تفسير سورة المائدة

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
القول في تفسير سورة المائدة
قال الشيخ الإمام - رضي الله عنه - سورة المائدة مدنية كلها إلا قوله تعالى :( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )( ١ ) فإنه نزل بعرفات على ما سنبين، وقال الحسن البصري : كلها محكمة لم ينسخ منها شيء. وقال الشعبي : لم ننسخ منها شيء. إلا قوله - تعالى - :( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) ( ٢ ) على ما سنبين.
وروى عن أبي ميسرة أنه قال : أنزل الله - تعالى - في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في سائر القرآن.
١ - المائدة: ٣..
٢ - المائدة: ٢..

قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ﴾ قد ذكرنَا أَن كل مَا فِي الْقُرْآن من قَوْله: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ فَإِنَّمَا نزل بِالْمَدِينَةِ، وكل مَا نزل من قَوْله: ﴿يَا أَيهَا النَّاس﴾ فَإِنَّمَا أنزل بِمَكَّة، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِذا سَمِعت الله - تَعَالَى - يَقُول: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ فارعه سَمعك، فَإِنَّهُ خير تُؤمر بِهِ أَو سوء تنْهى عَنهُ.
وَقَوله: ﴿أَوْفوا بِالْعُقُودِ﴾ يُقَال: " أوفى " و " وفى " بِمَعْنى وَاحِد، وَأما الْعُقُود: قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة الْوَالِبِي، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: أَرَادَ بِالْعُقُودِ: مَا أحل الله وَحرم، وَفرض وحد.
وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِالْعُقُودِ: العهود، وَقيل الْفرق بَين العقد والعهد: أَن الْعَهْد: هُوَ الْأَمر بالشَّيْء، وَيُقَال: عهِدت إِلَى فلَان كَذَا، أَي: أَمرته بِهِ، وَالْعقد: هُوَ الْأَمر مَعَ الإستيثاق، وَيدخل فِي الْعُقُود النذور، وَسَائِر الْعُقُود اللَّازِمَة يجب الْوَفَاء بِكُل إِلَّا
5
﴿محلي الصَّيْد وَأَنْتُم حرم إِن الله يحكم مَا يُرِيد (١) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحلوا﴾ الْيَمين على شَيْء مُبَاح، لَا يجب الْوَفَاء بِهِ؛ للسّنة، وَهِي مَا روى عَن رَسُوله الله أَنه قَالَ: " من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا؛ فليكفر عَن يَمِينه، وليأت الَّذِي هُوَ خير ".
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام﴾ قَالَ الْحسن: أَرَادَ بِهِ الْإِبِل، وَالْبَقر وَالْغنم، وَحكى قطرب عَن يُونُس: هِيَ الْإِبِل، وَالْبَقر، وَالْغنم، وَالْخَيْل والبراذين، وروى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: بَهِيمَة الْأَنْعَام وَهِي: بقر الْوَحْش، وحمر الْوَحْش، وظباء الْوَحْش، - وَسميت الْبَهِيمَة بَهِيمَة لاستبهام فِيهَا، حَيْثُ لَا نطق لَهَا يفهم، وَبِذَلِك سميت عجماء أَيْضا.
وَالْمرَاد: ببهيمة الْأَنْعَام: هِيَ الْأَنْعَام، لَكِن أَضَافَهُ إِلَى نَفسه، كَمَا يُقَال: نفس الْإِنْسَان، وَحقّ الْيَقِين، وَنَحْو ذَلِك، وروى قَابُوس بن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: بَهِيمَة الْأَنْعَام: هِيَ الأجنة: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي مَا ذكر فِي قَوْله: ﴿حرمت عَلَيْكُم الْميتَة﴾ ﴿غير محلى الصَّيْد﴾ قيل هُوَ نصب على الِاسْتِثْنَاء، وَقيل على الْحَال ويعنى " لَا محلي الصَّيْد " كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: ﴿غير ناظرين إناه﴾ أَي: لَا ناظرين إناه، ﴿وَأَنْتُم حرم﴾ فِيهِ تَحْرِيم الصَّيْد فِي حَال الْإِحْرَام ﴿إِن الله يحكم مَا يُرِيد﴾.
6
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحلوا شَعَائِر الله﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الشعائر الْهَدَايَا المشعرة، وَهِي المعلمة بالإشعار، وَكَانُوا (ينخسون) شَيْئا فِي سَنَام الْبَعِير حَتَّى يتطلخ بِالدَّمِ، فَذَلِك إِشْعَار الْهدى، وَهُوَ سنة، وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بالشعائر
6
﴿شَعَائِر الله وَلَا الشَّهْر الْحَرَام وَلَا الْهَدْي وَلَا القلائد وَلَا آمين الْبَيْت الْحَرَام يَبْتَغُونَ﴾ مشاعر الْحرم من الصَّفَا والمروة وَغَيرهمَا، وَالْمرَاد بِهِ النَّهْي عَن الْقَتْل فِي الْحرم.
﴿وَلَا الشَّهْر الْحَرَام﴾ قَالَ عِكْرِمَة: أَرَادَ بِهِ: ذَا الْقعدَة، وَقَالَ غَيره: رَجَب، وَقيل: هُوَ عبارَة عَن جَمِيع الْأَشْهر الْحرم، وَقَوله: ﴿وَلَا الْهَدْي وَلَا القلائد﴾ فالهدي: جمع الْهَدِيَّة، وَالْمرَاد بِهِ: إبل الْهَدْي، وَأما القلائد: هِيَ الْإِبِل المقلدة، وَكَانُوا يقلدون إبل الْهَدْي، وَقَالَ عَطاء: أَرَادَ بِهِ: أَصْحَاب القلائد، وَكَانَت عَادَة أهل الْحرم أَن يقلدوا أنفسهم، وإبلهم بِشَيْء من لحاء شجر الْحرم إِذا أَرَادوا الْخُرُوج؛ لكيلا يتَعَرَّض لَهُم؛ فَنهى الشَّرْع عَن التَّعَرُّض لهَذِهِ الْأَشْيَاء.
﴿وَلَا آمين الْبَيْت الْحَرَام﴾ أَي: وَلَا تتعرضوا للقاصدين إِلَى الْبَيْت الْحَرَام، وَسبب نزُول هَذَا: مَا رُوِيَ: " أَن الحطم بن ضبيعة جَاءَ فِي نفر إِلَى رَسُول الله بِالْمَدِينَةِ، فَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام، فَلم يقبلُوا وتعللوا وَانْصَرفُوا؛ حَتَّى قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام - فِيهِ: لقد أقبل بِوَجْه كَافِر وَأدبر بقفا غادر.
فَذهب وَاسْتَاقَ سرح الْمَدِينَة؛ فتبعوه فَلم يدركوه وَهُوَ يستاق الْإِبِل، ويرتجز وَيَقُول:
(قد لفها اللَّيْل بسواق حطم... لَيْسَ براعي إبل وَلَا غنم)
(وَلَا بجزار على ظهر وَضم... )
فَلَمَّا كَانَ بعد فتح مَكَّة، لقِيه الْمُسلمُونَ فِي الْمَوْسِم حَاجا، وَمَعَهُ إبل معشره وقلائد؛ فقصدوه، ولقيه النَّبِي فَأَشَارَ إِلَى أَصْحَابه، وَقَالَ: دونكم الرجل؛ ليأخذوه؛ فَنزلت الْآيَة " منعا للتعرض لَهُ ولشعائره وقلائده، قَالَ الشّعبِيّ: كَانَ هَذَا
7
﴿فضلا من رَبهم ورضوانا وَإِذا حللتم فاصطادوا وَلَا يجرمنكم شنآن قوم أَن صدوكم عَن الْمَسْجِد الْحَرَام أَن تَعْتَدوا وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا﴾ كَذَلِك، ثمَّ نسخ بقوله: (اقْتُلُوا الْمُشْركين).
وَقَوله: ﴿يَبْتَغُونَ فضلا من رَبهم ورضوانا﴾ قَالَ ابْن عمر: أَرَادَ بِهِ فضل التِّجَارَة، وَقيل: هُوَ الْأجر ﴿وَإِذا حللتم فاصطادوا﴾ وَهَذَا أَمر إِبَاحَة؛ أَبَاحَ للْحَال الِاصْطِيَاد.
﴿وَلَا يجرمنكم شنآن قوم﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: جرم أَي: كسب وَيُقَال: فلَان جارم أَهله، أَي: كاسب أَهله، و (أنْشد)
(وَلَقَد طعنت أَبَا عُيَيْنَة طعنة جرمت فَزَارَة بعْدهَا أَن يغضبوا)
أَي: كسبت، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: ﴿وَلَا يجرمنكم﴾ بِضَم الْيَاء، وَهُوَ صَحِيح فِي الْعَرَبيَّة، يُقَال: جرم وأجرم، بِمَعْنى وَاحِد، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَا يحملنكم شنآن قوم، أَي: عَدَاوَة قوم.
﴿أَن صدوكم﴾ أَي: لِأَن صدوكم، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو: " إِن صدوكم " على الشَّرْط وَمعنى الْآيَة: لَا يحملنكم عَدَاوَة قوم صدوكم ﴿عَن الْمَسْجِد الْحَرَام أَن تَعْتَدوا﴾ عَلَيْهِم.
(وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى) الْبر: الصدْق، وَقيل الْبر: الاجتناب عَن كل مَنْهِيّ. وَفِيه قَول آخر: أَن الْبر الْإِسْلَام، وَالتَّقوى: السّنة.
﴿وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان﴾ الْإِثْم: الْكفْر، والعدوان: الْبِدْعَة، وَقيل: الْإِثْم الْكفْر، والعدوان: الظُّلم ﴿وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب﴾.
8
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم﴾ فالميتة: هِيَ الْحَيَوَان الْمَيِّت، وَالدَّم: دم الْحَيَوَان يراق ويسفح فَهُوَ حرَام، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يجْعَلُونَ الدَّم فِي
8
﴿على الْإِثْم والعدوان وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب (٢) حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أكل السَّبع إِلَّا مَا ذكيتم وَمَا ذبح على النصب وَأَن تستقسموا﴾ المباعر، ويسوونها ثمَّ يَأْكُلُون؛ فجَاء الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ، وَسُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن الطحال، فَقَالَ: كلوه، فَقيل: أَلَيْسَ بِدَم؟ قَالَ: إِن الله - تَعَالَى - إِنَّمَا حرم الدَّم المسفوح.
﴿وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ﴾ يَعْنِي: سمى على ذبحه غير الله، وَقيل: هُوَ مَا يذبح على الْأَصْنَام؛ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة حرَام، وَقيل: إِنَّهَا مَا أبيحت فِي شرع مَا، حَتَّى قيل: إِن آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - نزل إِلَى الأَرْض وَمَعَهُ تَحْرِيم هَذِه الْأَرْبَعَة.
﴿والمنخنقة﴾ هِيَ الشَّاة الَّتِي تخنق بِحَبل فتموت ﴿والموقوذة﴾ هِيَ الَّتِي كَانَت يضربونها عِنْد الصَّنَم، حَتَّى إِذا مَاتَت أكلوها (والمتردية) الَّتِي تتردى من مَوضِع عَال فتموت.
﴿والنطيحة﴾ هِيَ الَّتِي تنطحها أُخْرَى فتموت ﴿وَمَا أكل السَّبع﴾ وَيقْرَأ بجزم الْبَاء على التَّخْفِيف، وَمَعْنَاهُ وَمَا بقى مِمَّا أكل السَّبع ﴿إِلَّا مَا ذكيتم﴾ حرم هَذِه الْأَنْوَاع، وَاسْتثنى المذكاة، وأصل التذكية: الْإِتْمَام، يُقَال: ذكيت النَّار، إِذا أتممت إيقادها، وَيُقَال: فلَان ذكى، إِذا كَانَ تَامّ الْفَهم، وَالزَّكَاة فِي الشَّرْع مَعْرُوفَة.
﴿وَمَا ذبح على النصب﴾ يَعْنِي: على الْأَصْنَام، وَالنّصب: نوع من الْأَصْنَام، وَالْفرق بَينهَا وَبَين الْأَصْنَام: أَن الْأَصْنَام: هِيَ المصورة المنقوشة، وَالنّصب: لَا تكون منقوشة، وَلَا مصورة، وَقيل: كَانَت لَهُم أَحْجَار مَنْصُوبَة حول الْكَعْبَة، كَانُوا يعبدونها، ويتقربون إِلَيْهَا بالذبائح، ويلطخونها بالدماء؛ فحرمه الشَّرْع.
﴿وَأَن تستقسموا بالأزلام ذَلِكُم فسق﴾ الاستقسام: طلب النَّصِيب والأزلام: الأقداح وَاحِدهَا: " زلم " وَقيل: " زلم " أَيْضا وَهِي سِهَام كَانَت عِنْد سدنة الْكَعْبَة، وَكَانَ مَكْتُوبًا على وَاحِد اخْرُج، وعَلى آخر: لَا تخرج، وعَلى وَاحِد: أَمرنِي رَبِّي وعَلى آخر: نهاني رَبِّي، وَكَانَ فِيهَا وَاحِد غفل، وَيُسمى منتحا، لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء مَكْتُوب،
9
﴿بالأزلام ذَلِكُم فسق الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ فَلَا تخشوهم واخشون الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا فَمن﴾ وَكَانَ الرجل مِنْهُم إِذا أَرَادَ سفرا يَأْتِي سَادِن الْبَيْت حَتَّى يجيل الأقداح؛ فَإِن خرج الغفل يجيله ثَانِيًا، حَتَّى يخرج آخر، فَإِن خرج الَّذِي عَلَيْهِ: " اخْرُج " خرج إِلَى السّفر، وَإِن خرج: " لَا تخرج " لم يخرج؛ فَنهى الشَّرْع عَنهُ، وَمن ذَلِك الحكم بالنجوم وَضرب الْحَصَا والطيرة وَالْكهَانَة، وكل ذَلِك مَنْهِيّ عَنهُ، قَالَ: " من تطير أَو تكهن أَو تعرف؛ لم ينظر إِلَى الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة " وَقَالَ الشّعبِيّ، وَغَيره: الأزلام للْعَرَب، والكعاب للعجم.
وَقَوله: ﴿الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ فَلَا تخشوهم واخشون﴾ وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا يطمعون فِي عود الْمُسلمين إِلَى دينهم، حَتَّى فتحت مَكَّة، وَأظْهر الله الْإِسْلَام؛ أيسوا من ذَلِك؛ فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ﴾ أَن يذهب، وتراجعوا إِلَى دينهم.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾ نزل هَذَا بِعَرَفَات، وَرَسُول الله على نَاقَته العضباء؛ فبركت من ثقل الْوَحْي، وروى " أَن رجلا من الْيَهُود قَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ: إِنَّكُم تقرءون آيَة لَو علينا أنزلت، لاتخذنا ذَلِك الْيَوْم عيدا، يَعْنِي الْيَوْم الَّذِي أنزلت فِيهِ، فَقَالَ عمر: أَنا أعلم أَنَّهَا أَي يَوْم أنزلت، أنزلت يَوْم الْجُمُعَة عَشِيَّة عَرَفَة، وَأَشَارَ إِلَى أَن ذَلِك الْيَوْم لنا عيد ".
10
وَمعنى قَوْله: ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾ أَي: فِي الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام؛ لِأَنَّهَا نزلت بعد اسْتِقْرَار الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام، وَقيل: لم ينزل بعد هَذِه الْآيَة شَيْء من الْأَحْكَام حَتَّى قيل: إِن قَوْله: ﴿يستفتونك﴾ فِي آيَة الْكَلَالَة، إِنَّمَا نزل قبل هَذِه الْآيَة، وَقيل: بعْدهَا.
وَاعْلَم أَن الشَّرَائِع لم تنزل جملَة، وَإِنَّمَا نزلت شَيْئا فَشَيْئًا، فَإِن فِي الِابْتِدَاء حِين كَانَ بِمَكَّة كَانَ الْوَاجِب الْإِتْيَان بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالْإِيمَان بِالْبَعْثِ، وَالْجنَّة وَالنَّار، وَرَكْعَتَيْنِ غدْوَة، وَرَكْعَتَيْنِ عَشِيَّة، وَأَن يكفوا أَيْديهم عَن الْقِتَال، ويصبروا على أَذَى الْمُشْركين، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة الْمِعْرَاج - وَهِي قبل الْهِجْرَة بِثمَانِيَة عشر شهرا - فرض الله عَلَيْهِ وعَلى أمته خمسين صَلَاة، ثمَّ ردَّتْ إِلَى خمس صلوَات، كَمَا عرف فِي الْقِصَّة، ثمَّ لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، فرض الله عَلَيْهِ الْجِهَاد، وَالزَّكَاة، ثمَّ الصَّوْم سنة الثَّالِث من الْهِجْرَة، وَفرض الْحَج سنة السَّابِع من الْهِجْرَة، ثمَّ فتح مَكَّة، فَلَمَّا حجَّة الْوَدَاع؛ أنزلت هَذِه الْآيَة سنة عشر من الْهِجْرَة، وَلم ينزل بعْدهَا شَيْء من الْأَحْكَام كَمَا بَينا، وعاش بعد ذَلِك رَسُول الله إِحْدَى وَثَمَانِينَ لَيْلَة، وَتُوفِّي فِي الْيَوْم الثَّانِي من ربيع الأول، وَقيل: توفّي فِي الثَّانِي عشر من ربيع الأول، وَهَذَا أصح.
وَكَانَت هجرته فِي الثَّانِي عشر من ربيع الأول أَيْضا، واستكمل عشر سِنِين، وَخرج من الدُّنْيَا.
وَفِيه قَول آخر: أَن معنى قَوْله: ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾ أَي: أمنتكم من الْعَدو، وأظهرت دينكُمْ، وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي، ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا، رَوَت عَائِشَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله - تَعَالَى -: إِنِّي نظرت فِي الْأَدْيَان فارتضيت لكم الْإِسْلَام دينا؛ فأكرموه بالسخاء، وَحسن الْخلق مَا صحبتموه، فَإِن
11
﴿اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم فَإِن الله غَفُور رَحِيم (٣) يَسْأَلُونَك مَاذَا أحل لَهُم قل أحل لكم الطَّيِّبَات وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح مكلبين تعلمونهن مِمَّا﴾ الْبَخِيل بعيد من الله، بعيد من النَّاس، بعيد من الْجنَّة، قريب من النَّار ".
﴿فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة﴾ : المخمصة: خلاء الْجوف عَن الْغذَاء، وَفِي الْمثل: " البطنة بعْدهَا الخمصة " ﴿غير متجانف لإثم﴾ أَي: غير مائل إِلَى إِثْم، وَهُوَ مُجَاوزَة الشِّبَع فِي أكل الْميتَة، أَو يأكلها تلذذا ﴿فَإِن الله غَفُور رَحِيم﴾.
12
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَسْأَلُونَك مَاذَا أحل لَهُم﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: أَن زيد بن الْخَيل الطَّائِي، وعدي بن حَاتِم الطَّائِي سَأَلَا رَسُول الله وَقَالا: إِنَّا نصطاد بالكلاب، فَمَاذَا يحل (مِنْهُ) وَمَا يحرم مِنْهُ؟ فَنزلت الْآيَة، وَقيل: سَبَب نزُول الْآيَة: أَن النَّبِي
12
﴿علمكُم الله فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهِ وَاتَّقوا الله إِن الله﴾ لما أَمر بقتل الْكلاب، وَقَالُوا يَا رَسُول الله: مَاذَا يحل لنا من هَذِه الْأمة الَّتِي أمرت بقتلها؟ فَنزلت الْآيَة، وَالْأول أصح.
