون لكم فى نفوس الرائين الهيبة والغلبة، وقد فاز اليوم من غلب.
٦٥ - واجه السحرة موسى برأى واحد، وخيَّروه فى شموخ واعتزاز، بَيْن أن يبدأ فيلقى عصاه، أو أن يكونوا هم البادئين.
٦٦ - قال موسى: بل ابتدئوا، فألقوا حبالهم وعصيهم، فتخيَّل موسى من السحر أنها انقلبت ثعابين تتحرك وتسير.
٦٧ - فأحس موسى بالخوف لِما رآه من أثر السحر، ومن احتمال أن يلتبس السحر على الناس بالمعجزة.
٦٨ - فأدركه الله بلطفه قائلا: لا تخش شيئاً، إنك الغالب المنتصر على باطلهم.
٦٩ - وأَلْق العصا التى بيمينك لتبتلع ما زوَّروا من السحر، إن صنيعهم لا يجاوز تمويه السحرة، وإن الساحر لا يفوز أينما كان.
٧٠ - فألقى موسى عصاه، فإذا بها تنقلب حقاً بقدرة الله حية كبيرة مخيفة، وابتلعت كل ما أعدّوه، فلما رأى السحرة تلك المعجزة بادروا إلى السجود موقنين بصدق موسى قائلين: آمنا بالله - وحده - رب هارون وموسى، ورب كل شئ.
٧١ - قال فرعون: كيف تؤمنون به دون إذن منى؟ إنه لرئيسكم الذى علَّمكم السحر، وليس عمله معجزة كما توهمتم، وهددهم: لأُقَطعَنّ أيديكم وأرجلكم مختلفات بِقَطْع اليمنى من واحدة واليسرى من الأخرى، ولأصلبنكم فى جذوع النخل، وستعلمون أى الإلهين أشد عذاباً وأدوم زمنا: أنا أم إله موسى.
٧٢ - ثبت السحرة على إيمانهم، ودفعوا تهديد فرعون بقولهم: لن نبقى على الكفر معك بعدما تبيَّن لنا الحق فى معجزة موسى، ولن نختارك على إله موسى الذى خلقنا، فافعل ما تريد أن تفعله، إن سلطانك لا يتجاوز هذه الحياة القصيرة.
٧٣ - فإننا مقيمون على الإيمان بربنا الحق، ليتجاوز لنا عمَّا سلف من السيئات، وليغفر لنا ممارسة السحر الذى أكرهتنا على تعلمه والعمل به، وربنا خير منك ثواباً، إذا أُطيع، وأبقى منك سلطاناً وقدرة على الجزاء.
٧٤ - إن من يموت على الكفر ويلقى الله مجرماً فجزاؤه جهنم لا يموت فيها فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة يتمتع فيها بنعيم.
٧٥ - ومن يلاقى ربه على الإيمان وصالح العمل فله المنازل السامية.
٧٦ - تلك المنازل هى الإقامة فى جنات النعيم تجرى بين أشجارها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء لمن طهر نفسه بالإيمان والطاعة بعد الكفر والمعصية.
٧٧ - ثم تتابعت الأحداث بين موسى وفرعون، وأوحى الله إلى رسوله موسى أن يخرج ببنى إسرائيل من مصر ليلا، وأن يضرب البحر بعصاه فتحدث معجزة أخرى، إذ يفتح له الطريق يبساً فى الماء، وطمأنه ألا يخاف من إدراك فرعون لهم، ولا أن يغرقهم الماء.
٧٨ - فنفَّذ موسى ما أمر الله به، فخرج فرعون بجنوده وراءه، فأدركهم عند البحر، وسار وراءهم فى الطريق التى تفتحت فى البحر لموسى وقومه، وهنا تحققت المعجزة الأخرى، وهى انطباق مياه البحر على فرعون وقومه، فأغرقتهم جميعاً.
٧٩ - وهكذا انحرف بقومه عن طريق الحق، وغرر بهم، فهلكوا جميعاً.
