تفسير سورة الفجر

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

وَالْفَجْرِ
أَقْسَمَ بِالْفَجْرِ.
" وَلَيَالٍ عَشْرٍ.
وَالشَّفْع وَالْوَتْر.
وَاللَّيْل إِذَا يَسْرِ " أَقْسَام خَمْسَة.
وَاخْتُلِفَ فِي " الْفَجْر "، فَقَالَ قَوْم : الْفَجْر هُنَا : اِنْفِجَار الظُّلْمَة عَنْ النَّهَار مِنْ كُلّ يَوْم قَالَهُ عَلِيّ وَابْن الزُّبَيْر وَابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّهُ النَّهَار كُلّه، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفَجْرِ ; لِأَنَّهُ أَوَّله.
وَقَالَ اِبْن مُحَيْصِن عَنْ عَطِيَّة عَنْ اِبْن عَبَّاس : يَعْنِي الْفَجْر يَوْم الْمُحَرَّم.
وَمِثْله قَالَ قَتَادَة.
قَالَ : هُوَ فَجْر أَوَّل يَوْم مِنْ الْمُحَرَّم، مِنْهُ تَنْفَجِر السَّنَة.
وَعَنْهُ أَيْضًا : صَلَاة الصُّبْح.
وَرَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ :" وَالْفَجْر " : يُرِيد صَبِيحَة يَوْم النَّحْر ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَ لِكُلِّ يَوْم لَيْلَة قَبْله إِلَّا يَوْم النَّحْر لَمْ يَجْعَل لَهُ لَيْلَة قَبْله وَلَا لَيْلَة بَعْده ; لِأَنَّ يَوْم عَرَفَة لَهُ لَيْلَتَانِ : لَيْلَة قَبْله وَلَيْلَة بَعْده، فَمَنْ أَدْرَكَ الْمَوْقِف لَيْلَة بَعْد عَرَفَة، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجّ إِلَى طُلُوع الْفَجْر، فَجْر يَوْم النَّحْر.
وَهَذَا قَوْل مُجَاهِد.
وَقَالَ عِكْرِمَة :" وَالْفَجْر " قَالَ : اِنْشِقَاق الْفَجْر مِنْ يَوْم جَمْع.
وَعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ :" وَالْفَجْر " آخِر أَيَّام الْعَشْر، إِذَا دَفَعْت مِنْ جَمْع.
وَلَيَالٍ عَشْرٍ
قَالَ الضَّحَّاك : فَجْر ذِي الْحِجَّة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَرَنَ الْأَيَّام بِهِ فَقَالَ :" وَلَيَالٍ عَشْر " أَيْ لَيَالٍ عَشْر مِنْ ذِي الْحِجَّة.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ فِي قَوْله :" وَلَيَالٍ عَشْر " هُوَ عَشْر ذِي الْحِجَّة، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ مَسْرُوق هِيَ الْعَشْر الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه فِي قِصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام " وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ " [ الْأَعْرَاف : ١٤٢ ]، وَهِيَ أَفْضَل أَيَّام السَّنَة.
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْر عَنْ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( " وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْر " - قَالَ : عَشْر الْأَضْحَى ) فَهِيَ لَيَالٍ عَشْر عَلَى هَذَا الْقَوْل ; لِأَنَّ لَيْلَة يَوْم النَّحْر دَاخِلَة فِيهِ، إِذْ قَدْ خَصَّهَا اللَّه بِأَنْ جَعَلَهَا مَوْقِفًا لِمَنْ لَمْ يُدْرِك الْوُقُوف يَوْم عَرَفَة.
وَإِنَّمَا نُكِّرَتْ وَلَمْ تُعَرَّف لِفَضِيلَتِهَا عَلَى غَيْرهَا، فَلَوْ عُرِّفَتْ لَمْ تُسْتَقْبَل بِمَعْنَى الْفَضِيلَة الَّذِي فِي التَّنْكِير، فَنُكِّرَتْ مِنْ بَيْن مَا أَقْسَمَ بِهِ، لِلْفَضِيلَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : هِيَ الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان وَقَالَهُ الضَّحَّاك.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَيَمَان وَالطَّبَرِيّ : هِيَ الْعَشْر الْأَوَّل مِنْ الْمُحَرَّم، الَّتِي عَاشِرُهَا يَوْم عَاشُورَاء.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس " وَلَيَالِ عَشْرٍ " ( بِالْإِضَافَةِ ) يُرِيد : وَلَيَالِي أَيَّام عَشْر.
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ
الشَّفْع : الِاثْنَانِ، وَالْوَتْر : الْفَرْد.
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ عِمْرَان بْن الْحُصَيْن عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ ( الشَّفْع وَالْوَتْر : الصَّلَاة، مِنْهَا شَفْع، وَمِنْهَا وَتْر ).
وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه : قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( " وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْر " - قَالَ : هُوَ الصُّبْح، وَعَشْر النَّحْر، وَالْوَتْر يَوْم عَرَفَة، وَالشَّفْع : يَوْم النَّحْر ).
وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة.
وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس، وَقَالَ : حَدِيث أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر هُوَ الَّذِي صَحَّ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَصَحّ إِسْنَادًا مِنْ حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْن.
فَيَوْم عَرَفَة وَتْر ; لِأَنَّهُ تَاسِعُهَا، وَيَوْم النَّحْر شَفْع ; لِأَنَّهُ عَاشِرهَا.
وَعَنْ أَبِي أَيُّوب قَالَ : سُئِلَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى :" وَالشَّفْع وَالْوَتْر " فَقَالَ :( الشَّفْع : يَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر، وَالْوَتْر لَيْلَة يَوْم النَّحْر ).
وَقَالَ مُجَاهِد وَابْن عَبَّاس أَيْضًا : الشَّفْع خَلْقُهُ، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا " [ النَّبَأ : ٨ ] وَالْوَتْر هُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
فَقِيلَ لِمُجَاهِدٍ : أَتَرْوِيهِ عَنْ أَحَد ؟ قَالَ : نَعَمْ، عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ، عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَنَحْوه قَالَ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَمَسْرُوق وَأَبُو صَالِح وَقَتَادَة، قَالُوا : الشَّفْع : الْخَلْق، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَمَنْ كُلّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ " [ الذَّارِيَات : ٤٩ ] : الْكُفْر وَالْإِيمَان.
، وَالشَّقَاوَة وَالسَّعَادَة، وَالْهُدَى وَالضَّلَال، وَالنُّور وَالظُّلْمَة، وَاللَّيْل وَالنَّهَار، وَالْحَرّ وَالْبَرْد، وَالشَّمْس وَالْقَمَر، وَالصَّيْف وَالشِّتَاء، وَالسَّمَاء وَالْأَرْض، وَالْجِنّ وَالْإِنْس.
وَالْوَتْر : هُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ :" قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد.
اللَّه الصَّمَد " [ الْإِخْلَاص : ٢ ].
وَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اِسْمًا، وَاَللَّه وَتْر يُحِبّ الْوَتْر ).
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : الشَّفْع : صَلَاة الصُّبْح " وَالْوَتْر : صَلَاة الْمَغْرِب.
وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس وَأَبُو الْعَالِيَة : هِيَ صَلَاة الْمَغْرِب، الشَّفْع فِيهَا رَكْعَتَانِ، وَالْوَتْر الثَّالِثَة.
وَقَالَ اِبْن الزُّبَيْر : الشَّفْع : يَوْمَا مِنًى : الْحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرَ.
وَالثَّالِث عَشَرَ الْوَتْر قَالَ اللَّه تَعَالَى :" فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ ".
وَقَالَ الضَّحَّاك : الشَّفْع : عَشْر ذِي الْحِجَّة، وَالْوَتْر : أَيَّام مِنًى الثَّلَاثَة.
وَهُوَ قَوْل عَطَاء.
وَقِيلَ : إِنَّ الشَّفْع وَالْوَتْر : آدَم وَحَوَّاء ; لِأَنَّ آدَم كَانَ فَرْدًا فَشُفِعَ بِزَوْجَتِهِ حَوَّاء، فَصَارَ شَفْعًا بَعْد وَتْر.
رَوَاهُ اِبْن أَبِي نَجِيح، وَحَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَفِي رِوَايَة : الشَّفْع : آدَم وَحَوَّاء، وَالْوَتْر هُوَ اللَّه تَعَالَى.
وَقِيلَ : الشَّفْع وَالْوَتْر : الْخَلْق ; لِأَنَّهُمْ شَفْع وَوَتْر، فَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالْخَلْقِ.
وَقَدْ يُقْسِم اللَّه تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاته لِعِلْمِهِ، وَيُقْسِم بِأَفْعَالِهِ لِقُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :" وَمَا خَلَقَ الذَّكَر وَالْأُنْثَى " [ اللَّيْل : ٣ ].
وَيُقْسِم بِمَفْعُولَاتِهِ، لِعَجَائِب صُنْعه كَمَا قَالَ :" وَالشَّمْس وَضُحَاهَا "، " وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا " [ الشَّمْس : ٥ ]، " وَالسَّمَاء وَالطَّارِق " [ الطَّارِق : ١ ].
وَقِيلَ : الشَّفْع : دَرَجَات الْجَنَّة، وَهِيَ ثَمَان.
وَالْوَتْر، دِرْكَات النَّار ; لِأَنَّهَا سَبْعَة.
وَهَذَا قَوْل الْحُسَيْن بْن الْفَضْل كَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّار.
وَقِيلَ : الشَّفْع : الصَّفَا وَالْمَرْوَة، وَالْوَتْر : الْكَعْبَة.
وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّانَ : الشَّفْع : الْأَيَّام وَاللَّيَالِي، وَالْوَتْر : الْيَوْم الَّذِي لَا لَيْلَة بَعْده، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : الْوَتْر : هُوَ اللَّه، وَهُوَ الشَّفْع أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" مَا يَكُون مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعهمْ " [ الْمُجَادَلَة : ٧ ].
وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : الشَّفْع : تَضَادُّ أَوْصَاف الْمَخْلُوقِينَ : الْعِزّ وَالذُّلّ، وَالْقُدْرَة وَالْعَجْز، وَالْقُوَّة وَالضَّعْف، وَالْعِلْم وَالْجَهْل، وَالْحَيَاة وَالْمَوْت، وَالْبَصَر وَالْعَمَى، وَالسَّمْع وَالصَّمَم، وَالْكَلَام وَالْخَرَس.
وَالْوَتْر : اِنْفِرَاد صِفَات اللَّه تَعَالَى : عِزٌّ بِلَا ذُلّ، وَقُدْرَة بِلَا عَجْز، وَقُوَّة بِلَا ضَعْف، وَعِلْم بِلَا جَهْل، وَحَيَاة بِلَا مَوْت، وَبَصَر بِلَا عَمَى، وَكَلَام بِلَا خَرَس، وَسَمْع بِلَا صَمَم، وَمَا وَازَاهَا.
وَقَالَ الْحَسَن : الْمُرَاد بِالشَّفْعِ وَالْوَتْر : الْعَدَد كُلّه ; لِأَنَّ الْعَدَد لَا يَخْلُو عَنْهُمَا، وَهُوَ إِقْسَام بِالْحِسَابِ.
وَقِيلَ : الشَّفْع : مَسْجِدَيْ مَكَّة وَالْمَدِينَة، وَهُمَا الْحَرَمَانِ.
وَالْوَتْر : مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس.
وَقِيلَ : الشَّفْع : الْقَرْن بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة، أَوْ التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ.
وَالْوَتْر : الْإِفْرَاد فِيهِ.
وَقِيلَ : الشَّفْع : الْحَيَوَان ; لِأَنَّهُ ذَكَر وَأُنْثَى.
وَالْوَتْر : الْجَمَاد.
وَقِيلَ : الشَّفْع : مَا يَنْمَى، وَالْوَتْر : مَا لَا يَنْمَى.
وَقِيلَ غَيْر هَذَا.
وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَأَصْحَابه وَالْكِسَائِيّ وَحَمْزَة وَخَلَف " وَالْوِتْر " بِكَسْرِ الْوَاو.
وَالْبَاقُونَ ( بِفَتْحِ الْوَاو )، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد.
وَفِي الصِّحَاح : الْوِتْر ( بِالْكَسْرِ ) : الْفَرْد، وَالْوَتْر ( بِفَتْحِ الْوَاو ) : الذَّحْل.
هَذِهِ لُغَة أَهْل الْعَالِيَة.
فَأَمَّا لُغَة أَهْل الْحِجَاز فَبِالضِّدِّ مِنْهُمْ.
فَأَمَّا تَمِيم فَبِالْكَسْرِ فِيهِمَا.
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي
وَهَذَا قَسَم خَامِس.
وَبَعْدَمَا أَقْسَمَ بِاللَّيَالِيِ الْعَشْر عَلَى الْخُصُوص، أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ عَلَى الْعُمُوم.
وَمَعْنَى " يَسْرِي " أَيْ يُسْرَى فِيهِ كَمَا يُقَال : لَيْل نَائِم، وَنَهَار صَائِم.
قَالَ :
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى وَنِمْت وَمَا لَيْل الْمَطِيِّ بِنَائِمِ
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" بَلْ مَكْر اللَّيْل وَالنَّهَار " [ سَبَأ : ٣٣ ].
وَهَذَا قَوْل أَكْثَر أَهْل الْمَعَانِي، وَهُوَ قَوْل الْقُتَبِيّ وَالْأَخْفَش.
وَقَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : مَعْنَى " يَسْرِي " : سَارَ فَذَهَبَ.
وَقَالَ قَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة : جَاءَ وَأَقْبَلَ.
وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيم :" وَاللَّيْل إِذَا يَسْرِ " قَالَ : إِذَا اِسْتَوَى.
وَقَالَ عِكْرِمَة وَالْكَلْبِيّ وَمُجَاهِد وَمُحَمَّد بْن كَعْب فِي قَوْله :" وَاللَّيْل " : هِيَ لَيْلَة الْمُزْدَلِفَة خَاصَّة لِاخْتِصَاصِهَا بِاجْتِمَاعِ النَّاس فِيهَا لِطَاعَةِ اللَّه.
وَقِيلَ : لَيْلَة الْقَدْر لِسَرَايَةِ الرَّحْمَة فِيهَا، وَاخْتِصَاصهَا بِزِيَادَةِ الثَّوَاب فِيهَا.
وَقِيلَ : إِنَّهُ أَرَادَ عُمُوم اللَّيْل كُلّه.
قُلْت : وَهُوَ الْأَظْهَر، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن وَيَعْقُوب " يَسْرِي " بِإِثْبَاتِ الْيَاء فِي الْحَالَيْنِ، عَلَى الْأَصْل ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَجْزُومَةٍ، فَثَبَتَتْ فِيهَا الْيَاء.
وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو بِإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْل، وَبِحَذْفِهَا فِي الْوَقْف، وَرُوِيَ عَنْ الْكِسَائِيّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْد : كَانَ الْكِسَائِيّ يَقُول مَرَّة بِإِثْبَاتِ الْيَاء فِي الْوَصْل، وَبِحَذْفِهَا فِي الْوَقْف، اِتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ.
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَذْف الْيَاء فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ; لِأَنَّهُ رَأْس آيَة، وَهِيَ قِرَاءَة أَهْل الشَّام وَالْكُوفَة، وَاخْتِيَار أَبِي عُبَيْد، اِتِّبَاعًا لِلْخَطِّ ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي الْمُصْحَف بِغَيْرِ يَاء.
قَالَ الْخَلِيل : تَسْقُط الْيَاء مِنْهَا اِتِّفَاقًا لِرُءُوسِ الْآي.
قَالَ الْفَرَّاء : قَدْ تَحْذِف الْعَرَب الْيَاء، وَتَكْتَفِي بِكَسْرِ مَا قَبْلهَا.
وَأَنْشَدَ بَعْضهمْ :
كَفَّاك كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمًا جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا
يُقَال : فُلَان مَا يُلِيق دِرْهَمًا مِنْ جُودِهِ أَيْ مَا يُمْسِكُهُ، وَلَا يَلْصَق بِهِ.
وَقَالَ الْمُؤَرِّج : سَأَلْت الْأَخْفَش عَنْ الْعِلَّة فِي إِسْقَاط الْيَاء مِنْ " يَسْرِ " فَقَالَ : لَا أُجِيبك حَتَّى تَبِيت عَلَى بَاب دَارِي سَنَة، فَبِتّ عَلَى بَاب دَاره سَنَة فَقَالَ : اللَّيْل لَا يَسْرِي وَإِنَّمَا يُسْرَى فِيهِ فَهُوَ مَصْرُوف، وَكُلّ مَا صَرَفْته عَنْ جِهَته بَخَسْته مِنْ إِعْرَابه أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى :" وَمَا كَانَتْ أُمُّك بَغِيًّا " [ مَرْيَم : ٢٨ ]، لَمْ يَقُلْ بَغِيَّة ; لِأَنَّهُ صَرَفَهَا عَنْ بَاغِيَة.
الزَّمَخْشَرِيّ : وَيَاء " يَسْرِي " تُحْذَف فِي الدَّرَج، اِكْتِفَاء عَنْهَا بِالْكَسْرَةِ، وَأَمَّا فِي الْوَقْف فَتُحْذَف مَعَ الْكَسْرَة.
وَهَذِهِ الْأَسْمَاء كُلّهَا مَجْرُورَة بِالْقَسَمِ، وَالْجَوَاب مَحْذُوف، وَهُوَ لَيُعَذَّبَنَّ يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى :" أَلَمْ تَرَ كَيْف فَعَلَ رَبّك " إِلَى قَوْله تَعَالَى " فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبّك سَوْط عَذَاب " [ الْفَجْر :
٦ - ١٣ ].
وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ هُوَ " إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ " [ الْفَجْر : ١٤ ].
هَلْ فِي ذَلِكَ
وَقَالَ مُقَاتِل :" هَلْ " هُنَا فِي مَوْضِع إِنَّ تَقْدِيره : إِنَّ فِي ذَلِكَ قَسَمًا لِذِي حِجْر.
فَ " هَلْ " عَلَى هَذَا، فِي مَوْضِع جَوَاب الْقَسَم.
وَقِيلَ : هِيَ عَلَى بَابهَا مِنْ الِاسْتِفْهَام الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْرِير كَقَوْلِك : أَلَمْ أُنْعِم عَلَيْك إِذَا كُنْت قَدْ أَنْعَمْت.
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِذَلِكَ التَّأْكِيد لِمَا أَقْسَمَ بِهِ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى " : بَلْ فِي ذَلِكَ مَقْنَع لِذِي حِجْر.
وَالْجَوَاب عَلَى هَذَا :" إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ " [ الْفَجْر : ١٤ ].
أَوْ مُضْمَر مَحْذُوف.
قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ
أَيْ لِذِي لُبّ وَعَقْل.
قَالَ الشَّاعِر :
وَكَيْف يُرْجَى أَنْ تَتُوبَ وَإِنَّمَا يُرْجَى مِنْ الْفَتَيَانِ مَنْ كَانَ ذَا حِجْرِ
كَذَا قَالَ عَامَّة الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا أَنَّ أَبَا مَالِك قَالَ :" لِذِي حِجْر " : لِذِي سِتْر مِنْ النَّاس.
وَقَالَ الْحَسَن : لِذِي حِلْم.
قَالَ الْفَرَّاء : الْكُلّ يَرْجِع إِلَى مَعْنًى وَاحِد : لِذِي حِجْر، وَلِذِي عَقْل، وَلِذِي حِلْم، وَلِذِي سِتْر الْكُلّ بِمَعْنَى الْعَقْل.