﴿قل أحل لكم الطَّيِّبَات﴾ فالطيبات: كل مَا تستطيبه الْعَرَب، وتستلذه من غير أَن يرد بِتَحْرِيمِهِ كتاب أَو سنة ﴿وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح﴾ أَي: الكواسب، يُقَال: جرح، واجترح، إِذا كسب، وَمِنْه سميت الْيَد جارحة؛ لِأَنَّهَا كاسبة، قَالَ الشَّاعِر:
(ذَات حل حسن ميسمها يذكر الْجَارِح وَمَا كَانَ جرح)
أَي: مَا كَانَ كسب ﴿مكلبين﴾ وَقُرِئَ فِي الشواذ " مكلبين " يُقَال: كَلْبه فَهُوَ مكلب، وأكلب فَهُوَ مكلب: إِذا كثر كلابه، وَهُوَ مثل قَوْلهم: أمشى إِذا كثرت مَاشِيَته، قَالَ الشَّاعِر:
(وكل فَتى وَإِن أمشى وأثرى... [سيخلجه] عَن الدُّنْيَا الْمنون) قَالَ الْأَزْهَرِي: وَمعنى الْكَلَام: وَأحل لكم مَا علتم من الْجَوَارِح فِي حَال تكليبكم وتضريتكم إِيَّاهَا على الصَّيْد، وَاعْلَم أَن حل الصَّيْد لَا يخْتَص بصيد الْكَلْب على قَول جُمْهُور الْعلمَاء.
وَقَالَ طَاوُوس: يخْتَص بِهِ؛ تمسكا بقوله: ﴿مكلبين﴾ وَهَذَا خلاف شَاذ، وَمعنى قَوْله: ﴿مكلبين﴾ أَي: محرشين، ومغرين على الصَّيْد، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِك كل الْجَوَارِح ﴿تعلمونهن مِمَّا علمكُم الله﴾ تؤدبونهن مِمَّا أدبكم الله.
13
﴿سريع الْحساب (٤) الْيَوْم أحل لكم الطَّيِّبَات وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم وطعامكم حل لَهُم وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا﴾
﴿فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهِ﴾ أَبَاحَ صيد الْجَوَارِح إِذا أمسكن على الْمَالِك، وَلَا خلاف فِيهِ، فَأَما إِذا أكل من الصَّيْد، هَل يكون ممسكا على الْمَالِك، وَهُوَ يحل؟ فِيهِ اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة، قَالَ سعد بن أبي وَقاص، وسلمان الْفَارِسِي: إِنَّه يحل، حَتَّى قَالَ سعد: كل مَا أَخذ كلبك، وَإِن بقيت مِنْهُ جدية أَي: قِطْعَة، وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وعدي بن حَاتِم: إِنَّه لَا يحل، وَهُوَ القَوْل الثَّانِي للشَّافِعِيّ، وَبِه قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين، وَأما الْكَلَام فِي التَّسْمِيَة سَيَأْتِي فِي الْأَنْعَام ﴿وَاتَّقوا الله إِن الله سريع الْحساب﴾.
14
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿الْيَوْم أحل لكم الطَّيِّبَات﴾ ذكر الْيَوْم هَاهُنَا صلَة، وَقد بَينا معنى الطَّيِّبَات، وَفِيه قَول آخر: أَن الطَّيِّبَات عَن طاهرات، وكل طَاهِر حَلَال.
﴿وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم﴾ قَالَ مُجَاهِد، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَرَادَ بِهِ: ذَبَائِح أهل الْكتاب ﴿وطعامكم حل لَهُم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ أحل لَهُم طعامنا وَشرع لَهُم ذَلِك وهم كفار، وَلَيْسوا من أهل الشَّرْع؟ أجَاب الزّجاج فَقَالَ: مَعْنَاهُ: حَلَال لكم أَن تطعموهم؛ فَيكون خطاب الْحل مَعَ الْمُسلمين، قَالَ غَيره: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ ذكر عَقِيبه (حكم) النِّسَاء، وَلم يذكر حل المسلمات لَهُم فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَلَال لكم أَن تطعموهم، حرَام لكم أَن تزوجوهم.
﴿وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات﴾ هَذَا رَاجع إِلَى النسق الأول، ومنقطع عَن قَوْله: ﴿وطعامكم حل لَهُم﴾ ﴿وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ﴾ قَالَ الْحسن: أَرَادَ بِهِ: العفائف، وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ: الْحَرَائِر، وَمِنْه إِبَاحَة الْحرَّة الْكِتَابِيَّة للْمُسلمِ وَقَضِيَّة تَحْرِيم الْأمة الْكِتَابِيَّة، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء، وَهُوَ قَول عُلَمَاء الْكُوفَة مثل الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَجَمَاعَة. وَهَذَا فِي الْكِتَابِيَّة الذِّمِّيَّة؛ فَأَما الْحرَّة الْكِتَابِيَّة
14
﴿الْكتاب من قبلكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ محصنين غير مسافحين وَلَا متخذي أخذان وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين (٥) يَا﴾ الحربية، فعلى قَول أَكثر الْعلمَاء تحل للْمُسلمِ، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تحل، وَقُرِئَ ﴿الْمُحْصنَات﴾ بِكَسْر الصَّاد، وإحصان الْكِتَابِيَّة أَن تستعفف عَن الزِّنَا، وتغتسل [من] الْجَنَابَة ﴿إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ﴾ أَي: مهورهن: ﴿محصنين غير مسافحين وَلَا متخذي أخذان﴾.
﴿وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله﴾ قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ: من يكفر بِاللَّه الَّذِي يُؤمن بِهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: أَرَادَ بِهِ: وَمن يكفر بِكَلِمَة الشَّهَادَة، وَقَالَ الرّبيع بن أنس: أَرَادَ بِهِ: وَمن يكفر بِالْقُرْآنِ، قَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: ﴿وَمن يكفر بِالْإِيمَان﴾ يَعْنِي: بتحليل الْحَرَام، وَتَحْرِيم الْحَلَال، أَي: وَمن يسْتَحل الْحَرَام، أَو يحرم الْحَلَال ﴿فقد حَبط عمله﴾ وَهَذَا أقرب إِلَى نظم الْآيَة فِي الإباحات، وَتَحْلِيل الْمُحرمَات، وَقَوله ﴿فقد حَبط عمله﴾ أَي: بَطل عمله ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين﴾.
15
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة﴾ يَعْنِي: إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَذَلِكَ مثل قَوْله: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه﴾ أَي: فَإِذا أردْت الْقِرَاءَة. تَقول: إِذا اتجرت فاتجر إِلَى الْبر، وَإِذا جالست، فجالس فلَانا، أَي: إِذا أردْت المجالسة.
وَظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَنه يجب الْوضُوء عِنْد كل قيام إِلَى الصَّلَاة، وَلَكِن بِالسنةِ عرفنَا جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَوَات بِوضُوء وَاحِد، فَإِن رَسُول الله جمع بَين أَربع صلوَات يَوْم الخَنْدَق بِوضُوء وَاحِد وَجمع بَين خمس صلوَات يَوْم فتح مَكَّة
15
﴿أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق﴾ بِوضُوء وَاحِد، وَحكى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الْوضُوء لكل صَلَاة مَكْتُوبَة. وَقيل: هُوَ على الِاسْتِحْبَاب. وَقَالَ زيد بن أسلم: تَقْدِير الْآيَة: إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة من الْمضَاجِع - يَعْنِي: من النّوم - فَيكون إِيجَاب الْوضُوء بِالْحَدَثِ؛ لِأَن النّوم حدث.
﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق﴾ يَعْنِي: مَعَ الْمرَافِق، قَالَ الْمبرد: إِذا مد الشَّيْء إِلَى جنسه تدخل فِيهِ الْغَايَة، وَإِذا مد إِلَى خلاف جنسه، لَا تدخل فِيهِ الْغَايَة، فَقَوله: ﴿إِلَى الْمرَافِق﴾ مد إِلَى جنسه، فَتدخل فِيهِ الْغَايَة.
وَأما قَوْله: ﴿ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل﴾ مد إِلَى خلاف جنسه، فَلَا تدخل فِيهِ الْغَايَة. والمرفق سمى بذلك؛ لارتفاق الْإِنْسَان بِهِ بالاتكاء عَلَيْهِ.
﴿وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ قَرَأَ نَافِع، وَابْن عَامر، وَالْكسَائِيّ، وَحَفْص: بِالنّصب؛ فَيكون تَقْدِيره: فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ وأرجلكم، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ ﴿وأرجلكم﴾ بِالْكَسْرِ.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب غسل الرجل، فَأكْثر الْعلمَاء - وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع الْيَوْم - أَن غسل الرجل وَاجِب، ويحكى عَن عَليّ أَنه قَالَ: يجوز الْمسْح على الرجل، وَهُوَ الْوَاجِب، وَحكى خلاف عَنهُ، قَالَ الشّعبِيّ: نزل الْقُرْآن بغسلين ومسحين، وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: يتَخَيَّر بَين الْمسْح وَالْغسْل؛ لاخْتِلَاف الْقِرَاءَة.
وَالأَصَح أَنه يجب الْغسْل، وَقد دلّت السّنة عَلَيْهِ، فروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ:
16
﴿وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا وَإِن كُنْتُم﴾ " ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار " وَرُوِيَ مَرْفُوعا: " لَا يقبل الله - تَعَالَى - صَلَاة أحدكُم حَتَّى يضع الطّهُور موَاضعه؛ فَيغسل وَجهه، ثمَّ يَدَيْهِ، ثمَّ يمسح بِرَأْسِهِ، ثمَّ يغسل رجلَيْهِ ".
وَقَالَ: " مَا من رجل يتَوَضَّأ فَيغسل وَجهه إِلَّا (خرجت) خطاياه الَّتِي نظر إِلَيْهَا بِعَيْنيهِ مَعَ المَاء أَو مَعَ آخر قطر من المَاء - إِلَى أَن قَالَ -: وَإِذا غسل رجلَيْهِ، خرجت خطاياه الَّتِي مشت بهَا قدمه مَعَ المَاء، أَو مَعَ آخر قَطْرَة من المَاء "، وروى: " أَنه رأى رجلا تَوَضَّأ، وَبَقِي من رجله قدر ظفره لم يصبهُ المَاء؛ فَقَالَ: ارْجع فَأحْسن الْوضُوء " وَأمره بِالرُّجُوعِ دَلِيل وجوب.
فَأَما قَوْله: ﴿وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ من قَرَأَ بِالنّصب فَهُوَ ظَاهر فِي وجوب الْغسْل، وَأما من قَرَأَ بالخفض فتقديره: فامسحوا برءوسكم، واغسلوا أَرْجُلكُم. وَيجوز أَن يعْطف الشَّيْء على الشَّيْء وَإِن كَانَ يُخَالِفهُ فِي الْفِعْل، قَالَ الشَّاعِر:
(وَرَأَيْت زَوجك فِي الوغى... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا)
أَي: مُتَقَلِّدًا سَيْفا، ومتنكبا رمحا، وَقَالَ آخر:
(علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا... )
17
﴿مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون (٦) ﴾
أَي: وسقيتها ماءا بَارِدًا؛ فَكَذَلِك قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وامسحوا برءوسكم وأرجلكم﴾ أَي: واغسلوا أَرْجُلكُم؛ إِلَّا أَنه خفض على الِاتِّبَاع والمجاورة كَمَا قَالَت الْعَرَب: " جُحر ضَب خرب "، وَنَحْو ذَلِك.
وَقَالَ أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ - وَهُوَ إِمَام اللُّغَة - الْعَرَب قد تسمي الْغسْل الْخَفِيف: مسحا، تَقول الْعَرَب: تمسح يَا هَذَا، يُرِيدُونَ بِهِ: اغْتسل، فعطفه على الْمسْح لَا يَنْفِي الْغسْل؛ فَيجوز أَن يكون المُرَاد بِهَذَا الْمسْح فِي الرَّأْس حَقِيقَة الْمسْح، وَفِي الرجل الْغسْل؛ وَلِأَن غسل الرجل على الْأَغْلَب لَا يَخْلُو عَن مسح؛ [وَلذَلِك] فساغ أَن يُسمى غسلهَا: مسحا، وَقَوله: ﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ يَعْنِي: مَعَ الْكَعْبَيْنِ، كَمَا بَينا فِي الْمرَافِق، والكعبان: هما العظمان الناتئان على جَانِبي الْقدَم.
﴿وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا﴾ أَي: فاغتسلوا ﴿وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا﴾ وَقد بَينا الْكَلَام فِيهِ. ﴿فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ وَقَوله: مِنْهُ. دَلِيل على أَن الصَّعِيد هُوَ التُّرَاب؛ لتحَقّق الْمسْح مِنْهُ ﴿مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج﴾ أَي: ضيق ﴿وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾ قَالَ مُحَمَّد ابْن كَعْب الْقرظِيّ: أَرَادَ بإتمام النِّعْمَة: تَكْفِير الْخَطَايَا بِالْوضُوءِ على مَا روينَا، وَهَذَا مثل قَوْله: ﴿ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر وَيتم نعْمَته عَلَيْك﴾ يَعْنِي: بغفران الذَّنب، وَفِي الْوضُوء تَكْفِير الْخَطَايَا الَّتِي ارتكبها فِي الدُّنْيَا، وَنور يَوْم الْقِيَامَة قَالَ: " أمتِي غر محجلون من آثَار الْوضُوء يَوْم الْقِيَامَة؛ فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يُطِيل غرته فَلْيفْعَل ".
18
﴿واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وميثاقه الَّذِي واثقكم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سمعنَا وأطعنا وَاتَّقوا الله إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور (٧) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلَا يجرمنكم شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى وَاتَّقوا﴾
19
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وميثاقه الَّذِي واثقكم بِهِ﴾ قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ: الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه الله - تَعَالَى على ذُرِّيَّة آدم قبل كَون الْخلق. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه رَسُول الله على كل من أسلم بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فِي الْيُسْر والعسر، والمنشط وَالْمكْره ﴿إِذْ قُلْتُمْ سمعنَا وأطعنا وَاتَّقوا الله إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور﴾ أَي: [بِمَا] فِي الصُّدُور.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ﴾ أَي: كونُوا قوامين بِالْعَدْلِ، قوالين، للصدق ﴿وَلَا يجرمنكم﴾ أَي: وَلَا يحملنكم ﴿شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى وَاتَّقوا الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة﴾ قيل هَذَا فِي مَوضِع النصب، وَفعل الْوَعْد وَاقع عَلَيْهِ، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(رَأَيْت الصَّالِحين لَهُم جَزَاء وجنات وعينا سلسبيلا)
وَمِنْهُم من قَالَ: ﴿لَهُم مغْفرَة﴾ : ابْتِدَاء كَلَام، أَي: لَهُم مغْفرَة موعودة، وَمَوْضِع الرّفْع ( ﴿لَهُم مغْفرَة وَأجر عَظِيم﴾ وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم).
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم﴾ الْهم: حَدِيث النَّفس بِالْفِعْلِ، وَيُقَال: أهم بالشَّيْء واهتم بِهِ، إِذا عَنى بِهِ.
وَفِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ: قَالَ جَابر: سَببه " أَن رَسُول الله كَانَ فِي بعض الْأَسْفَار، فَتفرق أَصْحَابه فِي الْعضَاة فِي منزل؛ فَنزل رَسُول الله تَحت شَجَرَة
19
﴿الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (٨) وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة وَأجر عَظِيم (٩) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم (١٠) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعمت الله عَلَيْكُم إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم وَاتَّقوا الله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَلَقَد﴾ مِنْهَا، وعلق سَيْفه بهَا، فجَاء أَعْرَابِي، وسل سَيْفه، وَقَامَ على رَأسه، وَقَالَ: من يمنعك مني؟ فَقَالَ: الله تَعَالَى؛ فَسقط سَيْفه وَذهب، فَنزلت الْآيَة ".
وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة: نزلت الْآيَة على سَبَب آخر، وَذَلِكَ: " أَن النَّبِي كَانَ بَينه وَبَين بني قُرَيْظَة عهد على أَن يستعينوا بِهِ، وَهُوَ يَسْتَعِين بهم على الْمُشْركين؛ فجَاء يَوْمًا إِلَيْهِم ليستعين بهم فِي دِيَة الْعَامِرِيين (وَنزل) تَحت حَائِط؛ فَهموا أَن يفتكوا بِهِ، فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم - يُقَال لَهُ عَمْرو بن حجاش -: أَنا ألقِي عَلَيْهِ حجرا؛ لتستريحوا مِنْهُ؛ فَنزل جِبْرِيل وَأخْبرهُ بذلك " فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم وَاتَّقوا الله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ﴾.
20
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وبعثنا مِنْهُم اثنى عشر نَقِيبًا﴾ النَّقِيب للْقَوْم مثل الرئيس، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: النَّقِيب: الْكَفِيل، وَقَالَ غَيره: هُوَ الْأمين، والنقيب فَوق العريف، والمنكب عون العريف، وسمى نَقِيبًا؛ للبحث والاستخراج الَّذِي يكون مِنْهُ.
20
﴿أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وبعثنا مِنْهُم اثْنَي عشر نَقِيبًا وَقَالَ الله إِنِّي مَعكُمْ لَئِن أقمتم الصَّلَاة وَآتَيْتُم الزَّكَاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ ولأدخلنكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار فَمن كفر بعد﴾
والقصة فِي ذَلِك: أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - جعل على قومه اثنى عشر نَقِيبًا على كل سبط نَقِيبًا، فروى أَنه بَعثهمْ إِلَى مَدِينَة الجبارين ليتعرفوا ويستخبروا عَن حَالهم، فَلَمَّا رجعُوا، خوفوا بني إِسْرَائِيل من قِتَالهمْ، وَقَالُوا: أَنْتُم لَا تقاومونهم، وخالفوا أَمر مُوسَى إِلَّا (رجلَانِ) مِنْهُم، أَحدهمَا: يُوشَع بن نون، وَالْآخر: كالب بن يوقنا، وَسَتَأْتِي قصتهم مشروحة.
﴿وَقَالَ الله﴾ تَعَالَى ﴿إِنِّي مَعكُمْ﴾ يَعْنِي: بالنصر ﴿لَئِن أقمتم الصَّلَاة وَآتَيْتُم الزَّكَاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ: عظمتموهم، وَقَالَ غَيره: نصرتموهم، وَالتَّعْزِير: التَّأْدِيب فِي اللُّغَة، وأصل التَّعْزِير: الْمَنْع؛ وَلذَلِك سمى التَّأْدِيب. تعزيرا؛ لِأَنَّهُ يمْنَع الْمُؤَدب عَن فعل مَا أدب عَلَيْهِ وَعَن سعد بن أبي وَقاص: أَصبَحت بَنو أَسد تعزرني على الْإِسْلَام. أَي: تؤدبني.
﴿وأقرضتم الله قرضا حسنا﴾ وَهُوَ إِخْرَاج الزَّكَاة، وَقَالَ زيد بن أسلم: مَعْنَاهُ النَّفَقَة على الْأَهْل، وَعَن بعض السّلف أَنه سمع رجلا يَقُول: ﴿من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا﴾ فَقَالَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر.
