تفسير سورة الغاشية

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الغاشية
مكية وهي ست وعشرون آية

﴿ هل أتاك ﴾ استفهام تقرير أي قد أتاك ﴿ حديث الغاشية ﴾ أي الساعة التي تغشى كل شيء بالشدائد والأهوال، وقيل : المراد بالغاشية النار قال الله تعالى ﴿ وتغشى وجوههم النار ﴾١ لكن تعقيبها بذكر الكفار والمؤمنين بقوله وجوه يومئذ يدل على صحة التأويل الأول.
١ سورة إبراهيم، الآية: ٥٠..
﴿ وجوه ﴾ تنوينه للتكثير أو عوض عن المضاف إليه أي وجوه كثيرة أو وجوه الكفار فصح جعلها مبتدأ لأنه مخصصة أو في قوة المعرفة والمراد بها أصحاب وجوه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه وأجري عليه من الأخبار ما كانت جارية على المضاف ﴿ يومئذ ﴾ متعلق بغاشية أي يوم إذا كانت الغاشية وجوه ﴿ خاشعة ﴾ ذليلة من الحزن والهوان.
﴿ عاملة ناصبة ٣ ﴾ يعني في النار والنصب التعب، قال الحسن لم تعلم لله في الدنيا فاعملها وانصبها في النار بمعالجة السلاسل والأغلال وبه قال قتادة وهو رواية العوفي عن ابن عباس قال ابن مسعود يخوض في النار كما يخوض الإبل في الوحل وقال الكلبي يجرون على وجوههم في النار، وقال الضحاك يرتقي جبلا من حديد في النار، وقيل : معناه الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين حق من عبدة الأوثان وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم لا يقبل الله منهم اجتهادا في ضلالته يدخلون النار يوم القيامة وهو قول سعيد بن جبير وزيد بن أسلم رواه عطاء عن ابن عباس وقال عكرمة والسدي عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في الآخرة في النار.
﴿ تصلى ﴾ قرأ أبو عمر وأبو بكر تصلى بضم التاء والباقون بفتح التاء ﴿ نارا حامية ﴾ قال ابن عباس قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله.
﴿ تسقى من عين آنية ٥ ﴾ أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال يعني ما انتهى حرها فلا يكون فوقه حر، وأخرج البيهقي عن الحسن أنه قال كانت العرب يقول للشيء إذا انتهى حره حتى لا يكون شيئا أحر منه قد أتى حره فقال الله سبحانه من عين آنية، يقال قد أوقدت عليها في جهنم منذ خلقت يأتي حرها، قال المفسرون وردوا إلى جهنم وردوا عطاشا فسقوا من عين آنية لو وقعت منها قطرة على الجبال الدنيا لذابت.
﴿ ليس لهم طعام إلا من ضريع ٦ ﴾ أخرج عبد الله بن أحمد من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الضريع شيء يكون في النار شبه الشوك أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حرا من النار إذا أطعم صاحبه لا يدخل البطن ولا يرتفع إلى الفم فسقى بين ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع ) وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : هو الزقوم، وأخرج الترمذي والبيهقي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ) وقد مر فيما قبل، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة نبت ذو شوكة لا بالأرض تسميه قريش الشبرق فإذا هاج العود تسميه الشريع هوا خبث طعام، قال الكلبي لا يقربه دابة إذا يبس وقال ابن أبي زيد أما في الدنيا فإن الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق وهو في الآخرة شوك من نار
قال المفسرون لما نزلت هذه الآية﴿ ليس لهم طعام إلا من ضريع ٦ ﴾ قال المشركون إن إبلنا يسمن من الضريع وكذا في ذلك فإن الإبل إنما يرعاه ما دام رطبا وسيما شداقا فإذا يبس لا يأكله شيء فأنزل الله تعالى ﴿ لا يسمن ولا يغني من جوع ٧ ﴾ صفة ضريع والمقصود من الطعام أحد الأمرين والمراد أيضا في ليس لهم طعام إلا من ضريع أو شبه لا يسمن أو يغني من جوع كما في قوله تعالى :﴿ وما محمد إلا رسول ﴾١ يعني ليس كاهنا أو شاعرا ونحو ذلك مما ينافي الرسالة، والمراد ههنا بعض الكفار لا يكون طعامهم إلا من ضريع ويكون الضريع والزقوم طعام غيرهم من الكفار.
