ﰡ
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سبّح فعل ماض مبني على الفتح ولله متعلقان بسبّح وقيل اللام زائدة في المفعول، وقد تقدم القول في هذا الفعل وأنه قد يتعدى بنفسه تارة وباللام أخرى، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضيا كهذه الفاتحة وفي بعضها مضارعا وفي بعضها أمرا للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبّحة في كل الأوقات، وما فاعل سبّح وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول والأرض عطف على السموات والواو حالية أو مستأنفة وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان وعبّر بما دون من تغليبا للأكثر (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) له خبر مقدّم وملك السموات مبتدأ مؤخر والأرض عطف على السموات وجملة يحيي حال من الضمير في له أو مستأنفة وجملة له ملك السموات مستأنفة لا محل لها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وقدير خبره والجار والمجرور متعلقان بقدير (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو مبتدأ والأول خبره وما بعده عطف عليه وهو مبتدأ وعليم خبره وبكل شيء متعلقان بعليم (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة خلق السموات والأرض صلة الموصول لا محل لها وفي ستة أيام متعلقان بخلق وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي واستوى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله وعلى العرش متعلقان باستوى (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) جملة يعلم حالية أو مستأنفة ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وفي الأرض متعلقان بيلج وما يخرج منها عطف على ما يلج في الأرض ومنها متعلقان بيخرج (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) وما عطف على ما الأولى وما يعرج فيها
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٧ الى ١٠]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)
(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في مخاطبة كفّار قريش وأمرهم بالإيمان بعد أن ذكر أنواعا من الدلائل على التوحيد. وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالله متعلقان بآمنوا ورسوله عطف عليه وأنفقوا عطف على آمنوا ومما متعلقان بأنفقوا وجملة جعلكم صلة الموصول والكاف مفعول أول ومستخلفين مفعول ثان لجعل وفيه متعلقان بمستخلفين أي من مال مقتنى وعتاد مجتنى (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) الفاء استئنافية والذين مبتدأ وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ومنكم حال وأنفقوا عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة ولهم خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وكبير نعت وجملة لهم أجر كبير خبر الذين (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) الواو استئنافية وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تؤمنون في محل نصب على الحال وبالله متعلقان بتؤمنون والمعنى أي شيء استقر لكم غير مؤمنين والواو حالية والرسول مبتدأ وجملة يدعوكم خبر والجملة في محل نصب على الحال من الواو في تؤمنون (لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اللام للتعليل وتؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيدعوكم وبربكم متعلقان بتؤمنوا والواو حالية وقد حرف تحقيق وأخذ ميثاقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضا، وفي قراءة أخذ بالبناء
البلاغة:
١- الحذف: الحذف في هذه الآيات كثير ونلخصة فيما يلي:
- حذف مفعول أنفقوا للمبالغة في الحثّ على الإنفاق وعدم البخل بالمال.
- حذف مفعول «تنفقوا في سبيل الله» لما تقدم ولتشديد التوبيخ أي: وأي شيء لكم في أن لا تنفقوا ما هو قربة إلى الله تعالى.
- حذف ثاني الاستواءين لأن الاستواء لا يتم إلا بعد شيئين فلا بدّ من حذف مضاف تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة وقوة الإسلام ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوح الدلالة عليه، وعبارة أبي حيان بهذا الصدد: «والظاهر أن «من» فاعل «لا يستوي» وحذف مقابله وهو «ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل» لوضوح المعنى أولئك أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء المسلمين على أم القرى وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله صلى الله عليه وسلم: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل
٢- في قوله «في سبيل الله» استعارة تصريحية أي طاعته، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١١ الى ١٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
(انْظُرُونا) أمر من النظر، والنظر هو تقليب العين إلى الجهة التي فيها المرئي والمراد رؤيته، ومما يدل على ذلك قوله:
فيا ميّ هل يجزى بكائي بمثله... مرارا وأنفاسي إليك الزوافر
وإني متى أشرف على الجانب الذي... به أنت من بين الجوانب ناظر
فلو كان النظر الرؤية لم يطلب عليه الجزاء لأن المحبّ لا يستثيب من النظر إلى محبوبه شيئا بل يريد ذلك ويتمناه، ويدلّ على ذلك قول الآخر:
ونظرة ذي شجن وامق... إذا ما الركائب جاوزن ميلا
وأما قوله سبحانه: ولا ينظر إليهم يوم القيامة فالمعنى أنه سبحانه لا ينيلهم رحمته، وقد تقول نظر إليّ فلان إذا كان ينيلك شيئا، ويقول القائل: انظر إليّ نظر الله إليك يريد أنلني خيرا أنالك الله، ونظرت فعل يستعمل وما تصرّف منه على ضروب:
١- أحدها أن تريد به: نظرت إلى الشيء، فتحذف الجار وتصل الفعل، ومن ذلك ما أنشده أبو الحسن:
ظاهرات الجمال والحسن ينظر... ن كما ينظر الأراك الظباء
«إن النظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا في الشعر وإنما يتعدى بإلى».
