تفسير سورة سورة الفجر من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
.
لمؤلفه
الشربيني
.
المتوفي سنة 977 هـ
مكية وقيل : مدنية وهي تسع وعشرون آية وقيل : ثلاثون آية ومائة وتسع وثلاثون كلمة وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الملك المعبود ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ خلقه بالكرم والجود ﴿ الرحيم ﴾ الذي سدّد أهل عنايته بفضله فهو الحليم الودود.
ﰡ
وقوله تعالى :﴿ والفجر ﴾، أي : فجر كل يوم قسم كما أقسم بالصبح في قوله تعالى :﴿ والصبح إذا أسفر ﴾ [ المدثر : ٣٤ ] ﴿ والصبح إذا تنفس ﴾ [ التكوير : ١٨ ] وقال قتادة : هو فجر أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة. وقال الضحاك : فجر ذي الحجة، وقيل : ذلك على مضاف محذوف، أي : وصلاة الفجر. وقيل : ورب الفجر وتقدّم أنّ الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته.
واختلف في قوله تعالى :﴿ وليال عشر ﴾ فقال مجاهد وقتادة : هو عشر ذي الحجة. وقال الضحاك : هو العشر الأوّل من رمضان. وعن ابن عباس : أنه العشر الأخير من رمضان. وعن يمان بن رباب هو العشر الأوّل من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء، ولصومه فضل عظيم.
فإن قيل : لم ذكر الليالي من بين ما أقسم به ؟ أجيب : بأنّ ذلك للتعظيم.
﴿ والشفع ﴾، أي : الزوج ﴿ والوتر ﴾، أي : الفرد، وقيل : الشفع الخلق كلهم قال الله تعالى :﴿ وخلقناكم أزواجاً ﴾ [ النبأ : ٨ ] والوتر هو الله تعالى. قاله أبو سعيد الخدري. وقال مجاهد ومسروق : الشفع الخلق كله، قال الله تعالى :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾ [ الذاريات : ٤٩ ] الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والسعادة والشقاوة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجنّ والإنس، والوتر هو الله تعالى ﴿ قل هو الله أحد ﴾ [ الإخلاص : ١ ]. وقال قتادة : هما الصلوات منها شفع ومنها وتر. روى ذلك عن عمران بن حصين مرفوعاً وعن ابن عباس الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب. وقال الحسين بن الفضل : الشفع درجات الجنة لأنها ثمان، والوتر دركات النار لأنها سبع دركات. سئل أبو بكر الوراق عن الشفع والوتر فقال : الشفع تضاد أوصاف المخلوقين من العز والذل، والقدرة والعجز، والقوّة والضعف، والعلم والجهل، والبصر والعمى. والوتر انفراد صفات الله سبحانه وتعالى عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوّة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت. وعن عكرمة الوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر، واختاره النحاس وقال هو الذي صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيوم عرفة وتر لأنه تاسعها ويوم النحر شفع لأنه عاشرها. وقال ابن الزبير : الشفع الحادي عشر والثاني عشر من أيام منى، والوتر الثالث عشر. وقال الضحاك : الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة. وقيل : الشفع والوتر آدم عليه السلام كان وتراً فشفع بزوجته حوّاء، حكاه القشيريّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ حمزة والكسائيّ بكسر الواو والباقون بفتحها وهما لغتان الفتح لغة قريش ومن والاها والكسر لغة تميم.
وقوله تعالى :﴿ والليل إذا يسر ﴾ قسم خامس بعدما أقسم بالليالي العشر على الخصوص أقسم به على العموم، ومعنى يسر سار وذهب كما قال الله تعالى :﴿ والليل إذا أدبر ﴾ [ المدثر : ٣٣ ].
وقال قتادة : إذا جاء وأقبل وقيل : معنى يسر، أي : يسري فيه كما يقال : ليل نائم ونهار صائم، ومنه قوله تعالى :﴿ بل مكر الليل والنهار ﴾ [ سبأ : ٣٣ ] وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء بعد الراء وصلاً لا وقفاً، وأثبتها ابن كثير في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم وإثباتها هو الأصل لأنها لام فعل مضارع مرفوع، ومن فرق بين حالتي الوقف والوصل فلأنّ الوقف محل استراحة وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء فقال : الليل لا يسري ولكن يسري فيه فهو مصروف فلما صرفه تجنبه حظه من الإعراب كقوله تعالى :﴿ وما كانت أمك بغياً ﴾ [ مريم : ٢٨ ] ولم يقل بغية، لأنه صرفه عن باغية وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم والجواب محذوف تقديره : لتعذبن يا كفار مكة بدليل قوله تعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فصبّ عليهم ربك سوط عذاب إنّ ربك لبالمرصاد ﴾ وما بينهما اعتراض.
