ﰡ
مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١)قال ابن عباس (طس) اسم من أسماء الله تعالى أقسم به.
وقال قتادة إنه اسم من أَسْمَاءِ القرآن.
وقوله: (تِلْكَ آيَات الَقرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ).
معنى (تلك) أنهم كانوا وعدوا بالقرآن في كتبِهِمْ، فقيل لهم هَذِه
" تلك الآيات، التي وعِدْتمْ بِها، وقد فسرنا ما في هذا في أولِ سورة
البقرة
و" كتاب " مخفوض على معنى تلك آيات القرآن آيَات كِتَابِ مُبِينٍ.
ويجوز وكتَابٌ مبِينٌ، ولا أعلم أَحَداً قرأ بها، ويكون المعنىَ: تلك
آيات القرآن وذلك كِتابٌ مبينٌ.
* * *
وقوله: (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
يجوز أن يكون (هُدًى) في موضع نَصْبٍ على الحال، المعنى:
تلكَ آيات الكِتابِ هَادِيةً وَمبشِرَةً.
ويجوز أن يكون في موضع رفع من جهتين:
إحداهما على إضمار هو هدى وبشرى، وإن شئت على البدل
من آيات على معنى تِلْكَ هدى وبشرى، وإن شئت على البدل من آيات
على معنى تِلْكَ هدى وَبشْرى.
وفي الرفع وجه ثَالِث حَسَنٌ، على أن
حُلْو حامض أي قد جمع الطعمين. فيكون خير تلك آيات وخبرها
هدى وبشرى، فتجمع أنها آيات وأَنَها هَادِية مُبَشِّرَة.
* * *
وقوله عزَّ جل: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)
أي جعلناجزاءهم على كفرهم أَنْ زَيَّنَا لهم مَا همْ فيه.
(فهم يَعْمَهُونَ).
أي يتحيرون، قال العجاج:
أَعْمَى الهُدَى بالجاهِلينَ العُمَّهِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
أي يلقى إليك القرآنُ وَحْياً مِنْ عِنْد الله أَنْزَلَه بعلمه وَحِكْمَتِهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)
مَوْضِعُ (إذْ) نَصْبٌ.
المعنى اذْكر إذْ قَالَ موسَى لأهْلِه، أي اذكر قِصةَ مُوسَى.
وَمَعْنى آنَسْت ناراً رأيت ناراً.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ).
يقرأ بالتَّنْوين وبالإضافَةِ، فمن نَوَّنَ - جعل " قَبَس " من صِفَةِ
شِهَابٍ، وكل أبْيضَ ذي نورٍ فَهُو شِهَاب.
(وقوله عزَّ وجلَّ: (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).
جاء في التفسير أنهم كانوا في شِتاءٍ، فلذلك احتاجوا إلى
الاصطلاء.
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨)
أي فلمَّا جاء موسَى النارَ (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا).
فموضع " أنْ " إن شئت كان نصباً وإن شئت كان رَفْعاً، فمن حكم
- عليها بالنصب فالمعنى نوديَ مُوسَى بأنَّه بورك مَن في النَّار.
واسم ما لم يُسَمَّ فاعله مضْمَر في (نودِيَ)
ومن حكم عَلَيْها بالرفْعِ، كَانَت اسم ما لم يُسَمَّ فاعله، أي نُودِيَ أَنْ بُورِكَ. وجاء في التفسير أَن (مَنْ في النار) ههنا نور اللَّه - عزَّ وجلَّ -
(ومَن حولها) قيل الملائِكَة وقيل نور اللَّه.
وقوله: - (وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
معناه تنزيه اللَّه تبارك وتعالى عن السوء، كذلك جاء عن النبي - ﷺ - وكذا فسَّره أَهْلُ اللغَة.
* * *
وقوله: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠)
(فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا)
أي تتحرك كما يتحرك الجَانُّ حركةً خفيفةْ، وكانت في صورة
الثعبَانِ، وهو؛ العظيم من الحيات.
(وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ).
جاء في التفسير " لم يُعَقِبْ " لم يلتفت، وجَاءَ أيضاً لم يَرْجِعْ.
وأَهل اللغة يقولون لم يرجع، يقال: قَدْ عقَّبَ فُلان إذا رجع يُقَاتِل بَعْدَ
أَنْ وَلى.
قال لبيد:
حتَّى تَهَجَّرَ في الرَّواحِ وهاجَهُ... طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلومُ
معناه لا يخاف عندي المُرْسَلُونَ.
* * *
وقوله: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
(إِلَّا) استثناء ليس من الأوَّلِ، والمعنى، واللَّه أعلم، لكن مَنْ ظَلَمَ
ثم تابَ من المرسلين وغيرهم، وذَلك قوله: (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (١٢)
المعنىْ أدخل يدك في جيبك وأخرجها تخرج بَيْضَاءَ مِنْ غير سُوء.
جاء في التفسير (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير برص، وجاء أيضاً، أنه كانت عليه
مِدْرَعةُ صُوف بغير كُمَّين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ).
" في " من صلة قوله: وَأَلْقِ عَصَاكَ، وأدخل يَدَك.
فالتأويل: وأظهر هَاتَيْن الآيتين في تِسْع آياتٍ وَتَأويله مِنْ بَيْن آيَاتٍ.
وجاء في التفسير أَنَّ التِّسْعَ كونُ يدِه بيضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وكونُ العَصَا حَيَّة وما أَصَابَ آل فِرْعَوْنَ من الجدْبِ فِي بَوَادِيهِمْ، وَنَقْصُ الثِّمَارِ مِنْ مَزَارِعِهمْ.
وإِرْسالُ الجَرادِ عَلَيْهم، والقُمَّل، والضَفَادِع، والدَّم والطُوفَان.
فهذه تِسْعُ آياتٍ.
ومثل قوله: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ)، وَمَعْنَاه، مِنْ تِسْعٍ قَوْلهم: خُذْ لي
عَشْراً منَ الِإبل فيها فَحْلَانِ، المعنى منها فَحْلانِ.
* * *
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
المعنى: وجحدوا بها ظَلْماً وعُلُوا، أي: تَرَفعاً عَنِ أَنْ يؤمِنُوا بما
جاء به مُوسَى عليه السلام.
فجَحَدَوا بها وَهم يَعلَمُونَ أَنها مِنْ عِنْد اللَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ جل: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)
جاء في التفسير أنه وَرِثَه نُبُوتَهُ وَمُلْكَهُ، وَرُوِيَ أنه كان لداود تسعةَ
عشَرَ وَلَداً فورثه سُلَيْمَانُ من بينهم النبُوةَ والمُلْك.
وقوله: (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ).
وجاء في التفسير أنه البُلْهُ مِنها.
وأحسبه - والله أعلم - مَا أَلْهَمَ اللَّهُ الطيرَ مما يُسَبِّحُهُ به، كما قال: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ).
وقوله: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
المعنى أوتينا من كل شيء يجوز أَنْ يُؤتَاهُ الأنْبِياءُ والنَّاسُ وكذلك
قوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل شيء يؤتاه مِثْلُهَا وعلى هَذا
جرى كلام النَّاسِ، يقول القائل: قد قَصَدَ فلَاناً كل أَحَدٍ في حَاجَتِهِ.
المعنى قصده كثير من الناس.
في اللغة يُوزَعُونَ يُكَفُّونَ، وجاء في التفْسِير يُكَف أَولُهُمْ ويحبَسُ
أَولُهُم عَلَى آخِرِهم.
* * *
(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨)
يروى أن وادي النمل هذا كان بِالشامِ، وأن نَمْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْه
السلاَمُ كان مثال الذُّبَاب.
(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ).
جاء لفظ ادْخُلوا كلفظ ما يَعْقِل، يقال للناس: ادخلوا وكذلك
للملائِكَةِ والجنِّ، وكذلك دَخَلُوا، فإذا ذكرت النمل قلت: قَدْ دَخَلْنَ
وَدَخَلَتْ، وكذلك سائر ما لا يعقل، إلا أَنَّ النمل ههنا أُجْرِيَ مَجْرَى
الآدَمِيينَ حين نطق كما ينطق الآدَمِيونَ.
(لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ).
(لَا تَحْطِمَنَّكُمْ)
ويقرأ (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ)، ولا تُحَطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ، ولا
يُحَطِّمَنَّكُمْ. جائزةٌ (١).
وقوله: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
لأن أكثرَ ضحِكَ الأنبياءِ عليهم السلام التبسم.
وَ (ضَاحِكًا) منصوب، حال مُؤكَدَةٌ، لأن تبسَّمَ بمعنى ضحِكَ.
وقال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ).
معنى (أَوْزِعْنِي) ألْهِمْني، وتأويله في اللغة كُفَّنِي عن الأشياء
قوله تعالى: ﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ الحَطْم: الكَسْر.
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء ﴿لَيَحْطِمَنَّكُمْ﴾ بغير ألف بعد اللام.
وقرأ ابن مسعود: ﴿لا يَحْطِمْكُمْ﴾ بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون.
وقرأ عمرو بن العاص، وأبان ﴿يَحْطِمَنْكُمْ﴾ بفتح الياء وسكون الحاء والنون ساكنة أيضاً والطاء خفيفة.
وقرا أبو المتوكل، وأبو مجلز: ﴿لا يَحِطِّمَنَّكُمْ﴾ بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعاً.
وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: ﴿يُحْطِمَنَّكُمْ﴾ برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون.
والحَطْمُ: الكَسْر، والحُطَام: ما تحطَّم.
قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. اهـ (زاد المسير. ٦/ ١٦١ - ١٦٢)
وقال السَّمين:
قوله: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ هذه النملةُ هنا مؤنثةٌ حقيقيةٌ بدليلِ لَحاقِ علامةِ التأنيثِ فِعْلَها؛ لأنَّ نملةَ يُطْلَقُ على الذَّكَرِ وعلى الأنْثى، فإذا أُريد تمييزُ ذلك قيل: نَمْلَةٌ ذَكَرٌ ونملةٌ أُنْثى نحو: حَمامةٌ ويَمامةٌ. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه. أنه وقف على قتادةَ وهو يقول: سَلُوني. فأمَرَ مَنْ سأله عن نملةِ سليمان: هل كانت ذكراً أو أنثى؟ فلم يُجب. فقيل لأبي حنيفة في ذلك؟ فقال: كانَتْ أنثى. واستدل بلَحاقِ العلامةِ. قال الزمخشري: «وذلك أنَّ النَّمْلَةَ مثلُ الحمامةِ والشاةِ في وقوعِهما على المذكَّرِ والمؤنثِ فيُمَيَّزُ بينهما بعلامةٍ نحو قولهم: حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامَةٌ أُنْثى، وهو وهي» انتهى.
إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ هذا فقال: «ولَحاقُ التاءِ في» قالَتْ «لا يَدُلُّ على أنَّ النملةَ مؤنثٌ، بل يَصِحُّ أن يُقال في المذكر:» قالت نملة «؛ لأنَّ» نملة «وإنْ كانَتْ بالتاء هو ممَّا لا يتميَّزُ فيه المذكرُ من المؤمث، وما كان كذلك كالنَّمْلَةِ والقَمْلة مِمَّا بَيْنَه في الجمعِ وبين واحدِه تاءُ التأنيثِ من الحيوان، فإنَّه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ، ولا يَدُلُّ كونُه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ على أنه ذَكَرٌ أو أنثى؛ لأن التاءَ دخلت فيه للفَرْقِ لا للدلالةِ على التأنيثِ الحقيقيِّ، بل دالةٌ على الواحدِ من هذا الجنس»، قال: «وكان قتادةُ بصيراً بالعربيةِ.
وكونُه أُفْحِمَ يَدُلُّ على معرفتهِ باللسانِ؛ إذْ عَلِم أنَّ النملةَ يُخبر عنها إخبارُ المؤنث، وإنْ كانَتْ تنطلقُ على الأنثى والذكرِ إذْ لا يَتَمَيَّزُ فيه أحدُ هذين. ولحاقُ العلامةِ لا يَدُلُّ، فلا يُعْلَمُ التذكيرُ والتأنيثُ إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى «قال:» وأمَّا استنباطُ تأنيثِه من كتابِ اللهِ ب «قالَتْ» ولو كان ذَكَراً لقيل: قال، فكلامُ النحاةِ على خِلافه، وأنَّه لا يُخْبر عنه ألاَّ إخبارُ المؤنثِ سواءً كان ذكراً أم أنثى «، قال:» وأمَّا تشبيهُ الزمخشري/ النملةَ بالحمامةِ والشاةِ ففيهما قَدْرٌ مشتركٌ يتميَّزُ فيهما المذكرُ من المؤنثِ فيمكن أَنْ يقول: حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامةٌ أنثى فتمييزُه بالصفة، وأمَّا تمييزُه ب هو وهي فإنه لا يجوزُ. لا تقول: هو الحمامةُ ولا هو الشاةُ، وأمَّا النملةُ والقملةُ فلا يَتَمَيَّزُ فيه المذكرُ من المؤنثِ فلا يجوز في الإِخبار إلاَّ التأنيثُ، وحكمُه حكمُ المؤنثِ بالتاءِ من الحيوان نحو: المرأة، أو غيرِ العاقل كالدابَّة، إلاَّ إنْ وَقَعَ فَصْلٌ بين الفعلِ وبين ما أُسْنِدَ إليه من ذلك، فيجوزُ أَنْ تَلحق العلامةُ وأن لا تَلْحَقَها على ما تقرَّر في علم العربية «انتهى.
أمَّا ما ذكره ففيه نظرٌ: من حيث إنَّ التأنيثَ: أمَّا لفظيٌّ أو معنويٌّ، واللفظيُّ لا يُعتبر في لحاقِ العلامةِ ألبتَّةَ، بدليلِ أنه لا يجوز:» قامَتْ ربعةُ «وأنت تعني رجلاً؛ ولذلك لا يجوز: قامت طلحةُ ولا حمزةُ عَلَمَيْ مذكرٍ، فَتَعَيَّنَ أن يكونَ اللَّحاقُ إنما هو للتأنيثِ المعنويِّ، وإنما تعيَّن لفظُ التأنيثِ والتذكيرِ في بابِ العددِ على معنى خاصٍّ أيضاً: وهو أنَّا ننظر إلى ما عامَلَتِ العربُ ذلك اللفظَ به من تذكيرٍ أو تأنيثٍ، من غيرِ نَظَرٍ إلى مدلولهِ فهناك له هذا الاعتبارُ، وتحقيقُه هنا يُخْرِجُنا عن المقصودِ، وإنما نَبَّهْتُك على القَدْرِ المحتاج إليه.
وأمَّا قولُه:» وأمَّا النملةُ والقَمْلةُ فلا يَتَمَيَّزُ «يعني: لا يُتَوَصَّلُ لمعرفةِ الذَّكرِ منهما ولا الأنثى بخلافِ الحمامةِ والشاةِ؛ فإنَّ الاطلاعِ على ذلك ممكنٌ فهو أيضاً ممنوعٌ. قد يمكن الاطلاعُ على ذلك، وإنَّ الاطلاع على ذكوريَّةِ الحمامةِ والشاةِ أسهلُ من الاطلاعِ على ذُكورِيَّةِ النملةِ والقملةِ. ومَنْعُه أيضاً أن يقال: هو الشاةُ، وهو الحمامة، ممنوعٌ.
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان النَّمُل ونَمُلة بضم الميم وفتح النون بزنةِ رَجُل وسَمُرَة.
وسليمان التميمي بضمتين فيهما. وقد تقدَّم أن ذلك لغاتٌ في الواحدِ والجمعِ.
قوله: ﴿لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه نهيٌ. والثاني: أنه جوابٌ للأمرِ، وإذا كان نَهْياً ففيه وجهان، أحدُهما: أنه نهيٌ مستأنِفٌ لا تَعَلُّقَ له بما قبله من حيث الإِعرابُ، وإنما هو نهيٌ للجنودِ في اللفظِ، وفي المعنى للنَّمْلِ أي: لا تكونوا بحيث يَحْطِموْنَكُمْ كقولهِم: «لا أُرَيَنَّك ههنا». والثاني: أنه بدلٌ من جملةِ الأمرِ قبلَه، وهي ادْخلوا. وقد تَعَرَّضَ الزمخشريُّ لذلك فقال: «فإنْ قلتَ: لا يَحْطِمَنَّكم ما هو؟ قتل: يُحتمل أَنْ يكونَ جواباً للأمرِ، وأَنْ يكونَ نهياً بدلاً من الأمرِ. والذي جَوَّزَ أَنْ يكونَ بدلاً أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، فيَحْطِمَنَّكم، على طريقةِ» لا أُرَيَنَّك ههنا «أرادَتْ: لا يَحْطِمنكم جنودُ سليمان، فجاءت بما هو أبلغُ. ونحوُه» عَجِبْتُ من نفسي ومن إشْفاقِها «. قال الشيخ: أمَّا تخريجُه على أنه جوابٌ للأمرِ فلا يكون ذلك إلاَّ على قراءةِ الأعمشِ فإنه مجزومٌ، مع أنه يُحْتمل أن يكونَ اشتئنافَ نهي» قلت: يعني أنَّ الأعمشَ قرأ «لا يَحْطِمْكم» بجزم الميمِ، دونَ نونِ توكيدٍ.
قال: وأمَّا مع وجودِ نونِ التوكيد فلا يجوزُ ذلك، إلاَّ إنْ كان في شعرٍ، وإذا لم يَجُزْ ذلك في جوابِ الشرطِ إلاَّ في الشعر فأحرى أَنْ لا يجوزَ في جوابِ الأمرِ إلاَّ في الشعرِ. وكونُه جوابُ الأمرِ متنازعٌ فيه على ما قُرِّرَ في علمِ النحوِ. ومثالُ مجِيءِ النونِ في جوابِ الشرطِ قولُ الشاعر:
٣٥٤٦ نَبَتُّمْ نباتَ الخَيْزُرانةِ في الثَّرَى... حديثاً متى يأتِك الخيرُ يَنْفَعا
وقول الآخر:
٣٥٤٧ فمهما تَشَأْ منه فَزارةُ تُعطِكُمْ... ومهما تَشَأْ منه فَزارةُ تَمْنعا
قال سيبويه: «وهو قليلٌ في الشعرِ شَبَّهوه بالنهيِ حيث كان مجزوماً غيرَ واجب» قال: «وأما تخريجُه على البدلِ فلا يجوزُ لأنَّ مدلولَ» لا يَحْطِمَنَّكم «مخالِفٌ لمدلولِ» ادْخُلوا «. وأمَّا قولُه لأنَّه بمعنى: لا تكونوا حيث أنتم فَيَحْطِمَنَّكم فتفسيرُ معنى لا إعراب/ والبدلُ من صفةِ الألفاظِ. نعم لو كان اللفظُ القرآنيُّ: لا تكونوا بحيث لا يَحْطِمَنَّكم لتُخُيِّلَ فيه البدلُ؛ لأنَّ الأمرَ بدخولِ المساكنِ نهيٌ عن كونِهم بظاهرِ الأرضِ. وأمَّا قوله:» إنه أراد لا يحْطِمَنَّكم جنودُ سليمان إلى آخرِه «فسوِّغُ زيادةَ الأسماءِ وهي لا تجوزُ، بل الظاهرُ إسنادُ الحكمِ إلى سليمانَ وإلى جنودِه. وهو على حَذْفِ مضافٍ أي: خيلُ سليمانَ وجنودُه، أو نحو ذلك، مما يَصِحُّ تقديره». انتهى.