﴿لأكفرن عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ ولأدخلنكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار فَمن كفر بعد ذَلِك [مِنْكُم] فقد ضل سَوَاء السَّبِيل﴾ أَي: أَخطَأ طَرِيق الْحق.
21
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فبمَا نقضهم﴾ " مَا " صلَة، أَي: فبنقضهم ﴿ميثاقهم لعناهم﴾ أبعدناهم عَن الرَّحْمَة ﴿وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية﴾ أَي: جافة غير لينَة لَا تدْخلهَا الرَّحْمَة، وتقرأ: " قسية " قيل: مَعْنَاهُ: قاسية، فعيل بِمَعْنى فَاعل، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن قُلُوبهم لَيست بخالصة الْإِيمَان؛ عاشوا بهَا بَين الْكفْر والنفاق، وَمِنْه " الدَّرَاهِم القسية " وَهِي المغشوشة، قَالَ الشَّاعِر:
21
﴿ذَلِك مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل (١٢) فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه ونسوا حظا مِمَّا ذكرُوا بِهِ وَلَا تزَال تطلع على خَائِنَة مِنْهُم إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم فَاعْفُ عَنْهُم وَاصْفَحْ إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ﴾
(لَهَا صواهل فِي صم الْخَيل كَمَا صَاح القسية فِي كف الصَّارِف)
شبه صواهل الْخَيل فِي صم الْحِجَارَة بِصَوْت الدَّرَاهِم فِي كف الصَّيْرَفِي ﴿يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه﴾ تحريفهم الْكَلم: هُوَ تبديلهم نعت الرَّسُول، وَقيل المُرَاد بِهِ: تحريفهم بِسوء التَّأْوِيل ﴿ونسوا حظا مَا ذكرُوا بِهِ﴾ أَي: ونسوا نَصِيبا مِمَّا ذكرُوا بِهِ، والحظ: النَّصِيب.
﴿وَلَا تزَال تطلع على خَائِنَة مِنْهُم﴾ قيل الخائنة: الْخِيَانَة، فَاعل بِمَعْنى الْمصدر، مثل القائلة بِمَعْنى القيلولة، هَذَا قَول قَتَادَة، وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: فرقة خَائِنَة؛ لِأَن الْآيَة فِي الْيَهُود؛ فيستقيم هَذَا التَّقْدِير ﴿وَلَا تزَال تطلع﴾ على قَوْله: ﴿خَائِنَة مِنْهُم﴾ ﴿إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم﴾ يَعْنِي: الَّذين أَسْلمُوا مثل: عبد الله بن سَلام، وَجَمَاعَة.
﴿فَاعْفُ عَنْهُم وَاصْفَحْ﴾ أَي: أعرض عَنْهُم، وَلَا تتعرض لَهُم، وَقيل: صَار هَذَا مَنْسُوخا أَيْضا بقوله: ﴿قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه﴾ فِي سُورَة التَّوْبَة ﴿إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ﴾.
22
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمن الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ وَمن الْيَهُود، وَالصَّحِيح أَن الْآيَة فِي النَّصَارَى خَاصَّة؛ لِأَنَّهُ قد تقدم ذكر الْيَهُود، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ - رَحمَه الله -: فِي هَذَا دَلِيل على أَنهم نَصَارَى بتسميتهم؛ لَا بِتَسْمِيَة الله - تَعَالَى - ﴿أَخذنَا ميثاقهم فنسوا حظا مِمَّا ذكرُوا بِهِ﴾ هُوَ كَمَا بَينا فِي الْيَهُود ﴿فأغرينا﴾ أَي: أوقعنا ﴿بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة﴾ والإغراء: أَصله الإلصاق، وَمِنْه الغراء،
22
( ﴿١٣) وَمن الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخذنَا ميثاقهم فنسوا حظا مِمَّا ذكرُوا بِهِ فأغيرنا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وسوف ينبئهم الله بِمَا كَانُوا يصنعون (١٤) يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم كثيرا مِمَّا كُنْتُم تخفون من الْكتاب وَيَعْفُو عَن كثير قد جَاءَكُم من الله نور وَكتاب مُبين (١٥) يهدي بِهِ﴾ وَمَعْنَاهُ: ألصقنا بهم الْعَدَاوَة حَتَّى صَارُوا فرقا، وأحزابا، مِنْهُم اليعقوبية والملكائية، والنسطورية. ﴿وسوف ينبئهم الله بِمَا كَانُوا يصنعون﴾.
23
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أهل الْكتاب﴾ وَالْمرَاد بِهِ: أهل الْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاة، وَالْإِنْجِيل، لَكِن ذكر الْكتاب، وَهُوَ اسْم الْجِنْس، فَيَنْصَرِف إِلَى الْفَرِيقَيْنِ ﴿قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم كثيرا مِمَّا (كُنْتُم﴾ تخفون من الْكتاب) يَعْنِي: اللَّذين أخفوا من نعت مُحَمَّد وَآيَة الرَّجْم، وَنَحْو ذَلِك ﴿وَيَعْفُو عَن كثير﴾ يَعْنِي: يعرض عَن كثير مِمَّا أخفوا، فَلَا يتَعَرَّض لَهُ.
﴿قد جَاءَكُم من الله نور﴾ قيل: هُوَ الْإِسْلَام، (وَسمي نور لِأَنَّهُ يهتدى بِهِ كَمَا يَهْتَدِي بِالنورِ، وَقيل مُحَمَّد) وَسمي نورا لِأَنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ الْأَشْيَاء، كَمَا يتَبَيَّن بِالنورِ. ﴿وَكتاب مُبين﴾ هُوَ الْقُرْآن.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يهدي بِهِ الله من اتبع رضوانه سبل السَّلَام﴾ أَي: يهدي بِهِ الله سبل السَّلَام من اتبع رضوانه، قَالَ السّديّ: السَّلَام هُوَ الله - تَعَالَى - وسبل السَّلَام: طَرِيق الله - تَعَالَى - وَقَالَ: السَّلَام: هُوَ السَّلامَة، كاللذاذ واللذاذة بِمَعْنى وَاحِد، وَالْمرَاد بِهِ: طرق السَّلامَة.
﴿ويخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور﴾ يَعْنِي: من الْكفْر إِلَى (الْإِسْلَام)، وَسمي الْكفْر ظلمَة؛ لِأَنَّهُ يتحير فِي الظلمَة، [وَسمي] الْإِسْلَام نورا لما بَينا ﴿ويهديهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ قيل: هُوَ الْإِسْلَام، وَقيل: [هُوَ] الْقُرْآن.
وَقَوله - تَعَالَى -: ﴿لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم﴾ قيل: هَذَا قَول اليعقوبية من النَّصَارَى، قَالُوا: إِن الْمَسِيح إِلَه، وَقيل: إِنَّهُم لما قَالُوا: الْمَسِيح ابْن
23
﴿الله من اتبع رضوانه سبل السَّلَام ويخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذْنِهِ ويهديهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (١٦) لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم قل فَمن يملك من الله شَيْئا إِن أَرَادَ أَن يهْلك الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَأمه وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا يخلق مَا يَشَاء وَالله على كل شَيْء﴾ الله، ابْن كل أحد يكون من جنسه، فكأنهم قَالُوا: الْمَسِيح هُوَ الله.
﴿قل فَمن يملك من الله شَيْئا﴾ أَي: فَمن يقدر أَن يدْفع أَمر الله ( ﴿إِن أَرَادَ أَن يهْلك الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَأمه وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا﴾ وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا يخلق مَا يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْمُسْتَحق للألوهية من لَهُ ملك السَّمَوَات، وَمن لَهُ هَذِه الْقُدْرَة فإياه فاعبدوا.
24
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه﴾ يَعْنِي: أَن الله كَالْأَبِ لنا فِي الحنو، والعطف، وَنحن كالأبناء فِي الْقرب، والمنزلة، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ - فِي الْيَهُود -: إِنَّهُم وجدوا فِي التَّوْرَاة: " يَا أَبنَاء أحبارى " فبدلوا، وقرءوا: " يَا أَبنَاء أبكارى "؛ فَمن ذَلِك قَالُوا: نَحن أَبنَاء الله. وأحباؤه، وَأما فِي النَّصَارَى فَإِنَّهُم حكوا عَن عِيسَى انه قَالَ: " أذهب إِلَى أبي وأبيكم "؛ فَمن ذَلِك قَالُوا: نَحن أَبنَاء الله.
﴿قل فَلم يعذبكم بذنوبكم﴾ يَعْنِي: أَن الْأَب لَا يعذب ابْنه، والحبيب لَا يعذب حَبِيبه، أَي: فَلم يعذبكم الله بذنوبكم، وَهُوَ على زعمكم أبوكم وحبيبكم، ثمَّ قَالَ: ﴿بل أَنْتُم بشر مِمَّن خلق﴾ أَي: آدميون من جملَة الْخلق ﴿يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَإِلَيْهِ الْمصير﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم على فَتْرَة من الرُّسُل﴾ أَي: على انْقِطَاع من الرُّسُل، وَاخْتلفُوا فِي زمَان الفترة، قَالَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ: زمَان الفترة: بَين عِيسَى وَمُحَمّد، وَكَانَ سِتّمائَة سنة، وَقيل خَمْسمِائَة سنة، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ زمَان الفترة، لِأَن الرُّسُل كَانُوا بعد مُوسَى تترى من غير انْقِطَاع، وَلم يكن بعد عِيسَى رَسُول سوى مُحَمَّد ﴿أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشير وَلَا نَذِير﴾ قَالَ الْكُوفِيُّونَ: مَعْنَاهُ: أَن لَا تَقولُوا: وَقَالَ البصريون مَعْنَاهُ: كَرَاهَة أَن تَقولُوا، وَهُوَ
24
﴿قدير (١٧) وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه قل فَلم يعذبكم بذنوبكم بل أَنْتُم بشر مِمَّن خلق يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَإِلَيْهِ الْمصير (١٨) يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم على فَتْرَة من الرُّسُل أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشير وَلَا نَذِير فقد جَاءَكُم بشير ونذير وَالله على كل شَيْء قدير (١٩) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم﴾ كالقولين فِي قَوْله: ﴿يبين الله لكم أَن تضلوا﴾، ﴿فقد جَاءَكُم بشير ونذير وَالله على كل شَيْء قدير﴾.
25
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جعل فِيكُم أَنْبيَاء﴾ أَي: مِنْكُم أَنْبيَاء ﴿وجعلكم ملوكا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي أَصْحَاب خدم وحشم، قَالَ قَتَادَة: لم يكن لمن قبلهم خدم وحشم، فَلَمَّا كَانَ لَهُم خدم كَانُوا ملوكا، قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لَا يدْخل عَلَيْكُم إِلَّا بإذنكم، وَمن لَا يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ ملك، وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من كَانَ لَهُ فِي بني إِسْرَائِيل خَادِم، وَامْرَأَة، ودابة، كَانَ ملكا " وروى أَن رجلا جَاءَ إِلَى عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: أَنا من فُقَرَاء الْمُهَاجِرين، فَقَالَ: أَلَك مسكن تأوي إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: أَلَك امْرَأَة تسكن إِلَيْهَا؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: أَنْت من الْأَغْنِيَاء. قَالَ الرجل: ولي خَادِم يخدمني، فَقَالَ: أَنْت من الْمُلُوك.
وَقَالَ السّديّ - فِي الْمُتَقَدِّمين - مَعْنَاهُ: وجعلكم ملوكا تَمْلِكُونَ أَمر أَنفسكُم، وخلصكم من استعباد فِرْعَوْن. وَقَالَ المؤرج: أَرَادَ بِهِ: وجعلكم أخيارا، والملوك: الأخيار بلغَة هُذَيْل وكنانة.
﴿وآتاكم مَا لم يُؤْت أحدا من الْعَالمين﴾ يَعْنِي: من الْمَنّ والسلوى، وانفجار الْحجر وتظليل الْغَمَام، وَنَحْو ذَلِك.
25
﴿اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جعل فِيكُم أَنْبيَاء وجعلكم ملوكا وآتاكم مَا لم يُؤْت أحدا من الْعَالمين (٢٠) يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم وَلَا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (٢١) قَالُوا يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين﴾
26
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم﴾ قيل: هِيَ دمشق، وفلسطين وَبَعض الْأُرْدُن، وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ جَمِيع الشَّام، وَقيل: هِيَ بَيت الْمُقَدّس، وَأَرْض الطّور.
وَقَوله ﴿كتب الله لكم﴾ أَي: وهب الله لكم، وَقيل: فرض الله لكم أَن تدخلوها ﴿وَلَا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين﴾
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين﴾ الْجَبَّار: هُوَ كل عَاتٍ يجْبر النَّاس على مُرَاده، وَالله - تَعَالَى - جَبَّار، يجْبر الْخلق على مُرَاده، وَذَلِكَ مِنْهُ حق وَله مدح، وَأما الجبروت لِلْخلقِ ذمّ، وأصل الْجَبَّار: المتعظم الْمُمْتَنع عَن الذل والقهر، وَمِنْه يُقَال: نَخْلَة جبارَة إِذا كَانَت طَوِيلَة ممتنعة على وُصُول الْأَيْدِي إِلَيْهَا، وسمى أُولَئِكَ الْقَوْم جبارين؛ لطولهم، وامتناعهم بِقُوَّة أَجْسَادهم، والقصة فِي ذَلِك: أَن هَؤُلَاءِ كَانُوا فِي مَدِينَة " أرِيحَا " بِالشَّام، وَكَانَ فِيهَا ألف قَرْيَة فِي كل قَرْيَة، ألف بُسْتَان، وَكَانَ فِيهَا العمالقة، وَبَقِيَّة من قوم عَاد وَهِي مَدِينَة الجبارين.
روى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ قد بعث أُولَئِكَ النُّقَبَاء، وهم اثْنَا عشر نَقِيبًا إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَة؛ ليتعرفوا أَحْوَالهم، فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهَا لَقِيَهُمْ رجل مِنْهُم، فَأَخذهُم جملَة فِي كمه وأتى بهم إِلَى الْملك، ونثرهم بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذين جَاءُوا ليقاتلونا؛ فَقَالَ الْملك: ارْجعُوا وأخبروهم بِمَا لَقِيتُم، فَرَجَعُوا.
وَفِي بعض التفاسير: أَنهم أخذُوا عنقودا من الْعِنَب، وجعلوه على عَمُود بَين رجلَيْنِ حَتَّى قدرُوا على حمله، وَأخذُوا رمانتين، وحملوهما على دَابَّة كَادَت تعجز عَن حملهما فَلَمَّا رجعُوا إِلَى بني إِسْرَائِيل خوفوهم، وَقَالُوا: إِنَّكُم لَا تقاومونهم إِلَّا رجلَيْنِ مِنْهُم: يُوشَع بن نون وكالب بن يوقنا، وذكرهما فِي الْآيَة الْأُخْرَى، وَأما الْبَاقُونَ من بني إِسْرَائِيل خالفوا وامتنعوا من قِتَالهمْ، وَقَالُوا: يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين ﴿وَإِنَّا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا فَإِن يخرجُوا مِنْهَا فَإنَّا داخلون﴾.
26
﴿وَإِنَّا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا فَإِن يخرجُوا مِنْهَا فَإنَّا داخلون (٢٢) قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ أنعم الله عَلَيْهِمَا ادخُلُوا عَلَيْهِم الْبَاب فَإِذا دخلتموه فَإِنَّكُم غالبون﴾
27
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ أنعم الله عَلَيْهِمَا﴾ هما يُوشَع وكالب (قَالَا) :﴿ادخُلُوا عَلَيْهِم الْبَاب فَإِذا دخلتموه فَإِنَّكُم غالبون﴾ وَذَلِكَ بَاب كَانُوا عرفُوا أَنهم إِذا دخلُوا من ذَلِك الْبَاب غلبوا، (وَيقْرَأ) فِي الشواذ: " قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ " - ضم الْيَاء - فَيكون مَعْنَاهُ: رجلَانِ من أُولَئِكَ العمالقة، قيل: أسلم رجلَانِ مِنْهُم، وَقَالا هَذِه الْمقَالة ﴿وعَلى الله فتوكلوا إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾.
قَوْله - تَعَالَى - ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لن ندْخلهَا أبدا مَا داموا فِيهَا﴾ وَهَذَا مَعْلُوم ﴿فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ قَالَ الْحسن: كفرُوا بِهَذِهِ الْمقَالة، وَقَالَ غَيره: بل فسقوا بمخالفة أمره، وَتَقْدِير قَوْله: ﴿فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا﴾ أَي: فَاذْهَبْ أَنْت، وليعنك رَبك على الْقِتَال، وَفِيه قَول آخر: أَن معنى قَوْله: ﴿فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك﴾ أَي: وكبيرك، وَأَرَادُوا أَخَاهُ الْأَكْبَر هَارُون، وَالْعرب تسمي الْكَبِير رَبًّا، قَالَ الله - تَعَالَى - فِي قصَّة يُوسُف: ﴿إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي﴾ أَي: كبيري وَأَرَادَ بِهِ " عَزِيز مصر " وَيحْتَمل أَنهم قَالُوا ذَلِك لمُوسَى؛ جهلا وغباوة، ففسقوا بِهِ، وروى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي " أَنه لما خرج يَوْم بدر، قَالَ لَهُ الْمِقْدَاد بن عَمْرو: لَا نقُول لَك مَا قَالَت بَنو إِسْرَائِيل لمُوسَى: اذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِن نقُول: سر أَنْت حَيْثُ شِئْت [فَإنَّا] مَعَك سائرون " وروى: " أَن الْأَنْصَار قَالُوا يَا رَسُول الله: لَو ضربت بأكبادها إِلَى برك الغماد سرنا مَعَك " يَعْنِي: بأكباد الْإِبِل إِلَى برك الغماد، وَهُوَ مَوضِع.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي وَأخي﴾ مَعْنَاهُ: لَا أملك إِلَّا
27
﴿وعَلى الله فتوكلوا إِن كُنْتُم مُؤمنين (٢٣) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لن ندْخلهَا أبدا مَا داموا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤) قَالَ رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي وَأخي فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين (٢٥) ﴾ نَفسِي، وَأخي لَا يملك إِلَّا نَفسه، وَقيل مَعْنَاهُ: لَا تطيعني إِلَّا نَفسِي، وَلَا يطيعني إِلَّا أخي ﴿فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين﴾ أَي: فافصل بَيْننَا، و (قيل) مَعْنَاهُ: فَاقْض بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين.
28
قَوْله - تَعَالَى - ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم﴾ قيل هَا هُنَا تمّ الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: أَن الأَرْض المقدسة مُحرمَة عَلَيْهِم أبدا، وَلم يرد بِهِ: تَحْرِيم تعبد، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ: تَحْرِيم منع، فَإِنَّهُم منعُوا عَنْهَا، فَلم يدخلوها أبدا، وَإِنَّمَا دَخلهَا أَوْلَادهم، وَقيل الْآيَة مُتَّصِلَة بَعْضهَا بِالْبَعْضِ.