٨٠ - يا بنى إسرائيل، قد أنجيناكم من عدوكم فرعون، وواعدناكم بالنجاة من عدوكم على لسان موسى أن تصلوا آمنين إلى جانب الطور، ونزّلنا عليكم المن والسلوى رزقاً طيباً من الحلو ولحم الطير الشهى.
٨١ - كلوا من هذه الطيبات التى رزقتم بها دون مجهود، ولا تظلموا، ولا ترتكبوا معصية الله فى هذا العيش الرغيد، حتى لا ينزل بكم غضبى، فإن من ينزل عليه غضبى ينحدر إلى أسفل الطبقات من عذاب الله.
٨٢ - وإنى عظيم الغفران لمن رجع عن كفره، وأحسن الإيمان، وأصلح العمل، واستمر على ذلك حتى يلقى الله.
٨٣ - سبق موسى قومه إلى الطور، ليظفر بمناجاة ربه، فسأله الله عن السبب الذى أعجله بالحضور دون قومه.
٨٤ - قال موسى: إن قومى قريبون منى، لاحقون بى، وإنما سبقتهم إليك يا رب رغبة فى رضاك.
٨٥ - قال الله له: إنَّا قد امتحنا قومك من بعد مغادرتك لهم، فوقعوا فى فتنة، إذْ أضلّهم السامرى.
٨٦ - فعاد موسى إلى قومه فى غضب شديد وحزن مؤلم، وخاطب قومه - منكراً عليهم - بقوله: لقد وعدكم ربكم النجاة والهداية بنزول التوراة، والنصر بدخول الأرض المقدسة، ولم يطل عليكم العهد حتى تنسوا وعد الله لكم، أردتم بسوء صنيعكم أن ينزل بكم غضب الله بطغيانكم الذى حذركم منه، فأخلفتم عهدكم لى بالسير على سنتى والمجئ على أثرى.
٨٧ - قال قوم موسى معتذرين: لم نتخلف عن موعدك باختيارنا، ولكننا حُمِّلنا حين خرجنا من مصر أثقالا من حِلْى القوم، ثم رأينا - لشؤمها علينا - أن نتخلص منها، فأشعل السامرى النار فى حفرة ورمينا فيها هذه الأثقال، فكذلك رمى السامرى ما معه من الحلى.
٨٨ - فصنع السامرى لهم عجلا مجسماً من الذهب، يمر الريح فى جوفه فيكون له صوت يسمع كخوار البقر، لتتم الخديعة به، ودعاهم إلى عبادته فاستجابوا، وقال هو وأتباعه: هذا معبودكم ومعبود موسى. فنسى أنه يسهل بالتأمل والاستدلال على أن العجل لا يكون إلهاً.
٨٩ - لقد عميت بصائرهم حين يعتبرون هذا العجل إلهاً ﴿أفلا يرون أنه لا يرد على أقوالهم، ولا يستطيع أن يدفع عنهم ضراً، ولا أن يجلب لهم نفعاً﴾ ؟
٩٠ - وكان هارون مقيماً فيهم - حين قيام هذه الفتنة - ولقد قال لهم قبل رجوع موسى - عليه السلام -: يا قوم، لقد وقعتم فى فتنة السامرى بهذا الباطل، وإن إلهكم الحق هو الله الرحمن دون سواه، فاتبعونى فيما أنصحكم به، وامتثلوا رأيى بالامتناع عن هذه الضلالة.
٩١ - قالوا: سنظل مستمرين على عبادة هذا العجل إلى أن يعود موسى إلينا!.
٩٢ - قال موسى متأثراً بما علمه ورآه من قومه: يا هارون، أى سبب منعك أن تكفهم عن الضلالة إذ رأيتهم وقعوا فيها؟
٩٣ - ولم تقم مقامى بنصحهم كما عهدت إليك، أفلا تتبعنى فيما عهدت به إليك أم هل عصيت أمرى؟.
٩٤ - قال هارون لموسى: يا ابن أمى: لا تعاجلنى بغضبك، ولا تمسك بلحيتى ولا برأسى. لقد خفت إن شددت عليهم فتفرقوا شيعاً وأحزاباً أن تقول لى: فرقت بين بنى إسرائيل، ولم تخلفنى فيهم كما عهدت إليك.