أمَّا مَنْعُه كونَه جوابَ الأمرِ مِنْ أجلِ النون فقد سبقه إليه أبو البقاء فقال: «وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ جوابَ الشرطِ لا يؤكَّدُ بالنونِ في الاختيار».
وأمَّا مَنْعُهُ البدلَ بما ذَكَر فلا نُسَلِّم تغايُرَ المدلولِ بالنسبةِ لِما يَؤُول إليه المعنى. وأمَّا قوله: «فيُسَوِّغُ زيادةَ الأسماءِ» لم يُسَوِّغ ذلك، وإنما فَسَّر المعنى. وعلى تقدير ذلك فقد قيل به. وجاء الخطابُ في قولها: «ادْخُلوا» كخطابِ العقلاء لَمَّا عُوْمِلوا معاملتَهم.
وقرأ أُبَيٌّ «ادْخُلْنَ»، «مَساكِنَكُنَّ»، «لا يَحْطِمَنْكُنَّ» بالنونِ الخفيفةِ جاءَ به على الأصل. وقرأ شهر بن حوشب «مَسْكَنَكُمْ» بالإِفراد. وقرأ حسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضمِّ الياءِ، وفتحِ الحاءِ، وتشديدِ الطاءِ والنونِ، مضارعَ حَطَّمه بالتشديد. وعن الحسن أيضاً قراءاتان: فتحُ الياءُ وتشديدُ الطاءِ مع سكونِ الحاءِ وكسرِها. والأصل: لا يَحْتَطِمَنَّكم فأَدْغَم. وإسكانُ الحاءِ مُشْكِلٌ تقدَّم نظيرُه في «لا يَهِدِّي» ونحوِه. وقرأ ابن أبي إسحاقَ ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ نونِ التوكيدِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠)
بفتح الياء وإِسْكانِها فِي مَالِيَ، والفتحُ أَجْوَد، وقد فسرنا ذلك.
وقوله (أَمْ كانَ مِنَ الغائبين) معناه بَلْ كان مِنَ الغائبين.
وجاء في التفسير أن سليمان - ﷺ - تفقد الهُدْهُدَ لأنه كان مهندسَ الماء، وكان سُلَيْمَانُ عليه السلام، إذا نَزَلَ بفلاةٍ مِنَ الأرْضِ عرف مقدار مسافةِ الماء من الهُدْهُدِ.
وقيل إنّ الهُدْهدَ يرى الماء في الأرْضِ كما يُرى الماءُ في الزُّجَاجَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١)
رُوِيَ أن عذاب سلَيمَانَ - كان للطير - أن ينتفَ ريش جناح الطائر
ويُلْقَى في الشَمْسِ.
(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ).
أي ليأتِينيَ بحجةٍ في غَيْبَتِه.
* * *
وقوله: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢)
ويقرأ فَمَكُثَ بضم الكاف وفَتْحِها، أي غَيْرَ وَقتٍ بَعِيد.
وقوله: (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ).
لم تُحِطْ بِه، وحذف هذا لأن في الكلام دليلاً عليه، ومعنى أَحَطْتُ
علمتُ شيئاً من جميع جهاته، تقول: أحطتُ بهذا علماً، أي علمتُه
كُلَّه لم يَبْقَ عليَّ منه شيء.
وقوله: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ).
يقرأ بالصرف والتنوين، ويقرأ من سَبَأَ - بفتح سَبأَ وحَذْفِ
التنوين، فأمَّا من لم يَصْرِف فيجعله اسم مَدِية، وأما من صَرَف، فذكر
قوم من النحويين أنه اسمُ رَجُل وَاحِدٍ، وذكر آخرُونَ أن الاسم إذَا لم
يُدْرَ ما هُوَ لم يُصْرَف، وأحد هذين القولين خطأ لأن " الأسماء حقهِا
الصرْفُ، فإذا لم يعلم الاسم للمذكر هو أو للمؤنثِ فحقه الصرْفُ حَتَّى
يُعْلَمَ أنه لا ينصرف، لأن أصل الأسماء الصرف، وكل ما لا ينصرف فهو
يُصْرَفُ في الشعر.
وأما الذين قالوا إن سبأ اسم رجل فغلط أيضاً لأن
سبأ هي مدينة تعرف بمأرب مِنَ اليَمَنِ بينها وبين صَنْعَاءَ ثلاثَةُ أَيام.
قال الشاعر:
مَنْ سَبَأَ الحاضِرِينَ مَأْرِبَ إِذْ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِها العَرِما
فمن لم يصرف لأنه اسم مدينة، ومن صرفه - والصرف فيه أَكثرَ
في القراءة - فلأنه يكون اسماً لِلْبَلَدِ فيكون مُذَكراً سُمِّيَ بِهِ مُذَكَّر فإن
صحت فيه رواية، فإنما هو أن المدينة سميت باسم رَجُل.
معناه وأوتيت من كل شيء تعطاه المُلُوكُ وَيؤتاهُ الناسُ، والعَرْشُ
سَرِير عَظِيم.
* * *
وقوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥)
ويقرأ أَلَا يسجدوا، فمن قرأ بالتشديد، فالمعنى وزَيَّن لهم
الشيطان أَعْمَالَهُمْ فصدهم أَلَّا يسجدوا، أي فَصَدهُمْ لِئَلا يَسْجُدُوا لله.
ومَوْضِع (أَنْ) نَصْبٌ بقوله فَصَدهُمْ، ويجوز أن يكون مَوْضِعهَا جرًّا وَإنْ
حُذِفَتِ اللامُ.
ومن قرأ بالتخفيف فَـ ألَا لِابْتِدَاءِ الكلام والتنبيه، والوقوف
عليه أَلَا يَا - ثم يستأنف فيقول: اسْجُدوا للَّهِ، وَمَنْ قرأ بالتخفيف فهو
موضع سَجْدَةٍ من القرآن ومن قرأ آلَّا يَسجُدُوا - بالتشديد - فليس
بموضع سَجْدة، ومثل قوله أَلاَ ياسْجُدوا بالتخفيف قول ذي الرُّمَّةِ.
أَلا يا أسْلَمِي يا دارَ مَيَّ عَلى البِلى... ولا زالَ مُنْهلاًّ بِجَرْعائكِ القَطْرُ
وقال الأخْطَلُ:
أَلا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ هِنْدَ بَني بَدْرِ... تَحِيَّةَ مَنْ صَلَّى فُؤَادَكِ بالجَمْرِ
وقال العجاج
وإنما أكثرنا الشاهد في هذا الحرف كما فعل من قبلَنَا، وإنما
فعلوا ذلك لقلة اعتياد العَامَّةِ لدخول " يا " إلَّا في النِداء، لا تَكادُ العامةُ
تقُول: يَا قَدْ قَدِم زَيْد، ولا يا اذْهَبْ بِسَلام (١).
* * *
وقوله: (لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
كل ما خبأته فهو خبء، وجاء في التفسير أن الخبء ههنا القَطْرُ
من السمَاءِ، والنبات من الأرْضِ.
ويجوز وهو الوجه أَنْ يكون الخبء كل ما غاب، فيكون المعنى يعلم الغيب في السَّمَاوَات والأرْضِ.
ودليل هذا قوله تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ).
* * *
وفي قوله تعالى: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨)
(أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) - خمسةُ أوْجه:
فاَلْقِهِي إليْهِم بإثبات الياء - وهو أكثر القراءة، ويجوز فألْقِهِ -
إلَيْهِمْ بحذف الياء وإثبات الكسرة، لأن أصله فألقيه إلَيْهِم.
فحذفت الياء للجزم، أعني ياء ألقيه، ويجوز فَاَلْقِهُو إليهم بإثبات الواو.
ويجوز فألقِهُ إليهم بالضمِّ، وحُذِفَتِ الواو، وقد قُرئ فألقِهْ إليهم
بإسكان الهاء، فأمَّا إثبات الياء فهو أَجْوَدُها فألقهي، فإن الياء التي
تسقط للجزم قَدْ سقطت قبل الهاء، لأن الأصل فألقيه إليهم، ومن
حذف الياء وترك الكسرة بعد الهاء فلأنَّهُ كان إذا أثبت الياء في قولك
أنا ألقيه إليهم كان الاختيار حذف الياء التي بعد الهاء.
وقد شرحنا ذلك في قوله (يُؤدِّه إِليك) شرحاً كافياً.
ومن قرأ (فألقِهو إليهم) ردَّه إلى أصله، والأصل إثبات الواو مع هاء
الإِضمار. تقول ألقيتهو إليك.