وَإِنَّمَا حرمت عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة كَمَا قَالَ: ﴿فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة﴾
(يتيهون فِي الأَرْض) وَقد أوقفهم الله - تَعَالَى - فِي التيه؛ عُقُوبَة لَهُم على مَا خالفوا، وَقيل: إِن أَرض التيه الَّتِي تاه فِيهَا بَنو إِسْرَائِيل كَانَت: سِتَّة فراسخ فِي طول اثنى عشر فرسخا، وَكَانَ عدد التائهين فِيهَا: سِتّمائَة ألف، قَامُوا فِيهَا، وَكَانُوا كلما أَمْسوا من مَوضِع للمسير، فَإِذا أَصْبحُوا (أَصْبحُوا) على ذَلِك الْموضع، وَكلما أَصْبحُوا من مَوضِع للمسير، فَإِذا أَمْسوا أَمْسوا على ذَلِك الْموضع، وَهَكَذَا كل يَوْم إِلَى أَن مَاتُوا فِيهَا، وَقيل: كَانَ مُوسَى وَهَارُون فيهم، وَإِنَّمَا توفيا فِي التيه، وَقيل: لم يَكُونَا فيهم، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك عُقُوبَة عَلَيْهِم، فَلَمَّا مَاتُوا فِي التيه وَنَشَأ أَوْلَادهم، أقبل يُوشَع بن نون بأولادهم إِلَى الأَرْض المقدسة، وَحَارب العمالقة وَنَصره الله تَعَالَى عَلَيْهِم حَتَّى فتح تِلْكَ الْمَدِينَة، وَكَانَ يَوْم الْجُمُعَة وضاق النَّهَار بهم فحبس الله - تَعَالَى - الشَّمْس سَاعَة حَتَّى فتح الْمَدِينَة ثمَّ غربت الشَّمْس من لَيْلَة السبت، إِذْ مَا كَانَ يجوز لَهُم عمل فِي السبت؛ فَفَزعَ الله قُلُوبهم يَوْم الْجُمُعَة؛ فَهَذَا جملَة الْكَلَام فِي قَوْله: ( ﴿أَرْبَعِينَ سنة يتيهون فِي الأَرْض﴾ فَلَا تأس) أَي فَلَا تحزن ﴿على الْقَوْم الْفَاسِقين﴾.
28
﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة يتيهون فِي الأَرْض فَلَا تأس على الْقَوْم الْفَاسِقين (٢٦) واتل عَلَيْهِم نبأ ابْني آدم بِالْحَقِّ إِذْ قربا قربانا فَتقبل من أَحدهمَا وَلم يتَقَبَّل من﴾
29
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿واتل عَلَيْهِم نبأ ابْني آدم بِالْحَقِّ إِذْ قربا قربانا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَمُجاهد: أَرَادَ بِهِ ابنى آدم من صلبه هابيل، وقابيل، وَقَالَ الْحسن: أَرَادَ بِهِ رجلَيْنِ من بني إِسْرَائِيل، وَالأَصَح هُوَ الأول.
والقصة فِي ذَلِك: قيل: إِن حَوَّاء كَانَت تَلد كل بطن غُلَاما وَجَارِيَة، فَولدت بَطنا هابيل وَأُخْته، وَولدت بَطنا قابيل وَأُخْته، فَأمر الله - تَعَالَى - آدم أَن يُزَوّج أُخْت هابيل من قابيل، وَأُخْت قابيل من هابيل، وَلم يرض قابيل، (وَقَالَ) : أَنا أَحَق بأختي، وَكَانَت أحسن من أُخْت هابيل، وَفِي بعض التفاسير: أَن قابيل قَالَ: أَنا أَحَق بأختي؛ لِأَنِّي من نسل الْجنَّة، وهابيل من نسل الأَرْض، وَقيل: إِن حَوَّاء علقت بِهِ فِي الْجنَّة؛ فَمن ذَلِك قَالَ: إِنِّي من نسل الْجنَّة، فَأَمرهمَا آدم أَن يقربا قربانا، فَكل من يقبل قربانه فَهُوَ أولى بِتِلْكَ الْأُخْت.
وَكَانَ هابيل صَاحب غنم، وقابيل صَاحب زرع، فَعمد هابيل إِلَى كَبْش من أحسن غنمه، وَعمد قابيل إِلَى أَخبث زرعه، ووضعاه موضعا، فَجَاءَت النَّار، وأكلت قرْبَان هابيل، وَكَانَ ذَلِك عَلامَة الْقبُول يَوْمئِذٍ، وَلم تَأْكُل قرْبَان قابيل؛ (فَهَذَا) معنى قَوْله: ﴿إِذْ قربا قربانا فَتقبل من أَحدهمَا﴾ يَعْنِي هابيل ﴿وَلم يتَقَبَّل من الآخر﴾ يَعْنِي: قابيل ﴿قَالَ لأَقْتُلَنك﴾ حسده قابيل، وقصده ليَقْتُلهُ؛ فَأجَاب هابيل، وَقَالَ: ﴿إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ﴾ عَن الْمعاصِي، وَعَن أبي الدَّرْدَاء أَنه [قَالَ] :" لِأَن أعلم [أَن] الله - تَعَالَى - قبل صَلَاة من صَلَاتي أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؛ لِأَن الله - تَعَالَى - يَقُول: ﴿إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ﴾ قَالَ قَتَادَة: المتقون: أهل لَا إِلَه إِلَّا الله.
29
﴿الآخر قَالَ لأَقْتُلَنك قَالَ إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِن بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك لأقتلك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين (٢٨) إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي﴾
30
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لَئِن بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك لأقتلك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين﴾ قَالَ الْحسن، وَمُجاهد: كَانَ [من شرع آدم أَن] : من قصد بِالْقَتْلِ؛ فَوَاجِب عَلَيْهِ الْكَفّ عَن الدّفع، وَالصَّبْر على الْأَذَى، وَكَذَا كَانَ فِي شرع نَبينَا فِي الِابْتِدَاء، فَأَما قَوْله: ﴿مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك﴾ يَعْنِي: بِالدفع. وَقيل: لم يكن ذَلِك شرعا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ استسلاما للْقَتْل؛ وطلبا لِلْأجرِ، وَهَذَا جَائِز لكل من يقْصد قَتله، أَن يستسلم وينقاد، وَكَذَا فعل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بِهِ: لَئِن ابتدأت بقتلي مَا أَنا بمبتدئ بقتلك، وَالصَّحِيح [آخر] الْقَوْلَيْنِ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن مَسْعُود: مَعْنَاهُ: أَن ترجع بإثم قَتْلِي وإثم مَعَاصِيك الَّتِي سبقت، فَإِن قابيل كَانَ رجل سوء، وَقيل: كَانَ كَافِرًا، وَقيل: هُوَ أحد اللَّذين ذكرهمَا الله - تَعَالَى - فِي " حم السَّجْدَة ": ﴿وَقَالَ الَّذين كفرُوا رَبنَا أرنا اللَّذين أضلانا من الْجِنّ وَالْإِنْس﴾ فَالَّذِي من الْجِنّ إِبْلِيس، وَالَّذِي من الْإِنْس قابيل، وَقَالَ مُجَاهِد: معنى قَوْله: ﴿أَن تبوء بإثمي وإثمك﴾ : أَن ترجع بإثم قَتْلِي، وإثم معصيتك الَّتِي لم يتَقَبَّل لأَجلهَا قربانك، أَو إِثْم حسدك إيَّايَ، وَهَذَا اخْتِيَار الزّجاج، وَقَالَ ابْن كيسَان: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ على طَرِيق التَّمْثِيل، يَعْنِي: لَو قتلت أَنا كَانَ عليّ الْإِثْم، وَلَو قتلت أَنْت كَانَ عَلَيْك الْإِثْم، فَأَنا لَا أقتل حَتَّى تقتل أَنْت؛ فتبوء بالإثمين، فَيكون كلا الإثمين عَلَيْك، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك، وَإِرَادَة الْقَتْل وَالْمَعْصِيَة لَا تجوز؟ أجابوا عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: قَالُوا: لَيْسَ ذَلِك بِحَقِيقَة إِرَادَة، وَلكنه لما علم أَنه يقْتله لَا محَالة، ووطن نَفسه على الاستسلام؛ طلبا للثَّواب،
30
﴿وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين (٢٩) فطوعت لَهُ نَفسه قتل أَخِيه فَقتله فَأصْبح من الخاسرين (٣٠) فَبعث الله غرابا يبْحَث فِي الأَرْض ليريه كَيفَ﴾ فَكَأَنَّهُ مُرِيد لقَتله مجَازًا وَإِن لم يكن مرِيدا حَقِيقَة، وَقيل مَعْنَاهُ: إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بعقاب قَتْلِي، وعقاب قَتلك؛ فَتكون إِرَادَة على مُوَافقَة حكم الله - تَعَالَى - فِيهِ، وَلَا تكون إِرَادَة للْقَتْل بل لموجب الْقَتْل من الْإِثْم وَالْعِقَاب، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك؛ فَكَأَنَّهُ كَانَ يمنعهُ عَن الْقَتْل، وَأَرَادَ ترك الْقَتْل؛ كَيْلا يبوء بالإثم.
31
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فطوعت لَهُ نَفسه قتل أَخِيه﴾ قَالَ مُجَاهِد: فشجعت لَهُ نَفسه، وَقَالَ قَتَادَة: زينت لَهُ نَفسه، وَقيل: سهلت، وانقادت لَهُ نَفسه، وَمِنْه يُقَال: ظَبْيَة أطاعت لَهَا أصُول الشَّجَرَة، أَي: انقادت لأكلها.
(فَقتله فَأصْبح من الخاسرين) أَي: خسر بقتْله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، أما الدُّنْيَا: لِأَنَّهُ أَسخط وَالِديهِ، وَبَقِي بِلَا أَخ، وَأما الْآخِرَة: لِأَنَّهُ أَسخط ربه، واستوجب النَّار.
والقصة فِي قَتله إِيَّاه: أَنه لما أَرَادَ قَتله لم يعرف كَيفَ يقْتله، فجَاء إِبْلِيس بِحجر، وَقَالَ: اشدخ بِهِ رَأسه، فَفِي رِوَايَة أَنه رَمَاه بذلك الْحجر، وَهُوَ مستسلم لَهُ؛ فشدخ رَأسه، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: اغتاله فِي النّوم، وشدخ رَأسه؛ فَقتله، وشربت الأَرْض دَمه فَلَمَّا جَاءَ إِلَى آدم، قَالَ لَهُ: أَيْن هابيل؟ فَقَالَ: أجعلتني رقيبا عَلَيْهِ، مَا أَدْرِي! قَالَ لَهُ آدم: إِن الأَرْض تصرخ بدمه إِلَيّ، ثمَّ لعن الأَرْض الَّتِي شربت دَمه، فَلَا تشرب الأَرْض بعد ذَلِك دَمًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَبكى آدم عَلَيْهِ كثيرا، وَأَنْشَأَ يَقُول:
(تَغَيَّرت الْبِلَاد وَمن عَلَيْهَا وَوجه الأَرْض مغبر قَبِيح)
(تغير كل ذِي لون وَطعم وَقل بشاشة الْوَجْه الْمليح)
وَهَذَا أول قتل جرى فِي بني آدم، وَفِي الْخَبَر " مَا من رجل يقتل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؛ إِلَّا وعَلى ابْن آدم كفل مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ أول من سنّ الْقَتْل ".
31
﴿يواري سوءة أَخِيه قَالَ يَا ويلتي أعجزت أَن أكون مثل هَذَا الْغُرَاب فأواري سوءة أخي فَأصْبح من النادمين (٣١) من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر﴾
32
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَبعث الله غرابا يبْحَث فِي الأَرْض﴾ فِي الْقَصَص: أَن قابيل لما (قَتله رَجَعَ إِلَيْهِ)، وَأَخذه، وَجعله فِي جراب وَحمله على عَاتِقه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس، سنة كَامِلَة، قَالَ مُجَاهِد: مائَة سنة حَتَّى أنتن على عَاتِقه، وَمَا كَانَ يعرف مواراته: فَبعث الله غرابين فاقتتلا، [فَقتل] أَحدهمَا الآخر، ثمَّ إِن الْقَاتِل مِنْهُمَا بحث فِي الأَرْض ليواري الثَّانِي، وَقيل: كَانَ ملكا على صُورَة غراب ﴿يبْحَث فِي الأَرْض ليريه كَيفَ يواري سوأة أَخِيه﴾ أَي: جيفة أَخِيه، وَقيل: عَورَة أَخِيه؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد سلبه ثِيَابه.
﴿قَالَ يَا ويلتي﴾ وَهَذِه كلمة دُعَاء الْهَلَاك ﴿أعجزت أَن أكون﴾ أضعفت أَن أكون ﴿مثل هَذَا الْغُرَاب فأواري سوأة أخي فَأصْبح من النادمين﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: هَل كَانَ ندمه على الْقَتْل تَوْبَة مِنْهُ؟
قيل: لم يكن نَدم على الْقَتْل، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنه أصبح من النادمين على حمله على عَاتِقه، (والتطواف) بِهِ؛ لما (لحقه) من التَّعَب فِيهِ، وَقيل: إِنَّمَا نَدم لقلَّة النَّفْع بقتْله؛ فَإِنَّهُ أَسخط وَالِديهِ، وَمَا نفع بقتْله شَيْئا؛ فندم على ذَلِك، لَا أَنه نَدم على الْقَتْل، وَفِي الْقِصَّة أَنه لما قَتله استوحش من النَّاس، وَكَانَ كلما لَقِي إنْسَانا ظن أَنه يَأْتِي ليَقْتُلهُ فهرب مِنْهُ، وَكَانَ هَكَذَا أبدا حَتَّى قَتله بعض أَوْلَاده.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿من أجل ذَلِك﴾ أَي: من خِيَانَة ذَلِك ﴿كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض﴾ قَرَأَ الْحسن: " أَو فَسَاد فِي الأَرْض " تَقْدِيره بِغَيْر نفس، وَبِغير أَن عمل فَسَادًا فِي الأَرْض، وَالْمَعْرُوف: أَو فَسَاد فِي الأَرْض، وَتَقْدِيره: بِغَيْر نفس، وَبِغير فَسَاد فِي الأَرْض: من كفر، أَو زنا، وَنَحْوه،
32
﴿نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثمَّ إِن كثيرا مِنْهُم بعد ذَلِك فِي الأَرْض لمسرفون (٣٢) إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو﴾ يُوجب إِبَاحَة قَتله على مَا قَالَه: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث كفر بعد إِيمَان أَو زنا بعد إِحْصَان أَو قتل نفس بِغَيْر نفس ".
﴿فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: من قتل نفسا بِغَيْر نفس فقد أوبق نَفسه كَمَا إِذا قتل النَّاس جَمِيعًا؛ (فقد أوبق نَفسه) ﴿وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا﴾ أَي: وَمن امْتنع عَن قتل وَاحِد من النَّاس؛ فَيكون كَأَنَّهُ أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا، وَقَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ من قتل نفسا فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا من الْإِثْم، وَمن أَحْيَاهَا، أَي: تعفف وَامْتنع عَن قَتلهَا، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا فِي الثَّوَاب، وَقيل: مَعْنَاهُ: من قتل نفسا، فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا على معنى أَن جَمِيع النَّاس خصماؤه فِيهِ، وَمن أَحْيَاهَا، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا، على معنى أَنهم يشكرونه، ويحمدونه على الْعَفو، أَو ترك الْقَتْل.
﴿وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ ثمَّ إِن كثيرا مِنْهُم بعد ذَلِك فِي الأَرْض لمسرفون﴾.
33
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض﴾.
قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة فِي قوم من الْمُشْركين، كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي عهد، فنقضوا الْعَهْد، وَسعوا فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ، وَقَالَ أنس: " الْآيَة فِي رَهْط من عرينة، أَتَوا النَّبِي ووجوههم مصفرة، وبطونهم منتفخة؛ فبعثهم رَسُول الله إِلَى إبل الصَّدَقَة؛ ليشربوا من أبوالها، وَأَلْبَانهَا، فَفَعَلُوا فَلَمَّا صحوا، قتلوا الرَّاعِي، وَاسْتَاقُوا الذود؛ فَبعث سَوَّلَ الله فِي طَلَبهمْ، فأدركوهم، فَأتي بهم إِلَى النَّبِي، فَقتل بَعضهم (وَقطع) بَعضهم من خلاف وسمل أعين بَعضهم، وتركهم فِي الْحرَّة حَتَّى
33
﴿تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم (٣٣) إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم فاعلموا أَن الله﴾ مَاتُوا " وَفِيهِمْ نزلت الْآيَة ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله﴾.
قيل: مَعْنَاهُ يُحَاربُونَ أَوْلِيَاء الله، وَقيل: هُوَ صَحِيح فِي الْعَرَبيَّة، فَإِن من عصى غَيره فقد حاربه، فَهَؤُلَاءِ إِذا عصوا الله وَرَسُوله، فكأنهم حَاربُوا الله وَرَسُوله، وَيدخل فِي جُمْلَتهمْ كل العاصين، وقطاع الطَّرِيق، وَغَيرهم.
وَقَوله: ﴿أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم﴾ اخْتلفُوا فِيهِ، أَنه على التَّرْتِيب، أم على التَّخْيِير؟ قَالَ ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول الْحسن، وَقَتَادَة، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَمُجاهد -: إِنَّهَا على التَّخْيِير، فَيُخَير الإِمَام فِي فعل هَذِه الْأَشْيَاء.
القَوْل الثَّانِي: - وَهُوَ الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد -: إِنَّه على التَّرْتِيب، فَإِن قتلوا: قتلوا وصلبوا، وَإِن أخذُوا المَال: قطعُوا من خلاف، وَإِن جمعُوا بَين الْأَخْذ وَالْقَتْل: قطعُوا، وَقتلُوا، إِن أخافوا السَّبِيل وَلم يَأْخُذُوا المَال وَلم يقتلُوا: ينفوا من الأَرْض.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي النَّفْي، قَالَ الزُّهْرِيّ: إِن الإِمَام يَطْلُبهُ فِي كل بلد يُؤْخَذ، وينفى عَنهُ، وَهَكَذَا فِي كل بلد يذكر بِهِ، يطْلب؛ فينفى عَنهُ، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي.
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: إِنَّه ينفى من جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام، وَقَالَ أهل الْكُوفَة: النَّفْي من الأَرْض هُوَ الْحَبْس، وَالْحَبْس نفي من الأَرْض، قَالَ الشَّاعِر يصف قوما محبوسين:
(خرجنَا من الدُّنْيَا وَنحن من أَهلهَا فلسنا من الْأَحْيَاء فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى)
(إِذا جَاءَنَا السجان يَوْمًا لحَاجَة عجبنا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا من الدُّنْيَا)
﴿ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا﴾ أَي: فضيحة: ونكال ( ﴿وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم﴾
34
إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم) قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: إِلَّا
34
﴿غَفُور رَحِيم (٣٤) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وابتغوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة وَجَاهدُوا فِي سَبيله لَعَلَّكُمْ تفلحون (٣٥) إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه ليفتدوا﴾ الَّذين أَسْلمُوا؛ لِأَنَّهُ حمل الْآيَة الأولى على الْمُشْركين، وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة التَّوْبَة، فَإِذا تَابَ قطاع الطَّرِيق قبل الظفر بهم؛ أَمنهم الإِمَام، وَهَذَا محكي عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - فَإِنَّهُ أَمن [حَارِثَة] بن بدر لما قطع الطَّرِيق، ثمَّ تَابَ قبل قدرته عَلَيْهِ، وَقيل: إِنَّمَا تَنْفَعهُ التَّوْبَة من حُقُوق الله - تَعَالَى - فَأَما حق الْآدَمِيّ: من الْقود، وَالْمَال فَلَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي.