٩٥ - قال موسى - عليه السلام - للسامرى: ما هذا الأمر الخطير الذى يُعد خَطْباً ووقعت فيه؟!.
٩٦ - قال السامرى لموسى: عرفت من حذق الصناعة وحِيَلِها ما لم يعلمه بنو إسرائيل، وصنعت لهم صورة عجل له هذا الصوت، وقبضت قبضة من أثر الرسول فألقيتها فى جوف العجل، تمويهاً على الناس، وكذلك زَيَّنت لى نفسى أن أفعل ما فعلت.
٩٧ - قال موسى للسامرى: اخرج من جماعتنا، وابعد عنا، وإن جزاءك فى الدنيا أن تهيم على وجهك، وينفر الناس منك، حتى لا تكون بينك وبينهم صلة، فلا يقربك أحد، ولا تقترب أنت من أحد، وإن لعذابك فى الآخرة موعداً محدداً لا تستطيع الفرار منه، وندد موسى به وبإلهه قائلا: انظر الآن ماذا نصنع بإلهك الذى عكفت على عبادته، وفتنت الناس به، لنحرقنه ثم لنذروه فى البحر ذروا.
٩٨ - وقام موسى بإنجاز ما قال، ثم اتجه إلى بنى إسرائيل بعد هذه العبرة قائلا لهم: إن إلهكم الواحد، هو الذى لا يُعبد بحق سواه، وقد أحاط علمه بكل شئ مما كان ومما سيكون.
٩٩ - كما قصصنا عليك - أيها الرسول - نبأ موسى، نخبرك بالحق عن الأمم السابقة، وقد أنزلنا عليك من عندنا كتاباً فيه تذكير لك ولأمتك، بما فيه صلاح دينكم ودنياكم.
١٠٠ - من انصرف عن تصديقه والاهتداء به فإنه يضل فى حياته، ويأتى يوم القيامة حاملا إثم ما صنع، ويجازى بالعذاب الشديد.
١٠١ - ويخْلد فى هذا العذاب، وبئس هذا الحمل السيئ يوم القيامة.
١٠٢ - اذكر - أيها الرسول - لأمتك اليوم الذى نأمر فيه المَلَك أن ينفخ فى الصور (البوق) نفخة الإحياء والبعث من القبور، وندعوهم إلى المحشر، ونسوق المجرمين إلى الموقف زرق الوجوه رعباً وفزعاً.
١٠٣ - يتهامسون فيما بينهم فى ذلة واضطراب عن قِصَر الحياة الدنيا، حتى كأنهم لم ينعموا بها، ولم يلبثوا فيها إلا عشرة أيام.
١٠٤ - وليس تهامسهم خافياً، فنحن أعلم بما يتهامسون به، وبما يقول أقربهم إلى تصوير شعورهم نحو الدنيا بأنها لم تكن إلا كيوم واحد.
١٠٥ - ويسألك المنكرون للبعث - أيها الرسول - عن مصير الجبال يوم القيامة الذى تتحدث عنه، فأجِبْهم بأن الله يفتِّتها كالرمل، ثم يطيِّرها بالرياح فتكون هباء.
١٠٦ - فيدع أماكنها من الأرض بعد نسفها ملساء مستوية.
١٠٧ - لا تبصر فى الأرض انخفاضاً ولا ارتفاعاً، كأنها لم تكن معمورة من قبل.
١٠٨ - يوم القيامة يتبع الناس بعد قيامهم من قبورهم دعوة الداعى إلى المحشر مستسلمين، لا يستطيع أحد منهم أن يعدل عنه يميناً ولا شمالاً، وتخشع الأصوات بالسكون والرهبة لعظمة الرحمن، فلا يُسمَع إلا صوت خفى.
١٠٩ - يومئذ لا تنفع الشفاعة من أحد إلا من أكرمه الله فأذن له بالشفاعة ورضى قوله فيها، ولا تنفع الشفاعة فى أحد إلا من أذن الرحمن فى أن يُشفع له وكان مؤمناً، ورضى الله قوله بالتوحيد والإيمان.
