تفسير سورة النّمل

اللباب
تفسير سورة سورة النمل من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة النمل
سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية، وألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وسبع مائة وتسعة وتسعون حرفاً.

سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية، وألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وسبع مائة وتسعة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ﴾. «تلك» إشارة إلى آيات السورة أي: هذه آيات القرآن.
قوله: «وَكِتَابٍ» العامة على جره عطفاً على «القُرْآنِ»، وهل المراد به نفس القرآن فيكون من عطف بعض الصفات على بعض، والمدلول واحد، أو اللوح المحفوظ، أو نفس السورة، أقوال. وقيل: القرآن والكتاب علمان للمنزل على نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهما كالعباس وعباس، يعني فيكون «أل» فيهما للمح الصفة، وهذا خطأ؛ إذ لو كانا علمين لما وصفا بالنكرة، وقد وصف «قرآن» بها في قوله: ﴿آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ﴾ [الحجر: ١]- الحجر - ووصف بها «كتاب» كما في هذه الآية الكريمة. والذي يقال إنه نكر هنا لإفادة التفخيم، كقوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ [القمر: ٥٥].
وقرأ ابن أبي عبلة: «وكِتَابٌ مُبِينٌ» برفعها عطفاً على «آيَاتٌ» المخبر بها عن «تِلْكَ».
103
فإن قيل: كيف صَحَّ أن يشار لاثنين أحدهما مؤنث، والآخر مذكر باسم إشارة المؤنث. ، ولو قلت: تلك هند وزيد لم يجز؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: (أن المراد بالكتاب) هو الآيات، لأن الكتاب عبارة عن آيات مجموعة، فلما كانا شيئاً واحداً، صحت الإشارة إليهما بإشارة الواحد المؤنث.
الثاني: أنه على حذف مضاف، أي: وآيات كتاب مبين.
الثالث: أنه لما ولي المؤنث ما يصح الإشارة به إليه، اكتفى به وحسن، ولو أولي المذكر لم يحسن، ألا تراك تقول: جاءتني هند وزيد، ولو حذفت (هند) أو أخّرتها لم يجز تأنيث الفعل.
قوله: «هُدًى وبُشْرَى» يجوز فيهما أوجه:
أحدها: أن يكونا منصوبين على المصدر بفعل مقدر من لفظهما، أي: يهدي هدى، ويبشر بشرى.
الثاني: أن يكونا في موضع الحال من «آيَات» والعامل فيها ما في «تِلْكَ» من معنى الإشارة.
الثالث: أن يكونا في موضع الحال من «القُرْآن» وفيه ضعف، ومن حيث كونه مضافاً إليه.
الرابع: أن يكونا حالاً من «كِتَاب»، في قراءة من رفعه، يوضعف في قراءة من جره، لما تقدم من كونه في حكم المضاف إليه، لعطفه عليه.
الخامس: أنَّهما حالان من الضمير المستتر في «مبين» سواء رفعته (أم جررته).
السادس: أن يكونا بدلين من «آيَاتُ».
السابع: أن يكونا خبراً بعد خبر.
104
الثامن: أن يكونا خبري ابتداء مضمر، أي: (هي) هُدًى وبُشْرَى للمؤمنين.

فصل


المراد يهديهم إلى الجنة وبشرى لهمن كقوله تعالى: ( ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ) مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ [النساء: ١٧٥]، ولهذا خص به المؤمنين، وقيل: إنما تكون للمؤمنين أو لأنهم تمسكوا به، كقوله:
﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥]، أو أنه يزيد في هداهم، كقوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى﴾ [مريم: ٧٦].
قوله: ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾ يجوز أن يكون مجرور المحل، نعتاً للمؤمنين، أو بدلاً أو بياناً، أو منصوبة عل المدح، أو مرفوعة على تقدير مبتدأ، أي: هم الذين، والمراد بها: الصلوات الخمس، وكذا القول في الزكاة، فإنها هي الواجبة، لأن التعريف بالألف واللام يقتضى ذلك. وإقامة الصلاة أن يؤديها بشرائطها، والزكاة بوضعها في مواضعها.
قوله: ﴿وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ «هم» الثاني تكرير للأول على سبيل التوكيد اللفظي، وفهم الزمخشري منه الحصر، أي: لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء، المتصفون بهذه الصفات. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية، وكرر فيها المبتدأ الذي هو «هم» حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.
و «بالآخِرَةِ» متعلق ب «يوقنون»، ولا يضر الفصل بينهما بالتوكيد.
وهذه الجملة يحتمل أن تكون معطوفة على اصلة، داخلة في حيز الموصول، وحينئذ يكون قد غاير بين الصِّلأَتين لمعنى، وهو أنه لما كان إقامة الصلاة، وإيتاه الزكاة مما يتكرَّر ويتجدَّد بالصتين جملة فعلية، فقال: «يُقِيمُونَ»، وَ «يُؤْتُونَ».
ولما كان الإيقان بالآخرة أمراً ثابتاً مطلوباً دوامه، أتى بالصلة جملة اسمية، مكرراً فيها المسند إليه، مقدماً الموقن به، الدال على الاختصاص، ليدل على الثبات
105
والاستقرار، وجاء بخبر المبتدأ في هذه الجملة فعلاً مضارعاً، دلالة على أن ذلك متجدد كل وقت، غير منقطع. ويحتمل أن تكون مستأنفة غير داخلة في حيز الموصول. قال الزمخشري: ويحتمل أن تتم الصلة عنده، أي: عند قوله: «وَهُمْ»، قال: وتكون الجملة اعتراضية.
يريد أن الصلة تمت عند الزكاة، فيجوز فيه ذلك، وإلا فكيف يصح - إذا أخذنا بظاهر كلامه - أن الصلة تمت عند قوله: «وَهُمْ» وتسمية هذا اعتراضاً: يعني من حيث المعنى وسياق الكلام، وإلا فالاعتراض في الاصطلاح: إنما يكون بين متلازمين من مبتدأ أو خبر، وشرط وجزاء، وقسم وجوابه، وتابع ومتبوع، وصلة وموصول، وليس هنا شيء من ذلك.
فإن قيل: إن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة، فما وجه ذكره مرة أخرى؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن الذي يستفاد منه طرق للنجاة هو معرفة المبدأ، ومعفرة المعاد، والعمل الصالح، وأشرفه الطاعة بالنفس والطاعة بالمال، فقوله: «لِلْمُؤْمِنِينَ»، أي الذين يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وهو إشارة إلى معرفة المبدأ، وقوله: ( ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾، إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال، وقوله: ﴿وَهُم) بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ إشارة إلى علم المعاد، فكأنه تعالى جعل معرفة المبدأ طرفاً أولاً، ومعرفة المعاد طرفاً أخيراً، وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطاً بينهما.
الثاثني: أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة منهم من هو جازم بالحشر والنشر، ومنهم من يكون شاكاً فيه، إلا أنه يأتي بهذه الطاعة احتياطاً، فيقول: إن كنت مصيباً فيها فقد فزت بالسعادة، وإن كنت مخطئاً فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في بالقرآن، (وما من كان جازماً بالآخرة كان مهدياً به). فلهذا ذكر هذا القيد.
106
قوله :«هُدًى وبُشْرَى » يجوز فيهما أوجه :
أحدها : أن يكونا منصوبين على المصدر١ بفعل مقدر من لفظهما، أي : يهدي هدى، ويبشر بشرى٢.
الثاني : أن يكونا في موضع الحال من «آيَات » والعامل٣ فيها ما في «تِلْكَ » من معنى الإشارة٤.
الثالث : أن يكونا في موضع الحال من «القُرْآن » وفيه ضعف، ومن حيث كونه مضافاً إليه٥.
الرابع : أن يكونا٦ حالاً من «كِتَاب »، في قراءة من رفعه، ويضعف في قراءة من جره، لما تقدم من كونه٧ في حكم المضاف إليه، لعطفه عليه٨.
الخامس : أنَّهما حالان من الضمير المستتر في «مبين » سواء رفعته ( أم جررته٩ )١٠.
السادس : أن يكونا بدلين من «آيَاتُ »١١.
السابع : أن يكونا خبراً بعد خبر١٢.
الثامن : أن يكونا خبري ابتداء مضمر، أي :( هي )١٣ هُدًى وبُشْرَى للمؤمنين١٤.

فصل :


المراد يهديهم١٥ إلى الجنة وبشرى لهم، كقوله تعالى :( ﴿ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ )١٦ منهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾١٧، ولهذا١٨ خص به المؤمنين١٩، وقيل : المراد بالهدى : الدلالة، وإنما خصه بالمؤمنين، لأنه ذكر مع الهدى البشرى، والبشرى إنما تكون للمؤمنين أو لأنهم تمسكوا به، كقوله :
﴿ إنما أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٥ ]، أو أنه يزيد٢٠ في هداهم، كقوله تعالى :﴿ وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى ﴾٢١ [ مريم : ٧٦ ].
١ انظر البحر المحيط ٧/٥٣..
٢ في ب: أي: هدى وبشرى بشرى..
٣ في ب: فالعامل..
٤ انظر الكشاف ٣/١٣٢، التبيان ٢/١٠٠٣..
٥ انظر التبيان ٢/١٠٠٣..
٦ في النسختين: يكون. والصواب ما أثبته..
٧ من كونه: سقط من ب..
٨ انظر التبيان ٢/١٠٠٣..
٩ المرجع السابق..
١٠ ما بين القوسين في ب: أم جرته. وهو تحريف..
١١ انظر الكشاف ٣/١٣٢..
١٢ المرجع السابق، البيان ٢/٢١٨، التبيان ٢/١٠٠٣..
١٣ هي: تكملة ليست في المخطوط..
١٤ انظر الكشاف ٣/١٣٢، البيان ٢/٢١٨ وفيه: هو هدى، التبيان ٢/١٠٠٣..
١٥ في ب: يهد لهم..
١٦ ما بين القوسين في النسختين: يبشرهم ربهم برحمة..
١٧ [النساء: ١٧٥]..
١٨ في ب: وهذا..
١٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٧..
٢٠ في ب: مزيد..
٢١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٧-١٧٨..
قوله :﴿ الذين يُقيمُونَ الصلاة ﴾ يجوز أن يكون مجرور المحل، نعتاً للمؤمنين، أو بدلاً أو بياناً، أو منصوبة عل المدح، أو مرفوعة على تقدير مبتدأ، أي : هم الذين، والمراد بها : الصلوات الخمس، وكذا القول في الزكاة، فإنها هي الواجبة، لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك. وإقامة الصلاة أن يؤديها بشرائطها، والزكاة بوضعها في مواضعها١.
قوله :﴿ وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ «هم » الثاني تكرير للأول على سبيل التوكيد اللفظي، وفهم الزمخشري منه الحصر، أي : لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء، المتصفون بهذه الصفات. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية، وكرر فيها المبتدأ الذي هو «هم » حتى صار معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق٢.
و «بالآخِرَةِ » متعلق ب «يوقنون »، ولا يضر الفصل بينهما بالتوكيد.
وهذه الجملة يحتمل أن تكون معطوفة على الصلة، داخلة في حيز الموصول، وحينئذ يكون قد غاير بين الصِّلتين لمعنى، وهو أنه لما كان إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة مما يتكرَّر ويتجدَّد بالصلتين جملة فعلية، فقال :«يُقِيمُونَ »، وَ «يُؤْتُونَ ».
ولما كان الإيقان بالآخرة أمراً ثابتاً مطلوباً دوامه، أتى بالصلة جملة اسمية، مكرراً فيها المسند إليه، مقدماً الموقن به، الدال على الاختصاص، ليدل على الثبات والاستقرار، وجاء بخبر المبتدأ في هذه الجملة فعلاً مضارعاً، دلالة على أن ذلك متجدد كل وقت، غير منقطع٣. ويحتمل أن تكون مستأنفة غير داخلة في حيز الموصول٤. قال الزمخشري : ويحتمل أن تتم الصلة عنده، أي : عند قوله :«وَهُمْ »، قال : وتكون الجملة اعتراضية٥.
يريد أن الصلة تمت عند الزكاة، فيجوز فيه٦ ذلك، وإلا فكيف يصح - إذا أخذنا بظاهر كلامه - أن الصلة تمت عند قوله٧ :«وَهُمْ »٨ وتسمية هذا اعتراضاً : يعني من حيث المعنى وسياق الكلام، وإلا فالاعتراض في الاصطلاح : إنما يكون بين متلازمين من مبتدأ أو خبر، وشرط وجزاء، وقسم وجوابه، وتابع ومتبوع، وصلة وموصول، وليس هنا شيء من ذلك.
فإن قيل : إن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة، فما وجه ذكره مرة أخرى ؟.
فالجواب من وجهين :
الأول٩ : أن الذي يستفاد منه طرق للنجاة هو معرفة المبدأ، ومعرفة المعاد، والعمل الصالح، وأشرفه الطاعة بالنفس والطاعة بالمال، فقوله :«لِلْمُؤْمِنِينَ »، أي١٠ : الذين يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وهو إشارة إلى معرفة المبدأ، وقوله١١ :( ﴿ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة ﴾، إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال، وقوله :﴿ وَهُم )١٢ بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ إشارة إلى علم المعاد، فكأنه تعالى جعل معرفة المبدأ طرفاً أولاً، ومعرفة المعاد طرفاً أخيراً، وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطاً١٣ بينهما.
الثاني : أن المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة منهم من هو جازم بالحشر والنشر، ومنهم من يكون شاكاً فيه، إلا أنه يأتي بهذه الطاعة احتياطاً، فيقول : إن كنت مصيباً فيها فقد فزت بالسعادة، وإن كنت مخطئاً فيها١٤ لم يفتني إلا خيرات قليلة في هذه المدة اليسيرة، فمن أتى بالصلاة والزكاة على هذا الوجه، لم يكن في الحقيقة مهتدياً بالقرآن، ( وأما من كان جازماً بالآخرة كان مهدياً به )١٥. فلهذا ذكر هذا القيد١٦.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٨..
٢ انظر الكشاف ٣/١٣٢..
٣ انظر البحر المحيط ٧/٥٣٢..
٤ المرجع السابق..
٥ الكشاف ٣/١٣٢..
٦ في النسختين: في. والصواب ما أثبته..
٧ عند قوله: سقط من ب..
٨ اعترض أبو حيان على الزمخشري تسميته مثل هذا اعتراضا، ووجه ابن عادل ذلك بأنه إنما يعني الاعتراض من ناحية المعنى. انظر البحر المحيط ٧/٥٣..
٩ الأول: سقط من ب..
١٠ أي: سقط من ب..
١١ في ب: قوله..
١٢ ما بين القوسين سقط من ب..
١٣ في ب: متوسطة..
١٤ فيها: سقط من ب..
١٥ ما بين القوسين سقط من الأصل..
١٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٨..
قوله: ﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ الآية.
لما بيّن ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما للكفار من سوء العذاب، فقال: ﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ القبيحة، حتى رأوها حسنة، «فهم يعمهون» يترددون فيها متحيرين. فإن قيل: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] ؟.
فالجواب: أما أهل السنة فأجروا الآية على ظاهرها، لأن الإنسان لا يفعل شيئاً ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد، أو الظن بكون الفعل مشتملاً على منفعة، وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين:
الأول: أنه لو كان لافتقر فيه إلى داع آخر، ولزم التسلسل، وهو محال.
الثاني: أن العلم إما أن يكون ضرورياً، أو كسبياً، فإن كان ضرورياً فلا بد من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسباً، لأن المكتسب إن كان شاعراً به، فهو متصور له، وتحصيل الحاصل محال، وإن لم يكن متصوراً، كان غافلاً عنه، والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالباً له. فإن قيل: هو مشعور به من وجه، قلنا: فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به، فيعود التقسم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين.
وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة، والعلم الضروري هو الذي يكون مكتسباً، فإن كل واحد من تصوُّريه كاف في حصول التصديق، فالتصورات غير مكتسبة فهي مستلزمة التصديقات، فإذن متى حصلت التصورات البديهية، كان التصديق بها بديهياً فهي مستلزمة التصديقات، فإذن متى حصلت التصورات البديهية، كان التصديق بها بديهياً وليس كسبياً. ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة التصديقات النظرية، كانت كسبية، لأن لازم الضروري ضروري، وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوماً نظرية كذلك، بل هي اعتقادات تقليدية، لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا
107
اعتقاد تحسيني بفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب، فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية، وثبت أن مبادىء الأفعال هي العلوم، وأفعال العباد بأسرها ضرورية فالإنسان مضطر في صورة مختار، فثبت أن الله تعالى هو الذي (زين لكل عامل عمله، والمراد من التزيين هو الذي) المضار والآفات، فثبت بهذه الدلائل العقلية القاطعة وجوب إجراء هذه الآية على ظاهرها. وأما المعتزلة فتأولوها بوجوه:
أحدها: أن المراد بينا لهم أمر الدين، وما يلزمهم أن يتمسكوا به، وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب، لأن التزيين من الله للعمل ليس إلا وصفه بأنه حسن واجب وحميد العاقبة، وهو المراد من قوله: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾
[الحجرات: ٧].
وقوله: «فَهُمْ يَعْمَهُونَ» يدل على ذلك، إذ المراد: فهم يعدلون ويتخيرون عما زينا من أعمالهم.
وثانيها: أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق، جعلوا إنعام الله عليها بذلك ذريعة إلى اتباع شهواتهم، وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف، فكأنه تعالى زين بذلك أعمالهم، ولذلك أشارت الملائكة عيلهم السلام بقولهم: ﴿ولكن مَّتَّعْتَهُمْ﴾ [الفرقان: ١٨] ﴿وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ﴾ [الفرقان: ١٨] ﴿الذكر﴾ [الفرقان: ١٨].
وثالثها: أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه.
والجواب عن الأول: أن قوله تعالى: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ صيغة عموم، فوجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسناً أو قبيحاً.
وعن الثاني: أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أثر، وليس لها أُر، وليس لها أثر فيه، فإن كان الأول فقد دللنا على أن التحصيل متى حصل فلا بد أن ينتهي إلى حد الوجودب والاستلزام وحينئذ يحصل الغرض - وإن لم يكن له فيه أُر - صارت هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب، بالنسبة إلى أعمالهم، وذلك يمنع من إسناد فعلهم
108
إليها، وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه.
قوله: ﴿أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب﴾ أي: القتل والأسير يوم بدر، وقيل: المراد مطلق العذاب، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، وسوء العذاب: شدته.
قوله: «الأَخْسَرُونَ» في (أَفَعَلَ) قولان: أظهرهما: أنها على بابها من التفضيل، وذلك بالنسبة إلى الكفار، من حيث اختلاف الزمان والمكان، يعني: أنهم أكثر خسراناً في الآخرة منهم في الدنيا، أي أن خسرانهم في الآخرة أكثر من خسرانهم في الدنيا.
وقال جماعة - منهم الكرماني - هي هنا للمبالغة لا للشَّركة، لأن المؤمن لا يخسران له في الآخرة ألبتة، وقد تقدم جواب ذلك، وهو أن الخسران راجع إلى شيء واحد، باعتبار اختلاف زمانه ومكانه. وقال ابن عطية: «الأَخْسَرُونَ» جمع ( «أَخْسَرَ»، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف، فتقوى رتبته في الأسماء، وفي هذا نظر. قال أبوحيان: ولا نظر في أنه يجمع جمع سلامة أو جمع تكسير إذا كان ب (ال)، بل لا يجوز فيه إلا ذلك إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية، فيقول: الزيدون هم الأفضلون والأفاضل، والهندات هنّ الفضليات والفضل، وأما قوله: لا يجمع إلا أن يضاف) فلا يتعين إذ ذاك جمعه، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز جمعه، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد.
109
قوله :﴿ أولئك الذين لَهُمْ سوء العذاب ﴾ أي : القتل والأسر يوم بدر، وقيل : المراد مطلق العذاب، سواء كان في الدنيا أو١ في الآخرة، وسوء العذاب : شدته٢.
قوله :«الأَخْسَرُونَ » في ( أَفْعَلَ ) قولان : أظهرهما : أنها على بابها من٣ التفضيل، وذلك بالنسبة إلى الكفار، من حيث اختلاف الزمان والمكان، يعني : أنهم أكثر خسراناً في الآخرة منهم في الدنيا، أي أن خسرانهم في الآخرة أكثر من خسرانهم في الدنيا٤.
وقال جماعة - منهم الكرماني٥ - هي هنا للمبالغة لا للشَّركة، لأن المؤمن لا خسران له في الآخرة ألبتة٦، وقد تقدم جواب ذلك، وهو أن الخسران راجع إلى شيء واحد، باعتبار اختلاف زمانه ومكانه. وقال ابن عطية :«الأَخْسَرُونَ » جمع ( «أَخْسَرَ »، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف، فتقوى رتبته في الأسماء، وفي هذا نظر٧. قال أبو حيان : ولا نظر في أنه يجمع جمع سلامة أو جمع تكسير إذا كان ب ( ال )، بل لا يجوز فيه إلا ذلك إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية، فيقول : الزيدون هم الأفضلون والأفاضل، والهندات هنّ الفضليات والفضل٨، وأما قوله : لا يجمع إلا أن يضاف ) فلا يتعين إذ ذاك جمعه، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا٩ يجوز جمعه، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد١٠.
١ في ب: و..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٠..
٣ في الأصل: على..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٥٤..
٥ تقدم..
٦ انظر البحر المحيط ٧/٥٤..
٧ تفسير ابن عطية ١١/١٦٧..
٨ في ب: والفضلى..
٩ في النسختين: لا. والتصويب من البحر المحيط..
١٠ البحر المحيط ٧/٥٤..
قوله: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى» :(لقي) مخفَّفاً يتعدى لواحد، وبالتضعيف يتعدى لاثنين، فأقيم أولهما هنا مقام الفاعل، والثاني «القرآن»، وقول من قال: إنَّ أصله (تُلَقَّن) بالنون تفسير معنى، فلا يتعلّق به متعلق بأن النون أبدلت حرف عِلَّة.
109

فصل


المعنى لتؤتاه وتلقنه من عند أي حكيم وأي عليم، وهذا معنى مجيئهما منكرتين، وهذه الآية تمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من القصص كأنه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى، فإن قيل: الحكمة إما أن تكون نفس العلم، وإما أن يكون العلم داخلاً فيها، فبعد ذكر الحكمة لم ذكر العلم؟
فالجواب: أن الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط، والعلم أعم منه؛ لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً، والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية، فذكر الحكمة على العموم ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم، وكمال العلم من جهات ثلاثة: وحدتها، وعمون تعلقها بكل المعلومات، وبقاؤها مصونة عن كل التغيرات وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه (سبحانه).
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ... ﴾ الآيات، يجوز أن يكون «إذْ» منصوباً بإضمار اذكر، أو (يعلم) مقدر مدلولا عليه ب «عليم»، (أو ب «عليم» ) وفيه ضعف لتقيد الصفة بهذا الظرف.

فصل


﴿إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ﴾ في مسيره من مدين إلى مصر، قيل: إنه لم يكن مع موسى - عليه السلام - غير امرأته ابنة شعيب - عليه السلام -، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع لك ورود الخطاب بلفظ الجمع، وهو قوله: ﴿امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً﴾ [طه: ١٠] : أبصرت ناراً، وذلك أنهما كانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما، والوقت وقت برد، وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار لما يرجى فيها من
110
زوال الحيرة في أمر الطريق، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء، فلذلك بشرها فقال: ﴿إني آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ والخبر: ما يخبر به عن حال الطريق؛ لأنه كان قد ضله. ثم في كلام حذف، وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها، وقال: سآتيكم منها بخبر يعرف به الطريق.
قوله: ﴿أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ قرأ الكوفيون بتنوين «شِهَاب»، على أن «قَبَس» بدل من «شِهَابٍ» أو صفة له، لأنه بمعنى مقبوس، كالقبض والنفض، والباقون بالإضافة على البيان، لأنَّ الشِّهاب يكون قبساً وغيره.
والشِّهَابُ: الشُّعلة، والقَبَسُ: القطعة منها يكون في عودٍ وغير عود. و «أو» : على بابها من التنويع، والطاء في «تَصْطَلُونَ» : يدل من تاء الافتعال، لأنه من صَلِيَ بالنار.
فإن قيل: قال هاهنا: ﴿سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾، وفي موضع آخر، ﴿لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ﴾ [القصص: ٢٩] وهما كالمتدافعين، لأن أحدهما تَرَجٍّ والآخر تيقن.
فالجواب: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا،
111
مع تجويزه الخيبة. فإن قيل: كيف جاء بسين التسويف؟
فالجواب: عدة لأهله أنه يأتيهم به، وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة، وأدخل «أو» بين الأمرين المقصودين، يعني الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين، ظفر بأحدهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة منه بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده. «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» تستدفئون من البرد.
قوله: «نُودِي» في القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضمير موسى، وهو الظاهر، وفي «أن» حينئذ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها المفسرة، لتقدم ماهو بمعنى القول.
والثاني: أنها الناصبة للمضارع، ولكن وصلت هنا بالماضي، وتقدم تحقيق ذلك، وذلك على إسقاط الخافض، أي: نودي موسى بأن بورك.
الثالث: إنها المخففة، واسمها ضمير الشأن، و «بورك» خبرها، ولم يحتج هنا إلى فاصل، لأنه دعاء، وقد تقدم نحوه في النور، في قوله: ﴿أَنَّ غَضَبَ﴾ [النور: ٩]- في قراءته فعلاً ماضياً - قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، اولتقدير: بأنه بورك، والشمير ضمير الشأن والقصة؟
قلت: لا؛ لأنَّه لا بدَّ من (قَدْ)، فإن قلت: فعلى إضمارها؟
قلت: لا يصحّن لأنها علامة، والعلامة لا تحذف انتهى.
فمنع أن تكون مخففة لما ذكر، وهذا بناء منه على أنَّ «بُورِكَ» خبر لا دعاء، أما إذا قلنا إنه دعاءكما تقدم في النور فلا حاجة إلى (الفاصل كما تقدم، وقد تقدم فيه استشكال، وهو الطلب أن لا يقع خبراً في هذا الباب، فكيف وقع هذا خبراً ل (أن) المخففة، وهو دعاء.
الثاني من الأوجة الأول: انَّ القائم مقام) الفاعل نفس «أَنْ بُورِكَ» على حذف حرف الجرّ، أي: بأن بورك، ف (أَنْ) حينئذ إمّا ناصبة في الأصل، وإمّا مخففة.
112
الثالث: أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل، أي: نودي النِّداء، ثم فسِّر بما بعده ومثله ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ [يوسف: ٣٥].
قوله: ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ مَنْ قَائمٌ مقام الفاعل ل «بُورِكَ»، وبَارَكَ يتعدى بنفسه، ولذلك بُنِيَ للمفعول، يقال: بَارَكك اللَّهُ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ لَكَ، وقال الشاعر:
٣٩٣٠ - فَبُورِكْتَ مَولُوداً وبُورِكْتَ نَاشِئاً وبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيبِ إذْ أَنْتَ أَشْيَبُ
وقال عبد الله بن الزبير:
٣٩٣١ - فبُرك في بَنِيكَ وفي بَنِيهِمْ إذا ذُكِرُوا ونَحْنُ لَكَ الفِدَاءُ
وقال آخر:
٣٩٣٢ - فَبُورِكَ في المَيتِ الغَرِيبِ كَمَا بُورِكَ نبع الرُّمَّانِ والزَّيْتُون

فصل


والمراد ب «مَنْ» إما الباري تعالى، وهو على حذف مضاف، أي من قدرته وسلطانه في النار، وقيل المراد به موسى والملائكة، وكذلك ب «مَنْ حَوْلَهَا»، وقيل المراد ب «مَنْ» غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها، فالأول من مروي عن ابن عباس، وروى مجاهد عنه أنه قال: معناه بوركت النار. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضاً، قال: سمعت أبيّاً يقرأ: ﴿أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ و «مَنْ» : قد تأتي بمعنى (
113
ما) كقوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ﴾ [النور: ٤٥]، و (مَا) قد تكون صلة في الكلام، كقوله: ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ﴾ [ص: ١١]، ومعناه: بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وفيمَنْ حَوْلَهَا وهم الملائكة وموسى عليهم السلام، وقال الزمخشري: ﴿بُورِكَ مَن فِي النار﴾ : بورك من في مكان النار ومن حولها: مكانها، ومكانها: هي البقعة التي حصلت فيها، وهي البقة المذكورة في قوله تعالى: ﴿مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة﴾ [القصص: ٣٠] وتدل عليه قراءة أبيّ.
قوله: «وَسُبْحَانَ اللَّهِ» فيه أوجه:
أحدها: أنه من تتمّة النداء: أي: نودي بالبركة وتنزيه ربِّ العزَّة، أي: نودي بمجموع الأمرين.
الثاني: أنه من كلام الله تعالى مخاطباً لنبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وهو على هذا اعتراض بين أثناء القصة.
الثالث: أنّ معناه وبُورِكَ من سَبَّحَ اللَّهَ، يعني أنه حذف (مَنْ) وصلتها، وأبقى معمول الصلة، إذ التقدير: بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، ومن قال: سُبْحَانَ اللَّهِ و «سُبْحَانَ» في الحقيقة ليس معمولاً لقال، بل لفعل من لفظه، وذلك الفعل هو المنصوب بالقول.

فصل


روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله: ﴿بُورِكَ مَن فِي النار﴾ يعني: قُدِّس من في النار، وهو الله، عنى به نفسه على معنى: أنه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها، كما روي أنه مكتوب في التوراة: «جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فران»، فمجيئه من سيناء بعثته موسى منها، ومن ساعير
114
بعثته المسيح، ومن جبال فاران بعثته المصطفى منها، وفاران: مكة. وهل كان ذلك نوره عَزَّ وَجَلَّ؟
قال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها، والنار إحدى حجب الله تعال، كما جاء في الحديث: «حجابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خلقه» والسبب الذي لأجله بوركت البقعة، وبورك من فيها وحواليها: حدوث هذا الأمر العظيم فيها، وهو تكليم موسى وجعله رسولاً، وإظهار المعجزات عليه، ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: ٧] وحقت أن تكون كذلك، فهي مبعث الأنبياء عليهم السلام ومهبط الوحي، وكفاتهم أحياء وأمواتاً.
ولما نزه نفسه، - وهو المنزه من كل سوء وعيب - تعرف إلى موسى بصفاته في قوله: ﴿ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم﴾. في اسم «إنَّ» وجهان: أظهرهما أنَّه ضمير الشأن ( «وَأَنَّا اللَّهُ» مبتدأ) وخبره، و «العزيز الحَكِيمُ» صفتان لله.
والثاني: أنه ضمير راجع إلى دلَّ عليه ما قبله، يعني: إن مكلِّمك أنا، و «الله» بيان ل «أَنَا»، و «العَزِيزُ الحَكِيمُ» : صفتان للبيان قاله الزمخشري. قال أبو حيان، وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فلا يجوز أن يعود الضمير على ذلك المحذوف: إذ قد غيِّر الفعل عن بنائه له وعزم على أن لا يكون محدِّثاً عنه، فعود الضمير إليه ممَّا ينافي ذلك؛ إذ يصير معتنًى به. قال شهاب الدين: وفيه نظر، لأنه قد يلتفت إليه، وقد تقدم ذلك في البقرة عند قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ [البقرة: ١٧٨]، ثم قال: «وَأَدَاءٌ إلَيْهِ»، قيل: إلا الذي عفي له وهو وليُّ الدم ما تقدم تحريره ولئن سلِّم ذلك، فالزمخشري لم يقل إنه عائد على ذلك الفاعل، إنما قالك راجع إلى ما دل عليه ما قبله يعني من (السِّياق).
115
وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون ضمير ربِّ: أي: إن الرب أنا الله، فيكون «أنَا» فصلاً أو توكيداً أو خبر إن، والله بدل منه. وقيل: الهاء في قوله «إنَّهُ» عماد، وليست كناية، فإن قيل: هذا النداء قد يجوز أن يكون من عند غير الله، فكيف علم موسى أنه من الله؟
فالجواب: لأهل السنة فيه طريقان: الأول: أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة كلام المخلوقين، فعلم بالضرورة أنه صفة الله.
الثاني: قول أئمة ما وراء النهر، وهو أنه - عليه السلام - سمع الصوت من الشجرة، فنقول: إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور:
أحدها: أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة، علم أنه من قبل الله تعالى: لأن أحداً منا لا يقدر عليه، وهذا ضعيف، لاحتمال أن الشيطان دخل في النار والشجرة، ثم نادى.
والثاني: يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً، وهو أيضاً ضعيف، لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين، فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم.
وثالثها: أنه قد يقترن به معجز دل على ذلك، وقيل: إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق، فصار ذلك لكالمعجزة وهذا أيضاً في غاية الضعف والبعد، لأنه كيف تنادي النار أو الشجرة، وتقول: يا موسى إني أنا ربك، أو إني أنا الله رب العالمين!!
116
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ. . . ﴾ الآيات، يجوز أن يكون «إذْ » منصوباً بإضمار اذكر١، أو ( يعلم ) مقدر مدلولا عليه ب «عليم »٢، ( أو ب «عليم »٣ )٤ وفيه ضعف لتقيد الصفة بهذا الظرف٥.

فصل٦ :


﴿ إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ ﴾ في مسيره من مدين إلى مصر٧، قيل : إنه لم يكن مع موسى - عليه السلام ٨- غير امرأته ابنة شعيب - عليه السلام٩ -، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع١٠ ذلك ورود الخطاب بلفظ الجمع١١، وهو قوله :﴿ امكثوا إني آنَسْتُ ﴾١٢ : أبصرت ناراً، وذلك أنهما كانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما، والوقت وقت برد، وفي١٣ مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء، فلذلك١٤ بشرها فقال :﴿ إني آنَسْتُ١٥ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾١٦ والخبر : ما يخبر به١٧ عن حال الطريق ؛ لأنه كان قد ضله١٨. ثم١٩ في الكلام حذف، وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها، وقال : سآتيكم منها بخبر يعرف به الطريق٢٠.
قوله :﴿ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ ﴾ قرأ الكوفيون٢١ بتنوين «شِهَاب »٢٢، على أن «قَبَس » بدل من «شِهَابٍ »٢٣ أو صفة له٢٤، لأنه٢٥ بمعنى مقبوس، كالقبض٢٦ والنفض٢٧، والباقون بالإضافة٢٨ على البيان٢٩، لأنَّ الشِّهاب يكون قبساً وغيره.
والشِّهَابُ : الشُّعلة، والقَبَسُ : القطعة منها يكون في عودٍ٣٠ وغير عود. و «أو » : على بابها من التنويع، والطاء في «تَصْطَلُونَ » : يدل من تاء الافتعال، لأنه من صَلِيَ بالنار٣١.
فإن قيل : قال هاهنا :﴿ سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾٣٢، وفي موضع آخر، ﴿ لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ﴾ [ القصص : ٢٩ ] وهما كالمتدافعين، لأن أحدهما تَرَجٍّ والآخر تيقن٣٣.
فالجواب٣٤ : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه : سأفعل كذا، و٣٥ سيكون كذا، مع تجويزه الخيبة٣٦. فإن قيل : كيف جاء بسين التسويف ؟.
فالجواب : عدة لأهله أنه٣٧ يأتيهم به، وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة٣٨، وأدخل «أو » بين الأمرين المقصودين، يعني الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين، ظفر بأحدهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة منه بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده٣٩. «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ » تستدفئون من البرد.
١ ما بين القوسين في ب: تعالى..
٢ انظر الكشاف ٣/١٣٣، التبيان ٢/١٠٠٣..
٣ بعليم: سقط من ب..
٤ انظر الكشاف ٣/١٣٣..
٥ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٦ انظر البحر المحيط ٧/٥٤..
٧ في ب: قوله..
٨ انظر البغوي ٦/٢٥٩-٢٦٠..
٩ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٠ في النسختين: فيمنع. والتصويب من الكشاف والفخر الرازي..
١١ في ب: ورود الخطاب بالجمع..
١٢ انظر الكشاف ٣/١٣٣-١٣٤، الفخر الرازي ٢٤/١٨١..
١٣ في ب: وقت برموني..
١٤ في ب: فكذلك..
١٥ في ب: إني آنست..
١٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨١..
١٧ به: سقط من ب..
١٨ انظر الكشاف ٣/١٣٤، الفخر الرازي ٢٤/١٨١..
١٩ في ب: و..
٢٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨١..
٢١ هو عاصم وحمزة الكسائي..
٢٢ السبعة (٤٧٨)، الكشف ٢/١٥٤، النشر ٢/٣٣٧، الإتحاف(٣٣٥)..
٢٣ انظر معاني القرآن للأخفش ٢/٦٤٧، الكشاف ٣/١٣٤، البيان ٢/٢١٨..
٢٤ انظر الكشاف ٣/١٣٤، التبيان ٢/١٠٠٤..
٢٥ في ب: ولأنه..
٢٦ القبض- بالتحريك- بمعنى المقبوض، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. اللسان (قبض)..
٢٧ النفض- بالتحريك- ما تساقط من الورق والثمر، وهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض. اللسان (نفض)..
٢٨ السبعة (٤٧٨)، الكشف ٢/١٥٤٥، النشر ٢/٣٣٧، الإتحاف (٣٣٥)..
٢٩ أي: من إضافة النوع إلى جنسه، بمنزلة قولك: ثوب خز. مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٤، البيان ٢/٢٨٠..
٣٠ انظر مجاز القرآن ٢/٩٢، اللسان (قبس)..
٣١ وهو إبدال مطرد، لأن تاء (افتعل) تبدل طاء إذا كانت الفاء صاداً، أو ضاداً، أو طاء، أو ظاء، فأصل "تصطلون" تصتليون" أبدل من التاء طاء لتوافق الطاء في الإطباق، ونقلت الضمة من الياء إلى اللام فبقيت الياء ساكنة وواو الجمع ساكنة فحذفت الياء لالتقاء الساكنين. البيان ٢/٢١٨، الممتع ١/٣٦٠. وفي اللسان (صلا): وصلى بالنار وصليها صلياً وصليّا وصلى وصلاء، واصطلى بها وتصلاها قاسى حرها..
٣٢ في ب: بقبس. وهو تحريف..
٣٣ في ب: متيقن..
٣٤ في ب: والجواب..
٣٥ و: سقط من ب..
٣٦ انظر الكشاف ٣/١٣٤، الفخر الرازي ٢٤/١٨١..
٣٧ في ب: أنهم. وهو تحريف..
٣٨ انظر الكشاف ٣/١٣٤، الفخر الرازي ٢٤/١٨١..
٣٩ المرجعان السابقان..
قوله :«نُودِي » في القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها١ : أنه ضمير موسى، وهو الظاهر، وفي «أن » حينئذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها المفسرة، لتقدم ما هو بمعنى القول٢.
والثاني : أنها الناصبة للمضارع، ولكن وصلت هنا بالماضي، وتقدم تحقيق ذلك، وذلك على إسقاط الخافض، أي : نودي موسى بأن بورك٣.
الثالث : أنها المخففة، واسمها ضمير الشأن، و «بورك » خبرها، ولم يحتج هنا إلى فاصل، لأنه دعاء٤، وقد تقدم نحوه في النور، في قوله :﴿ أَنْ غَضِبَ ﴾ [ النور : ٩ ] - في قراءته فعلاً ماضياً٥ - قال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، والتقدير٦ : بأنه بورك، والضمير ضمير الشأن والقصة٧ ؟.
قلت : لا ؛ لأنَّه لا بدَّ من ( قَدْ )، فإن قلت : فعلى إضمارها ؟.
قلت : لا يصحّ، لأنها علامة، والعلامة لا تحذف٨ انتهى.
فمنع أن تكون مخففة لما ذكر، وهذا بناء منه على أنَّ «بُورِكَ » خبر لا دعاء، أما إذا قلنا إنه دعاءكما تقدم في النور فلا حاجة إلى ( الفاصل كما تقدم، وقد تقدم فيه استشكال، وهو أن الطلب لا يقع خبراً في هذا الباب، فكيف وقع هذا خبراً ل ( أن ) المخففة، وهو دعاء.
الثاني من الأوجه الأول : أن القائم مقام )٩ الفاعل نفس «أَنْ بُورِكَ » على حذف حرف الجرّ، أي : بأن بورك، ف ( أَنْ ) حينئذ إمّا ناصبة في الأصل، وإمّا مخففة١٠.
الثالث : أنه ضمير المصدر١١ المفهوم من الفعل، أي : نودي النِّداء، ثم فسِّر بما بعده١٢ ومثله ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ ﴾ [ يوسف : ٣٥ ].
قوله :﴿ مَنْ فِي النَّارِ ﴾ مَنْ قَائمٌ مقام الفاعل ل «بُورِكَ »١٣، وبَارَكَ يتعدى بنفسه، ولذلك١٤ بُنِيَ للمفعول، يقال : بَارَكك اللَّهُ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ لَكَ١٥، وقال الشاعر :
٣٩٣٠ - فَبُورِكْتَ مَولُوداً وبُورِكْتَ نَاشِئاً *** وبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيبِ إذْ أَنْتَ أَشْيَبُ١٦
وقال عبد الله بن الزبير :
٣٩٣١ - فبُورك في بَنِيكَ وفي بَنِيهِمْ *** إذا ذُكِرُوا ونَحْنُ لَكَ الفِدَاءُ١٧
وقال آخر :
٣٩٣٢ - فَبُورِكَ في المَيتِ الغَرِيبِ كَمَا *** بُورِكَ١٨ نبع الرُّمَّانِ والزَّيْتُون١٩

فصل٢٠ :


والمراد ب «مَنْ » إما الباري تعالى، وهو على حذف مضاف، أي من قدرته وسلطانه في النار٢١، وقيل المراد به موسى والملائكة، وكذلك ب «مَنْ حَوْلَهَا »، وقيل المراد ب «مَنْ » غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها٢٢، فالأول مروي عن ابن عباس، وروى مجاهد عنه أنه قال : معناه بوركت النار٢٣. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضاً، قال : سمعت أبيّاً يقرأ :﴿ أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾٢٤ و «مَنْ » : قد تأتي بمعنى ( ما ) كقوله :﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ ﴾ [ النور : ٤٥ ]، و ( مَا ) قد تكون صلة في الكلام، كقوله٢٥ :﴿ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ ﴾٢٦، ومعناه : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وفيمَنْ حَوْلَهَا وهم الملائكة وموسى عليهم السلام٢٧، وقال الزمخشري :﴿ بُورِكَ مَن فِي النار ﴾ : بورك من في مكان النار ومن حولها : مكانها، ومكانها : هي البقعة التي حصلت فيها، وهي البقة المذكورة في قوله تعالى٢٨ :﴿ مِن شاطئ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة ﴾ [ القصص : ٣٠ ] وتدل عليه قراءة أبيّ٢٩.
قوله :«وَسُبْحَانَ اللَّهِ » فيه أوجه :
أحدها : أنه من تتمّة النداء : أي : نودي بالبركة وتنزيه ربِّ العزَّة، أي : نودي بمجموع الأمرين٣٠.
الثاني : أنه من كلام الله تعالى مخاطباً لنبينا محمد – عليه الصلاة والسلام٣١ -، وهو على هذا اعتراض بين أثناء القصة٣٢.
الثالث : أنّ معناه وبُورِكَ من٣٣ سَبَّحَ اللَّهَ، يعني أنه حذف ( مَنْ ) وصلتها، وأبقى معمول الصلة، إذ التقدير : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، ومن قال : سُبْحَانَ اللَّهِ٣٤ و «سُبْحَانَ » في الحقيقة ليس معمولاً لقال، بل لفعل من لفظه، وذلك الفعل هو المنصوب بالقول.

فصل :


روي٣٥ عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله :﴿ بُورِكَ مَن فِي النار ﴾ يعني : قُدِّس من في النار، وهو الله، عنى به نفسه على معنى : أنه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها، كما روي أنه مكتوب في التوراة :«جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فاران »، فمجيئه من سيناء بعثته موسى منها، ومن ساعير بعثته المسيح، ومن جبال فاران بعثته المصطفى منها، وفاران : مكة. وهل كان ذلك نوره عز وجل ؟.
قال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها، والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث :«حجابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ٣٦ ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خلقه٣٧ »٣٨ والسبب الذي لأجله بوركت البقعة، وبورك من فيها وحواليها : حدوث هذا الأمر العظيم فيها، وهو تكليم موسى وجعله رسولاً، وإظهار المعجزات عليه، ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأنبياء : ٧ ] وحقت أن تكون كذلك، فهي مبعث الأنبياء عليهم السلام٣٩ ومهبط الوحي، وكفاتهم أحياء وأمواتاً٤٠.
١ في ب: أحدهما. وهو تحريف..
٢ انظر الكشاف ٣/١٣٤، التبيان ٢/١٠٠٤، البحر المحيط ٧/٥٥..
٣ انظر التبيان ٢/١٠٠٤، البحر المحيط ٧/٥٥..
٤ المرجعان السابقان..
٥ وهي قراءة نافع. انظر السبعة(٤٥٤)..
٦ في الكشاف: وتقديره نودي..
٧ والقصة: ليس في عبارة الزمخشري..
٨ في الكشاف: لأنها علامة لا تحذف. الكشاف ٣/١٣٤..
٩ ما بين القوسين سقط من ب..
١٠ انظر البيان ٢/٢١٩، التبيان ٢/١٠٠٤..
١١ في ب: المضمر..
١٢ انظر التبيان ٢/١٠٠٤، البحر المحيط ٧/٥٥..
١٣ انظر التبيان ٢/١٠٠٤..
١٤ في ب: وكذلك..
١٥ انظر اللسان (برك)..
١٦ البيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله، وهو في القرطبي ١٣/١٥٨، البحر المحيط ٧/٥٥. والشاهد فيه بناء الفعل (بارك) للمفعول، لأنه فعل متعد..
١٧ البيت من بحر الوافر، قاله عبد الله بن الزبير، وهو في الحماسة البصرية ١/٤٣٩، البحر المحيط ٧/٥٥، والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق..
١٨ في ب: ورك في..
١٩ البيت من بحر الخفيف، قاله أبو طالب بن عبد المطلب في رثاء مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وهو في ديوانه (٢١) برواية:
بورك البيت... كما *** بورك نبع... والتين
وتفسير ابن عطية ١١/١٧١، المفضليات (١٩٣)، اللسان (برك)، وفيه (نضح) مكان (نبع) البحر المحيط ٧/٥٥، والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق..

