تفسير سورة التكوير

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٢٩.

تفسير سورة «التّكوير»
[وهي] مكّيّة بإجماع
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥)
قوله سبحانه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ هذه كلُّها أوصَافُ يومِ القيامةِ، وتكويرُ الشمسِ هو أن تُدَارَ كما يُدَارُ كَوْرُ العمامةِ ويُذْهَبُ بها إلى حيثُ شَاءَ اللَّه- تعالى-، وعبَّر المفسرونَ عن ذلك بعباراتٍ فمنهم مَنْ قال: ذهب نورُها قاله قتادة «١»، ومنهم من قال:
رُمِي بها قاله الربيع بن خثيم «٢» وغير ذلك مما هو أسماءٌ توابعُ لتكْويرهِا، ، وانْكِدَارُ النجومِ هو انْقِضَاضُها وهبوطُها من مواضِعها، وقال ابن عباس: انكدرتْ: تغيَّرَتْ من قولهم مَاءٌ كَدِرٌ «٣» والْعِشارُ: جمع عُشَرَاءَ وهي الناقة التي قَدْ مَرَّ لحملِها عَشَرَةُ أشهرٍ، وهي أنْفَسُ مَا عِنْدَ العرب، وإنما تعطّل عند أشدّ الأهوال.
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ٦ الى ١٤]
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠)
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤)
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال أُبَيُّ بن كعب وابن عباس وغيرهما: / معناه أُضْرِمَتْ ناراً، كما يُسْجَرَ التَّنُّورُ «٤»، ويحتملُ أنْ يكونَ المعنى مُلِكَتْ وقيّدت، فتكون اللفظة مأخوذة
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٥٧) (٣٦٤٠٢)، وذكره البغوي (٤/ ٤٥١)، وابن عطية (٥/ ٤٤١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٧٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٢٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه.
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٥٧) (٣٦٤١٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٤١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٧٥).
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٥٨) (٣٦٤١٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٤١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٧٥).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٦٠)، عن أبي بن كعب، برقم: (٣٦٤٣٢) وعن ابن عبّاس برقم: (٣٦٤٣٤)، وذكره البغوي (٤/ ٤٥١)، وابن عطية (٥/ ٤٤٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٧٦) بنحوه.
555
من سَاجُورِ الكَلْبِ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «سُجِرَتْ» بتخفيفِ»
الجيمِ، والباقون بتشديدها، وتزويجُ النفوسِ: هو تَنْوِيعُها لأن الأزواجَ هي الأنْواعُ، والمعنى: جَعْلُ الكافرِ مع الكافرِ والمؤمِنِ معَ المؤمِنِ، وكلِّ شكلٍ مع شكلِه رواه النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقاله عمرُ بن الخطاب وابن عباس «٢» وقال: هذا نظيرُ قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: ٧] وفي الآيةِ على هذا حضُّ عَلَى خَليلِ الخيرِ، فقد قال- عليه السلام-: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، وقال: «فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»، وعبارةُ الثعلبيِّ: قال النعمانُ بْنُ بَشِيرٍ: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، قَالَ الضُّرَبَاء: كُلُّ رَجُلٍ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَمَلَه، انتهى، وقال مقاتل بن سُلَيْمَانَ معناه: زوجتْ نُفُوسُ المؤمنينَ بزوجاتهنَّ من الحُورِ، وغيرِهِنَّ «٣».
وقوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ الموءودة اسم معناه المُثْقَلُ عليها بالتُّرَاب، وغيرِه حتى تموتَ وكان هذا صنيعُ بعضِ العَرَبِ ببناتِهم يدفِنُونَهن أحياءً، وقرأ الجمهور «٤» :«سِئلت» وهذا على جهةِ التوبيخِ للعربَ الفاعلينَ ذلك واستدلَّ ابن عَبَّاس بهذه الآيةِ على «٥» أنَّ أولادَ المشركينَ في الجَنَّةِ، لأنَّ اللَّهَ قَدِ انتصر لَهُمْ ممّن ظلمهم «٦».