وَأَصْل الْحِجْر : الْمَنْع.
يُقَال لِمَنْ مَلَكَ نَفْسه وَمَنَعَهَا : إِنَّهُ لَذُو حِجْر وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَجَر، لِامْتِنَاعِهِ بِصَلَابَتِهِ : وَمِنْهُ حَجَرَ الْحَاكِم عَلَى فُلَان، أَيْ مَنَعَهُ وَضَبَطَهُ عَنْ التَّصَرُّف وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْحُجْرَة حُجْرَة، لِامْتِنَاعِ مَا فِيهَا بِهَا.
وَقَالَ الْفَرَّاء : الْعَرَب تَقُول : إِنَّهُ لِذُو حِجْر : إِذَا كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ، ضَابِطًا لَهَا كَأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ حَجَرْت عَلَى الرَّجُل.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
" رَبّك " أَيْ مَالِكُك وَخَالِقُك.
" بِعَادٍ " قِرَاءَة الْعَامَّة " بِعَادٍ " مُنَوَّنًا.
وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو الْعَالِيَة " بِعَادٍ إِرَم " مُضَافًا.
فَمَنْ لَمْ يُضِفْ جَعَلَ " إِرَم " اِسْمه، وَلَمْ يَصْرِفْهُ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ عَادًا اِسْم أَبِيهِمْ، وَإِرَم اِسْم الْقَبِيلَة وَجَعَلَهُ بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ عَطْف بَيَان.
وَمَنْ قَرَأَهُ بِالْإِضَافَةِ وَلَمْ يَصْرِفْهُ جَعَلَهُ اِسْم أُمّهمْ، أَوْ اِسْم بَلْدَتهمْ.
وَتَقْدِيره : بِعَادٍ أَهْل إِرَم.
كَقَوْلِهِ :" وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : ٨٢ ] وَلَمْ تَنْصَرِفْ - قَبِيلَة كَانَتْ أَوْ أَرْضًا - لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيث.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " إِرَم " بِكَسْرِ الْهَمْزَة.
وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا " بِعَادَ إِرَمَ " مَفْتُوحَتَيْنِ، وَقُرِئَ " بِعَادَ إِرْم " بِسُكُونِ الرَّاء، عَلَى التَّخْفِيف كَمَا قُرِئَ " بِوَرْقِكُمْ ".
وَقُرِئَ " بِعَادٍ إِرَمِ ذَات الْعِمَاد " بِإِضَافَةِ " إِرَم " - إِلَى - " ذَات الْعِمَاد ".
وَالْإِرَم : الْعَلَم.
أَيْ بِعَادٍ أَهْل ذَات الْعَلَم.
وَقُرِئَ " بِعَادٍ إِرَمَ ذَات الْعِمَاد " أَيْ جَعَلَ اللَّه ذَات الْعِمَاد رَمِيمًا.
وَقَرَأَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة " أَرَمَ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة.
قَالَ مُجَاهِد : مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة شَبَّهَهُمْ بِالْآرَامِ، الَّتِي هِيَ الْأَعْلَام، وَاحِدهَا : أَرَم.
وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير أَيْ وَالْفَجْر وَكَذَا وَكَذَا إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ أَلَمْ تَرَ.
أَيْ أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمك إِلَى مَا فَعَلَ رَبّك بِعَادٍ.
وَهَذِهِ الرُّؤْيَة رُؤْيَة الْقَلْب، وَالْخِطَاب لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَاد عَامّ.
وَكَانَ أَمْر عَادَ وَثَمُود عِنْدهمْ مَشْهُورًا إِذْ كَانُوا فِي بِلَاد الْعَرَب، وَحِجْر ثَمُود مَوْجُود الْيَوْم.
وَأَمْر فِرْعَوْن كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ جِيرَانهمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب، وَاسْتَفَاضَتْ بِهِ الْأَخْبَار، وَبِلَاد فِرْعَوْن مُتَّصِلَة بِأَرْضِ الْعَرَب.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَة " الْبُرُوج " وَغَيْرهَا " بِعَادٍ " أَيْ بِقَوْمِ عَادٍ.
فَرَوَى شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : إِنْ كَانَ الرَّجُل مِنْ قَوْم عَادٍ لَيَتَّخِذ الْمِصْرَاع مِنْ حِجَارَة، وَلَوْ اِجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُقِلُّوهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدهمْ لَيُدْخِل قَدَمَهُ فِي الْأَرْض فَتَدْخُل فِيهَا.
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ
" إِرَم " قِيلَ هُوَ سَام بْن نُوح قَالَهُ اِبْن إِسْحَاق.
وَرَوَى عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس - وَحَكَى عَنْ اِبْن إِسْحَاق أَيْضًا - قَالَ : عَادَ بْن إِرَم.
فَإِرَم عَلَى هَذَا أَبُو عَادٍ، وَعَاد بْن إِرَم بْن عَوْص بْن سَام بْن نُوح.
وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل : هُوَ اِسْم جَدّ عَادٍ.
قَالَ اِبْن إِسْحَاق : كَانَ سَام بْن نُوح لَهُ أَوْلَاد، إِرَم بْن سَام، وَأَرْفَخْشَذ بْن سَام.
فَمِنْ وَلَد إِرَم بْن سَام الْعَمَالِقَة وَالْفَرَاعِنَة وَالْجَبَابِرَة وَالْمُلُوك الطُّغَاة وَالْعُصَاة.
وَقَالَ مُجَاهِد :" إِرَم " أُمَّة مِنْ الْأُمَم.
وَعَنْهُ أَيْضًا : أَنَّ مَعْنَى إِرَم : الْقَدِيمَة، وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي نَجِيح.
وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهَا الْقَوِيَّة.
وَقَالَ قَتَادَة : هِيَ قَبِيلَة مِنْ عَادٍ.
وَقِيلَ : هُمَا عَادَانِ.
فَالْأُولَى هِيَ إِرَم قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى " [ النَّجْم : ٥٠ ].
فَقِيلَ لِعَقِبِ عَاد بْن عَوْص بْن إِرَم بْن سَام بْن نُوح : عَاد كَمَا يُقَال لِبَنِي هَاشِم : هَاشِم.
ثُمَّ قِيلَ لِلْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ : عَادٌ الْأُولَى، وَإِرَم : تَسْمِيَة لَهُمْ بِاسْمِ جَدّهمْ.
وَلِمَنْ بَعْدهمْ : عَاد الْأَخِيرَة.
قَالَ اِبْن الرُّقَيَّات :
مَجْدًا تَلِيدًا بَنَاهُ أَوَّلُهُمْ أَدْرَكَ عَادًا وَقَبْلَهُ إِرَمَا
وَقَالَ مَعْمَر :" إِرَم " : إِلَيْهِ مَجْمَع عَاد وَثَمُود.
وَكَانَ يُقَال : عَاد إِرَم، وَعَاد ثَمُود.
وَكَانَتْ الْقَبَائِل تَنْتَسِب إِلَى إِرَم.
" ذَات الْعِمَاد، الَّتِي لَمْ يُخْلَق مِثْلهَا فِي الْبِلَاد " قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة عَطَاء : كَانَ الرَّجُل مِنْهُمْ طُولُهُ خَمْسمِائَةِ ذِرَاع، وَالْقَصِير مِنْهُمْ طُوله ثَلَثمِائَةِ ذِرَاع بِذِرَاعِ نَفْسه.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّ طُول الرَّجُل مِنْهُمْ كَانَ سَبْعِينَ ذِرَاعًا.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ بَاطِل ; لِأَنَّ فِي الصَّحِيح :( إِنَّ اللَّه خَلَقَ آدَم طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي الْهَوَاء، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْق يَنْقُصُ إِلَى الْآن ).
وَزَعَمَ قَتَادَة : أَنَّ طُول الرَّجُل مِنْهُمْ اِثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة :" ذَات الْعِمَاد " ذَات الطُّول.
يُقَال : رَجُل مُعَمَّد إِذَا كَانَ طَوِيلًا.
وَنَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد.
وَعَنْ قَتَادَة أَيْضًا : كَانُوا عِمَادًا لِقَوْمِهِمْ يُقَال : فُلَان عَمِيد الْقَوْم وَعَمُودهمْ : أَيْ سَيِّدهمْ.
وَعَنْهُ أَيْضًا : قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ بِأَبْيَاتِهِمْ لِلِانْتِجَاعِ، وَكَانُوا أَهْل خِيَام وَأَعْمِدَة، يَنْتَجِعُونَ الْغُيُوث، وَيَطْلُبُونَ الْكَلَأ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى مَنَازِلهمْ.
وَقِيلَ :" ذَات الْعِمَاد " أَيْ ذَات الْأَبْنِيَة الْمَرْفُوعَة عَلَى الْعُمُد.
وَكَانُوا يَنْصِبُونَ الْأَعْمِدَة، فَيَبْنُونَ عَلَيْهَا الْقُصُور.
قَالَ اِبْن زَيْد :" ذَات الْعِمَاد " يَعْنِي إِحْكَام الْبُنْيَان بِالْعُمُدِ.
وَفِي الصِّحَاح : وَالْعِمَاد : الْأَبْنِيَة الرَّفِيعَة، تُذَكَّر وَتُؤَنَّث.
قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم :
وَنَحْنُ إِذَا عِمَادِ الْحَيِّ خَرَّتْ عَلَى الْأَحْفَاضِ نَمْنَعُ مَنْ يَلِينَا
وَالْوَاحِدَة عِمَادَة.
وَفُلَان طَوِيل الْعِمَاد : إِذَا كَانَ مَنْزِلُهُ مَعْلَمًا لِزَائِرِهِ.