وَقَوله ﴿من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم﴾ خطاب للأئمة، أَي: من قبل الظفر بهم ﴿فاعلموا أَن الله غَفُور رَحِيم﴾.
35
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وابتغوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة﴾ الْوَسِيلَة: الْقرْبَة، وَقيل: هُوَ معنى مَا ورد فِي الْخَبَر " الْوَسِيلَة: دَرَجَة فِي الْجنَّة لَيْسَ فَوْقهَا دَرَجَة " وَقَالَ زيد بن أسلم: أَرَادَ بِهِ تحببوا إِلَى الله - تَعَالَى - فالوسيلة بِمَعْنى الْمحبَّة. ﴿وَجَاهدُوا فِي سَبيله لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه ليفتدوا بِهِ﴾ أَي: لَو كَانُوا مفتدين بِهِ من عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة ﴿مَا تقبل مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ وَفِي الْخَبَر: " يَقُول الله - تَعَالَى - للْكَافِرِ يَوْم الْقِيَامَة: لَو كَانَ لَك ملْء الأَرْض ذَهَبا أَكنت مفتديا بِهِ الْيَوْم؟ فَيَقُول بلَى يَا رب، فَيَقُول الله - تَعَالَى - سُئِلت أَهْون من هَذَا ".
35
﴿بِهِ من عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة مَا تقبل مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (٣٦) يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُم عَذَاب مُقيم (٣٧) وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم (٣٨) فَمن تَابَ من بعد ظلمه وَأصْلح﴾
36
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُم عَذَاب مُقيم﴾ فَإِن قيل: إِذا لم يَكُونُوا خَارِجين مِنْهَا، كَيفَ يُرِيدُونَ الْخُرُوج؟ قيل: يُرِيدُونَ ذَلِك جهلا؛ ظنا أَنهم يخرجُون.
وَقيل: يتمنون ذَلِك، فَهِيَ إِرَادَة بِمَعْنى التَّمَنِّي، وَلَيْسَ بِحَقِيقَة الْإِرَادَة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا﴾ وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود: فَاقْطَعُوا أيمانهما، وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ ﴿أَيْدِيهِمَا﴾ وَالْمَذْكُور اثْنَان، وَلم يقل: يديهما؟ قيل: لم يرد بِهِ سَارِقا وَاحِدًا، أَو سارقة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا ذكر الْجِنْس؛ فَلذَلِك ذكر الْأَيْدِي. قَالَ الْفراء، والزجاج: كل مَا يوحد فِي الْإِنْسَان، فَإِذا ذكر مِنْهُ اثْنَان يجمع؛ يَقُول الله - تَعَالَى - ﴿فقد صغت قُلُوبكُمَا﴾ وَتقول الْعَرَب: مَلَأت ظهورهما وبطونهما ضربا، وَلكُل وَاحِد ظهر وبطن وَاحِد، فَكَذَلِك الْيَمين للْإنْسَان وَاحِدَة؛ فَيجمع عِنْد التَّثْنِيَة، فَإِن قيل: قد أَمر هُنَا بِقطع آلَة السّرقَة، وَلم يَأْمر فِي الزِّنَا بِقطع آلَة الزِّنَا، فَمَا الْحِكْمَة فِيهِ؟ قيل: كِلَاهُمَا ثَبت شرعا، غير مَعْقُول الْمَعْنى. وَقيل: الْحِكْمَة فِيهِ: أَن من قطع الذّكر قطع النَّسْل، وَلَيْسَ ذَلِك فِي قطع الْيَد؛ أَو لِأَن الْيَد إِذا قطعت، وانزجر عَن السّرقَة، تبقى لَهُ الْيَسَار؛ عوضا عَن الْيَمين، وَأما الذّكر إِذا قطع، وَحصل الانزجار، لَا يبْقى لَهُ عوض عَن الذّكر [فَلذَلِك] افْتَرقَا ﴿جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله﴾ النكال: كل عُقُوبَة تمنع الْإِنْسَان عَن فعل مَا عُوقِبَ عَلَيْهِ ﴿وَالله عَزِيز حَكِيم﴾ وَمَعْنَاهُ: مقتدر على معاقبة الْخلق، ﴿حَكِيم﴾ فِيمَا أوجب من الْعقُوبَة، وَحكى عَن الْأَصْمَعِي أَنه [قَالَ] : قد كنت أَقرَأ هَذِه الْآيَة وبجنبي أَعْرَابِي، فَقَرَأت: نكالا من الله وَالله غَفُور رَحِيم؛ فَقَالَ الْأَعرَابِي: هَذَا كَلَام من؟ فَقلت: كَلَام الله، فَقَالَ الْأَعرَابِي: لَيْسَ هَذَا من كَلَام الله.
36
﴿فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم (٣٩) ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير (٤٠) يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن﴾ فتنبهت وقرأت ﴿نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم﴾ فَقَالَ الْأَعرَابِي: هَذَا كَلَام الله، ثمَّ سَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِن الله لَا يذكر الْعقُوبَة على العَبْد ثمَّ يَقُول: " وَالله غَفُور رَحِيم "، وَإِنَّمَا يَلِيق بِذكر الْعقُوبَة: الْعَزِيز الْحَكِيم.
37
قَوْله - تَعَالَى -: (فَمن تَابَ من بعد ظلمه وَأصْلح فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم) قَالَ مُجَاهِد: قطع السَّارِق تَوْبَته، فَإِذا قطع، فقد حصلت التَّوْبَة، وَالصَّحِيح: أَن الْقطع للجزاء على الْجِنَايَة، كَمَا قَالَ: ﴿جَزَاء بِمَا كسبا﴾ فَلَا بُد من التَّوْبَة بعده، وتوبته: النَّدَم على مَا مضى، والعزم على تَركه فِي الْمُسْتَقْبل.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد بِهِ الْجَمِيع، وَقيل (مَعْنَاهُ) : ألم تعلم أَيهَا الْإِنْسَان؛ فَيكون خطابا لكل وَاحِد من النَّاس. ﴿يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: يعذب من يَشَاء على الصَّغِيرَة، وَيغْفر لمن يَشَاء الْكَبِيرَة، وَقَالَ غَيره: يعذب من يَشَاء: من مَاتَ مصرا، وَيغْفر لمن يَشَاء: من مَاتَ تَائِبًا ﴿وَالله على كل شَيْء قدير﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر﴾ أَي: لَا يحزنك مسارعتهم فِي الْكفْر؛ فَإِن قيل: كَيفَ لَا يحزنهُ كفرهم، وَالْإِنْسَان يحزن على كفر الْغَيْر ومعصيته؛ شَفَقَة على الدّين؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَا يحزنك فعل الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر، على (معنى: أَن) فعلهم لَا يَضرك.
﴿من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن قُلُوبهم﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقين.
﴿وَمن الَّذين هادوا سماعون للكذب﴾ يَعْنِي: الْيَهُود ﴿سماعون للكذب﴾ أَي: وهم سماعون للكذب، أَي: قَائِلُونَ للكذب، كَقَوْل الْمُصَلِّي: سمع الله لمن حَمده. أَي: قبل الله لمن حَمده. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: سماعون لأجل الْكَذِب؛ فَإِنَّهُم كَانُوا
37
﴿قُلُوبهم وَمن الَّذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك يحرفُونَ الْكَلم من بعد موَاضعه يَقُولُونَ إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا وَمن يرد﴾ يسمعُونَ من الرَّسُول، وَيخرجُونَ، ويكذبون ﴿سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك﴾ أَي: جواسيس لقوم آخَرين لم يأتوك، وهم أهل خَيْبَر، يصف الْمُنَافِقين وَالْيَهُود، وَأما المُنَافِقُونَ: كَانُوا جواسيس الْيَهُود، وَأما الْيَهُود كَانُوا جواسيس لأهل خَيْبَر، وَسُئِلَ سُفْيَان: هَل فِي الْقُرْآن للجاسوس ذكر؟
فَقَالَ: (بلَى) وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة.
﴿يحرفُونَ الْكَلم من بعد موَاضعه﴾ أَي: من بعد مَا وَضعه الله موَاضعه، وتحريفهم الْكَلم: هُوَ كتمان آيَة الرَّجْم.
﴿وَيَقُولُونَ إِن أويتم هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا﴾.
سَبَب نزُول الْآيَة [هَذِه] : أَن يهوديين زَنَيَا من أَشْرَاف الْيَهُود، فكرهوا رجمهما؛ فَقَالُوا: نبعث إِلَى مُحَمَّد نَسْأَلهُ، فَإِن أفتى بِالْجلدِ وتحميم الْوَجْه، نَأْخُذ بِهِ، وَإِن أفتى بِغَيْرِهِ، لَا نَأْخُذ بِهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿إِن أُوتِيتُمْ هَذَا﴾ يَعْنِي: مَا توافقوا عَلَيْهِ من الْجلد وَالتَّحْمِيم ﴿فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا﴾ أَي: إِن أفتى بِالرَّجمِ فَلَا تَأْخُذُوا بِهِ، وَقيل: " إِن هَذَا كَانَ فِي يهود خَيْبَر، فبعثوا إِلَى يهود الْمَدِينَة حَتَّى يسألوه، فسألوا رَسُول الله، فَأفْتى بِالرَّجمِ " وَتَمام الْقِصَّة: " أَنه - عَلَيْهِ السَّلَام - دَعَا ابْن صوريا الْأَعْوَر، وَقَالَ: أنْشدك بِاللَّه الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى، مَا حد الزِّنَا فِي كتابكُمْ؟ فَقَالَ: أما إِنَّك إِذا أنشدتني بِاللَّه، فحد الزِّنَا فِي كتَابنَا: الرَّجْم، لَكِن كثر الزِّنَا فِي أشرافنا؛ فَكُنَّا إِذا زنى الشريف منا تَرَكْنَاهُ، وَإِذا زنا الوضيع رجمناه، ثمَّ اتفقنا على أَمر يَسْتَوِي فِيهِ الشريف والوضيع، وَهُوَ الْجلد وَالتَّحْمِيم، فَقَالَ: أَنا أَحَق بإحياء سنة أماتوها، ودعا باليهوديين اللَّذين زَنَيَا وَأمر برجمهما " والْحَدِيث فِي
38
﴿الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم (٤١) سماعون للكذب أكالون للسحت﴾ صَحِيح مُسلم.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَنَّهَا فِي الْقَتْل، والقصة فِي ذَلِك: أَن بني النَّضِير كَانَ لَهُم قتل على بني قُرَيْظَة، وَكَانَ الْقرظِيّ إِذا قتل يسْأَل مُحَمَّدًا؛ فَإِن أفتى بِالدِّيَةِ يَأْخُذ بِهِ، وَإِن أفتى بغَيْرهَا يحذرهُ، فَسَأَلُوهُ. فَأفْتى بالقود. فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا﴾ وَالْأول أصح ﴿وَمن يرد الله فتنته﴾ قَالَ السّديّ: ضلالته، وَقَالَ الْحسن: عَذَابه، وَقَالَ الزّجاج: فضيحته ﴿فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا﴾ أَي: فَلَنْ تقدر على دفع أَمر الله فِيهِ.
﴿أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم﴾ وَفِيه دَلِيل على من يُنكر الْقدر ﴿لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي﴾ وَيرجع هَذَا إِلَى الْمُنَافِقين، وَالْيَهُود، أما خزي الْمُنَافِقين: أَنه أظهر نفاقهم فِي الدُّنْيَا، وَأما خزي الْيَهُود: أَنه بَين تحريفهم ﴿وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم﴾.
39
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿سماعون للكذب﴾ (ذكره) ثَانِيًا مُبَالغَة وتأكيدا ﴿أكالون للسحت﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ الرِّشْوَة، والسحت: الْحَرَام، قَالَ: (كل لحم نبت من سحت فَالنَّار أولى بِهِ " وأصل السُّحت: الاستئصال؛ فالحرام سحت؛ لِأَنَّهُ يستأصل الْبركَة، قَالَ الشَّاعِر:
39
﴿فَإِن جاءوك فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم وَإِن تعرض عَنْهُم فَلَنْ يضروك شَيْئا وَإِن حكمت فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ إِن الله يحب المقسطين (٤٢) وَكَيف يحكّمونك وَعِنْدهم التوارة فِيهَا حكم الله ثمَّ يتولون من بعد ذَلِك وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إنّا﴾
(وعضّ زمَان يَا بن مَرْوَان لم يدع من المَال إِلَّا مسحت أَو مجلف)
يَعْنِي: إِلَّا مَال لَا بركَة فِيهِ، وَأَشْيَاء قَلَائِل ﴿فَإِن جاءوك فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ مَنْسُوخ بقوله: ﴿وان احكم بَينهم بِمَا أنزل الله﴾ وَبِه قَالَ مُجَاهِد، وَعِكْرِمَة. وَقَالَ الشّعبِيّ: وَالنَّخَعِيّ - وَهُوَ قَول الْحسن - إِنَّهَا لَيست بمنسوخة. قَالَ الْحسن: لَيْسَ فِي الْمَائِدَة آيَة مَنْسُوخَة، وَقَالُوا: معنى قَوْله: ﴿وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله﴾ يَعْنِي إِن حكمت واخترت الحكم، وَلَيْسَ بِأَمْر حتم هَذَا التَّخْيِير بَين الحكم والإعراض فِيمَا إِذا تحاكم ذميان، فَأَما إِذا تحاكم مُسلم وذمي يجب الحكم.
وَقيل: هَذَا التَّخْيِير فِي الحكم بِحُقُوق الله - تَعَالَى - وَأما فِي حُقُوق الْآدَمِيّين فَلَا بُد من الحكم.
﴿وَإِن تعرض عَنْهُم فَلَنْ يضروك شَيْئا وَإِن حكمت فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ ﴿إِن الله يحب المقسطين﴾.
40
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَيف يحكمونك وَعِنْدهم التَّوْرَاة فِيهَا حكم الله﴾ هَذَا تعجيب للرسول، يَعْنِي: كَيفَ يتحاكمون إِلَيْك، وَفِي زعمهم أَن عِنْدهم التَّوْرَاة وَهِي الْحق، وَأَنَّك كَاذِب؟
﴿ثمَّ يتولون من بعد ذَلِك﴾ أَي: لَا يرضون بحكمك ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ أَي: بمصدقين لَك.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا﴾ أَي: أَسْلمُوا لأمر الله، كَمَا قَالَ لإِبْرَاهِيم: {أسلم قَالَ أسلمت لرب
40
﴿أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلَا تخشوا النَّاس واخشون﴾ الْعَالمين) أَي: سلمت لأمر رب الْعَالمين، وَأَرَادَ بِهِ: النَّبِيين الَّذين بعثوا بعد مُوسَى؛ ليحكموا على حكم التَّوْرَاة، وَقَوله: ﴿للَّذين هادوا﴾ فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: فِيهَا هدى، وَنور للَّذين هادوا، ثمَّ قَالَ: ﴿يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا والربانيون﴾ وَقيل: هُوَ على مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا على الَّذين هادوا، وَهُوَ مثل قَوْله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة﴾ أَي: عَلَيْهِم اللَّعْنَة، وَقَالَ لعَائِشَة: " اشترطي لَهُم الْوَلَاء " أَي: عَلَيْهِم الْوَلَاء كَذَا قَالَ النّحاس، وَقيل: فِيهِ حذف، كَأَنَّهُ قَالَ: للَّذين هادوا على الَّذين هادوا؛ فَحذف أَحدهمَا؛ اختصارا ﴿والربانيون﴾ قَالَ أَبُو رزين: هم الْعلمَاء الْحُكَمَاء، وأصل الرباني: رب الْعلم، فزيد فِيهِ الْألف وَالنُّون؛ للْمُبَالَغَة، وَقيل: الربانيون من النَّصَارَى، والأحبار من الْيَهُود، وَقيل: كِلَاهُمَا من الْيَهُود، والربانيون فَوق الْأَبَّار. قَالَ الْمبرد: والأحبار: مَأْخُوذ من التحبير، وَهُوَ التحسين، وَمِنْه الحَدِيث: " يخرج من النَّار رجل قد ذهب حبره وسبره " أَي حسنه وجماله، وَقيل: هُوَ من التحبير بِمَعْنى التَّأْثِير، وَمِنْه الحبر، فَسمى الْعَالم: حبرًا؛ لتأثير علمه فِيهِ وَفِي غَيره، كَأَنَّهُ الْعَالم الْعَامِل، والحبر والحبر وَاحِد، وَجمعه الْأَحْبَار، قَالَ الْفراء: وَأكْثر مَا سَمِعت: الحبر - بِكَسْر الْحَاء - وَجمعه أَحْبَار.
﴿مَا استحفظوا﴾ أَي: بِمَا استودعوا ﴿من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلَا تخشوا النَّاس واخشون وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا﴾.
41
﴿وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ (٤٤) وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص فَمن تصدق بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (٤٥) ﴾
﴿وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ﴾ قَالَ الْبَراء بن عَازِب - وَهُوَ قَول الْحسن -: الْآيَة فِي الْمُشْركين. قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة فِي الْمُسلمين، وَأَرَادَ بِهِ كفر دون كفر، وَاعْلَم أَن الْخَوَارِج يستدلون بِهَذِهِ الْآيَة، وَيَقُولُونَ: من لم يحكم بِمَا أنزل الله فَهُوَ كَافِر، وَأهل السّنة قَالُوا: لَا يكفر بترك الحكم، وللآية تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله ردا وجحدا فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: وَمن لم يحكم بِكُل مَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ، وَالْكَافِر هُوَ الَّذِي يتْرك الحكم بِكُل مَا أنزل الله دون الْمُسلم.
42
قَوْله تَعَالَى: ﴿وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص﴾ وَيقْرَأ بقراءتين من قَوْله: ﴿وَالْعين بِالْعينِ﴾ فَيقْرَأ بِالنّصب إِلَى آخِره، وَيقْرَأ بِالرَّفْع.
شرع الْقصاص فِي النَّفس والأطراف فِي هَذِه الْآيَة، وَأَشَارَ إِلَى أَنه كَانَ حكم التَّوْرَاة ﴿فَمن تصدق بِهِ﴾ يَعْنِي: بِالْعَفو عَن الْقصاص ﴿فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ﴾ اخْتلفُوا فِي أَن كِنَايَة الْهَاء رَاجِعَة إِلَى من؟ قَالَ ابْن مَسْعُود، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: هُوَ رَاجع إِلَى الْمَجْرُوح، يَعْنِي: الْعَفو، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ رَاجع إِلَى الْجَارِح، كَأَنَّهُ جعل الْعَفو كالاستيفاء مِنْهُ؛ فَيكون كَفَّارَة لَهُ كَمَا لَو اقْتصّ مِنْهُ ﴿وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وقفينا على آثَارهم﴾ يَعْنِي: أتبعنا على آثَارهم، وَأَرَادَ بِهِ: النَّبِيين الَّذين أَسْلمُوا ﴿بِعِيسَى ابْن مَرْيَم مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التوارة﴾ يَعْنِي: عِيسَى مُصدقا بِالتَّوْرَاةِ.