ومعنى قولنا إِثبات الواو والياء أعني في اللفظ ووصل الكلام، فإذا وقفت وقفت بهاء، وإذا كتبت كَتَبْتَ
قوله: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ﴾: قرأ الكسائيُّ بتخفيف «ألا»، والباقون بتشديدها. فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ ف «ألا» فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ، و «يا» بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و «اسْجُدوا» فعلُ أمرٍ. وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ «يا اسْجُدوا»، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ «يا» وهمزةَ الوصلِ من «اسْجُدوا» خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً، ووَصَلُوا الياءَ بسين «اسْجُدوا»، فصارَتْ صورتُه «يَسْجُدوا» كما ترى، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً.
واختلف النحويون في «يا» هذه: هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ، والمنادى محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه: ﴿ياليتني﴾ [الآية: ٧٣] في سورة النساء. والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ. ألا ترى أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادى كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ. ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو «ألا». وقد اعْتُذِرَ عن ذلك: بأنه جُمِع بينهما تأكيداً. وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله:
٣٥٥٩ فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به.........................
فغيرُ العامِلَيْن أولى. وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى، كقوله:
٣٥٦٠ فلا واللهِ لا يلفى لِما بي... ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ
فهذا أَوْلَى. وقد كَثُرَ مباشرةُ «يا» لفعلِ الأمرِ وقبلَها «ألا» التي للاستفتاح كقوله:
٣٥٦١ ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي... ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي
وقوله:
٣٥٦٢ ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى... ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ
وقوله:
٣٥٦٣ ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ... وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ
وقوله:
٣٦٤ ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ... وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ
وقوله:
٣٥٦٥ ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ... لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري
وقوله:
٣٥٦٦ ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ...............................
وقوله:
٣٥٦٧ فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ... فقلتُ: سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي
وقد جاءَ ذلك، وإنْ لم يكنْ قبلَها «ألا» كقوله:
٣٥٦٨ يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي... بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ
فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم.
وقد سُمع ذلك في النثر، سُمِع بعضُهم يقول: ألا يا ارحموني، ألا يا تَصَدَّقوا علينا. وأمَّا قولُ الأخرِ:
٣٥٦٩ يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ... والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ
فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء، والمنادى محذوف، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ.
واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على «يَهْتَدون» تامٌّ.
وله أن يَقِفَ على «ألا يا» معاً ويَبْتَدىءَ «اسْجُدوا» بهمزة مضمومةٍ، وله أَنْ يقفَ على «ألا» وحدَها، وعلى «يا» وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان. وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما، إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً. فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ، والخطبُ فيها سَهْلٌ.
وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ. وفيه أوجهٌ كثيرةٌ، أحدها: أنَّ «ألاَّ» أصلُها: أَنْ لا، ف «أنْ» ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ، و «لا» بعدها حَرفُ نفيٍ. و «أنْ» وما بعدها في موضع مفعولِ «يَهْتَدون» على إسقاطِ الخافضِ، أي: إلى أن/ لا يَسْجُدوا. و «لا» مزيدةٌ كزيادتِها في ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ [الحديد: ٢٩]. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ «أعمالَهم» وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه: وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله. الثالث: أنه بدلٌ من «السبيل» على زيادةِ «لا» أيضاً. والتقديرُ: فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالى. الرابع: أنَّ ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ﴾ مفعول له. وفي متعلَّقه وجهان، أحدهما: أنه زَيَّن أي: زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ ب «صَدَّهم» أي: صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا. وفي «لا» حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه ليسَتْ مزيدةً، بل نافيةٌ على معناها من النفي. والثاني: أنها مزيدةٌ والمعنى: وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم. وعدمُ الزيادةِ أظهرُ.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وهذا المبتدأُ: إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على «أعمالَهم» التقديرُ: هي أن لا يَسْجدوا، فتكون «لا» على بابِها من النفي، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على «السبيل». التقديرُ: هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون «لا» مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنى.
وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على «يَهْتدون» لأنَّ ما بعدَه: إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ «زَيَّن» و «صَدَّ»، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ «أعمالَهم» أو من «السبيل» على ما قُرِّر وحُرِّرَ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه.
وقد كُتِبَتْ «ألاَّ» موصولةً غيرَ مفصولةٍ، فلم تُكْتَبْ «أنْ» منفصِلةً مِنْ «لا» فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على «أنْ» وحدَها لاتِّصالِها ب «لا» في الكتابةِ، بل يُوْقَفُ لهم على «ألاَّ» بجملتِها، كذا قال القُراء.
والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً ب «لا» غيرُ مانعٍ من ذلك. ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها ب «لا»، فيكتبونها: أَنْلا، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها، قالوا ذلك تسامحاً.
وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً: وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال: «فإنْ قلتَ: أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت: هي واجبةٌ فيهما، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ، والأخرى ذَمٌّ للتارك». فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه.
قلت: وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ، وظاهرُه الوجوبُ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه، على أنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر: وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه. فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال: يَقْتضي الوجوبَ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد وهو الظاهرُ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يخفى.
وقرأ الأعمشُ «هَلاَّ»، و «هَلا» بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ «لا» وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد الله. وقرأ عبدُ الله «تَسْجُدون» بتاء الخطابِ ونونِ الرفع. وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ. فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو: «ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث» وفي حرف عبدِ الله أيضاً: «ألا هَلْ تَسْجدُون» بالخطاب. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وإثبات الكسرة، ومَنْ أَسْكَنَ الهاءَ فغالط، لأن لهاء ليست بمجزومة
ولها وَجْه من القِياس، وهو أنه يُجْري الهاء في الوصل على حالها
في الوقف، وأكثر ما يقع هذا في الشعر أن تحذف هذه الهاء وتبقي
كسرة (١).
قال الشاعر:
فإنْ يَك غثاً أوسميناً فَإنَني... سأجعل عينيه لِنَفْسِهْ مَقْنَعاً
وقوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ)
فيه قولان:
قال بعضهم: كل هناه التقديم والتأخير، معناه اذهب
بِكِتَابي هذا فألقه إليهم فانظر مَاذَا يَرْجِعونَ ثم تول عنهم، وقال هذا
لأنَّ رجوعَه من عندهم والتولي عنهم بعد أن ينظر ما الجواب.
وهذا حسن، والتقديم والتأخير كثير في الكلام، وقالوا معنى (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ)
تول عنهم مسْتَتِراً من حَيْث لا يَرَوْنَكَ، فانظر ماذا يردونَ مِنَ الجواب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩)
فمضى الهدهد فألقى الكتاب إليهم فسمِعَها تَقول: (يَا أيها الملأ)
فحذف. هذا لأن في الكلام دليلًا عليه.
ومعنى (كِتَابٌ كَرِيمٌ) حَسَن ما فيه، ثم بَيَّنَتْ ما فيه فَقَالَتْ:
(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
قوله: ﴿فَأَلْقِهْ﴾ قرأ أبو عمرو وحمزةُ وأبو بكر بإسكان الهاء، وقالون بكسرها فقط من غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ عنه. وهشام عنه وجهان بالقصرِ والصلةِ. والباقون بالصلة بلا خلاف. وقد تقدَّم توجيهُ ذلك كلَّه في آل عمران والنساء وغيرِهما عند ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٧٥] و ﴿نُوَلِّهِ مَا تولى﴾ [النساء: ١١٥]. وقرأ مسلم بن جندب بضمِّ الهاءِ موصولةً بواوِ: «فَأَلْقِهُوْ إليهم» وقد تقدَّم أنَّ الضمَّ الأصلُ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
جارية عَلَى الِإيجاز والاختصار، وقد رُوِيَ أن الكتاب كان من عبد اللَّه
سُلَيمانَ إلى بلْقيس بنت سراحيل، وإنما كتب الناس من عبد اللَّه
احتذاء بسُلَيْمَانَ.
ومعنى (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) ألا تَترفَعُوا عليَّ وإنْ كُنْتُم مُلُوكاً.
* * *
وقوله: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢)
أَي بَيِّنُوا لي ما أَعمَل، والملأ وجُوهُ القَوْمِ، الذين هم مُلَاء بِمَا
يحتاج إلَيْهِ.
* * *
(قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣)
ويروى أنه كان مَعَها ألف قِيل والقَيْلُ الملِك، ومع كل قيل أَلْفُ
رَجُل، وقيل مائة ألف رجل، وأكثر الرواية مائة ألف رجل.
وقوله: (حَتى تَشْهَدُونِ).
بكسر النُونِ، ولا يجوز فتح النون لأن أصله حتى (تشهدونَنِي)
فَحُذِفَتْ النون الأولى للنَّصْبِ وبقيت النونُ والياء للاسم، وحُذِفَت الياءُ
لأنَّ الكسرةَ تدل عليها، ولأنه آخر آية، وَمَنْ فتح النون فَلَاحِنٌ، لأنَّ
النونَ إذا فتحت فهي نون الرفع، وليس هذا من التي ترفع فيه حَتى.
ويجوز أنه مِنْ سُلَيْمان وأنه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، بفتح الألف
فيكون موضع أن الرفع على معنى: أُلْقِي إليَّ أنه من سُلَيمَانَ.
ويجوز أن تكون (أن) في مَوْضع نَصْبِ على معنى كتاب كريم لأنه من سُلَيْمان
ولأنهُ بسم اللَّه الرحمن الرحيم.