٢٠ فصل: سقط من ب..
٢١ انظر البحر المحيط ٧/٥٥-٥٦..
٢٢ المرجع السابق..
٢٣ انظر البغوي ٦/٢٦٠..
٢٤ المرجع السابق ٦/٢٦١..
٢٥ في ب: لقوله..
٢٦ من قوله تعالى: ﴿جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب﴾[ص: ١١]. والاستدلال بها على أن (ما) زائدة. البيان ٢/٣١٣، التبيان ٢/١٠٩٨..
٢٧ انظر البغوي ٦/٢٦١..
٢٨ تعالى: سقط من ب..
٢٩ انظر المحتسب ٢/١٣٤..
٣٠ قال أبو حيان: (والظاهر أن قوله: "وسبحان الله رب العالمين" داخل تحت قوله"نودي"). البحر المحيط ٧/٥٦..
٣١ في ب: صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم..
٣٢ انظر البحر المحيط ٧/٥٦..
٣٣ من: سقط من ب..
٣٤ وعليه فهو من كلام الله تعالى. حكاه القرطبي وأبو حيان عن ابن شجرة. انظر القرطبي ١٣/١٦٠، البحر المحيط ٧/٥٦..
٣٥ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦/٢٦١..
٣٦ وجهه: سقط من ب..
٣٧ انظر تفسير ابن كثير ٣/٣٥٧..
٣٨ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦/٢٦١..
٣٩ في ب: عليهم الصلاة والسلام..
٤٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٢..
ولما نزه نفسه، - وهو المنزه من كل سوء وعيب - تعرف إلى موسى بصفاته في١ قوله :﴿ يا موسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم ﴾. في اسم «إنَّ » وجهان : أظهرهما أنَّه ضمير الشأن ( «وَأَنَّا اللَّهُ » مبتدأ )٢ وخبره، و٣ «العزيز الحَكِيمُ » صفتان لله.
والثاني : أنه ضمير راجع إلى ما دلَّ عليه ما قبله، يعني : إن مكلِّمك أنا، و «الله » بيان ل «أَنَا »، و «العَزِيزُ الحَكِيمُ » : صفتان للبيان قاله الزمخشري٤. قال أبو حيان، وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فلا يجوز أن يعود الضمير على ذلك المحذوف : إذ٥ قد غيِّر الفعل عن بنائه له٦ وعزم على أن لا يكون محدِّثاً عنه، فعود الضمير إليه ممَّا ينافي ذلك ؛ إذ يصير٧ معتنًى به٨. قال شهاب الدين : وفيه نظر، لأنه قد يلتفت إليه، وقد تقدم ذلك في البقرة عند قوله :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ﴾، ثم قال :«وَأَدَاءٌ إلَيْهِ »٩، قيل : إلا الذي عفي له١٠ وهو وليُّ الدم ما تقدم تحريره١١ ولئن سلِّم ذلك، فالزمخشري١٢ لم يقل إنه عائد على ذلك الفاعل، إنما قال : راجع إلى ما دل عليه ما قبله يعني من ( السِّياق١٣ )١٤.
وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون ضمير ربِّ : أي : إن الرب أنا الله، فيكون «أنَا » فصلاً أو توكيداً أو خبر إن، والله بدل منه١٥. وقيل : الهاء في قوله «إنَّهُ » عماد١٦، وليست كناية، فإن قيل : هذا النداء قد يجوز أن يكون من عند غير الله، فكيف علم موسى أنه من الله ؟.
فالجواب : لأهل السنة فيه طريقان : الأول : أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة كلام المخلوقين، فعلم بالضرورة أنه صفة الله.
الثاني : قول أئمة ما وراء النهر١٧، وهو أنه - عليه السلام١٨ - سمع الصوت من الشجرة، فنقول : إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور :
أحدها : أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة، علم أنه من قبل الله تعالى : لأن أحداً منا لا يقدر عليه، وهذا ضعيف، لاحتمال أن الشيطان دخل في النار والشجرة، ثم نادى.
والثاني : يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً، وهو أيضاً ضعيف، لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين، فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم.
وثالثها : أنه قد يقترن به معجز دل على ذلك، وقيل : إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق، فصار ذلك كالمعجزة١٩ وهذا أيضاً في غاية الضعف والبعد، لأنه كيف تنادي النار أو٢٠ الشجرة، وتقول : يا موسى إني أنا ربك، أو٢١ إني أنا الله رب العالمين ! !.
١ في: سقط من ب..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣ و: سقط من ب..
٤ انظر الكشاف ٣/١٣٤..
٥ في ب: و..
٦ له: تكملة من البحر المحيط..
٧ في البحر المحيط: مقصوداً..
٨ البحر المحيط ٧/٥٦..
٩ من قوله تعالى: ﴿فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء بإحسان﴾[البقرة: ١٧٨]..
١٠ له: تكملة ليست في المخطوط..
١١ انظر اللباب ١/٣٥٢. ووجه التنظير بالآية ظاهر..
١٢ في ب: قال الزمخشري. وهو تحريف..
١٣ الدر المصون ٥/١٧٨..
١٤ ما بين القوسين في ب: السياق وذلك..
١٥ التبيان: ٢/١٠٠٥..
١٦ قال الفراء: (وقوله: "إنه أنا الله" هذه الهاء هاء عماد، وهو اسم لا يظهر) المعاني ٢/٢٨٧..
١٧ في ب: ما ورد النهي. وهو تحريف..
١٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٢-١٨٣. وفيه: وهذا هو الأصح والله أعلم..
٢٠ في ب : و..
٢١ في ب : و..
قوله: ﴿وَأَلْقِ﴾ عطف على ما قبله من الجملة الاسمية الخبرية، وقد تقدم أن سيبويه لا يشترط تناسب الجمل، وأنه يجيز: جاء زيدٌ ومن أبوك، وتقدمت أدلته أول البقرة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: «وَأَلْقِ عَصَاكَ» ؟ قلت: على قوله: «
116
بُورِكَ» لأن معنى: نودي أن بورك، وقيل له: ألق عصاك، والدليل على ذلك قوله: ﴿وأن ألق عصاك﴾، بعد قوله: أن يا موسى إني أنا الله على تكرير حرف التفسير، كما يقول: كتبت إليه أن حجَّ واعتمر، وإن شئت، أن حجَّ وأن اعتمر. قال أبو حيان: وقوله إنه معطوف على «بُورِكَ» مُنَافٍ لتقديره، وقيل له: ألق عصاك، لأن هذه جملة معطوفة على «بُورِكَ» وليس جزؤها الذي هو معمول، وقيل: معطوفاً على «بُرِكَ»، وإنما احتاج إلى تقدير: وقيل له: ألق، ليكون جملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها، كأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة. والصحيح أنه لا يشترط ذلك، ثم ذكر مذهب سيبويه.
﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾، وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها، سميت جانّاً، لأنها تستر عن الناس. وقرأ الحسن، والزهري، وعمرو بن عبيد «جَأنٌّ» بهمزة مكان الألف، وقد تقدم تقرير هذا عند ﴿وَلاَ الضآلين﴾ [الفاتحة: ٧] على لغة من يهرب من التقاء الساكنين، فيقول شأبَّة ودأبَّة. «وَلَّي مُدْبِراً» هرب من الخوف، و «وَلَمْ يُعَقِّبْ» : لم يرجع، يقال: عقب فلان: إذا رجع، وكل راجع معقب.
وقال قتادة: ولم يلتفت، فقال الله: ﴿ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون﴾، يريد: إذا أمَّنتهم لا يخافون، وقيل: المراد إذا أرمتهم بإظهار معجز أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك، وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة، لأن الخوف الذي هو شرط الإيمان لا يفارقهم، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أنا أخاشكم لله»
قوله: «تَهْتَزُّ» جملة حالية من (هاء) «رآها»، لأن الرؤية بصريَّة، وقوله: «
117
كَأنَّهَا جَانٌّ» : يجوز أن تكون حالاً ثانية، وأن تكون حالاً من ضمير «تَهْتَزُّ»، فيكون حالاً متداخلة، وقوله: «وَلَمْ يُعَقّبْ» يجوز أن يكون عطفاً على «وَلَّى»، وأن يكون حالاً أخرى، والمعنى: ولم يرجع على عقبه، كقوله:
٣٩٣٣ - فَمَا عَقَّبُوا إذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّب وَلاَ نَزلُوا يَومَ الكَرِيهَةِ مَنْزِلا
قوله: ﴿إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه استثناء منقطع، لأنَّ المرسلين معصومون من المعاصي، وهذا هو الظاهر الصحيح، والمعنى: لكن من ظلم من سائر الناس، فإنه يخاف فإنه تاب وبدل حسناً بعد سوء فإنِّي غفورٌ رحيمٌ.
والثاني: أنَّه متصلٌ، وللمفسرين فيه عبارات، قال الحسن: إنَّ موسى ظلم بقتل القبطي، ثم تاب فقال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي﴾ [القصص: ٢٢].
وقال ابن جريح: قال الله لموسى: أخفتك لقتلك النفس، وقال: معنى الآية: لا يخيف الله الأنبياء إلاّ بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يتوب.
وقيل: محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل. وقال بعض النحويين: «إلا» هاهنا بمعنى ولا، يعني: لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون، كقوله تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ﴾ [البقرة: ١٥٠]. يعني ولا الذين ظلموا. وعن الفراء أنه متصل، لكن من جملة محذوفة تقديره: وإنما يخاف غيرهم إلاَّ من ظلم.
118
وردَّه النحاس: بأنه لو جاز هذا لجاز: لا أضربُ القوم إلاَّ زيداً أي: وإنما أضرب غيرهم إلا زيداً، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه.
وقدره الزمخشري ب «لكن»، وهي علامة على أنه منقطع - وذكر كلاماً طويلاً - فعلى الانقطاع يكون منصوباً فقط على لغة الحجاز، وعلى لغة تميم يجوز فيه النصب والرفع على البدل من الفاعل قبله، وأما على الاتصال: فيجوز فيه الوجهان على اللغتين، ويكون الاختيار البدل، لأن الكلام غير موجب.
وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم «أَلاَ» بفتح الهمزة وتخفيف اللام - جعلاها حرف تنبيه - و «مَنْ» شرطية، وجوابها: «فَإِنِّي غَفُورٌ» والعامة على تنوين «حُسْناً»، ومحمد بن عيسى الأصبهاني غير منوّن، جعله فعلى مصدراً كرجعى، فمنعها الصَّرف لألف التأنيث، وابن مقسم بضم الحاء والسين منوناً، ومجاهد وأبو حيوة ورويت عن أبي عمرو بفتحهما، وتقدم تحقيق القراءتين في البقرة.
قوله: «تَخْرُجْ» الظاهر أنه جواب لقوله «أَدْخِلْ» أي: إن أدْخلْتها تَخْرُجُ على هذه الصفة، وقيل: في الكلام حذفٌ تقديره: وادْخِلْ يَدَكَ تَدْخُل، وأخرجها تخرج، فحذف من الثاني ما أثبته في الأول، ومن الأول ما أثبته في الثاني، وهذا تقدير ما لا حاجة إليه.
قوله: «بَيْضَاء» حال من فاعل «تَخْرُجْ»، و «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» يجوز أن يكون حالاً أخرى أو من الضمير في «بَيْضَاءَ»، أو صفة ل «بَيْضَاءَ» والمراد بالجيب: جيب القميص، قال المفسرون كانت عليه مدرعة من صوف لا كم لها ولا إزار، فأدخل يده في جيبه وأخرجها، فإذا هي تبرق مثل البرق. قوله: «في تِسْعِ» فيه أوجه:
أحدها: أنه حال ثالثة، قاله أبو البقاء يني من فاعل «تخرج»، أي آية في تسع آيات، كذا قدره.
119
الثاني: أنه متعلق بمحذوف، أي: اذهب في تسع آياتٍ، وقد تقدم اختيار الزمخشري كذلك عند ذكر البسملة، ونظره بقوله الآخر:
٣٩٣٤ - فَقُلْتُ إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ... وقولهم: بالرَّفاء والبنين وجعل هذا التقدير أقرب وأحسن.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: وألْقِ عَصَاكَ وَأَدْخِلْ يَدَكَ في تِسْع آيَاتٍ، أي: في جملة تسع آياتٍ. ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة منها اثنتان اليد والعصا، والتِّسع الفَلْقُ، والطُّوفان، والجراد، والقُمَّل، والضَّفادع، والدَّم، والطَّمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان من مزارعهم انتهى.
وعلى هذا تكون (في) بمعنى (مَعَ) أي: هذه آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن إلى فرعون وقومه، لأن اليد والعصا حينئذ خارجتان من التسع، وكذا قال ابن عطية، أعني أنه جعل «فِي تِسْعِ» متصلاً ب «أَلْقِ» و «أَدْخِلْ»، إلا أنه جعل اليد والعصا من جملة التسع، وقال: تقديره: تُمَهِّدُ لك ذلك وتيسِّر في تسع، وجعل في الزجاج (في) بمعنى (من)، قال كما تقول: خذ لي من الإبل عشراً فيها فحلان، أي منها فحلان.
قوله: «إلَى فِرْعَونَ» هذا يتعلق بما تعلق به «فِي تِسْع» إذا لم نجعله حالاً، فإن جعلناه حالاً علقناه بمحذوف، فقدّره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون. وفيه نظر، لأنه كونٌ مقيَّدٌ، وسبقه إلى هذا التقدير الزجاج، وكأنهما أرادا تفسير المعنى دون الإعراب.
120
وجوَّز أبو البقاء أيضاً أن تكن صفة ل «آيَاتٍ»، وقدَّره: واصلةً إلى فرعون، وفيه ما تقدم.
قوله: «مُبْصِرَةً» حال، ونسب الإبصار إليها مجازاً، لأن بها يبصر، وقيل: بل هي من أبصر المنقولة بالهمزة من بصر، أي: أنها تبصر غيرها لما فيها من الظهور، ولكنه مجاز آخر غير الأول، وقيل: هو بمعنى مفعول، نحو «مَاءٌ دَافِقٌ» أي: مدفوق.
وقرأ عليّ بن الحسين وقتادة بفتح الميم والصاد، أي: على وزن أرض مسبعةٌ، ذات سباعٍ، ونصبها على الحال أيضاً، وجعلها أبو البقاء في هذه القراءة مفعولاً من أجله، وقد تقدم ذلك. ومعنى «مُبْصِرَةً» : بينة واضحة.
﴿قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ظاهر.
قوله: «وَجَحَدُوا بِهَا» أي: أنكروا الآيات، ولم يقروا أنها من عند الله.
قوله: «وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ» يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل «جَحدُوا»، وهو أبلغ في الذم، واستفعل هنا بمعنى «تَفَعَّلَ»، نحو: استعظم واستكبر، والمعنى: أنهم علموا أنها من عند الله، وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوا بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
قوله: «ظُلْماً وَعُلُواً» يجوز أن يكونا في موضع الحال، أي: ظالمين عالين، وأن يكونا مفعولاً من أجلهما، أي: الحامل على ذلك الظلم والعلو.
وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة: «وَعِليّاً» بكسر العين واللام وقلب الواو
121
ياء، وتقدم تحقيقه في «عِتِيّاً» في مريم، وروي عن الأعمش وابن وثاب ضم العين كما في «عِتيّاً».
وقرىء: «وَغُلُوّاً» بالغين المعجمة، وهو قريب من هذا المعنى، وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً؟
والعلو: الترفع عن الإيمان، والشرك وعدم الإيمان بما جاء به موسى، كقوله: ﴿فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ﴾ [المؤمنون: ٤٦].
﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين﴾. قوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ «كَيْفَ» خر مقدم، و «عَاقِبَةُ» اسمها، والجملة في محل نصب على إسقاط الخافض لأنها معلقة ل «انْظُرْ» بمعنى تَفَكَّرْ.
122
قوله :﴿ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه استثناء منقطع، لأنَّ المرسلين١ معصومون من المعاصي، وهذا هو الظاهر٢ الصحيح، والمعنى : لكن من ظلم من سائر الناس، فإنه يخاف فإنه تاب وبدل حسناً بعد سوء فإنِّي غفورٌ رحيمٌ.
والثاني : أنَّه متصلٌ٣، وللمفسرين فيه عبارات، قال الحسن : إنَّ موسى ظلم بقتل القبطي، ثم تاب فقال :﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي ﴾ [ القصص : ٢٢ ].
وقال ابن جريح : قال الله لموسى٤ : أخفتك لقتلك٥ النفس، وقال : معنى الآية : لا يخيف الله الأنبياء إلاّ بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يتوب٦.
وقيل : محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل٧. وقال بعض النحويين :«إلا » هاهنا بمعنى ولا، يعني : لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون، كقوله تعالى :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ البقرة : ١٥٠ ]. يعني ولا الذين ظلموا٨. وعن الفراء أنه متصل، لكن من جملة محذوفة تقديره : وإنما يخاف غيرهم إلاَّ من ظلم٩.
وردَّه النحاس : بأنه لو جاز هذا لجاز : لا أضربُ القوم إلاَّ زيداً أي : وإنما أضرب غيرهم إلا زيداً، وهذا ضد البيان و١٠ المجيء بما لا يعرف معناه١١.
وقدره الزمخشري ب «لكن »١٢، وهي علامة على أنه منقطع - وذكر كلاماً طويلاً - فعلى الانقطاع يكون منصوباً فقط على لغة الحجاز، وعلى لغة تميم يجوز فيه النصب والرفع على البدل من الفاعل قبله، وأما على الاتصال : فيجوز فيه الوجهان على اللغتين، ويكون الاختيار البدل، لأن الكلام غير موجب.
وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم «أَلاَ » بفتح الهمزة وتخفيف اللام١٣ - جعلاها حرف تنبيه - و «مَنْ » شرطية، وجوابها :«فَإِنِّي غَفُورٌ »١٤ والعامة على تنوين «حُسْناً »، ومحمد بن عيسى الأصبهاني١٥ غير منوّن١٦، جعله فعلى مصدراً كرجعى، فمنعها الصَّرف لألف التأنيث، وابن مقسم بضم الحاء والسين منوناً١٧، ومجاهد وأبو حيوة ورويت عن أبي عمرو بفتحهما١٨، وتقدم تحقيق القراءتين في البقرة١٩.
١ في ب: المرسلون..
٢ انظر إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٠٠، مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٦، البيان ٢/٢١٩، التبيان ٢/١٠٠٥..
٣ انظر تفسير ابن عطية ١/١٧٥، البحر المحيط ٧/٥٧..
٤ لموسى: سقط من ب..
٥ في ب: بقتلك..
٦ انظر البغوي ٦/٢٦٢..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٤..
٨ قال ابن الأنباري: (وذهب الكوفيون إلى أن (إلا) بمعنى الواو، وليس بصحيح لاختلاف المعنى، لأن (إلا) تقتضي إخراج الثاني مما دخل فيه الأول، والواو تقتضي مشاركة الثاني للأول، فلا يقام أحدهما مقام الآخر) البيان ٢/٢١٩، وانظر البحر المحيط ٧/٥٧..
٩ قال الفراء: "والآخر أن تجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة، لأن المعنى: لا يخاف المرسلون إنما الخوف على غيرهم، ثم استثنى فقال: إلا من ظلم فإن هذا لا يخاف يقول: كان مشركاً فتاب وعمل صالحاً فذلك مغفور له ليس بخائف) المعاني ٢/٢٨٧..
١٠ و: سقط من ب..
١١ إعراب القرآن ٣/٢٠٠..
١٢ الكشاف ٣/١٣٤..
١٣ المختصر (١٠٨)، المحتسب ٢/١٣٦، تفسير ابن عطية ١١/١٧٧، البحر المحيط ٧/٥٧..
١٤ في ب: "إني غفور رحيم"..
١٥ تقدم..
١٦ البحر المحيط ٧/٥٧..
١٧ المرجع السابق..
١٨ المختصر (١٠٨)، البحر المحيط ٧/٥٧..
١٩ عند قوله تعالى: ﴿.. وقولوا للناس حسنا﴾[البقرة: ٨٣]..
قوله :«تَخْرُجْ » الظاهر أنه جواب لقوله «أَدْخِلْ » أي : إن أدْخلْتها تَخْرُجُ على هذه الصفة١، وقيل : في الكلام حذفٌ تقديره : وأدْخِلْ يَدَكَ تَدْخُل٢، وأخرجها تخرج، فحذف من الثاني ما أثبته في الأول، ومن الأول ما أثبته في الثاني٣، وهذا تقدير ما لا حاجة إليه.
قوله :«بَيْضَاء » حال من فاعل «تَخْرُجْ »٤، و «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ » يجوز أن يكون حالاً أخرى أو من الضمير في «بَيْضَاءَ »، أو صفة ل «بَيْضَاءَ »٥ والمراد بالجيب : جيب القميص، قال المفسرون كانت عليه مدرعة من صوف لا كم لها ولا إزار، فأدخل يده في جيبه وأخرجها، فإذا هي تبرق مثل البرق٦. قوله :«في تِسْعِ » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال ثالثة، قاله أبو البقاء يعني من فاعل «تخرج »، أي آية في تسع آيات، كذا قدره٧.
الثاني : أنه متعلق بمحذوف، أي : اذهب٨ في تسع آياتٍ٩، وقد تقدم اختيار الزمخشري كذلك عند ذكر البسملة، ونظره بقول الآخر :
٣٩٣٤ - فَقُلْتُ إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ١٠ ***. . .
وقولهم : بالرَّفاء والبنين١١ وجعل هذا التقدير أقرب١٢ وأحسن١٣.
الثالث : أن يتعلق بقوله :" وألق عصاك وأدخل ".
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : وألْقِ عَصَاكَ وَأَدْخِلْ يَدَكَ في تِسْع آيَاتٍ، أي : في جملة تسع آياتٍ. ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى عشرة منها اثنتان اليد والعصا، والتِّسع الفَلْقُ، والطُّوفان، والجراد، والقُمَّل، والضَّفادع، والدَّم، والطَّمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان من مزارعهم١٤ انتهى.
وعلى هذا تكون ( في ) بمعنى ( مَعَ ) أي : هذه آية مع تسع آيات١٥ أنت مرسل بهن إلى فرعون وقومه، لأن اليد والعصا حينئذ خارجتان من التسع، وكذا قال ابن عطية، أعني أنه جعل «فِي تِسْعِ » متصلاً ب «أَلْقِ » و «أَدْخِلْ »، إلا أنه جعل اليد والعصا من جملة التسع، وقال : تقديره : تُمَهِّدُ لك ذلك وتيسِّر في تسع١٦، وجعل الزجاج ( في ) بمعنى ( من )١٧، قال كما تقول : خذ لي من الإبل عشراً فيها فحلان، أي منها فحلان١٨.
قوله :«إلَى فِرْعَونَ » هذا يتعلق بما تعلق به «فِي تِسْع » إذا لم نجعله حالاً، فإن جعلناه حالاً علقناه بمحذوف، فقدّره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون١٩. وفيه نظر، لأنه كونٌ مقيَّدٌ، وسبقه إلى هذا التقدير الزجاج٢٠، وكأنهما أرادا٢١ تفسير المعنى دون الإعراب.
وجوَّز أبو البقاء أيضاً أن تكون صفة ل «آيَاتٍ »، وقدَّره : واصلةً إلى فرعون٢٢، وفيه ما تقدم.
١ انظر البحر المحيط ٧/٥٨..
٢ تدخل: سقط من ب..
٣ حكاه أبو حيان. البحر المحيط ٧/٥٨..
٤ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٦، البيان ٢/٢٩٩..
٥ انظر التبيان ٢/١٠٠٥..
٦ انظر البغوي ٦/٢٦٢-٢٦٣..
٧ التبيان ٢/١٠٠٥..
٨ قال الزمخشري: (و "في تسع آيات" كلام مستأنف وحرف الجرّ فيه يتعلق بمحذوف، والمعنى: اذهب في تسع آيات "إلى فرعون") الكشاف ٣/١٣٥..
٩ آيات: سقط من ب..
١٠ صدر بيت من بحر الوافر، قاله سمير بن الحارث الضبي، أو تأبط شراً، وعجزه:
فريق تحسد الأنس الطعاما
وهو في الكشاف ١/٥، ٣/١٣٥، السبع الطوال ٢٩٦، الحر المحيط ٧/٥٨، شرح شواهد الكشاف (١٠٧). والشاهد فيه قوله: (إلى الطعام) فإنه متعلق بفعل محذوف تقديره: أدعوكم..

١١ أي: أعرست بالرفاء والبنين. انظر مجمع الأمثال للميداني ١/١٧٥-١٧٦..
١٢ في النسختين: أعرب..
١٣ انظر الكشاف ١/٤-٥..
١٤ الكشاف ٣/١٣٥..
١٥ هذا تعقيب أبي حيان. البحر المحيط ٧/٥٨..
١٦ انظر تفسر ابن عطية ١١/١٧٨..
١٧ في النسختين: مع من. والصواب ما أثبته..
١٨ قال الزجاج: ( ومثل قوله: "في تسع آيات" ومعناه من تسع قولهم: خذ لي عشراً من الإبل فيها فحلان، المعنى: منها فحلان) معاني القرآن وإعرابه ٤/١١٠..
١٩ قال أبو البقاء: (و"إلى" متعلقة بمحذوف، تقديره: مرسلاً إلى فرعون) التبيان ٢/١٠٠٥..
٢٠ لم أجده في معاني القرآن وإعرابه للزجاج، وهو في البحر المحيط ٧/٥٨..
٢١ في ب: أراد..
٢٢ قال أبو البقاء: (ويجوز أن يكون صفة لـ "تسع" أو لـ "آيات"، أي: واصلة إلى فرعون) التبيان ٢/١٠٠٥..
قوله :«مُبْصِرَةً » حال، ونسب الإبصار إليها مجازاً، لأن بها يبصر١، وقيل : بل هي من أبصر المنقولة بالهمزة من بصر، أي : أنها٢ تبصر غيرها لما فيها من الظهور، ولكنه مجاز آخر غير الأول، وقيل : هو٣ بمعنى مفعول، نحو «مَاءٌ دَافِقٌ » أي : مدفوق٤.
وقرأ عليّ بن الحسين وقتادة بفتح الميم والصاد٥، أي : على وزن أرض مسبعةٌ، ذات سباعٍ٦، ونصبها على الحال٧ أيضاً، وجعلها أبو البقاء في هذه القراءة مفعولاً من أجله٨، وقد تقدم ذلك. ومعنى «مُبْصِرَةً » : بينة واضحة.
﴿ قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ ظاهر.
١ وهذا مجاز عقلي لأنه من إسناد الفعل لغير ما هو له..
٢ في ب: بأنها..
٣ هو: سقط من ب..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٥٨..
٥ المحتسب ٢/١٣٦، الكشاف ٣/١٣٥، البحر المحيط ٧/٥٨..
٦ وجعلها الزمخشري مكاناً تكثر فيها التبصرة. الكشاف ٣/١٣٥..
٧ انظر البحر المحيط ٧/٥٨..
٨ قال أبو البقاء: ( ويقرأ بفتح الميم والصاد، وهو مصدر مفعول له، أي: تبصرة) التبيان ٢/١٠٠٦..
قوله١ :«وَجَحَدُوا بِهَا » أي : أنكروا الآيات، ولم يقروا أنها من عند الله٢.
قوله :«وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ » يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل «جَحدُوا »٣، وهو أبلغ في الذم، واستفعل هنا بمعنى «تَفَعَّلَ »، نحو : استعظم واستكبر، والمعنى : أنهم علموا أنها من عند الله، وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوا بألسنتهم٤ واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان٥.
قوله :«ظُلْماً وَعُلُواً » يجوز أن يكونا في موضع الحال، أي : ظالمين عالين، وأن يكونا مفعولاً من أجلهما٦، أي : الحامل على ذلك الظلم والعلو.
وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة :«وَعِليّاً » بكسر العين واللام وقلب الواو ياء٧، وتقدم تحقيقه في «عِتِيّاً » في مريم٨، وروي عن الأعمش وابن وثاب ضم العين كما في «عِتيّاً »٩.
وقرئ :«وَغُلُوّاً » بالغين المعجمة١٠، وهو قريب من هذا المعنى، وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً١١ ؟.
والعلو : الترفع عن١٢ الإيمان، والشرك وعدم الإيمان بما جاء به موسى١٣، كقوله :﴿ فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٤٦ ].
﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين ﴾. قوله :﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ﴾ «كَيْفَ » خبر مقدم، و «عَاقِبَةُ » اسمها١٤، والجملة في محل نصب على إسقاط الخافض لأنها معلقة ل «انْظُرْ » بمعنى تَفَكَّرْ.
١ قوله: سقط من ب..
٢ انظر البغوي ٦/٢٦٣..
٣ قال الزمخشري: (الواو في "واستيقنتها" واو الحال وقد بعدها مضمرة) الكشاف ٣/١٣٥..
٤ في ب: بأنفسهم..
٥ انظر الكشاف ٣/١٣٥، الفخر الرازي ٢٤/١٨٤..
٦ انظر التبيان ٢/١٠٠٦..
٧ المختصر (١٠٨)، البحر المحيط ٧/٥٨..
٨ من الآية (٨) ومن الآية (٦٩)..
٩ المختصر (١٠٨)، البحر المحيط ٧/٥٨..
١٠ انظر التبيان ٢/١٠٠٦..
١١ انظر الكشاف ٣/١٣٥، الفخر الرازي ٢٤/١٨٤..
١٢ في ب: على..
١٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٤..
١٤ انظر التبيان ٢/١٠٠٦..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً﴾ الآية.. والمراد بالعلم أي: علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال، والمعنى: طائفة من العلم، او علماً سنياً عزيزاً.
قوله: «وَقَالاَ»، قال الزمخشري: فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأنَّ ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيءٌ من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، قال: ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفاه حقَّ معرفته، وقالا الحمد لله، انتهى.
122
وإنَّما نكر «عِلْما» تعظيماً له، أي علماً سنياً، أو دلالة على التبعيض، لأنه قليل جداً بالنسبة إلى علمه تعالى.

فصل


المعنى: ﴿وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا﴾ بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين، والجن والإنس ﴿على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين﴾، ولم يفضلوا أنفسهم على الكل، وذلك يدل على حسن التواضع. قوله: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾، قال الحسن: المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث، وقال غيره: بل النبوة والعلم والملك دون سائر أولاده، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال لا يورث من الأنبياء، لقوله عليه السلام: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ صدقة»، وأيضاً فإن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى، ولذلك يرثه الولد إذا كان مؤمناً، ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً، ولا كذلك النبوة، لأن الموتا لا يكون سبباً لنبوة الولد، وكان لداود تسعة عشر ابناً، واعطي سليمان ما أعطي داود من الملك، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين، قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليطان، وكان سليمان شاكراً لنعم الله.
﴿وَقَالَ يا أيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير﴾، يعني صوته، سمي صوت الطير منطقاً، لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس، روي عن كعب قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: إنه يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب، وصاحت فاختة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا لا، قال
123
فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح الطاووس فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: كما تدين تدان، قال: وصاح هدهد، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاحت طيطوى، فقال أتدرون ما تقول؟ قالوا لا، قال فإنه يقول: كل حي ميت، وكل جديد بال وصاح خطاف، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى (ملء سمائة وأ ﴿ضه، وصاح قمري، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: سبحان ربي الأعلى)، قال: والغراب يدعو على العشَّار، والحدأة تقول:
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾
[القصص: ٨٨]، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببعاء: ويلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ، والضفدع يقول: سبحان ربِّي القدُّوس، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده. وعن مكحول قال: صاح دُرَّاج عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥].
قوله: ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ تؤتى الأنبياء والملوك، قال ابن عباس: من أمر الدنيا والآخرة. وقال مقاتل: يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين
124
والريح ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين﴾، والمراد بقوله: ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ كثرة ما أوتي، لأن كثرة المشاركة سبب لجواز الاستعارة، فلا جرم يطلق لفظ الكلم على الكثرة، كقوله ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣] وقوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين﴾، أي: الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا، روي أن سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة (سنة) وستة أشهر، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع، وأعطي على ذلك منطق كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة.
فقوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين﴾ تقرير لقوله: ﴿الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا﴾ والمقصود منه: الشكر والمحمدة، كما قال عليه السلام: «أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ»
فإن قيل: كيف قال «عُلِّمنا» و «أُوتِينَا»، وهو كلام المتكبر؟ فالجواب من وجهين، الأول: أن يريد نفسه وأباه.
والثاني: أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع، وكان ملكاً مطاعاً.
قوله: «وَحُشرَ لسُلَيْمَانَ» : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له، فقوله: «مِن الجَنّ» وما بعده بيان ل «جنوده» فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون هذا الجار حالاً، فيتعلق بمحذوف أيضاً.
قوله: «فهم يُوزَعُون» أي: يمنعنون ويكفُّون، والوزع: الكف والحبس، يقال: وزعه يزعه فهو وازع وموزوع، وقال عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ القُرْآنُ»، وعنه: «لاَ بُدَّ لِلقَاضِي مِنْ وَزَعَةٍ» وقال الشاعر:
125
وقوله: ﴿أوزعني أَنْ أَشْكُرَ﴾ بمعنى ألهمني من هذا، لأنَّ تحقيقه: اجعلني من حيث أزع نفسي عن الكفر فقوله: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» معناه: يحبسون، وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع متسلط على من يرده ويكفيه. وقال قتادة: كان كل صنف من جنوده وزعة ترد أولها على آخرها لئلا يتقدمون في المسير، والوازع: الحابس والنقيب، وقال، وقال مقاتل يوزعون يساقون، وقال السدي: يوقفون، وقيل يجمعون.
قوله: «حَتَّى إذَا» في المُغَيَّا ب «حتى» وجهان:
أحدهما: هو «يُوزَعُونَ»، لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا.
والثاني: أنه محذوف، أي فساروا حتى وتقدم الكلام في حتى الداخلة على إذا، هل هي حرف ابتداء أو حرف جر.
قوله: «عَلَى وَادِي» متعلق ب «أَتَوا»، وإنما عدِّي ب «عَلَى»، لأنَّ الواقع كذا، لأنهم كانوا محمولين على الريح، فهم مستعلون. وقي: هو من قولهم: أتيت عليه، أي استقصيته إلى آخره، والمعنى أنهم قطعوا الوادي كله وبلغوا آخره.
ووقف القراء كلهم على «وَادِ» دون ياء اتباعاً للرسم، ولأنها محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين في الوصل، ولأنها قد حذفت حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين (نحو ﴿جَابُواْ الصخر بالواد﴾ [الفجر: ٩] فحذفها وقفاً، وقد عهد حذفها دون التقاء الساكنين)، فحذفها عند التقاء الساكنين أولى، إلا الكسائي، فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل، وقد زال، فعادت اللام، واعتذر عن مخالفة الرسم بقوة الأصل.
والنَّملُ: اسم جنس معروف واحده نملةٌ، ويقال: نُمْلَةٌ ونُمْلٌ بضم النون وسكون الميم، ونُمُلَة ونُمُل بضمّهما، ونَمْلَة بالفتح، والضم بوزن سمرة، ونَمُل بوزن رجل، واشتقاقه من: التَّنمُّل، لكثرة حركته، ومنه قيل للواشي: المُنَمِّل، يقال: أنْمَلَ بين القوم مُنْمِل، أي: وشَى وَنَمَّ، لكثرة تردده، وحركته في ذلك، قال:
126
٣٩٣٥ - وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وحَيَاؤُهُ فَلَيْسَ لَهْ مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازعُ
٣٩٣٦ - وَلَسْتُ بِذِي فِيهِمُ وَلاَ مُنْمِشٍ منهم مُنْمِلِ
ويقال أيضاً: نَمِل يَنْمِلُ، فهو نَمِلٌ ونَمَّالٌ، وتَنَمَّلَ القومُ: تفرقوا للجميع تفرُّق النمل، وفي المثل: «أجْمَعُ مِنْ نَمْلَةٍ» والنَّمْلةُ أيضاً: قرحةٌ تخرج في الجنب، تشبيهاً بها في الهيئة، والنملة أيضاً شقٌّ في الحافر، ومنه: فرسٌ منمول القوائم، والأنْمُلة: طرف الإصبع من ذلك؛ لدقتها وسرعة حركتها، والجمع: أنامل.

فصل


قال كعب: كان سليمان إذا سار بعسكره حملته الريح تهوي بهم فسار من اصطخر إلى اليمن، فمرّ على مدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقال سليمان: هذه دار هجرة نبي الله في آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، ورأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله، فلما جاوز سليمان البيت بكى فأوحى الله إلى البيت: ما يبكيك؟ قال: يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا عليّ فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله إليه، لا تبك، فإني سوف أملأك وجوهاً سجداً، وأنزل فيك قرآناً جديداً، وأبعث منك في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني، وأفرض على عبادي فريضة يزفون إيلك زفيف النسور إلى أوكارها، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان، ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف، فأتى على وادي النمل، هكذا قال كعب إنه واد بالطائف، وقال مقاتل: إنه وادٍ بالشام كثير النمل، وقيل وادٍ كان يسكنه الجن، وأولئك النمل مراكبهم.
قوله: «قَالَتْ نَمْلَةٌ» هذه النملة هنا مؤنثة حقيقة، بدليل لحاق علامة التأنيث فعلها، لأن نملة تطلق على الذكر وعلى الأنثى، فإذا أريد تمييز ذلك قيل: نملة ذكر، ونملة أنثى، نحو: حَمامَة ويَمَامة. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه وقف على قتادة وهو يقول: سلوني، فأمر من سأله عن نملة سليمان: هل كانت ذكراً أو
127
أنثى، فلم يجب، فقيل لأبي حنيفة في ذلك، فقال: كانت أنثى، واستدل بلحق العلامة.
قال الزمخشري: وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على المذكر والمؤنث، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وهو وهي، انتهى.
وقد ردَّ هذا أبو حيان، فقال: ولحاق التاء في «قالت» لا يدلّ على أن الملة مؤنثة، بل يصح أن يقال في المذكر: قالت نملة؛ لأن نملة وإن كانت بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث، وما كان كذلك كاليمامة والقملة ممابينه في الجمع وبين واحدة تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، (ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث) على أنه ذكر أو أنثى، لأن التاء دخلت فيه للفرق لا للدلالة على التأنيث الحقيقي، بل دالة على اواحد من هذا الجنس، قال: وكان قتادة بصيراً بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذ علم أن النملة يخبر عناه إخبار المؤنث وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله، قال: وإنما استنباط تأنيثه من كتاب الله ب «قالت»، ولو كان ذكراً لقيل: «قال» فكلام النحاة على خلافه، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبارا المؤنث، سواء كان ذكراً أم أنثى.
قال: وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة، فبينهما قدر مشترك يتميز فيهما المذكر من المؤنث فيمكن أن تقول: حمامة ذكر، وحمامة أنثى فتميزه بالصفة، وأما تميزه ب «هو» و «هي» فإنه لا يجوز، لا تقول هو الحمامة، ولا هو الشاة، وأما النملة والقملة فلا يتميز فيه المذكر من المؤنث، ولا يجوز فيه في الإخبار إلا التأنيث وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان نحو: المرأة، أو غير العاقل كالدابة، إلا إن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك، فيجوز أن تلحق العلامة وأن لا تلحقها، على ما تقرر في علم العربية. انتهى.
128
قال شهاب الدين: اما ما ذكره ففيه نظر، من حيث إن التأنيث إما لفظي أو معنوي، واللفظي لا يتبر (في لحاق العلامة) البتة، بدليل أنه لا يجوز (قامت رَبْعَةٌ وأنت تعني رجلاً، وكذلك) لا يجوز: قامت طلحة، ولا حمزة - على مذكر - فتعين أن يكون اللحاق إنما هو للتأنيث المعنوي، وإنما يعتبر لفظ التأنيث والتذكير في بابا العدد على معنى خاص أيضً، وهو أنا ننظر إلى ما عاملت العرب ذلك اللفظ به من تذكير أو تأنيث من غير نظر إلى مدلوله، فهناك له هذا الاعتبار، وتحقيقه هنا يخرجنا عن المقصود وإنما نبهتك على القدر المحتاج إليه.
وأما قوله: وأما النملة والقملة فلا يتميَّز، يعني لا يتوصَّلُ لمعرفة الذكر منهما ولا الأنثى بخلاف الحمامة والشاة، فإن الاطلاع على ذلك ممكن، فهو أيضاً ممنوع إذ قد يمكن الاطلاع على (ذلك، وأن الاطلاع على ذكورية الحمامة والشاة أسهل من الاطلاع على) ذكورية النملة والقملة، ومنعه أيضاً أن يقال هو الشاة وهو الحمامة ممنوع.
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان: «النّمُلُ» و «نَمُلَة» بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة، وسليمان التيمي بضمتين فيهما، وتقدم ان ذلك لغات في الواحد والجمع. قوله «لاَ يَحْطِمَنَّكُم»، فيه وجهان:
أحدهما: أنه نهي.
والثاني: أنه جواب للأمر.
وإذا كان نهياً ففيه وجهان:
أحدهما: أنه نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله من حيث الإعراب، وإنما هو نهي للجنود في اللفظ، وفي المعنى للنمل، أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم، كقولهم: لا أَرَينَّك ههُنَا.
129
والثاني: أنه بدل من جملة الأمر قبله، وهو «ادْخُلُوا»، وقد تعرض الزمخشري لذلك، فقال: فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر، والذي جوَّز أن يكون بدلاً منه أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، على طريقة: لاَ أَرَيَنَّكَ ههُنَا، أرادت: لا يحطمنكم جنود شسليمان، فجاءت بما هو أبلغ، ونحوه:
٣٩٣٧ - عَجِبْتُ مِن نَفْسِي وَمِنْ إشْفَاقِهَا... قال أبو حيان: اما تخريجه على أنه جواب الأمر، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش، فإنه مجزوم مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نهي يعني أن الأعمش قرأ: «لاَ يَحْطَمْكُمْ» بجزم الميم دون نون توكيد، قال: وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا إن كان في شعر، وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر فأحرى أن لا جوز في جواب الأمر إلا في الشعر، وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في علم النحو. ومثال مجيء النون في جواب الشرط قوله الشاعر:
٣٩٣٨ - نَبَتُّمْ نَبَاتَ الخَيْزُرَانَةِ في الثَّرَى حَدِيثاً مَتَى مَا يَأْتِكَ الخَيْرُ يَنْفَعَا
وقول الآخر:
130
قال سيبويه: وهو قليل في الشعر شبهوهُ بالنهي حيث كان مجزوماً غير واجب، قال: وأما تخريجه على البدل فلا يجوز، لأن مدلول «لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ» مخالف لمدلول «ادخُلُوا»، وأما قوله: لأنه بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، فتفسير معنى لا إعراب، والبدل من صفة الألفاظ، نعم لو كان اللفظ القرآني: لا تكونوا بحيث لا يحطمنكم، لتُخُيِّل فيه البدل، لأن الأمر بدخول المساكين نهي عن كونهم بظاهر الأرض.
وأما قوله: إنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخره، فيسوغ زيادة الأسماء، وهو لا يجوز، بل الظاهر إسناد الحطم إلى جنوده، وهو على حذف مضاف، أي: خيل سليمان وجنوده، إو نحو ذلك مما يصح تقديره، انتهى.
أما منعه كونه جواب الأمر من أجل النون، فقد سبقه إليه أبو البقاء، فقال: وهو ضعيف، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار. وأما منعه البدل بما ذكر فلا نسلم تغاير المدلول بالنسبة لما يؤول إليه المعنى. وأما قوله: فيسوغ زيادة الأسماء فهو لم يسوغ ذلك، وإنما فسر المعنى - وعلى تقدير ذلك - فقد قيل به شائعاً. وجاء الخطاب في قولها «ادخلوا» كخطاب العقلاء لما عوملوا معاملتهم. وقرأ أُبَيّ: ﴿ادْخُلْنَ مَساكِنَكُنَّ لاَ يَحْطمنَّكُن﴾ - بالنون الخفيفة - جاء به على الأصل. وقرأ شهر به حوشب: «مَسْكَنَكم» بالإفراد وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء والنون مضارع حطمه بالتشديد. وقرأ الحسن أيضاً قراءتان: فتح الياء وتشديد الطاء مع سكون الحاء وكسرها والأصل: يَحطمَنَّكُمْ، فأدغم وإسكان الحاء مشكل تقدم نظيره في «لا يَهديِّي» ونحوه، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد. والحطم: الكسرُ،
131
يقال منه: حطمتهُ، ثم استعمل لكل كسر معناه، والحطام: ما تكسر يبساً وغلب على الأشياء التافهة، والحُطَم: السائق السريع، كأنه يحطم الإبل، قال:
٣٩٣٩ - فَمَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تُعْطِكُمْ ومَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تَمْنَعَا
٣٩٤٠ - قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بسواقٍ حَطَمْ لَيْسَ برَاعِي إبِلٍ وَلاَ غَنَمْ
ولا بِجَزَّارٍ ظَهْرٍ وَضَمْ
والحُطَمَة: من دركات النار، ورجل حُطَمَةٌ للأكول، تشبيهاً لبطنه بالنار، كقوله:
٣٩٤١ - كَأَنَّمَا فَي جَوْفِهِ تَنُّورُ... وقوله: «وهُمْ لا يشعُرُونَ» جملة حالية.

فصل


قال الشعبي: كانت تلك النملة ذات جناحين، فنادت ﴿يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾، ولم تقل: ادخلن، لأنها لما جعلت لهم قولاً كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين، «لاَ يَحْطِمَنَّكُنمْ» لا يكسرنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فسمع سليمان قولها، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان. فإن قيل: كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده، وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض؟ قيل: كانت جنوده ركباناً وفيهم مشاة على الأرض تطوى بهم، وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان.
وقال المفسرون: علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية ولا ظلم، ومعنى الآية: أنكم لو لم تدخلوا
132
مساكنكم وطئوكم ولم يشعروا بكم، وروي أن سليمان لما دخل وادي النمل حبس جنده، حتى دخل النمل بيوتهم. قال أهل المعاني: في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة: نادت، ونبّهت، وسمت، وأمرت، ونصت، وحذرت، وخصت، وعمت، وأشارت، وأعذرت، ووجهه: نادت: «يا» نبهت: «ها» سمت: «النمل»، أمرت «ادخلوا»، نصت: «مساكنكم»، حذرت: «لا يحطمنكم»، خصت: «سليمان»، عمت و «جنوده»، أشارت: «وَهُمْ»، أعذرت: «لا يشعرون».
قوله: «ضاحكاً» قيل: هي حال مؤكدة لأنها مفهومة من (تبسم)، وقيل: بل هي حال مقدرة، فإن التبسم ابتداء الضحك، وقيل: لما كان التبسم قد يكون للغضب، ومنه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الغضبان، أي تضاحكاً مسبباً له، قال عنترة:
٣٩٤٢ - لَمَّا رَآنِي قَدْ قَصَدْتُ أُرِيدُهُ أَبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ
وتبسَّم: تَفَعَّلَ بمعنى بَسَمَ المجرّد، قال:
٣٩٤٣ - وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّراً تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِي
وقال بعض المولدين:
٣٩٤٤ - كَأَنَّمَا تَبْسِمُ عَنْ لُؤْلُؤٍ مُنَضَّدٍ أَوْ بَرَدِ أَوْ أَقَاح
وقرأ ابن السميفع: «ضحكاً» مقصوراً، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مصدر مؤكد معنى تبسم، لأنه بمعناه.
133
والثاني: أنه في موضع الحال، فهو في المعنى كالذي قبله.
الثالث: أنه اسم فاعل كفرح، وذلك لأن فعله على فَعِل بكسر العين، وهو لازم، فهو كفرح وبطِر. قوله: «أن أشكر» مفعول ثان ل «أوزعني»، لأن معناه: ألهمني، وقيل معناه: اجعلني أزع شكر نعمتك، أي: أكفه وأمنعه حتى لا ينفلت مني، فلا أزال شاكراً، وتفسير الزجاج له بامنعني أن أكفر نعمتك من باب تفسير المعنى باللازم.

فصل


قال الزجاج أكثر ضحك الأنبياء التبسم، وقوله: «ضاحكاً» أي: مبتسماً، وقيل: كان أوله التبسم وآخره الضحك، قال مقاتل: كان ضحك سليمان من قول النملة تعجباً، لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك، وإنما ضحك لأمرين:
أحدهما: إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وعلى شهرة حاله وحالهم في التقوى، وهو قولها: «وهم لا يشعرون».
والثاني: سروره بما آتاه الله ما له يؤت أحداً، من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه. ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه، فقال: ﴿رَبِّ أوزعني﴾ ألهمني. ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين﴾
وهذا يدل على أن دخول الجنة ببرحمته وفضله، لا باستحقاق العبد، والمعنى: أدخلني في جملتهم، وأثبت امسي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين. فإن قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الأولياء والصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين، فقال يوسف: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ [يوسف: ١٠١]، وقال سليمان: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين﴾ ؟.
فالجواب: الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية، وهذه درجة عالية.
134
قوله :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ﴾، قال الحسن : المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث١، وقال غيره : بل النبوة والعلم والملك دون سائر أولاده٢، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال لا يورث من الأنبياء، لقوله عليه السلام٣ :«نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ صدقة »٤، وأيضاً فإن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى، ولذلك يرثه الولد إذا كان مؤمناً، ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً، ولا كذلك٥ النبوة، لأن الموت٦ لا يكون سبباً لنبوة الولد٧، وكان لداود تسعة عشر ابناً، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين، قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليمان، وكان سليمان شاكراً لنعم الله٨.
﴿ وَقَالَ يا أيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير ﴾، يعني صوته، سمي صوت الطير منطقاً، لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس، روي عن كعب قال : صاح ورشان٩ عند سليمان عليه السلام١٠، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا، قال : إنه يقول : لدوا للموت، وابنوا١١ للخراب، وصاحت فاختة١٢، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا لا، قال فإنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح١٣ الطاووس١٤ فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا، قال : فإنه يقول : كما تدين تدان، قال : وصاح هدهد، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا، قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين، وصاحت طيطوى١٥، فقال أتدرون ما تقول ؟ قالوا لا، قال فإنه يقول : كل حي ميت، وكل جديد بال وصاح خطاف١٦، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا، قال : فإنه يقول : قدّموا خيرًا تجدوه، وهدرت حمامة فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا، قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ( ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري١٧، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا، قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى )١٨، قال : والغراب يدعو١٩ على العشَّار، والحدأة تقول :
﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]، والقطاة٢٠ تقول : من سكت سلم، والببغاء٢١ : ويلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ، والضفدع يقول : سبحان ربِّي القدُّوس، والبازي٢٢ يقول : سبحان ربي وبحمده٢٣. وعن مكحول٢٤ قال : صاح دُرَّاج٢٥ عند سليمان، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا، قال : فإنه يقول :﴿ الرحمن عَلَى العرش استوى ﴾٢٦ [ طه : ٥ ].
قوله :﴿ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ تؤتى الأنبياء٢٧ والملوك، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة٢٨. وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والريح٢٩ ﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين ﴾، والمراد بقوله :﴿ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ كثرة ما أوتي، لأن كثرة المشاركة سبب لجواز الاستعارة، فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثرة، كقوله ﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾٣٠ [ النمل : ٢٣ ] وقوله :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين ﴾، أي : الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا، روي أن سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة ( سنة )٣١ وستة أشهر، ملك جميع أهل٣٢ الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع، وأعطي على ذلك منطق كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة٣٣.
فقوله :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين ﴾ تقرير لقوله :﴿ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا ﴾ والمقصود منه : الشكر والمحمدة، كما قال عليه السلام٣٤ :«أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ »٣٥.
فإن قيل : كيف قال٣٦ «عُلِّمنا » و «أُوتِينَا »، وهو كلام المتكبر ؟ فالجواب من وجهين،
الأول : أن يريد نفسه وأباه.
والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع، وكان ملكاً مطاعاً٣٧.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٦..
٢ المرجع السابق..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤ أخرجه البخاري (فرض الخمس) ٢/١٨٦، (فضائل أصحاب النبي) ٢/٣٠١، (مغازي) ٣/١٦، (نفقات) ٣/١٨٧، (فرائض) ٤/٢١٤، مسلم (جهاد) ٣/١٣٧٧، ١٣٨٢، ١٣٨٣ أبو داود (إمارة) ٣/٣٦٥-٣٧١، الترمذي (سير) ٣/٨٢، ومالك (كلام) ٢/٩٩٣، أحمد ١/٤، ٦، ٩، ١٠، ٢٥، ٤٧، ٤٨، ٢/٤٦٣، ٦/١٤٥، ٧٦٢..
٥ في ب: وكذلك وهو تحريف..
٦ في النسختين: النبوة. والتصويب من الفخر الرازي..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٦..
٨ انظر البغوي ٦/٢٦٤..
٩ الورشان: طائر من الفصيلة الحمامية، أكبر قليلا من الحمامة المعروفة، يستوطن أوربة، ويهاجر في جماعات إلى العراق والشام، ولكنها لا تمر بمصر، والجمع ورشان ووراشين. المعجم الوسيط (ورش)..
١٠ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١١ في ب: وانموا..
١٢ الفاختة: ضرب من الحمام المطوق إذا مشى توسع في مشيه وباعد بين جناحيه وإبطيه وتمايل، والجمع: فواخت. المعجم الوسيط (فخت)..
١٣ في ب: وصاحت..
١٤ الطاووس: طائر حسن الشكل كثير الألوان، يبدو كأنه يعجب بنفسه وبريشه ينشر ذنبه كالطاق، يذكر ويؤنث، والجمع طواويس وأطواس. المعجم الوسيط (طوس)..
١٥ الطيطوى: ضرب من القطا طوال الأرجل. اللسان (طيط)..
١٦ الخطاف: هو ضرب من الطيور القواطع، عريض المنقار دقيق الجناح طويله، منتفش الذيل والجمع: خطاطيف. المعجم الوسيط (خطف)..
١٧ القمري: ضرب من الحمام مطوق حسن الصوت، والجمع: قمر. والأنثى قمرية، والجمع: قماري المعجم الوسيط (قمر)..
١٨ ما بين القوسين سقط من ب..
١٩ في ب: يدعوا..
٢٠ القطاة: واحدة القطا، وهو نوع من اليمام، يؤثر الحياة في الصحراء ويتخذ أفحوصه في الأرض، ويطير جماعات، ويقطع مسافات شاسعة، وبيضه مرقط، والجمع: قطا، وقطوات، وقطيات. المعجم الوسيط (قطو)..
٢١ الببغاء: طائر من الفصيلة الببغاوية يطلق على الذكر والأنثى، يتميز بمنقار معقوف، وأربع أصابع في كل رجل، وله لسان لحمي غليظ، ومن أشهر أوصافه أنه يحاكي كلام الناس. المعجم الوسيط (ببغ)..
٢٢ البازي: جنس من الصقور الصغيرة أو المتوسطة الحجم، من فصيلة العقاب النسرية، تميل أجنحتها على القصر، وتميل أرجلها وأذنابها إلى الطول، ومن أنواعه الباشق والبيدق، والجمع: بواز، وبزاة. المعجم الوسيط (بزا)..
٢٣ انظر البغوي ٦/٢٦٤-٢٦٥..
٢٤ تقدم..
٢٥ الدراج: نوع من الطيور يدرج في مشيه. المعجم الوسيط (درج)..
٢٦ انظر البغوي ٦/٢٦٥..
٢٧ الأنبياء: سقط من ب..
٢٨ انظر البغوي ٦/٢٦٥..
٢٩ المرجع السابق..
٣٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٦..
٣١ سنة: تكملة من البغوي..
٣٢ أهل: سقط من ب..
٣٣ انظر البغوي ٦/٢٦٥-٢٦٦..
٣٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣٥ أخرجه الترمذي (تفسير) ٤/٣٧٠، أبو داود (سنة) ٥/٥٤، أحمد ١/٢٨١، ١٩٥، ٢٨٣، ١٤٤..
٣٦ في ب: قد. وهو تحريف..
٣٧ انظر الكشاف ٣/١٣٦، الفخر الرازي ٢٤/١٨٦..
قوله :«وَحُشرَ لسُلَيْمَانَ » : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له، فقوله :«مِن الجَنّ » وما بعده بيان ل «جنوده » فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون هذا الجار حالاً١، فيتعلق بمحذوف أيضاً.
قوله :«فهم يُوزَعُون » أي : يمنعون ويكفُّون، والوزع : الكف والحبس، يقال : وزعه يزعه فهو وازع وموزوع٢، وقال عثمان - رضي الله عنه - :«مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ٣ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ القُرْآنُ »٤، وعنه :«لاَ بُدَّ لِلقَاضِي مِنْ وَزَعَةٍ »٥ وقال الشاعر :
٣٩٣٥ - وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وحَيَاؤُهُ فَلَيْسَ لَهْ مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازعُ٦
وقوله :﴿ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ ﴾ بمعنى ألهمني٧ من هذا، لأنَّ تحقيقه : اجعلني من حيث أزع نفسي عن الكفر فقوله :«فَهُمْ يُوزَعُونَ » معناه : يحبسون، وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع متسلط على من يرده ويكفه٨. وقال قتادة : كان كل صنف من جنوده وزعة ترد أولها على آخرها لئلا يتقدمون في المسير٩، والوازع : الحابس والنقيب١٠، وقال مقاتل يوزعون يساقون١١، وقال السدي : يوقفون١٢، وقيل يجمعون١٣.
١ انظر التبيان ٢/١٠٠٦..
٢ انظر اللسان (وزع)..
٣ في النسختين: الشيطان. والصواب ما أثبته..
٤ انظر القرطبي ١٣/١٦٨، البحر المحيط ٦/٥١، وانظر مجمع الأمثال للميداني ٤/٥٢..
٥ أي: أعوان يكفونه عن التعدي والشر والفساد. وهذا القول ليس من كلام أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وإنما هو من كلام الحسن البصري- رضي الله عنه- لما ولي القضاء.
انظر غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام ٣/٢٢٨، وتفسير ابن عطية ١١/١٨٣، القرطبي ١٣/١٦٨، اللسان (وزع) البحر المحيط ٧/٥١..

٦ البيت من بحر الطويل، ولم أهتد إلى قائله، وهو في البحر المحيط ٧/٥١، والشاهد فيه قوله: (وازع) فإنه بمعنى الحابس والمانع..
٧ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٨٩..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٧..
٩ انظر البغوي ٦/٢٦٦..
١٠ انظر اللسان (وزع)..
١١ انظر البغوي ٦/٢٦٦..
١٢ المرجع السابق..
١٣ المرجع السابق..
قوله :«حَتَّى إذَا » في المُغَيَّا١ ب «حتى » وجهان :
أحدهما : هو «يُوزَعُونَ »، لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا.
والثاني : أنه محذوف، أي فساروا حتى٢ وتقدم الكلام في حتى الداخلة على إذا، هل هي حرف ابتداء أو حرف جر٣.
قوله :«عَلَى وَادِي » متعلق ب «أَتَوا »، وإنما عدِّي ب «عَلَى »، لأنَّ الواقع كذا، لأنهم كانوا محمولين على الريح، فهم مستعلون. وقيل : هو من قولهم : أتيت عليه، أي استقصيته إلى آخره، والمعنى أنهم قطعوا الوادي كله وبلغوا آخره٤.
ووقف القراء كلهم على «وَادِ » دون ياء اتباعاً للرسم، ولأنها محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين في الوصل، ولأنها قد حذفت حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين ( نحو ﴿ جَابُواْ الصخر بالواد ﴾٥ [ الفجر : ٩ ] فحذفها وقفاً، وقد عهد حذفها دون التقاء الساكنين )٦، فحذفها عند التقاء الساكنين أولى، إلا الكسائي، فإنه وقف بالياء، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل، وقد زال، فعادت اللام، واعتذر عن مخالفة الرسم بقوة الأصل٧.
والنَّملُ : اسم جنس معروف واحده نملةٌ، ويقال : نُمْلَةٌ ونُمْلٌ بضم النون وسكون الميم، ونُمُلَة ونُمُل بضمّهما٨، ونَمْلَة بالفتح، والضم بوزن سمرة، ونَمُل بوزن رجل، واشتقاقه من : التَّنمُّل، لكثرة حركته، ومنه قيل للواشي : المُنَمِّل، يقال : أنْمَلَ بين القوم مُنْمِل، أي : وشَى وَنَمَّ، لكثرة تردده، وحركته في ذلك٩، قال :
٣٩٣٦ - وَلَسْتُ بِذِي نيرب فِيهِمُ *** وَلاَ مُنْمِشٍ منهم مُنْمِلِ١٠
ويقال أيضاً : نَمِل يَنْمِلُ، فهو نَمِلٌ ونَمَّالٌ، وتَنَمَّلَ القومُ : تفرقوا للجميع تفرُّق النمل، وفي المثل :«أجْمَعُ مِنْ نَمْلَةٍ »١١ والنَّمْلةُ أيضاً : قرحةٌ تخرج في الجنب، تشبيهاً بها في الهيئة، والنملة أيضاً شقٌّ في الحافر، ومنه : فرسٌ منمول القوائم، والأنْمُلة : طرف الإصبع من ذلك ؛ لدقتها وسرعة حركتها، والجمع : أنامل١٢.