٢- والثاني: أن تريد به تأملت وتدبرت وهو فعل غير متعدّ فمن ذلك قولهم اذهب فانظر زيدا أبو من هو، فهذا يراد به التأمّل، ومن ذلك قوله: انظر كيف ضربوا لك الأمثال، وانظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض وقد يتعدى هذا بالجار كقوله تعالى: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت» فهذا حضّ على التأمل، وقد يتعدى هذا بفي نحو قوله:
أفلم ينظروا في ملكوت السموات والأرض، فأما قول امرئ القيس:
فلما بدا حوران والآل دونه | نظرت فلم تنظر بعينك منظرا |
٣- والثالث: أن تريد به انتظرته من ذلك قوله: غير ناظرين إناه، ومثله قول الفرزدق:
نظرت كما انتظرت الله حتى | كفاك الماحلين لك المحالا |
٤- والرابع أن يكون أنظرت بمعنى انتظرت تطلب بقولك انظرني
أبا هند فلا تعجل علينا | وأنظرنا نخبرك اليقينا |
(يُقْرِضُ) القرض ما تعطيه غيرك ليقضيكه فهو قطعه عن مالكه بإذنه على ضمان ردّ مثله، والعرب تقول: لي عندك قرض صدق وقرض سوء إذا فعل به خيرا أو شرّا، قال الشاعر:
ويقضي سلامان بن مفرج قرضها | بما قدّمت أيديهم وأزلت |
الإعراب:
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) فيه أوجه أحدها أن تكون من استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء وذا اسم إشارة خبره والذي صفة له أو بدل منه، ويصحّ أن يكون من ذا استفهاما برأسه مرفوع المحل بالابتداء والذي خبره، ويصحّ أن تكون ذا مبتدأ والذي يقرض الله صفة ومن خبر المبتدأ قدم عليه لما فيه من معنى الاستفهام. ويقرض فعل مضارع وفاعله مستتر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول والله مفعوله وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت والفاء سببية ويضاعفه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء على جواب الاستفهام وقرئ بالرفع على الاستئناف أو العطف، ولأبي حيان هنا كلام لطيف نورده فيما يلي: «وقرأ عاصم فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام وفي ذلك قلق قال أبو علي الفارسي لأن السؤال لم يقع على القرض وإنما وقع السؤال على فاعل القرض وإنما تنصب
أن يكون ظرفا لارجعوا قال: لقلة فائدته لأن الرجوع لا يكون إلا إلى وراء وليس هذا بسديد، والفاء عاطفة والتمسوا فعل أمر معطوف على ارجعوا ونورا مفعول به (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) الفاء عاطفة وضرب فعل ماض مبني للمجهول وبسور في محل رفع نائب فاعل وقيل الظرف هو نائب الفاعل وقيل الباء زائدة في نائب الفاعل أي ضرب بينهم سور والجملة معطوفة على قوله: قيل ارجعوا فإن المؤمنين أو الملائكة لما منعوهم من اللحاق بهم للاقتباس من نورهم، بقي
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه | مولى المخافة خلفها وأمامها |
أراد بالمخافة الكلاب وبمولاها صاحبها أي غدت وهي لا تعرف أن الكلاب والكلاب خلفها أم أمامها فهي تظن كل جهة من الجهتين موضعا للكلاب، والضمير الذي هو اسم إن عائد إلى كلا وهو مفرد اللفظ وإن كان يتضمن معنى التثنية ويجوز حمل الكلام بعده على لفظه مرة، وعلى معناه أخرى والحمل على اللفظ أكثر وتمثيلهما كلا أخويك سبّني وكلا أخويك سبّاني وقال الشاعر:
كلاهما حين جدّ الجري بينهما | قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي |
البلاغة:
١- في قوله «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا» استعارة تصريحية تبعية، فقد شبّه الإنفاق في سبيل الله بإقراضه ثم حذف المشبّه وأبقى المشبه به، والجامع بينهما إعطاء شيء بعوض ومعنى كونه حسنا أي خالصا من شوائب الرياء. أما القرض الذي يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله فهو سنّة مؤكدة وقد يجب للمضطر ويحرم على من يستعين به على معصية.
