تفسير سورة لقمان

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة لقمان
في السورة تنويه بالمؤمنين المحسنين وتقريع للكافرين المعطلين المستكبرين. وحكاية لبعض أقوالهم. وردود مفحمة عليهم وإشارة إلى لقمان وحكمته وجملة من مواعظ لابنه على سبيل ضرب المثل والحث على كريم الأخلاق والمبادئ. واستدراك في صدد طاعة الوالدين وتنويه بعظمة الله وسوابغ نعمه على الناس. وحث على الاستجابة إلى الدعوة وعدم إضاعة الفرصة. وتنديد بتمسك المشركين بتقاليد الآباء رغم سخفها وبطلها.
وأسلوب السورة وترابط فصولها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة.
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [٢٧- ٢٩] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآيات وتواثقها مع سائر الآيات السابقة واللاحقة لها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
(١) المحسنون: هنا بمعنى الذين يعملون الأعمال الحسنة أو الذين يحسنون فيما يعملون أو يعملون أكثر مما يجب عليهم عمله.
بدأت السورة بحروف الألف، واللام، والميم، لاسترعاء السمع والذهن لما بعدها. وأعقبها إشارة تنويهية إلى آيات الكتاب المحكم في أسلوبه وأهدافه وعظاته، الذي فيه الهدى والرحمة لمن حسنت نيتهم وأعمالهم، التي منها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان اليقيني بحقيقة الحياة الأخروية وما وعد الله فيها.
فهؤلاء هم على هدى الله وهم الناجحون الفائزون.
وصيغة الآية الخامسة تنطوي كما هو المتبادر على التنويه بشأن الذين تحققوا بالصفات الثلاثة التي جمعت الآية الرابعة بينها، وينطوي فيها بطبيعة الحال حثّ على التحقق بها. وروح الآية الثالثة ومضمونها يلهمان تقرير كون الذين ينتفعون بآيات الكتاب ويكون لهم فيها هدى ورحمة هم ذوي القلوب السليمة والروح الطيبة الراغبة في الحق والخير والهدى. ولقد نبهنا إلى ما في التنويه بالمحسنين من مقصد جليل في تعليق كتبناه على الكلمة في سورة المرسلات التي سبق تفسيرها. وهذا المقصد الجليل بارز في هذه الآيات بروزا قويا كما هو المتبادر.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٦ الى ١١]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠)
هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)
. (١) لهو الحديث: الباطل من الحديث الذي يلهي عن الحقيقة.
(٢) وقر: صمم.
الجزء الرابع من التفسير الحديث ١٦
241
(٣) عمد: جمع عمود أو عماد أي سند.
(٤) تميد بكم: تتحرك بكم.
(٥) من كل دابة: من كل نوع من أنواع الحيوان.
(٦) زوج: بمعنى صنف.
في الآيات تنديد بفريق من الناس يتمسكون بالأحاديث الباطلة ليضلوا بها سامعيها عن سبيل الله دون علم. وحينما تتلى عليهم آيات الله استكبروا وولوا كأنهم لم يسمعوها أو كأن في آذانهم صمما يحول دون سماعها. وأمر للنبي ﷺ بإنذار هؤلاء وتبشيرهم بعذاب الله المهين الأليم. وهناك مقابلهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقد وعدهم الله جنات النعيم وعدا حقا وهو العزيز القادر على تحقيق وعده الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمة وإتقان، والذي من آياته الباهرة خلق السموات وإمساكها بدون سند يراه الناس، وإرساء الجبال فوق الأرض لئلا تتحرك من تحتهم وتكبهم، وبثّه فيها من كل نوع من أنواع الدواب وإنزاله الماء من السماء وإنباته به من كل صنف كريم من صنوف النبات.
وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين وتحديهم: فهذا ما خلق الله وأبدع فما الذي خلقه غيره من الآلهة التي يشركها الناس معه بالعبادة والاتجاه. ثم قررت حقيقة أمر الظالمين الذين يدعون غير الله فهم في ضلال ليس بعده ضلال.
وقد روى بعض المفسرين «١» أن الآية الأولى عنت النضر بن الحرث الذي كان يرحل إلى بلاد فارس ويعود منها فيقول للناس إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أستطيع أن أحدثكم عن رستم وإسفنديار وإن حديثي لأشهى من حديثه. والرواية محتملة مع التنبيه على أنها تكررت في مناسبات عديدة ومع التنبيه كذلك على أن الآيات وحدة منسجمة بحيث يمكن القول إنها نزلت جميعها- وليست الآية الأولى فقط- في صدد الموقف الذي ذكرته الرواية أو موقف مماثل له فيه تشويش من بعض نبهاء الكفار على القرآن. ومقابلته ما يتلى عليه منه بالاستهزاء
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن.