فأمَّا (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) فيجوز أن يكون أنْ فِي مَوْضِع رَفْعٍ وفي موضع نَصْب، فالنصب على معنى كِتَاب
وفسر سيبويه والخليل " أنَّ " أَنْ، في هذا الموضع في تأويل أي، على معنى أي لاَ تعلوا عَلَيَّ، ومثله من كتاب الله عزَّ وجلَّ:
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا)
وتأويل أي ههنا تأويل القول والتفسير، كما تقول فعل فلان
كذا وكذا، أي إِنَي جوادٌ كاَنَكَ قُلْتَ: يقول إني جوادٌ (١).
* * *
وقوله: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)
مَعْنَاه إذا دخلوها عَنْوة عن قتال وغلبة.
(وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).
هو من قول اللَّه عزَّ وجلَّ - واللَّه أعلم - لأنها هي قد ذكرت أنَّهم
يُفْسِدُونَ فليس في تكرير هذا مِنْهَا فائدة.
* * *
وقوله: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)
جاء في التفسير أنها أهْدَت سليمان لَبِنَةً ذَهَبٍ في حَرِيرٍ، وقيل
لَبِنُ ذَهِبٍ في حرير.
فأمر سليمانُ بِلِبنَةِ ذهب فطرحت تحت الدَّوابِّ، حيث تبول عليها الدَّوابُّ وتَرُوثُ، فَصَغرَ في أَعْينهم ما جاءوا به إلى سليمان، وقد ذُكِر أن الهَدِيَّة قَدْ كَانَتْ غيرَ هَذَا، إلا أَن قولَ سُلَيْمَانَ: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) مما يدل على أن الهديَّة كانت مالاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).
قوله: ﴿أَلاَّ تَعْلُواْ﴾: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «أنْ» مفسِّرةٌ، كما تقدَّمَ في أحد الأوجهِ في «أنْ» قبلَها في قراءةِ عكرمة، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. وهو وجهٌ حسنٌ لِما في ذلك من المشاكلةِ: وهو عطفُ الأمرِ عليه وهو قولُه «وَأْتُوْني». والثاني: أنها مصدرية في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ «كتاب» كأنه قيل: أُلْقِيَ إليَّ: أَنْ لا تَعْلُوا عليَّ. والثالث: أنها في موضعِ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو أَنْ لا تَعْلُوا. والرابع: أنَّها على إسقاطِ الخافضِ أي: بأَنْ لا تَعْلُوا، فيجيْءُ في موضِعها القولان المشهوران. والظاهر أنَّ «لا» في/ هذه الأوجهِ الثلاثة للنهيِ. وقد تقدَّم أنَّ «أَنْ» المصدريةَ تُوْصَلُ بالمتصرفِ مطلقاً. وقال الشيخ: «وأَنْ في قولِه:» أن لا تَعْلُوا عليَّ «في موضع رفعٍ على البدلِ من» كتاب «. وقيل: في موضعِ نصبٍ على [معنى]: بأن لا تَعْلُوا. وعلى هذين التقديرين تكون» أنْ «ناصبةً للفعل». قلت: وظاهرُ هذا أنها نافيةٌ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ تكونَ ناهيةً بعد «أَنْ» الناصبةِ للمضارع. ويؤيِّد هذا ما حكاه عن الزمخشريِّ فإنه قال: «وقال الزمخشريُّ: وأنْ في» أَنْ لا تَعْلُوا «مفسرةٌ» قال: «فعلى هذه تكون» لا «في» لا تَعْلُوا «للنهي، وهو حسنٌ لمشاكلة عطفِ الأمرِ عليه». فقوله: «فعلى هذا» إلى آخره صريحٌ أنها على غيرِ هذا يعني الوجهين المتقدمين ليست للنهي فيهما. ثم القولُ بأنَّها للنفيِ لا يَظْهَرُ؛ إذ يصيرُ المعنى على الإِخبارِ منه عليه السلامُ بأنهم لا يَعْلُون عليه، وليس هذا مقصوداً، وإنما المقصودُ أَنْ يَنْهاهُمْ عن ذلك.
وقرأ ابن عباس والعقيلي «تَغْلُوا» بالغين مُعْجمةً من الغُلُوِّ وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
لأنهُمَا كالشَيءِ الواحِدِ، وليُفْصَلَ بينَ الخبر والاستفهام؛ تقولُ: قَدْ
رَغِبْتُ فيما عندك، فَتَثْبُتُ الألف، وتقول: فيم نظرت يا هذا فتحذف
الألف.
* * *
(فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦)
معناه فلما جاء رَسُولُها سُلَيْمَانَ، ويجوز أن يكون فلَما جَاءَ
بِرُّهَا سُلَيْمَانَ إلا أَنَّ قوله: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (٣٧)
مخاطبة للرسُول.
وقوله تعالى: (لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا).
معناه لا يَقْدُرُونَ على مُقَاوَمَةِ جُنُودِهَا.
* * *
وقوله: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
(٣٨)
أي بسريرها.
(قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).
أحب سليمانُ - ﷺ - أن يأخُذَ السَّرِيرَ مِنْ حيثُ يَجُوز أخْذُهُ، لأنهم لَوْ أَتوا مُسْلِمِين لَمْ يَجُزْ أَخْذُ مَا في أيديهم، وجائز أن يكون أرادَ سُلَيْمَانُ إِظهار آيةٍ مُعْجِزَةٍ في تصيير العَرْشِ إليْهِ في تلك الساعَةِ لأنها مِنَ
الآيَاتِ المعجزات.
* * *
(قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩)
والعفريت النافِذُ في الأمْرِ المبالغُ فيه مع خُبثٍ وَدَهَاءٍ.
يقال: رَجُل عِفْرٌ وَعِفْرِيت، وعِفْرِيَة نِفْرية، وَنُفارِيَّة، في معنى وَاحدٌ.
(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ).
تقومَ من مَجْلِسِك لحكْمِ.
* * *
وقوله: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)
ويقال إنَّه آصف بن بَرَحْيَا.
(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).
أي بمقدار ما يبلغ البالغ إلى نهاية نظرك ثم يَعودَ إلَيْكَ.
وقيلَ في مِقْدارِ ما تفتح عَيْنَكَ ثُمَّ تطرِف، وهذا أشبه بارتِدَادِ الطرف، ومثله
من الكلام: فعل ذلك في لحظة عَيْنٍ، أي فِي مِقْدَارِ ما نظر نظرة
واحِدةً.
ويقال في التفسير إنهُ دَعَا باسْمِ الله الأعْظم، الذي إذا دُعِيَ به
أَجَابَ، وقيل إنه: يا ذا الجلال والِإكرام، وقيل إِنَه يَا إِلهَنَا وإله
الخلق جَميعاً إلهاً وَاحِداً لا إله إلَّا أَنْتَ، فذكر هذَا الاسْمَ ثم قال ائت
بِعَرْشِها، فَلَمَّا استَتَمَّ ذَلِكَ ظهر السرير بين يَدَيْ سُليْمَانَ.
* * *
وقوله: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١)
الجزم في (نَنْظُرْ) الوجه وعليْهِ القِرَاءَةُ، ويجوز (نَنْظُرُ) بالرفْعِ فمن
جزم فلجواب الأمْرِ، ومن رفع فعلى معنى فسَننظُر.
وقوله (أَتَهْتَدِي) معناه أَتَهْتدي لِمَعْرِفته أَمْ لَا.
* * *
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)
(قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ).
ولم تقلْ إنه عَرْشُها، ولَا قَالَتْ: ليس هو بِعرْشِها، شَبَّهَتْه بِهِ لأنهُ
مُنَكَّرٌ، يُرْوَى أنَه جُعِلَ أَسْفَلهُ أَعْلَاه.
أي صدَّها عن الإيمانِ العادَةُ التِي كَانَت عَلَيْها، لأنها نَشَأتْ
ولم تعرف إلا قوماً يعبدون الشَمْسَ، فَصَدَّتها العَادَةُ، وَبَيَّنَ عادَتَها
بقوله: (إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ).
ويجوز أنها كَانَتْ من قوم كافرين فيكون المعنى صَدَّها كَونها من
قوم كافِرِينَ ويكون مبيناً عن قوله عَز وَجَل: (مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
* * *
وقوله: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٤)
والصَّرْحُ: في اللغَةِ القَصْرُ، والصَّحْنُ، يقال هذه سَاحَةُ الدار
وصحنة الدار وباحة الدار وقاعَةُ الدار وَقَارِعَة الدارِ.
هذا كله في معنى الصَّحْنِ.
وقوله: (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً).
أي حَسِبَتْهُ ماءً، وكان قد عُمِلَ لِسُلَيْمَانَ صَحْن من قَوارِير
وَتَحْتَه الماء والسَّمَكُ، فظنتْ أنَّه ماء فكشفت عن سَاقَيْهَا.
وذاك أن الجنَّ عابوا عِنْدَه ساقيها ورِجْلَيها وذكروا أن رجْليْها كحافِر الحِمَارِ
فتبين أمرَ رِجْلَيها (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥)
فريقٍ مِنْهُم الحَق مَعِي، وطلبت الفرقَةُ الكَافِرَة على تصديق صالح
العذابَ، فقال: (قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦)
أي لم قُلْتُم إن كان ما أتَيتَ به حَقا فأتنا بِالعَذَابِ.
(لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أي هَلَّا تَستغفرون اللَّه.
* * *
قوله: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧)
الأصل تطيرْنا فأدغمت التاء في الطاء، واجتلبت الألف لسكون
الطاء، فإذا ابتدأت قُلْتَ اطيرْنا بِكَ، وإذا وصلت لَمْ تُذْكِرْ الألِفُ.