١١٠ - والله - جل شأنه - يعلم ما تقدم من أمورهم فى دنياهم، وما يستقبلونه منها فى أُخراهم، فهو سبحانه يُدبِّر الأمر فيهم بمقتضى علمه، وهم لا يحيطون علماً بتدبيره وحكمته.
١١١ - وذَلّت وجوه فى هذا اليوم، وخضعت للحى الذى لا يموت، القائم بتدبير أمور خلقه، وقد خسر النجاة والثواب فى اليوم الآخر من ظلم نفسه فى الدنيا فأشرك بربه.
١١٢ - ومن يعمل من الطاعات وهو مصدق بما جاء به - محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهو لا يخاف أن يزاد فى سيئاته، أو ينقص من حسناته.
١١٣ - ومثل هذا البيان الحق الذى سلف فى هذه السورة - فى تمجيد الله وقصة موسى، وأخبار القيامة - أنزل الله هذا الكتاب قرآناً عربى البيان، وصرف القول فى أساليب الوعيد ووجوهه، لينتهوا عما هم فيه من العصيان، وليجدد القرآن لهم عظة واعتبارا.
١١٤ - فارتفع عن الظنون، وتنزَّه عن مشابهة الخلق، المَلِكُ الذى يحتاج إليه الحاكمون والمحكومون، المحق فى ألوهيته وعظمته، ولا تعجل يا محمد بقراءة القرآن من قبل أن يفرغ المَلَك من إلقائه إليك، وقل: رب زدنى علما بالقرآن ومعانيه.
١١٥ - ولقد وصينا آدم - أيها الرسول - من أول أمره، ألا يخالف لنا أمراً، فنسى العهد وخالف، ولم نجد له أول أمره عزماً وثيقاً، وتصميماً قوياً يمنع من أن يتسلل الشيطان إلى نفسه بوسوسته.
١١٦ - واذكر - أيها الرسول - حين أمر الله الملائكة بتعظيم آدم على وجه أراده سبحانه، فامتثلوا، لكن إبليس - وهو معهم وكان من الجن - خالف وامتنع، فأخرج وطُرِد!
١١٧ - فخاطب الله آدم قائلا: إن هذا الشيطان الذى خالف أمرنا فى تعظيمك عدو لك ولحواء - زوجتك - فاحذروا وسوسته بالمعصية، فيكون سبباً فى خروجكما من الجنة، فتشقى يا آدم فى الحياة بعد الخروج من الجنة.
١١٨ - إن علينا أن نكفل لك مطالب حياتك فى الجنة، فلن يُصيبك فيها جوع ولا عِرْى.
١١٩ - وأنه لن يصيبك فيها عطش، ولن تتعرض فيها لحر الشمس، كما هو شأن الكادحين فى خارج الجنة.
١٢٠ - فاحتال عليه الشيطان يهمس فى نفسه، مُرَغِّباً له ولزوجه فى الأكل من الشجرة المنهى عنها، قائلا: أنا أدلك يا آدم على شجرة، من أكل منها رزق الخلود، ورزق مُلكاً لا يَفنى.
١٢١ - ودلَّه على الشجرة المحرَّمة، فخُدع آدم وزوجه بإغراء إبليس، ونسيا نهى الله، وأكلا منها، فظهرت لهما عوراتهما، جزاء طمعهما، حتى نسيا ووقعا فى مخالفته، وصارا يقطعان من ورق شجر الجنة ويستران ما بدا منهما، وخالف آدم ربه، وكان ذلك قبل النبوة، فَحُرِم الخلود الذى تمناه وفسد عيشه.
١٢٢ - ثم اصطفاه الله للرسالة، فقبل توبته، وهداه إلى الاعتذار والاستغفار.
١٢٣ - أمر الله آدم وزوجه أن يخرجا من الجنة ويهبطا إلى الأرض، وأخبرهما سبحانه بأن العداوة ستكون فى الأرض بين ذريتهما، وأنه سبحانه سيمدهم بالهدى والرشاد، فمن اتَّبع منهم هدى الله فلا يقع فى المآثم فى الدنيا، ولا يشقى بالعذاب.