فصل :


قال كعب : كان سليمان إذا سار١٣ بعسكره حملته الريح تهوي بهم١٤ فسار من اصطخر١٥ إلى اليمن، فمرّ على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال سليمان : هذه دار هجرة نبي الله في آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، ورأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله، فلما جاوز سليمان البيت بكى١٦ فأوحى الله إلى البيت : ما يبكيك ؟ قال : يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا عليّ فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله إليه، لا تبك، فإني سوف أملأك وجوهاً سجداً، وأنزل فيك قرآناً جديداً، وأبعث منك في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني، وأفرض على عبادي فريضة يزفون١٧ إليك زفيف النسور إلى أوكارها، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان، ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف، فأتى على وادي النمل، هكذا قال كعب إنه واد بالطائف١٨، وقال مقاتل : إنه وادٍ بالشام كثير النمل١٩، وقيل وادٍ كان يسكنه الجن، وأولئك النمل مراكبهم٢٠.
قوله :«قَالَتْ نَمْلَةٌ » هذه النملة هنا مؤنثة حقيقة، بدليل لحاق علامة التأنيث فعلها، لأن نملة تطلق على الذكر وعلى الأنثى، فإذا أريد تمييز ذلك قيل : نملة ذكر، ونملة أنثى، نحو : حَمامَة ويَمَامة. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه وقف على قتادة وهو يقول : سلوني، فأمر من سأله عن نملة سليمان : هل كانت ذكراً أو٢١ أنثى، فلم يجب، فقيل لأبي حنيفة في ذلك، فقال : كانت أنثى، واستدل بلحاق العلامة٢٢.
قال الزمخشري : وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها٢٣ على المذكر والمؤنث٢٤، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى، وهو وهي٢٥، انتهى.
وقد ردَّ هذا أبو حيان، فقال : ولحاق التاء في «قالت » لا يدلّ على أن النملة مؤنثة، بل يصح أن يقال في المذكر : قالت نملة ؛ لأن نملة وإن كانت بالتاء هو مما٢٦ لا يتميز فيه المذكر من المؤنث، وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه٢٧ إخبار المؤنث، ( ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث )٢٨ على أنه ذكر أو أنثى، لأن التاء دخلت فيه للفرق لا للدلالة على التأنيث الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس، قال : وكان قتادة بصيراً بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر٢٩ إذ لا٣٠ يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله، قال : وإنما استنباط٣١ تأنيثه من كتاب الله٣٢ ب «قالت »٣٣، ولو كان ذكراً لقيل :«قال » فكلام النحاة على خلافه، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث، سواء كان ذكراً أم أنثى.
قال : وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة، فبينهما قدر مشترك يتميز فيهما المذكر من المؤنث فيمكن أن تقول٣٤ : حمامة ذكر، وحمامة أنثى فتميزه بالصفة، وأما تميزه ب٣٥ «هو » و «هي » فإنه لا يجوز، لا تقول هو الحمامة، ولا هو الشاة، وأما النملة والقملة فلا٣٦ يتميز فيه٣٧ المذكر من المؤنث، ولا يجوز فيه٣٨ في الإخبار إلا التأنيث وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان نحو : المرأة، أو٣٩ غير العاقل كالدابة، إلا إن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك، فيجوز أن تلحق العلامة وأن لا تلحقها، على ما تقرر في علم العربية٤٠. انتهى.
قال شهاب الدين : أما ما ذكره ففيه نظر، من حيث٤١ إن التأنيث إما لفظي أو معنوي٤٢، واللفظي٤٣ لا يعتبر ( في لحاق العلامة )٤٤ البتة، بدليل أنه لا يجوز ( قامت رَبْعَةٌ وأنت تعني رجلاً، وكذلك )٤٥ لا يجوز : قامت طلحة، ولا حمزة - على مذكر - فتعين أن يكون اللحاق إنما هو للتأنيث المعنوي، وإنما يعتبر لفظ التأنيث والتذكير في باب العدد على معنى خاص أيضًا، وهو أنا ننظر٤٦ إلى ما عاملت العرب ذلك اللفظ به من تذكير أو تأنيث من غير نظر إلى مدلوله، فهناك له هذا الاعتبار، وتحقيقه هنا يخرجنا عن المقصود وإنما نبهتك على٤٧ القدر المحتاج إليه.
وأما قوله : وأما النملة والقملة فلا يتميَّز، يعني لا يتوصَّلُ لمعرفة الذكر منهما ولا الأنثى بخلاف الحمامة والشاة، فإن الإطلاع على ذلك٤٨ ممكن، فهو أيضاً ممنوع إذ٤٩ قد يمكن الإطلاع على ( ذلك، وأن الإطلاع على ذكورية الحمامة والشاة أسهل من الإطلاع على )٥٠ ذكورية النملة والقملة، ومنعه أيضاً أن يقال هو الشاة وهو الحمامة ممنوع٥١.
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر٥٢ بن سليمان :«النّمُلُ » و «نَمُلَة » بضم الميم وفتح النون٥٣ بزنة٥٤ رجل وسمرة، وسليمان التيمي٥٥ بضمتين فيهما٥٦، وتقدم أن ذلك لغات في الواحد والجمع. قوله «لاَ يَحْطِمَنَّكُم »، فيه وجهان :
أحدهما : أنه نهي.
والثاني : أنه جواب للأمر٥٧.
وإذا كان نهياً ففيه وجهان :
أحدهما : أنه نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله من حيث الإعراب، وإنما هو نهي للجنود في اللفظ، وفي المعنى للنمل، أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم، كقولهم : لا أَرَينَّك ههُنَا٥٨.
والثاني : أنه بدل من جملة الأمر قبله، وهو «ادْخُلُوا »، وقد تعرض الزمخشري لذلك٥٩، فقال٦٠ : فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو ؟ قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر، والذي جوَّز أن يكون بدلاً منه أنه٦١ في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم٦٢، على طريقة : لاَ أَرَيَنَّكَ ههُنَا، أرادت : لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاءت بما هو أبلغ، ونحوه٦٣ :
٣٩٣٧ - عَجِبْتُ مِن نَفْسِي وَمِنْ إشْفَاقِهَا٦٤ ***. . .
قال أبو حيان : أما تخريجه على أنه جواب الأمر، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش، فإنه مجزوم مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نهي٦٥ يعني أن الأعمش قرأ :«لاَ يَحْطِمْكُمْ » بجزم الميم دون نون توكيد، قال : وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا إن كان في شعر، وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر، وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في علم النحو. ومثال مجيء النون في جواب الشرط قوله الشاعر :
٣٩٣٨ - نَبَتُّمْ نَبَاتَ٦٦ الخَيْزُرَانَةِ٦٧ في الثَّرَى٦٨ *** حَدِيثاً مَتَى مَا يَأْتِكَ الخَيْرُ يَنْفَعَا٦٩
وقول الآخر :
٣٩٣٩ - فَمَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تُعْطِكُمْ *** ومَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تَمْنَعَا٧٠
قال سيبويه : وهو قليل في الشعر شبهوهُ بالنهي حيث كان مجزوماً غير واجب٧١، قال : وأما تخريجه على البدل فلا يجوز، لأن مدلول «لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ » مخالف لمدلول «ادخُلُوا »، وأما قوله : لأنه بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم٧٢، فتفسير معنى لا إعراب، والبدل من صفة الألفاظ، نعم لو كان اللفظ القرآني : لا تكونوا بحيث لا يحطمنكم، لتُخُيِّل فيه البدل، لأن الأمر بدخول المساكن نهي عن كونهم بظاهر الأرض.
وأما قوله : إنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخره، فيسوغ زيادة الأسماء، وهو٧٣ لا يجوز، بل الظاهر إسناد الحطم٧٤ إلى جنوده، وهو على حذف مضاف، أي : خيل سليمان وجنوده، أو نحو ذلك مما يصح تقديره٧٥، انتهى.
أما منعه كونه جواب الأمر من أجل النون، فقد سبقه إليه أبو البقاء، فقال : وهو ضعيف، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار٧٦. وأما منعه البدل بما ذكر فلا نسلم تغاير المدلول بالنسبة لما يؤول إليه المعنى. وأما قوله : فيسوغ زيادة الأسماء فهو٧٧ لم يسوغ ذلك، وإنما فسر المعنى - وعلى تقدير ذلك - فقد قيل به شائعاً٧٨. وجاء الخطاب في قولها «ادخلوا » كخطاب العقلاء لما عوملوا معاملتهم٧٩. وقرأ أُبَيّ :﴿ ادْخُلْنَ مَساكِنَكُنَّ لاَ يَحْطمنَّكُن ﴾٨٠ - بالنون الخفيفة - جاء به على الأصل. وقرأ شهر به حوشب٨١ :«مَسْكَنَكم » بالإفراد٨٢ وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء والنون مضارع حطمه بالتشديد٨٣. وقرأ الحسن أيضاً قراءتان : فتح الياء وتشديد الطاء مع سكون الحاء وكسرها٨٤ والأصل : يَحطمَنَّكُمْ، فأدغم وإسكان الحاء مشكل تقدم نظيره في «لا يَهدِّي »٨٥ ونحوه، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد٨٦. والحطم : الكسرُ، يقال منه : حطمتهُ، ثم استعمل لكل كسر معناه، والحطام : ما تكسر يبساً٨٧ وغلب على الأشياء التافهة، والحُطَم : السائق السريع، كأنه يحطم الإبل٨٨، قال :
٣٩٤٠ - قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بسواقٍ حُطَمْ *** لَيْسَ برَاعِي إبِلٍ وَلاَ غَنَمْ
ولا بِجَزَّارٍ ظَهْرٍ وَضَمْ٨٩ ***. . .
والحُطَمَة : من
١ أي: الذي جعل غاية..
٢ انظر البحر المحيط ٧/٦٠..
٣ عند قوله تعالى: ﴿حتى إذا فشلتم﴾[آل عمران: ١٥٢]..
٤ انظر الكشاف ٣/١٣٧..
٥ من قوله تعالى: ﴿وثمود الذين جابوا الصخر بالواد﴾[الفجر: ٩]..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ انظر حجة القراءات لأبي زرعة (٥٢٣)، الإتحاف (٣٣٥)..
٨ في النسختين: بضمها..
٩ انظر اللسان (نمل)..
١٠ البيت من بحر المتقارب، مجهول القائل. وقد تقدم..
١١ انظر مجمع الأمثال للميداني ١/٣٣٥..
١٢ انظر اللسان (نمل)..
١٣ في ب: سافر..
١٤ بهم: سقط من ب..
١٥ اصطخر: أطلال مدينة إيرانية قديمة. المنجد في الأعلام (٥٢)..
١٦ في ب: أبكى..
١٧ الزفيف: الإسراع ومقاربة الخطو، وزف يزف زفاً وزفيفاً وزفوفاً، وزفَّ القوم في مشيهم: أسرعوا. اللسان (زفف)..
١٨ انظر البغوي ٦/٢٦٦-٢٦٧..
١٩ انظر البغوي ٦/٢٦٧..
٢٠ المرجع السابق..
٢١ في ب: أم..
٢٢ الكشاف ٣/١٣٧. بتصرف..
٢٣ في ب: وقوعهما..
٢٤ في ب: على الذكر والأنثى..
٢٥ الكشاف ٣/١٣٧..
٢٦ في ب: ما..
٢٧ في ب: غير. وهو تحريف..
٢٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٩ في ب: الذكر والأنثى..
٣٠ في ب: ولا..
٣١ في ب: استنبط..
٣٢ في ب: الله تعالى..
٣٣ بقالت: سقط من ب..
٣٤ في ب: أن يقال..
٣٥ بـ: سقط من ب..
٣٦ في ب: و..
٣٧ في ب: فيهما..
٣٨ فيه: تكملة من البحر المحيط..
٣٩ في ب : و..
٤٠ البحر المحيط ٧/٦١..
٤١ في ب: حين..
٤٢ المقصود به الحقيقي..
٤٣ في ب: فاللفظي..
٤٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٦ في ب: أن نظر..
٤٧ في ب: عن..
٤٨ أي: على ذكورة وأنوثة..
٤٩ إذ: تكملة ليست في المخطوط..
٥٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٥١ الدر المصون ٥/١٨٢-١٨٣..
٥٢ في النسختين: معمر. والصواب ما أثبته..
٥٣ المختصر (١٠٨)، البحر المحيط ٧/٦١..
٥٤ في ب: بوزنة. وهو تحريف..
٥٥ هو سليمان بن قتة التيمي، مولاهم البصري، ثقة، عرض على ابن عباس، وعرض عليه عاصم الجحدري. طبقات القراء ١/٣١٤..
٥٦ المحتسب ٢/١٣٧، البحر المحيط ٧/٦١..
٥٧ وضعفه أبو البقاء لأن جواب الأمر لا يؤكد بالنون في الاختيار. التبيان ٢/١٠٠٦..
٥٨ انظر البحر المحيط ٧/٦١..
٥٩ في ب: كذلك وهو تحريف..
٦٠ الكشاف ٣/١٣٧-١٣٨..
٦١ في النسختين: أن يكون نهيا بدلا من الأمر لأنه. والتصويب من الكشاف..
٦٢ في ب: يحطمنكم..
٦٣ ونحوه: مكرر في ب..
٦٤ رجز لم أهتد إلى قائله، وهو في الكشاف ٣/١٣٨، البحر المحيط ٧/٦٢، شرح شواهد الكشاف (١٣٧). وأتى به شاهداً على المبالغة في قوله: من نفسي ومن إشفاقها. وكان وجه الكلام أن يقول: من إشفاق نفسي..
٦٥ في البحر المحيط: نفي. البحر المحيط ٧/٦٢..
٦٦ في ب: بيان..
٦٧ في ب: الخيزوانة..
٦٨ في ب: البرى..
٦٩ البيت من بحر الطويل قاله النجاشي، وهو في الكتاب ٣/٥١٥، المقاصد النحوية ٤/٣٤٤، الهمع ٢/٧٨، الأشموني ٣/٢٢٠، الخزانة ١١/٣٩٥، الدرر ٢/٩٧. وروي (الخيزراني) مكان (الخيزرانة). الخيزراني: كل نبت ناعم. وأراد بالخير المال. والشاهد فيه قوله: (ينفعا) فإن أصله (ينفعن) بنون التوكيد الخفيفة، ثم أبدل منها الألف في الوقف، وهذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون، لأنه خبر يجوز فيه الصدق والكذب، ولكنه أكد تشبيهاً بالنهي حين كان مجزوماً غير واجب..
٧٠ البيت من بحر الطويل، نسبه سيبويه إلى ابن الخرع، وهو عوف بن الخرع، وينسب أيضاً إلى الكميت بن ثعلبة، وهو في الكتاب ٣/٥١٥، المقاصد النحوية ٤/٣٣٠، التصريح ٢/٣٠٦، الهمع ٢/٧٩، الأشموني ٢/٢٠٢، الخزانة ١١/٣٨٧، الدرر ٢/١٠٠، والشاهد فيه قوله: (تمنعا)، والكلام فيه كالكلام في سابقه..
٧١ الكتاب ٣/٥١٥..
٧٢ في البحر المحيط: فيحطمنكم. وفي ب: فتحطموا..
٧٣ في ب: وهي..
٧٤ في النسختين: الحكم. والتصويب من البحر المحيط..
٧٥ البحر المحيط ٧/٦٢..
٧٦ التبيان ٢/١٠٠٦..
٧٧ فهو: تكملة ليست في المخطوط..
٧٨ أي: إبدال الفعل من الفعل متى استقام ذلك من جهة المعنى..
٧٩ انظر التبيان ٢/١٠٠٦..
٨٠ في ب: لا يحطمنكم. وفي البحر المحيط: "ادخلن مساكنكن لا يحطمنكم" ٧/٦١ وفي تفسير ابن عطية: (وفي مصحف أبي "لا يحطمنكم" مخففة النون التي قبل الكاف) ١١/١٨٧..
٨١ شهر بن حوشب، أبو سعيد الأشعري الشامي، ثم البصري، تابعي، مشهور عرض عليه أبو نهيك علباء بن أحمد، مات سنة ١٠٠ هـ، وقيل غير ذلك. طبقات القراء ١/٣٢٩..
٨٢ المختصر (١٠٨)، البحر المحيط ٧/٦١..
٨٣ المرجعان السابقان..
٨٤ البحر المحيط ٧/٦١، وفي المختصر لم ينص على سكون الحاء(١٠٨)، وفي المحتسب بفتح الياء والحاء وتشديد الطاء والنون، وروي عنه بكسر الحاء ٢/١٣٧..
٨٥ من قوله تعالى: ﴿أمن لا يهدي إلا أن يهدى﴾[يونس: ٣٥]. انظر اللباب ٤/٢٩١-٢٩٢..
٨٦ في السبعة قال ابن مجاهد: (وقرأ عبيد عن أبي عمرو"ولا يحطمنكم" ساكنة النون. وهو غلط) (٤٧٩) وفي الهامش: قال أبو علي الفارسي معلقاً على قول ابن مجاهد: إن هذه القراءة غلط؛ يرد أنها غلط من طريق الرواية لا أنها لا تتجه في العربية..
٨٧ في ب: يعساً..
٨٨ انظر اللسان (حطم)..
٨٩ رجز يروى للحطم القيسّي، أو أبي زغبة الخزرجي، أو رشيد بن رميض العنزيّ. وهو في الكتاب ٣/٢٢٣، المقتضب ٢/١٩٣، ٣/٣٢٣، الكامل ٢/٤٩٤، ٤٩٩، ٢٣/١٢٣٠، المخصص ٥/٢٢، ابن يعيش ٦/١١٣، اللسان (حطم). الحطم: الشديد السوق للإبل، كأنه يحطم ما مر عليه لشدة سوقه. وهو موطن الشاهد هنا. الوضم: كل ما قطع عليه اللحم.
وفيه شاهد آخر، وهو نعت (سواق) بـ (حطم)، لأنه نكرة، وليس بمعدول عن فاعل إلا في باب المعرفة، نحو: عمر وزفر..

قوله :«ضاحكاً » قيل : هي حال مؤكدة١ لأنها مفهومة من ( تبسم )، وقيل : بل هي حال مقدرة، فإن التبسم ابتداء الضحك، وقيل : لما كان التبسم قد يكون للغضب، ومنه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الغضبان، أي تضاحكاً مسبباً له، قال عنترة :
٣٩٤٢ - لَمَّا رَآنِي قَدْ قَصَدْتُ أُرِيدُهُ أَبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ٢
وتبسَّم : تَفَعَّلَ بمعنى بَسَمَ المجرّد، قال :
٣٩٤٣ - وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّراً تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِي٣
وقال بعض المولدين :
٣٩٤٤ - كَأَنَّمَا تَبْسِمُ عَنْ لُؤْلُؤٍ مُنَضَّدٍ أَوْ بَرَدِ أَوْ أَقَاح٤
وقرأ ابن السميفع :«ضحكاً » مقصوراً٥، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مصدر مؤكد معنى تبسم، لأنه بمعناه٦.
والثاني : أنه في موضع الحال، فهو في المعنى كالذي قبله٧.
الثالث : أنه اسم فاعل كفرح، وذلك لأن فعله على فَعِل بكسر العين، وهو لازم، فهو كفرح وبطِر٨. قوله :«أن أشكر » مفعول ثان ل «أوزعني »، لأن معناه : ألهمني، وقيل٩ معناه : اجعلني أزع شكر نعمتك، أي : أكفه وأمنعه حتى لا ينفلت مني، فلا أزال شاكراً١٠، وتفسير الزجاج له بامنعني أن أكفر نعمتك١١ من باب تفسير المعنى باللازم.

فصل :


قال الزجاج أكثر ضحك الأنبياء التبسم١٢، وقوله :«ضاحكاً » أي : مبتسماً، وقيل : كان أوله التبسم وآخره الضحك١٣، قال مقاتل : كان ضحك سليمان من قول النملة تعجباً، لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك١٤، وإنما ضحك لأمرين :
أحدهما : إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وعلى شهرة حاله وحالهم في التقوى، وهو قولها :«وهم لا يشعرون ».
والثاني : سروره بما آتاه الله ما له يؤت أحداً، من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه١٥. ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه، فقال :﴿ رَبِّ أوزعني ﴾ ألهمني. ﴿ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين ﴾.
وهذا يدل على أن دخول الجنة برحمته وفضله، لا باستحقاق العبد١٦، والمعنى : أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين١٧. فإن قيل : درجات الأنبياء أفضل من درجات الأولياء والصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين، فقال يوسف١٨ :﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين ﴾ [ يوسف : ١٠١ ]، وقال سليمان :﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين ﴾ ؟.
فالجواب : الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية، وهذه درجة عالية١٩.
١ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١١٢، التبيان ٢/١٠٠٦..
٢ البيت من بحر الكامل، وهو من معلقة عنترة، وهو في شرح السبع الطوال لابن الأنباري (٣٥٠)، الحماسة البصرية ٢/٧٩، يقول: ليس إبداؤه نواجذه للضحك إنما لكراهة منه وخشية من الموت. وهذا موطن الشاهد..
٣ البيت من الطويل، وهو من معلقة طرفة بن العبد، وهو في ديوانه (٢١) والسبع الطوال ١٤٣-١٤٤، اللسان (لما)، البحر المحيط ٧/٥١. قوله: عن ألمى: أي عن ثغر ألمى، فاكتفى بالنعت عن المنعوت. الألمى: أسمر الشفتين. المنور: النبات ذو الزهر. حرًّ الرمل: أحسنه لونا، الدعص: كثيب الرمل. النَّدي: الذي في أسفله الماء. والشاهد فيه قوله: (تبسم). فإنه من الثلاثي (بسم) وهو بمعنى (تبسَّم)..
٤ البيت من بحر السريع، قاله البحتري، وهو في ديوانه ١/٤٣٥، المصون (٧٩)، معاهد التنصيص ١/١٦٤، المنضّد: المنظم. البرد: حبيبات الثلج النازلة عن الغمام. الأقاح: جمع أقحوان، وهو نوع من الورود. والشاهد فيه قوله: (تبسم) فإنه من الثلاثي (بسم)..
٥ المحتسب ٢/١٣٩، البحر المحيط ٧/٦٢..
٦ المرجعان السابقان..
٧ انظر البحر المحيط ٧/٦٢..
٨ انظر التبيان ٢/١٠٠٦..
٩ في ب: وفعل. وهو تحريف..
١٠ انظر الكشاف ٣/١٣٨..
١١ انظر معاني القرآن وإعرابه ٤/١١٢-١١٣..
١٢ معاني القرآن وإعرابه ٤/١١٢..
١٣ انظر البغوي ٦/٢٦٨..
١٤ المرجع السابق..
١٥ انظر الكشاف ٣/١٣٨، الفخر الرازي ٢٤/١٨٨..
١٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٨..
١٧ انظر البغوي ٦/٢٦٨..
١٨ في النسختين: إبراهيم. والتصويب من الفخر الرازي..
١٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٨٨..
قوله تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطير﴾ الآية «تَفَقَّدَ الطَّيْرَ» : طلبها وبحث عنها وبحث عنها، والتفقد طلب ما فقد، والمعنى طلب ما فقد من الطير، واختلفوا فيما تفقده من أجله، فقيل: لأنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها، وقيل: لأن هندسة الماء كانت لديه، وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاج وكان يعرف قربه وبعده في عمق الأرض. قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق: يا وصاف، انظر ما يقول: إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ، حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس: ويحك إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر، وهذا القول فيه نظر، لأن الجن أعرف بالأرض من الهدهد، فإنهم سكانها، وقيل: لأنه كان يظله من الشمس.
قوله: ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد﴾، هذا استفهام توقيف ولا حاجة إلى ادعاء القلب وأن الأصل: ما للهدهد لا أراه؟ إذ المعنى قوي دونه، والهدهد معروف، وتصغيره على هديهد، وهو القياس، وزعم بعض الحويين أنه تقلب ياء تصغيره ألفاً، فيقال: هداهد، وأنشد:
٣٩٤٥ - كَهُدَاهِدٍ كَسَرَ الرُّمَاةُ جَنَاحَهُ يَدْعُوا بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ هَدِيلاً
كما قالوا: دُوَابَّة وشُوَابَّة، في: دُوَيْبَة وشُوَيْبَة، ورده بعضهم بأن الهداهد الحمام الكثير ترجيع الصوت. تزعم العرب أن جارحاً في زمن الطوفان اختطف فرخ حمامة
135
تسمى الهديل، قالوا: فكل حمامة تبكي فإنما تبكي على الهديل.
قوله: «أم كان»، هذه «أم» المنقطعة، وتقدم الكلام فيها، وقال ابن عطية: قوله ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد﴾ مقصد الكلام: الهدهد غاب، ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله «مَالِيَ» ناب مناب الألف التي تحتاجها «أم»، قال أبو حيان: فظاهر كلامه أن «أم» متصلة، وأن الاستفهام الذي في قوله: «مالي» ناب مناب ألف الاستفهام، فمعناه: أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل، ولم أشعر بغيبته؟.
قال شهاب الدين: ولا يظن بأبي محمد ذلك، فإنه لا يجهل أن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام أو التسوية لا مطلق الاستفهام.
قوله: «عذاباً»، أي تعذيباً، فهو اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد ك ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧]، وقد كتبوا: «أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ» بزيادة ألف بين لام ألف والذال، ولا يجوز أن تُقْرَأ بها، وهذا كما تقدم أنهم كتبوا: ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] بزيادة ألف بين لام ألف والواو.
قوله: «أو لَيَأْتِينِّي»، قرأ ابن كثير بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية، وهذا هو الأصل، واتبع مع ذلك رسم مصحفه، والباقون بنون مشددة فقط، والأظهر أنها نون التوكيد الشديدة، توُصِّلَ بكسرها لياء المتكلم، وقيل: بل هي نون التوكيد الخفيفة أدغمت في نون الوقاية، وليس بشيء لمخالفة الفعلين قبله، وعيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة لم يصلها بالياء.

فصل


قال المفسرون: معنى الآية: ما للهدهد لا أراه، تقول العرب: مالي أراك كثيباً؟ فقال: ما لي لا أرى الهدهد، على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه، ثم أدركه الشك في غيبته فقال: أم كان من الغائبين، يعني أكان من الغائبين؟ والميم صلة، وقيل: أم
136
بمعنى بل، ثم أوعد على غيبته، فقال: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً﴾، فقيل: بنتف ريشه ووضعه لهوام الأرض، وقيل: بحبسه في القفص، وقيل: بأن يفرق بينه وبين إلفه، وقيل: بحبسه مع ضده، ﴿أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ حُجَّة ظاهرة.
قوله: «فَمَكَثَ» قرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها، وهما لغتان، إلا أن الفتح أشهر، ولذلك جاءت الصفة على ماكث، دون كيث، واعتذر عنه بأن فاعلاً قد جاء لفَعُل بالضم، نحو: حَمُضَ فهو حامض، وخَثُر فهو خاثر، وفَرُهَ فهو فاره.
قوله: «غَيْرَ بعِيدٍ»، يجوز أن يكون صفة للمصدر، أي مكثراً غير بعيد، وللزمان أي: زماناً غير بعيد، وللمكان أي: مكاناً غير بعيد، والظاهر أن الضمير في مكث للهدهد، وقيل: لسليمان - عليه السلام - فقال: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، يقول: علمت ما لم تعلم، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك.
قوله: «مِنْ سَبَأ»، قرأ البزِّيّ، وأبو عمرو بفتح الهمزة، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة، فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، وعليه قوله:
٣٩٤٦ - مِنْ سَبَأَ الحَاضِرِينَ مَأْربَ إِذْ يَبْنُونَ مِنْ دُون سَيْلِهِ العَرِمَا
وقرأ قُنْبُل بسكو الهمزة، كأنه نوى الوقف وأجرى الوصل مجراه، والباقون بالجر والتنوين، جعلوه اسماً للحيِّ او المكان، وعليه قوله:
137
وهذا الخلاف جارٍ بعينه في سورة سبأ.
وفي قوله: ﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ فيه من البديع التجانس، وهو: تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف كهذه الآية، ومثله: ﴿تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر: ٧٥].
وفي الحديث: «الخَيْلُ مَعْقُود بِنَواصِيهَا الخَيْرُ»، وقال آخر:
٣٩٤٧ - الوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الجَوَامِيسِ
٣٩٤٨ - لِلَّهِ مَا صَنَعَتْ بِنَا تِلْكَ المَعَاجِرُ وَالمَحَاجِرْ
وقال الزمخشري: وقوله ﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو يصنعه عالم بجوهر هذا الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هنا زائداً على الصحة، فحسن وبدع لفظاً ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان: «بنبأ» :«بخبر» لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
يريد بالزيادة: أن النبأ أخص من الخبر، لأأنه لا يقال إلا فيما له شأن من الأخبار، بخلاف الخبر، فإنه يطلق على ما له شأن، وعلى ما لا شأن له، فكلّ نبأ خبر من غير عكس. وبعضهم يعبر عن نحو: ﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ في علم البديع بالترديد، قاله صاحب التحرير، وقال غيره: إن الترديد عبارة عن رد أعجاز البيوت على صدورها، أو ردّ كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، فمثال الأول قوله:
138
ومثال الثاني قوله:
٣٩٤٩ - سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ العَمِّ يَلْطمُ وَجْهَهُ وَلَيْسَ إلَى دَاعِي الخَنَا بِسَرِيعِ
٣٩٥٠ - وَاللَّيَالِي إِذَا نَأَيْتُمْ طِوَالٌ واللَّيَالِي إذَا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
وقرأ ابن كثير في رواية: «مِنْ سباً» مقصوراً منوناً، وعنه أيضاً: «مِنْ سَبْأَ» بسكون الباء وفتح الهمزة، جعله على فَعْل ومنعه من الصرف، لما تقدم. وعن الأعمش: «من سَبَإِ» بهمزة مكسورة غير منونة، وفيها إشكال؛ إذ لا وجه للبناء، والذي يظهر أن تنوينها لا بد وأن يقلب ميماً وصلاً، ضرورة ملاقاته للباء، فسمعها الراوي؛ فظن أنه كسر من غير تنوين. وروي عن أبي عمرو: «مِنْ سَبَا» بالألف صريحة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا. وكذلك قرىء «بِنَبَا» بألف خالصة، وينبغي أن يكونا لقارىء واحد وسبأ في الأًل: اسم رجل من قحطان، واسمه: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسبأ لقلب له، وإنما لقلب به: لأنه أول من سبأ.
قوله: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ﴾ لما قال الهدهد لسليمان: ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾، قال سليمان: وما ذاك؟ قال: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ﴾ وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن من نسل يعرب بن قحطان، وكان ملكاً عظيم الشأن، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها، وفي الحديث: «إن أحد أبوي بلقيس كان جنِّياً» وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس، والضمير في «تملكهم» راجع إلى «سبأ»، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريد المدينة فمعناه: تملك أهلها، قال عليه السلام لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى: «لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة»
139
قوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على «تَمْلِكُهُمْ»، وجاز عطف الماضي على المضارع، (لأن المضارع) بمعناه، أي: ملكتهم، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من مرفوع «تملكهم».
و «قَدْ» معها مضمرة عند من يرى ذلك.
وقوله: ﴿مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ عام مخصوص بالعقل؛ لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان. قوله: «وَلَهَا عَرْشٌ» يجوز أن تكون هذه جملة مستقلة بنفسها سيقت للإخبار بها، وأن تكون معطوفة على «أُوتِيَتْ»، وأن تكون حالاً من مرفوع «أُوتِيَتْ»، والأحسن أن يجعل الحالَ الجارُّ، «وعَرْشٌ» مرفوع به، وبعضهم يقف على «عَرْشٌ» ويقطعه عن نعته. قال الزمخشري: ومن نَوْكى القُصَّاصِ من يقف على قوله: «وَلَهَا عَرْشٌ»، ثم يبتدىء، «عَظِيمٌ وَجَدْتها»، يريد: أمرٌ عظيم أَنْ وجدتها، فرَّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيم، وهي مسخ كتاب الله.
قال شهاب الدين: النَّوكَى: الحمقى جمع َنْوَك وهذا الذي ذكره من أمر الوقف نقله الدّاني عن نافع وقرره أبو بكر بن الأنباري ورفعه إلى بعض أهل العلم، فلا ينبغي أن يقال (نَوْكَى القُصَّاص)، وخرجه الداني على أن يكون «عَظِيمٌ» مبتدأ، و «وَجَدْتُهَا» الخبر، وهذا خطأ، كيف يبتدىء بنكرة من غير مسوِّغ، ويخبر عنها بجملة لا رابط بينهما وبينه، والإعراب ما قاله الزمخشري من أن عظيماً صفة لمحذوف خبراً مقدماً، و «وَجَدْتُهَا» مبتدأ مؤخراً مقدراً معه حرف مصدري أي: أمر عظيم وجداني إياها وقومها غير عابدي الله.
قوله: «وَجَدْتُهَا»، هي التي بمعنى لقيت وأصبت، فيتعدى لواحد، فيكون «يَسْجُدُونَ» حالاً من مفعولها وما عطف عليه، فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان، وأيضاً: فكيف سوَّى بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟.
فالجواب عن الأول: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش ويجوز أن يكون لسليمان - مع جلالته - مثله كما قد يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله للسلطان.
140
وعن الثاني: أنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، وَوَصْفُ عرشِ اللَّهِ بالعظم تعيمٌ له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض.
قال المفسرون: العرش السرير الضخم كان مضروباً من الذهب مكلّلاً بالدرّ والياقوتالأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق.
قال ابن عباس: كان عرشها ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً. واعلم أن قوله: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾ [النمل: ٢٦] إن قلنا: إنه من كلام الهدهد، فالهدهد قد استدرك على نفسه، واستقلّ عرشها بالنسبة إلى عظمة عرش الله، وإن قلنا: إنه من كلام الله تعالى، فالله رد عليه استعظامه لعرشها.

فصل


طعنت الملاحدة في هذه القصة من وجوه:
أحدها: أَنَّ هذه الآيات اشتملت على أنَّ النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك إلاَّ عن العقلاء وذلك يجر إلى السَّفْسَطَة، فإنَّا لوجوَّزنا ذلك لما أمِنّا من النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أَنْ تكون أعلم بالهندسة من إقليدس، وبالنحو من سيبويه، وكذا القول في القملة والضئبان، ولجوزنا أن يكون فيهم الأنبياء والمعجزات والتكاليف، ومعلوم أنَّ مَنْ جوّزه كان إلى الجنون أقرب.
وثانيها: أنَّ سليمان - عليه السلام - كان بالشام، فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن، ثم رجع إليه؟.
وثالثها: كيف خفي على سليمان (عليه السلام) ؟ تلك المملكة العظيمة مع أنَّ الجن والإنس كانوا في طاعته، وأنه - عليه السلام - كان ملك الدنيا كلها، وكان
141
تحت طاعة بلقيس - على ما يقال - اثنا عشر ألف تحت يد كل واحد منهم مائة ألف، مع ما يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلاَّ مسيرة ثلاثة أيام؟
رابعها: من أين حصل للهدهد إنكار سجودهم للشمس وإضافته للشيطان وتزيينه؟
والجواب عن الأول: أنّ ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع. وعن البواقي: أنَّ الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك.

فصل


قالت المعتزلة: قوله ﴿يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ يدل على أنَّ فعل العبد من جهته، لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم، وأورده مورد الذم، وبين أنهم لا يهتدون.
والجواب من جوه:
أحدها: أَنَّ هذا قول الهدهد فلا يكون حجة.
وثانيها: أنه متروك الظاهر: فإنه قال: ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل﴾، وعندكم الشيطان، فإنه ما صدّ الكافر عن السبيل، إذ لو صدّه الشيطان عن السبيل لكان معذوراً ممنوعاً، فيسقط عنه التكليف فلم يبق إلاَّ التمسك بالمدح والذم، وجوابه قد تقدم.
قوله: «ألاَّ يَسْجُدُوا» قرأ الكسائي بتخفيف «أَلاَ»، والباقون بتشديدها، فأمَّا قراءة الكسائي، «أَلاَ» فيها تنبيه واستفتاح، و «يَا» بعدها حرف نداء، أو تنبيه أيضاً على ما سيأتي، و «اسْجُدُوا» : فعل أمرٍ، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون يَا اسجُدُوا، ولكن الصحابة أسقطوا ألف «يَا» وهمزة الوصل من «اسْجُدُوا» خَطاً لما سقط لَفْظاً، ووصلوا الياء بسين «اسْجُدُوا»، فصارت صورته «يَسْجُدُوا» كما ترى، فاتحدث القراءتان لفظاً وخطّاً، واختلفا تقديراً. واختلف النحويون في «يَا» هذه، هل هي حرف تنبيه أو للنداء والمنادى محذوف، تقيدره: يَا هَؤُلاَءِ اسْجُدُوا، وقد تقدم ذلك عند قوله في سورة النساء: «يَا لَيْتَنِي» والمُرَجَّحُ أَنْ تكون للتنبيه، لِئَلاَّ يؤدي إلى حذفٍ كثير من غير بقاءِ ما يدلّ على المحذوف، ألا ترى أنَّ جملة النداء حذفت، فلو ادَّعَيْتَ
142
حَّذْفَ المنَادى كَثُرَ الحذف، ولم يبق معمولٌ يدل على عامله؛ بخلاف ما إذا جعلتَها للتنبيه.
ولكن عَارَضنا هنا أَنَّ قبلها حرف تنبيه آخر، وهو «أَلا» وقد اعتُذِر عن ذلك بأنه جُمِعَ بينهما تأكيداً، وإذا كانوا قد جمعوا بين حرفن عاملين للتأكيد، كقوله:
٣٩٥١ - فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنْنِي عَنْ بِمَا بِهِ... فغير العاملين أولى، وأيضاً فقد جمعوا بين حرفين عاملين مُتّحدي اللفظ والمعنى كقوله:
٣٩٥٢ - فَلاَ وَاللَّهِ لاَ يُلْفَى لِمَا بِي وَلاَ لِلما بِهِمْ أَبَداً دَوَاءُ
فهذا أولى، وقد كثر مباشرة «يا» لفعل الأَمر، وقبلها «أَلاَ» التي للاستفتاح، كقوله:
٣٩٥٣ - أَلاَ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِ
وقوله:
٣٩٥٤ - أَلاَ يَا اسْلَمِي دَارَ مَيٍّ عَلَى البِلَى وَلاَ زالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِكَ القَطْرُ
وقوله:
٣٩٥٥ - أَلاَ يا اسْلَمِي ذَات الدَّمَالِيحجِ وَالعُقَد وذات اللثاث الحُمِّ والفَاحِمِ الجَعْدِ
وقوله:
143
وقوله:
٣٩٥٦ - أَلاَ يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ وَإِنْ كَانَ حَيَّانا عِدًى آخِرَ الدَّهْرِ
٣٩٥٧ - أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ خَيْلِ أَبِي بَكْر لَعَلَّ مَنَايانَا قَرُبنَ ولاَ نَدْرِي
وقوله:
٣٩٥٨ - أَلاَ يا اسْقِيانِي قَبْلَ غَارَةٍ سنجال... [وقوله:
٣٩٥٩ - فَقَالَتْ أَلاَ يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بخطبةٍ وقلتُ سمِعْنَا فَانطِقِي وأَصِيبِي]
وقد جاء ذلك وإن لم يكن قبلها «أَلاَ»، كقوله:
٣٩٦٠ - يا دَارَ هِنْدٍ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي بِسَمْسَمٍ أَوْ عَنْ يَمِينِ سَمْسَمِ
فعلم أنه قراءة الكسائي قوية، لكثرة دَوْرِها في لغتهم، وقد سمع ذلك في النَّثْر، سُمِعَ بَعْضُهم يقول: أَلاَ يَا ارحَمُوني، أَلاَ يا تصدَّقُوا علينا، وأما قوله:
٣٩٦١ - يَا لَعْنَةُ اللَّهِ والأَقْوَامِ كُلِّهِم والصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جِارِ
فيحتمل أن تكون «يَا» للنداء، والمنادى محذوف، وأن يكون للتنبيه، وهو الأرجح لِمَا مَرَّ. واعلم أَنَّ الوقف عند الكسائي على «يَهْتَدُونَ» تام، وله أن يقف على «أَلاَ يَا» معاً، ويبتدىء «اسْجُدُوا» بهمزة مضمومة. وله أن يقف على «أَلاَ» وحدها، وعلى «يَا»
144
وحدها، لأنهما حرفان منفصلان وهذا الوقفان وقفاً اخْتبارٍ لا اختيار، لأنهما حرفان لا يتم معناهما إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراء امتحاناً وبياناً. فهذا توجيه قراءة الكسائي، والخَطْبُ وفيها سهل. وأما قراءة الباقين فتحتاج إلى إِمْعَان نظرٍ، وفيها أوجه كثيرة:
أحدها: أنَّ «أَلاَّ» أصلها: أَنْ لا، فأَنْ ناصبة للفعل بعدها، ولذلك سقطت نون الرفع، و «لاَ» بعدها حرفُ نَفْي، وأَنْ وما بعدها في موضع مفعول «يَهْتَدُونَ» على إسقاط الخافض أي: إلى أَنْ لا يسجُدُوا، و «لاَ» مزيدة كزيادتها في:
﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ [الحديد: ٢٩]، والمعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا.
الثاني: أنه بدل من «أَعْمَالَهُمْ» وما بينهما اعتراض تقديره: وزَيَّنَ لهم الشيطانُ عدم السجود لله.
الثالث: أنه بدل من «السَّبِيلِ» على زيادة «لاَ» أيضاً، والتقدير: فَصَدَّهُمْ عن السجود لله.
الرابع: أَنَّ «أَلاَّ يَسْجُدُوا» مفعولاً له، وفي متعلّقه وجهان:
أحدهما: أنه «زَيَّنَ» أي: زيَّنَ لهم لأجل أَلاَّ يسجدوا.
والثاني: انها متعلق ب «صَدَّهُمْ»، أي: صَدَّهُمْ لأجل أن لاَ يسجُدُوا، وفي «لاَ» حينئذٍ وجهان:
أحدهما: انها ليست مزيدة (بل باقية على معناها من النفي.
والثاني: أنها مزيدة) والمعنى: وزيَّنَ لهم لأجل توقعه سجودهم، أو لأجل خوفه من سُجُودهم، وعدم الزيادة أظهر.
الخامس: أنه خبرأ مبتدأ مضمر، وهذا المبتدأ إما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على «أَعْمَالَهُمْ»، والقدير هي ألا يسجدوا، فتكون «لاَ» على بابها من النفي، وإما أن
145
يُقَدَّر ضميراً عائداً على «السَّبِيل»، التقدير: هو أن لا يسجدوا، فتكون «لاَ» مزيدة - على ما تقدم - ليصح المعنى.
وعلى الأوجه الأربعة المتقدمة لا يجوز الوقفُ على «يَهْتَدُونَ»، لأنَّ ما بعده إمَّا معمول له أو لِمَا قبله من «زَيَّنَ» وصَدَّ «أو بدل مما قبله أيضاً من» أَعْمَالَهُمْ «أو من» السَّبِيل «على ما قُرِّرَ، بخلاف الوجه الخامس، فإنه مَبنيٌّ على مبتدأ مضمر، وإنْ كان ذلك الضمير مُفَسراً بما سبق قبله، وقد كتبت» أَلاَّ «مصولة غير مفصولة، فلم تُكْتَبْ» أَنْ «منفصلة من» لاَ «، فمن ثَمَّ: امتنع أن يُوقَف هؤلاء في الابتلاء والامتحان على» أَنْ «وحدها، لاتصالها بلا في الكتابة، بل يُوقَف لهم على» أَلاَّ «بجملتها، كذا قال القُرَّاءُ، والنحويون متى سُئِلوا عن مثل ذلك وقفوا لأجل البيان على كل كلمةٍ على حدتها. لضرورة البيان، كونها كُتِبَت متصلة ب» لا «غير مانعٍ من ذلك. ثُمَّ قول القُرَّاءِ: كتبت متصلة فيه تجوُّزٌ وتسامُح، لأَنَّ حقيقة هذا أن يُثْبِتُوا صورة نُونٍ ويصلونها بلاء، فيكتبونها» أَنْلاَ «، ولكن لما أدغمت فيما بعدها لفظاً، وذهب لفظها إلى لفظ ما بعدها قالوا ذلك تسامحاً. وقد رتَّبَ أبو إسحاق على القراءتين حُكْماً، وهو وجوب سجود التلاوة وعدمه، فَأَوْجَبَهُ مع قراءة الكسائي، وكأنه لأجل الأمرِ بِهِ، ولم يوجبه في قراءة الباقين لعدم وجود الأمر فيها، إِلاَّ أَنَّ الزمخشري لم يرتضه منه، فإنه قال: فَإِنْ قُلْتَ: أَسَجدةُ التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أو في واحدة منهما؟ قُلْتُ: هي واجبة فيهما.
وإحدا القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك، وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد مرجوع إليه.
قال شهاب الدين: وكأن الزجاج أخذ بظاهر الأمر، وظاهره الوجوب وهذا لو خلينا
146
الآية لكان السُّجُودُ واجباً، ولكن دلَّت السنةُ على استحبابه دون وجوبه، على أَنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظر آخر، وهو أَنَّ هذا الأمر من كلام الله تعالى أو من كلام الهدهد محكيّاً عنه، فإن كان من كلام الله تعالى فيقال: يقتضي الوجوب إلاَّ أَنْ يجيء دليل يصرفه عن ظاهره، وإنْ كان من كلام الهدهد - وهو الظاهر - ففي انتهاضة دليلاً نظر، وهذا الذي ذكروه ليس بشيء، لأنَّ المراد بالسجود ههنا عبادة الله لا عبادة الشمس، وعبادة الله واجبة وليس المراد من الآية سجود التلاوة، وأين كانت التلاوة في زمن سليمان عليه السلام ولم يكن ثم قرآن.
وقرأ الأعمش «هَلاَّ» و «هَلاَ» بقلب الهمزة هاء مع تشديد «لاَ» وتخفيفها، وكذا هي في مصحف عبد الله، (وقرأ عبد الله) «تَسْجُدُونَ» بتاء الخطاب ونون الرفع، وقرىء كذلك بالياء من تحت، فَمَنْ أَثْبَتَ نون الرفع ف «أَلاَّ» بالتشديد أو التخفيف للتحضيض، وقد تكون المخففة للعرض أيضاً نحو أَلاَ تنزلُ عندنا فتحدَّثُ، وفي حرف عبد الله أيضاً ﴿أَلاَ هَلْ تَسْجُدُونَ﴾ بالخطاب. قوله: ﴿الذي يُخْرِجُ الخبء﴾ يجوز أن يكون مجرور المحل نعتاً «للَّه» أو بدلاً منه أو بياناً، و «منصوبة على المدح، ومرفوعة على خبر ابتداءٍ مضمر. و» الخَبْءَ «مصدر خَبَأْتُ الشيء أَخْبَؤُهُ خَبْئاً أي: سَتَرَْتُهُ، ثم أطلِقَ على الشيء المَخْبُوءِ وَنَحْوُهُ ﴿هذا خَلْقُ الله﴾ [لقمان: ١١] قال المفسرون: الخَبْء في السَّمواتِ المطر، وفي الأرض النبات، والخَابِيَةُ من هذا إلاَّ أَنَّهُم التزموا فيها ترك الهمزة كالبَريَّة والذّريّة عند بعضهم. وقيل: الخبء الغيب أي: يعلم
147
غيب السموات والأرض، وقرأ أبيّ وعيسى» الخَبَ «بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة فيصير نحو: رأيت لَبَ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار» الخَبَا «بألفٍ صريحةٍ، وجهها أنه أبدل الهمزة ألفاً فلزم تحريك الباء، وذلك على لغة مَنْ يقف من العرب بإبدال الهمزة حرفاً يجانس حركتها، فيقول: هذا الخَبُو، ورأيت الخبا، ومررت بالخبي، ثم أُجْرِي الوَصْلُ مَجْرَى الوقْفِ، وقيل: إنه لمَّا نَقَلَ حركة الهمزة إلى الساكن قبلها لم يحذفها بل تركها، فَسَكَنَتْ بعد فتحةٍ فَدُبِرَتْ بحركة ما قبلها وهي لغة ثابتة، يقولون: المرأة والكماة بألف مكان الهمزة بهذه الطريقة، وقد طعن أبو حاتم على هذه القراءة وقال: لا يجوز في العربية، لأَنَّه إن حذف الهمزة أَلْقَى حركتها على الباء، فقال الخَبَ، وإن حوَّلَها قال الخَبْي، بسكون الباء وياء بعدها.
قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، لم يَلْحَقْ بهم إلاَّ أنه إذا خرج من بلدهم لم يلق أَعْلَم منه.
قوله: «في السَّماوَاتِ»
فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «الخَبْءَ»، أي؛ المَخْبُوءُ في السموات.
والثاني: أنه متعلق ب «يُخْرِجُ» على أنَّ معنى (في) بمعنى (مِنْ)، أي: يخرجه من السموات، و «مِنْ» و «فِي» يتعاقبان، يقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم، أي منكم - قاله الفراء -، وقرأ عبد الله: ﴿يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّماواتِ﴾.
قوله: «مَا تُخْفُونَ» قرأ الكسائي وحفص بالتاء من فوق فيهما، والباقون بالياء
148
من تحت، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي، لأن ما قبله أَمرهُمْ بالسجود وخطابهم به والغيبة على قراءة الباقين غير حفص ظاهرة أيضاً، لتقدم الضمائر الغائبة في قوله: «لَهُمْ»، و «أَعْمَالَهُمْ» و «صَدَّهُمْ» و «فَهُمْ» وأما قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أَتَمَّ قصة أهل سبأ، ويجوز أن يكون التفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر، فخاطبه ملتفتاً إليه.
وقال ابن عطية: القراءة بيان الغيبة تُعْطِي أَنَّ الية من كلام الهدهد، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله لأُمّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد تقدم أن الظاهر أنه من كلام الهدهد مطلقاً.
149
قوله :«عذاباً »، أي تعذيباً، فهو اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد ك ﴿ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾ [ نوح : ١٧ ]، وقد كتبوا :«أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ » بزيادة ألف بين لام ألف والذال، ولا يجوز أن تُقْرَأ بها، وهذا كما تقدم أنهم كتبوا :﴿ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٧ ] بزيادة ألف بين لام ألف والواو١.
قوله :«أو لَيَأْتِينِّي »، قرأ ابن كثير بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية، وهذا هو الأصل، واتبع مع ذلك رسم مصحفه، والباقون بنون مشددة فقط٢، والأظهر أنها نون التوكيد الشديدة، توُصِّلَ بكسرها لياء المتكلم، وقيل : بل هي نون التوكيد الخفيفة أدغمت في نون الوقاية، وليس بشيء لمخالفة الفعلين قبله، وعيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة لم يصلها بالياء٣.

