تفسير سورة الجن

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الجن من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ﴾؛ وذلك أنَّ السماءَ لم تكن تُحرَسُ فيما بين عيسَى ومُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فلمَّا بعثَ اللهُ مُحَمَّداً نبيَّنا حُرست السماءُ ورُميتِ الشياطين بالشُّهب، فلم يبقَ صنمٌ إلاّ خرَّ لوجههِ. فقال إبليسُ للجنِّ: لقد حدثَ في الأرضِ حَدَثٌ لم يحدُثْ مثلَهُ، ولا يكون هذا إلاَّ عند خروجِ نبيٍّ، ففرَّقَ جُندَهُ في الطلب وأمرَهم أن يضربوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، وبعثَ تسعةَ نفرٍ من أشرافِ جنِّ نصيبين إلى أرضِ تُهامة، وكان رئيسُهم يسمَّى عمرواً، فلما انتَهوا إلى بطنِ نخلةَ وجَدُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَائماً يُصلِّي بأصحابهِ صلاةَ الفجرِ. فلمَّا سمِعُوا القرآنَ رقَّت له قلوبُهم، ودنَا بعضُهم من بعضٍ حُبّاً للقرآنِ حتى كَادُوا يتساقَطون على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم، وقالُوا: هذا الذي حالَ بينَنا وبين خبرِ السَّماء، فذلك قَوْلُهُ تَعالَى:﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ ﴾[الأحقاف: ٢٩] فآمَنُوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ورجَعُوا إلى قومِهم مُنذرين، ولم يأْتُوا إبليسَ. وقالوا لقَومِهم: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ﴾ أي بَليغاً ذا عَجَبٍ يُعجَبُ من بلاغتهِ وحُسنِ نَظْمِهِ.
﴿ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ ﴾؛ أي يَدعُو إلى الصَّواب من التوحيدِ والإيمان.
﴿ فَآمَنَّا بِهِ ﴾؛ وصدَّقنَا به أنَّهُ مِن عندِ الله.
﴿ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً ﴾؛ من بعدِ هذا اليومَ، كما أشركَ إبليسُ." فاستجابَ لهم جماعةٌ من الجنِّ فجَاءوا بهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأقرَأهُم القرآنَ فآمَنُوا به، وقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الأَرْضَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجْلٌ لَيْسَ لَنَا فِيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لَكُمُ الرَّوْثُ وَكُلُّ أرْضٍ سَبْخَةٍ تَنْزِلُونَ بهَا تَكُونُ مُكَلَّبَةً لَكُمْ، وَلَكُمُ الْعَظْمُ، وَكُلُّ عَظْمٍ مَرَرْتُمْ عَلَيْهِ تَجِدُونَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ حَيْثُ يَكُونُ " ". ثُم يُكرَهُ أن يُستَنجَى بالعظمِ والرَّوثِ. ثم انصرَفتِ الجنُّ عنه، فأوحَى اللهُ إليه بهذه الآياتِ لبيان أنَّ الجنَّ لَمَّا ظهرَ لهم الحقُّ اتبعوهُ، فالإنسُ أولى بذلك لأنَّهم ولدُ آدمَ، فكان المخالفُ منهم ألْوَمَ. ومعنى الآيةِ: قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة: أُوحِيَ إلَيَّ أنه استمعَ إلى القرآنِ طائفةٌ من الجنِّ، فلمَّا رجَعُوا إلى قومِهم قالُوا: يا قومَنا ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً ﴾ بعدَ هذا اليومِ؛ أي لا نتَّبعُ إبليسَ في الشِّركِ.
﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً ﴾؛ هذا من قولِ الجنِّ لقَومِهم، معطوفٌ على قولهِ ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ﴾ وإنَّهُ تعالَى جَدُّ ربنا وعظَمتهُ عن أنْ يتَّخِذ صاحبةً أو ولداً، وهذا كما يقالُ: فلانٌ أعظمُ وأجَلُّ مِن أن يفعلَ كذا وكذا، فالْجَدُّ: الْعَظَمَةُ، وقال الحسنُ: (مَعْنَى الْجَدِّ فِي هَذِهِ الآيَةِ الْغِنَى) ومنهُ قولهم في الدُّعاء:" وَلاَ يَنْفَعُ ذا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ "أي لا يَنْفَعُ ذا الغِنَى منكَ غناهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً ﴾؛ والمرادُ بالسَّفيه في هذه الآيةِ إبليسَ، وَقِيْلَ: مَن كان لا يؤمنُ من الجنِّ، وسَفَهُهُ أنْ جعلَ للهِ صاحبةً وولداً. والشَّطَطُ: السَّرَفُ في الخروجِ عن الحقِّ، وسُمي القولُ البعيدُ مِن قولهم: شَطَطَتِ الدَّارُ إذا بَعُدَتْ. وَقِيْلَ: الشَّطَطُ: الكذبُ والجورُ، وهو وصفهُ بالشريكِ والولدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾؛ أي قالتِ الجنُّ: إنا ظنَنَّا أنَّ الإنسَ والجنَّ كانوا لا يكذِبُون على اللهِ بأنَّ له شَريكاً وصاحبةً وولداً حتى سَمعنا القرآنَ وتبَيَّنا الحقَّ منه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ﴾؛ معناهُ: إنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا إذا نزَلُوا بوادٍ، أو بأَرْضٍ فأَمْسَوا هنالكَ، قالوا: نعوذُ بسيِّد هذا الوادِي من سُفهاء قومهِ، أرَادُوا بذلك سيِّدَ الجنِّ، فيَبيتُون في جوارٍ منهم يحفظونَهم حتى يُصبحوا، وقالتِ الجنُّ: قد سُدْنا الجنَّ والإنسَ حتى بلغ سؤدَدُنا الإنسَ فزادَهم تعوُّذِ الإنسِ لَهم رهَقاً؛ أي كِبْراً وعظَمةً في نُفوسِهم وسَفَهاً وطُغياناً وظُلماً. وعن كَرْدَمِ بن أبي السَّائب الأنصاريِّ قال: (خَرَجْتُ مَعَ أبي إلَى الْمَدِينَةِ وَآوَانَا الْمَبيت إلَى رَاعِي غَنَمٍ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَنَا ذِئْبٌ فَأَخَذَ حَمَلاً مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي فَنَادَى: يَا عَامِرَ الْوَادِي جَارُكَ! فَنَادَى مُنَادِياً لاَ نَرَاهُ: يَا سَرْحَانَ أرْسِلْهُ. فَأَتَى الْحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ بَيْنَ الْغَنَمِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ بمَكَّةَ ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ﴾ ). قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي زَادُوهُمْ بهَذا التَّعَوُّذِ طُغْيَاناً حَتَّى قَالُوا: سُدْنَا الإنْسَ وَالْجِنَّ). والرَّهَقُ في كلامِ العرب: الإثْمُ وغَشيَانُ الْمَحارمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً ﴾؛ معناهُ: أنَّ كفارَ الجنِّ ظَنُّوا كما ظَنَنتم يا أهلَ مكَّة، أنْ لَن يبعثِ اللهُ رسولاً، ويقال: أنْ لَنْ يبعثَ اللهُ أحداً من قبرهِ بعدَ الموتِ. والمعنى: أنَّهم كانوا لا يؤمنون بالبعثِ، كما أنَّكم أيُّها المشرِكون لا تُؤمنون.