وَالْأَحْفَاض : جَمْع حَفَض ( بِالتَّحْرِيكِ ) وَهُوَ مَتَاع الْبَيْت إِذَا هُيِّئَ لِيُحْمَل أَيْ خَرَّتْ عَلَى الْمَتَاع.
وَيُرْوَى " عَنْ الْأَحْفَاضِ " أَيْ خَرَّتْ عَنْ الْإِبِل الَّتِي تَحْمِل خُرْثِيَّ الْبَيْت.
وَقَالَ الضَّحَّاك :" ذَات الْعِمَاد " ذَات الْقُوَّة وَالشِّدَّة، مَأْخُوذ مِنْ قُوَّة الْأَعْمِدَة دَلِيله قَوْله تَعَالَى :" وَقَالُوا مَنْ أَشَدّ مِنَّا قُوَّة " [ فُصِّلَتْ : ١٥ ].
وَرَوَى عَوْف عَنْ خَالِد الرَّبْعِيّ " إِرَم ذَات الْعِمَاد " قَالَ : هِيَ دِمَشْق.
وَهُوَ قَوْل عِكْرِمَة وَسَعِيد الْمَقْبُرِيّ.
رَوَاهُ اِبْن وَهْب وَأَشْهَب عَنْ مَالِك.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة.
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ
الضَّمِير فِي " مِثْلهَا " يَرْجِع إِلَى الْقَبِيلَة.
أَيْ لَمْ يُخْلَق مِثْل الْقَبِيلَة فِي الْبِلَاد : قُوَّة وَشِدَّة، وَعِظَم أَجْسَاد، وَطُول قَامَة عَنْ الْحَسَن وَغَيْره.
وَفِي حَرْف عَبْد اللَّه " الَّتِي لَمْ يُخْلَق مِثْلهمْ فِي الْبِلَاد ".
وَقِيلَ : يَرْجِع لِلْمَدِينَةِ.
وَالْأَوَّل أَظْهَر، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَر، حَسَبَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَمَنْ جَعَلَ " إِرَم " مَدِينَة قَدَّرَ حَذْفًا الْمَعْنَى : كَيْف فَعَلَ رَبّك بِمَدِينَةِ عَادٍ إِرَم، أَوْ بَعْد صَاحِبه إِرَم.
وَإِرَم عَلَى هَذَا : مُؤَنَّثَة مَعْرِفَة.
وَاخْتَارَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنَّهَا دِمَشْق ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبِلَاد مِثْلهَا.
ثُمَّ أَخَذَ يَنْعَتُهَا بِكَثْرَةِ مِيَاهِهَا وَخَيْرَاتِهَا.
ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة لَعَجَائِبَ، لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْمَنَارَة، فَإِنَّهَا مَبْنِيَّة الظَّاهِر وَالْبَاطِن عَلَى الْعُمُد، وَلَكِنْ لَهَا أَمْثَال، فَأَمَّا دِمَشْق فَلَا مِثْل لَهَا.
وَقَدْ رَوَى مَعْن عَنْ مَالِك أَنَّ كِتَابًا وُجِدَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَلَمْ يُدْرَ مَا هُوَ ؟ فَإِذَا فِيهِ :" أَنَا شَدَّاد بْن عَادٍ، الَّذِي رَفَعَ الْعِمَاد، بَنَيْتهَا حِين لَا شَيْب وَلَا مَوْت ".
قَالَ مَالِك : إِنْ كَانَ لَتَمُرُّ بِهِمْ مِائَةُ سَنَة لَا يَرَوْنَ فِيهَا جِنَازَة.
وَذُكِرَ عَنْ ثَوْر بْن زَيْد أَنَّهُ قَالَ : أَنَا شَدَّاد بْن عَادٍ، وَأَنَا رَفَعْت الْعِمَاد، وَأَنَا الَّذِي شَدَدْت بِذِرَاعِي بَطْن الْوَاد، وَأَنَا الَّذِي كَنَزْت كَنْزًا عَلَى سَبْعَة أَذْرُعٍ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا أُمَّةُ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعَادٍ اِبْنَانِ : شَدَّاد وَشَدِيد فَمَلَكَا وَقَهَرَا، ثُمَّ مَاتَ شَدِيد، وَخَلَصَ الْأَمْر لِشَدَّادٍ فَمَلَكَ الدُّنْيَا، وَدَانَتْ لَهُ مُلُوكهَا فَسَمِعَ بِذِكْرِ الْجَنَّة، فَقَالَ : أَبْنِي مِثْلهَا.
فَبَنَى إِرَم فِي بَعْض صَحَارَى عَدَن، فِي ثَلَثمِائَةِ سَنَة، وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعمِائَةِ ٤ سَنَة.
وَهِيَ مَدِينَة عَظِيمَة، قُصُورهَا مِنْ الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَأَسَاطِينهَا مِنْ الزَّبَرْجَد وَالْيَاقُوت، وَفِيهَا أَصْنَاف الْأَشْجَار وَالْأَنْهَار الْمُطَّرِدَة.
وَلَمَّا تَمَّ بِنَاؤُهَا سَارَ إِلَيْهَا بِأَهْلِ مَمْلَكَته، فَلَمَّا كَانَ مِنْهَا عَلَى مَسِيرَة يَوْم وَلَيْلَة، بَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ صَيْحَة مِنْ السَّمَاء فَهَلَكُوا.
وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن قِلَابَةَ : أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَب إِبِل لَهُ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِمَّا ثَمَّ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ مُعَاوِيَة فَاسْتَحْضَرَهُ، فَقَصَّ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَى كَعْب فَسَأَلَهُ، فَقَالَ : هِيَ إِرَم ذَات الْعِمَاد، وَسَيَدْخُلُهَا رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِك، أَحْمَرُ أَشْقَرُ قَصِيرٌ، عَلَى حَاجِبه خَال، وَعَلَى عَقِبِهِ خَال، يَخْرُج فِي طَلَب إِبِل لَهُ ثُمَّ اِلْتَفَتَ فَأَبْصَرَ اِبْن قِلَابَةَ، وَقَالَ : هَذَا وَاَللَّه ذَلِكَ الرَّجُل.
وَقِيلَ : أَيْ لَمْ يُخْلَق مِثْل أَبْنِيَة عَادَ الْمَعْرُوفَة بِالْعُمُدِ.
فَالْكِنَايَة لِلْعِمَادِ.
وَالْعِمَاد عَلَى هَذَا جَمْع عُمُد.
وَقِيلَ : الْإِرَم : الْهَلَاك يُقَال : أَرِمَ بَنُو فُلَان : أَيْ هَلَكُوا وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَقَرَأَ الضَّحَّاك :" أَرَمَّ ذَاتَ الْعِمَاد " أَيْ أَهْلَكَهُمْ، فَجَعَلَهُمْ رَمِيمًا.
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي
ثَمُود : هُمْ قَوْم صَالِح.
و " جَابُوا " : قَطَعُوا.
وَمِنْهُ : فُلَان يَجُوب الْبِلَاد، أَيْ يَقْطَعهَا.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ جَيْب الْقَمِيص ; لِأَنَّهُ جَيْب أَيْ قَطْع.
قَالَ الشَّاعِر وَكَانَ قَدْ نَزَلَ عَلَى اِبْن الزُّبَيْر بِمَكَّة، فَكَتَبَ لَهُ بِسِتِّينَ وَسْقًا يَأْخُذهَا بِالْكُوفَةِ.
فَقَالَ :
رَاحَتْ رَوَاحًا قَلُوصِي وَهِيَ حَامِدَةٌ آلَ الزُّبَيْرِ وَلَمْ تَعْدِلْ بِهِمْ أَحَدًا
رَاحَتْ بِسِتِّينَ وَسْقًا فِي حَقِيبَتهَا مَا حَمَلَتْ حِمْلَهَا الْأَدْنَى وَلَا السَّدَدَا
مَا إِنْ رَأَيْت قَلُوصًا قَبْلهَا حَمَلَتْ سِتِّينَ وَسْقًا وَلَا جَابَتْ بِهِ بَلَدًا
أَيْ قَطَعَتْ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : أَوَّل مَنْ نَحَتَ الْجِبَال وَالصُّوَر وَالرُّخَام : ثَمُود.
فَبَنَوْا مِنْ الْمَدَائِن أَلْفًا وَسَبْعمِائَةِ مَدِينَة كُلّهَا مِنْ الْحِجَارَة.
وَمِنْ الدُّور وَالْمَنَازِل أَلْفَيْ أَلْف وَسَبْعُمِائَةِ أَلْف، كُلّهَا مِنْ الْحِجَارَة.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :" وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَال بُيُوتًا آمِنِينَ " [ الْحِجْر : ٨٢ ].
وَكَانُوا لِقُوَّتِهِمْ يُخْرِجُونَ الصُّخُور، وَيَنْقُبُونَ الْجِبَال، وَيَجْعَلُونَهَا بُيُوتًا لِأَنْفُسِهِمْ.
" بِالْوَادِي " أَيْ بِوَادِي الْقُرَى قَالَهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق.
وَرَوَى أَبُو الْأَشْهَب عَنْ أَبِي نَضْرَة قَالَ : أَتَى رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غُزَاة تَبُوك عَلَى وَادِي ثَمُود، وَهُوَ عَلَى فَرَس أَشْقَر، فَقَالَ :( أَسْرِعُوا السَّيْر، فَإِنَّكُمْ فِي وَادٍ مَلْعُون ).
وَقِيلَ : الْوَادِي بَيْن جِبَال، وَكَانُوا يَنْقُبُونَ فِي تِلْكَ الْجِبَال بُيُوتًا وَدُورًا وَأَحْوَاضًا.
وَكُلّ مُنْفَرَجٍ بَيْن جِبَال أَوْ تِلَال يَكُون مَسْلَكًا لِلسَّيْلِ وَمَنْفَذًا فَهُوَ وَادٍ.
