تفسير سورة المسد

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة المسد من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
سورة المسد
مكية، وآياتها خمس.
﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ﴾ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنبأنا أبو بكر أحمد ابن الحسن الحيري، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حماد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال :" صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا فقال : يا صباحاه، قال : فاجتمعت إليه قريش، فقالوا له : ما لك ؟ قال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم، أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا : بلى، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب : تباً لك، ألهذا دعوتنا جميعاً ؟ فأنزل الله عز وجل :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ﴾ ".

سُورَةُ الْمَسَدِ مَكِّيَّةٌ (١) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ﴾
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الصَّفَا فقال: يا صاحباه، قَالَ: فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا لَهُ: مَالَكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أخبرتُكم أن العدو مُصَبِّحَكُمْ أَوْ مُمَسِّيَكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا جَمِيعًا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" إِلَى آخِرِهَا (٢).
قَوْلُهُ: ﴿تَبَّتْ﴾ أَيْ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، [أَيْ هُوَ] (٣)، أَخْبَرَ عَنْ يَدَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْسُهُ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي التَّعْبِيرِ بِبَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ.
وَقِيلَ: "الْيَدُ" صِلَةٌ، كَمَا يُقَالُ: يَدُ الدَّهْرِ وَيَدُ الرَّزَايَا وَالْبَلَايَا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا مَالُهُ وَمُلْكُهُ، يُقَالُ: فَلَانٌ قَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ، يَعْنُونَ بِهِ المال، و"الثياب": الْخَسَارُ وَالْهَلَاكُ.
وَأَبُو لَهَبٍ: هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ٢٠٥/أوَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى. قَالَ مُقَاتِلٌ: كُنِّيَ بِأَبِي لَهَبٍ لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ.
(١) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت (تبت يدا أبي لهب) بمكة. انظر: الدر المنثور: ٨ / ٦٦٥.
(٢) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة المسد - ٨ / ٧٣٧، ومسلم في الإيمان، باب في قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) برقم: (٢٠٨) : ١ / ١٩٣ - ١٩٤.
(٣) ساقط من "أ".
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "أَبِي لَهْبٍ" سَاكِنَةَ الْهَاءِ، وَهِيَ مِثْلُ: نَهْرٍ وَنَهَرٍ. وَاتَّفَقُوا فِي "ذَاتَ لَهَبٍ" أَنَّهَا مَفْتُوحَةُ الْهَاءِ لِوِفَاقِ الْفَوَاصِلِ.
﴿وَتَبَّ﴾ أَبُو لَهَبٍ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَقَدْ تَبَّ (١). قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَوَّلُ دُعَاءٌ، وَالثَّانِي خَبَرٌ، كَمَا يُقَالُ: أَهْلَكَهُ اللَّهُ، وَقَدْ فَعَلَ (٢).
﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) ﴾
﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرِبَاءَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًا فَإِنِّي أَفْتَدِي نَفْسِي وَمَالِي وَوَلَدِي (٣)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ﴾ أَيْ مَا يُغْنِي، وَقِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ، أَيْ: مَا يَدْفَعُ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ مَا جَمَعَ مِنَ الْمَالِ، وَكَانَ صَاحِبُ مَوَاشٍ ﴿وَمَا كَسَبَ﴾ قِيلَ: يَعْنِي وَلَدَهُ، لِأَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ مِنْ كَسْبِهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَطْيَبُ مَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ" (٤). ثُمَّ أَوْعَدَهُ بِالنَّارِ فَقَالَ: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ أَيْ نَارًا تَلْتَهِبُ عَلَيْهِ. ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ: كَانَتْ تَحْمِلُ الشَّوْكَ وَالْعَضَاةَ فَتَطْرَحُهُ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابِهُ لِتَعْقِرَهُمْ، وَهِيَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَتَنْقُلُ الْحَدِيثَ فَتُلْقِي الْعَدَاوَةَ بَيْنَ النَّاسِ،
(١) انظر: البحر المحيط: ٨ / ٥٢٥.
(٢) انظر: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢٩٨.
(٣) ذكره صاحب البحر المحيط: ٨ / ٥٢٥.