قالتِ الجنُّ: ﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ﴾؛ هذا إخبارٌ " عن " قولِ الجنِّ الذين سَمعوا القرآنَ وآمَنُوا بهِ ورجَعُوا إلى قومِهم مُنذرين. والمعنى: إنَّا صعَدْنا السَّماءَ وأتَيناها للطَّلب كما كُنَّا نسمعُ إلى الملائكةِ من قبلُ: فوجَدْنَاها مُلِئَتْ حَفَظَةً أقوياءَ من الملائكةِ، ونِيرَاناً مُضيئةً يَرمُون بها إلينا ويَزجُرونا عن الاستماعِ. والْحَرَسُ: جمعُ الْحَارسِ وهو الحافظُ. والشُّهُبُ: جمعُ الشِّهاب، وهو الشعاعُ الذي يحدُث من النجمِ ويستنيرُ في الهواءِ، تُسميه العامَّة: الكوكبُ المنقضُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ﴾؛ رُوي عن ابنِ عبَّاس أنه قالَ: (لَمْ تَكُنْ قَبيلَةٌ مِنَ الْجِنِّ إلاَّ وَلَهَا مِنَ السَّمَاءِ مَقَاعِدُ لِلسَّمْعِ، فَكَانَ إذا نَزَلَ الْوَحْيُ سَمِعَتِ الْمَلاَئِكَةُ صَوْتاً كَصَوْتِ الْحَدِيدَةِ أُلْقِيَتْ عَلَى الصَّفَا، فَإذا سَمِعَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ خَرُّوا لَهَا سُجَّداً، ثُمَّ تَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَإنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي السَّمَاءِ قَالُواْ: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيرُ، وَإذا كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي الأَرْضِ مِنْ عَيْبٍ أوْ مَوْتٍ تَكَلَّمُوا بهِ، فَتَسْمَعُهُ الشَّيَاطِينُ فَيَنْزِلُونَ بهِ عَلَى أوْلِيَائِهِمْ مِنَ الإنْسِ. فَلَمَّا بُعِثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زُجِرُواْ بالنُّجُومِ) فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾؛ أي مَن يحاولُ الاستماعَ الآنَ يجِدْ له كَوكباً قد أرصِدَ له يَرميهِ بنارهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ﴾؛ معناهُ: أنَّهم قالوا: لا ندري أنَّا رُمينا بالشُّهب أنَّ اللهَ تعالى أرادَ إنزالَ العذاب بالناس لمعاصِيهم، أو أرادَ بعثَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّ السماءَ لم تُحرَسْ قطُّ إلاَّ لنُبوَّةٍ، أو لعُقوبَةٍ عاجلةٍ عامَّة.
قَوْلُهُ تَعاَلَى: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ﴾؛ أي منَّا الْمُطِيعونَ له في أمرهِ ونَهيهِ، ومنَّا أهلُ المعاصي.
﴿ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً ﴾؛ أي كنا أهلَ مُلكٍ شتَّى مؤمنين وكافرين. وَقِيْلَ: كنَّا جماعاتٍ متفرِّقين وأصنافاً مختلفةً. والقِدَّةُ: القطعةُ من الشَّيْءِ، يقالُ: صارَ القومُ قِدَداً إذا تفرَّقت حالاَتُهم، قال الحسنُ: (الْجِنُّ أمْثَالُكُمْ، مِنْهُمْ مُرْجِئَةٌ وَقَدِرَّيةٌ وَرَافِضِيَّةٌ وَشِيعَةٌ). وقال الأخفشُ: (مَعْنَى قَوْلِهِمْ ﴿ كُنَّا طَرَآئِقَ ﴾ أيْ ضُرُوباً). وقال أبو عُبيد: (أصْنَافاً)، وقال المؤرج: (أجْنَاساً). وقال ابنُ كَيسان: (شِيَعاً وَفِرَقاً لِكُلِّ فِرْقَةٍ هَوًى). وقال ابنُ المسيَّب: (كُنَّا مُسْلِمِينَ وَيَهُوداً وَنَصَارَى). ويقال: فلانٌ طريقةُ قومهِ، أي سيِّدٌ مُطَاعٌ فيهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي إنَّا عَلِمنَا أنْ لن نُعجِزَ اللهَ في الأرضِ إذا أرادَ بنا أمْراً.