١ سورة آل عمران، الآية: ١٤٤..
﴿ وجوه يومئذ ﴾ كثيرة أو وجوه المؤمنين يعني أصحابها مبتدأ وما بعد أخبار ﴿ ناعمة ﴾ منتعمة ذات بهجة.
﴿ لسعيها ﴾ في الدنيا في طاعة الله متعلق بقوله ﴿ راضية ﴾ في الآخرة لما رأت ثوابها.
﴿ في جنة عالية ١٠ ﴾ المحل والقدر.
﴿ لا تسمع ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمر وبالياء المضمومة على البناء للمفعول الواحد المذكر ﴿ فيها لاغية ﴾ بالرفع على أنه مسند إليه والتأنيث غير حقيقي وقرأ نافع ذلك إلا أنه قرأ لا تسمع بالتاء التأنيث المسند إليه والباقون بالتاء المفتوحة على البناء للفاعل والضمير للمؤنث راجع إلى وجهه أو للخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمخاطب غير معين وقرأ لاغية بالنصب على المفعولية يعني لا تسمع لغوا وباطلا وكلمة ذات لغو المراد نفسا تلغوا فإن كلام أهل الجنة للذكر والحكمة، أخرج البيهقي في هذه الآية قال : لا تسمع صفة لجنة بعد صفة وكذا الجملة بعدها.
﴿ فيها عين جارية ١٢ ﴾ لا يقطع جريانها والتنكير للتعظيم أخرج ابن حبان والحاكم والبيهقي والطبراني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنهار الجنة تفجر من جبل مسك ).
﴿ فيها سرر مرفوعة ١٣ ﴾ رفيعة السمك والقدر، أخرج البيهقي من طريق أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ سرر مصفوفة ﴾ أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( في قوله تعالى ﴿ وفرش مرفوعة ﴾ قال :( ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض ) ولفظ الترمذي ( ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة )١ قال الترمذي قال بعض أهل العلم في تفسيره معناه أن الفرش في الدرجات كما بين السماء والأرض، أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة في قوله تعالى :﴿ وفرش مرفوعة ٣٤ ﴾ قال : لو أن أعلاها سقط ما بلغ أسفلها أربعين خريفا وأخرج الطبراني عنه مرفوعا ( لو طرح منها فراش من أعلاها لهوى إلى قرارها مائة خريف ) قال البغوي قال ابن عباس ألواح السرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة ما لم يجيء أهلها فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها ثم يرتفع لي مواضعها.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة ثياب أهل الجنة (٢٥٤٠)..
﴿ وأكواب ﴾ جمع كوب أخرج هناد عن مجاهد قال : التي ليست لها أذن يعني لا عروة له ﴿ موضوعة ﴾ على حافة العيون معدة للشرب.
﴿ ونمارق ﴾ جمع نمرقة بالفتح والضم ﴿ مصفوفة ﴾ بعضها إلى جنب بعضها أيما أراد أن يجلس جلس واستند.
﴿ وزرابي ﴾ بسط عريضة فاخرة جمع زربية ﴿ مبثوثة ﴾ مبسوطة أو متفرقة في المجالس.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : لما نعت الله ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فكذبوه فأنزل الله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ١٧ وإلى السماء كيف رفعت ١٨ وإلى الجبال كيف نصبت ١٩ وإلى الأرض كيف سطحت ٢٠ فذكر إنما أنت مذكر ٢١ لست عليهم بمصيطر ٢٢ إلا من تولى وكفر ٢٣ فيعذبه الله العذاب الأكبر ٢٤ إن إلينا إيابهم ٢٥ ثم عن علينا حسابهم ٢٦ ﴾
﴿ أفلا ينظرون ﴾ قال صاحب المدارك لما أنزل الله فيها سرر مرفوعة الخ وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن ارتفاع السرائر كذا والأكواب الموضوعة لا تدخل في حساب الخلق لكثرتها وطول النمارق كذا وعرض الزرابي كذا أنكر الكفار، وقالوا كيف يصعد على تلك السرر وكيف يكثر الأكواب هذه الكثرة وطول النمارق هذا الطول وبسط الزرابي هذا الانبساط ولم تشاهد ذلك في الدنيا قال الله تعالى :﴿ أفلا ينظرون ﴾ نظر اعتبار استفهام للتوبيخ والفاء لعطف والمعطوف عليه محذوف تقديره تعجبون ويغفلون أفلا ينظرون ﴿ إلى الإبل كيف خلقت ﴾ طويلة ثم يبرك لركوب لم تقوم فكذا سرر يطأطأ للمؤمنين كما يطأطأ الإبل.