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ
أَيْ الْجُنُود وَالْعَسَاكِر وَالْجُمُوع وَالْجُيُوش الَّتِي تَشُدّ مُلْكه قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَقِيلَ : كَانَ يُعَذِّب النَّاس بِالْأَوْتَادِ، وَيَشُدُّهُمْ بِهَا إِلَى أَنْ يَمُوتُوا تَجَبُّرًا مِنْهُ وَعُتُوًّا.
وَهَكَذَا فَعَلَ بِامْرَأَتِهِ آسِيَة وَمَاشِطَة اِبْنَتِهِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي آخِر سُورَة " التَّحْرِيم ".
وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد : كَانَتْ لَهُ صَخْرَة تُرْفَع بِالْبَكَرَاتِ، ثُمَّ يُؤْخَذ الْإِنْسَان فَتُوتَد لَهُ أَوْتَاد الْحَدِيد، ثُمَّ يُرْسِل تِلْكَ الصَّخْرَة عَلَيْهِ فَتَشْدَخُهُ.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " ص " مِنْ ذِكْر أَوْتَادِهِ مَا فِيهِ كِفَايَة.
وَالْحَمْد لِلَّهِ.
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ
يَعْنِي عَادًا وَثَمُودَ وَفِرْعَوْن " طَغَوْا " أَيْ تَمْرُدُوا وَعَتَوْا وَتَجَاوَزُوا الْقَدْر فِي الظُّلْم وَالْعُدْوَان.
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ
أَيْ الْجَوْر وَالْأَذَى.
و " الَّذِينَ طَغَوْا " أَحْسَن الْوُجُوه فِيهِ أَنْ يَكُون فِي مَحِلّ النَّصْب عَلَى الذَّمّ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَرْفُوعًا عَلَى : هُمْ الَّذِينَ طَغَوْا، أَوْ مَجْرُورًا عَلَى وَصْف الْمَذْكُورِينَ : عَاد، وَثَمُود، وَفِرْعَوْن.
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ
أَيْ أَفْرَغَ عَلَيْهِمْ وَأَلْقَى يُقَال : صَبَّ عَلَى فُلَان خُلْعَة، أَيْ أَلْقَاهَا عَلَيْهِ.
وَقَالَ النَّابِغَة :
سَوْطَ عَذَابٍ
أَيْ نَصِيب عَذَاب.
وَيُقَال : شِدَّته ; لِأَنَّ السَّوْط كَانَ عِنْدهمْ نِهَايَة مَا يُعَذَّب بِهِ.
قَالَ الشَّاعِر :
فَصَبَّ عَلَيْهِ اللَّهُ أَحْسَنَ صُنْعِهِ وَكَانَ لَهُ بَيْنَ الْبَرِيَّةِ نَاصِرَا
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّه أَظْهَرَ دِينَهُ وَصَبَّ عَلَى الْكُفَّار سَوْطَ عَذَابِ
وَقَالَ الْفَرَّاء : وَهِيَ كَلِمَة تَقُولهَا الْعَرَب لِكُلِّ نَوْع مِنْ أَنْوَاع الْعَذَاب.
وَأَصْل ذَلِكَ أَنَّ السَّوْط هُوَ عَذَابهمْ الَّذِي يُعَذَّبُونَ بِهِ، فَجَرَى لِكُلِّ عَذَاب إِذْ كَانَ فِيهِ عِنْدهمْ غَايَة الْعَذَاب.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ عَذَاب يُخَالِط اللَّحْم وَالدَّم مِنْ قَوْلهمْ : سَاطَهُ يَسُوطهُ سَوْطًا أَيْ خَلَطَهُ، فَهُوَ سَائِط.
فَالسَّوْط : خَلْط الشَّيْءِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمِسْوَاط.
وَسَاطَهُ أَيْ خَلَطَهُ، فَهُوَ سَائِط، وَأَكْثَر ذَلِكَ يُقَال : سَوَّطَ فُلَان أُمُورَهُ.
قَالَ :
فَسُطْهَا ذَمِيمَ الرَّأْيِ غَيْرَ مُوَفَّقٍ فَلَسْت عَلَى تَسْوِيطِهَا بِمُعَانِ
قَالَ أَبُو زَيْد : يُقَال أَمْوَالهمْ سَوِيطَة بَيْنهمْ أَيْ مُخْتَلِطَة.
حَكَاهُ عَنْهُ يَعْقُوب.
وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ جَعَلَ سَوْطَهُمْ الَّذِي ضَرَبَهُمْ بِهِ الْعَذَاب.
يُقَال : سَاطَ دَابَّتَهُ يَسُوطُهَا أَيْ ضَرَبَهَا بِسَوْطِهِ.
وَعَنْ عَمْرو بْن عُبَيْد : كَانَ الْحَسَن إِذَا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَة قَالَ : إِنَّ عِنْد اللَّه أَسْوَاطًا كَثِيرَة، فَأَخَذَهُمْ بِسَوْطٍ مِنْهَا.
وَقَالَ قَتَادَة : كُلّ شَيْء عَذَّبَ اللَّه تَعَالَى بِهِ فَهُوَ سَوْط عَذَاب.
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
أَيْ يَرْصُد عَمَل كُلّ إِنْسَان حَتَّى يُجَازِيَهُ بِهِ قَالَهُ الْحَسَن وَعِكْرِمَة.
وَقِيلَ : أَيْ عَلَى طَرِيق الْعِبَاد لَا يَفُوتهُ أَحَد.
وَالْمَرْصَد وَالْمِرْصَاد : الطَّرِيق.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " التَّوْبَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ.
فَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِنَّ عَلَى جَهَنَّم سَبْعَ قَنَاطِرَ، يُسْأَل الْإِنْسَان عِنْد أَوَّل قَنْطَرَة عَنْ الْإِيمَان، فَإِنْ جَاءَ بِهِ تَامًّا جَازَ إِلَى الْقَنْطَرَة الثَّانِيَة، ثُمَّ يُسْأَل عَنْ الصَّلَاة، فَإِنْ جَاءَ بِهَا جَازَ إِلَى الثَّالِثَة، ثُمَّ يُسْأَل عَنْ الزَّكَاة، فَإِنْ جَاءَ بِهَا جَازَ إِلَى الرَّابِعَة.
ثُمَّ يُسْأَل عَنْ صِيَام شَهْر رَمَضَان، فَإِنْ جَاءَ بِهِ جَازَ إِلَى الْخَامِسَة.
ثُمَّ يُسْأَل عَنْ الْحَجّ وَالْعُمْرَة، فَإِنْ جَاءَ بِهِمَا جَازَ إِلَى السَّادِسَة.
ثُمَّ يُسْأَل عَنْ صِلَة الرَّحِم، فَإِنْ جَاءَ بِهَا جَازَ إِلَى السَّابِعَة.
ثُمَّ يُسْأَل عَنْ الْمَظَالِم، وَيُنَادِي مُنَادٍ : أَلَا مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ فَلْيَأْتِ فَيُقْتَصّ لِلنَّاسِ مِنْهُ، يُقْتَصّ لَهُ مِنْ النَّاس فَذَلِكَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ ".
وَقَالَ الثَّوْرِيّ :" لَبِالْمِرْصَادِ " يَعْنِي جَهَنَّم عَلَيْهَا ثَلَاث قَنَاطِر : قَنْطَرَة فِيهَا الرَّحِم، وَقَنْطَرَة فِيهَا الْأَمَانَة، وَقَنْطَرَة فِيهَا الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
قُلْت : أَيْ حِكْمَته وَإِرَادَته وَأَمْره.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس، أَيْضًا " لَبِالْمِرْصَادِ " أَيْ يَسْمَع وَيَرَى.
قُلْت : هَذَا قَوْل حَسَن " يَسْمَع " أَقْوَالهمْ وَنَجْوَاهُمْ، و " يَرَى " أَيْ يَعْلَم أَعْمَالهمْ وَأَسْرَارهمْ، فَيُجَازِي كَلَا بِعَمَلِهِ.
وَعَنْ بَعْض الْعَرَب أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَيْنَ رَبّك ؟ فَقَالَ : بِالْمِرْصَادِ.
وَعَنْ عَمْرو بْن عُبَيْد أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَة عِنْد الْمَنْصُور حَتَّى بَلَغَ هَذِهِ الْآيَة، فَقَالَ :" إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ " يَا أَبَا جَعْفَر قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : عَرَّضَ لَهُ فِي هَذَا النِّدَاء، بِأَنَّهُ بَعْض مَنْ تُوُعِّدَ بِذَلِكَ مِنْ الْجَبَابِرَة فَلِلَّهِ دَرُّهُ.
أَيّ أَسَد فَرَّاس كَانَ بَيْن يَدَيْهِ ؟ يَدُقّ الظَّلَمَة بِإِنْكَارِهِ، وَيَقْمَع أَهْل الْأَهْوَاء وَالْبِدَع بِاحْتِجَاجِهِ !
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ
يَعْنِي الْكَافِر.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد عُتْبَة بْن رَبِيعَة وَأَبَا حُذَيْفَة بْن الْمُغِيرَة.
وَقِيلَ : أُمَيَّة بْن خَلَف.
وَقِيلَ : أُبَيّ بْن خَلَف.
إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
أَيْ اِمْتَحَنَهُ وَاخْتَبَرَهُ بِالنِّعْمَةِ.
و " مَا " : زَائِدَة صِلَة.
فَأَكْرَمَهُ
بِالْمَالِ.
وَنَعَّمَهُ
بِمَا أَوْسَعَ عَلَيْهِ.
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي
فَيَفْرَح بِذَلِكَ وَلَا يَحْمَدهُ.
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ
أَيْ اِمْتَحَنَهُ بِالْفَقْرِ وَاخْتَبَرَهُ.
فَقَدَرَ
أَيْ ضَيَّقَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ
عَلَى مِقْدَار الْبُلْغَة.
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي
أَيْ أَوْلَانِي هَوَانًا.