﴿ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ﴾؛ أي إنَّهُ يُدركُنا حيث كُنَّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ ﴾؛ أي لما سَمِعنا القرآنَ آمَنَّا به؛ وصدَّقنا أنه من عندِ الله.
﴿ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً ﴾؛ أي لا يخافُ نُقصَاناً من ثواب عمَلهِ.
﴿ وَلاَ رَهَقاً ﴾؛ أي ولا ظُلماً ولا مَكرُوهاً يخشاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ ﴾؛ أي ومنَّا الجائِرُونَ الظَّالمون، قال ابنُ عبَّاس: (الْقَاسِطُونَ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا للهِ نَدّاً)، فالقاسِطُ: هو العادِلُ عنِ الحقِّ، والْمُقْسِطُ: هو الْمُعْدِلُ إلَى الحقِّ، ونظيرهُ: تَرِبَ الرجلُ إذا افتقرَ، وأتْرَبَ إذا استغنَى، فالأولُ هو الذي ذهبَ مالهُ حتى قعدَ على التُّراب، والثانِي كثُرَ مالهُ حتى صارَ كالتُّراب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ أَسْلَمَ ﴾؛ معناهُ: فمَن أخلصَ بالتوحيدِ.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً * وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾؛ أي العادِلُون عن طريقةِ الإسلام، فأُولئك بمنْزِلةِ الْحَطَب في النار تشتعلُ النارُ في أبدانِهم، إلى هُنا كلامُ الجنِّ وانقطعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً ﴾؛ أوحَى إلى أنه لو استقامَ أهلُ مكَّة على طريقةِ الهدى، لوسَّعنا عليهم أرزاقَهم بالمطرِ والنباتِ والماء. والغَدَقُ: الكثيرُ، قال مقاتلُ: (معناهُ: لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً كَثِيراً مِنَ السَّمَاءِ بَعْدَ مَا رُفِعَ عَنْهُمْ الْمَطَرُ سَبْعَ سِنِينَ) ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الأعراف: ٩٦]، وقولهُ تعالى:﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾[المائدة: ٦٦]، ويقالُ: مكانٌ غَدِقٌ بكسر الدالِ إذا كان كثيرَ النَّدَا، وعيشٌ غَدِقٌ أي واسعٌ، والغَدَقُ بفتحِ الدال مصدرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾؛ أي لنتعبَّدَهم بالشُّّكر، وذهبَ الكلبيُّ إلى أنَّ معنى الآية لَوِ اسْتَقَامُوا على طريقةِ الكُفرِ والضَّلال فكانُوا كُفَّاراً كُلَّهم لأعطَيناهم ماءً كَثيراً ووسَّعنا عليهم وأرغَدنَا عَيشهم لنَفْتِنَهُمْ فيهِ عقوبةً لهم واستدراجاً حتى يُفتَنوا بهذا فنعذِّبَهم، قال عمرُ رضي الله عنه: (أيْنَ مَا كَانَ الْمَالُ كَانَتِ الْفِتْنَةُ) ودليلُ هذا التأويلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾[الأنعام: ٤٤].