٢- وفي قوله «يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم» استعارة تصريحية أصلية» فالنور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه فحذف المشبّه وأبقى المشبّه به.
٣- وفي قوله «خالدين فيها» بعد قوله «بشراكم اليوم» التفات من الخطاب إلى الغيبة، وقد تقدم القول في الالتفات كثيرا.
٤- وفي قوله «فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب» فنّان رفيعان أولهما الاستعارة التمثيلية، شبّه بقاء المنافقين في حندس نفاقهم وظلامه بمن ضرب بينهم وبين النور الهادي سور يحجب كل نور، والفن الثاني المقابلة فقد طابق بين باطنه وظاهره وبين الرحمة والعذاب.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)اللغة:
(يَأْنِ) مضارع أنى يأني من باب رمى فهو معتل حذفت منه الياء التي هي لامه للجازم كما يأتي في الإعراب ومعنى أنى إذا جاء إناه أي وقته، وأنشد ابن السكّيت:
ألما يأن لي أن تجلّى عمايتي | وأقصر عن ليلى بلى قد أنى لنا |
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) الهمزة للاستفهام ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأن فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وللذين متعلقان بمحذوف تقديره أعني، فهي للتبيين، وهذا ما اختاره أبو البقاء ولا داعي له، فيتعلق الجار والمجرور بيأن، وجملة آمنوا صلة الموصول لا محل لها وأن وما في حيزها فاعل يأن أي ألم يقرب وقت خشوع قلوبهم ويجيء وقته، ومنه قول الشاعر:
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا | وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا |
عاطفة وفي الآخرة خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد نعت لعذاب ومغفرة عطف على عذاب ومن الله صفة لمغفرة ورضوان عطف على مغفرة، وسيأتي المزيد من أسرار هذا التركيب في باب البلاغة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) الواو عاطفة وما نافية والحياة مبتدأ والدنيا نعت للحياة وإلا أداة حصر والغرور مضاف إليه والإضافة بيانية والغرور بالضم ما اغترّ به الشخص من متاع الدنيا.
البلاغة:
١- الاستعارة التمثيلية: في قوله «اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها» استعارة تمثيلية، شبّه تليين القلوب بالذكر والتلاوة بعد قساوتها
٢- وفي قوله «كمثل غيث أعجب الكفّار نباته» الآية استعارة تمثيلية أيضا، فهو تمثيل للحياة الدنيا في سرعة انقضائها وقلّة جدواها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث أو الكافرون- على خلاف بين المفسرين- لأن هؤلاء وأولئك أشدّ إعجابا بزينة الحياة الدنيا.