١٢٤ - ومن أعرض عن هدى الله وطاعته فإنه يحيا حياة لا سعادة فيها، فلا يقنع بما قسم الله، ولا يستسلم إلى قضاء الله وقدره، حتى إذا كان يوم القيامة جاء إلى موقف الحساب مأخوذاً بذنبه، عاجزاً عن الحجة التى يعتذر بها، كما كان فى دنياه أعمى البصيرة عن النظر فى آيات الله.
١٢٥ - وفى هذا الموقف يسأل ربه فى فزع: يا رب كيف أنسيتنى الحُجة، وأعجزتنى عن المعذرة، ووقفتنى كالأعمى؟ {وقد كنت فى الدنيا أُبصر ما حولى وأجادل وأدافع.
١٢٦ - الأمر فى شأنك كما وقع: جاءتك دلائلنا ورسلنا فى الدنيا فنسيتها، وتعاميت عنها، ولم تؤمن بها، وكذلك اليوم تترك منسيا فى العذاب والهوان.
١٢٧ - ومثل هذا الجزاء السيئ نجزى فى الدنيا من أقبل على المعصية، وكذب بالله وآياته، وإن عذاب الآخرة لأشد ألماً، وأدْوَم مما كان فى الدنيا.
١٢٨ - كيف يتعامون عن آيات الله، وقد تبين لهم إهلاكنا لكثير من الأمم السالفة بسبب كفرهم، ولم يتعظوا بهم مع أنهم يمشون فى ديارهم ومساكنهم، ويشهدون آثار ما حل بهم من العذاب؟} وإن فى تلك المشاهد لعظات لأصحاب العقول الراجحة.
١٢٩ - ولولا حكم سبق من ربك بتأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى - هو القيامة - لكان العذاب لازماً لهم فى الدنيا كما لزم كفار القرون الماضية.
١٣٠ - فاصبر - أيها الرسول - على ما يقولونه فى رسالتك من تكذيب واستهزاء، ونَزِّه ربك عما لا يليق به بالثناء عليه، وعبادته - وحده - دائماً، وخاصة قبل أن تشرق الشمس وقبل أن تغرب، ونزِّهه واعبده فى ساعات الليل، وفى أطراف النهار بالصلاة، حتى تدوم صلتك بالله، فلتطمئن إلى ما أنت عليه، وترضى بما قدر لك.
١٣١ - ولا تتعَدَّ بنظرك إلى ما متَّعنا به أصنافاً من الكافرين، لأن هذا المتاع زينة الحياة الدنيا وزخرفها، يمتحن الله به عباده فى الدنيا، ويدِّخر الله لك فى الآخرة ما هو خير وأبقى من هذا المتاع.
١٣٢ - ووجِّه أهلك إلى أن يؤدُّوا الصلاة فى أوقاتها، فالصلاة أقوى ما يصلهم بالله، وداوم على إقامتها كاملة، لا نكلفك رزق نفسك فنحن متكفلون برزقك، وإن العاقبة الحميدة فى الدنيا والآخرة مكفولة لأهل الصلاح والتقوى.
١٣٣ - وقال الكافرون فى عنادهم: لماذا لا يأتينا محمد بدليل من ربه يَلزمُنا الإيمان به؟ ﴿فكيف يجحدون القرآن - وقد جاءهم به مشتملا على ما فى الكتب السابقة من أنباء الأمم الماضية، وإهلاكهم بسبب تكذيب الرسل - وليس محمد بِدْعاً فى ذلك﴾
١٣٤ - ولو عاجل الله هؤلاء الكافرين بالإهلاك قبل أن يرسل إليهم محمداً لاعتذروا يوم القيامة قائلين: يا ربنا لم ترسل إلينا رسولا فى الدنيا مؤيداً بالآيات لنتبعه قبل أن ينزل بنا العذاب والخزى فى الآخرة. ولكن لا عذر لهم الآن بعد إرسال الرسول.
١٣٥ - قل - أيها الرسول - لهؤلاء المعاندين: إننا جميعاً منتظرون لما يؤول إليه أمرنا وأمركم، وستعلمون حقاً أى الفريقين صاحب الدين الحق والمهتدى بهدى الله؟.
Icon