(١) وحجتهما قوله سبحانه: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور: ٦] ولم يقل المسجّر. وحجة الباقين قوله تعالى:
وَإِذَا الْبِحارُ ولو كان واحدا لكان تخفيفا، والعرب تقول: سجرت التنور، وسجّرت التنانير.
ينظر: «حجة القراءات» (٧٥٠)، و «السبعة» (٦٧٣)، و «الحجة» (٦/ ٣٧٩)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٤٤٤)، و «شرح الطيبة» (٦/ ١٠١)، و «معاني القراءات» (٣/ ١٢٣)، و «العنوان» (٢٠٤)، و «شرح شعلة» (٦١٩)، و «إتحاف» (٢/ ٥٩١).
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٦٢) عن عمر برقم: (٣٦٤٤٩)، وعن ابن عبّاس برقم: (٣٦٤٥٢)، وذكره البغوي (٤/ ٤٥٢)، وابن عطية (٥/ ٤٤٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٧٧)، والسيوطي في «الدر المنثور»، وعزاه لابن مردويه.
(٣) ذكره البغوي (٤/ ٤٥٢)، وابن عطية (٥/ ٤٤٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٢٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن الكلبي بنحوه.
(٤) وقرأ ابن عبّاس، وأبي، وجابر بن زيد، وأبو الضحى، ومجاهد، وجماعة منهم: ابن مسعود، والربيع بن خيثم «سألت».
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٦٩)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٤٢)، و «البحر المحيط» (٨/ ٤٢٤- ٤٢٥)، و «الدر المصون» (٦/ ٤٨٦).
(٥) في د: في. [.....]
(٦) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٤٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٧٧).
556
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قيل: هي صُحُفُ الأَعْمَالِ، وقيل: هي الصُّحُفُ التي تَتَطَايَرُ بالأَيْمَانِ والشَّمائلِ، والكَشْطُ: التقشيرُ وذلك كما يُكْشَطُ جلدُ الشاةِ حينَ تُسْلَخُ، وكَشْطُ السَّماءِ هُو طَيُّها/ كَطَيِّ السّجلّ، وسُعِّرَتْ معناه: أُضْرِمَتْ «١» نارُها، وأزلفت الجنة معناه: قُرِّبَتْ ليدخلَها المؤمنونَ، قال الثعلبي: قُرِّبَتْ لأهلها حتى يرونها، نظيرُه، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: ٣١]. عَلِمَتْ نَفْسٌ عندَ ذلك مَّا أَحْضَرَتْ من خيرٍ أو شرٍ وهو جوابٌ لقولهِ إِذَا الشَّمْسُ وما بعدها، انتهى.
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١٥ الى ٢٣]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣)
وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ لا إمَّا زائدةٌ وإما أنْ تكونَ رَدّاً لِقَوْلِ قريشٍ في تكذيبهم نبوة نبينا محمّد ع، ثُمَّ أَقْسَمَ تعالى بالخُنَّسِ الجوارِ الكنَّسِ، وهي في قولِ الجمهور: الدَّرَارِي السَّبْعَةُ: الشَّمْسُ والقَمَرُ وزُحَلُ وعُطَارِدُ والمرِّيخُ والزُّهْرَةُ والمُشترِي، وقال عليّ: المرادُ الخمسةُ دونَ الشمسِ والقمر وذلك أنّ هذه الكواكبَ تَخْنِسُ في جَرْيها أي: تَتَقَهْقَرُ فيما ترى العين، وهي جَوارٍ في السماءِ، وهي تَكْنِسُ في أَبراجها أي: تَسْتَتر «٢»، الثعلبي: وقال ابن زيدِ تَخْنِسُ أي: تَتَأَخَّرُ عَنْ مَطَالِعِها كلَّ سَنَة، وتَكْنِسُ بالنَّهار، أي: تستترُ فلاَ تُرَى، انتهى «٣»، وعَسْعَسَ الليلُ في اللغةِ إذا كَان غَيْرَ مُسْتَحْكَمِ الإظْلاَمِ، قال الخليل: عَسْعَسَ الليلُ: إذا أَقْبَلَ وأَدْبَرَ، وقال الحَسَنُ: وقَعَ القَسَمُ بإقبالهِ «٤»، وقال ابن عباسٍ وغيره: بلْ وَقَعَ بإدبارهِ «٥»، وقال المبرد: أقسم بإقباله وإدباره «٦»
(١) في د: ضرمت.