وتسقط لأنها ألف وَصْل.
(قَال طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ).
أي ما أصابكم من خَيْرٍ أوشَرٍّ فمن اللَّه.
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ).
أي: تختبرون، ويجوز تُفْتَنُون من الفِتْنَةِ، أي تطيركم فِتْنَةٌ.
* * *
(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨)
هؤلاء عتاة قَوْمِ صَالح.
* * *
(قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٤٩)
وتجوز لَتُبَيِّتُنَّهُ، ويجوز لَيُبَيِّتُنَّهُ وَأَهْلَهُ بالياء، فيها ثَلَاثَة أَوْجُهٍ (١).
فمن قرأ بالنون قرأ " ثم لَنَقُولَنَّ " لِوَلِيِّهِ، ممن قرأ (لَتُبَيِّتُنَّهُ) بالتاء قرأ " ثُمَّ
لَتَقولُنَ " ومن قرأ " لَيُبَيِّتُنَّهُ " بالياء قرأ " ثم لَيَقُولُنَّ " لِوَليِّه.
قوله: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ قرأ الأخَوان بتاءِ الخطابِ المضمومةِ وضمِّ التاءِ، والباقون بنونِ المتكلِّمِ وفتحِ التاءِ.» ثم لَنَقولَنَّ «قرأه الأخَوان بتاءِ الخطابِ المفتوحةِ وضمِّ اللامِ. والباقون بنونِ المتكلمِ وفتحِ اللامِ.
ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخَوَيْن، إلاَّ أنه بياءٍ الغَيْبة في الفعلين. وحميد ابن قيس كهذه القراءةِ في الأولِ وكقراءةِ غير الأخوين من السبعةِ في الثاني.
فأمَّا قراءةُ الأخَوَيْن: فإنْ جَعَلْنا «تقاسَمُوا» فعلَ أمرٍ فالخطابُ واضحٌ رجوعاً بآخرِ الكلامِ إلى أولِه. وإنْ جَعَلْناه ماضياً فالخطابُ على حكايةِ خطابِ بعضِهم لبعضٍ بذلك. وأمَّا قراءةُ بقيةِ السبعةِ: فإنْ جَعَلْناه ماضياً أو أمراً، فالأمرُ فيها واضحٌ وهو حكايةُ/ أخبارِهم عن أنفسِهم. وأمَّا قراءةُ الغَيْبَةِ فيهما فظاهرةٌ على أن يكونَ «تَقاسَمُوا» ماضياً رُجُوعاً بآخرِ الكلامِ على أولِه في الغَيْبَةِ. وإنْ جَعَلْناه أمراً كان «لَنُبيِّتَنَّه» جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل: كيف تقاسَمُوا؟ فقيل: لنبيِّتَنه. وأمَّا غيبةُ الأولِ والتكلمُ في الثاني فتعليلُه مأخوذٌ مِمَّا تقدَم في تعليلِ القراءتين.
قال الزمخشري: «وقُرِىءَ» لَنُبيِّتَنَّه «بالياء والتاء والنون. فتقاسَموا مع التاءِ والنونِ يَصِحُّ فيه الوجهان» يعني يَصِحُّ في «تقاسَمُوا» أن يكونَ أمراً، وأَنْ يكونَ خبراً قال: «ومع الياء لا يَصِحُّ إلاَّ أَنْ يكونَ خبراً». قلت: وليس كذلك لِما تقدَّم: مِنْ أنَّه يكونُ أمراً، وتكون الغيْبَةُ فيما بعده جواباً لسؤالٍ مقدرٍ. وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال: «تقاسَمُوا» فيه وجهان، أحدهما: هو أمرٌ أي: أمَرَ بعضُهم بذلك بعضاً. فعلى هذا يجوزُ في «لَنُبَيِّتَنَّه» النونُ تقديرُه: قولوا: لَنُبَيِّتَنَّهُ، والتاءُ على خطابِ الآمرِ المأمورَ. ولا يجوزُ الياء. والثاني: هو فعل ماضٍ. وعلى هذا يجوز الأوجهُ الثلاثةُ يعني بالأوجه: النونَ والتاءَ والياءَ. قال: «وهو على هذا تفسيرٌ» أي: تقاسَمُوا على كونِه ماضياً: مُفَسِّرٌ لنفسِ «قالوا». وقد سبقَهما إلى ذلك مكيٌّ. وقد تقدَّم توجيهُ ما منعوه ولله الحمدُ والمِنَّة. وتنزيلُ هذه الأوجه بعضِها على بعضٍ مما يَصْعُبُ استخراجُه مِنْ كلام القوم، وإنما رَتَّبْتُه من أقوالٍ شَتَّى. وتقدَّم الكلامُ في ﴿مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ في النمل. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
بالتاء فكأنَّهم قالوا احلفوا لتبيتنه، فكأنه أخرج نفسه في اللفظ.
والنون أَجْوَدُ في القراءة، ويجوز أن يكون قد أدْخل نفسه في التاء لأنه
إذَا قَالَ تَقَاسَمُوا، فقد قال تحالفوا ولا يخرج نفسه من التحالف، ومن
قرأ قالوا تقاسموا باللَّه ليبيتُنَّه، فالمعنى قالوا ليُبَيتُنه متقاسمين، فكان
هؤلاء النفر تحالَفُوا أَن يُبَيتُوا صالحا وَيَقْتُلوه وأهله في بَيَاتِهِمْ، ثم
ينكرون عند أولياء صالح أنهم شَهِدُوا مَهْلِكَهُ وَمَهلِكَ أهلِه، ويحلفون
أنهم لصادقون. فهذا مَكر عزموا عَلَيه.
* * *
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠)
فمضوا لِبُغْيِتهِمْ فأرسل اللَّهُ عليهم صَخْرةً فدَمَغَتْهُمْ، وأرسل
على باقي قومهم مَا قَتَلَهُمْ بِهِ.
* * *
وقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
(٥١)
يقرأ (إنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) - بكسر إن وبفتحها - (١) فمن قرأ بِالكسر رفع
العَاقِبة لا غير، المعنى فانظر أي شيء كان عاقبة مَكْرِهم، ثم فَسَّرَها
فقال: إنَّا دَمَّرْنَاهُمْ، فدل على أن العاقبة الدمَارُ.
ومن قرأ (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) - بالفتح - رفع العاقبة وإِنْ شاء نَصَبَها، والرفعُ أَجْوَدُ على معنى فانظر كيف كان عاقبةُ أَمْرِهِمْ، وأضمر العَاقِبَةَ.
أَنا دَمَرْنَاهُمْ. فيكون (أنَّا) في موضع رَفْعٍ عَلَى هذا التفسير، ويجوز أن تكون أنا في موضع نَصْبٍ، على معنى فانظر كيف كان عاقبة مكرهم لأنَّا دَمَّرناهم، ويجوز أن
قوله: ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾: قرأ الكوفيون بالفتح. والباقون بالكسر. فالفتح من أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ أي: لأَنَّا دَمَّرْناهم. و «كان» تامةٌ و «عاقبةٌ» فاعلٌ بها، و «كيفِ» حالٌ. الثاني: أَنْ يكونَ بدلاً من «عاقبة» أي: كيف كان تدميرُنا إيَّاهم بمعنى: كيف حَدَثَ. الثالث: أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هي أنَّا دَمَّرْناهم أي: العاقبةُ تدميرُنا إياهم. ويجوزُ مع هذه الأوجهِ الثلاثةِ أَنْ تكونَ «كان» ناقصةً، وتُجْعَلَ «كيف» خبرَها، فتصيرَ الأوجهُ ستةً: ثلاثةً مع تمام «كان» وثلاثةً مع نُقْصانها. ويُزاد مع الناقصة وجهٌ أخر: وهو أَنْ تُجْعَلَ «عاقبة» اسمَها و «أنَّا دَمْرناهم» خبرَها و «كيف» حالٌ. فهذه سبعةُ أوجهٍ.
والثامن: أَنْ تكونَ «كان» «زائدةً، و» عاقبة «مبتدأٌ، وخبرُه» كيف «و» أنَّا دَمَّرْناهم «بدلٌ مِنْ» عاقبة «أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وفيه تَعَسُّفٌ. التاسع: أنها على حَذْفِ الجارِّ أيضاً، إلاَّ أنه الباءُ أي: بأنَّا دمَّرْناهم، ذكره أبو البقاء. وليس بالقويِّ. العاشر: أنها بدل مِنْ» كيف «وهذا وَهْمٌ من قائِله لأنَّ المبدل من اسمِ الاستفهام يَلْزَمُ معه إعادةُ حرفِ الاستفهامِ نحو:» كم مالكُ أعشرون أم ثلاثون «؟ وقال مكي:» ويجوز في الكلام نصبُ «عاقبة»، ويُجْعَلُ «أنَّا دمَّرْناهم» اسمَ كان «انتهى. بل كان هذا هو الأرجحَ، كما كان النصبُ في قولِه» فما كان جوابَ قومه إلاَّ أَنْ قالوا «ونحوِه أرجحَ لِما تقدَّم مِنْ شَبَهِهِ بالمضمرِ لتأويلِه بالمصدرِ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا.