42
﴿وقفينا على آثَارهم بِعِيسَى ابْن مَرْيَم مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل فِيهِ هدى وَنور ومصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَهدى وموعظة لِلْمُتقين (٤٦) وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ (٤٧) وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ فاحكم بَينهم﴾
﴿وآتينا الْإِنْجِيل فِيهِ هدى وَنور ومصدقا﴾ يَعْنِي: الْإِنْجِيل ﴿لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَهدى وموعظة لِلْمُتقين﴾.
43
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وليحكم أهل الْإِنْجِيل﴾ يَعْنِي: وَقُلْنَا: وليحكم أهل الْإِنْجِيل ﴿مَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب﴾ يَعْنِي: سَائِر الْكتب الْمنزلَة قبله ﴿ومهيمنا عَلَيْهِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: أَمينا عَلَيْهِ. قَالَ (الْمبرد) : أَصله: مؤيمنا، فقلبت الْهمزَة هَاء، كَمَا يُقَال: أرقت المَاء وهرقته. وَمَعْنَاهُ: الْأمين، وَقيل: مَعْنَاهُ: شَاهدا عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: رقيبا حَافِظًا، والمعاني مُتَقَارِبَة، وَمعنى الْكل أَن كل [كتاب] يصدقهُ الْقُرْآن، وَيشْهد بصدقه، فَهُوَ كتاب الله، وَمَا لَا فَلَا. وَقَرَأَ مُجَاهِد " ومهيمنا " بِفَتْح الْمِيم، يَعْنِي: مُحَمَّد مؤيمنا عَلَيْهِ، وَفِي الْأَثر أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِذا دَعَوْت الله فهيمنوا أَي أمنُوا " قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا إِن خير النَّاس بعد مُحَمَّد مهيمنه تاليه فِي الْعرف والنكر)
أَرَادَ أَبَا بكر أمينة وحافظه، يتلوه فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر ﴿فاحكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم عَمَّا جَاءَك من الْحق﴾ أَي: لَا تعرض عَمَّا جَاءَك وتتبع أهواءهم.
﴿لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا﴾ فالشرعة: الطَّرِيق الْوَاضِح، وَكَذَلِكَ الْمِنْهَاج. قَالَ الْمبرد: الشرعة: ابْتِدَاء الطَّرِيق، والمنهاج: الطَّرِيق المستمر. وَاعْلَم أَن الشَّرَائِع مُخْتَلفَة، وَلكُل قوم شَرِيعَة، فلأهل التَّوْرَاة شَرِيعَة، وَلأَهل الْإِنْجِيل شَرِيعَة، وَلأَهل الْإِسْلَام شَرِيعَة، وَأما الدّين فِي الْكل وَاحِد، وَهُوَ التَّوْحِيد.
43
﴿بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم عَمَّا جَاءَك من الْحق لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن ليَبْلُوكُمْ فِي مَا آتَاكُم فاستبقوا الْخيرَات إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (٤٨) وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك فَإِن توَلّوا فَاعْلَم أَنما﴾
﴿وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن ليَبْلُوكُمْ﴾ أَي: ليختبركم. ﴿فِيمَا آتَاكُم فاستبقوا الْخيرَات﴾ فبادروا إِلَى الْخيرَات ﴿إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِي تختلفون﴾.
44
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك﴾ قيل: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن قوما من رُؤَسَاء الْيَهُود جَاءُوا إِلَى النَّبِي وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، لَو آمنا بك آمن بك غَيرنَا، وَلنَا خصومات بَين النَّاس؛ فَاقْض لنا عَلَيْهِم؛ نؤمن بك، ويتبعنا غَيرنَا "، وَلم يكن قصدهم الْإِيمَان بِهِ، وَإِنَّمَا قصدُوا التلبيس، ودعوته إِلَى الحكم بالميل؛ فَنزلت الْآيَة.
﴿واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك فَإِن توَلّوا﴾ فَإِن أَعرضُوا ﴿فَاعْلَم أَنما يُرِيد الله أَن يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم﴾ وَقيل: مَعْنَاهُ: بِكُل ذنوبهم، فَعبر بِالْبَعْضِ عَن الْكل، وَقيل: مَعْنَاهُ: يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم فِي الدُّنْيَا ﴿وَإِن كثيرا من النَّاس لفاسقون﴾.
وَقَوله: ﴿أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ﴾ يقْرَأ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ومعناهما وَاحِد يَعْنِي أَنهم إِذا لم يرْضوا بِحكم الله، وَأَرَادُوا خلاف حكم الله، فقد طلبُوا حكم الْجَاهِلِيَّة، وَقَرَأَ الْحسن، وَقَتَادَة وَالْأَعْمَش، والأعرج: أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة بِمَعْنى: الْحَاكِم. يَبْغُونَ: يطْلبُونَ ﴿وَمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون﴾
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض﴾ قيل: نزلت فِي عبَادَة بن الصَّامِت، وَعبد الله بن أبي سلول
44
﴿يُرِيد الله أَن يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم وَإِن كثيرا من النَّاس لفاسقون (٤٩) أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ وَمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (٥٠) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن﴾ اخْتَصمَا فَقَالَ عبَادَة: أَنا أَتَبرأ من الْيَهُود وَلَا أتولاهم، وَقَالَ عبد الله بن أبي: أَنا أتولاهم وَلَا أَتَبرأ مِنْهُم؛ فَإِنِّي أخْشَى الدَّوَائِر، فَنزلت الْآيَة وَقيل: نزلت فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر بَعثه النَّبِي إِلَى بني قُرَيْظَة حِين حَاصَرَهُمْ، فاستشاروا فِي النُّزُول، وَقَالُوا: مَاذَا يصنع بِنَا إِذا نزلنَا؟ فَأَشَارَ إِلَيْهِم بِالْقَتْلِ، وَجعل أُصْبُعه على حلقه يَعْنِي: يقتلكم؛ متنصحا لَهُم، وَقيل: نزلت فِي يَوْم أحد، فَإِنَّهُ لما انْقَضى حَرْب أحد، وَأصَاب الْمُسلمين مَا أَصَابَهُم، قَالَ بعض أهل الْمَدِينَة: نَحن نتولى الْيَهُود، وَقَالَ بَعضهم: نتولى النَّصَارَى؛ فَإنَّا نخشى أَن لَا يتم أَمر مُحَمَّد، وَأَن يَدُور الْأَمر علينا؛ فَنزلت الْآيَة: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين﴾.
45
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فترى الَّذين فِي قُلُوبهم مرض﴾ أَي: نفاق ﴿يُسَارِعُونَ فيهم﴾ يَعْنِي: فِي معونتهم وموالاتهم، وَفِيه حذف، كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: ﴿واسأل الْقرْيَة﴾ أَي: أهل الْقرْيَة ﴿يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: نخشى أَن لَا يتم أَمر مُحَمَّد؛ فيدور الْأَمر علينا، وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: نخشى أَن يكون قحط؛ فَلَا يتفضلوا علينا بالثمار؛ [إِذْ] كَانَت الْيَهُود أَصْحَاب النخيل وَالثِّمَار، وَالْأول أصح.
﴿فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أَمر من عِنْده﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ فتح مَكَّة. وَقيل (هُوَ فتح) قرى الْيَهُود مثل خَيْبَر، وفدك، وتيما ووادي الْقرى. ﴿أَو أَمر من عِنْده﴾ قيل: هُوَ إتْمَام أَمر مُحَمَّد، وَقيل: هُوَ إجلاء بني النَّضِير، وَقيل: قتل بني قُرَيْظَة، وَقيل:
45
﴿الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (٥١) فترى الَّذين فِي قُلُوبهم مرض يُسَارِعُونَ فيهم يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة فعس الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أَمر من عِنْده فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين (٥٢) وَيَقُول الَّذين آمنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد﴾ هُوَ الْإِخْبَار بأسماء الْمُنَافِقين؛ ليفتضحوا. {فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين
46
وَيَقُول الَّذين آمنُوا) يَعْنِي: [للْيَهُود] حِين انْكَشَفَ حَال الْمُنَافِقين: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم إِنَّهُم لمعكم حبطت أَعْمَالهم فَأَصْبحُوا خاسرين﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه﴾ وَقَرَأَ أهل الْمَدِينَة وَالشَّام: " من يرتدد " وَالْمعْنَى وَاحِد ﴿فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قَالَ عَليّ، وَالْحسن: نزل هَذَا فِي أبي بكر وَأَصْحَابه. وَكَانَ الْحسن يحلف على هَذَا، أَنه نزل فِي أبي بكر وَأَصْحَابه، وَذَلِكَ أَن النَّبِي لما خرج إِلَى رَحْمَة الله ارْتَدَّت الْعَرَب، وَلم يبْق الْإِسْلَام إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَسَاجِد: مَسْجِد مَكَّة، وَمَسْجِد الْمَدِينَة، وَمَسْجِد الْبَحْرين؛ فهم أَبُو بكر بِالْقِتَالِ، وَكره الصَّحَابَة ذَلِك، وَقَالُوا: إِن بَعضهم منع الزَّكَاة، وَلم يتْركُوا الصَّلَاة، وَقَالَ أَبُو بكر: وَالله (لأقاتلن من) فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَقيل: إِنَّه سل سَيْفه، وَخرج وَحده، وَقَالَ: أقَاتل وحدي، ثمَّ وَافقه الصَّحَابَة، قَالَ ابْن مَسْعُود: كرهنا ذَلِك لَك فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ حمدناه عَلَيْهِ فِي الِانْتِهَاء، قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش: سَمِعت أَبَا حُصَيْن يَقُول: مَا ولد مَوْلُود بعد النَّبِيين أفضل من أبي بكر، لقد قَامَ مقَام نَبِي من الْأَنْبِيَاء، يَعْنِي: فِي قتال أهل الرِّدَّة، وردهم إِلَى الْإِسْلَام.
وروى عِيَاض الْأَشْعَرِيّ: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة ﴿فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم﴾ وَأَشَارَ إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقَالَ: هَذَا وَأَصْحَابه " وَكَانُوا من أهل الْيمن،
46
﴿أَيْمَانهم إِنَّهُم لمعكم حبطت أَعْمَالهم فَأَصْبحُوا خاسرين (٥٣) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على﴾ وَلأَهل الْيمن أَمر عَظِيم فِي الْفتُوح الَّتِي وَقعت فِي الْإِسْلَام، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْإِيمَان يمَان، وَالْحكمَة يَمَانِية " وَقيل: أَرَادَ بِالْآيَةِ: قوما كَانَ أَكْثَرهم من أهل الْيمن؛ فتحُوا الْقَادِسِيَّة فِي زمَان عمر. وَالْأول أصح ﴿أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ﴾ لَيْسَ من الذل، وَإِنَّمَا هُوَ من الذلة، وَهِي اللين.
وَقَوله: ﴿أعزة على الْكَافرين﴾ لَيْسَ من الْعِزّ وَإِنَّمَا هُوَ من الْعِزَّة؛ وَهِي: الشدَّة، يَعْنِي: أَن جانبهم لين على الْمُؤمنِينَ، شَدِيد على الْكَافرين، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ غلظاء على الْكَافرين " وَهِي معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة.
﴿يجاهدون فِي سَبِيل الله لَا يخَافُونَ لومة لائم﴾ يَعْنِي: لَا يخَافُونَ فِي الله لوم النَّاس، وروى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أَرَادَ الْجنَّة لَا شكّ، فَلَا يخَاف فِي الله لومة لائم " ﴿ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله﴾ هَذَا رَاجع إِلَى قَوْله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء﴾ لما مَنعهم من مُوالَاة الْيَهُود وَالنَّصَارَى، دعاهم إِلَى مُوالَاة الله وَرَسُوله.
﴿وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ﴾ يَعْنِي: مصلون؛ إِلَّا أَنه خص الرُّكُوع تَشْرِيفًا، وَقيل: مَعْنَاهُ: خاضعون، وَقَالَ السّديّ: - وَهُوَ رِوَايَة عَن مُجَاهِد - إِن هَذَا أنزل فِي عَليّ بن أبي طَالب، كَانَ فِي الرُّكُوع، ومسكين
47
﴿الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم (٥٤) إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ (٥٥) وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله﴾ يطوف فِي الْمَسْجِد فَنزع خَاتمه، وَدفع إِلَيْهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ﴾ وَعَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ، فَقيل لَهُ: إِن قوما يَقُولُونَ: إِن الْآيَة نزلت فِي عَليّ بن أبي طَالب، فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: عَليّ من الْمُؤمنِينَ.
48
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله﴾ أَرَادَ بِهِ: الْولَايَة فِي الدّين، لَا ولَايَة الْإِمَارَة والسلطنة، وهم فَوق كل ولَايَة، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَكَذَلِكَ معنى قَوْله: " من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ " يَعْنِي: من كنت وليا لَهُ، أعينه وأنصره، فعلي يُعينهُ وينصره فِي الدّين.
قَوْله: ﴿وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون﴾ أَي: جند الله هم الغالبون،
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هذوا وَلَعِبًا﴾ هَذَا فِي الْيَهُود، كَانُوا إِذا سمعُوا الْمُؤَذّن ضحكوا، وتغامزوا بَينهم ﴿من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ﴾ يَعْنِي: الْيَهُود ﴿وَالْكفَّار﴾ : سَائِر الْكَفَرَة ﴿أَوْلِيَاء﴾ أَي: لَا تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاء. وَقَرَأَ الْكسَائي، وَأَبُو عَمْرو: " وَالْكفَّار " بِكَسْر الرَّاء، يَعْنِي: وَمن الْكفَّار، وَكَذَا فِي حرف أبي بن كَعْب " وَمن الْكفَّار أَوْلِيَاء " ( ﴿وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾
وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا) هَذَا بَيَان لاتخاذهم الدّين هزوا فِي الْآيَة الأولى ﴿ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ﴾.
48
﴿هم الغالبون (٥٦) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين (٥٧) وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ (٨٥) قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا إِلَّا أَن آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل من قبل وَأَن أَكْثَرَكُم﴾
و (فِي) الحكايات: أَن وَاحِدًا من الْمُنَافِقين يُقَال لَهُ: ضَمرَة، سمع الْمُؤَذّن يُؤذن، فَقَالَ: حرق الله الْكَاذِب؛ فَجَاءَهُ خادمه بسراج فِي بعض تِلْكَ اللَّيَالِي، فَوَقَعت شرارة من السراج، وَلم (يشْعر) بِهِ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَمَا فِي الْبَيْت.
49
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا﴾ أَي: هَل تَكْرَهُونَ منا ﴿إِلَّا أَن آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل من قبل وَأَن أَكْثَرَكُم فَاسِقُونَ﴾ أَي: هَل تَنْقِمُونَ منا إِلَّا بإيماننا وفسقكم، قَالَ الشَّاعِر:
(مَا نقموا من بني أُميَّة إِلَّا أَنهم (يحملون) إِن غضبوا)
(وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك وَلَا يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب)
أَي: كَرهُوا من بني أُميَّة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل هَل أنبئكم بشر من ذَلِك مثوبة عِنْد الله﴾ أَي: قل: [هَل] أخْبركُم بشر من ذَلِك ثَوابًا وعاقبة عِنْد الله؟ ﴿من لَعنه الله وَغَضب عَلَيْهِ﴾ يَعْنِي: الْيَهُود ﴿وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير﴾ قيل: جعل القردة القردة من الْيَهُود، والخنازير من النَّصَارَى، فَالَّذِينَ جعلهم قردة من الْيَهُود: أَصْحَاب السبت، وَالَّذين جعلهم خنازير من النَّصَارَى: أَصْحَاب الْمَائِدَة، وَقيل: كِلَاهُمَا من الْيَهُود، فَجعل شُبَّانهمْ قردة وشيوخهم خنازير ﴿وَعبد الطاغوت﴾ أَي: وَمن عبد الطاغوت، يَعْنِي من لَعنه الله وَمن عبد الطاغوت وَقَرَأَ حَمْزَة: " وَعبد الطاغوت " بِضَم الْبَاء فِي عبد، وَكسر التَّاء فِي الطاغوت، وَالْمعْنَى وَاحِد، قل الشَّاعِر:
49
فَاسِقُونَ (٥٩) قل هَل أنبئكم بشر من ذَلِك مثوبة عِنْد الله من لَعنه الله وَغَضب عَلَيْهِ وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير وَعبد الطاغوت أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا وأضل عَن سَوَاء السَّبِيل (٦٠) وَإِذا جاءوكم قَالُوا آمنا وَقد دخلُوا بالْكفْر وهم قد خَرجُوا بِهِ وَالله أعلم بِمَا كَانُوا يكتمون (٦١) وَترى كثيرا مِنْهُم يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم والعدوان وأكلهم السُّحت لبئس مَا كَانُوا يعْملُونَ (٦٢) لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت لبئس مَا كَانُوا يصنعون (٦٣) وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة غلت أَيْديهم) أَي: كأعبد، وَقيل: هَذَا خطأ من حَمْزَة، وَالْأول أصح، وَيقْرَأ فِي الشواذ: " وَعباد الطاغوت " وَيقْرَأ: " وَعَبدَة الطاغوت " وَتَقْدِيره: وَجعل مِنْهُم عباد الطاغوت، وَالْكل فِي الْمَعْنى سَوَاء.
﴿أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا وأضل عَن سَوَاء السَّبِيل﴾ أَي: عَن طَرِيق الْحق.
50
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذا جاءوكم قَالُوا آمنا﴾ قيل: نزلت الْآيَة فِي قوم من الْيَهُود، دخلُوا على النَّبِي، وَقَالُوا: إِنَّا آمنا بك، وَصَدَّقنَاك فِيمَا قلت، وهم يسرون الْكفْر؛ فَنزلت الْآيَة ﴿وَإِذا جاؤكم﴾ يَعْنِي: أُولَئِكَ قَالُوا: آمنا ﴿وَقد دخلُوا بالْكفْر وهم قد خَرجُوا بِهِ﴾ يَعْنِي: دخلُوا كَافِرين، وَخَرجُوا كَافِرين ﴿وَالله أعلم بِمَا كَانُوا يكتمون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَترى كثيرا مِنْهُم يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم والعدوان﴾ قيل: الْإِثْم: الْمعاصِي، والعدوان: الظُّلم، وَقيل: الْإِثْم: كتمان أَمر مُحَمَّد وَمَا كتموا من التَّوْرَاة، والعدوان مَا زادوا فِي التوارة. ﴿وأكلهم السُّحت﴾ قد بَينا معنى السُّحت، والسحت لُغَتَانِ، وَقيل: أَرَادَ بِهِ أكلهم الرِّبَا ﴿لبئس مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾.
قَوْله: ﴿لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت﴾ يَعْنِي: هلا ينهاهم الربانيون، وَقد ذكرنَا معنى الربانيين، وَقيل: هُوَ مَنْسُوب إِلَى الرب، كالبحراني مَنْسُوب إِلَى الْبَحْرين، والنجراني مَنْسُوب إِلَى نَجْرَان ﴿لبئس مَا كَانُوا يصنعون﴾ وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: " يعْملُونَ " وَكِلَاهُمَا وَاحِد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة﴾ سَبَب هَذَا: أَن الْيَهُود كَانُوا فِي خصب وسعة رزق قبل هِجْرَة النَّبِي، فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، ضيق الله الرزق عَلَيْهِم فَقَالَت الْيَهُود: يَد الله مغلولة: أَي ممسكة لَا ينْفق، كَأَنَّهُمْ نسبوه إِلَى الْبُخْل،
50
﴿ولعنوا بِمَا قَالُوا بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ يَشَاء وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا وألقينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا وَالله لَا يحب المفسدين (٦٤) وَلَو أَن﴾ وَقَالَ الْحسن: أَرَادوا بِهِ: يَد الله مغلولة لَا يعذبنا [بهَا] ﴿غلت أَيْديهم﴾ يُجِيبهُمْ الله تَعَالَى؛ فَيَقُول: أَنا الْجواد، وهم البخلاء، وأيديهم هِيَ المغلولة الممسكة، قَالَه الزّجاج، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم يُعَذبُونَ يَوْم الْقِيَامَة.