فصل :


قال المفسرون : معنى الآية : ما للهدهد لا أراه، تقول العرب : مالي أراك كئيباً ؟ فقال : ما لي لا أرى الهدهد، على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه، ثم أدركه الشك في غيبته فقال : أم كان من الغائبين، يعني أكان من الغائبين ؟ والميم صلة٤، وقيل : أم بمعنى بل، ثم أوعد على غيبته، فقال :﴿ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ﴾، فقيل : بنتف ريشه ووضعه لهوام الأرض، وقيل : بحبسه في القفص، وقيل : بأن يفرق بينه وبين إلفه، وقيل : بحبسه مع ضده، ﴿ أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ حُجَّة ظاهرة٥.
١ انظر تأويل مشكل القرآن (٥٨)..
٢ السبعة(٤٧٩)، الكشف ٢/١٥٤-١٥٥، النشر(٣٣٧)، الإتحاف(٣٣٥)..
٣ قال ابن خالويه: (أو ليأتينَّن بسلطان عيسى بن عمر) المختصر(١٠٨-١٠٩) وما ذكره المؤلف في البحر المحيط ٧/٦٥..
٤ انظر البغوي ٦/٢٦٩..
٥ المرجع السابق ٦/٢٧٠..
قوله :«فَمَكَثَ » قرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها١، وهما لغتان، إلا أن الفتح أشهر، ولذلك جاءت الصفة٢ على ماكث، دون مكيث٣، واعتذر عنه بأن فاعلاً قد جاء لفَعُل بالضم، نحو : حَمُضَ فهو حامض، وخَثُر فهو خاثر، وفَرُهَ فهو فاره.
قوله :«غَيْرَ بعِيدٍ »، يجوز أن يكون صفة للمصدر، أي مكثاً غير بعيد، وللزمان أي : زماناً غير بعيد٤، وللمكان أي : مكاناً غير بعيد٥، والظاهر أن الضمير في مكث للهدهد٦، وقيل : لسليمان٧ - عليه السلام٨ - فقال :﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾، والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته، يقول : علمت ما لم تعلم، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك.
قوله :«مِنْ سَبَأ »، قرأ البزِّيّ٩، وأبو عمرو بفتح الهمزة١٠، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة، فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، وعليه قوله :
٣٩٤٦ - مِنْ سَبَأَ الحَاضِرِينَ مَأْربَ إِذْ يَبْنُونَ مِنْ دُون سَيْلِهِ العَرِمَا١١
وقرأ قُنْبُل بسكون الهمزة١٢، كأنه نوى الوقف وأجرى الوصل مجراه، والباقون بالجر والتنوين١٣، جعلوه اسماً للحيِّ أو المكان، وعليه قوله :
٣٩٤٧ - الوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الجَوَامِيسِ١٤
وهذا الخلاف جارٍ بعينه في سورة سبأ١٥.
وفي قوله :﴿ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ ﴾ فيه من البديع التجانس، وهو : تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف١٦ كهذه الآية، ومثله :﴿ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ﴾١٧.
وفي الحديث :«الخَيْلُ مَعْقُود بِنَواصِيهَا الخَيْرُ »١٨، وقال آخر :
٣٩٤٨ - لِلَّهِ مَا صَنَعَتْ بِنَا تِلْكَ المَعَاجِرُ وَالمَحَاجِرْ١٩
وقال الزمخشري : وقوله ﴿ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ ﴾ من جنس الكلام الذي سماه المحدثون٢٠ البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو يصنعه عالم بجوهر هذا الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هنا زائداً على الصحة، فحسن وبدع لفظاً ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان :«بنبأ » :«بخبر » لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال٢١.
يريد بالزيادة : أن النبأ أخص من الخبر، لأنه لا يقال إلا فيما له شأن من الأخبار، بخلاف الخبر، فإنه يطلق على ما له شأن، وعلى ما لا شأن له، فكلّ نبأ خبر من غير عكس. وبعضهم يعبر عن نحو :﴿ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ ﴾ في علم البديع بالترديد، قاله صاحب التحرير٢٢، وقال غيره٢٣ : إن الترديد عبارة عن رد أعجاز البيوت على صدورها، أو ردّ كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، فمثال الأول قوله :
٣٩٤٩ - سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ العَمِّ يَلْطمُ وَجْهَهُ وَلَيْسَ إلَى دَاعِي الخَنَا بِسَرِيعِ٢٤
ومثال الثاني قوله :
٣٩٥٠ - وَاللَّيَالِي إِذَا نَأَيْتُمْ طِوَالٌ واللَّيَالِي إذَا دَنَوْتُمْ قِصَارُ٢٥
وقرأ ابن كثير في رواية :«مِنْ سباً » مقصوراً منوناً٢٦، وعنه أيضاً :«مِنْ سَبْأَ » بسكون الباء وفتح٢٧ الهمزة٢٨، جعله على فَعْل ومنعه من الصرف٢٩، لما تقدم. وعن الأعمش :«من سَبَإِ » بهمزة مكسورة غير منونة٣٠، وفيها إشكال ؛ إذ لا وجه للبناء، والذي يظهر أن تنوينها لا بد وأن يقلب ميماً وصلاً، ضرورة ملاقاته للباء، فسمعها الراوي ؛ فظن أنه كسر من غير تنوين٣١. وروي عن أبي عمرو :«مِنْ سَبَا » بالألف صريحة٣٢، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا٣٣. وكذلك قرئ «بِنَبَا » بألف خالصة٣٤، وينبغي أن يكونا لقارئ واحد٣٥ وسبأ في الأًصل : اسم رجل من قحطان، واسمه : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسبأ لقلب له، وإنما لقلب به : لأنه أول من سبأ٣٦.
١ السبعة (٤٨٠)، الكشف ٢/١٥٥، النشر(٣٣٦)، الإتحاف (٣٣٥)..
٢ يقصد اسم الفاعل من هذا الفعل..
٣ انظر الكشف ٢/١٥٥..
٤ انظر البيان ٢/٢٢٠..
٥ انظر التبيان ٢/١٠٠٦..
٦ انظر البحر المحيط ٧/٦٥..
٧ انظر تفسير ابن عطية ١١/١٩٠، القرطبي ١٣/١٨٠..
٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٩ في الأصل: اليزيدي..
١٠ السبعة (٤٨٠)، الكشف ٢/١٥٥، النشر (٣٣٧)، الإتحاف (٣٣٥)..
١١ البيت من بحر المنسرح، قاله النابغة الجعدي، وهو في الكتاب ٣/٢٥٣، الكشاف ٣/١٣٩، تفسير ابن عطية ١١/١٩١، الإنصاف ٢/٥٠٢، القرطبي ١٣/١٨١، اللسان (سبأ، عرم)..
١٢ السبعة(٤٨٠)، الكشف ٢/١٥٥، النشر (٣٣٧)، الإتحاف (٣٣٥-٣٣٦)..
١٣ السبعة(٤٨٠)، الكشف ٢/١٥٥، النشر (٣٣٧)، الإتحاف (٣٣٥-٣٣٦)..
١٤ البيت من بحر البسيط، قاله جرير في هجاء عمرو بن لجأ التيمي، وهو في معاني القرآن للفراء ٢/١٣٩، تفسير ابن عطية ١١/١٩١، أمالي ابن الشجري ٢/٣٨، ٣٤٣، القرطبي ١٣/١٨١، البحر المحيط ٧/٦٦ معنى: (عض أعناقهم جلد الجواميس): أن الجلود المصنوعة من جلد الجواميس قد أثرت في أعناقهم.
والشاهد فيه هنا أن (سبأ) جعل اسما للحي أو المكان، ولهذا صرف..

١٥ يشير إلى قوله تعالى: ﴿لقد كان لسبأ في مسكنهم آية﴾[سبأ: ١٥]..
١٦ انظر الإيضاح (٣٩٦-٣٩٧)..
١٧ [غافر: ٧٥]..
١٨ أخرجه البخاري (مناقب) ٢/٦٨٣، مسلم (زكاة) ٢/٦٨٣، (إمارة) ٣/١٤٩٢-١٤٩٣، أبو داود (جهاد) ٢/٩٣٣. ومالك (جهاد) ٢/٤٦٧، أحمد ٣/٣٩، ٥/١٨١..
١٩ البيت من مجزوء الكامل، لم أهتد إلى قائله، وهو في البحر المحيط ٧/٦٦. المعاجر: جمع معجر: وهو غطاء الرأس من المرأة والعمامة من الرجل. والمحاجر: جمع محجر- بكسر الميم وفتحها-: ما دار بالعين وظهر من البرقع من جميع العين. والشاهد فيه قوله: (المعاجر والمحاجر) فإنه جناس تصريف لاختلاف اللفظين في حرف واحد..
٢٠ في النسختين: النحويون. والتصويب من الكشاف..
٢١ الكشاف ٣/١٣٩..
٢٢ انظر البحر المحيط ٧/٦٦، وكتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير من جمع الشيخ جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان نن حسن بن حسين المقدسي، عرف بابن النقيب-رحمه الله تعالى- هو أحد مصادر أبي حيان في كتابه البحر المحيط..
٢٣ هو صاحب كتاب التفريع بفنون البديع. انظر البحر المحيط ٧/٦٦..
٢٤ البيت من بحر الطويل، قاله الأقيشر الأسدي، وهو في الإيضاح للقزويني (٤٠٠)، البحر المحيط ٧/٦٦، معاهد التنصيص ٢/٨٢، الخزانة ٤/٤٨٨. ويروى: إلى داعي الندى. والخنا: من قبيح الكلام. والشاهد فيه رد العجز على الصدر، وهو قوله: (سريع.... بسريع)..
٢٥ البيت من بحر الخفيف، ولم أهتد إلى قائله، وهو في البحر المحيط ٧/٦٦..
٢٦ المختصر (١٠٩)، البحر المحيط ٧/٦٦..
٢٧ في ب: وبفتح..
٢٨ ذكره أبو معاذ. انظر المختصر (١٠٩)، البحر المحيط ٧/٦٦..
٢٩ قال أبو حيان: (بناه على فعلى فامتنع من الصرف للتأنيث اللازم) البحر المحيط ٧/٦٦..
٣٠ المختصر (١٠٩)، تفسير ابن عطية ١١/١٩١..
٣١ قال أبو حيان: ( يصعب توجيهها) البحر المحيط ٧/٦٦..
٣٢ قال أبو حيان: (وروى ابن حبيب عن اليزيدي "من سبا" بألف ساكنة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا) البحر المحيط ٧/٦٦..
٣٣ مجمع الأمثال للميداني ٢/٤..
٣٤ انظر البحر المحيط ٧/٦٦..
٣٥ في النسختين: واحد. والصواب ما أثبته..
٣٦ انظر البحر المحيط ٧/٦٦..
قوله :﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ ﴾ لما قال الهدهد لسليمان :﴿ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾، قال سليمان : وما ذاك ؟ قال :﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ ﴾ وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن من نسل يعرب بن قحطان، وكان ملكاً عظيم الشأن، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها : ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها، وفي الحديث :«إن أحد أبوي بلقيس كان جنِّياً » وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس١، والضمير في «تملكهم » راجع إلى «سبأ »، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريد المدينة فمعناه : تملك٢ أهلها٣، ( قال عليه السلام لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى :«لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة » )٤ ٥.
قوله :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على «تَمْلِكُهُمْ »، وجاز عطف الماضي على المضارع، ( لأن المضارع )٦ بمعناه، أي : ملكتهم، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من مرفوع «تملكهم ». و «قَدْ » معها مضمرة٧ عند من يرى ذلك.
وقوله :﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ عام مخصوص بالعقل ؛ لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان. قوله :«وَلَهَا عَرْشٌ » يجوز أن تكون هذه جملة مستقلة بنفسها سيقت للإخبار بها، وأن تكون معطوفة على «أُوتِيَتْ »، وأن تكون حالاً من مرفوع «أُوتِيَتْ »، والأحسن أن يجعل الحالَ الجارُّ، «وعَرْشٌ » مرفوع به، وبعضهم يقف على «عَرْشٌ » ويقطعه عن نعته. قال الزمخشري : ومن نَوْكى٨ القُصَّاصِ من يقف على قوله :«وَلَهَا عَرْشٌ »، ثم يبتدئ، «عَظِيمٌ وَجَدْتها »، يريد : أمرٌ عظيم أَنْ وجدتها، فرَّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيم، وهي مسخ كتاب الله٩.
قال شهاب الدين : النَّوكَى : الحمقى جمع أَنْوَك وهذا الذي ذكره من أمر الوقف نقله الدّاني١٠ عن نافع١١ وقرره أبو بكر بن الأنباري ورفعه إلى بعض أهل العلم١٢، فلا ينبغي أن يقال ( نَوْكَى القُصَّاص )، وخرجه الداني على أن يكون «عَظِيمٌ » مبتدأ، و «وَجَدْتُهَا » الخبر١٣، وهذا خطأ، كيف يبتدئ بنكرة من غير مسوِّغ، ويخبر عنها بجملة لا رابط بينها وبينه، والإعراب ما قاله الزمخشري من أن عظيماً١٤ صفة لمحذوف خبراً مقدماً، و «وَجَدْتُهَا » مبتدأ مؤخراً مقدراً معه حرف مصدري أي : أمر عظيم وجداني إياها وقومها غير عابدي الله١٥.
١ انظر البغوي ٦/٢٧٣..
٢ في ب: ملك..
٣ انظر الكشاف ٣/١٣٩..
٤ أخرجه البخاري ٤/٢٢٨، النسائي (قضاة) ٨/٢٢٧..
٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ انظر التبيان ٢/١٠٠٧..
٨ النوكى: الحمقى. اللسان (نوك)..
٩ الكشاف ٣/١٤٠..
١٠ في ب: الثاني. وهو تحريف..
١١ انظر المكتفى في الوقت والابتدا (٤٢٧)..
١٢ انظر إيضاح الوقف والابتداء ٢/٨١٥-٨١٦..
١٣ انظر المكتفى في الوقت والابتدا (٤٢٨) وفيه: قال المقرئ أبو عمرو: فيرتفع قوله: "عظيم" على هذا المذهب بالابتداء، والخبر في قوله "وجدتها"..
١٤ في ب: عظيم..
١٥ الدر المصون ٥/١٨٧، وانظر الكشاف ٣/١٤٠..
قوله :«وَجَدْتُهَا »، هي التي بمعنى١ لقيت وأصبت، فيتعدى لواحد، فيكون «يَسْجُدُونَ » حالاً من مفعولها وما عطف عليه، فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان، وأيضاً : فكيف سوَّى بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم ؟.
فالجواب عن الأول : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها٢ ذلك العرش ويجوز أن يكون لسليمان - مع جلالته - مثله كما قد يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله للسلطان.
وعن الثاني : أنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، وَوَصْفُ عرشِ اللَّهِ بالعظم تعظيمٌ له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض٣.
قال المفسرون : العرش السرير الضخم كان مضروباً من الذهب مكلّلاً بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق٤.
قال ابن عباس : كان عرشها ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً٥. واعلم أن قوله :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم ﴾ إن قلنا : إنه من كلام الهدهد، فالهدهد قد استدرك على نفسه، واستقلّ عرشها بالنسبة إلى عظمة عرش الله، وإن قلنا : إنه من كلام الله تعالى، فالله رد عليه استعظامه لعرشها٦.

فصل :


طعنت الملاحدة في هذه القصة من وجوه :
أحدها : أَنَّ هذه الآيات اشتملت على أنَّ النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك إلاَّ عن العقلاء وذلك يجر إلى السَّفْسَطَة٧، فإنَّا لو جوَّزنا ذلك لما أمِنّا من النملة التي نشاهدها في زماننا هذا٨ أَنْ تكون أعلم بالهندسة من إقليدس٩، وبالنحو من سيبويه، وكذا القول في القملة والضئبان١٠، ولجوزنا أن يكون فيهم الأنبياء والمعجزات والتكاليف، ومعلوم أنَّ مَنْ جوّزه كان إلى الجنون١١ أقرب.
وثانيها : أنَّ سليمان - عليه السلام١٢ - كان بالشام، فكيف طار١٣ الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن، ثم رجع إليه ؟.
وثالثها : كيف خفي على سليمان ( عليه السلام )١٤ تلك المملكة العظيمة مع أنَّ الجن والإنس كانوا في طاعته، وأنه - عليه السلام١٥ - كان ملك الدنيا كلها، وكان تحت طاعة بلقيس - على ما يقال - اثنا عشر ألف تحت يد كل واحد منهم مائة ألف، مع ما يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلاَّ مسيرة ثلاثة أيام ؟.
رابعها : من أين حصل للهدهد إنكار سجودهم للشمس وإضافته للشيطان وتزيينه ؟.
والجواب عن الأول : أنّ ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع١٦. وعن البواقي : أنَّ الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك١٧.

فصل١٨ :


قالت١٩ المعتزلة : قوله ﴿ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ ﴾ يدل على أنَّ فعل العبد من جهته، لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم، وأورده مورد الذم، وبين أنهم لا يهتدون.
والجواب من جوه :
أحدها : أَنَّ هذا قول الهدهد فلا يكون حجة.
وثانيها : أنه متروك الظاهر : فإنه٢٠ قال :﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل ﴾، وعندكم الشيطان، فإنه ما صدّ الكافر عن السبيل، إذ لو صدّه الشيطان عن السبيل لكان معذوراً ممنوعاً، فيسقط عنه التكليف فلم يبق إلاَّ التمسك بالمدح والذم، وجوابه قد تقدم٢١.
١ بمعنى: سقط من ب..
٢ لها: سقط من ب..
٣ انظر الكشاف ٣/١٣٩-١٤٠، الفخر الرازي ٢٤/١٩٠..
٤ انظر البغوي ٦/٢٧٣-٢٧٤..
٥ انظر البغوي ٦/٢٧٤..
٦ انظر البحر المحيط ٧/٧٠..
٧ السفسطة: قياس مركب من الوهميات، والغرض منه إفحام الخم وإسكاته (من اليونانية). المعجم الوسيط (سفسط)..
٨ هذا: سقط من ب..
٩ إقليدس وهو رياضي يوناني، علم في الإسكندرية، وضع مبادئ الهندسة المسطحة. المنجد في الأعلام (٥٨)..
١٠ الضئب: من دواب الحر. الضؤبان من الجمال: السمين الشديد. المعجم الوسيط (ضأب)..
١١ في ب: الجواب. وهو تحريف..
١٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٣ في ب: صار..
١٤ ما بين القوسين سقط من ب..
١٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٦ في ب: الإجماع..
١٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٩٠-١٩١..
١٨ فصل: سقط من ب..
١٩ في ب : فإن قيل..
٢٠ في ب: كأنه..
٢١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٩١..
قوله :«ألاَّ يَسْجُدُوا » قرأ الكسائي بتخفيف «أَلاَ »، والباقون بتشديدها١، فأمَّا قراءة الكسائي، «أَلاَ » فيها تنبيه واستفتاح، و «يَا » بعدها حرف نداء، أو تنبيه أيضاً على ما سيأتي، و «اسْجُدُوا » : فعل أمرٍ، فكان٢ حق الخط على هذه القراءة أن يكون يَا اسجُدُوا، ولكن الصحابة أسقطوا ألف «يَا » وهمزة الوصل من «اسْجُدُوا » خَطاً لما سقط لَفْظاً، ووصلوا الياء بسين «اسْجُدُوا »، فصارت صورته «يَسْجُدُوا » كما ترى، فاتحدت القراءتان لفظاً وخطّاً٣، واختلفا تقديراً٤. واختلف النحويون في «يَا » هذه، هل هي حرف تنبيه أو للنداء والمنادى محذوف، تقديره : يَا هَؤُلاَءِ اسْجُدُوا، وقد تقدم ذلك عند قوله في سورة النساء :«يَا لَيْتَنِي »٥ والمُرَجَّحُ أَنْ تكون للتنبيه٦، لِئَلاَّ يؤدي إلى حذفٍ كثير من غير بقاءِ ما يدلّ على المحذوف، ألا ترى أنَّ جملة النداء حذفت، فلو ادَّعَيْتَ حَّذْفَ المنَادى كَثُرَ الحذف، ولم يبق٧ معمولٌ يدل على عامله ؛ بخلاف ما إذا جعلتَها للتنبيه.
ولكن عَارَضنا هنا أَنَّ قبلها حرف تنبيه آخر، وهو «أَلا » وقد اعتُذِر عن ذلك بأنه جُمِعَ بينهما تأكيداً، وإذا كانوا قد جمعوا بين حرفين عاملين للتأكيد٨، كقوله :
٣٩٥١ - فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنْنِي عَنْ بِمَا٩ بِهِ١٠ ***. . .
فغير العاملين أولى، وأيضاً فقد جمعوا بين حرفين عاملين مُتّحدي اللفظ١١ والمعنى كقوله :
٣٩٥٢ - فَلاَ وَاللَّهِ لاَ يُلْفَى لِمَا بِي *** وَلاَ لِلما بِهِمْ أَبَداً دَوَاءُ١٢
فهذا أولى، وقد كثر مباشرة «يا » لفعل١٣ الأَمر، وقبلها «أَلاَ » التي للاستفتاح، كقوله :
٣٩٥٣ - أَلاَ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي *** ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِ١٤
وقوله :
٣٩٥٤ - أَلاَ يَا اسْلَمِي يا دَارَ مَيٍّ عَلَى البِلَى *** وَلاَ زالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِكَ القَطْرُ١٥
وقوله :
٣٩٥٥ - أَلاَ يا اسْلَمِي ذَات الدَّمَالِيجِ وَالعُقَد *** وذات اللثاث الحُمِّ والفَاحِمِ الجَعْدِ١٦
وقوله :
٣٩٥٦ - أَلاَ يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ *** وَإِنْ كَانَ حَيَّانا عِدًى آخِرَ الدَّهْرِ١٧
وقوله :
٣٩٥٧ - أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ خَيْلِ أَبِي بَكْر *** لَعَلَّ مَنَايانَا قَرُبنَ ولاَ نَدْرِي١٨
وقوله :
٣٩٥٨ - أَلاَ يا اسْقِيانِي قَبْلَ غَارَةٍ سنجال١٩ ***. . .
[ وقوله :
٣٩٥٩ - فَقَالَتْ أَلاَ يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بخطبةٍ *** وقلتُ سمِعْنَا فَانطِقِي وأَصِيبِي٢٠ ]٢١
وقد جاء ذلك وإن لم يكن قبلها «أَلاَ »، كقوله :
٣٩٦٠ - يا دَارَ هِنْدٍ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي *** بِسَمْسَمٍ أَوْ عَنْ يَمِينِ سَمْسَمِ٢٢
فعلم أنه قراءة الكسائي قوية، لكثرة دَوْرِها في لغتهم، وقد سمع ذلك في النَّثْر، سُمِعَ بَعْضُهم يقول : أَلاَ يَا ارحَمُوني، أَلاَ يا تصدَّقُوا علينا٢٣، وأما قوله :
٣٩٦١ - يَا لَعْنَةُ اللَّهِ والأَقْوَامِ كُلِّهِم *** والصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جِارِ٢٤
فيحتمل أن تكون «يَا » للنداء، والمنادى محذوف، وأن يكون للتنبيه، وهو الأرجح لِمَا مَرَّ. واعلم أَنَّ الوقف عند الكسائي على «يَهْتَدُونَ » تام٢٥، وله أن يقف على «أَلاَ يَا » معاً، ويبتدئ «اسْجُدُوا » بهمزة مضمومة. وله أن يقف على «أَلاَ » وحدها٢٦، وعلى «يَا » وحدها، لأنهما حرفان منفصلان وهذان الوقفان وقفاً اخْتبارٍ لا اختيار، لأنهما حرفان لا يتم معناهما إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراء امتحاناً وبياناً. فهذا٢٧ توجيه قراءة الكسائي٢٨، والخَطْبُ وفيها سهل. وأما قراءة الباقين فتحتاج إلى إِمْعَان٢٩ نظرٍ، وفيها أوجه كثيرة :
أحدها : أنَّ «أَلاَّ » أصلها : أَنْ لا، فأَنْ ناصبة للفعل بعدها، ولذلك سقطت نون الرفع، و «لاَ » بعدها حرفُ نَفْي، وأَنْ وما بعدها في موضع مفعول «يَهْتَدُونَ » على إسقاط الخافض أي : إلى أَنْ لا يسجُدُوا، و «لاَ » مزيدة٣٠ كزيادتها في :﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٩ ]، والمعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا.
الثاني٣١ : أنه بدل من «أَعْمَالَهُمْ »٣٢ وما بينهما اعتراض٣٣ تقديره : وزَيَّنَ لهم الشيطانُ عدم السجود لله.
الثالث : أنه بدل من «السَّبِيلِ » على زيادة «لاَ » أيضاً، والتقدير : فَصَدَّهُمْ عن السجود لله٣٤.
الرابع : أَنَّ٣٥ «أَلاَّ يَسْجُدُوا » مفعولاً له، وفي متعلّقه وجهان :
أحدهما : أنه «زَيَّنَ » أي : زيَّنَ لهم لأجل أَلاَّ يسجدوا.
والثاني : أنها متعلق ب «صَدَّهُمْ »، أي : صَدَّهُمْ لأجل أن لاَ يسجُدُوا، وفي «لاَ » حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنها ليست مزيدة ( بل باقية على معناها من النفي.
والثاني : أنها مزيدة )٣٦ والمعنى : وزيَّنَ لهم لأجل توقعه سجودهم، أو لأجل خوفه من سُجُودهم، وعدم الزيادة أظهر٣٧.
الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر، وهذا المبتدأ إما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على «أَعْمَالَهُمْ »، التقدير هي ألا يسجدوا٣٨، فتكون٣٩ «لاَ » على بابها من النفي، وإما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على «السَّبِيل »، التقدير : هو أن لا يسجدوا، فتكون «لاَ » مزيدة - على ما تقدم - ليصح المعنى.
وعلى الأوجه الأربعة المتقدمة لا يجوز الوقفُ على «يَهْتَدُونَ »، لأنَّ ما بعده إمَّا معمول له أو لِمَا قبله من «زَيَّنَ » و صَدَّ «أو٤٠ بدل مما قبله أيضاً من «أَعْمَالَهُمْ » أو من «السَّبِيل » على ما قُرِّرَ، بخلاف الوجه الخامس، فإنه٤١ مَبنيٌّ على مبتدأ مضمر، وإنْ كان ذلك الضمير مُفَسراً بما سبق قبله، وقد كتبت «أَلاَّ » موصولة غير مفصولة، فلم تُكْتَبْ «أَنْ » منفصلة من «لاَ »، فمن ثَمَّ : امتنع أن يُوقَف هؤلاء في الابتلاء والامتحان على «أَنْ » وحدها، لاتصالها بلا في الكتابة٤٢، بل يُوقَف لهم على «أَلاَّ » بجملتها، كذا قال القُرَّاءُ، والنحويون متى سُئِلوا٤٣ عن مثل ذلك٤٤ وقفوا لأجل البيان على كل كلمةٍ على حدتها. لضرورة البيان، كونها كُتِبَت متصلة ب «لا » غير مانعٍ من ذلك. ثُمَّ قول القُرَّاءِ : كتبت٤٥ متصلة فيه تجوُّزٌ وتسامُح، لأَنَّ حقيقة هذا أن يُثْبِتُوا صورة نُونٍ ويصلونها بلاء، فيكتبونها«أَنْلاَ »، ولكن لما أدغمت فيما بعدها لفظاً، وذهب لفظها إلى لفظ ما بعدها قالوا ذلك تسامحاً. وقد رتَّبَ أبو إسحاق على القراءتين حُكْماً، وهو وجوب سجود التلاوة وعدمه، فَأَوْجَبَهُ مع قراءة الكسائي، وكأنه٤٦ لأجل الأمرِ بِهِ، ولم يوجبه في قراءة الباقين لعدم وجود الأمر فيها٤٧، إِلاَّ أَنَّ الزمخشري لم يرتضه منه٤٨، فإنه قال : فَإِنْ قُلْتَ : أَسَجدةُ التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أو في واحدة منهما ؟ قُلْتُ : هي واجبة فيهما٤٩.
وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك٥٠، وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد مرجوع٥١ إليه.
قال شهاب الدين : وكأن الزجاج أخذ بظاهر الأمر، وظاهره الوجوب وهذا لو خلينا الآية لكان السُّجُودُ واجباً، ولكن دلَّت السنةُ على استحبابه دون وجوبه، على أَنَّا نقول : هذا مبنيٌّ على نظر آخر، وهو أَنَّ هذا الأمر من كلام الله تعالى أو من كلام الهدهد محكيّاً عنه، فإن كان من كلام الله تعالى فيقال : يقتضي الوجوب إلاَّ أَنْ يجيء دليل يصرفه عن ظاهره، وإنْ كان من كلام الهدهد - وهو الظاهر - ففي انتهاضه دليلاً نظر٥٢، وهذا الذي ذكروه ليس بشيء، لأنَّ المراد بالسجود ههنا عبادة الله لا عبادة الشمس، وعبادة الله واجبة وليس المراد من الآية سجود التلاوة، وأين٥٣ كانت التلاوة في زمن سليمان عليه السلام٥٤ ولم يكن ثم قرآن.
وقرأ الأعمش «هَلاَّ » و «هَلاَ » بقلب الهمزة هاء مع تشديد «لاَ » وتخفيفها، وكذا هي في مصحف عبد الله٥٥، ( وقرأ عبد الله )٥٦ «تَسْجُدُونَ » بتاء الخطاب ونون الرفع٥٧، وقرئ كذلك بالياء من تحت٥٨، فَمَنْ أَثْبَتَ نون الرفع ف «أَلاَّ » بالتشديد أو التخفيف للتحضيض، وقد تكون المخففة للعرض٥٩ أيضاً نحو أَلاَ تنزلُ عندنا فتحدَّثُ، وفي حرف عبد الله أيضاً ﴿ أَلاَ هَلْ تَسْجُدُونَ ﴾ بالخطاب٦٠. قوله :﴿ الذي يُخْرِجُ الخبء ﴾ يجوز أن يكون مجرور المحل نعتاً «للَّه » أو بدلاً منه أو بياناً، و٦١ «منصوبة على المدح، ومرفوعة على خبر ابتداءٍ مضمر. و «الخَبْءَ » مصدر خَبَأْتُ الشيء أَخْبَؤُهُ خَبْئاً أي : سَتَرَْتُهُ٦٢، ثم أطلِقَ على الشيء المَخْبُوءِ وَنَحْوُهُ ﴿ هذا خَلْقُ الله ﴾٦٣ [ لقمان : ١١ ] قال المفسرون : الخَبْء في السَّمواتِ المطر، وفي الأرض النبات٦٤، والخَابِيَةُ٦٥ من هذا إلاَّ أَنَّهُم التزموا فيها ترك الهمزة كالبَريَّة والذّريّة عند بعضهم٦٦. وقيل : الخبء الغيب أي : يعلم غيب السموات والأرض٦٧، وقرأ أبيّ وعيسى«الخَبَ٦٨ » بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة فيصير نحو : رأيت لَبَ٦٩، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار «الخَبَا » بألفٍ صريحةٍ٧٠، وجهها أنه أبدل الهمزة ألفاً فلزم تحريك الباء، وذلك على لغة مَنْ يقف من العرب بإبدال الهمزة حرفاً يجانس حركتها، فيقول : هذا الخَبُو٧١، ورأيت الخبا، ومررت بالخبي٧٢، ثم أُجْرِي الوَصْلُ مَجْرَى الوقْفِ٧٣، وقيل : إنه لمَّا نَقَلَ حركة الهمزة إلى الساكن قبلها لم٧٤ يحذفها بل تركها، فَسَكَنَتْ بعد فتحةٍ فَدُبِرَتْ بحركة ما قبلها وهي لغة ثابتة، يقولون : المرأة والكماة بألف مكان الهمزة بهذه الطريقة٧٥. وقد طعن أبو حاتم على هذه القراءة وقال٧٦ : لا يجوز في العربية، لأَنَّه إن حذف الهمزة أَلْقَى٧٧ حركتها على الباء، فقال الخَبَ، وإن حوَّلَها قال الخَبْي، بسكون الباء وياء بعدها٧٨.
قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، لم يَلْحَقْ بهم إلاَّ أنه إذا خرج من بلدهم لم يلق أَعْلَم منه٧٩.
قوله :«في السَّماوَاتِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب «الخَبْءَ »، أي ؛ المَخْبُوءُ في السموات٨٠.
والثاني : أنه متعلق ب «يُخْرِجُ » على أنَّ معنى ( في ) بمعنى ( مِنْ )، أي : يخرجه من السموات، و «مِنْ » و «فِي » يتعاقبان٨١، يقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم، أي منكم - قاله الفراء٨٢ -، وقرأ عبد الله :﴿ يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّماواتِ ﴾٨٣.
قوله :«مَا تُخْفُونَ » قرأ الكسائي وحفص بالتاء من فوق فيهما٨٤، والباقون بالياء من تحت٨٥، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي، لأن ما قبله أَمرهُمْ بالسجود وخطابهم به والغيبة على قراءة الباقين غير حفص ظاهرة أيضاً، لتقدم الضمائر الغائبة في قوله :«لَهُمْ »، و «أَعْمَالَهُمْ » و «صَدَّهُمْ » و «فَهُمْ » وأما قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أَتَمَّ قصة أهل سبأ، ويجوز أن يكون التفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر،
١ السبعة (٤٨٠)، الكشف ٢/١٥٦، النشر ٢/٣٣٧، الإتحاف (٣٣٦)..
٢ في ب: كان..
٣ في ب: خطًّا ولفظاً..
٤ انظر الكشف ٢/١٥٧-١٥٨، البحر المحيط ٧/٦٨..
٥ من قوله تعالى: ﴿يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً﴾ من الآية (٧٣)..
٦ وهو قول الأخفش. انظر المعاني ٢/٦٤٩، ورجحه أبو حيان. البحر المحيط ٧/٦٩..
٧ يبق: سقط من ب..
٨ انظر البحر المحيط ٧/٦٩..
٩ في ب: با. وهو تحريف..
١٠ صدر من بيت من بحر الطويل، وقد تقدم؛ قاله الأسود بن يعفر، وعجزه:
أصعَّد في علو الهوى أم تصوَّبا..

١١ في ب: الملفظ..
١٢ البيت من بحر الوافر. قاله مسلم بن معد الوالبي، وقد تقدم..
١٣ في ب: مباشرة بالفعل..
١٤ البيت م بحر الطويل، ويعزى لحميد بن ثور الهلالي، وهو في ملحق ديوانه (١١٣)، ابن يعيش ٣/٣٩..
١٥ البيت من بحر الطويل، قاله ذو الرمة وهو في ديوانه ٢٩٠، مجاز القرآن ٢/٩٤، معاني القرآن للأخفش ٢/٦٤٩، أمالي ابن الشجري ٢/١٥١، تفسير ابن عطية ١١/١٩٥، القرطبي ١٣/١٨٧، الإنصاف ١/١٠٠، البحر المحيط ٧/٦٩، المغني ١/٢٤٣، المقاصد النحوية ٢/٦، التصريح ١/١٨٥، الهمع ١/١١١، ٢/٤، ٧٠، شرح شواهد المغني ٢/٦١٧، الأشموني ١/٣٧، ٢٢٨، الدرر ١/٨١، ٢/٢٣، ٨٦..
١٦ البيت من بحر الطويل، لم أهتد لقائله، وهو في البحر المحيط ٧/٦٨..
١٧ البيت من بحر الطويل، قاله الأخطل، وهو في ديوانه ١٥٠ مجاز القرآن ٢/٩٤، معاني القرآن للفراء ٢/٢٩٠، أمالي ابن الشجري ٢/١٥١، ١٥٣، تفسير ابن عطية ١١/١٩٥، اللسان (عدا)، البحر المحيط ٧/٦٩، ابن يعيش ٢/٢٤..
١٨ البيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله، وهو في البحر المحيط ٧/٦٩..
١٩ صدر بيت من بحر الطويل، قاله الشماخ بن ضرار، وعجزه:
وقبل منايا قد حضرن وآجال
وهو في ملحق ديوانه (٤٥٦) برواية:
ألا يا أصيحابي قبل غارة سنجال *** وقبل منايا باكرات وآجال.
وهو في الكتاب ٤/٢٢٤، المقرب (٧٥)، ابن يعيش ٨/١١٥، معجم البلدان (سنجل)، اللسان (سنجل)، البحر المحيط ٧/٦٨، المغني ٢/٣٧٣، شرح شواهده ٢/٧٩٦. سنجال: قرية بأرمينية، وقيل: بأذربيجان..

٢٠ البيت من بحر الطويل، قال النمر بن تولب، ويروى: (نعظك بخطة) بدل (أعظك بخطبة)، (سمعياً) بدل (سمعنا). وهو في معاني القرآن ٢/٤٠٢، ونوادر أبي زيد (١٩٢)، الكشف ٢/١٥٨، الإنصاف ١/١٠٢، أمالي ابن الشجري ١/١٥١، تفسير ابن عطية ١١/١٩٦ البحر المحيط ٧/٦٩..
٢١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٢ رجز قاله الزجاج، وقيل: رؤبة. وروي: يا دار سلمى. وهو في مجاز القرآن ٢/٩٤، الخصائص ٢/١٦٩، الإنصاف ٢/١٠٢، ابن يعيش ١٠/١٣، اللسان (سمم)، شرح شواهد الشافية ٤/٤٢٨..
٢٣ قال الفراء: (وسمعت بعض العرب يقول: ألا يا ارحمانا، ألا يا تصدقا علينا. قال: يعنيني وزميلي) معاني القرآن ٢/٢٩٠. وانظر البحر المحيط ٧/٦٩..
٢٤ البيت من بحر البسيط مجهول القائل، وقد تقدم..
٢٥ انظر منار الهدي في بيان الوقف والابتدا (٢٨٤)..
٢٦ انظر الكشاف ٣/١٤٠..
٢٧ في ب: فهنا..
٢٨ انظر إبراز المعاني (٤٢٣-٤٢٤)..
٢٩ في ب: ادوان. وهو تحريف..
٣٠ انظر الكشف ٢/١٥٧، مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٧، البيان ٢/٢٢١، التبيان ٢/١٠٠٧، البحر المحيط ٧/٦٨..
٣١ في ب: والثاني..
٣٢ انظر الكشف ٢/١٥٧، مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٧، البيان ٢/٢٢١، التبيان ٢/١٠٠٧، البحر المحيط ٧/٦٨..
٣٣ انظر البحر المحيط ٧/٦٨..
٣٤ انظر الكشف ٢/١٥٨، مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٧، البيان ٢/٢٢١، التبيان ٢/١٠٠٧..
٣٥ أن: سقط من ب..
٣٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٧ انظر الحر المحيط ٧/٦٨..
٣٨ انظر البيان ٢/١٠٠٧..
٣٩ في ب: فكيف يكون. وهو تحريف..
٤٠ أو: سقط من ب..
٤١ في ب: أنه..
٤٢ في ب: الكفارة. وهو تحريف..
٤٣ في ب: بيبسلوا. وهو تحريف..
٤٤ انظر إبراز المعاني (٤٢٢-٤٢٣)..
٤٥ كتبت: سقط من ب..
٤٦ في ب: كأنه..
٤٧ قال الزجاج: (ومن قرأ بالتخفيف فهو موضع سجدة من القرآن، ومن قرأ "ألا يسجدوا"- بالتشديد- فليس بموضع سجدة) معاني القرآن وإعرابه ٤/١١٥، وسبق إلى ذلك الفراء فإنه قال: (ومن قرأ "ألا يسجدوا" فشدد فلا ينبغي لها أن تكون سجدة، لأن المعنى: زين لهم الشيطان ألا يسجدوا، والله أعلم بذلك) معاني القرآن ٢/٢٩٠..
٤٨ في ب: فيه..
٤٩ في الكشاف: فيهما جميعا، لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها..
٥٠ الكشاف ٣/١٤٠، وبين هذه العبارة والعبارة التالية في الكشاف: وقد اتفق أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله على أن سجدات القرآن أربع عشرة، وإنما اختلف في سجدة (ص) فهي عند أبي حنيفة سجدة تلاوة وعند الشافعي سجدة شكر، وفي سجدتي سورة الحج..
٥١ الكشاف ٣/١٤٠..
٥٢ الدر المصون ٥/١٩٠..
٥٣ في ب: وأن. وهو تحريف..
٥٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٥٥ المختصر (١٠٩)، الكشاف ٣/١٤٠، تفسير ابن عطية ١١/١٩٦-١٩٧، البحر المحيط ٧/٦٨..
٥٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٧ معاني القرآن للفراء ٢/٢٩٠، الكشاف ٣/١٤٠، البحر المحيط ٧/٦٨..
٥٨ وهي قراءة الأعمش. انظر البحر المحيط ٧/٦٨..
٥٩ والعرض والتحضيض معناهما: طلب الشيء، لكن العرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحث، وتختص (ألا) هذه بالفعلية. انظر المغني ١/٦٩-٧٤..
٦٠ تفسير ابن عطية ١١/١٩٧، البحر المحيط ٧/٦٨..
٦١ في ب: أو..
٦٢ انظر اللسان (خبأ)..
٦٣ أي: مخلوقة، فالمصدر بمعنى اسم المفعول..
٦٤ انظر البغوي ٦/٢٧٤..
٦٥ الخابية: الحبًّ، أصلها الهمز من خبأت، إلا أن العرب تركت همزه، قال أبو منصور: تركت العرب الهمز في أخبيت وخبَّيت وفي الخابية، لأنها كثرت في كلامهم، فاستثقلوا الهمز فيها. انظر اللسان (خبأ)..
٦٦ انظر لسان العرب (برأ)..
٦٧ انظر معاني القرآن ٢/٢٩١، البغوي ٦/٢٧٤..
٦٨ المختصر (١٠٩)، تفسير ابن عطية ١١/١٩٧، البحر المحيط ٧/٦٩..
٦٩ في النسختين: الأب..
٧٠ المختصر (١٠٩)، تفسير ابن عطية ١١/١٩٧، البحر المحيط ٧/٦٩..
٧١ في ب: الخبأ. وهو تحريف..
٧٢ انظر شرح الشافية ٢/٣١٢-٣١٣..
٧٣ انظر الكشاف ٣/١٤٠، البحر المحيط ٧/٤٨..
٧٤ في ب: ولم..
٧٥ انظر الكتاب ٣/٥٤٥، وشرح الشافية ٣/٤١، والبحر المحيط ٧/٦٩..
٧٦ في ب: فقال..
٧٧ في ب: التي. وهو تحريف..
٧٨ انظر إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٠٧، القرطبي ١٣/١٨٨، البحر المحيط ٧/٦٩..
٧٩ المراجع السابقة..
٨٠ واستظهره أبو حيان: انظر البحر المحيط ٧/٦٩..
٨١ في ب: متعاقبان يخرج..
٨٢ قال الفراء: (وهي في قراءة عبد الله "يخرج الخبء من السموات" وصلحت (في) مكان (من) لأنك تقول: لأستخرجن العلم الذي فيكم منكم، ثم تحذف أيهما شئت أعني: (من) و(في) فيكون المعنى قائما على حاله) معاني القرآن ٢/٢٩١..
٨٣ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٩١..
٨٤ في ب: فيها. والمقصود بقوله (فيهما) :"تخفون، وتعلنون"..
٨٥ السبعة(٤٨١)، الكشف ٢/١٥٨، النشر ٢/٣٣٧، الإتحاف(٣٣٦)..
قوله تعالى: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ هل هو من كلام الهدهد استدراكاً منه لمَّا وصف عرش بلقيس بالعظم، أو من كلام الله تعالى رَدّاً عليه في وصفه عرشها بالعظم. والعامة على جر «العَظِيمِ» تابعاً للجلالة، وابن محيصن، بالرفع وهو يحتمل وجهين: أن يكون نعتاً للربّ، وأن يكون مقطوعاً عن تبعيَّةِ «العرش» إلى الرفع بإضمار مبتدأ.

فصل


دلّ قوله: ﴿يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض﴾ [النمل: ٢٥] (على كمال القدرة، وسمي المخبوء بالمصدر ليتناول جميع الأرزاق والأموال، فدلَّ قوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النمل: ٢٥] على كمال العلم، وإذا كان قادراً على كل المقدرات عالماً بكل المعلومات، وجب أن يكون إلهاً، والشمس ليست كذلك، فلا تكون إلهاً، وإذا لم تكن إلهاً، لم تستحق العبادة. فإن قيل: إنَّ إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق، فإِنَّ إبراهيم قال: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨]، ثم
149
قال: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق﴾ [البقرة: ٢٥٨]، وموسى - عليه السلام - قال ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ [الشعراء: ٢٦]، ثم قال: ﴿رَبُّ المشرق والمغرب﴾ [الشعراء: ٢٨] وههنا قدم خبأ السموات على خبء الأرض، فجوابه، أَن إبراهيم وموسى ناظرا من ادعى إلهية البشر، فابتدءا بإبطال إلهية البشر، ثم انتقلا إلى إلهية السماء، وههنا الكلام مع من ادعى إلهية الشمس، قوله ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله﴾ [النمل: ٢٤] فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات، ثم بالأرضيات.
قوله: ﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ﴾ الجملة الاستفهامية في محل نصب ب «نَنْظُرُ»، لأنَّها مُعلّقة لها، و «أَمْ» هنا متصلة، وقوله: ﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين﴾ أبلغ من قوله: «أَمْ كَذَبْتَ» - وإن كان هو الأصل - لأنّ المعنى من الذين اتصفوا وانخرطوا في سلك الكاذبين. وقوله: «سَنَنْظُرُ» من النظر الذي هو التأمل. قوله: «هذَا» يجوز أن يكون صفة ل «كِتَابِي» أو بدلاً منه أو بياناً له.
قال المفسرون: إن سليمان - عليه السلام - كتب كتاباً فيه: «من عند سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم، السَّلامُ على من اتَّبع الهُدَى، أما بعد، أَلاَّ تَعْلُوا عليَّ وَأْتُوني مُسلمين». قال ابن جريرج: لم يزد سليمان على ما قصّة الله في كتابه، ثم ختمه بخاتمه، ثم قال للهدهد: «اذْهَبْ بِكَتَابِي هذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ».
قوله: «فَأَلْقِهِ»، قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر بإسكان الهاء، وقالون بكسرها فقط من غير صلة بلا خلاف عنه، وهشام عنه وجهان: القصر والصلة، والباقون بالصلة بلا خلاف، وتقدم توجيه ذلك في «آل عمران» و «النساء» وغيرهما، عند
﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٧٥] و ﴿نُوَلِّهِ مَا تولى﴾ [النساء: ١١٥]. وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء موصولة بواو «فَأَلْقِهُو إِلَيْهِمْ»، وقد تقدمخ ان الضم الأصل، وقال «إليهم» - على لفظ
150
الجمع - لأنه قال: ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ﴾ [النمل: ٢٤] والمعنى: فألقه إلى الذين هذا دينهم.
قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾، زعم أبو علي وغيره أن في الكلام تقديماً، وأن الأصل: فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم. ولا حاجة إلى هذا، لأن المعنى بدونه صحيح، أي: قف قريباً منهم لتنظر ماذا يكون.
قوله: «مَاذَا يَرْجِعُونَ» إن جعلنا (انظر) بمعنى: تأمل وتفكر كانت «ما» استفهامية، وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أن يجعل مع «ذا» بمنزلة اسم واحد، وتكون مفعولة ب «يرجعون» تقديره: أي شيء ترجعون.
والثاني: أن يجعل «ما» مبتدأ، و «ذا» بمعنى الذي، و «يرجعون» صلتها، وعائدها محذوف تقديره: أي شيء الذي يرجعونه، وهذا الموصول هو خبر ما الاستفهامية وعلى التقديرين فالجملة الاستفهامية مُعَلِّقة ل «انظر» فمحلّها النصب على إٍقاط الخافض أي: انظر في كذا وفكر فيه وإن جعلناه بمعنى انتظر من قوله ﴿انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ [الحديد: ١٣] كانت «مَاذَا» بمعنى الذي، (و «يَرْجعُونَ» صلتها وعائدها محذوف)، والعائد مقدّر كما تقرر وهذا الموصول مفعول به، أي: انتظر الذي يرجعون. قال أبو حيان: و «ماذا» إن كان معنى «فانظُر» معنى التأمل بالفكر كان انظر معلقاً، و «ماذا» إما أن يكون كلمة استفهام في موضع نصب، وإما أن يكون «ما» استفهاما، و «ذا» موصولة بمعنى الذي، فعلى الأول يكون «يرجعون» خبراً عن «ماذا»، وعلى الثاني يكون «ذا» هو الخبر، و «يرجعون» صلة انتهى.
وهذا غلط إما من الكاتب، وإما من غيره؛ وذلك أن قوله: «فعلى الأول» يعني به أن «ماذا» كلمة استفهام في موضع نصب يمنع قوله: «يَرْجِعُونَ» خبراً عن «ماذا»، كيف يكون خبراً عنه وهو منصوب به كما تقرر، وقد صرَّح هو بأنه منصوب يعني
151
بما بعده ولا يعمل فيه ما قبله، وهذا نظير ما تقدم في آخر السورة قبلها في قوله: ﴿وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] في كون اسم الاستفهام معمولاً لما بعده، وهو معلق لما قبله، فكما حكمت على الجملة من «يَنْقَلِبُونَ» وما اشتملت عليه من اسم الاستفهام المعمول لها بالنصب على سبيل التعليق، كذلك يحكم على «يَرْجِعُونَ» فكيف تقول: إنها خبر؟
152
قوله :﴿ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ ﴾ الجملة الاستفهامية في محل نصب ب «نَنْظُرُ »١، لأنَّها مُعلّقة لها، و «أَمْ » هنا متصلة، وقوله :﴿ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين ﴾ أبلغ من قوله :«أَمْ كَذَبْتَ » - وإن كان هو الأصل - لأنّ المعنى من الذين اتصفوا وانخرطوا في سلك الكاذبين٢. وقوله :«سَنَنْظُرُ » من النظر الذي هو التأمل. قوله :«هذَا » يجوز أن يكون صفة ل «كِتَابِي » أو بدلاً منه أو بياناً له.
قال المفسرون : إن سليمان - عليه السلام٣ - كتب كتاباً فيه :«من عند سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم، السَّلامُ على من اتَّبع الهُدَى، أما بعد، أَلاَّ تَعْلُوا عليَّ وَأْتُوني مُسلمين »٤. قال ابن جريج : لم يزد سليمان على ما قصّه الله٥ في كتابه، ثم ختمه بخاتمه، ثم قال للهدهد :﴿ اذْهَبْ بِكَتَابِي هذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ﴾٦.
١ لأنه من النظر الذي هو التأمل والتصفح. انظر البحر المحيط ٧/٧٠..
٢ انظر الكشاف ٣/١٤١..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤ انظر البغوي ٦/٢٧٥..
٥ لفظ الجلالة سقط من ب..
٦ انظر البغوي ٦/٢٧٥..
قوله :«فَأَلْقِهِ »، قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر بإسكان الهاء، وقالون بكسرها فقط من غير صلة بلا خلاف عنه، وهشام عنه وجهان : القصر والصلة١، والباقون بالصلة بلا خلاف، وتقدم توجيه ذلك في «آل عمران » و «النساء » وغيرهما٢، عند ﴿ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ] و ﴿ نُوَلِّهِ مَا تولى ﴾٣. وقرأ مسلم بن جندب٤ بضم الهاء موصولة بواو «فَأَلْقِهُو إِلَيْهِمْ »٥، وقد تقدم أن الضم الأصل، وقال «إليهم » - على لفظ الجمع - لأنه قال :﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ﴾ [ النمل : ٢٤ ] والمعنى : فألقه إلى الذين هذا دينهم٦.
قوله :﴿ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ﴾، زعم أبو علي وغيره أن في الكلام تقديماً، وأن الأصل : فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم٧. ولا حاجة إلى هذا، لأن المعنى بدونه صحيح، أي : قف قريباً منهم٨ لتنظر٩ ماذا يكون١٠.
قوله :«مَاذَا يَرْجِعُونَ » إن جعلنا ( انظر ) بمعنى : تأمل وتفكر كانت «ما » استفهامية، وفيها حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أن يجعل مع «ذا » بمنزلة اسم واحد، وتكون مفعولة ب «يرجعون » تقديره : أي شيء ترجعون.
والثاني : أن يجعل «ما » مبتدأ، و «ذا » بمعنى الذي، و «يرجعون » صلتها، وعائدها محذوف تقديره : أي شيء الذي يرجعونه، وهذا الموصول هو خبر ما الاستفهامية وعلى التقديرين فالجملة الاستفهامية مُعَلِّقة ل «انظر » فمحلّها النصب على إٍسقاط الخافض أي : انظر في كذا وفكر فيه وإن جعلناه بمعنى انتظر من قوله ﴿ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ [ الحديد : ١٣ ] كانت «مَاذَا » بمعنى الذي، ( و «يَرْجعُونَ » صلتها وعائدها محذوف )١١، والعائد مقدّر كما تقرر وهذا الموصول مفعول به، أي : انتظر الذي يرجعون. قال١٢ أبو حيان : و «ماذا »١٣ إن كان معنى١٤ «فانظُر » معنى التأمل بالفكر كان انظر معلقاً، و «ماذا » إما١٥ أن يكون كلمة١٦ استفهام في موضع نصب، وإما أن يكون «ما » استفهاماً، و «ذا » موصولة بمعنى الذي، فعلى الأول يكون «يرجعون » خبراً عن «ماذا »، وعلى الثاني يكون «ذا » هو الخبر، و «يرجعون » صلة١٧ انتهى.
وهذا غلط إما من الكاتب، وإما من غيره ؛ وذلك أن قوله :«فعلى الأول » يعني به أن «ماذا »١٨ كلمة استفهام في موضع١٩ نصب يمنع قوله :«يَرْجِعُونَ » خبراً٢٠ عن «ماذا »، كيف يكون خبراً عنه وهو منصوب به كما تقرر، وقد صرَّح هو بأنه منصوب يعني بما بعده ولا يعمل فيه ما قبله، وهذا نظير ما تقدم في آخر السورة قبلها في قوله :﴿ وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢٢٧ ] في كون اسم الاستفهام معمولاً لما بعده، وهو معلق لما قبله، فكما حكمت على الجملة من «يَنْقَلِبُونَ »٢١ وما اشتملت عليه من اسم الاستفهام المعمول لها بالنصب على سبيل التعليق، كذلك يحكم على «يَرْجِعُونَ » فكيف تقول : إنها خبر ؟.
١ المراد الصلة: إشباع حركة الهاء. السبعة (٤٨١)، الكشف ٢/١٥٩، الإتحاف (٣٣٦)..
٢ في سورة النور عند قوله تعالى: ﴿ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه﴾[النور: ٥٢]..
٣ من قوله تعالى: ﴿نوله ما تولى ونصله جهنم﴾[النساء: ١١٥]. انظر اللباب ٣/١٦٠..
٤ هو مسلم بن جندب أبو عبد الله الهذلي مولاهم، المدني القاصّ، تابعي مشهور، عرض على عبد الله بن عياش وعرض عليه نافع وغيره، مات حوالي سنة ١١٠ هـ. طبقات القراء ٢/٢٩٧..
٥ المختصر (١٠٩)، البحر المحيط ٧/٧٠..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٩٣..
٧ نقله أبو حيان عن ابن زيد وأبي علي. انظر البحر المحيط ٧/٧٠..
٨ منهم: سقط من ب..
٩ في ب: انتظر..
١٠ انظر البحر المحيط ٧/٧٠..
١١ ما بين القوسين في ب: و"يرجعون" صلة..
١٢ في ب: وقال..
١٣ في ب: وما. وهو تحريف..
١٤ في ب: بمعنى..
١٥ إما: سقط من ب..
١٦ في الأصل: كله..
١٧ البحر المحيط ٧/٧٠-٧١..
١٨ في الأصل: كله..
١٩ في ب: محل..
٢٠ في ب: بهمز. وهو تحريف..
٢١ في ب: منقلبون. وهو تحريف..
قوله: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ﴾ العامة على كسر الهمزتين على الاستئناف جواباً لسؤال قومها، كأنهم قالوا: ممن الكتاب؟ وما فيه؟ فأجابتهم بالجوابين. وقرأ عبد الله: ﴿وَإِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ﴾ بزيادة واو عاطفة ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ﴾ على قوله: ﴿إني أُلْقِيَ إِلَيَّ﴾ [النمل: ٢٩]. وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتح الهمزتين، صرح بذلك الزمخشري وغيره. ولم يذكر أبو البقاء إلا الكسر في ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ﴾ وكأنه سكت عن الثانية، لأنها معطوفة على الأولى، وفي تخيرج الفتح فيهما أوجه:
أحدهما: أنه بدل من «كِتَاب» بدل اشتمال، أو بدل كلٍّ من كلّ، كأنه قيل: ألقي إليَّ أنه من سليمان، وأنه كذا وكذا، وهذا هو الأصح.
والثاني: أنه مرفوع ب «كَرِيم» ذكره أبو البقاء.
الثالث: أنه على إسقاط حرف العلة.
قال الزمخشري: ويجوز أن يريد لأنه من سليمان ولأنه، كأنها عللت كرمه بكونه
152
من سليمان وتصديره باسم الله. وقال مكي: وأجاز الفراء الفتح فيهما في الكلام، كأنه لم يطلع على أنها قراءة وقرأ أُبيّ: أنْ من سليمان وأنْ بسم الله بسكون النون فيهما، وفيها وجهان:
أظهرهما: أنها «أن» المفسرة، لتقدم ما هو بمعنى القول.
والثاني: أنها المخففة واسمها محذوف، وهذا لا يتمشى على أصول البصريين؛ لأن اسمها لا يكون إلا ضمير شأن وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها.