وَهَذِهِ صِفَة الْكَافِر الَّذِي لَا يُؤْمِن بِالْبَعْثِ : وَإِنَّمَا الْكَرَامَة عِنْده وَالْهَوَان بِكَثْرَةِ الْحَظّ فِي الدُّنْيَا وَقِلَّته.
فَأَمَّا الْمُؤْمِن فَالْكَرَامَة عِنْده أَنْ يُكْرِمَهُ اللَّه بِطَاعَتِهِ وَتَوْفِيقه، الْمُؤَدِّي إِلَى حَظّ الْآخِرَة، وَإِنْ وَسَّعَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا حَمِدَهُ وَشَكَرَهُ.
قُلْت : الْآيَتَانِ صِفَة كُلّ كَافِر.
وَكَثِير مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَظُنّ أَنَّ مَا أَعْطَاهُ اللَّه لِكَرَامَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ عِنْد اللَّه، وَرُبَّمَا يَقُول بِجَهْلِهِ : لَوْ لَمْ أَسْتَحِقَّ هَذَا لَمْ يُعْطِنِيهِ اللَّه.
وَكَذَا إِنْ قَتَرَ عَلَيْهِ يَظُنّ أَنَّ ذَلِكَ لِهَوَانِهِ عَلَى اللَّه.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " فَقَدَرَ " مُخَفَّفَة الدَّال.
وَقَرَأَ اِبْن عَامِر مُشَدَّدًا، وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَالِاخْتِيَار التَّخْفِيف لِقَوْلِهِ :" وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ " [ الطَّلَاق : ٧ ].
قَالَ أَبُو عَمْرو :" قُدِرَ " أَيْ قُتِرَ.
و " قَدَّرَ " مُشَدَّدًا : هُوَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَكْفِيهِ، وَلَوْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ مَا قَالَ " رَبِّي أَهَانَنِ ".
وَقَرَأَ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرو " رَبِّيَ " بِفَتْحِ الْيَاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ.
وَأَثْبَتَ الْبَزِّيّ وَابْن مُحَيْصِن وَيَعْقُوب الْيَاء مِنْ " أَكْرَمَنِ "، و " أَهَانَنِ " فِي الْحَالَيْنِ ; لِأَنَّهَا اِسْم فَلَا تُحْذَف.
وَأَثْبَتَهَا الْمَدَنِيُّونَ فِي الْوَصْل دُون الْوَقْف، اِتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ.
وَخَيَّرَ أَبُو عَمْرو فِي إِثْبَاتهَا فِي الْوَصْل أَوْ حَذْفهَا ; لِأَنَّهَا رَأْس آيَة، وَحَذَفَهَا فِي الْوَقْف لِخَطِّ الْمُصْحَف.
الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِغَيْرِ يَاء، وَالسُّنَّة أَلَّا يُخَالَف خَطّ الْمُصْحَف ; لِأَنَّهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة.
كَلَّا
رَدٌّ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْر كَمَا يُظَنّ، فَلَيْسَ الْغِنَى لِفَضْلِهِ، وَلَا الْفَقْر لِهَوَانِهِ، وَإِنَّمَا الْفَقْر وَالْغِنَى مِنْ تَقْدِيرِي وَقَضَائِي.
وَقَالَ الْفَرَّاء :" كَلَّا " فِي هَذَا الْمَوْضِع بِمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُون هَكَذَا، وَلَكِنْ يَحْمَد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْغِنَى وَالْفَقْر.
وَفِي الْحَدِيث :( يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : كَلَّا إِنِّي لَا أُكْرِم مَنْ أَكْرَمْت بِكَثْرَةِ الدُّنْيَا، وَلَا أُهِينُ مَنْ أَهَنْت بِقِلَّتِهَا، إِنَّمَا أُكْرِم مَنْ أَكْرَمْت بِطَاعَتِي، وَأُهِينُ مَنْ أَهَنْت بِمَعْصِيَتِي ).
بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ
إِخْبَار عَنْ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ مِنْ مَنْع الْيَتِيم الْمِيرَاث، وَأَكْل مَالِهِ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب " يُكْرِمُونَ "، و " يَحُضُّونَ " و " يَأْكُلُونَ "، و " يُحِبُّونَ " بِالْيَاءِ ; لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْر الْإِنْسَان، وَالْمُرَاد بِهِ الْجِنْس، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْع.
الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِي الْأَرْبَعَة، عَلَى الْخِطَاب وَالْمُوَاجَهَة كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا.
وَتَرْك إِكْرَام الْيَتِيم بِدَفْعِهِ عَنْ حَقّه، وَأَكْل مَاله كَمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي قَدَامَة بْن مَظْعُون وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْر أُمَيَّة بْن خَلَف.
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
أَيْ لَا يَأْمُرُونَ أَهْلِيهِمْ بِإِطْعَامِ مِسْكِين يَجِيئُهُمْ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " وَلَا تَحَاضُّونَ " بِفَتْحِ التَّاء وَالْحَاء وَالْأَلِف.
أَيْ يَحُضُّ بَعْضهمْ بَعْضًا.
وَأَصْله تَتَحَاضُّونَ، فَحُذِفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهَا.
وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد.
وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيم وَالشَّيْزَرِيّ عَنْ الْكِسَائِيّ وَالسُّلَمِيّ " تُحَاضُّونَ " بِضَمِّ التَّاء، وَهُوَ تُفَاعِلُونَ مِنْ الْحَضّ، وَهُوَ الْحَثّ.
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ
أَيْ مِيرَاث الْيَتَامَى.
وَأَصْله الْوِرَاث مِنْ وَرِثْت، فَأَبْدَلُوا الْوَاو تَاء كَمَا قَالُوا فِي تُجَاه وَتُخَمَة وَتُكَأَة وَتُؤَدَة وَنَحْو ذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
أَكْلًا لَمًّا
أَيْ شَدِيدًا قَالَهُ السُّدِّيّ.
قِيلَ " لَمًّا " : جَمْعًا مِنْ قَوْلهمْ : لَمَمْت الطَّعَام لَمًّا إِذَا أَكَلْته جَمْعًا قَالَهُ الْحَسَن وَأَبُو عُبَيْدَة.
وَأَصْل اللَّمّ فِي كَلَام الْعَرَب : الْجَمْع يُقَال : لَمَمْت الشَّيْء أُلِمّهُ لَمًّا : إِذَا جَمَعْته، وَمِنْهُ يُقَال : لَمَّ اللَّه شَعَثَهُ، أَيْ جَمَعَ مَا تَفَرَّقَ مِنْ أُمُوره.
قَالَ النَّابِغَة :
وَلَسْت بِمُسْتَبِقٍ أَخًا لَا تُلِمُّهُ عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذَّبِ
وَمِنْهُ قَوْلهمْ : إِنَّ دَارك لَمُومَة، أَيْ تُلِمُّ النَّاس وَتَرُبُّهُمْ وَتَجْمَعُهُمْ.
وَقَالَ الْمِرْنَاق الطَّائِيّ يَمْدَح عَلْقَمَة اِبْن سَيْف :
لَأَحَبَّنِي حُبَّ الصَّبِيِّ وَلَمَّنِي لَمَّ الْهَدِيِّ إِلَى الْكَرِيمِ الْمَاجِدِ
وَقَالَ اللَّيْث : اللَّمّ الْجَمْع الشَّدِيد وَمِنْهُ حَجَر مَلْمُوم، وَكَتِيبَة مَلْمُومَة.
فَالْآكِل يَلُمُّ الثَّرِيد، فَيَجْمَعُهُ لُقَمًا ثُمَّ يَأْكُلهُ.
وَقَالَ مُجَاهِد : يَسُفُّهُ سَفًّا : وَقَالَ الْحَسَن : يَأْكُل نَصِيبه وَنَصِيب غَيْره.
قَالَ الْحُطَيْئَة :
إِذَا كَانَ لَمًّا يَتْبَعُ الذَّمَّ رَبَّهُ فَلَا قَدَّسَ الرَّحْمَنُ تِلْكَ الطَّوَاحِنَا
يَعْنِي أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ فِي أَكْلهمْ بَيْن نَصِيبهمْ وَنَصِيب غَيْرهمْ.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ مَالَهُ أَلَمَّ بِمَالِ غَيْره فَأَكَلَهُ، وَلَا يُفَكِّر : أَكَلَ مِنْ خَبِيث أَوْ طَيِّب.
قَالَ : وَكَانَ أَهْل الشِّرْك لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاء وَلَا الصِّبْيَان، بَلْ يَأْكُلُونَ مِيرَاثَهُمْ مَعَ مِيرَاثِهِمْ، وَتُرَاثَهُمْ مَعَ تُرَاثِهِمْ.
وَقِيلَ : يَأْكُلُونَ مَا جَمَعَهُ الْمَيِّت مِنْ الظُّلْم وَهُوَ عَالِم بِذَلِكَ، فَيُلِمُّ فِي الْأَكْل بَيْن حَرَامه وَحَلَاله.
وَيَجُوز أَنْ يَذُمّ الْوَارِث الَّذِي ظَفَر بِالْمَالِ سَهْلًا، مَهْلًا، مِنْ غَيْر أَنْ يَعْرَق فِيهِ جَبِينه، فَيُسْرِف فِي إِنْفَاقه، وَيَأْكُلهُ أَكْلًا وَاسِعًا، جَامِعًا بَيْن الْمُشْتَهَيَات مِنْ الْأَطْعِمَة وَالْأَشْرِبَة وَالْفَوَاكِه، كَمَا يَفْعَل الْوُرَّاث الْبَطَّالُونَ.
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا
أَيْ كَثِيرًا، حَلَاله وَحَرَامه.
وَالْجَمّ الْكَثِير.
يُقَال : جَمَّ الشَّيْء يَجُمّ جُمُومًا، فَهُوَ جَمّ وَجَامّ.
وَمِنْهُ جَمَّ الْمَاء فِي الْحَوْض : إِذَا اِجْتَمَعَ وَكَثُرَ.