وقوله تعالى :﴿ هل في ذلك ﴾، أي : القسم والمقسم به ﴿ قسم ﴾، أي : حلف أو محلوف ﴿ لذي حجر ﴾ استفهام معناه التقرير، كقولك : ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت أو المراد منه التأكيد لما أقسم عليه كمن ذكر حجة بالغة، ثم قال : هل فيما ذكرته حجة والمعنى : إنّ من كان ذا لب علم أنّ ما أقسم الله تعالى به هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه والحجر العقل لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما يسمى عقلاً ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاه من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء : يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها.
وقوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾ خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به العموم والمراد بالرؤية العلم، أي : ألم تعلم يا أشرف رسلنا ﴿ كيف فعل ربك ﴾، أي : المحسن إليك بأنواع النعم ﴿ بعاد ﴾.
﴿ إرم ﴾ وهو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ثم إنهم جعلوا لفظ عاد اسماً للقبيلة كما يقال لبني هاشم : هاشم، ولبني تميم : تميم، ثم قيل : للأوّلين منهم عاد الأولى، وإرم تسمية لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة.
فإرم في قوله تعالى :﴿ عاد إرم ﴾ عطف بيان لعاد وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة وقيل : إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها. وقوله تعالى :﴿ ذات ﴾، أي : صاحبة ﴿ العماد ﴾ فينظر فيه إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى : أنهم كانوا بدويين أهل عمد وطوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة. وقيل : ذات البناء الرفيع وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى : أنها ذات أساطين وروي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال : أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال : هي إرم ذات العماد، وسيدخلها جل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل.
وقوله تعالى :﴿ التي لم يخلق مثلها في البلاد ﴾ صفة أخرى لإرم فإن كانت للقبيلة فلم تخلق مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة. قال الزمخشري : كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيقلبها على الحي فيهلكهم. وروي عن مالك أنه كانت تمرّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وإن كانت للبلدة فلم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا، والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنّ الله تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه، فلأن تكونوا مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم أولى وقد ذكركم الله تعالى ثلاث قصص هذه القصة الأولى.
وأما الثانية : فهي في قوله تعالى :﴿ وثمود الذين جابوا ﴾، أي : قطعوا ﴿ الصخر ﴾ جمع صخرة وهي الحجر واتخذوها بيوتاً كقوله تعالى :﴿ وتنحتون من الجبال بيوتاً ﴾ [ الشعراء : ١٤٩ ]. ﴿ بالواد ﴾، أي : وادي القرى، قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. وقيل : سبعة آلاف مدينة كلها من الحجارة.
تنبيه : أثبت الياء ورش وابن كثير وصلاً، وأثبتها وقفاً ابن كثير بخلاف عن قنبل.
وأما القصة الثالثة : فهي في قوله تعالى :﴿ وفرعون ﴾، أي : وفعل بفرعون ﴿ ذي الأوتاد ﴾ واختلف في تسميته بذلك على وجهين :
أحدهما : أنه سمي بذلك عل كثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.
والثاني : أنه كان يتد أربعة أوتاد يشدّ إليها يدي ورجلي من يعذبه وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنّ فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت امرأة وهي امرأة خازنه حزقيل، وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذا سقط المشط من يدها فقالت : تعس من كفر بالله، فقالت بنت فرعون : وهل لك إله غير أبي ؟ فقال : إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي، قال : ما يبكيك ؟ فقالت : الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له، فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت : صدقت. فقال لها : ويحك اكفري بإلهك وأقرّي بأني إلهك، قالت : لا أفعل فمدّها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب، وقال لها : اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت له : لو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله، وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، وقال لها : اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعة فقالت : لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عز وجل، فأتى بابنتها فلما اضجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة فانطق الله تعالى لسان ابنتها فتكلمت، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالاً وقالت : يا أمّاه لا تجزعي فإن الله تعالى قد بنى لك بيتاً في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله تعالى وكرامته، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فاسكنها الله تعالى الجنة قال : وبعث في طلب زوجها حزقيل : فلم يقدروا عليه، فقيل : لفرعون : إنه قد زوى في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون خلفه، فلما رأيا ذلك انصرفا فقال حزقيل : اللهم أنت تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل في عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون : وهل معك غيرك ؟ قال : نعم فلان فدعى به، فقال : حق ما يقول هذا ؟ قال : لا ما رأيت كما قال شيئاً فأعطاه فرعون فأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه. قال : وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي من فرعون وأنا مسلمة وهو كافر، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها، فقالت : يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثه عمدت على الماشطة فقتلتها، فقال : لعل بك الجنون الذي كان بها ؟ قالت : ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزق ما عليها وضربها وأرسل على أبويها فدعاهما فقال لهما : ألا تريان أنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها. قالت : أعوذ بالله من ذلك إني أشهد أن ربي وربك ورب السماوات والأرض واحد لا شريك له، فقال أبوها : يا آسية ألست من خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق، قالت : أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقاً فقولا له أن يتوّجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهما فرعون : أخرجاها عني فمدّها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها باباً إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت :﴿ رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ﴾ [ التحريم : ١١ ] فقبض الله تعالى روحها وأدخلها الجنة. وروي عن أبي هريرة أنّ فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحاً واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت :﴿ رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ﴾ ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته.