242
والاستخفاف والإعراض والاستكبار. ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف وجاهيا كما أن من المحتمل أن تكون الآيات الأولى من السورة جاءت كمقدمة تمهيدية له.
تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ وحديث ورد في صددها في الغناء والمغنيات
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل في الصدد الأول أن جملة لَهْوَ الْحَدِيثِ تعني الغناء. وأوردوا حديثا رواه الترمذي أيضا عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال: «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ولا تعلّموهنّ ولا خير في تجارة فيهن وثمنهنّ حرام» «١» وفي مثل هذا أنزلت الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) ولقد علق ابن كثير على الحديث قائلا إنه غريب وإن أحد رواته وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء.
ومع هذه العلل فإذا صح الحديث فيكون فيه استلهام نبوي في العهد المدني من تلقين الآية وحسب. ومع أن الغناء في حدّ ذاته يمكن أن يوصف بصفة (اللهو) فالمتبادر من روح الآيات ومضمونها أن المقصود من الكلمة هو أوسع شمولا من الغناء بحيث يمكن أن تتناول كل باطل من قول وعمل مؤدّ إلى احتلال الناس وصرفهم عن الحق والطريق السوي والتلهي بذلك والاستهزاء والاستهانة به عن الحق. ولقد أورد الطبري الأقوال ثم قال إن الكلمة عامة تتناول الغناء والشرك وتتناول كل ما نهى الله ورسوله عن سماعه والاشتغال به، وهذا هو المتبادر من روح الآيات كما ذكرنا.
(١) انظر التاج ج ٤ ص ١٨٠ والقينات تعني المغنيات.
243
تعليق على وصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس وعلى وصف السماء بأنها رفعت بدون عمد
ووصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس ووصف السماء بأنها رفعت بدون عمد يراها الناس قد تكرر في سور أخرى ترتيبها متأخر عن هذه السورة. والإيمان بما جاء في القرآن في صدد المشاهد الكونية واجب مع واجب الوقوف عند ما اقتضت الحكمة وحيه بالأسلوب الذي جاء به واستشفاف الحكمة في ذلك. والمتبادر من ذلك أن هذا الوصف مما كان مستقرا أيضا في أذهان السامعين الذين كانوا يعترفون بالله وكونه خالق السموات والأرض على ما ذكرناه في مناسبات سابقة فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها من خلال ذلك بقدرة الله وإبداعه والتدليل على شمول قدرته للبعث والجزاء الأخرويين أيضا. وعلى كل حال إن القرآن لم يقصد تقريرات فنية لأن ذلك خارج عن هدفه في الهداية والإرشاد على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وعلى ضوء هذا الشرح تبدو الآيات قوية رائعة في تذكيرها وتنويهها وتحديها، والله أعلم.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٢ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
244
(١) الحكمة: حسن التدبر والإدراك وبعد النظر وسعة العقل.
(٢) الجمهور على أن جملة (أن أشكر لله) وما بعدها هي خطاب رباني للقمان أي أننا آتيناه الحكمة وأمرناه أن يشكر الله إلخ.
(٣) وهنا على وهن: ضعفا على ضعف. أي حملته أمه على ضعفها فزاد ضعفها بحمله.
(٤) فصاله في عامين: إرضاعه عامين ثم فطمه حيث كان العرب يرون ذلك هو الأفضل. وقد جاء هذا صريحا في آية سورة البقرة هذه: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [٢٣٣] والفصال بمعنى الفطام.
(٥) إن جاهداك: إن بذلا جهدهما معك وألحّا عليك.
(٦) وصاحبهما في الدنيا معروفا: وعاشرهما وكن لهما صاحبا رفيقا في الدنيا مما هو متعارف عليه ومحمود من الأبناء للآباء.
(٧) من أناب إليّ: من آمن بي وسلك سبيلي واتجه إليّ.
(٨) المعروف: كل ما هو متعارف على أنه خير وصالح وطيب.
(٩) المنكر: كل ما هو متعارف على أنه شر وضار وخبيث.
(١٠) لا تصعّر خدك للناس: تصعير الخد بمعنى لوي الوجه أو العنق والجملة بمعنى النهي عن التكبّر والزهو والخيلاء.
(١١) مرحا: بطرا وزهوا.
(١٢) المختال: الذي يمشي متمايلا منتفخا بالكبر والزهو.
(١٣) فخور: الذي يتفاخر بنفسه وقوته وماله.