وَقَالَ الشَّاعِر :
إِنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا
وَالْجَمَّة : الْمَكَان الَّذِي يَجْتَمِع فِيهِ مَاؤُهُ.
وَالْجَمُوم : الْبِئْر الْكَثِيرَة الْمَاء.
وَالْجَمُومُ : الْمَصْدَر يُقَال : جَمَّ الْمَاء يَجُمّ جُمُومًا : إِذَا كَثُرَ فِي الْبِئْر وَاجْتَمَعَ، بَعْدَمَا اُسْتُقِيَ مَا فِيهَا.
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا
قَوْله تَعَالَى :" كَلَّا " أَيْ مَا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْأَمْر.
فَهُوَ رَدّ لِانْكِبَابِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَجَمْعهمْ لَهَا فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَنْدَم يَوْم تُدَكّ الْأَرْض، وَلَا يَنْفَع النَّدَم.
وَالدَّكّ : الْكَسْر وَالدَّقّ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
أَيْ زُلْزِلَتْ الْأَرْض، وَحُرِّكَتْ تَحْرِيكًا بَعْد تَحْرِيك.
وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ زُلْزِلَتْ فَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : أَيْ أُلْصِقَتْ وَذَهَبَ اِرْتِفَاعهَا.
يُقَال نَاقَة دَكَّاء، أَيْ لَا سَنَام لَهَا، وَالْجَمْع دُكّ.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْأَعْرَاف " و " الْحَاقَّة " الْقَوْل فِي هَذَا.
وَيَقُولُونَ : دَكَّ الشَّيْء أَيْ هُدِمَ.
قَالَ :
هَلْ غَيْرُ غَارٍ دَكَّ غَارًا فَانْهَدَمْ
" دَكًّا دَكًّا " أَيْ مَرَّة بَعْد مَرَّة زُلْزِلَتْ فَكَسَرَ بَعْضهَا بَعْضًا فَتَكَسَّرَ كُلّ شَيْء عَلَى ظَهْرهَا.
وَقِيلَ : دُكَّتْ جِبَالهَا وَأَنْشَازُهَا حَتَّى اِسْتَوَتْ.
وَقِيلَ : دُكَّتْ أَيْ اِسْتَوَتْ فِي الِانْفِرَاش فَذَهَبَ دُورهَا وَقُصُورهَا وَجِبَالهَا وَسَائِر أَبْنِيَتهَا.
وَمِنْهُ سُمِّيَ الدُّكَّان، لِاسْتِوَائِهِ فِي الِانْفِرَاش.
وَالدَّكّ : حَطَّ الْمُرْتَفِع مِنْ الْأَرْض بِالْبَسِيطِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْل اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس : تُمَدُّ الْأَرْض مَدَّ الْأَدِيم.
وَجَاءَ رَبُّكَ
أَيْ أَمْره وَقَضَاؤُهُ قَالَهُ الْحَسَن.
وَهُوَ مِنْ بَاب حَذْف الْمُضَاف.
وَقِيلَ : أَيْ جَاءَهُمْ الرَّبّ بِالْآيَاتِ الْعَظِيمَة وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِلَّا أَنْ يَأْتِيهِمْ اللَّه فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَام " [ الْبَقَرَة : ٢١٠ ]، أَيْ بِظُلَلٍ.
وَقِيلَ : جَعَلَ مَجِيء الْآيَات مَجِيئًا لَهُ، تَفْخِيمًا لِشَأْنِ تِلْكَ الْآيَات.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْحَدِيث :( يَا بْن آدَم، مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي، وَاسْتَسْقَيْتُك فَلَمْ تَسْقِنِي، وَاسْتَطْعَمْتُك فَلَمْ تُطْعِمنِي ).
وَقِيلَ :" وَجَاءَ رَبّك " أَيْ زَالَتْ الشُّبَه ذَلِكَ الْيَوْم، وَصَارَتْ الْمَعَارِف ضَرُورِيَّة، كَمَا تَزُول الشُّبَه وَالشَّكّ عِنْد مَجِيء الشَّيْء الَّذِي كَانَ يُشَكّ فِيهِ.
قَالَ أَهْل الْإِشَارَة : ظَهَرَتْ قُدْرَته وَاسْتَوْلَتْ، وَاَللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُوصَف بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَكَان إِلَى مَكَان، وَأَنَّى لَهُ التَّحَوُّل وَالِانْتِقَال، وَلَا مَكَان لَهُ وَلَا أَوَان، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ وَقْت وَلَا زَمَان ; لِأَنَّ فِي جَرَيَان الْوَقْت عَلَى الشَّيْء فَوْت الْأَوْقَات، وَمَنْ فَاتَهُ شَيْء فَهُوَ عَاجِز.
وَالْمَلَكُ
أَيْ الْمَلَائِكَة.
صَفًّا صَفًّا
أَيْ صُفُوفًا.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
قَالَ اِبْن مَسْعُود وَمُقَاتِل : تُقَادُ جَهَنَّمُ بِسَبْعِينَ أَلْف زِمَام، كُلّ زِمَام بِيَدِ سَبْعِينَ أَلْف مَلَك، لَهَا تَغَيُّظ وَزَفِير، حَتَّى تُنْصَب عَنْ يَسَار الْعَرْش.
وَفِي صَحِيح، مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ، لَهَا سَبْعُونَ أَلْف زِمَام، مَعَ كُلّ زِمَام سَبْعُونَ أَلْف مَلَك يَجُرُّونَهَا ).
وَقَالَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ : لَمَّا نَزَلَتْ " وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّم " تَغَيَّرَ لَوْن رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُرِفَ فِي وَجْهه.
حَتَّى اِشْتَدَّ عَلَى أَصْحَابه، ثُمَّ قَالَ :( أَقْرَأَنِي جِبْرِيل " كَلَّا إِذَا دُكَّتْ الْأَرْض دَكًّا دَكًّا " الْآيَة وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّم ).
قَالَ عَلِيّ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه، كَيْف يُجَاء بِهَا ؟ قَالَ :( تُؤْتَى بِهَا تُقَاد بِسَبْعِينَ أَلْف زِمَام، يَقُود بِكُلِّ زِمَام سَبْعُونَ أَلْف مَلَك، فَتَشْرُد شَرْدَةً لَوْ تُرِكَتْ لَأَحْرَقَتْ أَهْل الْجَمْع ثُمَّ تَعْرِض لِي جَهَنَّم فَتَقُول : مَا لِي وَلَك يَا مُحَمَّد، إِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَ لَحْمَك عَلَيَّ ) فَلَا يَبْقَى أَحَد إِلَّا قَالَ نَفْسِي نَفْسِي ! إِلَّا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ يَقُول : رَبّ أُمَّتِي ! رَبّ أُمَّتِي !
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ
أَيْ يَتَّعِظ وَيَتُوب.
وَهُوَ الْكَافِر، أَوْ مَنْ هَمَّتْهُ مُعْظَم الدُّنْيَا.
وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى
أَيْ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ الِاتِّعَاظ وَالتَّوْبَة وَقَدْ فَرَّطَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا.
وَيُقَال : أَيْ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ مَنْفَعَة الذِّكْرَى.
فَلَا بُدّ مِنْ تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف، وَإِلَّا فَبَيْنَ " يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ " وَبَيْنَ " وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى " تَنَافٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيّ.
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ
أَيْ فِي حَيَاتِي.
فَاللَّام بِمَعْنَى فِي.
وَقِيلَ : أَيْ قَدَّمْت عَمَلًا صَالِحًا لِحَيَاتِي، أَيْ لَحَيَاةٍ لَا مَوْت فِيهَا.
وَقِيلَ : حَيَاة أَهْل النَّار لَيْسَتْ هَنِيئَة، فَكَأَنَّهُمْ لَا حَيَاة لَهُمْ فَالْمَعْنَى : يَا لَيْتَنِي قَدَّمْت مِنْ الْخَيْر لِنَجَاتِي مِنْ النَّار، فَأَكُون فِيمَنْ لَهُ حَيَاة هَنِيئَة.
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
أَيْ لَا يُعَذِّب كَعَذَابِ اللَّه أَحَد، وَلَا يُوثِق كَوَثَاقِهِ أَحَد.
وَالْكِنَايَة تَرْجِع إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ " لَا يُعَذَّب " " وَلَا يُوثَق " بِفَتْحِ الذَّال وَالثَّاء، أَيْ لَا يُعَذَّب أَحَد فِي الدُّنْيَا كَعَذَابِ اللَّهِ الْكَافِرَ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوثَق كَمَا يُوثَق الْكَافِر.
وَالْمُرَاد إِبْلِيس ; لِأَنَّ الدَّلِيل قَامَ عَلَى أَنَّهُ أَشَدّ النَّاس عَذَابًا، لِأَجْلِ إِجْرَامه فَأَطْلَقَ الْكَلَام لِأَجْلِ مَا صَحِبَهُ مِنْ التَّفْسِير.
وَقِيلَ : إِنَّهُ أُمَيَّة بْن خَلَف حَكَاهُ الْفَرَّاء.
يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعَذَّب كَعَذَابِ هَذَا الْكَافِر الْمُعَيَّن أَحَد، وَلَا يُوثَق بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَال كَوَثَاقِهِ أَحَد لِتَنَاهِيهِ فِي كُفْره وَعِنَاده.
وَقِيلَ : أَيْ لَا يُعَذَّب مَكَانه أَحَد، فَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ فِدَاء.
وَالْعَذَاب بِمَعْنَى التَّعْذِيب، وَالْوَثَاق بِمَعْنَى الْإِيثَاق.
وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
وَبَعْد عَطَائِك الْمِائَةَ الرِّتَاعَا
وَقِيلَ : لَا يُعَذَّب أَحَد لَيْسَ بِكَافِرٍ عَذَاب الْكَافِر.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم فَتْح الذَّال وَالثَّاء.