وقوله تعالى :﴿ الذين طغوا ﴾، أي : تجبروا ﴿ في البلاد ﴾ في محل نصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على هم الذين طغوا في البلاد، أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون فالضمير يرجع لعاد وثمود وفرعون وقيل : يرجع إلى فرعون خاصة.
﴿ فأكثروا ﴾، أي : طغاتهم ﴿ فيها الفساد ﴾، أي : بالقتل والكفر والمعاصي قال القفال : وبالجملة فالفساد ضد الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم فمن عمل بغير أمر الله تعالى وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.
﴿ فصب ﴾، أي : أنزل إنزالاً هو في غاية القوة ﴿ عليهم ﴾، أي : في الدنيا ﴿ ربك ﴾، أي : المحسن إليك بكل جميل ﴿ سوط ﴾، أي : نوع ﴿ عذاب ﴾ وقال قتادة : يعني ألواناً من العذاب صبه عليهم، وقال أهل المعاني هذا على الاستعارة لأن السوط عندهم غاية العذاب. وقال الفراء : هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب، وأصل ذلك أنّ السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى إلى كلّ عذاب إذا كان فيه غاية العذاب. وقال الزجاج : جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب.
وعن الحسن أنه كان إذا أتى على هذه الآية قال : إنّ الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة : كل شيء عذب الله تعالى به فهو سوط، وشبه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه.
﴿ إنّ ربك ﴾، أي : المحسن إليك بالرسالة ﴿ لبالمرصاد ﴾، أي : يرصد أعمال العباد لا يفوته منها شيء ليجازيهم عليها والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد، مفعال من رصده كالميقات من وقته، وهذا مثل لإرصاد العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل : له : أين ربك ؟ فقال : بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه فقال :﴿ إنّ ربك لبالمرصاد ﴾ يا أبا جعفر عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعده بذلك من الجبابرة. قال الزمخشري : فلله دره، أي : أسد فراس كان بين ثوبيه يدق الظلمة بإنكاره ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه.
وقوله تعالى :﴿ فأما الإنسان ﴾ متصل بقوله تعالى :﴿ إنّ ربك لبالمرصاد ﴾ فكأنه قيل : إنّ الله تعالى يريد من الإنسان الطاعة والسعي للعاقبة، وهو لا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها ﴿ إذا ما ابتلاه ﴾، أي : اختبره بالنعمة ﴿ ربه ﴾، أي : الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر شكره أو كفره ﴿ فأكرمه ﴾، أي : جعله عزيزاً بين الناس وأعطاه ما يكرمونه به من الجاه والمال ﴿ ونعمه ﴾، أي : جعله متلذذاً مترفهاً بما وسع الله تعالى عليه.
وقوله تعالى :﴿ فيقول ﴾، أي : سروراً بذلك افتخاراً ﴿ ربي أكرمن ﴾، أي : فضلني بما أعطاني خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في أمّا من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتداء بالأنعام فيظن أنّ ذلك عن استحقاق فيرتفع به.