(١٤) اقصد في مشيك: اعتدل وتوسط في مشيك أو تأنّ بدون اختيال.
(١٥) اغضض من صوتك: اخفض صوتك وخففه.
245
(١٦) أنكر الأصوات: أقبح الأصوات وأشدها بعثا على الإنكار والاشمئزاز، ولعل المناسبة هي علو صوت الحمير حيث جاء التشبيه مقابل الأمر بالغض من الصوت وعدم رفعه.
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع.
وبيّن له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة. وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثّه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان.
ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر:
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضرّه كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون
246
الدنيا من جهة، واتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائرا في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جمعيهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في قول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة «١».
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه
(١) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري.
247
مشتق من (لقم) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات «١» أن النبي ﷺ لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له: لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن.
ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار «٢». منها المعقول ومنها الغريب.
وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له: (أنت لقمان عبد بني الحسحاس؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم؟ قال نعم. قال أنت الأسود؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال: «غضّي بصري وكفّي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى». ومما أورده الطبري «إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا». وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي آتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليس من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن
(١) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٣٤- ٣٦.
(٢) انظر كتب التفسير المذكورة سابقا.
248
المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يرد في القرآن من ذلك ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في كلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورتي النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه إلى أقوامهم من ذلك في سياق السور التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذرّ عن رسول الله عن الله تعالى قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر». وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: «خياركم أحاسنكم أخلاقا». وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله ﷺ ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله وحسن الخلق». وحديث رواه مسلم
249
وأبو داود عن عياض عن النبي ﷺ قال: «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد».
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [١٤ و ١٥] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بين ما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورتي الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البرّ بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبرّ بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود طاعة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم اتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل وهو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آية سورة الممتحنة هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «١».
(١) التاج ج ٣ ص ٤٠.
250
ولقد ذكرت الروايات «١» أن الآيتين نزلنا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش فأخذت أمه تحاول ردّه عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبرّ بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقتضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالة سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارة على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين وولد مؤمن، وكان فيه تساؤل وحيرة وأزمة نفسية. وقد تكرر هذا في سورة العنكبوت أيضا حيث جاء فيها هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) مما يسوغ القول أن المسألة لم تكن مسألة شخص سعد لحدته، وإنما كانت أكثر من شخص.
وهذا مما أوضحته روايات السيرة «٢» التي ذكرت عددا غير يسير من شباب قريش وفتيانهم آمنوا بالرسالة المحمدية رغم بقاء آبائهم على الكفر والشرك، وتعرضوا لاضطهاد وضغط آبائهم، وهاجروا إلى الحبشة نتيجة لذلك مثل خالد بن سعيد بن العاص وامرأته أمينة بنت خلف، وأخوه عمرو وامرأته فاطمة بنت صفوان، والأسود بن نوفل بن خويلد وعامر بن أبي وقاص، والمطلب بن أزهر بن عوف وامرأته رملة بنت أبي عوف، وعبيد الله بن جحش وامرأته رملة بنت أبي سفيان، وعثمان بن ربيعة، ومعمر بن عبد الله ومالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس وامرأته عمرة، ويزيد بن زمعة بن الأسود وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم.
ومما روي عن سعد «٣» أن أمه اشتدت في الإلحاح عليه وقالت له: لأضربن
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري.
(٢) انظر ابن هشام ج ١ ص ٣٤٠ وما بعدها.
(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري.
251
عن الطعام حتى أهلك فيعيرك الناس، فقال لها: يا أمه والله لو كان لك مائة نفس وخرجت منك واحدة بعد أخرى ما تركت ديني وفي هذا صور رائعة من صور السيرة النبوية.
ومن المتبادر أن يكون الشباب الذين آمنوا رأوا أنفسهم في حرج لأن آيات الإسراء والأنعام تأمرهم بالبرّ والإحسان بوالديهم إطلاقا فأفضوا بحرجهم إلى رسول الله ﷺ فاقتضت حكمة التنزيل نزول هذه الآيات للاستدراك ورفع الحرج وفي هذه صورة من صور تطور التنزيل القرآني.
تعليق على وصف الشرك بالظلم العظيم
ووصف الشرك بالظلم العظيم جدير بالتنويه لما فيه من تعظيم إثم الشرك.