﴿ وإلى السماء كيف رفعت ١٨ ﴾ رفعا بعيدا ونجومها تكثير هذه الكثيرة فلا يدخل في حساب الخلق فكذا الأكواب.
﴿ وإلى الجبال كيف نصبت ١٩ ﴾ راسخة لا تميل مع طولها فكذا النمارق.
﴿ وإلى الأرض كيف سطحت ٢٠ ﴾ سطحا مستويا واحدا فكذا الزرابي ويجوز أن يكون المعنى أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات الشاهد على كمال قدرة الخالق فيستدلوا به على اقتداره على البعث فيسمعوا إلى أخبار مخبر الصادق الصدوق بشهادة المعجزات وليؤمنوا به ويستعدوا للغاية وتخصيص الإبل من المركبات والثلاثة من البسائط لأن الخطاب للعرب والمراد إنما يستدل به بما يكثر مشاهدته والعرب تكون في البوادي ونظرهم فيها إلى السماء والأرض والجبال والإبل كان الإبل أعز أموالهم وهم لها أكثر استعمالا منهم لسائر الحيوانات وهي تجمع جميع المآرب المطلوبة من الحيوان من النسل والدر والحمل والركب والأكل بخلاف غيرها فقال أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت خلقا دالا على كمال قدرته وحسن تدبيره حيث جعلها مع عظمها باركة للحمل ناهضة بالحمل منقادة من أقوادها طويلة الأعناق ليتناول الأوراق من الأشجار ولترعى كل نابت ويحتمل العطش إلى عشرة فصاعدا ليتأتي بها قطع البوادي، وقيل : المراد بالإبل السحاب قال في القاموس الإبل بكسرتين ويسكن بالمعروف السحاب الذي يحمل ماء المطر والله تعالى أعلم عن ابن عباس قال : هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل وليرفع مثل السماء وينصب مثل الجبال ويسطح مثل الأرض غبرى.
﴿ فذكر ﴾ لهم بالأدلة ليتفكروا فيها ولتهتم ﴿ إنما أنت مذكر ﴾ تعليل للتذكير أي ليس عليك إن لم ينظروا ولم يذكروا إنما أنت عليك البلاغ.
﴿ لست عليهم بمصيطر ٢٢ ﴾ تأكيد لمضمون إنما أنت مذكر قرأ هشام بمسيطر بالسين وحمزة بخلاف عنه والباقون بالصاد خالصة أي لست بمسلط عليهم قائم وحافظ عليهم كما في قوله تعالى :﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾١.
١ سورة ق، الآية: ٤٥..
﴿ إلا من تولى ﴾ عن الإيمان وكفر بالله استثناء منقطع معنى لكن والخبر محذوف يعني لكن من تولى منهم ﴿ وكفر ﴾ فالله مسلط قاهر عليه.
﴿ فيعذبه الله العذاب الأكبر ٢٤ ﴾ بالنار في الآخرة وقيل : استثناء متصل كأنه أوعد بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، وقيل : استثناء متصل من الضمير المنصوب المحذوف في قوله تعالى ﴿ فذكر ﴾ يعني فذكرهم إلا من تولى منهم وكفر وآخر طلبه بحيث انقطع طمعك في إيمانه وما بينهما إعراض.
﴿ إن إلينا إيابهم ٢٥ ﴾ رجوعهم وتقديم الظرف لتشديد الوعيد يعني ليس إيابهم إلا إلى جبارقها متعذر على الانتقام
﴿ ثم إن علينا حسابهم ٢٦ ﴾ فنحاسبهم ونجازيهم على حسب غلوهم في الكفر وعلى في الأصل للوجوب واستعير ها هنا لتأكيد الوعيد إذ لا يجب على الله شيء فإن الوجوب ينافي الألوهية، والله تعالى أعلم.
Icon