وقرأ أُبَيٌّ» أَنْ دَمَّرْناهم «وهي أَنْ المصدريةُ التي يجوزُ أَنْ تَنْصِبَ المضارعَ، والكلامُ فيها كالكلامِ على» أنَّا دَمَّرْناهم «. وأمَّا قراءةُ الباقين فعلى الاستئنافِ، وهو تفسيرٌ للعاقبةِ. و» كان «يجوز فيها التمامُ والنقصانُ والزيادةُ. وكيف وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على إسقاطِ الخافض، لأنه مُعَلِّق للنظرِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
الدَّمَارَ، ويجوز أن يكون اسم كان (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) وَ (عَاقبة أَمْرِهم) منصوبة.
المعنى فانظر كيف كان الدمَارُ عاقبةَ مَكْرِهِمْ، وكيف في موضع نصب
في جميع هذه الأقوال - ونصبها - إذا جُعِلَت العاقِبَة اسم كان وكيف
الخبرُ لأنها في موضع خبر كان، فإذا جُعِلَتْ اسم كان وخبرُها مَا
بَعْدها فهي منصوبة على الظرفِ، وعمل فيها جملة الكلام كما
تقول: كيف كان زيد، وكيف كان زيد قائماً.
* * *
وقوله: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(٥٢)
أكثر القراء نَصَبَ (خَاوِيَةً) على الحال، المعنى فانظر إلى بُيُوتِهِمْ
خَاوِيةً بِمَا ظَلمُوا.
ورفعها من أربعة أوجُهٍ قد بيَّنَاهَا فيمن قرأ (وهذا بَعْلِي شيخ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ
(٥٤)
نَصْبَ لوط من جهتين:
على معنى وأَرْسَلْنَا لوطاً
وعلى معنى واذكر لُوطاً إذ قال لِقَوْمِهِ، لأنه قد جرت أقاصيص رُسُل، فدخل معنى إضمار اذكر هَهَنَا.
(أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ).
أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة، فهو أعظم لذنوبِكم.
* * *
(أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)
بهمزتين مُحَققتَيْن، والأجودُ أينكمْ بجعل الهمزة الثانية بينَ بيْنَ تكون
بين الياء والهمزة.
* * *
(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦)
(جَوابَ) خَبرُ كانَ وَ " أَنْ قالوا " الاسم، ويجوز (فما كان جَوَابُ
قومِهِ إلا أَنْ قالوا.
وقوله: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
قال قوم لوط هذا لِلُوطٍ ولمن آمن مَعَهُ، على جهة الهزُؤ بِهِمْ
لأنهم تطهَّروا عن أدْبَار الرجَال وأَدْبَارِ النِسَاءِ.
ويروى عن ابن عمر أنه سُئِلَ: هل يجوز هذا في النساء؟
قيل له ما تَقُول في التحميض فقال: أو يفعل ذلك المِسْلِمُونَ؟
فهذا عظيم جدًّا. وهو الذي سَماهُ اللَّهُ فاحِشَةً.
* * *
وقوله عزَّ - وجل:. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩)
وتشركون بالياء والتاء، ويقرأ آللَّهُ، واللَّهُ، بالمد وترك المَذد.
ويجوز - واللَّه أعلم - اللَّه خير أمَّا يشركون.
قال أبو إسحاق: إذَا ضُمَّت التاءُ واليَاءُ فمعناه أَنَّهُمْ جَعَلُوا لله
شُرَكَاء وإذا فُتِحَتْ التَاء والراءُ، فمعناه أنكم تجعلون أنفسكم لِله
شُرَكَاءَ، يقال: شَرِكْتُ الرجُلَ أشْرَكَه، إذا صِرْتُ شَرِيكَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥)
بالرفع القراءة، ويجوز النصب، ولا أعلم أحَداً قَرَأَ به، فلا
تقرأن به.
فمن رَفَعَ في قوله: (إِلَّا اللَّهُ) فَعَلَى البَدلِ، المعنى لا يعلم
أَحَدٌ الغَيْبَ إلا اللَّه، أي لا يعكم الغيب إلا اللَّه، ومن نصب فعلى
معنى لا يعلم أحد الغيب إلا اللَّه، على معنى اسْتَثْنِي اللَّه عزَّ وجلَّ.
فإنه يعلم الغيبَ.
وقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).
و (أَيَّانَ تبْعَثونَ) جميعا، أيْ لاَ يَعْلَمُون متى البَعْثُ (١).
* * *
وقوله تعالى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (٦٦)
فيها أوجه: قرأ أبوعَمْرٍو: بل أُدْرِك عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
وقرأ أكثر الناس (بَلِ ادَّارَكَ) بتشديد الذالِ.
وروي عن ابن عباس بَلَى أَدْرَكَ عِلْمُهم في الآخرة.
ويجوز بلى ادَّارَكَ علمهم في الآخرة فمن قرأ بل ادَّارَكَ علمهم في الآخرة وهو الجَيدُ، فعلى معنى بَلْ تَدَارَكَ علمُهُمْ في الآخرة، على معنى بل يتكامل عِلْمُهُم يَوْمَ القِيَامَةِ، لأنَّهُمْ مبْعُوثونَ، وكل ما وعدوا به حَق، ومن قرأ بل أَدْرَكَ عِلْمُهُم فعلى معنى التقرير والاستخبار، كأنَّه قيل: لم يُدْرِك عِلْمُهم في الآخرةِ أي ليس يَقفون في الدنيا على حقيقتها، ثم بين ذلك في قوله:
(بل هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا)
قوله: ﴿إِلاَّ الله﴾: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعلُ «يَعْلَمُ» و «مَنْ» مفعولُه. و «الغيبَ» بدلٌ مِنْ «مَنْ السماواتِ» أي: لا يعلمُ غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلاَّ اللهُ أي: الأشياءَ الغائبةَ التي تَحْدُثُ في العالَمِ. وهو وجهٌ غريبٌ ذكره الشيخ. الثاني: أنه مستثنى متصلٌ مِنْ «مَنْ»، ولكن لا بُدَّ من الجمعِ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ على هذا الوجهِ بمعنى: أنَّ عِلْمَه في السماوات والأرضِ، فيَنْدَرِجُ في ﴿مَن فِي السماوات والأرض﴾ بهذا الاعتبارِ وهو مجازٌ وغيرُه مِنْ مخلوقاتِه في السماواتِ والأرضِ حقيقةٌ، فبذلِك الاندراجِ المُؤَوَّل اسْتُثْنِي مِنْ «مَنْ» وكان الرفعُ على البدلِ أَوْلَى لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ.
وقد رَدَّ الزمخشريُّ هذا: بأنه جَمْعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ، وأوجبَ أن يكونَ منقطعاً فقال: «فإنْ قلتَ: لِمَ رُفِعَ اسمُ اللهِ، واللهُ يتعالى أن يكونَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرض؟ قلت: جاء على لغةِ بني تميمٍ حيث يقولون:» ما في الدار أحدٌ إلاَّ حمارٌ «يريدون: ما فيها إلاَّ حمارٌ، كأنَّ» أحداً «لم يُذْكَرْ. ومنه قولُه:
٣٥٧٧ عَشِيَّةَ ما تُغْني الرِّماحُ مكانَها... ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ
وقولُهم:» ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ، وما أعانني إخوانكم إلاَّ إخوانُه «. فإنت قلت: ما الداعي إلى اختيارِ المذهبِ التميمي على الحجازي؟ قلت: دَعَتْ إليه نُكْتَةٌ سِرِّيَّةُ حيث أُخْرِج المستثنى مُخْرَجَ قولِه:
٣٥٧٨ إلاَّ اليَعافِيرُ....................... بعد قوله:
٣٥٧٩.................. لَيْسَ بها أنيسُ... ليَؤُوْلَ المعنى إلى قولك: إنْ كان الله مِمَّنْ في السماوات والأرضَ فهم يعلمون الغيبَ. يعني: أنَّ عِلْمَهم الغيبَ في استحالتِه كاستحالةِ أن يكونَ اللهُ منهم. كما أنَّ معنى ما في البيت: إنْ كانت اليعافيرُ أَنيساً ففيها أنيسٌ، بَتَّاً للقولِ بخُلُوِّها من الأنيسِ. فإن قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن اللهَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرضِ، كما يقول المتكلمون:» إنَّ الله في كلِّ مكان «على معنى: أنَّ عِلْمَه في الأماكن كلها، فكأنَّ ذاتَه فيها حتى لا يُحْمَل على مذهبِ بني تميمٍ» قلتُ: يأبى ذلك أنَّ كونَه في السمواتِ والأرضِ مجازٌ، وكونَهم فيهنَّ حقيقةٌ، وإرادةُ المتكلمِ بعبارةٍ واحدةٍ حقيقةً ومجازاً غيرُ صحيحٍ. على أنَّ قولَك «مَنْ في السماوات والأرض: وجَمْعَك بينه وبينهم في إطلاقِ اسمٍ واحدٍ، فيه إيهامُ تَسْويةٍ، والإِيهاماتُ مُزَالةٌ عنه وعن صفاتِه. ألا ترى كيف» قال عليه السلام لِمَنْ قال: «ومَنْ يَعْصِهما فقد غوى» «بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت» «قلت: فقد رَجَّحَ الانقطاعَ واعتذر عن ارتكابِ مذهبِ التميمين بما ذَكَر. وأكثرُ العلماءِ أنه لا يُجْمَعُ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدة. وقد قال به الشافعيُّ».