(٤) حديث صحيح روي من طرق بألفاظ متقاربة. فأخرجه أبو داود في الإجارات (من البيوع) باب في الرجل يأكل من مال ولده: ٥ / ١٨٢، والترمذي في الأحكام، باب ما جاء في أن الوالد يأخذ من مال ولده: ٤ / ٥٩٢ وقال: "هذا حديث حسن" والنسائي في البيوع، باب الحث على الكسب: ٧ / ٢٤١، وابن ماجه في التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، برقم: (٢٢٩٠) : ٢ / ٧٦٨ - ٧٦٩، والدارمي في البيوع، باب في الكسب: ٢ / ٢٤٧، وصححه ابن حبان صفحة (٢٦٨) من موارد الظمآن. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ٦ / ٣١، وفي مواضع أخرى، وعبد الرزاق في المصنف ٩ / ١٣٣، وابن أبي شيبة: ٧ / ١٥٧، والمصنف في شرح السنة: ٩ / ٣٢٩.
وَتُوقِدُ نَارَهَا كَمَا تُوقَدُ النَّارُ [بِالْحَطَبِ] (١). يُقَالُ: فُلَانٌ يَحْطِبُ عَلَى فُلَانٍ، إِذَا كَانَ يُغْرِي بِهِ (٢).
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: حَمَّالَةَ الْخَطَايَا، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ: "وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ" (الْأَنْعَامِ -٣١).
قَرَأَ عَاصِمٌ "حَمَّالَةَ" بِالنَّصْبِ عَلَى الذَّمِّ، كَقَوْلِهِ: "مَلْعُونِينَ".
وَقَرَأَ. الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ، وَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا سَيَصْلَى نَارًا هُوَ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ. وَالثَّانِي: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ فِي النَّارِ أَيْضًا.
﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥) ﴾
﴿فِي جِيدِهَا﴾ فِي عُنُقِهَا، وَجَمْعُهُ أَجْيَادٌ، ﴿حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: سِلْسِلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا، تَدْخُلُ فِي فِيهَا وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهَا، وَيَكُونُ سَائِرُهَا فِي عُنُقِهَا، وَأَصْلُهُ مِنَ "الْمَسْدِ" وَهُوَ الْفَتْلُ، وَ"الْمَسَدُ" مَا فُتِلَ وَأُحْكِمَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، يَعْنِي: السِّلْسِلَةَ الَّتِي فِي عُنُقِهَا فَفُتِلَتْ مِنَ الْحَدِيدِ فَتْلًا مُحْكَمًا.
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ: "مِنْ مَسَدٍ" أَيْ مِنْ حَدِيدٍ، وَالْمَسَدُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَكَرَةِ، يُقَالُ لَهَا الْمِحْوَرُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: مِنْ لِيفٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: فِي الدُّنْيَا مِنْ لِيفٍ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ نَارٍ. وَذَلِكَ اللِّيفُ هُوَ الْحَبْلُ الَّذِي كَانَتْ تَحْتَطِبُ بِهِ، فَبَيْنَمَا هِيَ ذَاتَ يَوْمٍ حَامِلَةٌ حُزْمَةً فَأَعْيَتْ فَقَعَدَتْ عَلَى حَجَرٍ تَسْتَرِيحُ فَأَتَاهَا مَلَكٌ فَجَذَبَهَا مِنْ خَلْفِهَا فَأَهْلَكَهَا.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَبْلٌ مِنْ شَجَرٍ يَنْبُتُ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ مَسَدٌ.
قَالَ قَتَادَةُ: قِلَادَةٌ مَنْ وَدَعٍ (٣) وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ خَرَزَاتٌ فِي عُنُقِهَا [فَاخِرَةٌ] (٤) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَتْ لَهَا قِلَادَةٌ فِي عُنُقِهَا فَاخِرَةٌ، فَقَالَتْ: لَأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(١) في "ب" الحطب.
(٢) أورد الطبري: ٣٠ / ٣٣٨ - ٣٣٩ أقوالا مردها إلى رأيين ثم قال مرجحا: "وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: "كانت تحمل الشوك، فتطرحه في طريق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن ذلك هو أظهر معنى ذلك".
(٣) ساق الطبري: ٣٠ / ٣٤٠ - ٣٤١ أقوال المفسرين ثم قال: "وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو حبل جمع من أنواع مختلفة، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا".
(٤) زيادة من "ب".
Icon