والقولُ الأوَّلُ أولى؛ لأنَّ الطريقةَ معرَّفَةٌ بالألفِ واللاَّم، ولا تُذكَرَ الاستقامةُ إلاَّ على الحقِّ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ﴾؛ يعني مَن يُعرِضْ عن القرآنِ نُدخِلهُ عَذاباً شاقّاً ذا صَعَدٍ؛ أي ذا مشقَّةٍ، والصَّعَدُ: الشَّاقُّ الشديدُ، ومنه قولُهم: تنفَّسَ الصَّعَداءَ، وفي الحديثِ:" صَخْرَةٌ مَلْسَاءُ فِي جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ الْكَافِرُ صُعُودَهَا، يُجْذبُ مِنْ لِقَامِهِ بالسَّلاَسِلَ، وَيُضْرَبُ مِنْ خَلْفِهِ بالْمَقَامِعَ، فَإذا انْتَهَى إلَى أعْلاَهَا وَلاَ يَبْلُغُهُ فِي أرْبَعِينَ سَنَةٍ، فَإذا بَلَغَ أعْلاَهَا أُحْدِرَ إلَى أسْفَلِهَا، فَكَانَ دَأبُهُ هَذا أبَداً "ويقالُ: سلكتُ الشَّيءَ أو أسلَكْتُهُ بمعنى واحدٍ وهو الإدخالُ. قرأ كوفِي ويعقوب (يَسْلُكْهُ) بالياءِ، وقرأ مسلمُ بن جُندب (نُسْلِكْهُ) بنون مضمومةٍ وكسرِ اللام.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً ﴾؛ يعني هذهِ المساجدَ الْمَغْلُوقَةَ لم تُبْنَ إلاَّ لذكرِ اللهِ، فلا تدْعُو مع اللهِ فيها أحَداً غيرَ اللهِ كما تدعُو النَّصارى في بيَعِهم، وكما دَعَا المشرِكون في كَعبَةِ ربهم، وعن الحسنِ قالَ: (مِنَ السُّنَّةِ أنَّهُ إذا دَخَلَ الْمَسْجِدَ أنْ يَقُولَ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ لاَ أدْعُو مَعَ اللهِ أحَداً). وَقِِيْلَ: إنَّ المساجدَ ما يسجدُ الإنسانُ عليهِ من جَبهَتهِ ويدَيه وصُدور قدمَيهِ، فلا تضَعُوا هذه الآراب في التراب لغير خالِقها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ ﴾؛ معناهُ: وأنَّهُ لَمَّا قامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعُو اللهَ ويقرأُ القرآنَ في الصَّلاة ببَطنِ نخلةٍ بين مكَّة والطائف إذ أتَى تسعةٌ من الجنِّ.
﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾؛ أي كادُوا يَسقُطون عليه رغبةً في القرآنِ وتعجُّباً منه وحُبًّاً لاستماعهِ. ومعنى (لِِبَداً) كاد يركبُ بعضُهم بَعضاً في الازدحامِ، وقرأ (لُبَداً) وهي قراءةُ مجاهد، فهي بمعنى الكثيرِ من قوله﴿ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ﴾[البلد: ٦]، وقال الحسنُ وقتادة: (لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلَبَّدَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ، فَأَبَى اللهُ إلاَّ أنْ يَنْصُرَهُ وَيُظْهِرَهُ عَلَى مَنْ نَاوَأهُ). ويقالُ: لَمَّا قامَ صلى الله عليه وسلم في عبادتهِ بمكَّة، كادَ مُشركو مكَّة بشدَّة كَيدِهم له أن يكُونوا عليه مُتَكاتِفِينَ بعضهم فوقَ بعضٍ ليُزِيلوهُ بذلك عن دعوتهِ إلى اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ﴾؛ أي قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأهلِ مكَّة حيث قالوا له: إنَّكَ جئتَ بأمرٍ عظيم فارجِعْ عنهُ، فقال: ﴿ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي ﴾ أي أعبُدهُ وأدعُوا الخلقَ إليه ﴿ وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً ﴾؛ أي قُل لأهلِ مكَّة: لا أملكُ تغييرَ نِعَمِ اللهِ عليكم، ولا أجبرُكم على العبادةِ، ولا يَمِلكُ ضُرَّكم ورُشدَكم إلاَّ اللهُ.
﴿ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ ﴾؛ وإنما أنَا عبدٌ خاضع، إنْ غَضِبَ فلا مُجِيرَ لي ولا ناصرَ.