قوله: ﴿أَيَّانَ﴾ هي هنا، بمعنى «متى» / وهي منصوبةٌ ب «يُبْعَثون» فتعلُّقُه ب «يَشْعُرون» فهي مع ما بعدها في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الباءِ أي: ما يَشْعرون بكذا. وقرأ السُّلميٌّ «إيَّان» بكسرِ الهمزةِ، وهي لغةُ قومِه بني سُلَيْم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
الجَيِّدَةُ (ادَّارَكَ) على معنى تدارك بإدغام التاء في الدال، فتصير دالاً
سَاكِنَة فلا يُبتدأ بِها، فيَأتي بألف الوصل لتصل إلى التكلُّمُ بها.
وإذَا وقفت على (بل) وابتدأت قلت (ادَّارَكَ)، فإذا وَصَلْتَ كسرت اللام في بل، لسكونها وسكون الدال.
* * *
وقوله: (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ).
الحدائق واحدتها حديقة، والحديقة البُسْتَانُ، وكذلك الحائط
وقيل القطعةُ من النخل، وقوله (ذَاتَ بَهْجَةٍ) معناه ذات حُسْنٍ
ويجوز في غير القراءة ذوات بهجة، لأنها جماعة، كما تقول:
نِسْوَتُك ذوات حُسْنٍ، وإنما جاز ذات بهجة لأن المؤنث يخبر عنه فِي
الجَمْع بلفظ الواحِدَةِ، إذا أردتَ جمَاعَةً، كأنك قلت جماعة ذاتَ
بَهْجَةٍ.
* * *
وقوله: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠).
معناه يكفُرُون، أي يَعْدِلُونَ عَنِ القَصْدِ وطريق الحق.
* * *
وقوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)
يُقْرأ في ضَيْقٍ وَضِيق.
* * *
وقوله: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢)
قيل في التفْسِير عجل لَكُمْ ومعناه في اللغةِ (رَدِفَكُمْ) مِثْلُ رَكِبَكُمْ
وجاء بَعْدَكمْ.
* * *
وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
عن ضَلَالَتِهِمْ.
فأمَّا الوَجْهَانِ الأولان فجيِّدانِ في القراءة، وقد قرئ بهما جميعاً.
والوجه الثالث يجوز في العَرَبية، فَإنْ ثبتت به روايةٌ وإلَّا لم يُقْرأْ به، ولا أعلم أَحداً قرأ به (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا).
معناه ما تُسْمِع إلا من يؤمن، وتأويل ما تُسْمِعُ، أي مَا يَسْمَعُ مِنْكَ
فَيَعِي ويَعْمَلُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا، فأمَّا من سمع ولم يقبل فبمنزلة
الأصَمِّ.
كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ).
قال الشاعِرُ:
أَصَمَّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (٨٢)
أي إذَا وَجَبَ.
(أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ).
وَتَكْلِمُهُمْ، ويروى أن أول أشراط الساعة خروجُ الدابةِ وطلوعُ
الشمسِ مِنْ مَغْرِبها، وأَكْثَر ما جاء في التفسير أنها تخرج بِتُهَامَةَ.
تَخْرجُ مِنْ بَيْنِ الصفَا والمروَةِ.
وقد جاء في التفسير أنها تخرج ثلات مرات في ثلاثة أَمْكِنَةٍ.
وجاء في التفسير تنكت في وَجْهِ الكَافِر نكتة سوداء وفي وجه المؤمن نكتة بيضاء، فتفشو نكتة الكافر حتى يسودَّ منها وجهه أجمع وتفشو نكتة المؤمن حتى يَبْيَضَّ منها وَجْهَهُ فتجتمع الجماعة على المائِدَةِ، فَيُعْرَفُ المؤمِنُ مِن الكافِرِ.
فمن قرأ (تُكَلِّمُهُمْ) فهو من الكلام، ومن قرأ (تَكْلُمُهُمْ) فهو من
الكلْمَ، وهو الأثر والجرح (٢).
قوله: ﴿بِهَادِي العمي﴾: العامَّةُ على «هادِيْ» مضافاً للعُمْي. وحمزة «يَهْدِي» فعلاً مضارعاً، و «العمُيَ» نصبٌ على المفعول به، وكذلك التي في الروم ويحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهاد» منوَّناً «العُمْيَ» منصوب به، وهو الأصلُ.
واتفق القُرَّاء على أَنْ يقفوا على «هاد» في هذه السورةِ بالياءِ؛ لأنَّها رُسِمَتْ في المصحفِ ثابتةً. واختلفوا في الروم. فوقف الأخوان عليها بالياءِ أيضاً كهذه. أمَّا حمزةُ فلأنه يقرَؤُها «يَهْدي» فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة. قال الكسائيُّ: «مَنْ قرأ» يَهْدِي «لَزِمَه أَنْ يقفَ بالياء، وإنما لزمه ذلك؛ لأن الفعلَ لا يَدْخُلُه تنوينٌ في الوصلِ تُحذف له الياء فيكونُ في الوقفِ كذلك، كما يَدْخُلُ تنوينٌ على» هادٍ «ونحوهِ فتَذْهبُ الياءُ في الوصل، فيجري الوقفُ على ذلك كَمَنْ وقف بغير ياءٍ». انتهى. ويَلْزَمُ على ذلك أَنْ يُوْقَفَ على ﴿يَقْضِي بالحق﴾ [غافر: ٢٠] ﴿وَيَدْعُ الإنسان﴾ [الإسراء: ١١] بإثباتِ الياءِ والواوِ. ولكنْ يَلْزَمُ حمزةَ مخالفَةُ الرسمِ دونَ القياسِ. وأمَّا الكسائيُّ فإنه يَقْرَأُ «بهادي» اسمَ فاعلٍ كالجماعةِ، فإثباتُه للياءِ بالحَمْلِ على «هادِي» في هذه السورةِ، وفيه مخالفَةٌ الرسمِ السلفيِّ.
قوله: ﴿عَن ضَلالَتِهِمْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «يَهْدي». وعُدِّي ب «عن» لتضمُّنِه معنى يَصْرِفهم. والثاني: أنه متعلقٌ بالعُمْي لأنَّك تقول: عَمِيَ عن كذا، ذكره أبو البقاء. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ العامَّةُ على التشديد. وفيه وجهان، الأظهر: أنه من الكلامِ والحديث، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيٍّ «تُنَبِّئُهم» وقراءةُ يحيى بن سَلام «تُحَدِّثُهم» وهما تفسيران لها. والثاني: «تَجْرَحُهم» ويَدُلُّ عليه قراءةُ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زُرْعَةَ والجحدري «تَكْلُمُهم» بفتحِ التاءِ وسكونِ الكافِ وضمِّ اللامِ من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ. وقد قُرِىء «تَجْرَحُهم» وفي التفسير أنها تَسِمُ الكافَر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)
القراءةُ النصْبُ، ويجوز الرفع: صُنْعُ، فمن نصب فعلى معنى
المَصْدر، لأن قوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ). دَلِيل على الصنْعَةِ، كأنَّه قِيلَ صنَعَ اللَّه ذلك صنعاً.
ومن قال (صُنْعُ الله) بالرفع، فالمعنى ذَلِك صُنْعُ اللَّهِ (١).
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ).
وَأَتَاهُ داخرين، مَنْ وَحَّدَ فللفظ كُل، ومن جمع - فلمعناها (٢).
* * *
وقوله: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١)
(الذي) في موضع نصب من صفة (رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ)
وقد قُرِئَتْ: التي حَرَّمَهَا؛ وقد قرئ بها لكنها قليلة، فالتي في مَوْضِع خَفْض
مِنْ نعت البلدة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
أي سيُريكم اللَّه آياته في جميع ما خَلَق، وفي أنفُسُكم.
قوله: ﴿صُنْعَ الله﴾ مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ السابقةِ. عاملُه مضمرٌ. أي: صَنَعَ اللهُ ذلك صُنْعاً، ثم أُضِيف بعد حَذْفِ عامِله. وجعلَه الزمخشريُّ مؤكِّداً للعاملِ في ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾ [النمل: ٨٧] وقَدَّره «ويومَ يُنْفَخُ» وكان كيتَ وكيتَ أثابَ اللهُ المحسنين، وعاقَبَ المسيئين، في كلامٍ طويلٍ حَوْماً على مذهبه. وقيل: منصوبٌ على الإِغراء أي: انظروا صُنْعَ اللهِ وعليكم به.
والإِتْقانُ: الإِتيانُ بالشيءِ على أكملِ حالاتِه. وهو مِنْ قولِهم «تَقَّن أَرْضَه» إذا ساقَ إليها الماءَ الخاثِرَ بالطينِ لتَصْلُحَ لِلزراعة. وأرضٌ تَقْنَةٌ. والتَّقْنُ: فِعْلُ ذلك بها، والتَّقْنُ أيضاً: ما رُمِيَ به في الغدير من ذلك أو الأرض.
قوله: ﴿بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو وهشام بالغَيْبة جرْياً على قولِه: «وكلٌّ أَتَوْهُ». والباقون بالخطاب جَرْياً على قولِه: «وتَرى» لأنَّ المرادَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّتُه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَتَوْهُ﴾ قرأ حمزة وحفص «أَتَوْه» فعلاً ماضياً. ومفعولُه الهاءُ. والباقون «آتُوْه» اسمَ فاعلٍ مضافاً للهاءِ. وهذا حَمْلٌ على معنى «كُل» وهي مضافةٌ تقديراً أي: وكلَّهم. وقرأ قتادةُ «أتاه» مُسْنداً لضميرِ «كُل» على اللفظِ، ثم حُمِلَ على معناها فقرأ «داخِرين». والحسن والأعرج «دَخِرين» بغير ألفٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).