وَتَكُون الْهَاء ضَمِير الْكَافِر ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوف : أَنَّهُ لَا يُعَذِّب أَحَد كَعَذَابِ اللَّه.
وَقَدْ رَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الذَّال وَالثَّاء.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا عَمْرو رَجَعَ إِلَى قِرَاءَة النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون الضَّمِير لِلْكَافِرِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَة أَيْ لَا يُعَذِّب أَحَدٌ أَحَدًا مِثْل تَعْذِيب هَذَا الْكَافِر فَتَكُون الْهَاء لِلْكَافِرِ.
وَالْمُرَاد بِ " أَحَد " الْمَلَائِكَة الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْذِيب أَهْل النَّار.
وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
أَيْ لَا يُعَذِّب كَعَذَابِ اللَّه أَحَد، وَلَا يُوثِقُ كَوَثَاقِهِ أَحَد.
وَالْكِنَايَة تَرْجِع إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ " لَا يُعَذَّب " " وَلَا يُوثَق " بِفَتْحِ الذَّال وَالثَّاء، أَيْ لَا يُعَذَّب أَحَد فِي الدُّنْيَا كَعَذَابِ اللَّهِ الْكَافِرَ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوثَق كَمَا يُوثَق الْكَافِر.
وَالْمُرَاد إِبْلِيس ; لِأَنَّ الدَّلِيل قَامَ عَلَى أَنَّهُ أَشَدّ النَّاس عَذَابًا، لِأَجْلِ إِجْرَامه فَأَطْلَقَ الْكَلَام لِأَجْلِ مَا صَحِبَهُ مِنْ التَّفْسِير.
وَقِيلَ : إِنَّهُ أُمَيَّة بْن خَلَف حَكَاهُ الْفَرَّاء.
يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعَذَّب كَعَذَابِ هَذَا الْكَافِر الْمُعَيَّن أَحَد، وَلَا يُوثَق بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَال كَوَثَاقِهِ أَحَد لِتَنَاهِيهِ فِي كُفْره وَعِنَاده.
وَقِيلَ : أَيْ لَا يُعَذَّب مَكَانه أَحَد، فَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ فِدَاء.
وَالْعَذَاب بِمَعْنَى التَّعْذِيب، وَالْوَثَاق بِمَعْنَى الْإِيثَاق.
وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
وَبَعْد عَطَائِك الْمِائَةَ الرِّتَاعَا
وَقِيلَ : لَا يُعَذَّب أَحَد لَيْسَ بِكَافِرِ عَذَاب الْكَافِر.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم فَتْح الذَّال وَالثَّاء.
وَتَكُون الْهَاء ضَمِير الْكَافِر ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوف : أَنَّهُ لَا يُعَذَّب أَحَد كَعَذَابِ اللَّه.
وَقَدْ رَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الذَّال وَالثَّاء.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا عَمْرو رَجَعَ إِلَى قِرَاءَة النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون الضَّمِير لِلْكَافِرِ عَلَى قُرَّاءَهُ الْجَمَاعَة أَيْ لَا يُعَذَّب أَحَد أَحَدًا مِثْل تَعْذِيب هَذَا الْكَافِر فَتَكُون الْهَاء لِلْكَافِرِ.
وَالْمُرَاد ب " أَحَد " الْمَلَائِكَة الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْذِيب أَهْل النَّار.
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
لَمَّا ذَكَرَ حَال مِنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ الدُّنْيَا فَاتَّهَمَ اللَّه فِي إِغْنَائِهِ، وَإِفْقَاره، ذَكَرَ حَال مَنْ اِطْمَأَنَّتْ نَفْسه إِلَى اللَّه تَعَالَى.
فَسَلَّمَ لِأَمْرِهِ، وَاتَّكَلَ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة لِأَوْلِيَاءِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَالنَّفْس الْمُطْمَئِنَّة " السَّاكِنَة الْمُوقِنَة أَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّه رَبّهَا، فَأَخْبَتَتْ لِذَلِكَ قَالَهُ مُجَاهِد وَغَيْره.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ الْمُطْمَئِنَّة بِثَوَابِ اللَّه.
وَعَنْهُ الْمُؤْمِنَة.
وَقَالَ الْحَسَن : الْمُؤْمِنَة الْمُوقِنَة.
وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : الرَّاضِيَة بِقَضَاءِ اللَّه، الَّتِي عَلِمَتْ أَنَّ مَا أَخْطَأَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئهَا.
وَقَالَ مُقَاتِل : الْآمِنَة مِنْ عَذَاب اللَّه.
وَفِي حَرْف أُبَيّ بْن كَعْب " يَأَيَّتُهَا النَّفْس الْآمِنَة الْمُطْمَئِنَّة ".
وَقِيلَ : الَّتِي عَمِلَتْ عَلَى يَقِين بِمَا وَعَدَ اللَّه فِي كِتَابه.
وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : الْمُطْمَئِنَّة هُنَا : الْمُخْلِصَة.
وَقَالَ اِبْن عَطَاء : الْعَارِفَة الَّتِي لَا تَصْبِر عَنْهُ طَرْفَة عَيْن.
وَقِيلَ : الْمُطْمَئِنَّة بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى بَيَانه " الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبهمْ بِذِكْرِ اللَّه " [ الرَّعْد : ٣٨ ].
وَقِيلَ : الْمُطْمَئِنَّة بِالْإِيمَانِ، الْمُصَدِّقَة بِالْبَعْثِ وَالثَّوَاب.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْمُطْمَئِنَّة ; لِأَنَّهَا بُشِّرَتْ بِالْجَنَّةِ عِنْد الْمَوْت، وَعِنْد الْبَعْث، وَيَوْم الْجَمْع.
وَرَوَى عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : يَعْنِي نَفْس حَمْزَة.
وَالصَّحِيح أَنَّهَا عَامَّة فِي كُلّ نَفْس مُؤْمِن مُخْلِص طَائِع.
قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْبِض رُوح عَبْده الْمُؤْمِن، اِطْمَأَنَّتْ النَّفْس إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَاطْمَأَنَّ اللَّه إِلَيْهَا.
وَقَالَ عَمْرو بْن الْعَاص : إِذَا تُوُفِّيَ الْمُؤْمِن أَرْسَلَ اللَّه إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ، وَأَرْسَلَ مَعَهُمَا تُحْفَة مِنْ الْجَنَّة، فَيَقُولَانِ لَهَا : اُخْرُجِي أَيَّتهَا النَّفْس الْمُطْمَئِنَّة رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، وَمَرْضِيًّا عَنْك، اُخْرُجِي إِلَى رَوْح وَرَيْحَان، وَرَبٍّ رَاضٍ غَيْرِ غَضْبَان، فَتَخْرُج كَأَطْيَب رِيح الْمِسْك وَجَدَ أَحَدٌ مِنْ أَنْفه عَلَى ظَهْر الْأَرْض.
وَذَكَرَ الْحَدِيث.
وَقَالَ سَعِيد بْن زَيْد : قَرَأَ رَجُل عِنْد النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَا أَيَّتهَا النَّفْس الْمُطْمَئِنَّة "، فَقَالَ أَبُو بَكْر : مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا رَسُول اللَّه فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إِنَّ الْمَلَك يَقُولهَا لَك يَا أَبَا بَكْر ).
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : مَاتَ اِبْن عَبَّاس بِالطَّائِفِ، فَجَاءَ طَائِر لَمْ يُرَ عَلَى خِلْقَتِهِ طَائِرٌ قَطُّ، فَدَخَلَ نَعْشَهُ، ثُمَّ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ، فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى شَفِير الْقَبْر - لَا يُدْرَى مَنْ تَلَاهَا - :" يَا أَيَّتهَا النَّفْس الْمُطْمَئِنَّة اِرْجِعِي إِلَى رَبّك رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ".
وَرَوَى الضَّحَّاك أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَان بْن عَفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِين وَقَفَ بِئْر رُومَةَ.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي خُبَيْبٍ بْن عَدِيّ الَّذِي صَلَبَهُ أَهْل مَكَّة، وَجَعَلُوا وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَة فَحَوَّلَ اللَّه وَجْهه نَحْو الْقِبْلَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
أَيْ إِلَى صَاحِبك وَجَسَدِك قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَعَطَاء.
وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ وَدَلِيله قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس " فَادْخُلِي فِي عَبْدِي " عَلَى التَّوْحِيد، فَيَأْمُر اللَّه تَعَالَى الْأَرْوَاح غَدًا أَنْ تَرْجِع إِلَى الْأَجْسَاد.
وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " فِي جَسَد عَبْدِي ".
وَقَالَ الْحَسَن : اِرْجِعِي إِلَى ثَوَاب رَبّك وَكَرَامَته.
وَقَالَ أَبُو صَالِح : الْمَعْنَى : اِرْجِعِي إِلَى اللَّه.
وَهَذَا عِنْد الْمَوْت.
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي
أَيْ فِي أَجْسَاد عِبَادِي دَلِيلُهُ قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذَا يَوْم الْقِيَامَة وَقَالَهُ الضَّحَّاك.
وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْجَنَّة هِيَ دَار الْخُلُود الَّتِي هِيَ مَسْكَن الْأَبْرَار، وَدَار الصَّالِحِينَ وَالْأَخْيَار.
وَمَعْنَى " فِي عِبَادِي " أَيْ فِي الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِي كَمَا قَالَ :" لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ " [ الْعَنْكَبُوت : ٩ ].
وَقَالَ الْأَخْفَش :" فِي عِبَادِي " أَيْ فِي حِزْبِي وَالْمَعْنَى وَاحِد.
أَيْ اِنْتَظِمِي فِي سِلْكِهِمْ.
وَادْخُلِي جَنَّتِي
مَعَهُم.
Icon