فصل


قال المفسرون: أخذ الهدهد هذا الكتاب، وأتى به إلى بلقيس، وكان بأرض يقال لها: «مأرب» من صنعاء، فرمى بالكتاب إليها، فأخذته بلقيس، وكانت قارئة، ومن ثم اتخذ الناس البطائق، فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت، لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها، لطاعة الطير وهيبة الخاتم، فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد، فقعدت على سرير ملكها، وجمعت الملأ من قومها، وقالت لهم: ﴿إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٢٩] قال عطاء والضحاك: سمته كريماً، لأنه كان مختوماً.
وروى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «كرمه ختمه» وقال مقاتل والزجاج: كريم أي: حسن ما فيه، وروي عن ابن عباس أي: شريف لشرف صاحبه.
وقيل سمته كريماً، لأنه مصدر ب «بسم الله الرحمن الرحيم»، ثم بينت ممن الكتاب، فقالت: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ﴾، وبينت المكتوب فقالت: ﴿وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم﴾. فإن قيل: لم قد سليمان اسمه على قوله: ﴿بِسْمِ الله الرحمن الرحيم﴾ ؟
153
فالجواب: حاشاه من ذلك، بل ابتدأ الكتاب ب ﴿بِسْمِ الله الرحمن الرحيم﴾، وإنما كتب اسمه عنواناً بعد ختمه، لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود، ولذلك قالت: ﴿وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم﴾، أي: إنّ الكتاب...
فالتقديم واقع في حكاية الحال. واعلم أن قوله: ﴿بِسْمِ الله الرحمن الرحيم﴾ مشتمل على إثبات الصانع سبحانه، وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً.

فصل


وقد استنبط الشيخ الإمام العالم شرف الدين محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري من أسرار البسملة ما أبطل به مذهب النصارى، فقال: بلغني أن بعض النصارى انتصر لدينه، وانتزع من البسملة الشريفة دليلاً على تقوية اعتقاده في المسيح وصحة يقينه فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدم فيها وأخر وفكّر وقدر فتقل كيف قدر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال: قد انتظم من البسملة: «المسيح ابن الله المحرر». وظن ذلك سراً في قلب البسملة مضمراً، وعلى جبين الكتاب العزيز مسطراً، فنظرت إلى ما عزاه إلى البسملة واستخرجه من حروفها المستعملة والمهملة فإذا هو: «لا ما المسيح ابن الله محرر»، فأسقط في يده، ونكص على عقبيه، وقامت حجته من لسانه عليه، ثم عاد إليّ رسوله يخبر أن الذي صح له نظمه وتمت عنده منها حكمه: «ألم المسيح ابن الله محرراً»، فقلت: ورسل الله كلهم ألموا وأنبياؤه، فأي خصوصية لربك بالنبوة، وأي رتبة زدته بهاعلى النبوة، فقال: أردت بالألم إثبات ما أنكرته من الصلب، ونقيته عنه من ألم الطعن والضرب، وقد شهدت به كتب الله المنزلة، وشافهتك به حروف البسملة، فقلت: وهل شهدت لك إلا بالنقيض، ورحت منها بأخيب قداح المفيض، وحيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكماً وجوزت منها أحكاماً عليك وحكماً، فالتنصرن البسملة الأخيار منا على الأشرار، ولتفضلن أصحاب الجن على أصحاب النار، وحيث كان مقصودك من ذكر الألم الإفصاح عما أردته من الصلب والطعن والضرب والثلب
154
وسقيه من الخل الممزوج بالمرار بئس الشراب فخذ الجواب عنه، والله الموفق للصواب: أما دعواك النبوة فقد قالت لك البسملة بلسان حالها: لا ما المسيح ابن الله محرر، وألحقته بقولها: الحلم ربح رأس المال، لحملة الإيمان، الحلم ربح رأس مال الإيمان، ليس برّاً من أَحَلَّ ما حرم الله، المسلم له نبي حرم الراح لنبيه، سلم بالله من يحرم الراح، لله نبي مسلم حرم الراح، المسلم للرحمانية رابح، لا مرحمة للئام أبناء السحرة، رحم حر مسلم أناب إلى الله، إنما الله رب للمسيح راحم. وزعمت أنه ربك، فقالت: حرم من لا رب له إلا المسيح، وقالت أيضاً: النحر لأمم لها المسيح رب، وقلت: إنه حمل الله، فقالت: أسمي لله ابن المحرر حملاً، وقالت ما أسلم الرب حمله يسخر، وقالت: ألا يحرس الرب حمله من ألم؟ وقلت: إنه ألم، فقالت المحرر من ربه حل الألم، وقالت: سل حمرنا أربهم يحل الألم؟ وقالت: حرم حمار ينسب لله الألم، وقلت: إنه طعن بالحربة مسمراً، فقالت: من رأى المسيح ألم للحربة، وقالت: إن ربّاً حلل مسمره لحليم، وقالت: أحالل ربنا الحليم مسمره؟ وقالت: أمحالل الرب الحي من سمره، وقلت: إنه إله يحلل ويحرم، فقالت: ابن سليل رحم لا غله محرم، وقالت: سل ابن مريم أحل الحرام، وقالت: أمحلل لم حرمه رب الناس، وإن قلت: إنه رسول صدقتك، وقالت: أيل أرسل الرحمة من بلحم ويرحمه؛ أيل اسم من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم «بيت لحم» الذي ولد في المسيح.
وقلت: إنه ركب الحمار، فقالت: سلم أن الرب لا يحمله حمار، وقالت للناس: رب لم يحمله حمار وباهيتها ببسملتك التي لفقها الفلاسفة للأساقفة، فقالت لم نر أحبار الملة المسيح، وقالت: أحبار الملة محل مرسلين، وقال: ما حرر إلا المسيح الأمانة وقلت: إن النصارى لا تمسهم النار، فقالت: حر لهب النار لأمم المسيح، وكهرت الإسلام بإيمان، وقالت: من حرم الإسلام لا ربح له، وقالت: إن المسلم لحري بالرحمة، وقالت: ما برح الله راحم المسلمين، وقالت: إن ملة الإسلامة رحم رحيب، وقالت: لا راحة لمحارب المسلمين، وقالت: إن ملة الإسلام رحم رحيب، وقالت: لا راحة لمحارب المسلمين، وقالت: الإسلام حرم لا رأي لمحاربه. وقالت: المسلم حرب للنار الحامية، وقالت: حن المسلم إلى رحمة الرب، وقالت: الأحبار رحمة للمسلمين، وقالت: المحراب راحة للمسلمين، ونَقِمْتَ قيام الدين بالسيف، فقالت: أم الحسام للنبي الرحمة، وأثنت البسملة على نفسها فقالت: البسملة لأرحم
155
الراحمين، وقالت: الحرُّ ينال الرحمة ما بسمل. فانظر إلى البسملة قد لاحت لك بارقة من أنوارها وحلت لك عقدة من إزار أسرارها تخبر أن من وارء رجلها خيولاً وليوثاً، ومن دون طلبها سيولاً وغيوثاً، وأما بسملتك فلو كان على أصل ثابت، أو لم تغرس من الكفر على أخبث المنابت، لهززت إليك بجذعها، واستدللت عل طيب أصلها بخير فروعها، لكنّي ودتها شجرة خبيثة، وثمرة لا تسوغها القديمة ولا الحديثة، ألفاظها تصم الأسماع ومعانيها تحلّ عقود الإجماع، والنظر فيها يصدىء الأفهام والعقول، ويعلم كل غائب ما يقول، ولذلك ضربت عن ذكرها صفْحاً، وعددت الإعراض عنها غنيمةً وربحاً، فكفرها قائم وقاعد، والمعترف بها سواء والجاحد، والثلاثة الآلهة فيها يوصفون بالواحد، وأما بسملة المسلمين: فإنّ الله أودعها من العلوم والحكم ما فضلهم به على سائر الأمم، وأعلم أنّ منها ألفات اختصرت، وبين الهجاء مواضعها غابت أو حضرت، وقد استعملت بعضها في بعض المواضع؛ لأبين حكمها وأحيي رسمها، وصرفتها للمسألتين، وصارت كعبة فضلها للقبلتين، وتارة توافق حروفها في العدد والعادة، وتارة تقضي على ألفات الوصل بالزيادة، وما أخطأت - بحمد الله - منها واحدة صواباً، ولا عييت جواباً ولا خرجت عن حدها كتابة ولا حساباً، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة، فنسجت على منوالها، وقابلت الواحدة منها بعشر أمثالها، وما كان ذلك الهذيان مما يُجاب، لولا ما يداخلك من التيه والإعجاب، فتظن أنّك جِئْتَ بشيء عُجاب، أو حكمة كلمك الله بها وحياً أو من وراء حجابٍ، وتقول لإخوانك الذين يمدُّونك في الغَيّ ويحسبون أنك على شيء: قد أفحمت بكلمتي المسلمين، وأسكت بمسألتي فُضلاء المتكلمين، فتذر قومك في طغيانهم، وتقرهم على فساد إيمانهم، ولا أنت ممن يجري بمحاكاة كفرك قلمي، ولا أحرّك به لساني، ولا أفغر به فمي، وقد أتيتك بما يتعبك فيبهتك ويسمعك ما يصمّك عن الإجابة، ويصمتك على أسلوب رأيته في كتب أنبيائك، وتفاسير علمائك تعلم به أنّ هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون، ومستودع لجوهر سرِّها المكنون، أَلاَ ترى أَنَّ البسملة إذا حصلت جُمَلها كان عدده سبعمائة وستة وثمانين ب، س، م، ا، ل، ل، هـ، ا، ل، ر، ح، م، ن، ا، ا، ل، ر، ح، ي، م، ٢، ٦٠، ٤٠، ١، ٣٠، ٣٠، ٥، ١، ٣٠، ٢٠٠، ٨ ٤٠، ٥٠، ١، ٣٠، ٢٠٠، ٨، ١٠، ٤٠ وإذا قُلتَ إِنّ مثل عيسى كآدم وافق
156
جملها سبعمائة وستّة وثمانين، وإنْ باهيتها ببسملتك التي ترعد من كفرها الفرائص، وتجوز بالبهتان ما لا يجوز على الله من النقائص، ردت عليه وقالت: ليس لله من شريك، جملها سبعمائة وستة وثمانين، بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة، وقالت: ولا أشر ربّي أحداً سبعمائة وستة وثمانين، وقالت: ما لِعُلُومِ الفلسفة أنوار هداية، سبعمائة وستة وثمانين، وقالت: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ: سبعمائة وستة وثمانين، بإسقاط ألف الجلالة.
ولو استشهدت ببسملتك لشهدت لي بالحقّ عليك، وشكت إلى الله وإلى النّاس مما نسبت من الإفك والبهتان إليك، إذا ألفاظها - وحاكي الكفر ليس بكافر - تنافي المعقول والمنقول، وتنافر: «بسم الب والابن وروح القدس، إله واحد»، وباطنها يقول: «ما سبح إلاّ بنور، الإله القدوس واحد»، وتقول: بسملوا بالقرآن، ووحّدُوا الله بلا جسد، فهي كافرة الظاهرة مؤمنة الباطن، كسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ونظرت في محصلها من العدد، فإذا جملته ستمائة وستة وتسعون، فإذا قلت: أُفٍّ لها بسملة ما نزّل اللَّه بها من سُلطَانٍ، وافقت المعنى وطابقت العدد، وكانت ستمائة وستة وتسعون، وكذلك ما عطفته عليها من الكلام، وهو: ﴿بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان﴾ [الحجرات: ١١] موافق للمعنى مطابق للعدد: ستمائة وستة وتسعون، وكذلك قولك: «لا بسملة بحقّ كبسملةِ المسلمين» ستمائة وستة وتسعون، وقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خُبراً، وجاءتك بما لم تستطع عليه صبراً، على الأسلوب الذي تضمنته شريعتكم، فإنّي رأيت في إنجيلك وقد سَأَلَتْ بنو إسرائيل المسيح أن يُرِيهم آية، ليؤمنوا به وهو في بيت المقدس، فقال: تهدمون هذا الهيكل، وأنا أٌقِيمُه في ثلاثة أيام، فقالوا: بيت بني في خمسة وأربعين سنة، يقيمه في ثلاثة أيام!! وعلله في الإنجيل أنه أشار إلى هيكل نفسه الذي هو هيكل آدم، وحمله خمسة وأربعون وفي هذا ردّ عليهم ليس هذا موضعه.
ورأيتُ في التوراة في البشارة بإسماعيل بعد قوله: «وأكبره وأنميه بماد ماد» ومعناه بحد جدلها بل اشار بها إلى اسم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، بطريق الحمل، إذ هو اثنان وتسعون في الموضعين، وفي قصة يعقوبإذ قال لبنيه ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ [البقرة: ١٣٣]، فقالوا له: أعلم إسرائيل (الله أحد) فطابت نفسه، وعلم أن بنيه الاثني عشر سبطاً يعبدون الله وحده، لأنّهم عَدَلُوا عن قولهم: «اللَّه واحدٌ» إلى قولهم: «اللَّهُ أَحَدٌ»، إذ جملها ثلاثة عشر، وهي إشارة إلى أنّ الاثني عشر سبطاً يعبدون الله الواحد. وفيه أنّ المصلّي إذا دخل في الصلاة تكون على رأسه طيلسان يسمى: «صيصيت»، وفي طرفه خمسة خيوط وثمان عقد ليجتمع له من جمع صيصت وهو ستمائة ومن خمسة
157
خيوط وثمان عقد ثلاثة عشر لتتمة ما عليهم من الفرائض، وهي ستمائة، وثلاث عشرة فريضة، ليذكورا بها ما كتب الله عليهم من الفرائض، والتزموا (بها). ولنرجع إلى الإعراب والتفسير.
قوله: «أَلاَّ تَعْلوا» فيه أوجه:
أحدها: أن «أَنْ» مفسرة كما تقدم في أحد الأوجه في «أَنْ» قبلها في قراءة عكرمة، ولم يذكر الزمخشري غيره، وهو وجه حسن، لما في ذلك من المشاكلة، وهو عطف الأمر عليه، وهو قوله: «وَأْتُونِي».
الثاني: أنها مصدرية في محل رفع بدلاً من «كِتَاب»، كأنّه قيل: ألقي إليَّ أن لا تعلُوا عَلَيَّ.
الثالث: أنها في موضع رفع على خبر ابتداء مضمر، أي هو أن لا تعلوا.
الرابع: أنها على إسقاط الخافض، أي: بأن لا تعلوا، فيجيء في موضعها القولان المشهوران.
والظاهر أن «لا» في هذه الأوجه الثلاثة للنهي، وقد تقدّم أن «أَنْ» المصدرية توصل بالمتصرف مطلقاً. وقال أبو حيان: و «أَنْ» في قوله: ﴿أَن لاَّ تَعْلُواْ﴾ في موضع رفع على البدل من «كتاب»، وقيل في موضع نصب على: ﴿بأَنْ لاَّ تَعْلُوا﴾، وعلى هذين التقديرين تكون «أن» ناصبة للفعل. فظاهر هذا أنّها نافية، إذ لا يتوصر أن تكون ناهية بعد «أن» الناصبة للمضارع، ويؤيّد هذا ما حكاه عن الزمخشري، فإنّه قال: وقال الزمخشري: و «أن» في أن لا تَعْلُوا مفسرة، قال: فَعَلَى هذا تكون «لا» في: «
158
لاَ تَعْلُوا» للنهي، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه فقوله: «فعلى هذا» : إلى آخره صريح بأنّها على غير هذا يعني الوجهين المتقدمين ليس للنهي فيهما، ثم القول بأنّها للنفي لا يظهر، إذ يصير المعنى - على الإخبار منه عليه السلام - بأنّهم لا يعلون عليه، وليس هذا مقصوداً، وإنّما المقصود أن ينهاهم عن ذلك.
وقرأ ابن عباس والعقيلي: «تغلوا» - بالغين المعجمة، من الغلو، وهو مجاوزة الحد.

فصل


قال ابن عباس: «لا تتكبروا عليَّ»، وقيل: لا تتعظموا ولا ترتفعوا عليَّ أي: لا تمتنعوا من الإجابة، فإنّ ترك الإجابة من العلوّ والتكبر، «وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» : مؤمنين طائعين، قيل: هو من الإسلام، وقيل: من الاستسلام. فإنْ قيل: النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد.
فالجواب: معاذ الله أن يكون هناك تقليد؛ وذلك لأنّ رسول سليمان إلى بلقيس الهدهد، ورسالة الهدهد معجزة، والمعجزة تدل على وجود الصانع وصفاته، وتدل على صدق المُدَّعِي للرسالة، فلمَّا كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة، لا جرم لم يذكر في الكتاب دليل آخر.
قوله: ﴿يا أيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي﴾ أشيروا عليَّ فيما عرض لي، وأجيبوني فيما أشاوركم، والفتوى هي الجواب في الحادثة، استفتت، على طريق الاستفادة من الفتي في السن، أي: أجيبوني في الأمر الفتي، وقصدت بذلك استطلاع آرائهم وتطييب قولبهم.
﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً﴾ قاضية وفاصلة، ﴿حتى تَشْهَدُونِ﴾ تحضرون. «قَالُوا» مجيبين لها، ﴿نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ﴾ في القتال، ﴿وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾، في الحرب، قال مقالت: أرادوا بالقوة كثرة العدد، وأرادوا بالبأس الشديد: الشجاعة، والبأس: النجدة والبلاء في الحرب، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك، ثم قالوا: «وَالأَمْرُ إِلَيْكِ» أيتها الملكة في التقال وتركه.
قوله: «مَذَا تَأْمُرِينَ» ماذا هو المفعول الثاني ل «تأمرين»، والأول محذوف تقديره: «
159
تأمريننا»، والاستفهام معلق للنظر، ولا يخفى حكمه مما تقدم قبله، والمعنى: فانظري في الرأي ماذا تأمرين تجدينا لأمرك طائعين. قالت - مجيبة لهم - عن التعريض بالقتال -:
160
قوله :«أَلاَّ تَعْلوا » فيه أوجه :
أحدها : أن «أَنْ » مفسرة كما تقدم في أحد الأوجه في «أَنْ » قبلها في قراءة عكرمة١، ولم يذكر الزمخشري غيره٢، وهو وجه حسن، لما في ذلك من المشاكلة٣، وهو عطف الأمر عليه، وهو قوله :«وَأْتُونِي »٤.
الثاني : أنها مصدرية في محل رفع بدلاً من «كِتَاب »، كأنّه قيل : ألقي إليَّ أن لا تعلُوا عَلَيَّ٥.
الثالث : أنها في موضع رفع على خبر ابتداء مضمر، أي هو أن لا تعلوا٦.
الرابع : أنها على إسقاط الخافض، أي : بأن لا تعلوا٧، فيجيء في موضعها القولان المشهوران٨.
والظاهر أن «لا » في هذه الأوجه الثلاثة للنهي، وقد تقدّم أن «أَنْ » المصدرية توصل بالمتصرف٩ مطلقاً. وقال أبو حيان : و «أَنْ » في قوله :﴿ أَن لاَّ تَعْلُواْ ﴾ في موضع رفع١٠ على البدل من «كتاب »، وقيل في موضع نصب على :﴿ بأَنْ لاَّ تَعْلُوا ﴾، وعلى هذين التقديرين تكون «أن » ناصبة للفعل١١. فظاهر هذا أنّها نافية، إذ لا يتصور أن تكون ناهية بعد «أن » الناصبة للمضارع، ويؤيّد هذا ما حكاه عن الزمخشري، فإنّه قال : وقال الزمخشري : و «أن » في أن لا تَعْلُوا مفسرة١٢، قال : فَعَلَى هذا تكون «لا » في :«لاَ تَعْلُوا » للنهي، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه١٣ فقوله :«فعلى هذا » : إلى آخره صريح بأنّها على غير هذا يعني الوجهين المتقدمين ليس للنهي فيهما١٤، ثم القول بأنّها للنفي لا يظهر، إذ يصير المعنى - على الإخبار منه عليه السلام - بأنّهم لا يعلون عليه، وليس هذا مقصوداً، وإنّما المقصود أن ينهاهم عن ذلك.
وقرأ ابن عباس والعقيلي :«تغلوا » - بالغين المعجمة١٥، من الغلو، وهو مجاوزة الحد.

فصل :


قال ابن عباس :«لا تتكبروا عليَّ »١٦، وقيل : لا تتعظموا ولا ترتفعوا عليَّ أي : لا تمتنعوا من الإجابة، فإنّ ترك الإجابة من العلوّ والتكبر، «وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ » : مؤمنين طائعين١٧، قيل : هو من الإسلام١٨، وقيل : من الاستسلام١٩. فإنْ قيل : النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد.
فالجواب : معاذ الله أن يكون هناك تقليد ؛ وذلك لأنّ رسول سليمان إلى بلقيس الهدهد، ورسالة الهدهد معجزة، والمعجزة تدل على وجود الصانع وصفاته، وتدل على صدق المُدَّعِي للرسالة، فلمَّا كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة، لا جرم لم يذكر في الكتاب دليل آخر٢٠.
١ في قوله تعالى: ﴿إنه من سليمان وإنه﴾ من الآية ٣٠ من السورة نفسها؛ بفتح الهمزتين..
٢ قال الزمخشري: (و "أن" في "ألا تعلوا" مفسرة أيضا) الكشاف ٣/١٤١، وانظر البيان ٢/٢٢٢، التبيان ٢/١٠٠٨..
٣ في ب: من المشاكلة كلمة..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٧٢..
٥ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٩١، مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٨، البيان ٢/٢٢٢..
٦ قال أبو البقاء: (موضعه رفع بدلا من "كتاب"، أي: هو ألا تعلوا) التبيان ٢/١٠٠٨..
٧ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٨، البيان ٢/٢٢١..
٨ وهما إما أن يكون في موضع نص وذلك عند الخليل وأكثر النحويين، وجر عند الكسائي، وجوز سيبويه أن يكون المحل جراً، وتقدم الحديث عنهما عند قوله تعالى: ﴿وإن هذه أمتكم أمةً واحدةً﴾[المؤمنون: ٥٢]..
٩ في ب: بالتصرف..
١٠ رفع: سقط من ب..
١١ البحر المحيط ٧/٧٢..
١٢ الكشاف ٣/١٤١..
١٣ البحر المحيط ٧/٧٢..
١٤ في ب: فيها..
١٥ المختصر (١٠٩)، المحتسب ٢/١٣٩، البحر المحيط ٧/٧٢..
١٦ انظر البغوي ٦/٢٧٧..
١٧ انظر البغوي ٦/٢٧٧..
١٨ انظر البغوي ٦/٢٧٧..
١٩ انظر البغوي ٦/٢٧٧..
٢٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٩٥..
قوله :﴿ يا أيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي ﴾ أشيروا عليَّ فيما عرض لي، وأجيبوني فيما أشاوركم، والفتوى هي الجواب في الحادثة، استفتت، على طريق الاستفادة من الفتي في السن، أي : أجيبوني في الأمر الفتي، وقصدت١ بذلك استطلاع آرائهم وتطييب قلوبهم٢.
﴿ مَا كُنتُ قَاطِعَةً ﴾ قاضية وفاصلة، ﴿ أمراً حتى تَشْهَدُونِ ﴾ تحضرون.
١ في ب: وتصدقت. وهو تحريف..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٩٥..
«قَالُوا » مجيبين لها، ﴿ نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ ﴾ في القتال، ﴿ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾، في الحرب، قال مقاتل : أرادوا بالقوة كثرة العدد، وأرادوا بالبأس الشديد : الشجاعة١، والبأس : النجدة والبلاء في الحرب، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك٢، ثم قالوا :«وَالأَمْرُ إِلَيْكِ » أيتها الملكة في القتال وتركه.
قوله :«ماَذَا تَأْمُرِينَ » ماذا هو المفعول الثاني ل «تأمرين »، والأول محذوف تقديره :«تأمريننا »، والاستفهام معلق للنظر٣، ولا يخفى حكمه مما تقدم قبله، والمعنى : فانظري في الرأي ماذا تأمرين تجدينا لأمرك طائعين. قالت - مجيبة لهم - عن التعريض بالقتال - :
١ انظر البغوي ٦/٢٧٧..
٢ المرجع السابق..
٣ انظر البحر المحيط ٧/٧٣. وفيه: (فهي في موضع مفعول لـ "انظري" بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام)..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً﴾ بالقهر «أَفْسَدُوهَا» : خرّبوها، ﴿وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً﴾، فذكرت لهم عاقبة الحرب، وحذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم.
قوله: «وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» أي: مثل ذلك الفعل يفعلون، وهل هذه الجملة من كلامها - وهو الظاهر - فتكون منصوبة بالقول، أو من كلام الله تعالى، فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها.
قوله: ﴿وكذلك يَفْعَلُونَ﴾ : ما بعث على وجه الإكرام، وهي اسم للمهدى، فيحتمل أن يكون اسماً صريحاً، ويحتمل أن تكون - في الأصل - (مصدراً أطلق على اسم المفعول، وليست مصدراً قياسياً، لأن الفعل منه: أهدى رباعياً، فقياس) مصدره: إهداء.

فصل


اعلم أنَّ بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ﴾، أي: لسليمان وقومه «بِهَديَّةٍ» أصانعه على ملكي وأختبره بها أَمَلِكٌ أَم نبيّ، فإن يكن ملكاً قبل الهديّة وانصرف، وإن يكن نبيّاً لم يقبل الهديّة ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قوله: ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون﴾، (وهذا الكلام يدل على أنّها لم تثق بالقبول وجوّزت الرد، وأرادت أن ينكشف لها غرض سليمان).
قوله: «فَنَاظِرَةٌ» عطف على «مُرْسِلَة»، و «بم» متعلق ب «يرجع»، وقد وهم
160
الحوفي فجعلها متعلقة ب «نَاظِرَةٌ»، وهذا لا يستقيم، لأن اسم الاستفهام له صدر الكلام و «بم يرجع» معلق لناظرة.
قوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ﴾ أي: فلما جاء الرسول، أضمره لدلالة قولها «مرسِلة» فإنه يستلزم رسولاً، والمراد به الجنس لا حقيقة رسول واحد، بدليل خطابه لهم بالجمع في قوله: «أَتَمِدُّونَنِي..» إلى آخره، وكذلك قرأ عبد الل: فلما جاءوا، وقرأ: «فارجعوا إليهم»، اعتباراً بالأصل المشار إليه.
قوله: «أَتُمِدُونَنِي» استفهام إنكار، وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وأام الياء فإنه يحذفها وقفاً، ويثبتها وصلاً على قاعدته في الزوائد، والباقون بنونين - على الأصل - وأما الياء فإن نافعاً وأبا عمرو كحمزة يثبتانها وصلاً ويحذفانها وقفاً، وابن كثير يثبتها في الحالين، والباقون يحذفونها في الحالين.
وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة، فتكملت ثلاثة قراءات كما في: ﴿تأمروني أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤].
قال الزمخشري: ما الفرق بين قولك: أتمدونني بمال وأنا أغنى منكم، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى، وهو - مع ذلك - يمدني بالمال، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفي عليه حالي، وإنما أخبره الساعة بما لا أحتاح معه إلى إمداده، كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه، وعليه ورد قوله: ﴿فَمَآ آتَانِي الله خَيْرٌ﴾ انتهى.
وفي هذا الفرق نظر، إذ لا يفهم ذلك بمجرد الواو والفاء، ثم إنه لم يجب عن السؤال الأول، وهو أنه: لم عدل عن قوله: وأنا إغنى منكم إلى قوله: ﴿فَمَآ آتَانِي الله﴾ ؟
وجوابه: أنه أسند إيتاء الغنى إلى الله، إظهاراً لنعمته عليه، ولو قال: وأنا أغنَى منكم، كان فيه افتخار من غير ذكر لنعمة الله عليه، فأظهر - بهذا الكلام - قلة
161
الاكتراث بذلك المال. قوله: «بَلْ أَنْتُم» إضراب انتقال، قال الزمخشري: فإن قلت: فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد، وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو أنهم لا يعرفوهم سبب رضى إلا مما يهدى إليهم من حظوظ الدنيا التي لا يعرفون غيرها، والهدية: يجوز إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه، وهي هنا محتملة للأمرين. قال أبو حيان: وهي هنا مضافة للمهدى إليه، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي، أي: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار.
قال شهاب الدين: كيف يجعل الأول هو الظاهر، ولم ينقل أن سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرسل إليهم هدية في هذه الحالة، حتى يضيفها إليهم، بل الذي يتعين إضافتها إلى المهدي. ومعنى الآية: ﴿بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها تفرحون بإهداء بعضكم لبعض، وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة. قوله: «ارْجِعْ» الظاهر أن الضمير يعود على الرسول، وتقدمت قراءة عبد الله: «ارجعوا»، وقيل: يعود على الهدهد. «فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ» وهذا جواب قسم مقدر، وكذلك قوله: «ولَنُخْرَجَنَّهُم». قوله: «لاَ قِبَلَ» صفة ل «جُنُود»، أي: فيجري مجرى المؤنثة الواحدة كقولهم: الرِّجَالُ وأعضَادَها. وقرأ عبد الله «بهم» على الأصل. «ولَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا» أي من بلادهم وأرض سبأ «أَذِلَّةً» حال، والذل: أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك. وقله: «وَهُمْ صَاغِرُون» حال ثانية، والظاهر أنها مؤكدة، لأن «أَذِلَّةً» تغني عنها. فإن قيل: قوله «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ»، و «لَنُخْرِجَنَّهُمْ» قسم، فلا بد أن يقع
162
فالجواب: أنه معلق على شرطٍ حُذِفَ لفهم المعنى، أي: إن لم يأتوني مسلمين، والصغار: أن يقعوا في أسر واستبعاد.

فصل


قال ابن عباس: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك، ولا لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان: إني قادمة عليك بملوك قومي، حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ثم آذنت بالرحيل إلى سليمان، فلما قربت منه على فرسخ، قرأى سليما رهجاً قريباً، فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان. قال ابن عباس: وكان بن الكوفة والحيرة قدر فرسخ، فأقبل سليمان حينئذٍ على جنوده، فقال: ﴿قَالَ يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ؟.
163
قوله :﴿ وإني مرسلة إليهم بهدية ﴾ : ما بعث على وجه الإكرام، وهي اسم للمهدى، فيحتمل أن يكون اسماً صريحاً، ويحتمل أن تكون - في الأصل - ( مصدراً أطلق على اسم المفعول، وليست مصدراً قياسياً، لأن الفعل منه : أهدى رباعياً، فقياس )١ مصدره : إهداء.

فصل :


اعلم أنَّ بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها :﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ ﴾، أي : لسليمان وقومه «بِهَديَّةٍ » أصانعه على ملكي وأختبره بها أَمَلِكٌ أَم نبيّ، فإن يكن ملكاً قبل الهديّة وانصرف، وإن يكن نبيّاً لم يقبل الهديّة ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قوله :﴿ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون ﴾٢، ( وهذا الكلام يدل على أنّها لم تثق بالقبول وجوّزت الرد، وأرادت أن ينكشف لها غرض سليمان )٣.
قوله :«فَنَاظِرَةٌ » عطف على «مُرْسِلَة »، و «بم » متعلق ب «يرجع »٤، وقد وهم الحوفي فجعلها متعلقة ب «نَاظِرَةٌ »٥، وهذا لا يستقيم، لأن اسم الاستفهام له صدر الكلام و «بم يرجع » معلق لناظرة٦.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ انظر البغوي ٦/٢٧٨..
٣ ما بين القوسين سقط من ب..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٧٣-٧٤..
٥ انظر البحر المحيط ٧/٧٤..
٦ انظر البحر المحيط ٧/٧٤..
قوله :﴿ فَلَمَّا جاء سُلَيْمَانَ ﴾ أي : فلما جاء الرسول، أضمره لدلالة قولها «مرسِلة » فإنه يستلزم رسولاً، والمراد به الجنس لا حقيقة رسول واحد، بدليل خطابه لهم بالجمع في قوله :«أَتُمِدُّونَنِي. . » إلى آخره١، وكذلك قرأ عبد الله : فلما جاءوا، وقرأ٢ :«فارجعوا إليهم »٣، اعتباراً بالأصل المشار إليه.
قوله :«أَتُمِدُونَنِي » استفهام إنكار، وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وأما الياء فإنه يحذفها وقفاً، ويثبتها وصلاً على قاعدته في الزوائد٤، والباقون بنونين - على الأصل - وأما الياء فإن نافعاً وأبا عمرو كحمزة يثبتانها وصلاً ويحذفانها وقفاً، وابن كثير يثبتها في الحالين، والباقون يحذفونها في الحالين.
وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة، فتكملت ثلاثة قراءات٥ كما في :﴿ تأمروني أَعْبُدُ ﴾ [ الزمر : ٦٤ ].
قال الزمخشري : ما الفرق بين قولك : أتمدونني٦ بمال وأنا أغنى منكم٧، وبين أن تقوله بالفاء ؟ قلت : إذا قلته بالواو فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى، وهو - مع ذلك - يمدني بالمال، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفي عليه حالي، وإنما أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده، كأني أقول له٨ : أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه، وعليه ورد قوله :﴿ فما آتَانِي الله خَيْرٌ ﴾٩ انتهى.
وفي هذا الفرق نظر، إذ لا يفهم ذلك بمجرد الواو والفاء، ثم إنه لم يجب عن السؤال الأول، وهو أنه : لم عدل عن قوله : وأنا أغنى منكم١٠ إلى قوله :﴿ فما آتَانِي الله ﴾ ؟.
وجوابه : أنه أسند إيتاء الغنى إلى الله، إظهاراً لنعمته عليه، ولو قال : وأنا١١ أغنَى منكم، كان فيه افتخار١٢ من غير ذكر لنعمة الله عليه، فأظهر - بهذا الكلام - قلة الاكتراث بذلك المال. قوله :«بَلْ أَنْتُم » إضراب انتقال، قال الزمخشري : فإن قلت : فما وجه الإضراب ؟ قلت : لما أنكر عليهم الإمداد، وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو أنهم لا يعرفوهم سبب رضى إلا مما يهدى إليهم من حظوظ الدنيا التي لا يعرفون غيرها، والهدية : يجوز إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه، وهي هنا محتملة للأمرين١٣. قال أبو حيان : وهي هنا مضافة للمهدى إليه، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي، أي : بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار١٤.
قال شهاب الدين : كيف يجعل الأول هو الظاهر، ولم ينقل أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليهم هدية في هذه الحالة، حتى يضيفها إليهم، بل الذي يتعين إضافتها إلى المهدي١٥. ومعنى الآية :﴿ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها تفرحون بإهداء بعضكم لبعض، وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله تعالى١٦ قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة١٧.
١ المرجع السابق..
٢ في ب: فاقرأ..
٣ انظر تفسير ابن عطية ١١/٢٠٤، البحر المحيط ٧/٧٤..
٤ في الأصل: الرواية، وفي ب: الرواب. والصواب ما أثبته..
٥ السبعة (٤٨١-٤٨٢)، الكشف ٢/١٦٠، الإتحاف (٣٣٦-٣٣٧)..
٦ في الكشاف: أتمدني..
٧ في ب: عنكم..
٨ له: تكملة من الكشاف..
٩ الكشاف ٣/١٤٣..
١٠ في ب: عنكم..
١١ في ب: أنا..
١٢ في ب: إنكار. وهو تحريف..
١٣ الكشاف ٣/١٤٣. بتصرف..
١٤ البحر المحيط ٧/٧٤..
١٥ الدر المصون ٥/١٩٤-١٩٥..
١٦ تعالى: سقط من ب..
١٧ انظر البغوي ٦/٢٨١..
قوله :«ارْجِعْ » الظاهر أن الضمير يعود على الرسول١، وتقدمت قراءة عبد الله :«ارجعوا »، وقيل : يعود على الهدهد٢. «فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ » وهذا جواب قسم مقدر، وكذلك قوله :«ولَنُخْرَجَنَّهُم ». قوله :«لاَ قِبَلَ » صفة ل «جُنُود »، أي : لا طاقة، وحقيقته : لا مقابلة٣ والضمير في " بها " عائد على " جنود "، لأنه جمع تكسير فيجري مجرى المؤنثة الواحدة كقولهم : الرِّجَالُ وأعضَادَها٤. وقرأ عبد الله «بهم »٥ على الأصل. «ولَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا » أي من بلادهم وأرض سبأ٦ «أَذِلَّةً » حال٧، والذل : أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك٨. قوله :«وَهُمْ صَاغِرُون » حال ثانية، والظاهر أنها مؤكدة، لأن «أَذِلَّةً » تغني عنها. فإن قيل : قوله «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ »، و «لَنُخْرِجَنَّهُمْ » قسم، فلا بد أن يقع !.
فالجواب : أنه معلق٩ على شرطٍ حُذِفَ لفهم المعنى، أي : إن١٠ لم يأتوني مسلمين، والصغار : أن يقعوا في أسر واستعباد١١.

فصل :


قال ابن عباس : لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، قالت : قد عرفت والله ما هذا بملك، ولا لنا به من١٢ طاقة، وبعثت إلى سليمان : إني قادمة عليك١٣ بملوك قومي، حتى١٤ أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ثم آذنت بالرحيل إلى سليمان، فلما قربت منه على فرسخ، فرأى سليمان رهجاً قريباً، فقال ما هذا ؟ قالوا بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان. قال ابن عباس : وكان بن الكوفة والحيرة قدر فرسخ، فأقبل سليمان حينئذٍ على جنوده١٥، فقال :﴿ قَالَ يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ ؟.
١ قيل: إن الرسول هو المنذر بن عمرو أمير الوفد. انظر القرطبي ١٣/٢٠١..
٢ انظر الكشاف ٣/١٤٣..
٣ المرجع السابق..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٧٤. ووجه الاستشهاد بالمثل أن الرجال جمع تكسير فيصح أن يعود عليه الضمير جمعا مذكراً أو مفرداً مؤنثاً على معنى جماعة الرجال..
٥ معاني القرآن للفراء ٢/٢٩٣، البحر المحيط ٧/٧٤..
٦ انظر الكشاف ٣/١٤٣، البحر المحيط ٧/٧٤..
٧ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٨، البيان ٢/٢٢٢..
٨ انظر الكشاف ٣/١٤٣..
٩ في ب: متعلق..
١٠ إن: سقط من ب..
١١ انظر الكشاف ٣/١٤٣..
١٢ من: سقط من ب..
١٣ في ب: إليك..
١٤ حتى: سقط من ب..
١٥ انظر البغوي ٦/٢٨١..
قال ابن عباس: طائعين، واختلوفا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها، فقال أكثرهم: لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليها مالها، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها، وقيل: ليريها قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها. وقال قتادة: لأنه أعجبه صفته لما وصفه الهدهد، فأحب أن يراه. وقال ابن زيد: أراد أن يأمر بتنكيرها وتغييرها، فيختبر بذلك عقلها، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتديا﴾ [النمل: ٤١].
قوله: «قَالَ عِفْرِيتٌ» العامة على كسر العين وسكون الفاء بعدها تاء مجبورة.
وقرأ أبو حيوة: بفتح العين، وأبو رجاء وأبو السمال - ورويت عن أبي بكر الصديق - «
163
عفرية» مفتوحة بعدها تاء التأنيث المنقبلة هاء وقفاً، وأنشدوا على ذلك قول ذي الرمة:
٣٩٦٢ - كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ مَصَوَّبٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ
قرأت اطائفة «عِفْر» بحذف الياء والتاء، فهذه أربع قراءات قد قرىء بهن، وفيه لغتان أخريان، وهما: عُفَارِيَّةٌ، وطيّىء وتميم يقولون: عِفْرَى بألف التأنيث كذكرى، واشتقاقه من العفر، وهو التراب، يقال: عافره فعفره أي: صارعه فصرعه وألقاء في العفر وهو التراب. وقيل: من العفر، وهو القوة. والعفريت من الجن المارد الخبيث، ويقال: عفريت نفريت، وهو إتباع كشيطان ليطان، وحسن بسن. ويستعار للعارم من الإنس، ولاشتهار هذه الاستعارة وصف في الآية بكونه من الجن، تمييزاً له. قال ابن قتيبة: العفرية الموثق الخلق. وعفرية الديك والحبارى للشعر الذي على رأسهما. وعَفَرْنَى للقويّ، ورجل عِفِرٌّ - بتشديد الراء - للمبالغة، مثل: شرّ شِمرٌّ. قيل: إِنَّ الشيطان أقوى من الجن، وإن المردة أقوى من الشياطين، وإن العفريت أقوى منهما. قال بعض المفسرين: العفريت من الرجال الخبيث المنكر، وقال ابن عباس: العفريت، الداهية، وقال الربيع: الغليظ، وقال الفراء: القوي الشديد.
قوله: ﴿أَنَاْ آتِيكَ بِهِ﴾ يجوز أن يكون فعلاً مضارعاً، فوزنه أفعل، نحو: أضرب، والأصل: أأتيك - بهمزتين - فأبدلت الثانية ألفاً، وأن يكون اسم فاعل، ووزنه فاعل،
164
والألف زائدة، والهمزة أصلية عكس الأول. وأمال حمزة «آتيك» في الموضعين في هذه السورة بخلاف عن خلاد.

فصل


قوله: ﴿قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ أي: مجلسك الذي تقضي فيه، قال ابن عباس: كان له في كل غداة مجلس يقضي فيه إلى انتصاف النهار، «وإِنِّي عليهِ» على حمله، «لَقويٌّ أَمين» به على ما فيه من الجواهر، فقال سليمان: أريد أسرع من هذا، ف ﴿قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب﴾، فقيل: هو جبريل - عليه السلام - وقيل: ملك من الملائكة أيَّد الله به نبيه سلمان - عليه السلام - وقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخياء، وكان وزير سليمان، وكان صدّيقاً يعلم اسم الله الأعظم، إذا دعا به أجيب، وقيل: بل هو سليمان نفسه، والمخاطب هو العفريت الذي كلمه، وأراد سليمان - عليه السلام - إظهار معجزة، فتحداهم أولاً، ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت.
(قال محمد بن المنكدر: إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علماً وفهماً: ﴿أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، قال سليمان: هاتِ، قال: أنت النبي ابن النبي، وليس أحد أوجه عند الله منك، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك، قال: صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت. وضعف السهيلي ذلك بأنه لا يصح من سياق الكلام)، قال ابن الخطيب: وهذا القول أقرب لوجوه:
الأول: أن لفظة «الذي» موضوعة في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفها بقضية معلومة، والشخص المعروف بأنه عنده علم من الكتاب هو سليمان - عليه السلام - فوجب انصرافه إليه أقصى ما في الباب أن يقال: كان آصف كذلك
165
أيضاً، لكنا نقول: إن سليمان كان أعرف بالكتاب منه، لأنه هو النبي، فكان صرف اللفظ إلى سليمان أولى.
الثاني: أن غحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية، فلو حصلت لآصف دون سليمان، لاقتضى ذلك قصور حال سلميان في أعين الخلق.
الثالث: أن سليمان قال ﴿هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلونيا أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.

فصل


واختلفوا في الكتاب، فقيل: هو اللوح المحفوظ، والذي عنده علم الكتاب جبريل - عليه السلام - وقيل: كتاب سليمان، أو كتاب بعض الأنبياء، وفي الجملة فإنّ ذلك مدح، وإن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش، ولذلك قيل: إنَّه اسم الله الأعظم، وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات.
قوله: ﴿قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه الجفن عُبِّر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك: افعل ذلك في لحظة، وهذا قول مجاهد، وقال الزمشخري: وهو تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر.
الثاني: أنه بمعنى المطروف، أي: الشيء الذي تَنْظُره، والأول هو الظاهر، لأن الطرف قد وصف بالإرسال في قوله:
٣٩٦٣ - وَكُنْتَ إَذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً لِقَلْبكَ يوماً أَتْعَبَتْكَ المَناظِرُ
رَأيتَ الَّذِي لا كلّه أَنْتَ قَادِر عَليْه ولاَ عن بعضهِ أَنْتَ صَابِرُ
قال سعيد بن جبير «من قبل أن يرتد» أي: من قبل أن يرجع إليك أقصى (من
166
ترى، وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك.
وقال مجاهد: يعني إدامة النظر) حتى يرتد الطرف خاسئاً. وقال وهب: تمد عينك فلا ينتهي طرفك إلى مداه، حتى أمثله بين يديك. فإن قيل: هذا يقتضي (إما القول بالطفرة) أو حصول الجسم الواحد دفة واحدة ي مكانين.
والجواب: أن المهندسين قالوا: كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة ثم إن زمان طلوعها زمان قصير، فإن زمان طلوع تمام القرص على زمان البعد الذي بين الشام واليمن كانت تلك اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال.
قوله: «فَلَما رآهُ» يعني سليمان، العرش «مستقراً» عنده محمولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف، ف «مُسْتَقِراً» حال، لن الرؤية بصرية، و «عنده» معمول له، لا يقال إذا وقع الظرف حالاً وجب حذف متعلقه، فكيف ذكر هنا؟ لأن الاستقرار هنا ليس هو ذلك الحصول المطلق، بل المراد به هنا الثابت الذي لا يتقلقل، قاله أبو البقاء. وقد جعله ابن عطية هو العامل في الظرف الذي كان يجب حذفه، فقال: وظهر العامل في الظرف من قوله «مُسْتَقِراً»، وهذا هو المقدر أبداً مع كل ظرف جاء هنا مظهراً، وليس ي كتاب الله مثله، وما قاله أبو البقاء أحسن على أنه قد ظهر العامل المطلق في قوله:
٣٩٦٤ - فَأَنْتَ لَدَى بُحْبوحَةِ الهُونِ كَائِن...
167
وقد تقدم ذلك محققاً في أول الفاتحة.
قوله «أأشكر» معلق «ليبلوني»، وأم متصلة، وكذلك قوله: ﴿نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ﴾ [النمل: ٤١]. قوله: ﴿ومَنْ شَكَر... ومن كفر﴾ يحتمل أن تكون «من» شرطية، أو موصولة مضمّنة معنى الشرط، فلذلك دخلت الفاء في الخبر، والظاهر أن جواب الشرط: الثاني: أو خبر الموصول قوله: ﴿فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ ولا بد حينئذ من ضمير يعود على «من» تقديره غني عن شكره، وقيل الجواب محذوف تقديره: فإنما كفر عليه، لدلالة مقابله، وهو قوله ﴿فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ عليه.

فصل


تقدم معنى الابتلاء، وقوله: أشكر نعمته أم أكفرها فلا أشكرها، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، أي: يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها، لأن لاشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة، ومن كفر فإن ربي غني عن شكره كريم بالإفضال لعى من يكفر نعمه.
168
قوله :«قَالَ عِفْرِيتٌ »١ العامة على كسر العين وسكون الفاء٢ بعدها تاء مجبورة.
وقرأ أبو حيوة : بفتح العين٣، وأبو رجاء وأبو السمال - ورويت عن أبي بكر الصديق - «عفرية » مفتوحة بعدها تاء التأنيث المنقلبة هاء وقفاً٤، وأنشدوا على ذلك قول ذي الرمة :
٣٩٦٢ - كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ مَصَوَّبٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ٥
وقرأت طائفة «عِفْر » بحذف الياء والتاء٦، فهذه أربع قراءات قد قرئ بهن، وفيه لغتان أخريان، وهما : عُفَارِيَّةٌ، وطيّىء وتميم يقولون : عِفْرَى بألف التأنيث كذكرى٧، واشتقاقه من العفر، وهو التراب، يقال : عافره فعفره أي : صارعه فصرعه وألقاه في العفر وهو التراب. وقيل : من العفر، وهو القوة٨. والعفريت من الجن المارد الخبيث، ويقال : عفريت نفريت، وهو إتباع كشيطان ليطان٩، وحسن بسن١٠. ويستعار للعارم من الإنس، ولاشتهار هذه الاستعارة وصف في الآية بكونه من الجن، تمييزاً له. قال ابن قتيبة : العفرية الموثق الخلق١١. وعفرية الديك والحبارى للشعر الذي على رأسهما١٢. وعَفَرْنَى للقويّ١٣، ورجل عِفِرٌّ - بتشديد الراء - للمبالغة، مثل : شرّ شِمرٌّ١٤. قيل : إِنَّ الشيطان أقوى من الجن، وإن المردة أقوى من الشياطين، وإن العفريت أقوى منهما. قال بعض المفسرين : العفريت من الرجال الخبيث المنكر١٥، وقال ابن عباس : العفريت، الداهية١٦، وقال الربيع١٧ : الغليظ١٨، وقال الفراء : القوي الشديد١٩.
قوله :﴿ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ ﴾ يجوز أن يكون فعلاً مضارعاً، فوزنه أفعل، نحو : أضرب، والأصل : أأتيك - بهمزتين - فأبدلت الثانية ألفاً٢٠، وأن يكون اسم فاعل، ووزنه فاعل، والألف زائدة، والهمزة أصلية عكس الأول٢١. وأمال٢٢ حمزة «آتيك » في الموضعين في هذه السورة بخلاف عن خلاد٢٣.

فصل :


قوله :﴿ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾ أي : مجلسك الذي تقضي فيه، قال ابن عباس : كان له في٢٤ كل غداة مجلس يقضي فيه إلى انتصاف النهار٢٥، «وإِنِّي عليهِ » على حمله، «لَقويٌّ٢٦ أَمين » به على ما فيه من الجواهر، فقال سليمان : أريد أسرع من هذا،
١ في ب: "قال عفريت من الجن"..
٢ في الأصل: الياء. وهو تحريف..
٣ الظاهر أن المراد: عفريت. كقراءة العامة في المرسوم، أحد اللغات في هذا اللفظ، وفي المختصر قال ابن خالويه: (عفرية أبو حيوة) ١٠٩، وانظر البحر المحيط ٧/٧٦..
٤ المختصر (١٠٩)، المحتسب ٢/١٤١، البحر المحيط ٧/٧٦..
٥ البيت من بحر البسيط، قاله ذو الرمة وهو في ديوانه ١/١١، مجاز القرآن ٢/٩٥، الكامل ٢/١٠١٠، تفسير ابن عطية ١١/٢٠٧، القرطبي ١٣/٢٠٣، اللسان (قضب) البحر المحيط ٧/٥١، ٧٦، والبيت في وصف ثور وحشي، منقضب: منقطع. يقول: كأن الثور كوكب كمصوب منقض في إثر عفرية في سواد الليل. والشاهد فيه قوله: (عفرية) فإنها لغة في (عفريت)..
٦ تفسير ابن عطية ١١/٢٠٧، البحر المحيط ٧/٧٦..
٧ انظر البحر المحيط ٧/٧٦..
٨ انظر اللسان (عفر)..
٩ في ب: نيطان..
١٠ انظر الإتباع والمزاوجة لابن فارس (٣٢، ٦٧)..
١١ وعبارته في تفسير غريب القرآن: (قال عفريت من الجن أي: شديد "وثيق") ٣٢٤..
١٢ مفردات غريب القرآن (٣٣٩)..
١٣ في لسان العرب (عفر): وأسد عفر وعِفرية وعفارية وعفريت وعفرنى: شديد قوي..
١٤ شر ِشمِرّ، بكسر الشن وتشديد الراء، بوزن رجل عِفِرّ: وهو الموثق الخلق المصحّ الشديد، ومعنى شر شمر إذا كان شديداً يتشمّر فيه عن الساعدين. اللسان (شمر)..
١٥ انظر الكشاف ٣/١٤٣..
١٦ انظر البغوي ٦/٢٨٢..
١٧ هو الربيع بن نافع الحلبي أبو توبة الطرسوسي، أخذ عن معاوية بن سلام وأبي الأحوص وإبراهيم بن سعد وخلق وأخذ عنه أبو داود، مات سنة ٢٤١ هـ، تذكرة الحفاظ للذهبي ٢/٤٧٢-٤٧٣..
١٨ انظر البغوي ٦/٢٨٢..
١٩ معاني القرآن ٢/٢٩٤..
٢٠ لأنه إذا التقى همزتان في كلمة، وكانت الأولى متحركة والثانية ساكنة أبدلت الثانية حرف مدٍّ من جنس حركة الأولى..
٢١ انظر الكشاف ٣/١٤٣، تفسير ابن عطية ١١/٢١٠، التبيان ٢/١٠٠٩، البحر المحيط ٧/٧٦..
٢٢ في ب: وأما. وهو تحريف..
٢٣ السبعة (٤٨٢)، الإتحاف (٣٣٧)..
٢٤ في: سقط من ب..
٢٥ انظر البغوي ٦/٢٨٣..
٢٦ في ب: القوي. وهو تحريف..
ف ﴿ قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب ﴾، فقيل : هو جبريل - عليه السلام - وقيل : ملك من الملائكة أيَّد الله به نبيه سليمان - عليه السلام١ - وقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخياء، وكان وزير سليمان٢، وكان صدّيقاً يعلم اسم الله الأعظم، إذا دعا به أجيب، وقيل : بل هو سليمان نفسه٣، والمخاطب هو العفريت الذي كلمه، وأراد سليمان - عليه السلام٤ - إظهار معجزة، فتحداهم أولاً، ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت٥.
( قال محمد بن المنكدر٦ : إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علماً وفهماً :﴿ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾، قال سليمان : هاتِ، قال : أنت النبي ابن النبي، وليس أحد أوجه عند الله منك، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك، قال : صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت٧. وضعف السهيلي ذلك بأنه لا يصح من سياق الكلام )٨ ٩، قال ابن الخطيب : وهذا القول أقرب لوجوه :
الأول : أن لفظة «الذي » موضوعة في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفها بقضية١٠ معلومة، والشخص المعروف بأنه عنده علم من الكتاب هو سليمان - عليه السلام - فوجب انصرافه إليه أقصى ما في الباب أن١١ يقال : كان آصف كذلك أيضاً، لكنا نقول : إن سليمان كان أعرف بالكتاب منه، لأنه هو النبي، فكان١٢ صرف اللفظ إلى سليمان أولى.
الثاني : أن إحضار العرش في تلك١٣ الساعة اللطيفة درجة عالية، فلو حصلت لآصف دون سليمان، لاقتضى ذلك قصور حال سلميان في أعين الخلق.
الثالث : أن سليمان قال ﴿ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ فظاهره١٤ يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى١٥ بدعاء سليمان١٦.