ويتضح عظم هذا الإثم ومصداق هذا الوصف إذ يلاحظ أن المشرك يجني على نفسه جنايات متنوعة فهو أولا يناقض نفسه ويظهرها في مظهر السخف والغباء في اعترافه بالله الخالق المدبر النافع الضار، ثم إشراك غيره معه في الدعاء والاتجاه والعبادة. وثانيا يعرض نفسه لسخط الله وغضبه في شذوذه عن الحق وما يجب عليه من الإخلاص له وحده وفي تسويته بينه وبين بعض خلقه. وثالثا يخضع نفسه لمفهومات وتصورات وقوى باطلة لا حقيقة لها وليس من شأنها أن تجلب له خيرا أو تدفع عنه ضرا.
تعليق على اختصاص الأم بالذكر
واختصاص الأم بالذكر جدير بالتنويه أيضا حيث ينطوي فيه من ناحية تنبيه إلى الحنان العظيم الذي تمنحه الأم لوليدها، ومن ناحية تنبيه إلى ما يجب على الأولاد نحو أمهاتهم خاصة من واجب البر والرحمة. ولقد أخرج البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة جاء فيه أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: من أحقّ الناس بحسن صحبتي يا رسول الله؟ قال له: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثم
252
من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك «١». وأخرج الترمذي وأبو داود حديثا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله من أبرّ؟ قال:
أمّك، ثم أمّك ثم أمّك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب «٢». وأخرج الطبراني حديثا عن طلحة بن معاوية السلمي قال: أتيت النبي ﷺ فقلت له: يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: أمّك حيّة؟ قلت: نعم، قال: الزم رجلها فثمّ الجنة «٣».
وأخرج الطبراني أيضا حديثا عن أبي أمامة جاء فيه إن أول ما تفوّه به رسول الله ﷺ في حجة الوداع أن وصّى بالأمهات «٤»، حيث يبدو التساوق بين تنويه كتاب الله عز وجل ووصايا رسوله صلى الله عليه وسلم.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١)
. (١) أسبغ: أتمّ أو أوفى.
وجّه الكلام في الآية الأولى إلى السامعين المخاطبين على سبيل الالتفات فنبهوا إلى ما سخّره الله لهم من وسائل وقوى في السموات والأرض، وما أسبغه عليهم من نعمه الظاهرة والباطنة مما يقع تحت مشاهدتهم الحسية، ويرون آثاره في أنفسهم وما يحيط بهم ومما يكفل لهم السلام والقوة والرخاء. ثم أشير إشارة تنديدية إلى الذين يجادلون رغم ذلك في الله ووحدته وعظمته وحقه وحده بالخضوع والإخلاص جدالا لا يستند إلى علم وهدى ولا كتاب. واستمرت الآية
(١) التاج ج ٥ ص ٤.
(٢) الجزء نفسه ص ٥.
(٣) مجمع الزوائد ج ٨ ص ١٣٨. [.....]
(٤) الجزء نفسه ص ١٣٩.
253
الثانية في التقريع بهم، وحكت ما يقولون إذا ما دعوا إلى اتباع ما أنزل الله حيث كانوا يجيبون أنهم يفضلون اتباع ما وجدوا عليه آباءهم. وانتهت الآية بسؤال استنكاري لاذع عما إذا كان هؤلاء يقفون هذا الموقف العنيد ولو كان الشيطان هو الذي يمليه عليهم ويدفعهم به إلى عذاب السعير في الحقيقة وواقع الأمر.
وفي الآيتين وصل بين أجزاء المشهد الذي بدىء بحكايته في آيات السورة الأولى والذي اعترضته آيات لقمان على سبيل الاستطراد وضرب المثل إذا ما أمعن النظر فيها.
وقد روي «١» أن الآيتين نزلتا في الحارث بن النضر وآخرين من زعماء المشركين كانوا يجادلون النبي ﷺ في صفات الله وشفاعة الملائكة وصلة عقائدهم بالله وكون ما هم عليه وما كان آباؤهم عليه هو الأولى بالاتباع. وروح الآيتين تتسق إجمالا مع الرواية وتلهم أنهما بسبيل وصف موقف جدل وحجاج مع زعماء الكفار مثل الآيات الأولى من السورة. وكل ما هناك أن تسلسل السياق يلهم أن الآيتين لم تنزلا لحدتهما من أجل هذا الموقف وإنما احتوتا الإشارة إليه في سياق حكاية مواقف الكفار ومشاهد جدلهم بصورة عامة.
ولذعة الفقرة الأخيرة من الآية الثانية قوية حقا، وفيها صدى للصرخة القوية الجريئة التي كان النبي ﷺ يوجهها بلسان القرآن إلى الكفار وزعمائهم حينما تنعقد بينهم وبينه مواقف مناظرة أو يحتدم الجدل واللجاج.