٣- الطباق: وطابق في قوله «وفي الآخرة عذاب» بين العذاب، والمغفرة في قوله «ومغفرة من الله ورضوان» ولكنه طباق بين واحد وشيئين فهو من باب لن يغلب عسر يسرين وسيأتي تفصيله في سورة الانشراح.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أسباب وذرائع المفاخرة الحقيقية التي يصحّ التفاخر بها، وسابقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى مغفرة متعلقان بسابقوا ومن ربكم نعت لمغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) وجنة عطف على مغفرة وعرضها مبتدأ وكعرض السموات خبر والجملة نعت لجنة والأرض عطف على السموات وأعدّت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل المستتر تقديره هي والجملة نعت ثان لجنة ويجوز أن تكون مستأنفة وللذين متعلقان بأعدّت وجملة آمنوا صلة للموصول لا محل لها وبالله متعلقان بآمنوا ورسله عطف على بالله (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ذلك مبتدأ وفضل الله خبر وجملة يؤتيه في محل نصب حال ويؤتيه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ومن اسم موصول في محل نصب مفعول ثان وجملة يشاء صلة من والله مبتدأ وذو الفضل العظيم خبر (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) ما نافية وأصاب فعل ماض، ومن مصيبة: من حرف جر
الذين بدل من قوله كل مختال فخور كأنه قال: لا يحبّ الذين يبخلون ويجوز أن يكون محله رفعا على الابتداء ويكون خبره محذوفا والتقدير فإنهم يستحقون العذاب ويصحّ أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين أو منصوبا على الذم بفعل محذوف تقديره أذمّ وهذه الأوجه كلها متساوية في الترجيح وجملة يبخلون صلة الموصول لا محل لها ويأمرون عطف على يبخلون والناس مفعول به وبالبخل متعلقان بيأمرون. واستبعد بعضهم البدلية والوصفية وجعله كاملا مستأنفا لا تعلق له بما قبله (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويتولّ فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والفاء رابطة لجواب الشرط لوقوعه جملة اسمية وإن واسمها وهو ضمير فصل وفي قراءة بسقوطه مما يرجح كونه فعلا لا مبتدأ والغني خبر إن والحميد خبر ثان
والجملة في محل جزم جواب الشرط (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ورسلنا مفعول به وبالبيّنات حال والجملة استئنافية (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وأنزلنا عطف على أرسلنا ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي وأنزلنا الكتاب حال كونه آئلا وصائرا لأن يكون معهم إذا وصل إليهم في الأرض، والكتاب مفعول به والميزان عطف على الكتاب واللام للتعليل ويقوم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبالقسط أي بالعدل متعلقان بمحذوف حال أي قاسطين عادلين، ولك أن تعلقه بيقوم واللام ومجرورها متعلقان بأرسلنا وأنزلنا لأنها علّة الإرسال والإنزال (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) الواو عاطفة وأنزلنا فعل وفاعل والحديد مفعول به وفيه خبر مقدّم وبأس مبتدأ مؤخر والجملة حالية من الحديد وشديد صفة أي فيه قوة ومنعة، والكلام في ذلك طويل، ومنافع للناس عطف على بأس شديد، وقلّما تخلو صناعة من الحديد (وَلِيَعْلَمَ
الواو عاطفة وليعلم معطوف على محذوف دلّت عليه جملة فيه بأس شديد فهو علّة للتعليل لا علّة للإرسال والإنزال وبذلك تعلم فساد قول بعض المعربين كالجلال وغيره أنه معطوف على ليقوم، والله فاعل ومن مفعول به وجملة ينصره صلة من ورسله عطف على الهاء أي وينصر رسله أيضا وبالغيب حال من هاء ينصره أي غائبا عنهم في الدنيا وإن واسمها وخبراها.
الفوائد:
العطف على الظاهر والضمير: يعطف على الظاهر والضمير المنفصل مرفوعا كان أو منصوبا، والضمير المتصل المنصوب بلا شرط كقام زيد وعمرو وأنا وأنت قائمان وإياك والأسد، والعطف على الضمير المتصل المنصوب نحو جمعناكم والأولين فالأولين عطف على الكاف، ولا يحسن العطف على الضمير المرفوع المتصل بارزا كان أو مستترا إلا بعد توكيده بضمير منفصل نحو «لقد كنتم أنتم وآباؤكم» ونحو «اسكن أنت وزوجك الجنة» وقد أشار ابن مالك في الخلاصة إلى ذلك بقوله:
وإن على ضمير رفع متصل | عطفت فافصل بالضمير المنفصل |
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
(وَقَفَّيْنا) التقفية جعل الشيء في إثر الشيء على الاستمرار فيه ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على إثره مستمرة في غيره على منهاجه، وفي المختار: «قفا أثره اتبعه وبابه عدا وقفى على أثره بفلان أي اتبعه إياه ومنه قوله تعالى: ثم قفينا على آثارهم برسلنا ومنه الكلام المقفى».