فصل :


واختلفوا في الكتاب، فقيل : هو اللوح المحفوظ، والذي عنده علم الكتاب جبريل - عليه السلام - وقيل : كتاب سليمان، أو كتاب بعض الأنبياء، وفي الجملة فإنّ ذلك مدح، وإن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش، ولذلك١٧ قيل : إنَّه اسم الله الأعظم، وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات١٨.
قوله :﴿ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه الجفن عُبِّر١٩ به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك : افعل ذلك في لحظة، وهذا قول مجاهد٢٠، وقال الزمخشري : وهو تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر٢١.
الثاني : أنه بمعنى المطروف٢٢، أي : الشيء الذي تَنْظُره٢٣، والأول هو الظاهر، لأن الطرف قد وصف بالإرسال في قوله :
٣٩٦٣ - وَكُنْتَ إَذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً *** لِقَلْبكَ يوماً أَتْعَبَتْكَ المَناظِرُ
رَأيتَ الَّذِي لا كلّه أَنْتَ قَادِر *** عَليْه ولاَ عن بعضهِ أَنْتَ صَابِرُ٢٤
قال٢٥ سعيد بن جبير «من قبل أن يرتد » أي : من قبل أن يرجع إليك أقصى ( من ترى، وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك٢٦.
وقال مجاهد : يعني إدامة النظر )٢٧ حتى يرتد٢٨ الطرف خاسئاً٢٩. وقال وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه، حتى أمثله بين يديك٣٠. فإن قيل : هذا يقتضي ( إما القول بالطفرة )٣١ ٣٢ أو حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين.
والجواب٣٣ : أن المهندسين قالوا : كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة ثم إن زمان طلوعها٣٤ زمان قصير، فإن زمان طلوع تمام القرص على زمان البعد الذي بين الشام واليمن كانت تلك اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال٣٥.
قوله :«فَلَما رآهُ » يعني سليمان، العرش «مستقراً » عنده محمولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف، ف «مُسْتَقِراً » حال، لأن الرؤية بصرية، و «عنده » معمول له٣٦، لا يقال إذا وقع الظرف حالاً وجب حذف متعلقه، فكيف ذكر هنا٣٧ ؟ لأن الاستقرار هنا ليس هو ذلك الحصول المطلق، بل المراد به هنا الثابت الذي لا يتقلقل، قاله أبو البقاء٣٨. وقد جعله ابن عطية هو العامل في الظرف الذي كان يجب حذفه، فقال : وظهر٣٩ العامل في الظرف من قوله «مُسْتَقِراً »، وهذا هو المقدر أبداً مع كل ظرف جاء هنا مظهراً، وليس في كتاب الله مثله٤٠، وما قاله أبو البقاء أحسن٤١ على أنه قد ظهر العامل المطلق في قوله :
٣٩٦٤ - فَأَنْتَ لَدَى بُحْبوحَةِ الهُونِ كَائِن٤٢ ***. . .
وقد تقدم ذلك محققاً في أول الفاتحة٤٣.
قوله٤٤ «أأشكر » معلق «ليبلوني »، وأم متصلة٤٥، وكذلك قوله :﴿ نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ ﴾٤٦. قوله :﴿ ومَنْ شَكَر. . . ومن كفر ﴾ يحتمل أن تكون «من » شرطية، أو موصولة مضمّنة معنى الشرط، فلذلك دخلت الفاء في الخبر، والظاهر أن جواب الشرط : الثاني : أو خبر الموصول قوله :﴿ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ ولا بد حينئذ من ضمير يعود على «من » تقديره٤٧ غني عن شكره، وقيل الجواب محذوف تقديره : فإنما كفر عليه، لدلالة مقابله، وهو قوله ﴿ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ عليه٤٨.

فصل :


تقدم معنى الابتلاء، وقوله : أشكر نعمته أم أكفرها فلا أشكرها، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، أي : يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها، لأن الشكر قيد٤٩ النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة، ومن كفر فإن ربي غني٥٠ عن شكره كريم بالإفضال على من يكفر نعمه٥١.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ في ب: سليمان عليه الصلاة والسلام..
٣ نفسه: سقط من ب..
٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٩٧..
٦ هو محمد بن المنكدر بن عبد الله القرشي التيمي، أبو عبد الله المدني، أحد الأئمة الأعلام، أخذ عن عائشة وأبي هريرة، وغيرهما، وأخذ عنه زيد بن أسلم، ويحيى الأنصاري والزهري، وغيرهم، مات سنة ١٣٠ هـ. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢/٤٦٠-٤٦١..
٧ انظر البغوي ٦/٢٨٣-٢٨٤..
٨ انظر القرطبي ١٣/٢٠٥..
٩ ما بين القوسين سقط من ب..
١٠ في ب: لقضية..
١١ أن: سقط من ب..
١٢ في ب: فصار..
١٣ تلك: سقط من ب..
١٤ في ب: فظاهر..
١٥ تعالى: سقط من ب..
١٦ الفخر الرازي ٢٤/١٩٧-١٩٨..
١٧ في ب: وكذلك..
١٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٩٨..
١٩ في ب: عر. وهو تحريف..
٢٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٩٨..
٢١ الكشاف ٣/١٤٣..
٢٢ في ب: الشيء المطروف..
٢٣ وهو قول ابن جبير وقتادة، انظر البحر المحيط ٧/٧٧..
٢٤ البيتان من بحر الطويل، قالتهما امرأة لم تسمّ، وهما في عيون الأخبار لابن قتيبة ٤/٢٢، الإنصاف ٢/٨٠٤، والبيت الأول في الكشاف ٣/١٤٣، البحر المحيط ٧/٧٧، وهما في شرح شواهد الكشاف (٥٣). والشاهد فيهما قوله: "أرسلت طرفك" حيث جعل الطرف مما يرسل، وهذا يؤيد أن المراد بالطرف في الآية آلة البصر مؤدى بها الفعل نفسه..
٢٥ في ب: فصل قال..
٢٦ انظر البغوي ٦/٢٨٤..
٢٧ ما بين القوسين سقط م ب..
٢٨ في ب: يزيد. وهو تحريف..
٢٩ انظر البغوي ٦/٢٨٤..
٣٠ المرجع السابق..
٣١ الطفرة: الوثبة، وقد طفر يطفر طفراً وطفوراً: وثب في ارتفاع. وطفر الحائط: وثبه إلى ما ورائه. اللسان (طفر)..
٣٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٣ في ب: فالجواب..
٣٤ في ب: طولها. وهو تحريف..
٣٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٩٨..
٣٦ انظر البحر المحيط ٧/٧٧..
٣٧ في ب: عنده..
٣٨ قال أبو البقاء: ("مستقراً" أي: ثابتاً غير متقلقل، وليس بمعنى الحصول المطلق، إذ لو كان كذلك لم يذكر) التبيان ٢/١٠٠٩..
٣٩ في ب: فظهر..
٤٠ تفسير ابن عطية ١١/٢١١..
٤١ انظر البحر المحيط ٧/٧٧..
٤٢ عجز بيت من بحر الطويل، مجهول القائل، وصدره:
لك العزّ إن مولاك عزّ وإن يهن
وقد تقدم..

٤٣ عند قوله تعالى: ﴿الحمد لله﴾[الفاتحة: ٢]..
٤٤ قوله: سقط من الأصل..
٤٥ قال الأخفش: (أي: لينظر أأشكر أم أكفر، كقولك: جئت لأنظر أزيد أفضل أم عمرو) معاني القرآن ٢/٦٥٠، وانظر أيضاً التبيان ٢/١٠٠٩، البحر المحيط ٧/٧٧-٧٨..
٤٦ في ب:... أم تكون من الذين لا يهتدون..
٤٧ في ب: يقدره..
٤٨ انظر البحر المحيط ٧/٨٧..
٤٩ في ب: قيل..
٥٠ في الأصل: غني حميد..
٥١ انظر البغوي ٦/٢٨٤..
قوله: ﴿قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا﴾ أي: غيّروا لها سريرها إلى حال تُنْكِرُه إذا رأته، وذلك أنه إذا تُرِك على حاله معرفتها لا محالة. وإذا غُيّر دلت معرفتها على فضل عقل.
قوله: «نَنْظُرْ» العامة على جزمه جواباً للأمر قبله، وأبو حيوة بالرفع، جعله استئنافاً.

فصل


روي أنه جعل أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله، وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر،
168
ومكان الأخضر أحمر. «نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي» إلى عرشها فتعرفه، أم تكون من الجاهلين الذين لا يهتدون إليه، وقيل: أتعرف به نبوة سليمان ولذلك قال: ﴿أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ﴾ إليه، وذلك كالذم، ولا يليق إلا بطريق الدلالة، فكأنه - عليه السلام - أحب أن تنظر فتعرف به نبوته، حيث صار منتقلاً من المكان البعيد إلى هناك، وذلك يدل على كمال قدرة الله تعالى، وعلى صدق سليمان - عليه السلام -. ويعرف بذلك أيضاً فضل عقلها، لأنه روي أنه ألقِي إليه نقصان عقلها، لكي لا يتزوجها - كما ذكر وهب ومحمد بن كعب وغيرهما - أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن، وذلك أن أمّها كانت جنية، وإذا ولدت ولداً لا ينكفون من تسخير سليمان وذريته من بعده، فأساءوا الثناء عليها، ليزهّدوه فيها، وقالوا: إن في عقلها شيئاً، وإن رجلها كحافر الحمار، وإنها شعراء الساقين، فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها، وينظر إلى قدميها ببناء الصرح.
قوله: «أَهَكَذَا» ثلاث كلمات - حرف التنبيه وكأن التشبيه واسم الإشارة - فُصِل (بحرف الجرِّ بيْنَ حرف التنبيه واسم الإشارة، والأصل: أَكَهَذا، أي: (أ) مِثْل هذا عرشُكن ولا يجوز ذلك في غير الكاف لو قُلت: أَبهذا مَرَرْت، وأَلهذا فعلتُ لم يجز أن تفصِل) بحرف الجرّ بين «ها» و «ذا» فتقول: أَهَا بِذَا مَرَرْتُ وأَهَا لِذَا فَعَلْتُ.
قوله: ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾، قال مقاتل: عرفتْه، ولكنها شبَّهت عليهم كما شبَّهوا عليها، وقال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل، ولكنها شبَّهت من أن تكذب، ولم تقل: لا، خوفاً من التكذيب، قالت كأنه هو، فعرف سليمان كمال عقلها، حيث توقفت في محل التوقف، قيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب عليه، وكانت قد أغلقت عليه الأبواب وأخذت مفاتيحها. قوله: ﴿وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه من كلام بلقيس، فالضمير في «قَبْلِهَا» راجع للمعجزة والحالة الدَّالة عليها السياق والمعنى: وأُوتينا العلم بنبوة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، وذلك لِمَا رأَت قبل ذلك من أمر الهُدهد ورد الهدية والرسل «من قَبْلِهَا» من قبل الآية في العرض، «وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» منقادين طائعين لأمر سليمان.
الثاني: أنه من كلام سليمان وأتباعه، فاضمير في قبلها عائد على بلقيس، فكأن سليمان وقومه قالوا: إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة، وقد رزقت الإسلام، ثم
169
عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة مثل علمها، وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزيد التقدم في الإسلام، قاله مجاهد.
قوله: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله﴾ في فاعل «صَدَّ» ثلاثة أوجه:
أحدها: ضمير الباري.
والثاني: ضمير سليمان، أي منعها ما كانت تعبد من دون الله، وهو الشمس، وعلى هذا ف ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ﴾ منصوب على إسقاط الخافض، أي: وصدّها الله أو سليما عما كانت تعبدُ من دون الله، قاله الزمخشري مجوزاً له. وفيه نظر من حيث إن حذف الجار ضرورة، كقوله:
٣٩٦٥ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا كذا قاله أبو حيان، وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع.
الثالثك أن الفاعل هو «ما كانت» أي: صدها ما كانت تعبد عن الإسلام، (أي: صدها عبادة الشمس عن التوحيد). والظاهر أنّ الجملة من قوله: «وصدّها» معطوفة على قوله «وأُوتِينَا». وقيل: هي حال من قوله: أم تكون من الذين و (قد) مضمرة، وهذا بعيد جداً. وقيل: هو مستأنف إخباراً من الله تعالى بذلك.
170
قوله: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ يعبدون الشمس، والعامة على كسر «إنّها» استئنافاً وتعليلاً: وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة بالفتح، وفيها وجهان:
أحدهما: أنها بدل من ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ﴾ أي: وصدّها «أنّها كانت».
والثاني: أنها على إسقاط حرف العلة، أي: لأنّها، فهي قريبة من قراءة العامة.
171
قوله :«أَهَكَذَا » ثلاث كلمات - حرف التنبيه وكأن التشبيه واسم الإشارة - فُصِل ( بحرف الجرِّ بيْنَ حرف التنبيه واسم الإشارة، والأصل : أَكَهَذا١، أي :( أ )٢ مِثْل هذا عرشُك، ولا يجوز ذلك في غير الكاف لو قُلت : أَبهذا مَرَرْت، وأَلهذا فعلتُ لم يجز أن تفصِل )٣ بحرف الجرّ بين «ها » و «ذا » فتقول : أَهَا بِذَا مَرَرْتُ وأَهَا لِذَا فَعَلْتُ.
قوله٤ :﴿ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾، قال مقاتل : عرفتْه، ولكنها شبَّهت عليهم كما شبَّهوا عليها٥، وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل، نعم، خوفا من أن تكذب، ولم تقل : لا، خوفاً من التكذيب٦، قالت كأنه هو، فعرف سليمان كمال عقلها، حيث توقفت في محل التوقف، قيل لها : فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب عليه، وكانت قد أغلقت عليه الأبواب وأخذت مفاتيحها. قوله :﴿ وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه من كلام بلقيس، فالضمير في «قَبْلِهَا » راجع للمعجزة والحالة الدَّالة عليها السياق والمعنى : وأُوتينا العلم بنبوة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، وذلك لِمَا رأَت قبل ذلك من أمر الهُدهد ورد الهدية والرسل «من قَبْلِهَا » من قبل الآية في العرش، «وَكُنَّا مُسْلِمِينَ » منقادين طائعين لأمر سليمان.
الثاني : أنه من كلام سليمان وأتباعه، فالضمير في قبلها عائد على بلقيس، فكأن سليمان وقومه قالوا : إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة، وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم٧ : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة مثل علمها، وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزيد التقدم في الإسلام، قاله مجاهد٨.
١ في ب: أهكذا..
٢ ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق..
٣ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٤ في الأصل: فصل..
٥ انظر البغوي ٦/٢٨٥..
٦ المرجع السابق..
٧ في ب: قوله..
٨ انظر الكشاف ٣/١٤٤، الفخر الرازي ٢٤/١٩٩-٢٠٠، القرطبي ١٣/٢٠٧-٢٠٨..
قوله :﴿ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله ﴾ في فاعل «صَدَّ » ثلاثة أوجه :
أحدها : ضمير الباري١.
والثاني : ضمير سليمان٢، أي منعها ما كانت تعبد من دون الله، وهو الشمس، وعلى هذا ف ﴿ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ﴾ منصوب على إسقاط الخافض، أي : وصدّها الله أو سليمان عما كانت تعبدُ من دون الله، قاله الزمخشري٣ مجوزاً له. وفيه نظر من حيث إن حذف الجار ضرورة، كقوله :
٣٩٦٥ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا٤ ***. . .
كذا قاله أبو حيان٥، وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع.
الثالث : أن الفاعل هو «ما كانت » أي : صدها ما كانت تعبد عن الإسلام٦، ( أي : صدها عبادة الشمس عن التوحيد )٧. والظاهر أنّ الجملة من قوله :«وصدّها » معطوفة على قوله «وأُوتِينَا »٨. وقيل : هي حال من قوله : أم تكون من الذين و ( قد ) مضمرة، وهذا بعيد جداً٩. وقيل : هو مستأنف إخباراً من الله تعالى بذلك١٠.
قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ يعبدون الشمس، والعامة على كسر «إنّها » استئنافاً وتعليلاً : وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة بالفتح١١، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها بدل من ﴿ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ﴾ أي : وصدّها «أنّها كانت »١٢.
والثاني : أنها على إسقاط حرف العلة، أي : لأنّها١٣، فهي قريبة من قراءة العامة.
١ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٩٥، مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٩، الكشاف ٣/١٤٥، البيان ٢/٢٢٢، التبيان ٢/١٠٠٩..
٢ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٩٥، مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٩، الكشاف ٣/١٤٥.
٣ قاله الزمخشري: (وقيل: وصدّها الله، أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل) الكشاف ٣/١٤٥..
٤ صدر بيت من بحر الوافر، قاله جرير وعجزه:
كلامكم عليَّ إذن حرام
وقد تقدم..

٥ قال أبو حيان: (وكونه الله أو سليمان و(ما) مفعول (صدها) على إسقاط حرف الجر قاله الطبري، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر نحو قوله:
تمرّون الدّيار ولم تعوجوا
أي: عن الديار، وليس من مواضع حذف حرف الجر). البحر المحيط ٧/٧٩..

٦ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٩٥، مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٩، البيان ٢/٢٢٢، التبيان ٢/١٠٠٩..
٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٨ انظر البحر المحيط ٧/٧٩..
٩ وضعّفه أبو حيان معلّلاً بقوله: (لطول الفصل بينهما، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة) البحر المحيط ٧/٧٩..
١٠ المرجع السابق..
١١ المختصر (١١٠) تفسير ابن عطية ١١/٢١٣، البحر المحيط ٧/٧٩..
١٢ في ب: كانت تعبد..
١٣ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٤٩، الكشاف ٣/١٤٥، البيان ٢/٢٢٣، التبيان ٢/١٠٠٩، البحر المحيط ٧/٧٩..
قوله: ﴿قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح﴾ تقدّم الخلاف في الظرف الواقع بعد «دخل» هل هو منصوب على الظرف، وشذّ ذلك مع دخل خاصة - كما قاله سيبويه - أو مفعول به كَهَديت البيت كما قاله الأخفش. والصَّرحُ: القصر، أو صحن الدار، أو بلاط متخذ من زجاج وأصله من التصريح، وهو الكشف، وكذِبٌ «صُرَاحٌ»، أي: ظاهر مكشوف ولومٌ صُراحٌ. والصريحُ مقابل الكناية، لظهوره واستتار ضده. وقيل: الصريح الخالص من قولهم: لبنٌ صَرِيحٌ بيّن الصراحة والصروحة. وقال الراغب: الصَّرحُ بيت عالٍ مُزوّق، سمي بذلك اعتباراً بكونه صرحاً عن البيوت، أي: خالصاً.
قوله: «سَاقَيْهَا» العامة على ألف صريحة، وقُنْبُل روى همزها عن ابن كثير، وضعَّفَها أبو علي، وكذلك فعل قنبل في جمع ساق في: ص، وفي الفتح، همز واوه، فقرأ «بالسُّؤْقِ والأَعْنَاق»، ﴿فاستوى على سُوقِهِ﴾ [الفتح: ٢٩] بهمزة مكان الواو، وعنه وجه آخر: السُّؤوق، وسُؤُوقِهِ - بزيادة واو بعد الهمز -، وروي عنه أنه كان يهمزه مفرداً في قوله: ﴿يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ [القلم: ٤٢] فأما همزة الواو ففيها أوجه:
171
أحدها: أن الواو الساكنة المضموم ما قبلها يقلبها بعض العرب همزة، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة عند «يوقِنُونَ»، وأنشد عليه:
٣٩٦٦ - أَحَبُّ المؤقدينَ إِلَيَّ مُؤْسَى وكان أبو حيّة النميري يهمزُ كُلَّ واوٍ في القرآن هذا وصفها.
الثانيك أَنَّ ساقاً على «فَعَل» كأسد، فجمع على «فُعُل» بضم العين، كأسد والواو المضمومة تطلب همزة، نحو: «وُجُوه»، و «وُقِّتَتْ» ثم بعد الهمزة سكنت.
الثالث: أن المفرد سمع همزه كما سيأتي تقريره، فجاء جمعه عليه.
وأما سؤوق - بالواو بعد الهمزة - فإن ساقاً جمع على سووق بواو، فهمزت الأولى لانضمامها وهذه الرواية غريبة عن قنبل. وأما «ساقها» فوجه الهمزة أحد أوجه: إما لغة من يقلب الألف همزة، وعليه لغة العجاج في: العألم و «الخأتم»، وأنشد:
٣٩٦٧ - وَخِنْدفُ هَامَة هذَا العَأْلَم... وسيأتي تقريره في: ﴿مِنسَأَتَهُ﴾ [سبأ: ١٤]- إن شاء الله - وتقدم طرف منه في
172
الفاتحة، وإما على التشبيه برأس، وكأْسٍ، كما قالوا: حلأْتُ السَّويقَ، حملاً على حلأْته عن الماء، أي: طردته وإما حملاً للمفرد والمثنى على جمعها، وقد تقرر في جمعها الهمز.

فصل


لما حكى تعالى إقامتها على الكفر مع الدلائل المتقدمة، ذكر أنَّ سليمان أظهر أمراً آخر داعياً لها إلى الإسلام، فأمر الشياطين فبنوا صرحاً أي: قصراً من زجاج، كأنه الماء بياضاً وأجري تحته الماء، وألقى فيه كل شيء من دواب البحر من السمك والضفادع وغيرها، ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وقيل: اتخذ صحناً من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع، فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء، فلما جلس على لسرير دعا بلقيس، فلما جاءت قِيل لها: ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وهي معظم الماء، ﴿وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَاَ﴾ لتخوضه، فقيل كان المقصود من بناء الصرح تهويل المجلس وتعظيمه، وحصل كشف الساق على سيبيل التبع، وقيل: إن سليمان أراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفها لما قالت الشياطين له إن رجلها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً، إلا أنها كانت شعراء الساقين، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها وناداها أنّه صرح «مُمرَّد»، أي: مُمَلَّسٌ، ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر وبريَّةٌ مرداء لخلوها من النبات، ورملةٌ مرداء، لا تنبيت شيئاً، والمارد من الشياطين من تَعَرَّى من الخير وتجرد منه.
ومارد حصنّ معروف، وفي أمثال الزَّبَّاء: «تَمَرَّدَ مَارِدٌ وَعَزَّ الأَبْلَقُ» قالتها في حصنين امتنع فتحهما عليها. والقوارير، وهي الزجاج الشفاف، و «مِنْ قَوَارِيرَ» صفة ثانية ل «صرح».
قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيَ﴾ قال مقاتل: لما رأت السرير والصرح، علمت
173
أن ملك سليمان من الله، فقالت ربِّ إنِّي ظلمتُ نَفْسِي بعبادة غيرك، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وأخلصت لك التوحيد.
وقيلك إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا، فقولها: «ظَلَمْتُ نَفْسِي» تعني ذلك الظن.
واختلفوا: هل تزوجها سليمان أم لا؟ وأنه تزوجها في هذه الحال، ومن قبل أن يكشف عن ساقيها؟ والأظهر من كلام الناس أنه تزوجها، وروي عن ابن عباس لما أسلمت، قال لها: اختاري من قومك من يتزوجك، فقالت: مثلي لا تنح الرجال - مع سلطاني - فقال: النكاح من الإسلام، فقالت: إن كان كذلك فزوجني لتبع ملك همدان، فزوجها إياه، ثم ردهما إلى اليمن.
وروي أن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
قوله: «مَعَ سُلَيْمَانَ» متعلق بمحذوف على أنه حال، ولا يتعلق: «أَسْلَمْتُ»، لأنَّ إسلامه سابق إسلامها بزمان، وهو وجه لطيف، وقال ابن عطية: و «مَعَ» ظرف بُني على الفتح، وأمَّا إذا أسكنت العين، فلا خلاف أنه حرفٌ. وقد تقدم القول في ذلك وقال مكي هنا نحواً من قول ابن عطية.
174
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً﴾ الآية.
قوله: ﴿أَنِ اعبدوا الله﴾ أي: وحدوه، ويجوز في «أَنْ» أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية، أي بأن اعبدوا فيجيء في محلها القولان.
قوله: ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ﴾ تقدم الكلام في «إذَا» الفجائية، والمراد بالفريقين قوم صالح، وأنهم انقسموا فريقين: مؤمن وكافر، وقد صرح بذلك في الأعراف في قوله: ﴿قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ﴾ [الأعراف: ٧٥]. وجعل الزمخشري الفريق الواحد صالحاً وحده والآخر جميع قومه؛ وحمله على ذلك العطف بالفاء، فإنه يؤذن أنه بمجرد إرسالة صاروا فريقين، ولا يصير قومه فريقين إلا بعد زمان ولو قليلاً.
و «يَخْتَصِمُونَ» صفة ل «فَرِيقَان» على المعنى، كقوله: ﴿هذان خَصْمَانِ اختصموا﴾ [الحج: ١٩] و ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩] واختير هنا مراعاة الجمع، لكونها فاصله.
قوله: ﴿ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي: قال لهم صالح يا قوم لم تستعجلون بالسيئة بالبلاء والعقوبة، أي أن الله قد مكنكم من التوصّل إلى رحمته وثوابه فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه، وقيل: إنّهم كانوا يقولون إن العقوبة التي يعدّها صالح - إن وقعت على زعمه - تُبْنَا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا، ويدفع العذاب عنا، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم، فقال: هلاّ تستغفرون الله قبل نزول العذاب، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، ووصف العذاب بأنّه سيئة مجازاً، إمّا لأنّ العقاب من
175
لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، وأمّا وصف الرحمة بأنّها حسنة، فقيل: حقيقة، وقيل: مجاز. ثم إن صالحاً عليه السلام لما قرّر هذا الكلام الحقّ أجابوه بكلام فاسد، فقالوا «اطّيَّرنَا بِكَ» أي: تشاءمنا بك، لأنّ الذي يصيبنا من شدة وقحط شؤمك وشؤم من معك. وقرىء: «تطيّرنّا بِكَ»، وهو الأصل، وأدغم، وتقدّم تقريره، قال الزمخشري: كان الرجل يخرج مسافراً فيمرُّ بطائر فيزجره، فإن مرّ سانحاً تيمّن، وإن مرَّ بارحاً تشاءم، فلمّا نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر، وهو قدر الله وقسمته، فأجاب صالح - عليه السلام - بقوله: طائركم عند الله، أي السبب الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، وهو قضاؤه وقدره وهو مكتوب عليكم. سمي طائراً لسرعة نزوله بالإنسان، لأنّه لا شيء أسرع من قضاء محتوم. قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم. وقيل طائركم: عملكم عند الله، سمى طائراً لسرعة صعوده إلى السماء، وقيل: إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم، وقيل: لأنه أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقطحوا.
قوله: «تُفْتَنُونَ» داء بالخطاب مراعاةً لتقدّم الضمير، ولو روعي ما بعده لقيل «يُفْتَنُونَ» بياء الغيبة، وهو جائز ولكنه مرجوح، ويقول: أنت رجل يفعل وتفعل بالباء والياء، ونحن قوم نقرأ ويقرأون.
والمراد من هذا الكلام أن صالحاً - عليه السلام - بين بهذا الكلام جهلهم بقوله: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾، فيحتمل أن غيرهم دعاءهم إلى هذا القول، ويحتمل أن المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته.
وقال ابن عباس: يُخْتَبرون بالخير والشر كقوله: ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]، وقال محمد بن كعب: يعذبون.
176
قوله: «وكان في المدينة تسعة رهط} يعني: مدينة ثمود، والأكثر أن يتميز، والعدد مجرور ب» من «، كقوله: ﴿أَرْبَعَةً مِّنَ الطير﴾ [البقرة: ٢٦٠] وفي المسألة مذاهب:
أحدها: أنه لا يجوز إلا في قليل.
الثاني: أنه يجوز ولكن لا ينقاس.
الثالث: التفصيل بين أن تكون للقلة كرهط ونفر، فيجوز، أو للكثرة فقط، أو لها وللقلة فلا يجوز نحو: تسعة قوم. ونصب سيبويه على امتناع ثلاث غنم.
قال الزمخشري: وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط، لأنه في معنى الجمع، كأنه قيل: تسعة أنفس. قال أبو حيان: وتقدير غيره تسعة رجال هو الأولى؛ لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول: تِسع أنفس - على تأنيث النفس - إذا الفصيح فيها التأنيث، ألا تراهم عدوا من الشذوذ قول الشاعر:
٣٩٦٨ - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ وثَلاثُ ذَوْدٍ... قال شهاب الدين: وإنما أراد تفسير المعنى. وقال ابن الخطيب: والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع؛ إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد، لاختلاف وصفهم وأحوالهم، لا لاختلاف النسب.
قوله:»
يُفْسِدُونَ «يجوز أن يكون نعتاً للمعدود أو العدد، فيكون في موضع جر أو رفع.
قوله:»
ولا يصلِحُون «قيل: مؤكد للأول، وقيل: ليس مؤكداً؛ لأن بعض المفسدين قد يصلح في وقت ما، فأخبر عن هؤلاء بانتفاء توهم ذلك، وهم الذي اتفقوا على عقر الناقة، وهم غواة قوم صالح، ورأسهم: قُدَار بن سالف، وهو عاقر الناقة.
177
قوله:» قَالُوا تَقَاسَمُوا «يجوز في» تَقَاسَمُوا «أن يكون أمراً، قال بعضهم لبعض: احلفوا على كذا، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً، وحينئذ يجوز أن يكون مفسراً ل» قَالُوا «كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: تقاسموا. ويجوز أن يكون حالاً على إضمار» قد «، أي: قالوا ذلك متقاسمين، وإليه ذهب الزمشخري، فإنه قال: يحتمل أن يكون أمراً وخبراً في محل الحال بإضمار» قد «. قال أبو حيان: أما قوله: وخبراً. فلا يصح؛ لأن الخبر أحد قِسْمَي الكلام لأنه ينقسم إلى الخبر والإنشاء، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين قال شهاب الدين: ولا أدري عدم الصحة مماذا؟ لأنه جعل الماضي خبراً، لاحتماله الصدق والكذب، مقابلاً للأمر الذي لا يحتملهما، أما كون الكلام لا ينقسم إلا إلى خبر وإنشاء وأن معانيه إذا حققت ترجع إيلهما، فأي مدخل لهذا في الرد على الزمخشري.
ثم قال أبو حيان: والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد، فإذا أطلق عليها الخبر كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالاً لجاز أن تستعمل خبراً، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة صلة: هي خبرية، فهو مجاز والمعنى: أنها لو لم تكن صلة لجاز أن تسعتمل خبراً، وهذا فيه عوض.
قال شهاب الدين: مسلم أن الجملة ما دامت حالاً أو صلة لا يقال لها خبرية، بمعنى أنها تستقلّ بإفادة الإسناد، لأنها سيقت مساق القيد في الحال ومساق حد كلمة في الصلة، وكان ينبغي أن يذكر أيضاً الجملة الواقعة صفة، فإن الحكم فيها كذلك، ثم قال: وأما إضمار «قد»
فلا يحتاج إليه، لكثرة وقوع الماضي حالاً دون «قد»، كثرة ينبغي القياس عليها.
قال شهاب الدين: الزمخشري مَشَى مع الجمهور فإنّ مذهبهم أنه لا بدَّ من «قد» ظاهرةً أو مضمرةً لتقرّبه من الحال. وقرأ ابن أبي ليلى: «تَقَسَّمُوا» - دون ألف مع
178
تشديد السين - والتَّقاسم والتقسُّم كالتَّظاهر والتَّظَهُّر.
قوله: «بِاللَّهِ» إن جعلت «تَقَاسَمُوا» أمراً، تعلق به الجار قولاً واحداً، وإن جعلته ماضياً احتمل أن يتعلق به، ولا يكون داخلاً تحت القول، والمقول هو «لنُبَيِّتنَّهُ» (إلى آخره، واحتمل ان يتعلق بمحذوف هو فعل القسم، وجوابه: «لنُبَيِّتَنَّهُ» فعلى هذا يكون ما بعده داخلاً تحت المقول.
قوله: «لنُبيِّتَنَّهُ» ) قرأ الأخوان بتاء الخطاب المضمومة وضم التاء، والباقون بنون المتكلم وفتح التاء. «ثُمَّ لَنَقُولَنَّ» : قرأ الأخوان بتاء الخطاب المضمومة وضم اللام والباقون بنون المتكلم وفتح اللام، ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخوين. (إلا أنّه بياء الغيبة في الفعلين، وحميد بن قيس كهذه القراءة في الأول، وقراءة غير الأخوين) من السبعة في الثاني. فأمَّا قراءة الأخوين فإن جعلنا «تقاسموا» فعل أمرٍ، فالخطاب واضح، رجوعاً بآخر الكلام إلى أوله، وإن جعلناه ماضياً، أو أمراً فالأمر فيهما واضح وهو حكاية إخبارهم عن أنفسهم وأمّا قراءة الغيبة فيهما فظاهرةٌ على أن يكون «تَقَاسَمُوا» ماضياً رجوعاً بآخر الكلام إلى أوله في الغيبة، وإن جعلناه أمراً كان «لنُبَيَّتنهُ» جواباً لسؤال مقدر، كأنّه قيل: كيف تقاسموا؟ فقيل: لَنُبَيِّتَنَّه. وأما غيبة الأول والمتكلم في الثاني: فتعليله مأخوذ ممّا تقدّم في تعليل القراءتين، وقال الزمخشري: وقرىء «لتُبَيِّتنَّهُ» بالتاء والياء والنون، ف «تَقَاسَمُوا» مع التاء والنون يصح (فيه الوجهان، يعني يصح) في «تَقَاسَمُوا» أن يكون أمراً وأن يكون خبراً، قال: ومع الياء لا يصح إلاّ أن يكون خبراً.
قال شهاب الدين: وليس كذلك لما تقدّم من أنه يكون أمراً وتكون الغيبة
179
فيما بعده جواباً لسؤال مقد. وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال: «تَقَاسَمُوا» فيه وجهان:
أحدهما: هو أمرٌ أي: أمر بعضهم بذلك بعضاً، فعلى هذا يجوز في «لنُبَيِّتَنَّهُ» النون بتقدير: قولوا لنُبَيِّتَنَّهُ، والتاء على خطاب الأمر المأمور، ولا يجوز التاء.
والثاني: هو فعل ماض، وعلى هذا يجوز الأوجه الثلاثة. يعني بالأوجه: النون والتاء والياء، قال: وهو على هذا تفسير، أي: وتقاسموا على كونه ماضياً مفسّراً لنفس «قَالُوا» وقد سبقهما إلى ذلك مكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتقدم توجيه ما منعوه ولله الحمد، وتنزيل هذه الأوجه بعضها على بعض مام يصعب استخراجه من كلام القوم، وتقدّم الكلام في «مَهْلِكَ أَهْلِهِ» في الكهف.

فصل


من جعله أمراً فموضع «تَقَاسَمُوا» جزم على الأمر، أي: احلفوا، ومن جعله فعلاً ماضياً فمحله نصب أي: تحالفوا وتوافقوا لنبيتّنه لنقتلنه، بياتاً أي: ليلاً، وأهله: أي: قومه الذين أسلموا معه، ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ﴾ : أي لولي دمه، «مَا شَهِدْنَا» ما حضرنا، «مَهْلِكَ أَهْلَهِ» إهلاكهم، ولا ندري من قتله، ومن فتح الميم فمعناه: هلاك أهله، «وَإِنَّا لَصَادِقُونَ» : في قولنا ما شهدنا ذلك.
قوله: «وَمَكَرُوا مَكْرً» غدروا غدراً حين قصدوا تبييت صالح والفتك به، «وَمَكَرْنَا مَكْراً» جازيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم، «وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ» فشبّه إهلاكهم من حيث لا يشعرون بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. وقيل: إنّ الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرز عنهم، فذلك مكر الله في حقهم.
قوله: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ : قرأ الكوفيون بفتح «أَنَّا»، والباقون بالكسر، فالفتح من أوجه:
180
أحدها: أن يكون على حذف الجر، لأنَّا دمّرناهم، و «كَانَ» تامّة، و «عَاقِبَةُ» فاعل بها، و «كَيْفَ» : حال.
الثاني: أن يكون بدلاً من «عَاقِبَةُ»، أي: كيف كان تدميرنا إيّاهم، بمعنى كيف حدث.
الثالثك أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هي أنَّا دمَّرناهم، أي: العاقبة تدميرنا إياهم، ويجوز مع هذه الأوجه الثلاثة أن تكون كان ناقصة، ويجعل «كَيْفَ» خبرها، فتصير الأوجه ستة، ثلاثة مع تمام «كَانَ» وثلاثة مع نقصانها، ونزيد مع الناقصة وجهاً آخر، وهو ان يجعل «عَاقِبَة» اسمها، و «أَنَّا دَمَّرناهُم» خبرها، و «كَيْفَ» : حال، فهذه سبعة أوجه، والثامن: أن تكون «كان» زائدة، و «عاقبة» مبتدأ، وخبره «كَيْفَ»، و «أَنَّا دَمَّرنَاهُم» بدل من «عاقبة» أو خبر مبتدأ مضمر، وفيه تعسُّف.
التاسع: أنها على حذف الجار أيضاً، إلا أنه الباء، أي: بأنَّا دمَّرناهم، ذكره أبو البقاء.
العاشر: أنها بدل من «كَيْفَ»، وهذا وهم من قائله، لأن المبدل من اسم الاستفهام يلزم معه إعادة حرف الاستفهام، نحو: كم مالكم أعشرون أم ثلاثون؟ وقال مكي: ويجوز في الكلام نصب «عَاقِبَة» ويجعل «أَنَّا دَمَّرنَّاهُم» اسم كان. انتهى.
بل كان هذا هو الأرجح كما كان النصب في قوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [العنكبوت: ٢٤] ونحوه أرجح، لما تقدّم شبهه بالمضمر، لتأويله بالمصدر، وتقدّم تحقيق هذا. وقرأ أُبيّ: «أنْ دَمَّرْنَاهُمْ» وهي: أن المصدرية التي يجوز أن تنصب المضارع، والكلام فيها كالكلام فيها كالكلام على «أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ» وأمّا قراءة الباقين، فعلى
181
الاستئناف، وهو تفسير للعاقبة، وكان يجوز فيها التمام والنقصان والزيادة، و «كَيْفَ» وما في حيّزها في محل نصب على إسقاط الخافض، لأنّه معلق للنظر، و «أَجْمَعِينَ» : تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه.

فصل


قال ابن عباس: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه، فأتى التسعة دار صارح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة، فقتلتهم. وقال مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضاً، ليأتوا دار صالح، فجثم عليه الجبل فأهلكهم وأهلك الله قومهم بالصيحة.
قوله: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ العامة على نصب «خَاوِيَةً» حالاً، والعامل فيها معنى اسم الإشارة، وقرأ عيسى: «خَاوِيَةٌ» بالرفع، إمّا على خبر «تلك»، و «بُيُوتُهُمْ» بدل من «تِلْك»، وإمّا خبر ثان، و «بُيُوتُهُم» خبر أول، وإمّا على خبر مبتدأ محذوفن أي: هي خاوية، وهذا إضمار مستغنًى عنه، و «بِمَا ظَلَمُوا» متعلق ب «خاوية»، أي بسبب ظلمهم. و «خَاويَةً» أي: خالية «بِمَا ظَلَمُوا» بظلمهم وكفرهم، ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً﴾ لَعِبْرَةً، «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» قدرتنا: ﴿وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ قيل: كان الناجون منهم أربعة آلاف.
182
قوله :﴿ يا قوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ أي : قال لهم صالح يا قوم لم تستعجلون بالسيئة بالبلاء والعقوبة، أي أن الله قد مكنكم من التوصّل إلى رحمته وثوابه فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه، وقيل : إنّهم كانوا يقولون إن العقوبة التي يعدّها صالح - إن وقعت على زعمه - تُبْنَا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا، ويدفع العذاب عنا، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم، فقال : هلاّ تستغفرون الله قبل نزول العذاب، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، ووصف العذاب بأنّه سيئة مجازاً، إمّا لأنّ العقاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، وأمّا وصف الرحمة بأنّها حسنة، فقيل : حقيقة، وقيل : مجاز١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٠٢..
ثم إن صالحاً عليه السلام١ لما قرّر هذا الكلام الحقّ أجابوه بكلام فاسد، فقالوا «اطّيَّرنَا بِكَ » أي : تشاءمنا بك، لأنّ الذي يصيبنا من شدة وقحط شؤمك وشؤم من معك٢. وقرئ :«تطيّرنّا بِكَ »٣، وهو الأصل، وأدغم، وتقدّم تقريره٤، قال الزمخشري : كان الرجل يخرج مسافراً فيمرُّ بطائر فيزجره، فإن مرّ سانحاً٥ تيمّن، وإن مرَّ بارحاً تشاءم٦، فلمّا نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر، وهو قدر الله٧ وقسمته، فأجاب صالح - عليه السلام٨ - بقوله : طائركم عند الله، أي السبب الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، وهو قضاؤه وقدره وهو مكتوب عليكم٩. سمي طائراً لسرعة نزوله بالإنسان، لأنّه لا شيء أسرع من قضاء محتوم. قال ابن عباس : الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم١٠. وقيل طائركم : عملكم عند الله١١، سمي طائراً لسرعة صعوده إلى السماء، وقيل : إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم، وقيل : لأنه أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقحطوا١٢.
قوله :«تُفْتَنُونَ » جاء بالخطاب١٣ مراعاةً لتقدّم الضمير، ولو روعي ما بعده لقيل «يُفْتَنُونَ » بياء الغيبة، وهو جائز ولكنه مرجوح، ويقول : أنت رجل يفعل وتفعل بالياء والتاء، ونحن قوم نقرأ ويقرأون١٤.
والمراد من هذا الكلام أن صالحاً - عليه السلام١٥ - بين بهذا الكلام جهلهم بقوله :﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾، فيحتمل أن غيرهم دعاهم إلى هذا القول، ويحتمل أن المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته.
وقال١٦ ابن عباس : يُخْتَبرون بالخير والشر كقوله :﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ]، وقال محمد بن كعب : يعذبون١٧.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٠٢-٢٠٣..
٣ لم تعز إلى من قرأ بها. انظر الكشاف ٣/١٤٦، البحر المحيط ٧/٨٢..
٤ عند قوله تعالى: ﴿وإن تصبهم سيئةً يطيَّروا بموسى ومن معه﴾[الأعراف: ١٣١]..
٥ سانحاً: تكملة من الكشاف..
٦ السانح: ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك. والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك. انظر اللسان (سنح)..
٧ في ب: وهو قضاؤه وقدره الله..
٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٩ الكشاف ٣/١٤٥-١٤٦. بتصرف..
١٠ انظر البغوي ٦/٢٩١..
١١ انظر الكشاف ٣/١٤٦..
١٢ في ب: فقحطوا. وانظر البغوي ٦/٢٩٠-٢٩١..
١٣ في ب: الخطاب..
١٤ انظر البحر المحيط ٧/٨٣..
١٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٦ في ب: قال..
١٧ انظر البغوي ٦/٢٩١..
قوله :«وكان في المدينة تسعة رهط } يعني : مدينة ثمود، والأكثر أن يتميز، والعدد مجرور ب «من »، كقوله :﴿ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير ﴾١ وفي المسألة مذاهب :
أحدها : أنه لا يجوز إلا في قليل.
الثاني : أنه يجوز ولكن لا ينقاس.
الثالث : التفصيل بين أن تكون للقلة كرهط ونفر، فيجوز، أو للكثرة فقط، أو لها وللقلة فلا يجوز نحو : تسعة قوم٢. ونصب سيبويه على امتناع ثلاث٣ غنم٤.
قال الزمخشري : وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط، لأنه في معنى الجمع، كأنه قيل : تسعة أنفس٥. قال أبو حيان : وتقدير غيره٦ تسعة رجال هو الأولى٧ ؛ لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول : تِسع أنفس - على تأنيث النفس - إذ الفصيح فيها التأنيث، ألا تراهم عدوا من الشذوذ قول الشاعر :
٣٩٦٨ - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ وثَلاثُ ذَوْدٍ٨ ٩ ***. . .
قال شهاب الدين : وإنما أراد تفسير المعنى١٠. وقال ابن الخطيب : والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع ؛ إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد، لاختلاف وصفهم وأحوالهم، لا لاختلاف النسب١١.
قوله :«يُفْسِدُونَ » يجوز أن يكون نعتاً للمعدود أو١٢ العدد، فيكون في موضع جر أو رفع١٣.
قوله :«ولا يصلِحُون » قيل : مؤكد للأول، وقيل : ليس مؤكداً ؛ لأن بعض المفسدين قد يصلح في وقت ما، فأخبر عن هؤلاء بانتفاء توهم ذلك١٤، وهم الذين اتفقوا على عقر الناقة، وهم غواة قوم صالح، ورأسهم : قُدَار بن سالف، وهو عاقر الناقة١٥.
١ من قوله تعالى: ﴿قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك﴾[البقرة: ٢٦٠]..
٢ انظر البحر المحيط ٧/٨٣، التصريح ٢/٢٧٠، الهمع ١/٢٥٣، الأشموني ٤/٥..
٣ في النسختين: ثلاثة. والصواب ما أثبته..
٤ انظر الكتاب ٣/٥٦٢..
٥ الكشاف ٣/١٤٦..
٦ وهو ابن عطية. انظر تفسيره ١١/٢١٨..
٧ في ب: الأول. وهو تحريف..
٨ صدر بيت من بحر الوافر، قاله الحطيئة، وعجزه:
لقد جار الزَّمان على عيالي
وقد تقدم..

٩ البحر المحيط ٧/٨٣..
١٠ الدر المصون ٥/١٩٩..
١١ الفخر الرازي ٢٤/٢٠٣، وفيه: السبب..
١٢ في ب: و..
١٣ انظر التبيان ٢/١٠١٠، البحر المحيط ٧/٨٣..
١٤ انظر الكشاف ٣/١٤٦، البحر المحيط ٧/٨٣..
١٥ انظر البغوي ٦/٢٩١..
قوله :«قَالُوا تَقَاسَمُوا » يجوز في«تَقَاسَمُوا » أن يكون أمراً، قال بعضهم لبعض : احلفوا على كذا، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً، وحينئذ يجوز أن يكون مفسراً ل «قَالُوا » كأنه قيل : ما قالوا ؟ فقيل : تقاسموا١. ويجوز أن يكون حالاً على إضمار «قد »، أي : قالوا ذلك متقاسمين، وإليه ذهب الزمخشري، فإنه قال : يحتمل أن يكون أمراً وخبراً في محل الحال بإضمار «قد »٢. قال أبو حيان : أما قوله : وخبراً. فلا يصح ؛ لأن الخبر أحد قِسْمَي الكلام لأنه ينقسم إلى الخبر والإنشاء، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين٣ قال شهاب الدين : ولا أدري عدم الصحة مماذا ؟ لأنه جعل الماضي خبراً، لاحتماله الصدق والكذب، مقابلاً للأمر الذي لا يحتملهما، أما كون الكلام لا ينقسم إلا إلى خبر وإنشاء وأن٤ معانيه إذا حققت ترجع إليهما، فأي مدخل لهذا في الرد على الزمخشري٥.
ثم قال أبو حيان : والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد، فإذا أطلق عليها الخبر كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالاً لجاز أن تستعمل خبراً، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة صلة : هي خبرية، فهو مجاز والمعنى : أنها لو لم تكن صلة لجاز أن تستعمل خبراً، وهذا فيه عوض٦.
قال شهاب الدين : مسلم أن الجملة ما دامت حالاً أو صلة لا يقال لها خبرية، بمعنى أنها تستقلّ٧ بإفادة الإسناد، لأنها سيقت مساق القيد في الحال ومساق حد كلمة في الصلة٨، وكان ينبغي أن يذكر أيضاً الجملة الواقعة صفة، فإن الحكم فيها كذلك٩، ثم قال١٠ : وأما إضمار «قد » فلا يحتاج إليه، لكثرة وقوع الماضي حالاً دون «قد »، كثرة ينبغي القياس عليها١١.
قال شهاب الدين : الزمخشري مَشَى مع الجمهور فإنّ مذهبهم أنه لا بدَّ من «قد » ظاهرةً أو مضمرةً لتقرّبه من الحال١٢. وقرأ ابن أبي ليلى :«تَقَسَّمُوا » - دون ألف مع تشديد السين١٣ - والتَّقاسم والتقسُّم كالتَّظاهر والتَّظَهُّر١٤.
قوله :«بِاللَّهِ » إن جعلت «تَقَاسَمُوا » أمراً، تعلق به الجار قولاً واحداً، وإن جعلته ماضياً احتمل أن يتعلق به، ولا يكون داخلاً تحت القول، والمقول هو «لنُبَيِّتنَّهُ » ( إلى آخره، واحتمل أن يتعلق بمحذوف هو فعل القسم، وجوابه :«لنُبَيِّتَنَّهُ » فعلى هذا يكون ما بعده داخلاً تحت المقول١٥.
قوله :«لنُبيِّتَنَّهُ » )١٦ قرأ الأخوان١٧ بتاء الخطاب المضمومة وضم التاء١٨، والباقون بنون المتكلم وفتح التاء١٩. «ثُمَّ لَنَقُولَنَّ » : قرأ الأخوان بتاء الخطاب المضمومة وضم اللام والباقون بنون المتكلم وفتح اللام٢٠، ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخوين٢١. ( إلا أنّه بياء الغيبة في الفعلين٢٢، وحميد بن قيس كهذه القراءة في الأول، وقراءة غير الأخوين )٢٣ من السبعة في الثاني٢٤. فأمَّا قراءة الأخوين٢٥ فإن جعلنا «تقاسموا » فعل أمرٍ، فالخطاب واضح، رجوعاً بآخر الكلام إلى أوله، وإن جعلناه ماضياً، فالخطاب على حكاية خطاب بعضهم لبعض بذلك. وأما قراءة بقية السبعة، فإن جعلناه ماضياً أو أمراً فالأمر فيهما واضح وهو حكاية إخبارهم عن أنفسهم وأمّا قراءة الغيبة فيهما فظاهرةٌ على أن يكون «تَقَاسَمُوا » ماضياً٢٦ رجوعاً بآخر الكلام إلى أوله في الغيبة، وإن جعلناه أمراً كان «لنُبَيَّتنهُ » جواباً لسؤال مقدر، كأنّه قيل : كيف تقاسموا ؟ فقيل : لَنُبَيِّتَنَّه. وأما غيبة الأول والمتكلم في الثاني : فتعليله مأخوذ ممّا تقدّم في تعليل القراءتين، وقال الزمخشري : وقرئ «لتُبَيِّتنَّهُ » بالتاء والياء والنون، ف «تَقَاسَمُوا » مع التاء والنون يصح ( فيه الوجهان٢٧، يعني يصح )٢٨ في «تَقَاسَمُوا » أن يكون أمراً وأن يكون خبراً، قال : ومع الياء لا يصح إلاّ أن يكون خبراً٢٩.
قال شهاب الدين : وليس كذلك٣٠ لما تقدّم من أنه يكون أمراً وتكون٣١ الغيبة فيما بعده جواباً لسؤال مقدر٣٢. وقد تابع٣٣ الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال :«تَقَاسَمُوا » فيه وجهان :
أحدهما : هو أمرٌ٣٤ أي : أمر بعضهم بذلك بعضاً، فعلى هذا يجوز في «لنُبَيِّتَنَّهُ » النون بتقدير : قولوا لنُبَيِّتَنَّهُ، والتاء على خطاب الأمر المأمور، ولا يجوز التاء.
والثاني : هو فعل ماض، وعلى هذا يجوز الأوجه الثلاثة٣٥. يعني بالأوجه : النون والتاء والياء، قال٣٦ : وهو على هذا تفسير٣٧، أي : و٣٨ تقاسموا على كونه ماضياً مفسّراً لنفس «قَالُوا » وقد سبقهما إلى ذلك مكي٣٩ - رحمه الله - وتقدم توجيه ما منعوه ولله الحمد، وتنزيل هذه الأوجه بعضها على بعض مما يصعب استخراجه من كلام القوم، وتقدّم الكلام في «مَهْلِكَ أَهْلِهِ » في الكهف٤٠.