تعليق على الحملة القرآنية على التمسك بتقاليد الآباء
والآية التي احتوت حكاية قول الكفار بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا والتنديد بهم فيها بسبب قولهم تأتي بصيغتها لأول مرة. وقد تكرر فحواها مرارا في القرآن المكي والمدني حيث يدل هذا على شدة تمسك كفار العرب بتقاليد آبائهم واعتبارهم إياها مقدسة واعتبار الدعوة إلى تركها بدعة وعدوانا. ومن المرجح أن الموقف الشديد الذي وقفوه من الدعوة النبوية التي فيها تهديم لكثير من تلك
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والطبرسي وغيرهما.
254
التقاليد متأتّ من ذلك أو أن ذلك من أهم أسبابه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا ليس خاصا بالعرب وإنما هو قدر مشترك بين الناس جميعا حيث لا يستسيغ التساهل في التقاليد الموروثة أو تركها إلّا الفئة النيرة الفتية التي تفتحت أذهانها ولم تكن تلك التقاليد راسخة فيها.
ولعل هذا يفسّر لنا حكمة الله عز وجل في اختصاص النبي محمد ﷺ بالرسالة ولما يتجاوز سنّ الشباب، ويفسر لنا كون معظم أفراد الرعيل الأول من السابقين إلى الإسلام هم من زمرة الشباب وغير المتقدمين في السن كأبي بكر وعمر وعثمان وسعد وعلي وأبي عبيدة وجعفر وأبي سلمة وخالد بن سعيد وطلحة والزبير وسعيد وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم. ولعل بين هذا الذي نقرره في مناسبة الآيتين وبين آيات لقمان ثم بينه وبين تقرير سقوط حق الطاعة على الأبناء إذا ما أرادهم آباؤهم على الشرك مناسبة قوية أيضا. فكثير من أفراد هذا الرعيل من قريش شبّانا وفتيات آمنوا رغم آبائهم بل ومنهم من كان آباؤهم يقودون حملة المعارضة الشديدة ضد النبي ﷺ ودعوته. ولقد بقي معظم شيوخ بني هاشم عشيرة النبي ﷺ الأقربين على الشرك تمسكا بتقاليد الآباء وفي مقدمتهم أبو طالب عمّه وحاميه وأبو جعفر وعليّ اللذين اتبعا دين ابن عمهم وأسلما في أول الدعوة، مع أنهم كانوا يعلنون حمايتهم له بدافع العصبية.
وغني عن البيان أن التنديد القرآني بالتمسك بتقاليد الآباء التي لا تستند إلى علم وحق ومنطق يحتوي تلقينا عاما مستمر المدى في صدد تقبيح التمسك بالتقاليد الموروثة تمسكا أعمى والاعتذار بها عن اتباع ما هو الأفضل، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
تعليق على جملة أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً
وجملة أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ
255
ظاهِرَةً وَباطِنَةً
مستمدة من مشاهدات الناس وممارساتهم وأن سامعي القرآن مباشرة يعرفون مداها، فقصدت حكمة التنزيل تنبيههم إلى ما يعرفون ويتمتعون به من فضل الله عليهم، وواجب الاعتراف به والشكر على ذلك. ولا نراها من جهة أخرى تقتضي أن يكون معناها إن الله خلق السموات والأرض وما فيهما لأجل بني الإنسان خاصة ولكنها قد تنطوي مع ذلك على تقرير اختصاصهم دون غيرهم من الأحياء بالتغلب على ما في السموات والأرض من قوى ونواميس وتسخيرها والانتفاع بها نتيجة لما اختصهم به من تكامل عقلي. وهكذا يكون هذا المعنى قائما واسع المدى متساوقا مع تطور العقل والفكر والمعارف الإنسانية والنشاط الإنساني في كل ظرف ومكان. ويكون قد انطوى على حث الإنسان والمسلمين بخاصة على الانتفاع بهذه القوى والنواميس بمختلف الأساليب والوسائل والصور.
وقد تكرر تقرير ذلك فيما يأتي من السور. وفي بعضها يبدو المعنى أوضح على ما سوف ننبه عليه في مناسباته.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
. معاني الآيات واضحة، وقد جاءت معقبة على سابقاتها كما هو المتبادر، واحتوت في الوقت نفسه تسلية للنبي على عناد الكفار وأقوالهم وتمسكهم بتقاليد الآباء الباطلة وإنذارا لهم فلا ينبغي للنبي ﷺ أن يحزن من كفرهم. وقصارى أمرهم متعة قصيرة الأمد ثم يصيرون إلى العذاب الشديد الخالد الذي استحقوه. واحتوت كذلك حثّا على إسلام النفس لله عز وجل والاتجاه إليه وحده والجمع بين ذلك وبين الأعمال الحسنة الصالحة وتنويها بالذين يفعلون ذلك. فإنهم يستمسكون بعروة وثقى لا تنفصم.