وكذا قوله تعالى :﴿ وأما إذا ما ابتلاه فقدر ﴾، أي : ضيق ﴿ عليه رزقه ﴾ التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه، أي : بالفقر ليوازي قسيمه ﴿ فيقول ﴾، أي : الإنسان بسبب الضيق ﴿ ربي أهانن ﴾ فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً ويكون أكبر همه، وهذا في حق الكافر لقصور نظره وسوء فكره فيرى الكرامة والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في عتبة بن ربيعة. وقيل : أبي بن خلف. فإن قيل : كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقتيره ابتلاء ؟ أجيب : بأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة، ونحوه قوله تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ]. فإن قيل : هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه ؟ أجيب : بأن البسط إكرام من الله تعالى لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقتير فليس بإهانة له لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً ومهيناً وغير مكرم ولا مهين. وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمني بالهدية، ولا تقول أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد إليك. فإن قيل : قد قال تعالى فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله :﴿ ربي أكرمن ﴾ وذمّه عليه كما أنكر قوله :﴿ أهانن ﴾ وذمه عليه ؟ أجيب : بوجهين :
أحدهما : إنما أنكر قوله :﴿ ربي أكرمن ﴾ وذمه عليه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه وأثبته، وهو قصده على أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراماً مستحقاً ومستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله :﴿ إنما أوتيته على علم عندي ﴾ [ القصص : ٧٨ ] وإنما أعطاه الله تعالى على وجه التفضل من غير استحباب منه له، ولا سابقة مما لا يعتد الله تعالى إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.
ثانيهما : أن ينساق الإنكار والذم إلى قوله :﴿ ربي أهانن ﴾ يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه يسمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان. قال الزمخشري : ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله تعالى :﴿ فأكرمه ﴾ وقرأ ﴿ ما ابتلاه ﴾ في الموضعين حمزة بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وقرأ ﴿ ربي أكرمن ﴾ ﴿ ربي أهانن ﴾ نافع بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً، وقرأ البزي بإثباتها فيهما وقفاً ووصلاً، وعن أبي عمرو فيهما في الوصل الإثبات والحذف عنه في الوصل أعدل، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً. وقرأ ابن عامر ﴿ فقدّر عليه رزقه ﴾ بتشديد الدال والباقون بتخفيفها، وهما لغتان معناهما ضيق. وقيل : قدر بمعنى قتر وقدر أعطاه ما يكفيه.
ثم ردّ الله تعالى على من ظن أنّ سعة الرزق إكرام وأنّ الفقر إهانة بقوله تعالى :﴿ كلا ﴾، أي : ليس الإكرام بالغنى والإهانة بالفقر إنما هما بالإطاعة والمعصية، وكفار مكة لا ينتبهون لذلك ﴿ بل ﴾ لهم فعل أشر من هذا القول وهو أنهم ﴿ لا يكرمون اليتيم ﴾، أي : لا يحسنون إليه مع غناهم، أو لا يعطونه حقه من الميراث. قال مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه فنزلت :﴿ ولا تحضون على طعام المسكين ﴾.
﴿ ولا تحضون ﴾، أي : يحثون حثاً عظيماً ﴿ على طعام ﴾، أي : إطعام ﴿ المسكين ﴾ فيكون اسم مصدر بمعنى الإطعام، ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي : على بذل أو على إعطاء، وفي إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغنيّ في ماله بقدر الزكاة.
﴿ ويأكلون ﴾ على سبيل التجدد والاستمرار
﴿ التراث ﴾، أي : الميراث والتاء في التراث بدل من واو لأنه من الوراثة.
﴿ أكلاً لماً ﴾، أي : ذا لم واللمّ الجمع الشديد. يقال : لممت الشيء لماً، أي : جمعته جمعاً. قال الحطيئة :
إذا كان لما يتبع الذم ربه | فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا |
والجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم ويأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك، فيلمون في الأكل بين حلاله وحرامه ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال مهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعل البطالون.
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي دل عليه في الإنسان فقال تعالى :﴿ ويحبون ﴾، أي : على سبيل الاستمرار ﴿ المال ﴾، أي : هذا النوع من، أي : شيء كان وأكد بالمصدر والوصف فقال تعالى ﴿ حباً جماً ﴾، أي : كثيراً شديداً مع الحرص والشره ومنع الحقوق.
وقوله تعالى :﴿ كلا ﴾ ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أخبر تعالى عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عز من قائل :﴿ إذا دكت الأرض ﴾، أي : حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدّة المط لا عوج فيها بوجه ﴿ دكاً دكاً ﴾، أي : مرّة بعد مرّة، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر فلم يبق على ظهرها شيء وينعدم.
﴿ وجاء ربك ﴾ قال الحسن : أمره وقضاؤه ﴿ والملك ﴾، أي : الملائكة. وقوله تعالى :﴿ صفاً صفاً ﴾ حال، أي : مصطفين، أي : ذوي صفوف كثيرة فتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس.