فصل :


من جعله٤١ أمراً فموضع «تَقَاسَمُوا » جزم على الأمر، أي : احلفوا٤٢، ومن جعله فعلاً ماضياً٤٣ فمحله نصب أي : تحالفوا وتوافقوا لنبيتّنه لنقتلنه، بياتاً أي : ليلاً، وأهله : أي : قومه الذين أسلموا معه، ﴿ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ﴾ : أي لولي دمه، «مَا شَهِدْنَا » ما حضرنا، «مَهْلِكَ أَهْلَهِ » إهلاكهم، ولا ندري من قتله، ومن فتح الميم فمعناه : هلاك أهله، «وَإِنَّا لَصَادِقُونَ » : في قولنا ما شهدنا ذلك٤٤.
١ انظر البيان ٢/٢٢٤، التبيان ٢/١٠١٠..
٢ الكشاف ٣/١٤٦. وقال الفراء: (فمن قال "تقاسموا" فجعل "تقاسموا" خبراً فكأنه قال: متقاسمين) معاني القرآن ٢/٢٩٦..
٣ البحر المحيط ٧/٨٣..
٤ في ب: فإن..
٥ الدر المصون ٥/١٩٩..
٦ البحر المحيط ٧/٨٣-٨٤..
٧ في ب: تنتقل..
٨ يريد أن جملة الصلة بالنسبة إلى الموصول كالتعريف النسبة إلى المعرَّف..
٩ الدر المصون ٥/١٥٥..
١٠ وهو أبو حيان..
١١ البحر المحيط ٧/٨٤. ومن الواضح أن أبا حيان وافق الكوفيين على ما ذهبوا إليه من جواز وقوع الفعل الماضي حالاً دون إضمار "قد" انظر الهمع ١/٢٤٧..
١٢ الدر المصون ٥/١٩٩..
١٣ المختصر (١١٠)، البحر المحيط ٧/٨٣..
١٤ انظر الكشاف ٣/١٤٦، البحر المحيط ٧/٨٣..
١٥ انظر البحر المحيط ٧/٨٤..
١٦ ما بين القوسين سقط من ب..
١٧ حمزة والكسائي..
١٨ أي: لتبيتنه..
١٩ السبعة (٤٨٣)، الكشف ٢/١٦١-١٦٢، النشر ٢/٣٣٨، الإتحاف (٣٣٧)..
٢٠ المراجع السابقة..
٢١ في الأصل: الأخوان..
٢٢ المختصر (١١٠)، البحر المحيط ٧/٨٤..
٢٣ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٤ (ليبيتنه- ثم لنقولنَّ) انظر البحر المحيط ٧/٨٤..
٢٥ في الأصل: الأخوان..
٢٦ ماضياً: سقط من ب..
٢٧ لم يشر إلى ضبط الفاء في الفعل وهي لام الكلمة فإن كانت بالضم فيكون الخطاب للجمع، وإن كانت بالفتح فيكون الخطاب للواحد كما لم يعزها على من قرأ بها، والظاهر أن المراد به خطاب الجمع فيكون "لتبيتنه"..
٢٨ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٢٩ الكشاف ٣/١٤٦..
٣٠ في ب: لذلك..
٣١ في الأصل: خبراً من قال، ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبراً لا أمراً..
٣٢ الدر المصون ٥/٢٠٠..
٣٣ في ب: بالغ. وهو تحريف..
٣٤ في ب: أمراً. وهو تحريف..
٣٥ التبيان ٢/١٠١٠..
٣٦ هو أبو البقاء..
٣٧ التبيان ٢/١٠١٠..
٣٨ و: سقط من ب..
٣٩ انظر الكشاف ٢/١٦٢. ومشكل إعراب القرآن ٢/١٥٠-١٥١..
٤٠ عند قوله تعالى: ﴿وجعلنا لمهلكهم موعداً﴾[الكهف: ٥٩]..
٤١ في ب: من جعل تقاسموا..
٤٢ في الأصل: اختلفوا..
٤٣ في الأصل: ماضياً تقاسموا..
٤٤ انظر البغوي ٦/٢٩٢..
قوله :«وَمَكَرُوا مَكْرً » غدروا غدراً حين قصدوا تبييت صالح والفتك به، «وَمَكَرْنَا مَكْراً » جازيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم، «وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ » فشبّه إهلاكهم من حيث لا يشعرون بمكر الماكر على سبيل الاستعارة١. وقيل : إنّ الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرز عنهم، فذلك مكر الله في حقهم٢.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٠٣..
٢ المرجع السابق..
قوله :﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ ﴾ : قرأ الكوفيون١ بفتح «أَنَّا »، والباقون بالكسر٢، فالفتح من أوجه :
أحدها : أن يكون على حذف الجر، لأنَّا دمّرناهم، و «كَانَ » تامّة، و «عَاقِبَةُ » فاعل بها، و «كَيْفَ » : حال٣.
الثاني : أن يكون بدلاً من «عَاقِبَةُ »، أي : كيف كان تدميرنا إيّاهم، بمعنى كيف حدث٤.
الثالث : أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي : هي أنَّا دمَّرناهم، أي : العاقبة تدميرنا إياهم٥، ويجوز مع هذه الأوجه الثلاثة أن تكون كان ناقصة، ويجعل «كَيْفَ » خبرها٦، فتصير الأوجه ستة، ثلاثة مع تمام «كَانَ » وثلاثة مع نقصانها، ونزيد مع الناقصة وجهاً آخر، وهو أن يجعل «عَاقِبَة » اسمها، و «أَنَّا دَمَّرناهُم » خبرها، و «كَيْفَ » : حال٧، فهذه سبعة أوجه، والثامن : أن تكون «كان » زائدة، و «عاقبة » مبتدأ، وخبره «كَيْفَ »، و «أَنَّا دَمَّرنَاهُم » بدل من «عاقبة » أو خبر مبتدأ مضمر٨، وفيه تعسُّف.
التاسع : أنها على حذف الجار أيضاً، إلا أنه الباء، أي : بأنَّا دمَّرناهم، ذكره أبو البقاء٩.
العاشر : أنها بدل من «كَيْفَ »١٠، وهذا وهم من قائله، لأن المبدل من اسم الاستفهام يلزم معه إعادة حرف١١ الاستفهام، نحو : كم مالكم١٢ أعشرون أم ثلاثون١٣ ؟ وقال مكي : ويجوز في الكلام نصب «عَاقِبَة » ويجعل «أَنَّا دَمَّرنَّاهُم » اسم كان١٤. انتهى.
بل كان هذا هو الأرجح كما كان النصب في قوله :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾ [ العنكبوت : ٢٤ ] ونحوه١٥ أرجح، لما تقدّم شبهه بالمضمر، لتأويله بالمصدر، وتقدّم تحقيق هذا١٦. وقرأ أُبيّ :«أنْ دَمَّرْنَاهُمْ » وهي : أن١٧ المصدرية التي يجوز أن تنصب المضارع، والكلام فيها كالكلام فيها كالكلام على «أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ »١٨ وأمّا قراءة الباقين، فعلى الاستئناف، وهو تفسير للعاقبة١٩، وكان يجوز فيها التمام والنقصان والزيادة، و «كَيْفَ » وما في حيّزها في محل نصب على إسقاط الخافض، لأنّه معلق للنظر، و «أَجْمَعِينَ » : تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه.

فصل :


قال ابن عباس : أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة، فقتلتهم٢٠. وقال مقاتل : نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضاً، ليأتوا دار صالح، فجثم عليه الجبل فأهلكهم وأهلك الله قومهم بالصيحة٢١.
١ وهم: عاصم وحمزة والكسائي..
٢ السبعة (٤٨٣-٤٨٤)، الكشف ٢/١٦٣، النشر ٢/٣٣٨، الإتحاف (٣٣٨)..
٣ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٥١-١٥٢، الكشاف ٣/١٤٧..
٤ المرجع السابق ٢/١٥١، الكشاف ٣/١٤٧..
٥ هذا تقدير الزمخشري. الكشاف ٣/١٤٧، وقدره مكي: "هو أنا...". مشكل إعراب القرآن ٢/١٥٢. الكشف ٢/١٦٣. التبيان ٢/١٠١٠..
٦ انظر البيان ٢/٢٢٥..
٧ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٥٢، الكشاف ٣/١٤٧..
٨ انظر البحر المحيط ٧/٨٦..
٩ قال أبو البقاء: (هو في موضع صب، أي: بأنا أو لأنا) التبيان ٢/١٠١١..
١٠ حكاه أبو البقاء. التبيان ٢/١٠١١..
١١ في ب: حروف..
١٢ في ب: مالك..
١٣ انظر التبيان ٢/١٠١١..
١٤ وعبارته: ويجوز ف الكلام نصب "عاقبة" على خبر (كان)، وتجعل "أنا" اسم (كان) مشكل إعراب القرآن ٢/١٥٢..
١٥ يريد قوله تعالى: ﴿وما كان جواب قومه﴾[الأعراف: ٨٢]..
١٦ عند قوله تعالى: ﴿وما كان جواب قومه إلا أن قالوا﴾[الأعراف: ٨٢]..
١٧ في ب: أنا. وهو تحريف..
١٨ انظر البحر المحيط ٧/٨٦..
١٩ انظر مشكل الإعراب القرآن ٢/١٥١، البيان ٢/٢٢٤، التبيان ٢/١٠١٠..
٢٠ انظر البغوي ٦/٢٩٢-٢٩٣..
٢١ انظر البغوي ٦/٢٩٣..
قوله :﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ﴾ العامة على نصب «خَاوِيَةً » حالاً، والعامل فيها معنى اسم الإشارة١، وقرأ عيسى :«خَاوِيَةٌ » بالرفع٢، إمّا على خبر «تلك »، و «بُيُوتُهُمْ » بدل من «تِلْك »، وإمّا خبر ثان، و «بُيُوتُهُم » خبر أول٣، وإمّا على خبر مبتدأ محذوف، أي : هي خاوية٤، وهذا إضمار مستغنًى عنه، و «بِمَا ظَلَمُوا » متعلق ب «خاوية »، أي بسبب ظلمهم. و «خَاويَةً » أي : خالية «بِمَا ظَلَمُوا » بظلمهم وكفرهم، ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً ﴾ لَعِبْرَةً، «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » قدرتنا.
١ انظر الكشاف ٣/١٤٧، البيان ٢/٢٢٥، التبيان ٢/١٠١١..
٢ قال ابن خالويه: ("فتلك بيوتهم خاوية" بالرفع حكاه أبو معاذ) المختصر (١١٠) الكشاف ٣/١٤٧، البحر المحيط ٧/٨٦..
٣ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٥٢، البيان ٢/٢٢٥..
٤ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٥٢، الكشاف ٣/١٤٧، البيان ٢/٢٢٥. وجوز مكي وابن الأنباري وجهين آخرين، وهما: أن تجعل "خاوية" بدلاً من "البيوت"، وأن تجعل "بيوتهم" عطف بيان على "تلك" و"خاوية" خبر "تلك". انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٥٢-١٥٣، البيان ٢٢٥..
﴿ وَ أَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ قيل : كان الناجون منهم أربعة آلاف١.
١ انظر البغوي ٦/٢٩٣..
قوله تعالى: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ الآية، «ولُوطاً» إمّا منصوب عطفاً على «
182
صالحاً» أي: وأرسلنا لوطاً، وإمّا عطفاً على «الَّذِينَ آمَنُوا»، أي: وأنجينا لوطاً، وإمّا «باذْكُر» مضمرة، و «إذْ قَالَ» : بدل اشتمال من «لُوطاً»، وتقدّم نظيره في مريم وغيرها.
«أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ» استفهام على وجه الإنكار، والتوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ، و «الفَاحِشَةِ» : الفعلة القبيحة.
قوله: «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» جملة حالية من فاعل «تَأْتُونَ» أو من «الفَاحِشَةَ»، والعائد محذوف، أي: وأنتم تبصرونها لستم عثمياً عنها جاهلين بها، وهو أشْنَعُ. وقيل: المعنى يرى بعضكم بعضاً، وكانوا لا يستترون، عنوّاً منهم. فإن قيل: إذا فسرت «تُبْصِرُونَ» بالعلم، وبعده: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ فكيف يكون علماً جهلاً؟ فالجواب:
تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك، أو تجهلون العاقبة، أو أراد بالجهل: السفاهة والمجانة التي كانوا عليها.
قوله: «شَهْوَةً» : مفعول من أجله، أو في موضع الحال، وقد تقدّم.
قوله: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ: خبر مقدم، و ﴿إِلاَّ أَن قالوا﴾ في موضع الاسم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق برفعه اسماً، و ﴿إِلاَّ أَن قالوا﴾ خبر وهو ضعيف، لما تقدّم تقريره. وتقدّم قراءتا «قَدَّرْنَا» تشديداً وتخفيفاً، والمخصوص بالذم محذوف في قوله: ﴿فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين﴾ أي: مَطَرُهُمْ.

فصل


لما بيَّن تعالى جهلهم، بيّن أنهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جواباً، فقال:
183
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾، أي: يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش. وقيل: قالوا ذلك على وجه الهزء.
﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا﴾ قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا «مِنَ الغَابِرِينَ»، أي: الباقين في العذاب، و ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً﴾، وهو الحجارة ﴿فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين﴾.
184
قوله :«شَهْوَةً » : مفعول من أجله١، أو في موضع الحال، وقد تقدّم٢.
قوله : فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ : خبر مقدم، و ﴿ إِلاَّ أَن قالوا ﴾ في موضع الاسم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق برفعه اسماً، و ﴿ إِلاَّ أَن قالوا ﴾ خبر٣ وهو ضعيف، لما تقدّم تقريره٤. وتقدّم قراءتا «قَدَّرْنَا » تشديداً وتخفيفاً٥، والمخصوص بالذم محذوف في قوله :﴿ فساء مَطَرُ المنذرين ﴾ أي : مَطَرُهُمْ٦.
١ انظر البحر المحيط ٧/٨٦..
٢ عند قوله تعالى: ﴿إنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النّساء﴾[الأعراف: ٨١]..
٣ المحتسب (١٤١)، البحر المحيط ٧/٨٦..
٤ وذلك أن علة الضعف فيه أن قوله: "أن قالوا" يشبه المضمر في أنه لا يوصف والمضمر أعرف من هذا المظهر..
٥ بالتخفيف قرأ أبو بكر عن عاصم، والباقون بالتشديد. السبعة (٤٨٤)، الإتحاف ٣٣٨..
٦ انظر البحر المحيط ٧/٨٧. وفي ب: أمطرهم..

فصل :


لما بيَّن تعالى جهلهم، بيّن أنهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جواباً، فقال :﴿ فَمَا١ كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾، أي : يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش٢. وقيل : قالوا ذلك على وجه الهزء٣.
١ في النسختين: وما..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٠٤..
٣ المرجع السابق ٢٤/٢٠٤-٢٠٥..
﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا ﴾ قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا «مِنَ الغَابِرِينَ »، أي : الباقين في العذاب،
و ﴿ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً ﴾، وهو الحجارة ﴿ فَسَاءَ مَطَرُ المنذرين ﴾١.
١ انظر البغوي ٦/٢٩٤..
قوله تعالى: ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ﴾ الآية، العامة على كسر لام قل، لالتقاء الساكنين، وأبو السمال بفتحها تخفيفاً، وكذا في قوله: ﴿وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ [النمل: ٩٣]، «وَسَلاَمٌ» : مبتدأ، سوَّغ الابتداء به كونه دعاء.

فصل


المعنى: «الحمد لله» على هلاكهم، وهذا خطاب لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية، و ﴿وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى﴾ بأن أرسلهم ونجّاهم. وقيل: هذا كلام مبتدأ، فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء - عليهم السلام - وكان محمد - عليه السلام - كالمخالف لمن قبله - في العذاب؛ لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه - أمره الله تعالى بأن يشكر ربّه على ما خصّه به من هذه النعم، وبأن يسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة.
قوله: ﴿وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى﴾ قال مقاتل: هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى: ﴿وَسَلاَمٌ على المرسلين﴾ [الصافات: ١٨١]. وقال ابن عباس - في رواية أبي مالك - هم أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال الكلبي: هم أمة محمد وقيل: هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين.
184
قوله: «أَمّا» أمْ هذه متصلة عاطفة، لاستكمال شروطها، والتقدير: أَيُّهُمَا خَيْرٌ، و «خَيْرٌ» إمَّا تفضيل - على زعم الكفار - وإلزام الخصم، أو صفةٌ لا تفضيل فيها. و «مَا» في «أَمْ مَا» بمعنى الذين، وقيل: مصدرية، وذلك على حذف مضاف من الأول، أي أتوحيد الله خير أم شرككم؟ وقرأ أبو عمرو وعاصم: «أَمَّا يُشْرِكُونَ» بالغيبة حملاً على ما قبله من قوله: «وَأَمْطَرنَا عَلَيْهِمْ»، وما بعده من قوله: «بَلْ أَكْثَرَهُمْ»، والباقون على الخطاب، وهو التفات للكفار، بعد خطاب نبيه - عليه السلام - وهذا تبكيت للمشركين بحالهم، لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئاًعلى شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبياً لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم، وروي أنّ رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم».
قوله: «أَمَّن خَلَقَ» «أَمْ» هذه منقطعة، لعدم تقدّم همزة الاستفهام ولا تسوية، و «مَنْ خَلَقَ» مبتدأ وخبره محذوف، فقدَّره الزمخشري: خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، فقدر ما أثبت في الاستفهام الأوّل، وهو حَسَنٌ، وقَدَّرَهُ ابن عطية: يُكفَر بنعمته ويُشْرك به، ونحو هذا من المعنى. وقال أبو الفضل الرازي: لا بُدَّ من إضمار جملة معادلة، وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، وتقدير تلك الجملة: أم مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْض كَمَنْ لَمْ يَخْلُقُ؟ وكذلك أخواتها، وقد أُظْهِرَ في غير هذا المواضع ما أُضْمِر فيها، كقوله:
﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧]. وقال أبو حيان: وتسمية هذا المقدر جملة إن أراد أنّها جملة من جهة الألفاظ فصحيح، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو، فليس بصحيح، بل هو مضمر من قبيل المفرد. وقرأ الأعمش: «أَمَنْ» بتخفيف الميم جعلها (مَنْ) الموصولة داخلة عليها همزة الاستفهام، وفيها وجهان:
185
أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف وتقديره ما تقدم من الأوجه، قاله أبو حيان.
والثاني: أنها بدل من «الله»، كأنه قيل: أمن خلق السموات والأرض خَيْر أمَّا يشركون، ولم يذكر الزمخشري غيره. ويكون قد فصل بين البَدَل والمُبْدَل منه بالخبر وبالمعطوف على المبدل منه، وهو نظير قولك: أَزيدٌ خَيْرٌ أَمْ عَمْرٌوا أأخوك، على أن يكون أأخوك بدلاً من: أزيد، وفي جواز مثل هذا نظر.
قوله: «فَأَنْبَتْنَا» هذا التفات من الغيبة إلى المتكلم، لتأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنَّ إنْبات الحدائق المختلفة الألوان والطُّعوم - مع سقيها بماءٍ واحدٍ - لا يقدر عليه إلاّ هو وحده، ولذلك رشحه بقوله: ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا﴾. فإن الإنسان ربما يقول: أنا الذي ألقي البذر في الأرض وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل المسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة، فلمّا كان هذا الاحتمال قائماً، لا جرم أزال الله تعالى هذا الاحتمال، فرجع من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم، والحدائق: جمع حديقةٍ وهي البستان، وقيل القطعة من الأرض ذات الماء. قال الراغب: سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدقةِ العين في الهيئة وحصول الماء فيه. وقال غيره: سُمِّيت بذلك لإحداق الجدارن بها.
وليس بشيء، لأنها يطلق عليها ذلك م عدم الجدران ووقف القراء على «ذَات» من «ذَاتِ بَهْجَة» بتاء مجهورة، والكسائي بها، لأنها تاء تأنيث. وقيل: «
186
ذات»، لأنه بمعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما تقول: النساء ذهبت، و «البهجة» : الحسن، لأن حسّ الناظر يبتهج به. وقرأ ابن أبي عبلة: «ذَوَاتِ بَهَجَةٍ» بالجمع، وفتح هاء «بَهَجَةٍ». قوله: ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ﴾، «أَنْ تُنْبِتُوا» اسم كان و «لَكُمْ» خبر مقدم، والجملة المنفية يجوز أن تكون صفة ل «حدائق»، وأن تكون حالاً، لتخصصها بالصفة.
قوله: ﴿أإله مَّعَ الله﴾ استفهام بمعنى الإنكار، هل معبود سواه أعانه على صنعه، بل ليس معه إله، وقرىء: أإلهاً مَعَ اللَّهِ، أي: تدعون أو تشركون، ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ : يعني كفار مكة، يَعْدِلُون: يشركون، أي: يعدلون بالله سواه، وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ونظير هذه الآية أول سورة الأنعام.
187
قوله :«أَمَّن خَلَقَ » «أَمْ » هذه منقطعة١، لعدم تقدّم همزة الاستفهام ولا تسوية، و «مَنْ خَلَقَ » مبتدأ وخبره محذوف، فقدَّره الزمخشري : خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ٢، فقدر ما٣ أثبت في الاستفهام الأوّل، وهو حَسَنٌ، وقَدَّرَهُ ابن عطية : يُكفَر بنعمته ويُشْرك به، ونحو هذا من المعنى٤. وقال أبو الفضل الرازي : لا بُدَّ من إضمار جملة معادلة، وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، وتقدير تلك الجملة : أم مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْض كَمَنْ لَمْ يَخْلُقُ ؟ وكذلك أخواتها، وقد أُظْهِرَ في غير هذه المواضع ما أُضْمِر فيها٥، كقوله :
﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ [ النحل : ١٧ ]. وقال أبو حيان : وتسمية هذا المقدر جملة إن أراد أنّها جملة من جهة الألفاظ فصحيح٦، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو، فليس بصحيح، بل هو مضمر من قبيل المفرد٧. وقرأ الأعمش :«أَمَنْ » بتخفيف الميم٨ جعلها ( مَنْ ) الموصولة داخلة عليها همزة الاستفهام، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ والخبر محذوف وتقديره ما تقدم من الأوجه، قاله أبو حيان٩.
والثاني : أنها بدل من «الله »، كأنه قيل : أمن١٠ خلق السموات والأرض خَيْر أمَّا يشركون، ولم يذكر الزمخشري غيره١١. ويكون قد فصل بين البَدَل والمُبْدَل منه بالخبر وبالمعطوف على المبدل١٢ منه، وهو نظير قولك : أَزيدٌ خَيْرٌ أَمْ عَمْرٌوا أأخوك١٣، على أن يكون أأخوك١٤ بدلاً من : أزيد، وفي جواز مثل هذا نظر١٥.
قوله :«فَأَنْبَتْنَا » هذا التفات من الغيبة إلى المتكلم، لتأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنَّ إنْبات الحدائق المختلفة الألوان والطُّعوم - مع سقيها بماءٍ واحدٍ - لا يقدر عليه إلاّ هو وحده، ولذلك رشحه بقوله :﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾١٦. فإن الإنسان ربما يقول : أنا الذي ألقي البذر في الأرض وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل المسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة، فلمّا كان هذا الاحتمال قائماً، لا جرم أزال الله تعالى هذا الاحتمال، فرجع من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم، والحدائق : جمع حديقةٍ وهي البستان، وقيل القطعة من الأرض ذات الماء١٧. قال الراغب : سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدقةِ العين في الهيئة وحصول الماء فيه١٨. وقال غيره : سُمِّيت بذلك لإحداق الجدران بها١٩.
وليس بشيء، لأنها يطلق٢٠ عليها ذلك مع عدم الجدران٢١ ووقف القراء على «ذَات » من «ذَاتِ بَهْجَة » بتاء مجهورة، والكسائي بها، لأنها تاء تأنيث٢٢. وقيل :«ذات »، لأنه بمعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما تقول٢٣ : النساء ذهبت، و «البهجة » : الحسن، لأن حسّ الناظر يبتهج به٢٤. وقرأ ابن أبي عبلة :«ذَوَاتِ بَهَجَةٍ » بالجمع، وفتح هاء «بَهَجَةٍ »٢٥. قوله :﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ ﴾، «أَنْ تُنْبِتُوا » اسم كان و «لَكُمْ » خبر مقدم، والجملة المنفية يجوز أن تكون صفة ل «حدائق »٢٦، وأن تكون حالاً، لتخصصها بالصفة.
قوله :﴿ أإله مَّعَ الله ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، هل معبود سواه أعانه على صنعه، بل ليس معه إله، وقرئ : أإلهاً مَعَ اللَّهِ، أي : تدعون أو تشركون٢٧، ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ : يعني كفار مكة، يَعْدِلُون : يشركون، أي : يعدلون بالله٢٨ سواه، وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ونظير هذه الآية أول سورة الأنعام٢٩.
١ انظر الكشاف ٣/١٤٨..
٢ المرجع السابق..
٣ في ب: فقدرنا..
٤ تفسير ابن عطية ١١/٢٢٧..
٥ انظر البحر المحيط ٧/٨٩..
٦ في ب: صحيح..
٧ البحر المحيط ٧/٨٩..
٨ المختصر (١١٠)، المحتسب ٢/١٤٢..
٩ قال أبو حيان: (وقرا الأعمش بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام أدخلت على (من) ومن" في القرائتين مبتدأ وخبر) البحر المحط ٢/٨٩..
١٠ في الأصل: أما..
١١ قال الزمخشري: (وقرأ الأعمش "أمن" بالتخفيف، ووجهه أن يجعل بدلاً من "الله" كأنه قال: أمن خلق السموات والأرض خير أم ما تشركون) الكشاف ٣/١٤٨..
١٢ في ب: البدل. وهو تحريف..
١٣ في ب: أم أخوك. وهو تحريف..
١٤ في ب: أخوك..
١٥ ما ذكره ابن عادل عن الفصل لا يضر، لنهم قد فصلوا بين المتلازمين كالمبتدأ والخبر بجملة الاعتراض، والفصل هنا بجزء من المبدل منه وهو الخبر وما عطف عليه..
١٦ انظر الكشاف ٣/١٤٨..
١٧ المرجع السابق..
١٨ المفردات في غريب القرآن (١١١)..
١٩ قال الفراء: (إنما يقال: حديقة لكل بستان عليه حائط، فما لم يكن عليه حائط لم يقل له حديقة) معاني القرآن ٢/٢٩٧..
٢٠ في ب: مطلق..
٢١ قال أبو حيان: (الحديقة: البستان كان عليه جدار أو لم يكن) البحر المحيط ٧/٨١..
٢٢ انظر إبراز المعاني (٢٤٧)..
٢٣ في ب: يقال..
٢٤ انظر الكشاف ٣/١٤٨..
٢٥ انظر البحر المحيط ٧/٨٩..
٢٦ انظر التبيان ٢/١٠١٢. وفي ب: الحدائق..
٢٧ انظر الكشاف ٣/١٤٨، البحر المحيط ٧/٨٩، وفيهما: أتدعون أو أتشركون..
٢٨ في ب: الله..
٢٩ وهو قوله تعالى: ﴿الحمد لله الذي خلق السَّموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾[١]. انظر اللباب ٣/٣٧١..
قوله: ﴿أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً﴾، قال الزمخشري: «أَمَّنْ» وما بعده بدل من «أَمَّنْ خَلَقَ»، وحكمها حكمه. ومعنى قراراً: لا تميد بأهلها، فإنها لو كانت متحركة لما استقر أحد بالسكنى على الأرض. قوله: «خِلاَلَهَا» : يجوز أن يكون ظرفاً، ل «جعل» بمعنى خلق المتعدية لواحد، وأن يكون في محلّ المفعول الثاني على أنها بمعنى صيّر، وخلالها: وسطها أنهاراً. واعلم أنّ المياه المنبعثة في الأرض أربعة.
الأوّل: مياه العيون السيالة، قال ابن الخطيب: وهي تنبيعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة.
الثاني: ماء العيون الراكدة، وهي تحدث من أبخرة بلغت قوتها إلى وجه الأرض، ولم يبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد (تاليها سابقها).
187
الثالث: ماء القنى والأنهار، وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة عن أن تشق الأرض، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صار حينئذ لتلك الأبخرة منفذاً يندفع إليه بأدنى حركة.
الرابع: مياه الآبار، وهي منبعثة كمياه الأنهار إلاّ أنه لم يحصل لها ميل إلى موضع تسيل إليه. ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون السيالة إلى العيون الراكدة.
قوله: «بَيْنَ البَحْرَيْنِ» : يجوز فيه ما جاز في «خِلاَلَهَا»، والحاجز: الفاصل: حجز بينهم يحجز أي: منع وفصل، والمراد بالبحرين: العذب والملح: ﴿أإله مَّعَ الله﴾ قرىء «أَإِلهٌ» بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية، وإدخال ألف بينهما تخفيفاً وتسهيلاً. وهذا كله معروف من أوّل هذا الكتاب، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ توحيد ربهم.
قوله: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ﴾ المضطر: اسم مفعول مأخوذ من اضطر، ولا يستعمل إلا مبنياً للمفعول، وإنّما كرر الجعل هنا، ولم يشرك بين المعمولات في عامل واحد، لأن كل واحدة من هذه مِنّة مستقلة، فأبرزها في جملة مستقلة بنفسها، قال الزمخشري الضرورة الحال المحوجة إلى الالتجاء، والاضطرار: افتعال منها، فيقال: اضطُرّ إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر. فإن قيل: هذا يعم المضطرين، وكم من مضطر يدعو فلا يجاب، فالجواب:
أنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المعرّف لا يفيد العموم، وإنما يفيد الماهية فقط، والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية فقط، فإنه تعالى وعد بالاستجابة، ولم يذكر أنه يستجيب في الحال.
قوله: «وَيَكْشِفُ السُوءَ» كالتفسير للاستجابة، فإنّه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة، إلاَّ القادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا ينازع، ﴿وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض﴾ اي: يورثكم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن، وأراد بالخلافة الملك والتسليط. قوله ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ قرأ أبو عمرو
188
وهشام: «يَذكرُونَ» بالغيبة والباقون بالخطاب، وهما واضحتان، وأبو حيوة: «تَتَذكرون» بتاءين.
189
قوله :﴿ أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ ﴾ المضطر : اسم مفعول مأخوذ من اضطر، ولا يستعمل إلا مبنياً للمفعول، وإنّما كرر الجعل هنا، ولم يشرك١ بين المعمولات٢ في عامل واحد، لأن كل واحدة من هذه مِنّة مستقلة، فأبرزها في جملة مستقلة بنفسها، قال الزمخشري الضرورة الحال المحوجة إلى الالتجاء، والاضطرار : افتعال منها، فيقال : اضطُرّ إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر٣. فإن قيل : هذا يعم المضطرين، وكم من مضطر يدعو فلا يجاب، فالجواب :
أنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المعرّف لا يفيد العموم، وإنما يفيد الماهية فقط، والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية فقط، فإنه تعالى وعد بالاستجابة، ولم يذكر أنه يستجيب في الحال٤.
قوله :«وَيَكْشِفُ السُوءَ » كالتفسير للاستجابة، فإنّه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة، إلاَّ القادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا ينازع٥، ﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خلفاء الأرض ﴾ أي : يورثكم سكناها٦ والتصرف فيها قرناً بعد قرن، وأراد بالخلافة الملك والتسليط٧. قوله ﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ قرأ أبو عمرو وهشام :«يَذكرُونَ » بالغيبة والباقون بالخطاب٨، وهما واضحتان، وأبو حيوة :«تَتَذكرون » بتاءين٩.
١ لم يشرك: سقط من ب..
٢ في ب: المعمولان..
٣ الكشاف ٣/١٤٩..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٠٨-٢٠٩..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٠٩..
٦ في ب: من سكانها..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٠٩..
٨ السبعة (٤٨٤)، الكشف ٢/١٦٤، النشر ٣٣٨-٣٣٩، الإتحاف ٣٣٨..
٩ المختصر (١١٠)، البحر المحيط ٧/٩٠..
قوله: ﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر﴾ يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات في البحر إذا سافرتم بالليل في البر والبحر. و ﴿وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾، وهي المطر، وتقدّم الكلام في «بُشْراً» في الأعراف، ﴿أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
قوله: ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ﴾ لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة، وهي لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف، فقد تضمن الكلام كل نعم الدنيا والآخرة، وهي لا تتمّ إلا بالإرزاق، فلذلك قال: ﴿وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض﴾ «مِنَ السَّمَاءِ» : المطر، ومن الأرض: النبات، ﴿أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ حجتكم على قولكم: إن مع الله إلهاً آخر، ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ولا برهان لكم فإذاً أنتم مبطلون.
فإن قيل: كيف قيل لهم: أم من يبدؤ الخلق ثم يعيده، وهم ينكرون الإعادة؟ فالجواب: كانوا معترفين بالابتداء، ودللة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية، فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة، صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار.
قوله :﴿ أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ ﴾ لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة، وهي لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف، فقد تضمن الكلام كل نعم الدنيا والآخرة، وهي لا تتمّ إلا بالإرزاق، فلذلك قال :﴿ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السماء والأرض ﴾١ «مِنَ السَّمَاءِ » : المطر، ومن الأرض : النبات، ﴿ أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ حجتكم على قولكم : إن مع الله إلهاً آخر، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ولا برهان لكم فإذاً أنتم مبطلون.
فإن قيل : كيف قيل لهم : أم من يبدؤ الخلق ثم يعيده، وهم ينكرون الإعادة ؟ فالجواب : كانوا معترفين بالابتداء، ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية، فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة، صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار٢.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٠..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١١..
قوله (تعالى: ﴿قُل) لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله﴾ لما بين أنه مختص بالقدرة، بين أنه المختص بعلم الغيب، وإذا ثبت ذلك، ثبت أنه الإله المعبود.
189
وفي هذا الاستثناء أوجه:
أحدها: أنه فاعل «يعلم»، و «من» مفعوله، و «الغيب» بدل من «من في السموات» أي: لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله، أي: الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم، وهو وجه غريب ذكره أبو حيان.
الثاني: أنه مستثنى متصل من «من»، ولكن لا بد من الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة على هذا الوجه، وبيانه أن الظرفية المستفادة من «مَنْ في» حقيقة بالنسبة إلى غير الله تعالى، ومجاز بالنسبة إلى الله تعالى بمعنى: أن علمه في السموات والأرض فيندرج (في) ﴿مَن فِي السماوات والأرض﴾ بهذا الاعتبار، وهو مجاز، وغيره من مخلوقاته في السموات والأرض حقيقة، فبذلك الاندراج المؤول استثني من «مَنْ»، وكان الرفع على البدل أولى، (لأن الكلام غير موجب، قال مكي: الرفع في اسم الله - عَزَّ وَجَلَّ - على البدل) من من.
ورد الزمخشري هذا بأنه جمع بين الحقيقة والمجاز وأوجب أن يكون منقطعاً، فقال: فإن قلت: لم رفع اسم الله، والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، يريدون: ما فيها إلا حمار، كأنَّ أحداً لم يذكر، ومنه قوله:
٣٩٦٩ - عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا وَلاَ النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ
وقولهم: ما أتاني زيد «إلا عمرو»، وما أعانني أخوانكم إلا إخوانه، فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت: دعيت إليه نكتة سريرة، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلاَّ اليَعَافِيرُ، بعد قوله: لَيْسَ بِهَا أنِيس: ليؤول
190
المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السموات والأرض، فهم يعلمون الغيب يعني أن علمهم الغيب - في استحالته - كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أن معنى «ما في البيت» إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس بتّاً للقول بخلوها من الأنيس. فإن قلت: هلا زعمت أن الله ممن في السموات والأرض، كما يقول المتكلمون: «إن الله في كل مكان» على معنى: أن علمه في الأماكن كلها، فكأن ذاته فيها حتى لا يحمل على مذهب بني تميم؟ قلت: يأبي ذلك أن كونه في السموات والأرض مجاز، وكونهم فيهن حقيقة، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازاً غير صحيح، على أن قولك: من في السموات والأرض، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد فيه إيهام وتسوية، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته، ألا ترى كيف قال عليه السلام لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى: «بئْسَ خَطِيبُ القَوْمِ أنْت».
فقد رجح الانقطاع، واعتذر في ارتكاب مذهب التميميين بما ذكر، وأكثر العلماء أنه لا يجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وقد قال به الشافعي.

فصل


نزلت هذه الآية في المشركين، حيث سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن وقت قيام الساعة. و «مَا يَشْعُرُون» صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم بالغيب، وذكر في جملة الغيب: متى البعث؛ بقوله: «أيَّانَ يُبْعَثُونَ»، و «أَيَّانَ» بمعنى متى، وهي كلمة مركبة من: أي والآن، وهو الوقت. وقرىء: «إيّان» بكسر
191
الهمزة، قرأ بها السلمي، وهي لغة قومه بني سليم، وهي منصوبة ب «يُبْعَثُونَ» ومعلقة ل «يَشْعُرُونَ» فهي مع ما بعدها في محل نصب بإسقاط الباء، أي ما يشعرون بكذا.
قوله: «ادّارَكَ» قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «أَدْرَك» كأكرم، والباقون من السبعة «ادَّارَكَ» بهمزة وصل وتشديد الدال المفتوحة بعدها ألف - والأصل (تدارك) وبه قرأ أبي، فأريد إدغام التاء في الدال، فأبدلت دالاً وسكنت، فتعذر الابتداء بها، لسكونها، فاجتلبت همزة الوصل، فصار: «ادَّارك» كما ترى - وتقدم تحقيق هذا في قوله: ﴿فادارأتم فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢]. وقراءة ابن كيثير، قيل: يحتمل أن يكون «أفعل» فيها بمعنى «تفاعل»، فتتحد القراءتان، وقيل: ادرك، بمعنى بلغ وانتهى.
وقرأ سليمان وعطاء ابنا يسار: «بَل ادّرك» بفتح لام «بَلْ» وتشديد الدال دون ألف بعدها وتخريجها: أن الأصل: (ادْتَرَكَ) على وزن افْتَعَل، فأبدلت تاء الافتعال دالاً، لوقوعها بعد الدال، قال أبو حيان: فصار فيه قلب الثاني للأول، كقولهم: أثَّرَدَ، وأصله: اثترد من الثرد، انتهى.
قال شهاب الدين: ليس هذا مما قلب فيه الثاني للأول لأجل الإدغام، كاثَّرَدَ
192
في اثترد، لأن تاء الافتعال تبدل دالاً بعد أحرف منها الدال، نحو: ادَّانَ في افْتَعَلَ من الدين، فالإبدال لأجل كون الدال فاء لا للإدغام، فليس مثل اثَّرَدَ في شيء، فتأمله فإنه حسن، فلما أدغمت الدال في الدال أدخلت همزة الاستفهام، فسقطت همزة الوصل، فصار اللفظ، أَدْرَكَ يهمزة قطع مفتوحة، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى لام «بَلْ» فصار اللفظ: «بَلْ دَّرَكَ». وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج وابن عباس وتروى عن عاصم كذلك إلا أنه بكسر لام «بَلْ» على أصل التقاء الساكنين، فإنهم لم يأتوا بهمزة استفهام.
وقرأ عبد الله بن عباس والحسن وابن محيصن «آدَّرَكَ» بهمزة ثم ألف بعدها، وأصلها همزتان أبدلت ثانيهما ألفاً تخفيفاً، وأنكرها أبو عمرو. وقد تقدم أول البقرة أنه قرىء «أَأَنْذَرْتَهُمْ» بألف صريحة - فلهذه بها أسوة.
وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد «بَلْ»، (لأن «بَلْ» ) إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى: «لَمْ يَكُنْ» كقوله تعالى: ﴿أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ﴾ [الزخرف: ١٩] أي: لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار. قال شهاب الدين: وفي منع هذا نظر، لأن «بَلْ» لإضراب الانتقال، فقد أضرب عن الكلام الأول، وأخذ في استفهام ثانٍ، وكيف ينكر هذا والنحويون يقدرون «أَمْ» المنقطعة ببل والهمزة، وعجبت من الشيخ - يعني أبا حيان - كيف قال هنا: وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد «بَلْ»، وشبهه بقول القائل: أَخُبْزاً أكَلْتَ بَلْ أَمَاءً شَرِبْتَ؟ على ترك الكلام الأول، والأخذ في الثاني انتهى. فتخصيصه ببعض المتأخرين يؤذن بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لما حكيت عنهم في «أم» بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لما حكيت عنهم في «أم» المنقطعة. وقرأ ابن مسعود: «أَأَدْرَكَ» بتحقيق الهمزتين، وقرأ ورش في رواية: «بَل ادْرَكَ» بالنقل، وقرأ ابن عباس أيضاً: «بَلَى أَدْرَكَ» بحرف الإيجاب أخت
193
نعم، و «بَلَى آأدْرَكَ» بألف بين همزتين، وقرأ أبي ومجاهد «أن» بدل ( «بَلْ» ) وهي مخالفة للسواد.
قوله: «فِي الآخِرَةِ» فيه وجهان:
أحدهما: أن «فِي» على بابها و «أَدْرَكَ» وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى، لأنه كائن قطعاً، كقوله: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١]، وعلى هذا ف «فِي» متعلق ب «أدْرَكَ».
والثاني: أنّ «فِي» بمعنى الباء، أي: بالآخرة، وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم، كقولك: على يزيد كذا. وأمّا قراءة من قرأ «بَلَى»، فقال الزمخشري: لمّا جاء ببلى بعد قوله: «وَمَا يَشْعُرُونَ» كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: ﴿ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة﴾ على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، ثم قال: وأمّا قراءة: «بَلَى أأَدْرَكَ» على الاستفهام فمعناه: بَلَى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصّل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن، ثم قال: فإن قلت ما معنى هذه الإضرابات الثلاثة؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنّهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية انتهى.
فإن قيل: (عَمِيَ) يتعدى ب (عَنْ) تقول: عَمِي فلان عن كذا، فلم عدي ب (مِنْ) قوله «مِنْهَا عَمُونَ» ؟ فالجواب: أنّه جعل الآخرة مبدأ عَمَاهُم ومنشأه.

فصل


المعنى على قراءة ابن كثير: «أَدْرَكَ» أي بلغ ولحق، كما تقول: أدركه علمي، إذَا لحقه وبلغه يريد: ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة. قال مجاهد: يدريك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها، حين لا ينفعهم علمهم.
194
وقال مقاتل: بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكّوا وعمُوا عنه في الدنيا. كقوله ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا﴾، أي هم اليوم في شك من الساعة. وعلى قراءة «ادَّارَكَ»، تتابع علمهم في الآخرة أنها كائنة ﴿هُمْ فِي شَكٍّ﴾ في وقتهم. وقيل استفهام معناه: هل تدارك وتتابع بذلك في الآخرة يعني لم يتتابع، وضلّ وغاب علمهم به، فلم يبلغوه ولم يُدركوه، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد. وقال علي بن عيسى: بل ههنا لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكُّوا بل هُم مِنْهَا عَمُونَ جمع عمٍ، وهو الأعمى القلب.
195
قوله :«ادّارَكَ »١ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو :«أَدْرَك » كأكرم٢، والباقون من السبعة «ادَّارَكَ » بهمزة وصل وتشديد الدال المفتوحة بعدها ألف٣ - والأصل ( تدارك ) وبه قرأ أبي٤، فأريد إدغام التاء في الدال، فأبدلت دالاً وسكنت، فتعذر٥ الابتداء بها، لسكونها، فاجتلبت٦ همزة الوصل، فصار :«ادَّارك » كما ترى - وتقدم تحقيق هذا في قوله :﴿ فادارأتم فِيهَا ﴾٧ [ البقرة : ٧٢ ]. وقراءة ابن كثير، قيل : يحتمل٨ أن يكون «أفعل » فيها بمعنى «تفاعل »٩، فتتحد القراءتان، وقيل : أدرك١٠، بمعنى بلغ وانتهى١١.
وقرأ سليمان وعطاء ابنا١٢ يسار :«بَل ادّرك »١٣ بفتح لام «بَلْ » وتشديد الدال دون ألف بعدها١٤ وتخريجها : أن الأصل :( ادْتَرَكَ ) على وزن افْتَعَل، فأبدلت تاء الافتعال دالاً، لوقوعها بعد الدال١٥، قال أبو حيان : فصار فيه قلب الثاني للأول، كقولهم : اثَّرَدَ، وأصله١٦ : اثترد١٧ من الثرد١٨، انتهى.
قال شهاب الدين : ليس هذا مما قلب فيه الثاني للأول لأجل الإدغام، كاثَّرَدَ١٩ في اثترد، لأن تاء الافتعال تبدل دالاً بعد أحرف منها الدال، نحو : ادَّانَ في افْتَعَلَ من الدين، فالإبدال لأجل كون الدال فاء لا للإدغام، فليس مثل اثَّرَدَ٢٠ في شيء، فتأمله فإنه حسن، فلما أدغمت الدال في الدال أدخلت همزة الاستفهام، فسقطت همزة الوصل، فصار اللفظ، أَدْرَكَ بهمزة قطع مفتوحة، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى لام «بَلْ » فصار اللفظ :«بَلْ دَّرَكَ »٢١. وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج وابن عباس وتروى عن عاصم كذلك إلا أنه بكسر لام «بَلْ » على أصل التقاء الساكنين، فإنهم لم يأتوا بهمزة استفهام٢٢.
وقرأ عبد الله٢٣ بن عباس والحسن وابن محيصن «آدَّرَكَ » بهمزة ثم ألف بعدها٢٤، وأصلها همزتان أبدلت ثانيهما ألفاً تخفيفاً، وأنكرها أبو عمرو٢٥. وقد تقدم أول البقرة أنه قرئ «أَأَنْذَرْتَهُمْ »٢٦ بألف٢٧ صريحة - فلهذه بها أسوة٢٨.
وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد «بَلْ »، ( لأن «بَلْ » )٢٩ إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع٣٠ إنكار بمعنى :«لَمْ يَكُنْ » كقوله تعالى :﴿ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] أي : لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار٣١. قال شهاب الدين : وفي منع هذا نظر، لأن «بَلْ » لإضراب الانتقال، فقد أضرب عن الكلام الأول، وأخذ في استفهام ثانٍ، وكيف ينكر٣٢ هذا والنحويون يقدرون «أَمْ » المنقطعة ببل والهمزة، وعجبت من الشيخ - يعني أبا حيان - كيف قال هنا : وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد «بَلْ »، وشبهه بقول القائل : أَخُبْزاً أكَلْتَ بَلْ أَمَاءً شَرِبْتَ ؟ على ترك الكلام الأول، والأخذ في الثاني٣٣ انتهى. فتخصيصه ببعض المتأخرين يؤذن بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لما حكيت عنهم في «أم » المنقطعة٣٤. وقرأ ابن مسعود :«أَأَدْرَكَ٣٥ » بتحقيق الهمزتين٣٦، وقرأ ورش في رواية :«بَل ادْرَكَ » بالنقل٣٧، وقرأ ابن عباس أيضاً :«بَلَى أَدْرَكَ » بحرف الإيجاب أخت نعم٣٨، و «بَلَى آأدْرَكَ » بألف بين همزتين٣٩، وقرأ أبي ومجاهد «أن » بدل ( «بَلْ٤٠ » )٤١ وهي مخالفة للسواد.
قوله :«فِي الآخِرَةِ » فيه وجهان :
أحدهما : أن «فِي » على بابها و «أَدْرَكَ » وإن كان ماضياً لفظاً فهو٤٢ مستقبل معنى، لأنه كائن قطعاً، كقوله :﴿ أتى أَمْرُ الله ﴾ [ النحل : ١ ]، وعلى هذا ف «فِي » متعلق ب «أدْرَكَ »٤٣.
والثاني : أنّ «فِي » بمعنى الباء، أي : بالآخرة، وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم، كقولك : على يزيد كذا٤٤. وأمّا قراءة من قرأ «بَلَى »، فقال الزمخشري : لمّا جاء ببلى بعد قوله :«وَمَا يَشْعُرُونَ » كان معناه : بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله :﴿ أدرك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة ﴾ على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم٤٥، ثم قال : وأمّا قراءة :«بَلَى أأَدْرَكَ »٤٦ على الاستفهام فمعناه : بَلَى٤٧ يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم٤٨ بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصّل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن٤٩ تابع للعلم بكون الكائن٥٠، ثم قال : فإن قلت ما معنى هذه الإضرابات الثلاثة ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم٥١، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنّهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية٥٢ انتهى.
فإن قيل :( عَمِيَ ) يتعدى ب ( عَنْ ) تقول : عَمِي فلان عن كذا، فلم عدي ب ( مِنْ )٥٣ قوله «مِنْهَا عَمُونَ » ؟ فالجواب : أنّه جعل الآخرة مبدأ عَمَاهُم ومنشأه٥٤.

فصل :


المعنى على قراءة ابن كثير :«أَدْرَكَ » أي بلغ ولحق، كما تقول : أدركه علمي، إذَا لحقه وبلغه يريد : ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة٥٥. قال٥٦ مجاهد : يدريك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها، حين لا ينفعهم علمهم٥٧.
وقال مقاتل : بل٥٨ علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكّوا وعمُوا عنه في الدنيا. كقوله ﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾، أي هم اليوم في شك من الساعة٥٩. وعلى قراءة «ادَّارَكَ » : تتابع٦٠، علمهم في الآخرة أنها كائنة ﴿ هُمْ فِي شَكٍّ ﴾ في وقتهم٦١. وقيل استفهام معناه : هل تدارك وتتابع بذلك في الآخرة يعني لم يتتابع، وضلّ وغاب علمهم به، فلم يبلغوه ولم يُدركوه، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد٦٢. وقال علي بن عيسى : بل ههنا لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكُّوا بل هُم مِنْهَا عَمُونَ جمع عمٍ، وهو الأعمى القلب٦٣.
١ في ب: أدرك..
٢ في ب: كالرمك. وهو تحريف..
٣ السبعة (٤٨٥)، الكشف ٢/١٦٤، النشر ٢/٣٣٩، الإتحاف (٣٣٩)..
٤ المختصر (١١٠)، المحتسب ٢/١٤٢..
٥ في ب: وتعذر..
٦ في ب: فانقلبت. وهو تحريف..
٧ وذكر هناك: أن أصل "ادارأتم" تفاعلتم من الدرء وهو الدفع فاجتمعت التاء مع الدال، وهما متقاربان في المخرج فأريد الإدغام فقلبت التاء دالاً وسكنت لأجل الإدغام، ولا يمكن الابتداء بساكن فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي ادّارأتم فأدغم. انظر اللباب ١/١٨٠..
٨ في ب: يحمل..
٩ انظر البحر المحيط ٧/٩٢..
١٠ في ب: إدراك. وهو تحريف..
١١ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٥٤..
١٢ في ب: ابن وهو تحريف. وهما سليمان بن يسار أبو أيوب الهلالي المدني مولى ميمونة أم المؤمنين، وهو أخو عطاء، وعبد الملك، وعبد الله، تابعي جليل، وردت عنه الرواية في حروف القرآن. مات سنة ١٠٧ هـ. وقيل غير ذلك. طبقات القراء ١/٣١٨، وعطاء بن يسار أبو محمد الهلالي المدني، مولى ميمونة أم المؤمنين وردت عنه الرواية في حروف القرآن. مات سنة ١٠٣ هـ. طبقات القراء ١/٥١٣..
١٣ في ب: بل إدراك. وهو تحريف..
١٤ المحتسب ٢/١٤٢، البحر المحيط ٧/٩٢..
١٥ انظر الممتع ١/٣٥٧..
١٦ في ب: والأصل..
١٧ في ب: اتترد..
١٨ البحر المحيط ٦/٩٢..
١٩ في ب: كما ترد. وهو تحريف..
٢٠ في ب: مثل أن تتردد. وهو تحريف..
٢١ الدر المصون ٥/٢٠٥..
٢٢ المختصر (١١٠) المحتسب ٢/١٤٢، البحر المحيط ٧/٩٢..
٢٣ عبد الله: سقط من ب..
٢٤ المختصر (١١٠) المحتسب ٢/١٤٢، البحر المحيط ٧/٩٢..
٢٥ انظر البحر المحيط ٧/٩٢..
٢٦ من قوله تعالى: ﴿سواءً عليهم أأنذرتهم﴾ [البقرة: ٦]. انظر اللباب ١/٥٣-٥٤..
٢٧ في ب: بالألف..
٢٨ في ب: فلهذه استوت. وهو تحريف..
٢٩ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٠ في ب: في هذه المواضع..
٣١ انظر البحر المحيط ٧/٩٢..
٣٢ في ب: أنكر..
٣٣ البحر المحيط ٧/٩٢..
٣٤ الدر المصون ٥/٣٠٥..
٣٥ في ب: بل أدرك..
٣٦ المختصر (١١٠)، البحر المحيط ٧/٩٢..
٣٧ المختصر (١١٠)، البحر المحيط ٧/٩٢..
٣٨ انظر البحر المحيط ٧/٩٢..
٣٩ المحتسب ٢/١٤٢..
٤٠ المختصر (١١٠) البحر المحيط ٧/٩٢..
٤١ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٢ فهو: سقط من ب..
٤٣ انظر البحر المحيط ٧/٩٢..
٤٤ انظر تفسير ابن عطية ١١/٢٣٥، مشكل إعراب القرآن ٢/١٥٤..
٤٥ الكشاف ٣/١٥٠..
٤٦ في ب: بل أدرك..
٤٧ في ب: بل..
٤٨ في ب: عليهم..
٤٩ في ب: مؤقت كائن..
٥٠ الكشاف ٣/١٥٠..
٥١ في ب: إلا لأحوالهم..
٥٢ الكشاف ٣/١٥٠..
٥٣ في ب: من..
٥٤ انظر الكشاف ٣/١٥٠..
٥٥ انظر البغوي ٦/٣٠١..
٥٦ في ب: وقال..
٥٧ انظر البغوي ٦/٣٠١..
٥٨ بل: سقط من ب..
٥٩ انظر البغوي ٦/٣٠١..
٦٠ في ب: يبالغ..
٦١ انظر البغوي ٦/٣٠١..
٦٢ انظر البغوي ٦/٣٠١-٣٠٢..
٦٣ المرجع السابق ٦/٣٠٢..
قوله: ﴿وَقَالَ الذين كفروا﴾ يعني مشركي مكة، «أَئِذَا» تقدم الكلام في الاستفهامين إذا اجتمعا في سورة الرعد. والعامل في «إِذَا» محذوف يدلّ عليه «لَمُخْرجُونَ» تقديره: نبعث ونخرجن ولا يجوز أن يعمل فيها «مُخْرجُونَ» لثلاثة موانع: الاستفهام، وأنّ، ولام الابتداء، وفي لام الابتداء في خبر إنّ خلاف، وذكر الزمخشري هنا عبارة حُلوة، فقال: لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل فيها عقاباً، وهي همزة الاستفهام، وإن، ولام الابتداء، وواحدة منها كافية، فكيف إذا اجتمعن؟ وقال أيضاً: فإنْ قلت: لم قَدّم في هذه الآية «هذَا» على «نَحْنُ وآبَاؤُنَا» وفي آية أخرى قدّم «نَحْنُ وَآبَاؤُنَا» على «هَذَا» ؟ قلت: التقديم دليل على أن المقدّم هو المعنى المعتمد بالذكر وأن الكلام إنّما سيق لأجله: ففي إحدى الآيتين دلّ على اتخاذ البعث الذي هو يعمد بالكلام، وفي الأخرى
195
على اتخاذ المبعوث بذلك الصدد. و «آبَاؤُنَا» عطف على اسم كان، وقام الفصل بالخبر قمام الفصل بالتوكيد.