وأسلوب الآيات من الأساليب الصريحة المحكمة التي تقرر كسب الناس
لأعمالهم واستحقاقهم للجزاء وفق ذلك والتي تكرر أمثالها كثيرا.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)
. الآيتان استمرار في السياق التعقيبي وفيهما التفات إلى المشركين وتنديد بهم بسبب ما يبدو منهم من تناقض، فلو سئلوا عمن خلق السموات والأرض لأجابوا أنه الله ثم يقفون من الدعوة إليه وحده ومن رسوله موقفهم العنيد العجيب. وقد أمرتا النبي ﷺ بأن يحمد الله على هداه، وقررتا حقيقة أمر الكفار وهي أن أكثرهم جاهلون فيقعون في التناقض جهلا وحمقا. كما قررتا حقيقة من حقائق الله عز وجل وهي أن كل ما في السموات والأرض له، وأنه الغني عن الناس، المستوجب للوجود والحمد، سواء آمنوا به أم جحدوه.
والآية الأولى صريحة في تقرير عقيدة مشركي العرب بكون الله هو الخالق الرازق المتصرف في الكون مما حكته آيات عديدة أخرى مرّت أمثلة منها في السور السابقة. ومن هنا جاء الإفحام قويا مستحكما ضدهم.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)
. (١) كلمات الله: المتبادر أنها تعني آياته ومخلوقاته ومشاهد ربوبيته ونواميسه الكونية وحكمه.
الجزء الرابع من التفسير الحديث ١٧
257
في الآيات:
١- تقرير بأنه لو قطّعت كل شجرة في الأرض وجعلت قطعها أقلاما وصار البحر ومعه سبعة أبحر مدادا لتدوين آيات الله وآلائه ومشاهد ربوبيته ونواميسه ومخلوقاته وحكمه لنفدت الأقلام والمداد ولم تنفد هذه الآيات والآلاء والمشاهد والنواميس والمخلوقات والحكم، فهو العزيز الجانب القادر الحكيم في كل ما يقضي ويخلق ويشاء.
٢- وتقرير آخر بأن خلق الناس جميعا وبعثهم جميعا بالنسبة إليه ليس إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها. وهو السميع لكل ما يقال، البصير لكل ما يكون.
٣- وسؤال في معنى التقرير بأن الله هو الذي يعاقب بين الليل والنهار فيدخل الليل على النهار والنهار على الليل. وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر ليجريا وفقا للنظام الذي رتبه لهما إلى الأجل المعين في علمه وحكمته. وأنه هو الخبير بكل ما يفعله الناس، وأن في هذه المشاهد التي يراها الناس بأعينهم ويتمتعون بفوائدها أقوى الأدلة على قدرته وعظمته وأفضاله، وأنه هو الحق وحده المستحق للعبادة والدعاء والخضوع وحده، وأن ما عداه مما يدعوه المشركون باطل، وأنه هو العلي الكبير الذي لا يدانيه شيء في علوه وعظمته.
والمتبادر أن الصلة بين هذه الآيات والآيات السابقة وثيقة وأنها استمرار في تقرير المعاني التي احتوتها تلك الآيات وتوكيد لها من جهة، ولإفحام المجادلين المكابرين الذين حكيت أقوالهم ومواقفهم وعقائدهم في تلك الآيات من جهة أخرى.
وقد جاءت بأسلوب قوي نافذ إلى القلوب والعقول معا، وتضمنت فيما تضمنته حقيقة يقينية يظهر كل يوم مظهر من مظاهرها وأثر من آثارها فيما ينكشف للناس نتيجة لتقدم العلوم من عظمة كون الله ونواميسه وحكمته وتجاوز ذلك كل معنى من معاني التحديد مما يثير الدهشة والذهول.
والآية الثانية [٢٨] جاءت بأسلوب المخاطب. ونرجح أنها موجهة للمشركين الذين ينكرون البعث الأخروي بسبيل الرد عليهم. فهم يعترفون بأن الله
258
هو الذي خلق السموات والأرض كما جاء في الآية [٢٥] وهم يعترفون بأن الله هو الذي خلقهم كما جاء في آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) فمن المناقضة أن يعترفوا بقدرة الله بدءا وينكروها إعادة، ومن الغباء أن يظنوا أن هناك تحديدا لقدرة الله وفرقا بالنسبة إليها بين خلق فرد وبين خلق جميع الناس وبعثهم، وفي ما هو ماثل أمامهم من عظمة كون الله الذي يعترفون بخلقه إياه وبآياته ونواميسه الباهرة فيه برهان لا يدحض على ذلك.