﴿ولعنوا بِمَا قَالُوا﴾ فَمن عَنْهُم أَنهم: مسخوا قردة وَخَنَازِير، وَمن لعنهم: أَنهم ضربت عَلَيْهِم الذلة والجزية.
﴿بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ يَشَاء﴾ يَعْنِي: [يدا] الله مبسوطتان، يرْزق وَينْفق على مَشِيئَته كَيفَ يَشَاء، قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ فِي هَذَا رد على الْيَهُود فِي إثباتهم الْيَد لله - تَعَالَى - وَإِنَّمَا الرَّد عَلَيْهِم فِي نسبته إِلَى الْبُخْل، وَأما الْيَد: صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ، وَله يدان، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كلتا يَدَيْهِ يَمِين ". وَالله أعلم بكيفية المُرَاد.
﴿وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا﴾ على معنى أَنه كلما نزلت آيَة كفرُوا بهَا، وازدادوا طغيانا وَكفرا ﴿وألقينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء﴾ قيل: بَين فرق الْيَهُود، وَقيل (بَين) الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقَوله: ﴿إِلَى يَوْم الْقِيَامَة﴾ دَلِيل على أَن الْيَهُودِيَّة والنصرانية تبقى إِلَى قريب من قيام السَّاعَة ﴿كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله﴾ معنى هَذَا: كلما اجْتَمعُوا ليفسدوا أَمر مُحَمَّد، شتت الله
51
﴿أهل الْكتاب آمنُوا وَاتَّقوا لكفرنا عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلناهم جنَّات النَّعيم (٦٥) وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم مِنْهُم أمة مقتصدة وَكثير مِنْهُم سَاءَ مَا يعْملُونَ (٦٦) يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا﴾ جمعهم، وبدد شملهم. ﴿ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا وَالله لَا يحب المفسدين﴾.
52
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو أَن أهل الْكتاب آمنُوا﴾ بِمُحَمد ﴿وَاتَّقوا﴾ يَعْنِي: عَن الْمعاصِي ﴿لكفرنا عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلناهم جنَّات النَّعيم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم﴾ يَعْنِي: وَلَو أَنهم قَامُوا وَعمِلُوا مَا فِي التَّوْرَاة، وَمَا فِي الْإِنْجِيل وَمَا فِي الْقُرْآن ﴿لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم﴾ قيل: من فَوْقهم من مطر السَّمَاء، وَمن تَحت أَرجُلهم من نَبَات الأَرْض. وَقيل: من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم مَعْنَاهُ: أَنه يُوسع عَلَيْهِم الرزق، قَالَ الزّجاج، وَهُوَ نَظِير قَول الْقَائِل: فلَان فِي الْخَيْر من الْفرق إِلَى الْقدَم، أَي: وسع عَلَيْهِ الْخَيْر، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله ﴿من فَوْقهم﴾ من الْأَشْجَار ﴿وَمن تَحت أَرجُلهم﴾ من النَّبَات، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ ﴿من فَوْقهم﴾ من كسب آبَائِهِم ﴿وَمن تَحت أَرجُلهم﴾ من كسب أبنائهم، وَهَذَا نَظِير قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض﴾ وَنَظِير قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقا﴾ ﴿مِنْهُم أمة مقتصدة﴾ أَي: عادلة ﴿وَكثير مِنْهُم سَاءَ مَا يعْملُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك﴾ قَالَت عَائِشَة: " من قَالَ: إِن مُحَمَّدًا كتم شَيْئا من الْوَحْي؛ فقد أعظم الْفِرْيَة، وَمن قَالَ: إِن مُحَمَّدًا رأى ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج؛ فقد أعظم الْفِرْيَة؛ فَإِن الله - تَعَالَى - يَقُول: ﴿لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار﴾ " وَالْخَبَر فِي الصَّحِيح.
52
﴿أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته وَالله يَعْصِمك من النَّاس إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (٦٧) قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا فَلَا تأس على الْقَوْم الْكَافرين (٦٨) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا والصابئون﴾
﴿وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته﴾ فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: مَعْنَاهُ: إِن لم تبلغ الْجَمِيع، وَتركت وَاحِدًا، فَمَا بلغت شَيْئا، يَعْنِي: جرمك فِي ترك التَّبْلِيغ فِي وَاحِد كجرمك فِي ترك الْكل، وَقيل: مَعْنَاهُ: بلغ مَا أنزل إِلَيْك أَي: أظهر تبليغه، وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: ( ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر﴾ وَإِن لم تفعل) يَعْنِي: وَإِن لم تظهر تبليغه ( ﴿فَمَا بلغت رسَالَته﴾ وَالله يَعْصِمك من النَّاس). قَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " كَانَ النَّبِي قبل نزُول هَذِه الْآيَة يَأْتِيهِ قوم فيحرسونه؛ فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة؛ أخرج رَأسه، وَقَالَ: انصرفوا، فَإِن الله يعصمني ". قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: نزلت الْآيَة فِي كَافِر سل سَيْفه، وهم (بقتل النَّبِي)، فَسقط السَّيْف من يَده، وَجعل يضْرب رَأسه على شَجَرَة حَتَّى [انتثر] دماغه ﴿إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين﴾.
53
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم﴾ أَي: تعملوا بِالْكُلِّ ﴿وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا﴾ هُوَ مَا ذكرنَا ﴿فَلَا تأس﴾ أَي فَلَا تحزن ﴿على الْقَوْم الْكَافرين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا والصابئون وَالنَّصَارَى﴾ قَالَ
53
﴿وَالنَّصَارَى من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (٦٩) لقد أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِم رسلًا كلما جَاءَهُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أنفسهم فريقا كذبُوا وفريقا يقتلُون (٧٠) وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة فعموا وصموا ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم ثمَّ عموا وصموا كثير مِنْهُم وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ (٧١) لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَقَالَ الْمَسِيح يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي﴾ الْكسَائي، ونحاة الْكُوفَة: تَقْدِيره: هم والصابئون. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَتَقْدِيره: إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ، والصابئون كَذَلِك.
وَقَوله: ﴿من آمن بِاللَّه﴾ يَعْنِي: الَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ، من آمن مِنْهُم بِالْقَلْبِ، وَقيل: إِن الَّذين آمنُوا على حَقِيقَة الْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿من آمن بِاللَّه﴾ أَي: من ثَبت على الْإِيمَان بِاللَّه، وَأما فِي حق الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، فَهُوَ مَحْمُول على حَقِيقَة الْإِيمَان.
54
قَوْله - تَعَالَى -: (لقد أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل) قد ذكرنَا الْمِيثَاق ﴿وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِم رسلًا كلما جَاءَهُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أنفسهم فريقا كذبُوا﴾ يَعْنِي: عِيسَى وَمُحَمّد ﴿وفريقا يقتلُون﴾ يَعْنِي: زَكَرِيَّا وَيحيى،
وَقَوله: ﴿وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة﴾ أَي: عَذَاب ﴿فعموا وصموا ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم﴾ يَعْنِي: عموا وصموا بعد مُوسَى، ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم؛ ببعث عِيسَى، ﴿ثمَّ عموا وصموا كثيرا مِنْهُم﴾ بالْكفْر بِمُحَمد ﴿وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم﴾ قد ذكرنَا معنى الْمَسِيح، قَالَ النَّخعِيّ: سمي مسيحا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يمسح الأَرْض، (وَأما) الدَّجَّال: يُسمى مسيحا، وَقد ورد الْخَبَر بِكَوْنِهِ مسيحا مُطلقًا؛ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام - قَالَ: " [يقبل] الْمَسِيح من قبل الْمشرق وهمه الْمَدِينَة ". وَورد فِي الْخَبَر: الْمَسِيح الدَّجَّال. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " لَا يدْخل رعب الْمَسِيح الدَّجَّال الْمَدِينَة أبدا ".
54
﴿وربكم إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار وَمَا للظالمين من أنصار (٧٢) لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمَا من إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد وَإِن لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم (٧٣) أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه وَالله غَفُور رَحِيم (٧٤) مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله﴾
﴿وَقَالَ الْمَسِيح يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي وربكم إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار﴾ روى أَبُو سُفْيَان طَلْحَة بن نَافِع عَن جَابر: " أَن النَّبِي سُئِلَ مَا الموجبتان؟ فَقَالَ: من وحد الله؛ لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا؛ وَجَبت لَهُ الْجنَّة، وَمن أشرك بِاللَّه؛ وَجَبت لَهُ النَّار " ﴿وَمَا للظاليمن من أنصار﴾.
55
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة﴾ فِيهِ حذف، أَي: ثَالِث ثَلَاثَة آلِهَة، وَلَا بُد من هَذَا التَّقْدِير؛ لِأَنَّهُ يجوز أَن يُقَال: هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة، كَمَا قَالَ: ﴿مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم﴾، وَقَوله: ﴿ثَالِث ثَلَاثَة﴾ هُوَ قَوْلهم: أَب، وَابْن وروح الْقُدس، وَهَذَا قَول اليعقوبية مِنْهُم، وَقَالُوا: روح الْقُدس لَا هُوَ وَلَا غَيره، وَكَذَلِكَ الابْن، وَالله مَجْمُوع الْكل ﴿وَمَا من إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد وَإِن لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا﴾ أَي: ليصيبن الَّذين ﴿كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه﴾ أرشدهم إِلَى التَّوْبَة وَالْإِسْلَام ﴿وَالله غَفُور رَحِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله﴾ أَي: مَضَت، وَسميت الْأَيَّام الْمَاضِيَة خَالِيَة؛ لخلوها، وَمعنى هَذَا: أَنا أرسلنَا عِيسَى كَمَا أرسلنَا غَيره [وأعطيناه] من المعجزات مَا أعطينا غَيره من الرُّسُل ﴿وَأمه صديقَة﴾ وَالصديق: كثير الصدْق، وَهُوَ للْمُبَالَغَة، وَمِنْه سمى أَبُو بكر [الصّديق]- رَضِي الله عَنهُ -: صديقا، وَقيل: سمي صديقا؛ لِأَنَّهُ قيل لَهُ: إِن صَاحبك يَقُول: أسرى بِي إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: إِن (هُوَ قَالَ) ذَلِك فقد صدق.
55
﴿الرُّسُل وَأمه صديقَة كَانَا يأكلان الطَّعَام انْظُر كَيفَ نبين لَهُم الْآيَات ثمَّ انْظُر أَنى يؤفكون (٧٥) قل أتعبدون من دون الله مَا لَا يملك لكم ضرا وَلَا نفعا وَالله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (٧٦) قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل (٧٧) لعن الَّذين كفرُوا﴾
﴿كَانَا يأكلان الطَّعَام﴾ أَي: يتغذيان بِالطَّعَامِ، وَمَعْنَاهُ: أَن من يتغذى بِالطَّعَامِ لَا يكون إِلَهًا يعبد، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ كِنَايَة عَن الْحَدث، يَعْنِي: أَنَّهُمَا يأكلان، ويشربان، ويبولان، ويتغوطان، وَمثل هَذَا لَا يكون إِلَهًا يعبد ﴿انْظُر كَيفَ نبين لَهُم الْآيَات ثمَّ انْظُر أَنى يؤفكون﴾ قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَهَذَا من ألطف الْبَيَان، وَقَوله: ﴿يؤفكون﴾ أَي: يصرفون، وَمِنْه سمي الْكَذِب: إفكا؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوف عَن الْحق.
56
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل أتعبدون من دون الله مَا لَا يملك لكم ضرا وَلَا نفعا﴾ يَعْنِي: عِيسَى وَمثله. ﴿وَالله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق﴾ الغلو: مُجَاوزَة الْحَد، وَهُوَ مَذْمُوم، وَكَذَلِكَ التَّقْصِير، وَدين الله بَين الغلو، وَالتَّقْصِير ﴿وَلَا تتبعوا أهواء قوم﴾ الْأَهْوَاء: جمع الْهوى، وَهُوَ مَقْصُور، وَأما الْهَوَاء الْمَمْدُود: فَهُوَ الجو، والهوى: كل مَا تَدْعُو إِلَيْهِ شَهْوَة النَّفس، لَا الْحجَّة ﴿قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل﴾. فَإِن قيل: مَا معنى هَذَا التكرير، قَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: ﴿ضلوا عَن سَوَاء السَّبِيل﴾ يَعْنِي: بالإضلال، وَالْأول من الضَّلَالَة، وَقيل: ضلوا من قبل الإضلال، وَضَلُّوا بعد الإضلال؛ فكأنهم ضلوا مرَّتَيْنِ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لعن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَم﴾ فَالَّذِينَ لعنُوا على لِسَان دَاوُد: هم أَصْحَاب السبت، وَالَّذين لعنُوا على لِسَان عِيسَى: أَصْحَاب الْمَائِدَة، وَأُولَئِكَ الَّذين جعلهم الله قردة، وَهَؤُلَاء الَّذين جعلهم الله خنازير ﴿ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ التناهي: تفَاعل من النَّهْي، وَالْمُنكر: كل مَا أنكرهُ الشَّرْع، وَفِي الْخَبَر قَالَ: أول مَا
56
﴿من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُود وَعِيسَى ابْن مَرْيَم ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون (٧٨) كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ (٨٠) وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ (٨١) لتجدن أَشد النَّاس عَدَاوَة للَّذين آمنُوا الْيَهُود وَالَّذين﴾ دخل النَّقْص فِي بني إِسْرَائِيل: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ إِذا نهى صَاحبه عَن مُنكر، كَانَ لَا يمنعهُ بعد ذَلِك أَن يكون جليسه، وأكيله، وشريبه، فَضرب الله - تَعَالَى - قلب بَعضهم بِالْبَعْضِ، وعمهم بالعقاب، ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، حَتَّى تَأْخُذُوا على يَد الظَّالِم فتأطروه على الْحق أطرا " أَي: تعطفوه.
57
قَوْله: (ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا) أَي: يوالونهم {لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ
وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء) يَعْنِي: الْكفَّار ﴿وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ﴾ فَإِن قيل: لم سماهم فاسقين وهم كافرون؟ قيل: مَعْنَاهُ: (خارجون) عَن أَمر الرب، وَالْكفَّار خارجون عَن كل أمره، وَقيل: مَعْنَاهُ: متمردون، أَي: هم مَعَ كفرهم متمردون.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لتجدن أَشد النَّاس عَدَاوَة للَّذين آمنُوا الْيَهُود وَالَّذين أشركوا﴾ يَعْنِي: مُشْركي مَكَّة، ﴿ولتجدن أقربهم مَوَدَّة للَّذين آمنُوا الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ قيل: إِن الْآيَة فِي قوم من النَّصَارَى، (أَرْبَعِينَ) نَفرا: اثْنَان وَثَلَاثُونَ من الْحَبَشَة، وَثَمَانِية من رُهْبَان الشَّام، جَاءُوا إِلَى النَّبِي، وَأَسْلمُوا، وَفِيهِمْ نزلت الْآيَة لَا فِي النَّصَارَى الْكَفَرَة؛ لأَنهم فِي عَدَاوَة الْمُسلمين مثل الْيَهُود، وَقيل: إِن الَّذين أَسْلمُوا من الْحَبَشَة كَانَ فيهم النَّجَاشِيّ؛ فَقدم جَعْفَر الطيار الْحَبَشَة، فَدَعَاهُ النَّجَاشِيّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ
57
أشركوا ولتجدن أقربهم مَوَدَّة للَّذين آمنُوا الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى) سُورَة مَرْيَم، وَعِنْده الأساقفة والرهبان؛ فبكوا حَتَّى أخضلوا لحاهم، وَأخذ النَّجَاشِيّ قذاة بِيَدِهِ، وَقَالَ: لم يعد عِيسَى مَا قلت، وَلَا قدر هَذَا، وَأَسْلمُوا.
وَقيل: نزلت الْآيَة فِي قوم من النَّصَارَى كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بدين عِيسَى، لم يحرفوا، فآمنوا بِمُحَمد.
وَقيل: هُوَ فِي كل النَّصَارَى، وَمَعْنَاهُ: أَنهم أَلين عَدَاوَة من الْيَهُود.
﴿ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ قَالَ قطرب: القسيس العابد بلغَة الرّوم، وَهُوَ التَّمام فِي اللُّغَة، قَالَ الشَّاعِر:
(أبني لبينى إِن أمكُم أمة وَإِن وَإِنِّي أَبَاكُم عبد)
(يمسين من قس (الحَدِيث) غوافلا إِلَّا جعبر يات وَلَا [طهاملا] )
والرهبان جمع الراهب، وروى سلمَان: " أَن النَّبِي قَرَأَ: " ذَلِك بِأَن مِنْهُم صديقين وَرُهْبَانًا " وَهَذَا فِي الغرائب.
58
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن، فَإِن النَّبِي كَانَ قد قَرَأَ عَلَيْهِم الْقُرْآن؛ فبكوا وَأَسْلمُوا، فَذَلِك معنى قَوْله: ﴿ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين﴾ يَعْنِي: من أمة مُحَمَّد؛ فَإِنَّهُم الشاهدون على سَائِر الْأُمَم.
قَوْله - تَعَالَى - ﴿وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق﴾ وَذَلِكَ أَن الْيَهُود قَالُوا: لَو لم آمنتم؟ فَأَجَابُوا: وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق {ونطمع أَن يدخلنا
58
﴿أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين (٨٣) وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق ونطمع أَن يدخلنا رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين (٨٤) فأثابهم الله بِمَا قَالُوا جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم (٨٦) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب﴾ رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين) الطمع: هُوَ تعلق النَّفس بالشَّيْء مَعَ قُوَّة.
59
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فأثابهم الله بِمَا قَالُوا جنَّات﴾ أَي: أَعْطَاهُم الله بِمَا قَالُوا جنَّات ﴿تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ﴾.
فَإِن قيل: هَذَا أول قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فأثابهم الله بِمَا قَالُوا﴾ على أَن الْإِيمَان قَول فَرد.