﴿ وجيء ﴾، أي : بأسهل أمر ﴿ يومئذ ﴾، أي : إذ وقع ما ذكر ﴿ بجهنم ﴾، أي : النار التي تتجهم من يصلاها كقوله تعالى :﴿ وبرزت الجحيم ﴾ [ النازعات : ٣٦ ] ويروى «أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه فأخبروا علياً فجاء فاحتضنه من خلفه وقبل ما بين عاتقيه، ثم قال : يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيرك فتلا عليه الآية. فقال له علي : كيف يجاء بها ؟ قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم تعرض لي جهنم فتقول : ما لك ولي يا محمد إنّ الله تعالى قد حرم لحمك علي فلا يبقى أحد إلا قال : نفسي نفسي إلا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول : رب أمّتي أمّتي ». وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : تقاد جهنم بسبعين ألف زمام كل زمام بيد ألف ملك لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش.
وقوله تعالى :﴿ يومئذ ﴾، أي : يوم يجاء بجهنم بدل من إذ وجوابها ﴿ يتذكر الإنسان ﴾، أي : يتذكر الكافر ما فرط أو يتعظ لأنه يعلم قبح معاصيه فيندم عليها ﴿ وأنى له الذكرى ﴾، أي : ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزمخشري : لا بد من حذف مضاف وإلا فبين ﴿ يتذكر ﴾ وبين ﴿ وأنى له الذكرى ﴾ تناف وتناقض.
تنبيه : أنى خبر مقدّم والذكرى مبتدأ مؤخر وله متعلق بما تعلق به الظرف. وقرأ ﴿ وأنى ﴾ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالإمالة بين بين والباقون بالفتح. وقرأ ﴿ الذكرى ﴾ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح.
﴿ يقول ﴾، أي : يقول مع تذكره ﴿ يا ﴾ للتنبيه ﴿ ليتني قدّمت لحياتي ﴾، أي : في حياتي فاللام بمعنى في، أو قدّمت الإيمان والخير لحياة لا موت فيها، أو وقت حياتي في الدنيا.
﴿ فيومئذ ﴾، أي : يوم يقول الإنسان ذلك وقرأ ﴿ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ﴾ الكسائي بفتح الذال والثاء على البناء للمفعول، والباقون بكسرهما على البناء للفاعل فأمّا قراءة الكسائي فضمير عذابه ووثاقه للكافر، والمعنى : لا يعذب أحد مثل تعذيبه ولا يوثق مثل إيثاقه، وأما على قراءة الباقين فالضمير فيهما لله تعالى إلى غيره، أو الزبانية المتولين العذاب بأمر الله تعالى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:﴿ فيومئذ ﴾، أي : يوم يقول الإنسان ذلك وقرأ ﴿ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ﴾ الكسائي بفتح الذال والثاء على البناء للمفعول، والباقون بكسرهما على البناء للفاعل فأمّا قراءة الكسائي فضمير عذابه ووثاقه للكافر، والمعنى : لا يعذب أحد مثل تعذيبه ولا يوثق مثل إيثاقه، وأما على قراءة الباقين فالضمير فيهما لله تعالى إلى غيره، أو الزبانية المتولين العذاب بأمر الله تعالى.
ولما وصف الله تعالى حال من اطمأن إلى الدنيا وصف حال من اطمأن إلى معرفته وعبوديته وسلم أمره إليه فقال تعالى :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ﴾ قال الحسن، أي : المؤمنة الموقنة. وقال مجاهد : الراضية بقضاء الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بثواب الله تعالى. وقال ابن كيسان : المخلصة. وقال ابن زيد : التي بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع، ويقال لها : عند الموت.
﴿ ارجعي إلى ربك ﴾، أي : إلى أمره وإرادته وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : على صاحبك وجسدك. وقال الحسن : إلى ثواب ربك. ﴿ راضية ﴾، أي : بما أوتيته ﴿ مرضية ﴾، أي : عند الله تعالى بعملك، أي : جامعة بين الوصفين لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، وهما حالان. قال القفال : هذا وإن كان أمراً في الظاهرة فهو خبر في المعنى، والتقدير : أنّ النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى في القيامة بسبب هذا الأمر.
﴿ فادخلي في ﴾، أي : في جملة ﴿ عبادي ﴾، أي : الصالحين والوافدين عليّ الذين هم أهل الإضافة إليّ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها.
﴿ وادخلي جنتي ﴾، أي : معهم، هي جنة عدن وهي أعلى الجنان ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيراً في كلامهم كقولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وقال سعيد بن زيد :«قرأ رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أبو بكر : ما أحسن هذا يا رسول الله فقال له : إنّ الملك سيقوله لك يا أبا بكر ».
وقال سعيد بن جبير : مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط فدخل نعشه لم ير خارجاً منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها ﴿ يا أيتها النفس ﴾ الآية. وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة وقيل : في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال : اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله. وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب. قال الزمخشري : والظاهر العموم.