وجملة أَلَمْ تَرَ التي تبدأ بها الآية الثالثة قد تلهم أن سامعي القرآن يعرفون ويفهمون مدى ما احتوته الآيات من نواميس كونية ربانية، وبذلك يستحكم في المشركين منهم التنديد القرآني بقوة أشد، والله تعالى أعلم. وفي القرآن آيات فيها جملة أَوَلَمْ يَعْلَمُوا في مقام (أولم يروا) كما هو الأمر في الآية [٣٧] من سورة الروم والآية [٥٢] في سورة الزمر.
تعليق على رواية مدنية الآيات [٢٧، ٢٨، ٢٩]
ولقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [٢٧ و ٢٨ و ٢٩] مدنيات. ولقد روى الطبري عن ابن عباس: «أن أحبار يهود قالوا لرسول الله ﷺ بالمدينة يا محمد أرأيت قوله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الإسراء: [٨٥]. إيانا تريد أم قومك فقال: كلاكما. فقالوا ألست تتلو فيما جاءك إنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء؟ فقال: إنها في علم الله قليل وعندكم من ذلك ما يكفيكم فأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ... إلخ [٢٧] ونحن نتوقف في هذه الرواية وفي رواية مدنية الآيات بالتبعية لأنها منسجمة مع ما قبلها وبعدها انسجاما وثيقا سبكا ومعنى وتوجيها وموضوعا على ما يبدو عند إنعام النظر. ولا تفهم أي حكمة لوضعها لو كانت مدنية في هذا السياق.
وقد روى بعض المفسرين «١»
أن بعض المشركين سألوا النبي ﷺ ذلك
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.
259
السؤال بإيعاز من اليهود. وقد يكون هذا صحيحا لأن من المشركين من كان يحاول إفحام النبي ﷺ ومحاجته في ما يتخيله من تناقض في ما يتلوه من الفصول القرآنية. وقد كان في مكة والمدينة يهود كثيرون، ولا يبعد أن يكون بعضهم وسوس لبعض المشركين بإلقاء ذلك السؤال بقصد التعجيز والإفحام وإظهار التناقض أيضا.
غير أن الذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها منفصلة عن ما سبقها ولحق بها، والصلة الوثيقة بين ما سبقها ولحق بها بارزة.
وكل ما يحتمل أنها احتوت ردا على ما أورده أو احتج به بعض المشركين أو بعض الكتابيين في موقف من المواقف.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
. (١) صبّار: شديد الصبر والثبات.
(٢) الظلل: جمع ظلة. وهي هنا كناية عن عظمة الموج وارتفاعه حتى كأنه يظلل الركاب والسفن.
(٣) مقتصد: معتدل في جحوده وغلوائه. ومن المفسرين «١» من أوّل الكلمة بأنه الذي كفّ عن غلوائه ووفى بعهده بالإخلاص لله بعد أن نجاه الله من خطر البحر. ولا يخلو التأويل من وجاهة بقرينة الجملة التي أتت بعد الكلمة.
(٤) ختّار: شديد الختل والغدر.
(١) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي.
في الآية الأولى سؤال تقريري بقصد لفت النظر إلى أحد النواميس الكونية في سير المراكب فوق البحار، وما في ذلك من نفع للناس، وفرص لمشاهدتهم آثار الله وآياته في كونه. فإن ذلك هو من نعم الله، وفيه دلائل راهنة على عظمته وقدرته، يدركها الصابرون الثابتون عند حدود الله، الشاكرون لنعمه وأفضاله.
وفي الآية الثانية حكاية تنطوي على التعجب والتقريع لحال بعض الناس الذين يركبون البحر، فإذا تعاظمت أمواجه حتى أصبحت كالظلل من فوقهم، وأحدق بهم الخطر ذكروا الله وحده ودعوه وحده مخلصين له الدين. فإذا ما نجاهم إلى البرّ فمنهم من يكفّ عن غلوائه ويبقى على إخلاصه الذي عاهد الله عليه، ومنهم من ينكث ويغدر، وهذا دأب الختار الجحود.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع وأسلوب.
ولقد روي «١» أنهما نزلتا في عكرمة بن أبي جهل الذي فرّ من مكة حينما فتحها النبي ﷺ وركب البحر فأحدق به الخطر فعاهد الله لئن نجاه ليؤمنن فنجاه فآمن.