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٦٧) (٣٦٤٨٤)، وذكره البغوي (٤/ ٤٥٣)، وابن عطية (٥/ ٤٤٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٧٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٢٨)، وعزاه لسعيد بن منصور والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن علي رضي الله عنه.
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٦٧) (٣٦٤٨٧). والبغوي (٤/ ٤٥٣).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٧٠) (٣٦٥١٢)، وذكره البغوي (٤/ ٤٥٣)، وابن عطية (٥/ ٤٤٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٧٩) بنحوه.
(٥) أخرجه الطبري (١٢/ ٤٦٩)، (٣٦٥٠٢)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٤٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٧٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٣٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عبّاس.
(٦) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٤٤).
معاً، وعبارةُ الثعلبي: قالَ الحسنُ عَسْعَسَ الليلُ: أقْبَلَ بظلامِه، وقال آخرون: أدْبَرَ بظلامِه، ثم قال: والمعنيانِ يَرْجِعَانِ إلى معنًى واحدٍ، وهو ابتداءُ الظلامِ في أوله وإدباره في آخرهِ، انتهى، ، وتنفَّسَ الصبحُ، اتَّسَعَ ضوءهُ، والضميرُ في «إنه» للقرآن، والرسولُ الكريمُ في قولِ الجمهور هو جبريل ع وقال آخرون: هو النبي صلّى الله عليه وسلّم في الآية كلّها، / والقول الأول أصحّ، وكَرِيمٍ صفة تقتضي رفع المذامّ، ومَكِينٍ معناه: له مكَانَة ورِفْعَة، وقال عياض في «الشفا» في قوله تعالى: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ: أكثر المفسرين على أنّه نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، انتهى، قال ع «١» : وأجمعَ المفسرونَ على أن قولَه تعالى: وَما صاحِبُكُمْ يرادُ به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، والضمير في رَآهُ لجبريل ع وهذه الرؤيةُ التي كانَتْ بعْدَ أمْرِ غارِ حِراءٍ، وقيل: هي الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى.
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ٢٤ الى ٢٩]
وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨)
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
وقوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضادِ بمعنى: بِبَخِيلِ تَبْلِيغ مَا قِيل لهُ كما يَفْعَلُ الكاهِنُ حين يُعْطى حُلْوَانه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «بظنين» بالظاءِ «٢»، أي: بمتَّهَمٍ، ثم نَفَى سبحانَهُ عن القرآن أنْ يكونَ كلامَ شيطانٍ على ما قالتْ قريش، ورَجِيمٍ أي: مرجُوم.
وقوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ توقيفٌ وتقريرٌ والمعنى: أين المذهبُ لأحَدٍ عن هذهِ الحقائقِ والبيانِ الذي فيه شفاءٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي: تذكرةٌ، ت: رَوَى الترمذيُّ عن ابن عمر قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَرَّه أنْ يَنْظُرَ إلى يومِ القِيَامَةِ كأنَّه رَأْيُ عينٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» قال أبو عيسى:
هذا حديثٌ حسن، انتهى.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٤٤).
(٢) ينظر: «السبعة» (٦٧٣)، و «الحجة» (٦/ ٣٨٠)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٤٤٦)، و «معاني القراءات» (٣/ ١٢٤)، و «العنوان» (٢٠٤)، و «حجة القراءات» (٧٥٢)، و «شرح شعلة» (٦٢٠)، و «إتحاف» (٢/ ٥٩٢).
Icon