﴿ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾؛ أي مُدْخَلاً في الأرضِ، ولا مَلجَأٌ ألْجَأُ إليه، ولا حَوْزاً أقبلُ إليهِ. واشتقاقُ الْمُلْتَحَدِ من اللَّحْدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ ﴾؛ أي لا يُنجِيني من عذاب الله إلاَّ أن أُبلِّغَ عن اللهِ ما أُرسلتُ به، وبذلك أرجُو النجاةَ، ونيلَ الكرامةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾؛ معناهُ: ومَن يعصِ اللهَ ورسولَهُ من الأُمم بعدَ البلاغِ فلم يُؤمِنْ، فإنَّ له نارَ جهنَّم. جوابُ الشرط بالفاءِ ولذلك لا يجوزُ بالكسرِ ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ ﴾ نُصِبَ على الحالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ﴾؛ ابتداءُ كلامٍ، والعربُ تَبتَدِئُ بـ (حتى) والمعنى: إذا رأى الكفارُ الذين يستَطِيلُونَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم العذابَ إمَّا في الدُّنيا أو في الآخرةِ.
﴿ فَسَيَعْلَمُونَ ﴾؛ عندَ ذلك.
﴿ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ﴾ أي مَن أضعفُ مَانِعاً وأقلُّ جُنداً، أهُمْ أمِ المؤمنون؟فلمَّا سَمعوا هذا قال النَّضِرُ بنُ الحارثِ: متَى هذا الوعدُ الذي تَعِدُنا بهِ؟ فأنزلَ اللهُ: ﴿ قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾؛ من العذاب؛ أي ما أدري أقريبٌ هذ العذابُ.
﴿ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً ﴾؛ أي غايةً وبُعداً، قال عطاءُ: (يَعْنِي أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاَّ اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ) وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً ﴾؛ أي لا يُطلِعُ على غَيبهِ أحَداً من خلقهِ.
﴿ إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ﴾؛ فإنه إذا أرادَ إطْلاعَهُ بالوحِي على ما يشاءُ على الغيب.
﴿ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾؛ أي جعلَ مِن بين يَدي الرسولِ ومِن خلفه حَفَظَةً من الملائكةِ ليُحِيطُوا به، ويَحَفظُونَهُ، ويحفظُوا الوحيَ مِن أن تَسْتَرِقَهُ الشياطينُ، فُتلقِيَهُ إلى الكهنَةِ. وذلك أنَّ الله تعالى كان إذا أُنْزِلَ جبريلُ بالوحيِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أرسلَ ملائكةً يُحيطون به وبالنبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى يفرغَ من وجههِ، كَيْلاَ يَقرُبَ منه شيطانٌ ولا جانٌّ يَذهبون به إلى كهَنتهِم حتى يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم أوَّلَ مَن تكلَّمَ به؛ ليكون ذلك دَليلاً على نُبوَّتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ ﴾؛ أي ليَعلَمَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أنَّ الملائكةَ قد أبلَغُوا رسالاتِ ربهم، وأنَّ الرسالةَ لَمْ تَصِلْ إلى غيرهِ. وَقِيْلَ: ليعلمَ الجنُّ والإنس أنَّهم قد أُبلِغُوا. وفي قراءةِ ابنِ عبَّاس (لِيُعْلَمَ) بضم الياء. وهذه الآيةُ تدلُّ على أنهُ يَعلَمُ بالنجومِ ما يكون من حياةٍ أو مَوتٍ أو غيرِ ذلك، فهو كافرٌ بالقرآنِ وبما فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ﴾؛ أي أحاطَ عِلمهُ بما عندَهم، يعني أحاطَ علمُ اللهِ بما عندَ الرُّسل فلم يَخْفَ عليه شيءٌ.
﴿ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾ أي عَلِمَ عددَ الأشياءِ وأوقاتَها كلَّها مع كثرتِها على تفَاصِيلها، لم يَفُتْهُ علمُ شيءٍ حتى مثاقيلَ الذرِّ والخردلِ.
Icon