(وَرَهْبانِيَّةً) الرهبانية: المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس منسوبة إلى الرهبان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي وقرئت بالضم كأنها نسبت إلى الرهبان جمع راهب كراكب وركبان، وعبارة القاموس: «والراهب واحد رهبان النصارى ومصدره الرهبة والرهبانية أو الرهبان بالضم قد يكون واحد وجمعه رهابين
«من اعتزل الناس إلى دير طلبا للعبادة» وسيأتي المزيد من معناها في باب الإعراب.
(كِفْلَيْنِ) نصيبين ضخمين والكفل الحظ ومنه الكفل الذي يتكفل به الراكب وهو كساء أو نحوه يحويه على الإبل إذا أراد أن يرقد فيحفظه من السقوط ففيه حظ من التحرّز من الوقوع.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) الواو حرف عطف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وتكرير القسم لإظهار مزيد العناية بالأمر، وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به وإبراهيم عطف على نوحا، وجعلنا عطف على أرسلنا وفي ذريتهما في موضع المفعول الثاني والنبوّة مفعول جعلنا الأول والكتاب عطف على النبوّة وأراد بالكتاب الجنس أي الكتب الأربعة (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدّم ومهتد مبتدأ مؤخر وكثير مبتدأ ومنهم نعت لكثير وفاسقون خبر كثير (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وقفينا فعل وفاعل وعلى آثارهم متعلقان بقفينا والباء حرف جر زائد ورسلنا مجرور لفظا منصوب محلا (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وقفينا عطف على قفينا الأولى وبعيسى الباء حرف جر زائد وعيسى مجرور لفظا مفعول به محلا وبن بدل ومريم مضاف إليه، وآتيناه الواو عاطفة وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به أول والإنجيل مفعول به ثان (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وجعلنا فعل وفاعل وفي قلوب في موضع المفعول الثاني والذين مضاف إليه وجملة اتبعوه من الفعل والفاعل والمفعول به صلة ورأفة مفعول به أول ورحمة مفعول به ثان، ورهبانية فيها وجهان: ١- أولهما أنها منسوقة على رأفة ورحمة وجملة ابتدعوها نعت لها وإنما خصّت بذكر الابتداع لأن الرحمة والرأفة في القلب أمر غريزي لا تكسّب للإنسان فيه بخلاف الرهبانية فإنها من أفعال البدن وللإنسان فيها تكسّب. ٢- الثاني أنها منصوبة بفعل مقدّر يفسّره الظاهر فتكون المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا الإعراب نحا الزمخشري وأبو علي الفارسي والمعتزلة، وذلك أنهم يقولون ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرأفة والرحمة لما كانتا من فعل الله نسب خلقهما أو تصييرهما إليه والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد نسب خلقها إليه وإلى القارئ نص عبارة أبي حيان: «ورهبانية معطوف على ما قبله فهي داخلة في الجمل وجملة ابتدعوها جملة في موضع الصفة لرهبانية وخصّت الرهبانية بالابتداع لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها بخلاف الرهبانية فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ففيها موضع للتكسّب، قال قتادة: الرحمة من الله والرهبانية هم ابتدعوها» والرهبانية رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاذ الصوامع، وجعل أبو علي الفارسي ورهبانية مقتطعة من العطف على ما قبلها من رأفة ورحمة فانتصب عنده ورهبانية على إضمار فعل يفسّره ما بعده فهو من باب الاشتغال أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها واتبعه الزمخشري فقال:
«وانتصابها بفعل مضمر يفسّره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية ابتدعوها يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها» وهذا إعراب المعتزلة وكان أبو علي معتزليا وهم يقولون ما كان مخلوقا لله لا يكون مخلوقا للعبد، والرأفة والرحمة من خلق الله والرهبانية من ابتداع الإنسان فهي مخلوقة
وفاعل ومفعول به وآمنوا فعل أمر معطوف على اتقوا وبرسوله متعلقان بآمنوا ويؤتكم فعل
الفوائد:
قد يعترض الكلام نفي فيلزم إظهار «أن» بعد لام التعليل التي لحقتها «لا» ولو أضمرت «أن» هنا لم يجز لأن إضمارها يؤدي إلى مباشرة حرف الجر حرف النفي وذلك غير جائز.