ويلحظ أن الآيتين مكيتان ولم نقع على رواية لمدنيتهما أولا. وأنهما منسجمتان مع السياق أسلوبا وموضوعا ثانيا. وأن مثل هذا قد تكرر في آيات مكية كما جاء في آيات سورة يونس [٢٢- ٢٣] التي سبق تفسيرها ثالثا. ومع ذلك فقد يلمح فيهما صورة جديدة في حادث واقعي. ولا يبعد أن يكون بعض المكيين قاموا برحلة بحرية فأحاق بهم الخطر فدعوا الله وحده وعاهدوه على البقاء على ذلك أو الإيمان برسالة النبي صلّى الله عليه وسلم فلما نجوا وعادوا إلى مكة وفّى بعضهم بعهده، فكفّ عن موقفه الجحودي واعتدل أو آمن، في حين نكث الآخرون عهدهم وغدروا وعادوا إلى مواقف الجحود والعناد. وهذا لا يعني فيما نرى أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن السياق، فنحن نرجح أنهما جزء منه. وأن الإشارة إلى الحادث جاءت للاستطراد والإفحام.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي.
261
(١) لا يجزي: بمعنى لا ينوب ولا يسد.
في الآية الأولى هتاف بالناس ودعوة لهم إلى تقوى الله والخوف من يوم القيامة، حيث لا يسد فيه والد مسد ولد، ولا ولد مسد والد، وحيث يكون كل امرئ مسؤولا عن عمله ومشغولا بنفسه عن غيره، وإن كان أقرب الناس إليه وألصقهم به، وتوكيد لهم بأن وعد الله هذا حق، وتحذير لهم من الاغترار بالحياة الدنيا والاستماع إلى وساوس الشيطان وإغراءاته.
وفي الثانية تقرير بأن علم موعد يوم القيامة هو عند الله الذي ينزل الغيث، ويعلم ما تحمل الأرحام، وبأنه ليس من أحد يستطيع أن يعرف ماذا يفعل غدا وماذا يكسب، وفي أي أرض يموت، فالله وحده هو العليم بكل شيء، الخبير بحقائق الأمور وسيرها ونتائجها.
ولقد روى الطبري «١» أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة سؤال رجل النبي صلّى الله عليه وسلم قائلا: «إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت. فأنزل الله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى آخر الآية». وروى البغوي أنها نزلت في الحارث بن عمرو من أهل البادية الذي جاء إلى النبي فسأله هذه الأسئلة. وروح الآيتين تلهم وجود ترابط قوي بينهما أولا وبينهما وبين الآيات السابقة لهما ثانيا. وتلهم كون الآية الثانية جاءت لتدعيم ما احتوته الآية الأولى من إنذار وتحذير، هذا فضلا عن تساوق الفاصلة في الآيتين وتساوقها كذلك في الآيات السابقة. وكل هذا يجعلنا نرى أن
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.
262
الآيتين متصلتان بسابقاتهما سياقا وسبكا وموضوعا، وأنهما جاءتا خاتمة للسورة وما احتوته من فصول المناظرة أو مشاهدها معا. وقد تضمنتا هتافا قويا للناس محذرا منذرا داعيا إلى الله وتقواه.
وما قلناه لا يمنع أن يكون بعض الناس قد وجهوا إلى النبي ﷺ بعض الأسئلة وأن الآية الأخيرة قد احتوت إجابات عليها.
تعليق على آية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلخ وحديث مفاتيح الغيب
ولقد أورد المفسرون «١» في مناسبة الآية الأخيرة حديثا نبويا عن ابن عمر جاء فيه أن رسول الله ﷺ قال: مفاتيح الغيب خمس ثم تلا الآية. وأوردوا «٢» كذلك حديثا آخر عن ابن عمر أيضا جاء فيه أن رسول الله ﷺ قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله، فلا يعلم ما في غد إلّا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلّا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلّا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلّا الله، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت.
والحديث الأول مما أخرجه البخاري «٣»، ونحن في حيرة من ذلك. لأن بدء كل من الحديثين يفيد الحصر ويعني أن الأمور الخمسة هن مفاتح الغيب مع أنهن لسن كل ما يغيب عن الناس علمه، ثم إن جملة وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ في الآية لا تعني أنه لا يعلم وقت نزول الغيث إلّا الله، والله أعلم.
(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. وفي هذه الكتب صيغ لأحاديث أخرى من هذا الباب أيضا لم ترد في كتب الصحاح.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) التاج ج ٤ ص ١٨١.
263
Icon