فصل


«إِنَّا لَمُخْرَجُونَ» من قبورنا أحيا، ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ﴾ أي: من قبل محمد: وليس ذلك بشيء، «إِنْ هذَا» ما هذَا، ﴿إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها، ﴿فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين﴾. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل (كيف كانت) عاقبة المجرمين؟ فالجواب أنّ تأنيثها غير حقيقي، ولأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل عاقبة الكافرين؟ فالجواب: أنّ هذا يحصل في التخويف لكل العصاة. ثم إنّه تعالى صبّر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ما يناله من الكفار، فقال: ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ على تكذيبهم إيّاك، ﴿وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا أعقاب مكة، و «الضِّيقُ» : الحرج، يقال: ضاق الشيء ضَيقاً وضِيقاً بالفتح والكسر. ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب الله تعالى بقوله: ﴿عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ﴾.
قوله: «رَدِفَ لَكُمْ» فيه أوجه:
أظهرها: أنَّ «رَدِفَ» ضُمّن معنى فعل يتعدى باللام، أي: دَنا وقرب وأزف، وبهذا فسّره ابن عباس، و «بَعْضُ الَّذِي» فاعلٌ به، وقد عدّي ب (من) أيضاً على تضمنه معنى «دَنَا»، قال:
196
أي: دنونا من عمير.
والثاني: أنّ مفعوله محذوف واللام للعلّة: أي: ردف الخلق لأجلكم ولشؤمكم.
الثالث: أنّ اللام مزيدة في المفعول تأكيداً كزيادتها في قوله:
٣٩٧١ - أَنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَمَيْنَا...
وكزيادتها في قوله: ﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤] وكزيادة الباء في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] وعلى هذه الأوجة الوقف على «تَسْتَعْجِلُونَ».
الرابع: أن فاعل «رَدِفَ» ضمير الوعد، أي: ردف الوعد، أي: قرب ودنا مقتضاه و «لَكُمْ» خبر مقدّم، و «بَعْضُ» مبتدأ مؤخر، والوقف على هذا على «رَدِفَ» وهذا فيه تفكك للكلام.
والخامس: أنّ الفعل محمول على مصدره، أي: الرادفة لكم، وبعض على تقرير ردافة بعض، يعني: حى يتطابق الخبر والمخبر عنه، وهذا أضعف مما قبله.
وقرأ الأعرج: «رَدَفَ» بفتح الدال، وهي لغة، والكسر أشهر. ﴿بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ من العذاب حل بهم ذلك يوم بدر.
قوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ قال مقاتل: على أهل مكة، حيث لم يعجل عليهم العذاب. والفصل: الإفضال ومعناه أنه متفضل، وهذه الآية تبطل قول من قال: إنه لا نعمة لله على الكفار.
قوله: «لاَ يَشْكُرُونَ» يجوز أن يكون مفعوله محذوفاص، أي: لا يشكرون نعمه، ويجوز أن لا يقدر بمعنى: لا يعترفون بنعمةٍ، فعبّر عن انتفاء معرفتهم بالنعمة بانتفاء ما يترتبت على معرفتها، وهو الشكر.
197
﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآباؤُنَا مِن قَبْلُ ﴾ أي : من قبل محمد : وليس ذلك بشيء، «إِنْ هذَا » ما هذَا، ﴿ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها،
﴿ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين ﴾. فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل ( كيف كانت )١ عاقبة٢ المجرمين ؟ فالجواب أنّ٣ تأنيثها غير حقيقي، ولأنّ المعنى : كيف كان آخر أمرهم ؟٤. فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل عاقبة الكافرين ؟ فالجواب : أنّ هذا٥ يحصل في التخويف لكل العصاة٦.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ في الأصل: عاقب..
٣ أن: سقط من ب..
٤ انظر الكشاف ٣/١٥١، الفخر الرازي ٢٤/٢١٤..
٥ في ب: بهذا..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٤..
ثم إنّه تعالى صبّر رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يناله من الكفار، فقال :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ على تكذيبهم إيّاك، ﴿ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا أعقاب مكة١، و «الضِّيقُ » : الحرج، يقال : ضاق الشيء ضَيقاً وضِيقاً بالفتح والكسر٢.
١ انظر البغوي ٦/٣٠٣، القرطبي ١٣/٢٢٩..
٢ انظر اللسان (ضيق)..
﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب١ الله تعالى بقوله :
١ في ب: وأجاب..
﴿ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ ﴾١.
قوله :«رَدِفَ لَكُمْ » فيه أوجه :
أظهرها : أنَّ «رَدِفَ » ضُمّن معنى فعل يتعدى باللام، أي : دَنا وقرب وأزف٢، و٣ بهذا فسّره ابن عباس٤، و «بَعْضُ الَّذِي » فاعلٌ به٥، وقد عدّي ب ( من ) أيضاً على تضمنه معنى «دَنَا »٦، قال :
٣٩٧٠ - فَلَمَّا رَدِفْنَا مِن عُمَيْرٍ وَصَحْبِهِ *** تَوَلَّوْا سِرَاعاً وَالمَنِيَّةُ تَعْنِقُ٧
أي : دنونا من عمير٨.
والثاني : أنّ مفعوله محذوف واللام للعلّة : أي : ردف الخلق لأجلكم ولشؤمكم٩.
الثالث : أنّ اللام مزيدة في المفعول تأكيداً١٠ كزيادتها في قوله :
٣٩٧١ - أَنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَمَيْنَا١١ ***. . .
وكزيادتها في قوله :﴿ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٤ ] وكزيادة الباء في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] وعلى هذه الأوجه الوقف على «تَسْتَعْجِلُونَ ».
الرابع : أن فاعل «رَدِفَ » ضمير الوعد، أي : ردف الوعد، أي : قرب ودنا مقتضاه و «لَكُمْ » خبر مقدّم، و «بَعْضُ » مبتدأ مؤخر، والوقف على هذا على «رَدِفَ » وهذا فيه تفكك للكلام١٢.
والخامس : أنّ الفعل محمول على مصدره، أي : الرادفة لكم، وبعض على تقرير ردافة بعض، يعني : حتى يتطابق الخبر والمخبر عنه، وهذا أضعف مما قبله١٣.
وقرأ الأعرج :«رَدَفَ » بفتح الدال١٤، وهي لغة، والكسر أشهر. ١٥ ﴿ بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ من العذاب حل بهم ذلك يوم بدر.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٤..
٢ في ب: وهو تحريف..
٣ و: سقط من ب..
٤ انظر تفسير ابن عطية ١١/٢٣٧، البحر المحيط ٧/٩٥..
٥ انظر التبيان ٢/١٠١٣..
٦ انظر الكشاف ٣/١٥١..
٧ البيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله، وهو في الكشاف ٣/١٥١، البحر المحيط ٧/٩٥، شرح شواهد الكشاف (٨٥). والشاهد فيه تعدي الفعل (ردف) بـ (من) لتضمنه معنى دنا، أي: دنونا من عمير..
٨ انظر الكشاف ٣/١٥١..
٩ حكاه أبو حيان فإنه قال: (وقيل: اللام في "لكم" داخلة على المفعول من أجله والمفعول به محذوف تقديره: ردف الخلق لأجلكم، وهذا ضعيف) البحر المحيط ٧/٩٥..
١٠ انظر معاني القرآن للأخفش ٢/٦٥١، معاني القرآن للفراء ٢/٣٠٠، البيان ٢/٢٢٧..
١١ عجز بيت من بحر الوافر، لم أهتد إلى قائله، وصدره:
فلمَّا أن توقفنا قليلاً
وقد تقدم..

١٢ انظر البحر المحيط ٧/٩٥..
١٣ المرجع السابق..
١٤ المحتسب ٢/١٤٣، ولم يعزها ابن خالويه إلى قارئ. المختصر (١١٠)..
١٥ انظر الكشاف ٣/١٥١..
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ﴾ قال مقاتل : على أهل مكة، حيث لم يعجل١ عليهم العذاب٢. والفضل : الإفضال ومعناه أنه متفضل، وهذه الآية تبطل قول من قال : إنه لا نعمة لله على الكفار٣.
قوله :«لاَ يَشْكُرُونَ » يجوز أن يكون مفعوله محذوفاً، أي : لا يشكرون نعمه٤، ويجوز أن لا يقدر بمعنى : لا يعترفون بنعمةٍ، فعبّر عن انتفاء معرفتهم بالنعمة بانتفاء ما يترتب على معرفتها، وهو الشكر٥.
١ في ب: يجعل. وهو تحريف..
٢ انظر البغوي ٦/٣٠٣..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٥..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٩٥..
٥ المرجع السابق..
قوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ ﴾ العامة على ضم تاء المضارعة من : أَكنَّ، قال تعالى :«أَوْ أَكْنَنْتُمْ١، وابن محيصن وابن السميفع وحُميد بفتحها وضم الكاف٢، يقال : كَنَنْتُهُ وَأَكْنَنْتُهُ، بمعنى : أخفيت وسترت٣.
١ من قوله تعالى: ﴿أو أكنتم في أنفسكم﴾[البقرة: ٢٣٥]..
٢ المختصر (١١٠)، المحتسب ٢/١٤٤، الكشاف ٣/١٥١، البحر المحيط ٧/٩٥..
٣ انظر الكشاف ٣/١٥١، البحر المحيط ٧/٩٥..
قوله :﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ ﴾ في هذه التاء قولان :
أحدهما : أنّها للمبالغة، كراويةٍ وعلاّمة، وقولهم : ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه تعالى قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد عَلِمه الله١.
والثاني : أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو : العافية والعاقية، قال الزمخشري : ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرّمية في أنها أسماء غير صفات٢. ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ أي : في اللوح المحفوظ والمبين : الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة.
١ المرجعان السابقان..
٢ الكشاف ٣/١٥٢..
قوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ﴾ العامة على ضم تاء المضارعة من: أَكنَّ، قال تعالى: «أَوْ أَكْنَنْتُمْ، وابن محيصن وابن السميفع وحُميد بفتحها وضم الكاف، يقال: كَنَنْتُهُ وَأَكْنَنْتُهُ، بمعنى: أخفيت وسترت.
قوله: ﴿وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ﴾ في هذه التاء قولان:
أحدهما: أنّها للمبالغة، كراويةٍ وعلاّمة، وقولهم: ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه تعالى قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد عَلِمه الله.
والثاني: أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو: العافية والعاقية، قال الزمخشري: ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرّمية في أنها أسماء غير صفات. ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي: في اللوح المحفوظ والمبين: الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة.
قوله
: ﴿إِنَّ
هذا
القرآن﴾
الآية، لما تمَّمَ الكلام في إثبات المبدأ والمعاد، ذكر بعده ما يتعلق بالنبوة، ولمَّا كانت العمدة الكبرى في إثبات نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هي القرآن لا جرم بيّن الله تعالى أولاً كونه معجزة من وجوه.
أحدها: أنّ الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة للمذكور في التوراة والإنجيل، مع العلم بأنه - عليه السلام - كان أُمّيّاً - ولم يخالط العلماء، ولم يشتغل بالاستفادة والتعلّم، فإذن لا يكون ذلك إلاّ من قِبَل الله تعالى، وأراد ما اختلفوا فيه وتباينوا، وقبل ما حرّفه بعضهم، وقيل: إخبار الأنبياء.
وثانيها: قوله ﴿وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ﴾، وذلك لأنّا تأملنا في القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله ما لم نجده
198
في كتاب من الكتب، ووجدناه مبرءاً من النقص والتهافت، فكان هدى ورحمة من هذه الوجوه، ووجدنا القوى البشرية قاصرة عن جمع كتاب على هذا الوجه، فعَلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى، فكان القرآن معجزاً من هذه الجهة.
وثالثها: ﴿إِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ﴾ لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزُوا عن معارضته وذلك معجزة.
قوله: «بحُكْمِهِ» العامة لعى ضم الحاء وسكون الكاف، وجناح بن حبيش بكسرها وفتح الكاف، جمع حكمة، أي: نقضي بين المختلفين يوم القيامة بحكمة الحق «وَهُوَ العَزِيزُ» والمنيع فلا يرد له أمر، «العَلِيمُ» بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء. فإنْ قيل: القضاء والحكم شيء واحد، فقوله: ﴿يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ﴾ كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه!!
فالجواب: معنى قوله: «بِحُكْمِهِ» أي: بما يحكم به وهو عدله لا يقضي إلا بالعدل، أو أراد بحكمه على القراءة بكسر الحاء.
قوله: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين﴾ أي البيّن، ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ يعني الكفار، وإنّما حسن جعله سبباً للأمر بالتوكل، لأن الإنسان ما دام يطمع في أخذ شيء فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته، فإذا قطع طمعه عنه قوي قلبه على إظهار مخالفته، فاللَّه تعالى قطع طمع محمد - عليه السلام - بأ بيَّن أنهم كالموتى وكالصم والعمي فلا يسمعون ولا يفهمون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، وهذا سبب لقوة قلبه - عليه السلام - على إظهار الدين كما ينبغي.
قوله: ﴿وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء﴾ قرأ ابن كثير: «لاَ يَسْمَعُ» بالياء مفتوحة، وفتح الميم «الصُّمُّ» رفع وكذلك في سورة الروم، وقرأ الباقون بالتاء وضمها وكسر الميم «الصُّمَّ» نصب ﴿إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ﴾ : معرضين. فإن قيل: ما معنى قوله: «وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ» وإذا كانوا صمّاً لا يسمعون سواء ولوا أو لم يولوا؟ قيل ذكره تأكيداً ومبالغة، وقيل: الأصم إذا كان حاضراً قد يسمع برفع الصوت ويفهم بالإشارة، فإذا ولّى مُدبراً لم يسمع ولم يفهم.
قال قتادة: الأصم إذا ولّى مُدبراً ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا
199
يسمع ما يدعى إليه من الإيمان. والمعنى: إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميّت الذي لا سبيل إلا إسماعه والأصم الذي لا يسمع. قوله: ﴿وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي﴾ العامة على «بِهَادِي» مضافاً ل «العُمْي»، وحمزة «تَهْدِي» فعلاً مضارعاً و «العُمْيَ» نصب على المفعول به. وكذلك التي في الروم. ويحيى بن الحارث وأبو حيوة «بِهَادِ» منوناً «العُمْيَى» منصوب به وهو الأصل. واتفق القراء على أن يقفوا على «هَادٍ» في هذه السورة بالياء، لأنها رُسمت في المصحف ثابتةً، واختلفوا في الروم، فوقف الأخوان عليها بالياء أيضاً كهذه، أما حمزة، فلأنه يقرأها «تَهْدِي» فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة. قال الكسائي: من قرأ «تَهْدِي» لزمه أن يقف بالياء، وإنّما لزمه ذلك لأن الفعل لا يدخله تنوين في الوصل تحذف له الياء، فيكون في الوقف كذلك، كما يدخل التنوين على «هَادٍ» ونحوه، فتذهب الياء في الوصل، فيجري الوقف على ذلك لمن وقف بغير ياء انتهى. ويلزم على ذلك أن يوقف على «يقضي الحقّ» و ﴿وَيَدْعُ الإنسان﴾ [الإسراء: ١١] بإثبات الياء والواو، ولكن يلزم حمزة مخالفة الرسم دون القياس، وأمّا الكسائي فإنه يقرأ «بِهَادِي» اسم فاعل كالجماعة، فإثباته للياء بالحمل على «هَادِي» في هذه السورة، وفيه مخالفة الرسم السلفي.
قوله: «عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «تَهْدِي» وعدي ب (عن) لتضمنه معنى تصرفهم.
الثاني: أنه متعلق بالعمي، لأنك تقول: عمى عن كذا ذكره أبو البقاء.

فصل


المعنى: ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان أن يسمع ﴿إلا من يؤمن بآياتنا﴾ إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله، «فَهُم مُسْلِمُونَ» مخلصون لله.
200
«مِنْ» في قوله: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾ [البقرة: ١١٢} يعني سالماً لله خالصاً لله.
201
وثانيها : قوله ﴿ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ ﴾، وذلك لأنّا تأملنا في القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله ما لم نجده في كتاب من الكتب، ووجدناه مبرءاً من النقص والتهافت، فكان هدى ورحمة من هذه الوجوه، ووجدنا القوى البشرية قاصرة عن جمع كتاب على هذا الوجه، فعَلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى، فكان القرآن معجزاً من هذه الجهة١.
وثالثها :﴿ إِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ ﴾ لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزُوا عن معارضته وذلك معجزة٢.
١ في الأصل: الجملة..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٦..
قوله :«بحُكْمِهِ » العامة على ضم الحاء وسكون الكاف، وجناح بن حبيش بكسرها وفتح الكاف١، جمع حكمة، أي : نقضي بين المختلفين٢ يوم القيامة بحكمة الحق «وَهُوَ العَزِيزُ » والمنيع فلا يرد له أمر، «العَلِيمُ » بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء. فإنْ قيل : القضاء والحكم شيء واحد، فقوله :﴿ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ ﴾ كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه ! !.
فالجواب : معنى قوله :«بِحُكْمِهِ » أي : بما يحكم به وهو عدله لا يقضي إلا بالعدل، أو أراد بحكمه على القراءة بكسر الحاء٣.
١ المختصر (١١٠)، البحر المحيط ٧/٩٦..
٢ في ب: المختلفين في الدين..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٦..
قوله :﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين ﴾ أي البيّن،
﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى ﴾ يعني الكفار، وإنّما حسن جعله سبباً للأمر بالتوكل، لأن الإنسان ما دام يطمع في أخذ شيء فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته، فإذا قطع طمعه عنه١ قوي قلبه على إظهار مخالفته، فاللَّه تعالى قطع طمع محمد - عليه السلام٢ - بأن بيَّن أنهم كالموتى وكالصم٣ والعمي فلا يسمعون ولا يفهمون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، وهذا سبب لقوة قلبه - عليه السلام٤ - على إظهار الدين كما ينبغي٥.
قوله :﴿ وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء ﴾ قرأ ابن كثير :«لاَ يَسْمَعُ » بالياء مفتوحة، وفتح الميم «الصُّمُّ » رفع وكذلك في سورة الروم٦، وقرأ الباقون بالتاء وضمها وكسر الميم «الصُّمَّ » نصب٧ ﴿ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ ﴾ : معرضين. فإن قيل : ما معنى قوله :«وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ » وإذا كانوا صمّاً لا يسمعون٨ سواء ولوا أو لم يولوا ؟ قيل ذكره تأكيداً ومبالغة، وقيل : الأصم إذا كان حاضراً قد يسمع برفع الصوت ويفهم بالإشارة، فإذا ولّى مُدبراً لم يسمع ولم يفهم٩.
قال قتادة : الأصم إذا ولّى مُدبراً ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان١٠. والمعنى : إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون١١ إليه كالميّت الذي لا سبيل إلى إسماعه والأصم الذي لا يسمع١٢.
١ في ب: عند..
٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣ في ب: كالصم..
٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٦..
٦ يشير إلى قوله تعالى: ﴿فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصمَّ الدعاء إذا ولَّوا مدبرين﴾[الروم: ٥٢]..
٧ السبعة (٤٨٦، ٥٠٨)، الكشف ٢/١٦٥، النشر ٢/٣٣٩، الإتحاف (٣٣٩)..
٨ في ب: لا ينتفعون..
٩ انظر البغوي ٦/٣٠٤-٣٠٥..
١٠ انظر البغوي ٦/٣٠٥..
١١ في ب: يدعونه..
١٢ انظر البغوي ٦/٣٠٥..
قوله :﴿ وَمَا أَنتَ بِهَادِي العمي ﴾١ العامة على «بِهَادِي » مضافاً ل «العُمْي »، وحمزة «تَهْدِي » فعلاً مضارعاً و «العُمْيَ » نصب على المفعول به٢. وكذلك التي في الروم. ٣ ويحيى بن الحارث وأبو حيوة «بِهَادٍ » منوناً «العُمْيَ » منصوب٤ به وهو الأصل. واتفق القراء على أن يقفوا على «هَادٍ » في هذه السورة بالياء، لأنها رُسمت في المصحف ثابتةً، واختلفوا في الروم، فوقف الأخوان عليها بالياء أيضاً كهذه، أما حمزة، فلأنه يقرأها «تَهْدِي » فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة٥. قال الكسائي : من قرأ «تَهْدِي » لزمه أن يقف بالياء، وإنّما لزمه ذلك لأن الفعل لا يدخله تنوين في الوصل تحذف له الياء، فيكون في الوقف كذلك، كما يدخل التنوين على «هَادٍ » ونحوه٦، فتذهب الياء في الوصل، فيجري الوقف على ذلك لمن وقف بغير ياء٧ انتهى. ويلزم على ذلك أن يوقف على «يقضي الحقّ »٨ و ﴿ وَيَدْعُ الإنسان ﴾ [ الإسراء : ١١ ] بإثبات الياء والواو، ولكن يلزم حمزة مخالفة الرسم دون القياس، وأمّا الكسائي فإنه يقرأ «بِهَادِي » اسم فاعل كالجماعة، فإثباته للياء بالحمل على «هَادِي » في هذه السورة، وفيه مخالفة الرسم السلفي٩.
قوله :«عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب «تَهْدِي » وعدي ب ( عن ) لتضمنه معنى تصرفهم.
الثاني : أنه متعلق بالعمي، لأنك تقول : عمى١٠ عن كذا ذكره أبو البقاء١١.

فصل :


المعنى : ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان أن يسمع ﴿ إلا من يؤمن بآياتنا ﴾ إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله، «فَهُم مُسْلِمُونَ » مخلصون لله١٢.
«مَنْ » في قوله١٣ :﴿ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ ﴾ يعني سالماً لله خالصاً لله١٤.
١ العمي: سقط من ب..
٢ السبعة (٤٨٦)، الكشف ٢/١٦٦، النشر ٢/٣٣٩، الإتحاف (٣٣٩)..
٣ يشير إلى قوله تعالى: ﴿وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم﴾[الروم: ٥٣]..
٤ المختصر (١١١)، البحر المحيط ٧/٩٦..
٥ انظر الكشف ٢/١٦٦، إبراز المعاني (٤٢٦)..
٦ ونحوه: سقط من ب..
٧ انظر الكشف ٢/١٦٦..
٨ من قوله تعالى: ﴿والله يقضي بالحق﴾[غافر: ٢٠]..
٩ انظر إبراز المعاني ٦٣١-٦٣٢..
١٠ عمي: سقط من ب..
١١ قال أبو البقاء: {و"عن" يتعلق بـ"هادي"، وعداه بـ "عن")، لأن معناه تصرف، ويجوز أن تتعلق بالعمى، ويكون المعنى: أن العمى صدر عن ضلالتهم) التبيان ٢/١٠١٤..
١٢ انظر البغوي ٦/٣٠٥..
١٣ في النسختين: في قراءة..
١٤ في ب: يعني: سأل الله إخلاصاً. انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٦-٢١٧..
قوله: ﴿وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم﴾ أي: مضمون القول، أو أطلق المصدر على المفعول، أي: المقول. ومعنى وقع القول عليهم: وجب العذاب عليهم، وقال قتادة: إذا غضب الله عليهم ﴿أخرجنا لهم دابة من الأرض﴾.
قوله: «تُكَلِّمُهُمْ» العامة على التشديد، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه من الكلام والحديث، ويؤيده قراءة أُبيّ: «تُنَبِّئُهُمْ» وقراءة يحيى بن يلام: «تحدثهم» - وهما تفسيران لها.
الثاني: «تجرحهم» ويدل عليه قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زرعة والجحدري «تَكْلُمُهُمْ» - بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام - من الكَلْمِ وهو الجرح، وقد قراء «تجرحهم» وجاء في الحديث: إنها تسم الكافر.
قوله: «أنَّ النَّاسَ» قرأ الكوفيون بفتح «أن» والباقون بالكسر، فأما الفتح فعلى تقدير الباء، أي: بأن الناس، ويدل عليه التصرح بها في قراءة عبد الله «بأنَّ النَّاسَ». ثم هذه الباء يحتمل أن تكون معدية وأن تكون سببيّة، وعلى التقديرين يجوز أن تكون «تُكَلِّمُهُمْ» بمعنييه من الحديث والجرح أي: تحدثهم بأن الناس أو بسبب أن الناس أو تجرحهم بأن الناس، أي: تسمهم بهذا اللفظ أو تسمهم بسبب انتفاء الإيمان. وأما
201
الكسر فعلى الاستئناف، ثم هو يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون من كلام الدابة، فيعكر عليه «بِآيَاتِنَا» ويجاب عنه إما باختصاصها صح إضافة الآيات إليها، كقولك: اتباع الملوك ودوابنا وخيلنا وهي لملكهم، وإما على حذف مضاف أي: بآيات ربنا، و «تُكَلِّمُهُمْ» إن كان من الحديث فيجوز أن يكون إما لإجراء «تُكَلِّمُهُمْ» مجرى تقول لهم، وإما على إضمار القول أي: فتقول كذا، وهذا القول تفسير لتكلمهم.

فصل


قال السدي: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام. وقيل: تقول للواحد هذا مؤمن وهذا كافر. وقيل كلامهم ما قال ﴿أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا﴾ تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث. قال ابن عمر: وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «بَادِرُوُا بالأَعْمَالِ ستّاً. طلوعَ الشمس من مغربها، والدجالَ، والدخانَ والدابةَ وخاصةَ أحدكم، وأمرَ العامة» وقال عليه السلام: «إنّ أولَ الآياتِ خروجاً طلوعُ الشمس من مغربها، وخروجُ الدابة على الناس ضحًى، فأيتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها» وقال عليه السلام: «يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خروجاً في أقصى المين، فيفشوا ذكرها بالبادية، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زماناً طويلاً، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة، فيفشوا ذكرها بالبادية، ويدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم بينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمه، وأكرمها على الله عزَّ وجلَّ يعني المسجد الحرام، ثم لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنوا وتدنو»
- قال الراوي: ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك - «فارفضّ الناس عنها، وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عنهم عن وجوههم، حتى تركتها كأنها الكواكب
202
الدرية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليقوم يتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال، يُعرَف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن يا مؤمن، وللكافر يا كافر» وقال عليه السلام: «تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الخوان ليجتمعوا، فيقولون هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر» وروي عن عليّ قال: ليس بدابة لها ذَنَب، ولكن لها لحية، كأنه يشير إلى أنها رجل، والأكثرون على أنها دابة، لما روى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس الثور، وعينها عين الخنزير، وأن لها أذناً، قيل: وقرنها قرن أيل وصدرها صدر أسد، ولونها لون النمر، وخاصرتها خاصرة هو، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثني عشر ذراعاً، معها عصا موسى وخاتم سليمان، وذكر باقي الحديث. وروى حذيفة بن اليمان قال: «ذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الدابة، قلت: يا رسول الله: من أين تخرج؟ قال:» من أعظم حرمة المساجد على الله بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم وينشق الصفا مما يلي المشعر، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدوا منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمناً وكافراً، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه مؤمن، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه: كافر «
وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصا - وهو محرم - وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه وروى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:»
بئس الشعب شعب جياد «،
203
مرتين أو ثلاثاً، قيل: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال:» تخرج منه الدابة، فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين «
وقال وهب: وجهها وجه الرجل، وسائر خلقها خلق الطير فتخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون. قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾، أي من كل قرن جماعة. و ﴿مِن كُلِّ أُمَّةٍ﴾ يجوز أن يكون متعلقاً بالحشر، و «مِنْ»
لابتداء الغاية، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «فَوْجاً» لأنه يجوز أن يكون صفة له في الأصل، والفوج الجماعة كالقوم، وقيدهم الراغب فقال: الجماعة المارة المسرعة. وكأن هذا هو الأصل ثم انطلق، ولم يكن مرور ولا إسراع، والجمع. أفواج وفووج. و «مِمَّن يُكَذِّبُ» صفة له، و «مِنْ» في «مِنْ كُلِّ» تبعيضية، وفي «مِمَّن يُكَذِّبُ» تبيينية.
قوله: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى النار، ﴿حتى إِذَا جَآءُوا﴾ يوم القيامة، قَالَ لَهُمُ اللَّهُ: ﴿أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً﴾ ولم تعرفوها حتى معرفتها. والواو في «وَلَمْ تُحِيطُوا» يجوز أن تكون العاطفة وأن تكون الحالية، و «عِلْماً» تمييز. قوله: «أمَّاذَا» أم هنا منقطعة، وتقدم حكمها، و «مَاذَا» يجوز أن يكون برمته استفهاماً منصوباً ب «تَعْملون» الواقع خبراً عن «كُنْتُم»، وعائده محذوف، أي: أي شيء الذي كنتم تعملونه؟ وقرأ أبو حيوة «أمَا» بتخفيف الميم، جعل همزة الاستفهام داخلة على امسه تأكيداً كقوله:
٣٩٧٢ - أَهَلْ رَأَوْنَا بِوَادِي القُفِّ ذِي الأَكَمِ...
204
قوله: ﴿أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ حين لم يتفكروا فيها، كأنه قال: ما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ثم قال: ﴿وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم﴾، أي: وجب العذاب الموعود عليهم «بِمَا ظَلَمُوا»، أي بسبب ظلمهم وتكذيبهم بآيات الله، ويضعف جعل «مَا» بمعنى الذي ﴿فَهُمْ لاَ يُنطِقُونَ﴾، قال قتادة، كيف ينطقون ولا حجة لهم، نظيره قوله تعالى: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥ - ٣٦]، وقيل: «لاَ يَنْطِقُونَ» لأن أفواههم مختومة. ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة، مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر، فقال: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً﴾ مضيئاً يبصر فيه. قوله: «لِيَسْكُنُوا فِيهِ» قيل: فقيه حذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، إذا التقدير: جعلنا الليل و «لتتصرفوا» لدلالة «ليسكنوا». وقوله: «مُبْصِراً» كقوله: ﴿آيَةَ النهار مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ١٢]، وتقدم تحقيقه في الإسراء، قال الزمخشري: فإن قلت: ما للتقاليل لم يراع في قوله: «لِيَسْكُنُوا» و «مُبْصِرَةٌ» حيث كان أحدهما علة، والآخر حالاً؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف يريد لم لا قال: والنهار لتتصرفوا فيها، وأجاب غيره بأن السكون في الليل هو المقصود (من الليل وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود) لأنه وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يصدقون فيعتبرون، وخص المؤمنين بالذكر - وإن كانت الأدلة للكل - لأن المؤمنين هم المنتفعون، كقوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
205
قوله :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ﴾، أي من كل قرن جماعة. و ﴿ مِن كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ يجوز أن يكون متعلقاً بالحشر، و «مِنْ » لابتداء الغاية، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «فَوْجاً » لأنه يجوز أن يكون صفة له في الأصل، والفوج الجماعة كالقوم، وقيدهم الراغب فقال : الجماعة المارة المسرعة١. وكأن هذا هو الأصل ثم انطلق، ولم يكن مرور ولا إسراع، والجمع. أفواج وفووج. و «مِمَّن يُكَذِّبُ » صفة له، و «مِنْ » في «مِنْ كُلِّ » تبعيضية، وفي «مِمَّن يُكَذِّبُ » تبيينية٢.
قوله :«فَهُمْ يُوزَعُونَ » أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى النار،
١ المفردات في غريب القرآن ٣٨٦..
٢ انظر الكشاف ٣/١٥٣..
﴿ حتى إِذَا جَاءُوا ﴾١ يوم القيامة، قَالَ لَهُمُ اللَّهُ :﴿ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً ﴾ ولم تعرفوها حتى معرفتها. والواو في «وَلَمْ تُحِيطُوا » يجوز أن تكون العاطفة وأن تكون الحالية٢، و «عِلْماً » تمييز. قوله :«أمَّاذَا » أم هنا منقطعة، وتقدم حكمها، و «مَاذَا » يجوز أن يكون برمته استفهاماً منصوباً ب «تَعْملون » الواقع خبراً عن «كُنْتُم »، وأن تكون «ما » استفهامية مبتدأ، و «ذا » موصول خبره، والصلة :﴿ كنتم تعملون ﴾، وعائده محذوف، أي : أي شيء الذي كنتم تعملونه٣ ؟ وقرأ أبو حيوة «أمَا » بتخفيف الميم، جعل همزة الاستفهام داخلة على اسمه تأكيداً٤ كقوله :
٣٩٧٢ - أَهَلْ رَأَوْنَا بِوَادِي القُفِّ ذِي الأَكَمِ٥ ***. . .
قوله :﴿ أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ حين لم يتفكروا فيها، كأنه قال : ما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك
١ في ب: إذا ما جاءوا..
٢ انظر الكشاف ٣/١٥٣..
٣ انظر البحر المحيط ٧/٩٨-٩٩..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٩٩..
٥ عجز بيت من بحر الطويل، قاله زيد الخيل، وصدره:
سائل فوارس يربوع بشدَّتنا
وهو في المقتضب ١/١٨٢، ٣/٢٩١، الخصائص ٢/٤٦٣، أمالي ابن الشجري ١/١٠٨، ٢/٣٣٤، ابن يعيش ٨/١٥٢، ١٥٣، المغني ٢/٣٥٢، شرح شواهده ٢/٧٧٢، الهمع ٢/٧٧، ١٣٣، الخزانة ١١/٢٦١ عرضاً، الأكم جمع أكمة وهي التل.
والشاهد فيه دخول همزة الاستفهام على "هل" التي للاستفهام لتأكيد معنى الاستفهام..

ثم قال :﴿ وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم ﴾، أي : وجب العذاب الموعود عليهم «بِمَا ظَلَمُوا »، أي بسبب ظلمهم وتكذيبهم بآيات الله١، ويضعف جعل «مَا » بمعنى الذي ﴿ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ ﴾، قال قتادة٢، كيف ينطقون ولا حجة لهم، نظيره قوله تعالى :﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥ - ٣٦ ]، وقيل :«لاَ يَنْطِقُونَ »٣ لأن أفواههم مختومة. ٤
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٨-٢١٩..
٢ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦/٣١١..
٣ لا ينطقون: سقط من ب..
٤ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦/٣١١..
ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة، مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر، فقال :
﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً ﴾١ مضيئاً يبصر فيه. قوله :«لِيَسْكُنُوا فِيهِ » قيل : فيه حذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، إذ التقدير : جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه، والنهار مبصرا ليتصرفوا فيه، فحذف «مظلماً » لدلالة «مبصراً » و «لتتصرفوا » لدلالة «ليسكنوا »٢. وقوله :«مُبْصِراً » كقوله :﴿ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً ﴾ [ الإسراء : ١٢ ]، وتقدم تحقيقه في الإسراء٣، قال الزمخشري : فإن قلت : ما للتقايل لم يراع في قوله :«لِيَسْكُنُوا » و «مُبْصِرَةٌ » حيث كان أحدهما علة٤، والآخر حالاً ؟ قلت : هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف٥ يريد لم لا قال : والنهار لتتصرفوا فيها، وأجاب٦ غيره٧ بأن السكون في الليل هو المقصود ( من الليل وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود )٨ لأنه وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية. ٩ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ يصدقون فيعتبرون، وخص المؤمنين بالذكر - وإن كانت الأدلة للكل - لأن المؤمنين هم المنتفعون١٠، كقوله :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ].
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٩..
٢ انظر البحر المحيط ٧/٩٩..
٣ عند قوله تعالى: ﴿وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرةً﴾[الإسراء: ١٢]..
٤ في ب: جملة. وهو تحريف..
٥ الكشاف ٣/١٥٤..
٦ في ب: فأجاب..
٧ وهو ابن الخطيب..
٨ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢١٩..
١٠ المرجع السابق..
قوله: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾ هذه العلامة الثانية لقيام القيامة، والصور: قرن ينفخ
205
فيه إسرافيل، فإذا سمع الناس ذلك الصوت يصيحون ثم يموتون، وهذا قول الأكثرين. وقال الحسن: الصور هو الصوَر، وأول بعضهم كلامه أن الأرواح تجتمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب الأرواح إلى الأجساد، فتحيا الأجساد. قوله: ﴿فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾ قال: «فَفَزَعَ» بلفظ الماضي ولم يقل فيفزع لتحققه وثبوته وأنه كائن لا محالة، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل، كقوله: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١]. والمعنى: يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا، قيل: ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعف، ونفخة القيام لرب العالمين.
قوله: ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ فالمراد إلا من ثبّت الله قلبه من الملائكة، قالوا: وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وجاء في الحديث: أنهم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش، قال سعيد بن جبير وعطاء عن ابن عباس هم الشهداء، لأنهم أحياء عند ربهم. وعن الضحاك: هم رضوان والحور وخزنة النار وحملة العرش. و «كُلٌّ أَتَوْهُ» أي الذين أُحْيُوا بعد الموت. قوله: «أَتَوْهُ» قرأ حمزة وحفص: «أَتَوْهُ» فعلاً ماضياً ومفعوله الهاء، والباقون: «آتوه» : اسم فاعل مضافاً للهاء، وهذا حمل على معنى «كُلّ» وهي مضافة تقديراً، أي: وكلهم. وقرأ قتادة: «أتَاهُ» ماضياً مسنداً لضمير «كلّ» على اللفظ، ثم حمل على معناها، فقرأ «دَاخِرِين»، والحسن والأعرج «دَخِرِينَ» بغير ألف أي: صاغرين:
206
قوله: ﴿وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا﴾ هذه العلامة الثالثة لقيام القيامة، وهي
206
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال﴾ [الكهف: ٤٧] «جَامِدَةً» قائمة واقعة، و «تَحْسَبُهَا جَامِدَةً» هذه الجملة حالية من فاعل «تَرَى» أو من مفعوله، لأن الرؤية بصرية.
قوله: «وَهِيَ تَمُرُّ» الجملة حالية أيضاً، وهكذا الأجرام العظيمة تراها واقفة وهي مارة قال النابغة الجعدي يصف جيشاً كثيفاً:
٣٩٧٠ - فَلَمَّا رَدِفْنَا مِن عُمَيْرٍ وَصَحْبِهِ تَوَلَّوْا سِرَاعاً وَالمَنِيَّةُ تَعْنِقُ
٣٩٧٣ - بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسِبُ أَنَّهُمْ وُقُوفٌ لِحَاجٍ وَالرِّكَابُ تُهَمْلِجُ
و «مَرَّ السَّحَابِ» : مصدر تشبيهي، قوله: «صُنْعَ اللَّهِ» مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة عامله مضمر، أي: صنع الله ذلك صنعاً، ثم أضيف بعد حذف عامله، وجعله الزمخشري مؤكداً للعامل في ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾ [النمل: ٨٧] وقدره: ويوم ينفخ وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المسيئين في كلام طويل جرياً على مذهبه، وقيل منصوب على الإغراء، أي: انظروا صنع الله وعليكم به. والإتقان: الإتيان بالشيء على أكمل حالاته، وهو من قولهم: تقن أرضه إذا ساق إليها الماء الخاثر بالطين لتصلح للزراعة، وأرض تقنة، والتقن فعل ذلك بها، والتقن أيضاً: ما رمي به في الغدير من ذلك أو الأرض، ومعنى ﴿أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي: أحكمه. ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ قرأ
207
ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالغيبة جرياً على قوله «وَكُلٌّ أَتَوْهُ»، والباقون بالخطاب جرياً على قوله «وتَرَى»، لأن المراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأمته.
208
قوله: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾ في «خَيْر» وجهان:
أحدهما: أنها للتفصيل باعتبار زعمهم، أو على حذف مضاف، أي: خير من قدرها واستحقاقها «مِنْهَا» في محل نصب، وألا يكون للتفصيل، فيكون (مِنْهَا) في موضع رفع صفة لها. قوله ﴿وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ قرأ أهل الكوفة «مِنْ فَزَع» بالتنوين، «يَوْمَئِذٍ» بفتح الميم، وقرأ الآخرون بالإضافة، لأنه أعم فإنه يقتضي الأمن من جمع فزع ذلك اليوم وبالتنوين كأنه فزع دون فزع، ويفتح أهل المدينة الميم من «يومَئذ» وتقدم في هود فتح «يَوْم» وجره و «إِذْ» مضافة للجملة حذفت وعوض عنها التنوين، والأحسن أن تقدر يومئذ جاء بالحسنة، وقيل: يومئذ ترى الجبال، وقيل: يومئذ ينفخ في الصور، والأولى أولى، لقرب ما قدر منه.

فصل


لما تكلم في علامات القيامة شرح - بعد ذلك - أحوال المكلفين بعد قيام القيامة والمكلف إما أن يكوم مطيعاً أو عاصيا، أما (المطيع، فهو) الذي جاء بالحسنة وهي كلمة الإخلاص قال أبو معشر يحلف ما ساتثنى: إنّ الحسنة لا إله إلا الله وقيل: كل طاعة. ﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾، قال ابن عباس: يعني له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو: الأمن من العذاب، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان، فإنه ليس شيء
208
خيراً من قوله لا إله إلا الله، وقيل: خير منها يعني رضوان الله، قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢]، وقال محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد: خير منها يعني الأضعاف، أعطاه الله بالواحد عشراً، فصاعداً، وهذا حسن، لأن للأضعاف خصائص وقيل: إن الثواب خير من العمل، لأن الثواب دائم والعمل منقض، ولأن العمل فعل العبد، والثواب فعل الله. ﴿وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ أي: آمنون من كل فزع، فإن قيل: أليس قال - في أول الآية - ﴿فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾ ؟ [النمل: ٨٧] فكيف نفى الفزع ههنا؟ فالجواب: أن الفزع الأول ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة تقع أو هول يفجأ، وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه، وأما الثاني: فهو الخوف من العذاب.
وأما من قرأ «مِنْ فَزَع» بالتنوين، فهو محتمل معنيين: من فزع واحد، وهو خوف العذاب، وإما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدته، فلا ينفك عند أحد. فإن قيل: الحسنة لفظة مفردة معرفة، وقد ثبت أنها لا تفيد العموم، بل يكفي في تحققها حصول فرد من أفرادها، وإذا كان كذلك فلنحملها على أكمل الحسنات شأناً، وأعلاها درجة وهو الإيمان، ولهذا قال ابن عباس: الحسنة كلمة الشهادة، وهذا يوجب القطع بأنه لا يعاقب أهل الإيمان، فالجواب: ذلك الخير هو أن لا يكون عقابه مخلداً. و «أمن» يتعدى بالجار وبنفسه، كقوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله﴾ [الأعراف: ٩٩].
قوله: ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة﴾ يعني الإشراك ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار﴾، يجوز أن يكون ذكر الوجه إيذاناً بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكبين، يقال: كببت الرجل إذا ألقيته على وجهه فأكب وانكب.
قوله: «هَلْ تُجْزُوْنَ» على إضمار قول، وهذا القول حال مما قبله، أي كُبَّتْ وجوههم مقولاً لهم ذلك القول.
209
قوله :﴿ وَمَن جَاءَ بالسيئة ﴾ يعني الإشراك ﴿ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار ﴾، يجوز أن يكون ذكر الوجه١ إيذاناً بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكبين٢، يقال : كببت الرجل إذا ألقيته على وجهه فأكب٣ وانكب٤.
قوله :«هَلْ تُجْزُوْنَ » على إضمار قول، وهذا القول حال مما قبله، أي كُبَّتْ وجوههم مقولاً لهم ذلك القول٥.
١ في النسختين: الوحدة..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٢١..
٣ في ب: فأكبه..
٤ انظر اللسان (كبب)..
٥ انظر التبيان ٢/١٠١٥..
قوله: «إِنَّمَا أُمِرْتُ» أي: قل يا محمد إنما أمرت (أي: أمرت) أن اخص الله وحده بالعبادة، ثم إنه تعالى وصف نفسه بأمرين:
أحدهما: أنه رب هذه البلدة، والمراد مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها احب بلاده ليه وأكرمها، عليه، وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالاً على أنها وطن نبيه ومهبط وحيه.
قوله: «الَّذِي حَرَّمَهَا» هذه قراءة الجمهور صفة للربِّ، وابن مسعود وابن عباس «الَّتِي» صفة للبلدة، والسياق إنما هو للرب لا للبلدة، فلذلك كانت قراءة العامة واضحة. والمعنى: جعلها الله حرماً آمناً لا سفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصطاد صيدها ولا يختلأ خلاؤها، وله كل شيء خلقاً وملكاً، وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين بكون مكة محرمة، وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله فكأنه قال: لما علمت وعلمتهم أنه سبحانه هو المتولي لهذه النعم وجب عليّ أن أخصه بالعبادات، و ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾ لله.
قوله: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن﴾ العامة على إثبات الواو بعد اللام، وفيها تأويلان:
أظهرهما: أنه من التلاوة وهي القراءة، وما بعده يلائمه.
والثاني: من التلو وهو الاتباع كقوله: ﴿واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ﴾ [يونس: ١٠٩]، وقرأ عبد الله: «وَأَنِ اتْلُ» أمراً له عليه السلام، ف «أنْ» يجوز أن تكون المفسرة وأن تكون المصدرية، وصلت بالأمر، وتقدم ما فيه.

فصل


المعنى: وأمرت أن أتلوَ القرآن، ولقد قام بذلك صلوات الله عليه وسلامه أتم قيام «فَمَن اهْتَدَى» فيما تقدم من المسائل، وهي التوحيد والحشر والنبوة، {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي
210
لِنَفْسِهِ}، أي منفعة اهتدائه راجعة إليه، «ومَنْ ضَلَّ» عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى، ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين﴾ المخوفين فليس عليَّ إلا البلاغ، نسختها آية القتال.
قوله: «وَمَنْ ضَلَّ» يجوز أن يكون الجواب قوله: ﴿فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ﴾، ولا بد من حذفِ عائدٍ على اسم الشرط أي: مِنَ المُنْذِرينَ لهُ، لما تقدم في البقرة وأن يكون الجواب محذوفاً أي: فَوَبَالُ ضَلاَلِهِ عليه.
قوله: ﴿وَقُلِ الحمد للَّهِ﴾ على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة، أو على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار، «سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ» القاهرة، «فَتَعْرِفُونَهَا» يعني يوم بدر من القتل والسبي، وضرب الملائكة وجوههم وأديارهم، نظيره قوله تعالى: ﴿سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾ [الأنبياء: ٣٧]. وقال مجاهد: ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ في السَّماواتِ والأَرْضِ وَفِي أَنْفُسِكُم﴾، كما قال: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] «فتعرفونها» أي تعرفون الآيات والدلالات، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قرىء بالتاء والياء، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.
روى أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «من قرأ طس النمل كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان، وكذب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم عليهم السلام، ويخرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلا الله»
211
سورة القصص
سورة القصص مكية إلا قوله عز وجل: ﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ [القصص: ٥٢] إلى قوله: ﴿لا نبتغي الجاهلين﴾ [القصص: ٥٥]، وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة وهي قوله: ﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد﴾ [القصص: ٨٥] وهي ثمان وثمانون آية، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانمائة حرف.
ولقائل أن يقول: لم لا سميت سورة موسى، لاشتمالها على قصة موسى فقط من حين ولد إلى أن أهلك الله فرعون وخسف بقارون، كما سميت سورة نوح، وسورة يوسف لاشتمالها على قصتهما، ولا يقال: سميت (بذلك لذكر) القصص فيها في قوله: ﴿فلما جاءه وقص عليه القصص﴾ [القصص: ٢٥] لأن سورة يوسف فيها ذكر القصص مرتين، الأولى ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص﴾ [يوسف: ٣]، والثانية قوله: " لقد كان في قصصهم " فكانت سورة يوسف أولى بهذا الاسم، وأيضا فكانت سورة هود أولى بهذا الاسم، يعني: بسورة القصص؛ لأنه ذكر فيها قصص (سبعة أنبياء) وهذه ليس فيها إلا قصة واحدة، فكان ينبغي العكس، أن تسمى سورة هود سورة القصص، وهذه سورة موسى.
212
قوله :﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن ﴾ العامة على إثبات الواو بعد اللام، وفيها تأويلان :
أظهرهما : أنه من التلاوة وهي القراءة، وما بعده يلائمه.
والثاني : من التلو وهو الاتباع١ كقوله :﴿ واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ ﴾ [ يونس : ١٠٩ ].
وقرأ عبد الله :«وَأَنِ اتْلُ » أمراً له٢ عليه السلام٣، ف «أنْ » يجوز أن تكون المفسرة وأن تكون المصدرية، وصلت بالأمر٤، وتقدم ما فيه.

فصل :


المعنى : وأمرت أن أتلوَ القرآن، ولقد قام بذلك صلوات الله عليه وسلامه أتم قيام «فَمَن اهْتَدَى » فيما تقدم من المسائل، وهي التوحيد والحشر والنبوة، ﴿ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾، أي منفعة اهتدائه راجعة إليه، «ومَنْ ضَلَّ » عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى، ﴿ فقل إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين ﴾ المخوفين فليس عليَّ إلا البلاغ، نسختها آية القتال٥.
قوله :«وَمَنْ ضَلَّ » يجوز أن يكون الجواب قوله :﴿ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَاْ ﴾٦، ولا بد من حذفِ عائدٍ على اسم الشرط أي : مِنَ المُنْذِرينَ لهُ٧، لما تقدم في البقرة وأن يكون الجواب محذوفاً أي : فَوَبَالُ ضَلاَلِهِ عليه٨.
١ انظر الكشاف ٣/١٥٥، البحر المحيط ٧/١٠٢..
٢ المختصر (١١١)، البحر المحيط ٧/١٠٢، وفي ب: أمر..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤ انظر البحر المحيط ٧/١٠٢..
٥ انظر البغوي ٦/٣١٥-٣١٦..
٦ أنا: سقط من ب..
٧ إذ أداة الشرط اسم وليس ظرفاً فلا بد في جملة الجواب من ذكر يعود عليه ملفوظ أو مقدر. انظر البحر المحيط ٧/١٠٢-١٠٣..
٨ وحذف جواب "من ضل" لدلالة جواب ما قبله عليه. انظر البحر المحيط ٧/١٠٢..
قوله :﴿ وَقُلِ الحمد للَّهِ ﴾ على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة، أو١ على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار، «سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ » القاهرة، «فَتَعْرِفُونَهَا »٢ يعني يوم بدر من القتل والسبي، وضرب الملائكة وجوههم وأديارهم، نظيره قوله تعالى :﴿ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ﴾٣ [ الأنبياء : ٣٧ ]. وقال مجاهد :﴿ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ في السَّماواتِ والأَرْضِ وَفِي أَنْفُسِكُم ﴾، كما قال :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ ﴾٤ [ فصلت : ٥٣ ] «فتعرفونها » أي تعرفون الآيات والدلالات، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ قرئ بالتاء والياء٥، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.
١ في ب: و..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٢٣..
٣ انظر البغوي ٦/٣١٦..
٤ انظر البغوي ٦/٣١٦..
٥ فقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بالتاء، والباقون وأبو بكر عن عاصم بالياء. السبعة (٣٤٠، ٤٨٨)، الكشف ١/٥٣٨، الإتحاف (٣٤٠)..
Icon