قيل: قد ذكر فِي الْآيَة الأولى ﴿مِمَّا عرفُوا من الْحق﴾ فَذكر الْمعرفَة فِي تِلْكَ الْآيَة، وَالْقَوْل فِي هَذِه الْآيَة، ومجموعهما إِيمَان ﴿وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم﴾ قَالَ (ابْن عَبَّاس)، وَعَطَاء [وَسعد]، وَسَعِيد بن جُبَير، وَالسُّديّ: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن عليا، وَابْن مَسْعُود، وَعُثْمَان بن مَظْعُون، تشاوروا فِي أَن يترهبوا، ويلبسوا المسوح، ويقطعوا المذاكير، ويصوموا الدَّهْر؛ فَبلغ ذَلِك رَسُول الله فَقَالَ: أما إِنِّي أَنَام وأقوم، وَأفْطر وَأَصُوم، وآكل وأشرب، وأنكح، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني وَنزلت الْآيَة ﴿لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم﴾ وَرُوِيَ: أَن عُثْمَان بن مَظْعُون قَالَ: " يَا رَسُول الله، ائْذَنْ لي فِي الرهبانية. فَقَالَ: رَهْبَانِيَّة أمتِي الْجُلُوس فِي الْمَسَاجِد. فَقَالَ: ائْذَنْ لي فِي السياحة فِي الأَرْض. فَقَالَ سياحة أمتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله. فَقَالَ: ائْذَنْ لي فِي الإخصاء. فَقَالَ: إخصاء أمتِي الصَّوْم ". وَقيل: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُصِيب اللَّحْم؛ فأنتشر واشتهي النِّسَاء فَحرمت اللَّحْم على نَفسِي " فَنزل قَوْله [تَعَالَى] :{لَا تحرموا طبيات مَا أحل الله
59
﴿الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وكلوا مِمَّا رزقكم الله حَلَالا طيبا وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ (٨٨) لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان فكفارته﴾ لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ) رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، والاعتداء: هُوَ مُجَاوزَة مَاله إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ
60
﴿وكلوا مِمَّا رزقكم الله حَلَالا طيبا وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ﴾ أكد ذَلِك النَّهْي بِهَذَا الْأَمر.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم﴾ إِنَّمَا عقب تِلْكَ الْآيَة بِهَذِهِ؛ لِأَن الْقَوْم الَّذين تشاوروا أَن يترهبوا كَانُوا قد حلفوا؛ فَبين حكم الْإِيمَان، واللغو: هُوَ المطرح الَّذِي لَا يعبأ بِهِ، وَعَن عَائِشَة: أَن لَغْو الْيَمين: قَول الْإِنْسَان: لَا وَالله، وبلى وَالله، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة: لَغْو الْيَمين: هُوَ أَن يحلف على شَيْء على ظن أَنه كَذَلِك فَإِذا هُوَ على خِلَافه، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْكَفَّارَة فِي يَمِين اللَّغْو، قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: تجب فِيهَا الْكَفَّارَة، وَقَوله: ﴿لَا يُؤَاخِذكُم﴾ يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة. وَسَائِر الْعلمَاء على أَن لَا كَفَّارَة فِي يَمِين اللَّغْو؛ لظَاهِر الْقُرْآن ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان﴾ فِيهِ ثَلَاث قراءات: ﴿عقدتم﴾ بِالتَّخْفِيفِ قِرَاءَة الْكسَائي وَحَمْزَة وَأَبُو بكر. و ﴿عقدتم﴾ بِالتَّشْدِيدِ قَرَأَهُ أَبُو عَمْرو وَمن بَقِي، غير ابْن ذكْوَان، و ﴿عاقدتم﴾ قِرَاءَة ابْن عَامر بِرِوَايَة ابْن ذكْوَان.
قَالَ الْكسَائي: عقدتم، أَي: أوجبتم، وَقَالَ أَبُو عَمْرو: عقدتم، أَي: وكدتم، وَاخْتلفُوا فِي هَذَا التوكيد، قَالَ ابْن جريج: سَأَلت عَطاء عَن قَوْله: ﴿عقدتم﴾ أَنه مَاذَا؟ فَقَالَ: هُوَ قَول الْقَائِل: وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ؛ كَأَنَّهُ فسر التوكيد بِهِ، وروى نَافِع عَن ابْن عمر: أَن توكيد الْيَمين بالتكرار، قَالَ نَافِع: وَكَانَ ابْن عمر إِذا وكد الْيَمين أعتق رَقَبَة، وَإِذا لم يوكد: أطْعم الْمَسَاكِين فِي كَفَّارَته. ﴿فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين﴾ على قَول النَّخعِيّ يرجع هَذَا إِلَى يَمِين اللَّغْو، وعَلى قَول البَاقِينَ يرجع إِلَى الْيَمين المعقودة، وَهِي الْمَقْصُودَة، وَعقد الْيَمين: هُوَ الْقَصْد بِالْقَلْبِ، وَالذكر بِاللِّسَانِ. ﴿من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم﴾ قَالَ ابْن عمر: الْأَوْسَط هُوَ الْخبز وَالزَّيْت، أَو الْخبز
60
﴿إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة فَمن لم﴾ وَالتَّمْر، وَقَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي: هُوَ الْخبز وَالسمن، وَقَالَ أَبُو رزين: (هُوَ الْخبز والخل وَأما الْأَعْلَى) : هُوَ الْخبز وَاللَّحم، والأدنى: هُوَ الْخبز البحت، وَالْكل مجزئ، والأوسط فِي الْقدر، قَالَ زيد بن ثَابت، وَعَائِشَة، وَابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - هُوَ الْمَدّ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - وَذَلِكَ رَطْل وَثلث، وَقَالَ عمر، وَعلي - وَهُوَ رِوَايَة ابْن عَبَّاس - أَنه مدان، نصف صَاع، وَبِه قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ.
﴿أَو كسوتهم﴾ قَالَ عَطاء، وطاووس: لكل مِسْكين ثوب، وَقَالَ مُجَاهِد: مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْكسْوَة، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: لكل مِسْكين ثوب جَامع يصلح [لِليْل] وَالنَّهَار مثل الكساء، الملحفة وَنَحْوهمَا. وَقَالَ ابْن عمر: ثَلَاثَة أَثوَاب. وَقيل: ثَوْبَان، وَهُوَ قَول الْحسن، وَابْن سِيرِين، مثل إِزَار ورداء، أَو إِزَار وعمامة. وَقيل: مَا يستر الْعَوْرَة، وتجزئ بِهِ الصَّلَاة.
وَالصَّحِيح: أَن الْوَاجِب لكل مِسْكين مَا يصلح بِهِ الْكسْوَة فِي الْعرف ﴿أَو تَحْرِير رَقَبَة﴾ هُوَ عتق الرَّقَبَة، وَفِيه كَلَام فِي الْفِقْه.
﴿فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام﴾ ظَاهِرَة: أَنه يجوز مُتَفَرقًا، وَهُوَ الْأَصَح، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود، وَأبي بن كَعْب: " ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات " فعلى هَذَا يجب التَّتَابُع فِيهِ، وَبِه قَالَ مَالك، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي ﴿ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم إِذا حلفتم﴾ قيل: الْحِنْث مُضْمر فِيهِ، يَعْنِي: إِذا حلفتم وحنثتم، وَلَا تجب الْكَفَّارَة إِلَّا بعد الْحِنْث، وَأما جَوَاز التَّكْفِير قبل الْحِنْث عرفنَا بِالسنةِ ﴿واحفظوا أَيْمَانكُم﴾ ظَاهره للنَّهْي عَن الْحِنْث، وَقيل: أَرَادَ بِهِ حفظ الْيَمين لَا أَن يحلف، وَالْأول أصح ﴿كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾.
61
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر﴾ أما الْخمر فقد سبق الْكَلَام فِيهِ، وَكَذَلِكَ الميسر، قَالَ الْأَصْمَعِي: كَانَ ميسرهم على الْجَزُور، فَكَانُوا يشْتَرونَ جزورا وينحرونه، ويجعلونه على ثَمَانِيَة وَعشْرين سَهْما، وَقيل: على عشرَة
61
﴿يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم إِذا حلفتم واحفظوا أَيْمَانكُم كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تشكرون (٨٩) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب﴾ أسْهم، ثمَّ يقامرون عَلَيْهِ، فَكل من خرج عَلَيْهِ قدر نصِيبه مجَّانا، وَيكون الثّمن على البَاقِينَ، وَهَكَذَا يقامرون على كل سهم مِنْهُ، إِلَى أَن يبْقى وَاحِد، فَيكون كل الثّمن عَلَيْهِ، ويفوز الْآخرُونَ بسهامهم مجَّانا. وَسُئِلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن النَّرْد وَالشطْرَنْج: أهوَ من الميسر؟ قَالَ: كل مَا صد عَن ذكر الله، وَعَن الصَّلَاة، فَهُوَ من الميسر، وَقَوله: ﴿والأنصاب والأزلام رِجْس﴾ أما الأنصاب والأزلام فقد بَينا، وَقَوله: ﴿رِجْس﴾ أَي: خَبِيث مستقذر، وَفِي الْخَبَر: " أعوذ بِاللَّه من الرجس النَّجس " ﴿من عمل الشَّيْطَان﴾ أَي: من تَزْيِين الشَّيْطَان ﴿فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾.
62
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر﴾ أما وُقُوع الْعَدَاوَة فِي الْخمر: أَن [شاربيه] إِذا سَكِرُوا عربدوا، وتشاجروا، (وتشاحجوا).
وَأما الْعَدَاوَة فِي الميسر: قَالَ قَتَادَة: هُوَ أَنهم كَانُوا يقامرون على الْأَهْل وَالْمَال، ثمَّ إِذا لم يبْق لَهُ شَيْء، يجلس زينا، مسلوبا، مغتاظا على قرنائه {ويصدكم عَن ذكر الله
62
﴿والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون (٩٠) إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر ويصدكم عَن ذكر الله عَن الصَّلَاة﴾ وَعَن الصَّلَاة) يَعْنِي: الشَّيْطَان يمنعكم بهما عَن ذكر الله (وَعَن الصَّلَاة) ﴿فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ﴾ مَعْنَاهُ: انْتَهوا، قَالَ الْفراء: سَمِعت بعض الْأَعْرَاب يَقُول لغيره: هَل أَنْت سَاكِت؟ (هَل أَنْت سَاكِت) ؟ يُرِيد بِهِ: اسْكُتْ، وَهَذَا كَلَام الْعَرَب العاربة.
وَسبب نزُول الْآيَة: " أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا؛ فَنزل (قَوْله) فِي سُورَة الْبَقَرَة: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر﴾ فَدَعَا عمر، وَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ ثَانِيًا: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا؛ فَنزل قَوْله فِي سُورَة النِّسَاء: ﴿لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى﴾ فَقَرَأَ عَلَيْهِ؛ فَدَعَا ثَالِثا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة، فَدَعَا وَقَرَأَ عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا بلغ قَوْله: ﴿فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ﴾ قَالَ: انتهينا يَا رب "، وَقيل: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن قدامَة بن مَظْعُون اتخذ دَعْوَة، وشوى رَأس بعير، ودعا سعد بن أبي وَقاص، وَجَمَاعَة، فَأَكَلُوا، وَشَرِبُوا، فَلَمَّا سَكِرُوا تفاخروا، فَقَامَ رجل من الْأَنْصَار إِلَى لحى الْبَعِير، وَضرب بِهِ وَجه سعد،
63
﴿فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول واحذروا فَإِن توليتم فاعلموا أَنما﴾ فَضرب أَنفه، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة " [وَقيل: نزلت] فِي قبيلتين من الْأَنْصَار تخاصمتا فِي حَال السكر، وَقد ورد فِي الْخمر أَخْبَار مِنْهَا: قَوْله: " مدمن الْخمر كعابد الوثن " وَقَالَ: " الْخمر أم الْخَبَائِث، من شربهَا لم يقبل الله لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا، من مَاتَ وَفِي بَطْنه شَيْء من الْخمر؛ حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ".
64
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول واحذروا﴾ لما حرم الْخمر، وَأمر بالاجتناب عَنْهَا؛ ندبهم إِلَى طَاعَة الله وَالرَّسُول، والتوقي ﴿فَإِن توليتم فاعلموا أَنما على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا﴾ سَبَب نزُول الْآيَة هَذِه أَن الصَّحَابَة قَالُوا لما ورد تَحْرِيم الْخمر: يَا رَسُول الله كَيفَ حَال من مَاتَ منا وَهُوَ يشرب الْخمر؟ فَنزلت الْآيَة: وَقيل: إِنَّهُم قَالُوا: إِن حَمْزَة بن عبد الْمطلب،
64
﴿على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين (٩٢) لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا وآمنوا ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا وَالله﴾ وَمصْعَب بن عُمَيْر اسْتشْهدُوا يَوْم أحد، وَكَانَا يشربان الْخمر، فَكيف حَالهمَا؟ فَنزلت الْآيَة وَبَين الله تَعَالَى أَنه لَا جنَاح عَلَيْهِم فِيمَا طعموا فِي حَال الْإِبَاحَة ﴿إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا وآمنوا ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا﴾ (فِي هَذَا مقدم معنى مُؤخر أَقْوَال) : أَحدهَا: أَن معنى الأول: إِذا مَا اتَّقوا الشّرك وآمنوا، أَي: صدقُوا، وَعمِلُوا الصَّالِحَات ﴿ثمَّ اتَّقوا﴾ أَي: داموا على ذَلِك التَّقْوَى ﴿وآمنوا﴾ أَي ازدادوا إِيمَانًا ﴿ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا﴾ أَي: اتَّقوا بِالْإِحْسَانِ فِي كل محسن، وكل مُطِيع متق.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن التَّقْوَى الأول: اجْتِنَاب الشّرك، وَالتَّقوى الثَّانِي: اجْتِنَاب الْكَبَائِر وَالتَّقوى الثَّالِث: اجْتِنَاب الصَّغَائِر، وَهَذَانِ قَولَانِ معروفان فِي الْآيَة، وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَنه أَرَادَ بِهِ: إِذا مَا اتَّقوا قبل تَحْرِيم الْخمر، ثمَّ اتَّقوا بعد تَحْرِيم الْخمر، وَقيل هَذَا لَا يَصح؛ لِأَن قَوْله: ﴿إِذا مَا اتَّقوا﴾ إِنَّمَا يصلح للمستقبل لَا للماضي؛ فَإِن حرف " إِذا " للمستقبل.
﴿وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ﴾، روى أَن قدامَة بن مَظْعُون شرب الْخمر؛ فَدَعَاهُ عمر ليحده، فَقَالَ: أَلَيْسَ يَقُول الله - تَعَالَى -: ﴿لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا﴾ فَقَالَ: أَخْطَأت التَّأْوِيل، لقد قَالَ: ﴿إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا﴾ وَأَنت لم تتق النَّهْي.
وروى: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة، ثمَّ قَالَ ابْن مَسْعُود: وأينا من هَؤُلَاءِ؟ ! "
65
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم الله بِشَيْء من الصَّيْد﴾ أَي: ليختبرنكم الله بِشَيْء من الصَّيْد، وَفَائِدَة الْبلوى والاختبار: إِظْهَار الْمُطِيع من العَاصِي، وَإِلَّا فَلَا حَاجَة لَهُ إِلَى الْبلوى، وَسبب هَذَا: أَن رَسُول الله لما نزل بِالْحُدَيْبِية مَعَ
65
﴿يحب الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم الله بِشَيْء من الصَّيْد تناله أَيْدِيكُم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم (٩٤) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا فجزاء مثل مَا قتل من﴾ أَصْحَابه، وَكَانُوا محرمين، كَانَ يدنوا مِنْهُم الصيود والوحوش؛ فَهموا بِالْأَخْذِ؛ فَنزلت الْآيَة.
﴿تناله أَيْدِيكُم﴾ يَعْنِي: فِي صغَار الصيود ﴿ورماحكم﴾ يَعْنِي: من كبار الوحوش، قَالَ مُجَاهِد ﴿تناله أَيْدِيكُم﴾ يَعْنِي: الفرخ وَالْبيض ﴿ورماحكم﴾ يَعْنِي: الصيود الْكِبَار.
﴿ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ﴾ قيل: مَعْنَاهُ: ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ، فيعامله مُعَاملَة من يطْلب الْعلم للْعَمَل؛ إِظْهَار للعدل، وَقيل: مَعْنَاهُ: ليرى من يخافه بِالْغَيْبِ، وَقَوله: ﴿من يخافه بِالْغَيْبِ﴾ هُوَ أَن يخَاف الله وَهُوَ لَا يرَاهُ ﴿فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم﴾.
66
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم﴾ سَبَب هَذَا أَن رجلا يُقَال لَهُ: أَبُو الْيُسْر، شدّ على حمَار وَحش؛ فَقتله وَهُوَ محرم؛ فَنزلت الْآيَة ﴿لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم﴾، وَالْحرم: يكون من الْإِحْرَام، وَيكون من دُخُول الْحرم، يُقَال: أحرم، إِذا عقد الْإِحْرَام، وَأحرم إِذا دخل الْحرم، وَيُقَال أَيْضا لمن أدْرك الشَّهْر الْحَرَام: محرم.
﴿وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا﴾ ذكر حَالَة الْعمد لبَيَان الْكَفَّارَة، فَاخْتلف الْعلمَاء، قَالَ سعيد بن جُبَير: لَا تجب كَفَّارَة الصَّيْد فِي قتل الْخَطَأ، بل تخْتَص بالعمد، وَبِه قَالَ دَاوُد.
وَسَائِر الْعلمَاء على أَنَّهَا تجب فِي الْحَالين، قَالَ الزُّهْرِيّ: على الْمُتَعَمد بِالْكتاب، وعَلى الْمُخطئ بِالسنةِ.
﴿فجزاء مثل مَا قتل من النعم﴾ قَرَأَ الْأَعْمَش " فَجَزَاؤُهُ مثل مَا قتل من النعم "، وَالْمَعْرُوف فِيهِ قراءتان " فجزاء مثل " على الْإِضَافَة، وَقَرَأَ بَعضهم " فجزاء مثل " بتنوين
66
﴿النعم يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم هَديا بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك﴾ الْجَزَاء، وَرفع اللَّام من الْمثل، وَمعنى الْكل وَاحِد، والمثلية مُعْتَبرَة فِي الْجَزَاء؛ فَيجب فِيمَا قتل مثله من النعم شبها؛ فَيجب فِي النعامة: بَدَنَة، وَفِي الأروى: بقرة، وَفِي الطير والضبع والحمامة: شَاة، وَفِي الأرنب: عنَاق، وَفِي اليربوع: جفرة، وكل هَذَا مَرْوِيّ عَن الصَّحَابَة.
﴿يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم﴾ وَفِيه دَلِيل على جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام ﴿هَديا بَالغ الْكَعْبَة﴾ نصب على التَّمْيِيز، قَوْله: ﴿بَالغ الْكَعْبَة﴾ يَقْتَضِي أَن يكون إِعْطَاء الْهَدْي فِي الْحرم، يفرق على مَسَاكِين الْحرم، وَهُوَ الْوَاجِب ﴿أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين﴾ وَذَلِكَ أَن يقوم (الْمثل) من النعم بِالدَّرَاهِمِ، وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَام مَسَاكِين، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة يقوم بالصيد الْمَقْتُول أبدا ﴿أَو عدل ذَلِك صياما﴾ قَرَأَ عَاصِم الجحدري، وَطَلْحَة بن، مصرف: ﴿أَو عدل ذَلِك﴾ بِكَسْر الْعين، ثمَّ قَالَ بَعضهم: لَا فرق بَينهمَا، وَمَعْنَاهُ: الْمثل، وَفرق الْفراء بَينهمَا، فَقَالَ: الْعدْل - بِالْكَسْرِ -: الْمثل من جنسه، وَالْعدْل: الْمثل من غير جنسه، وَقد قيل: الْعدْل - بِالْفَتْح -: هُوَ الْمثل، وَالْعدْل بِالْكَسْرِ -: الْحمل، وَالْأول أصح، وَصَوْم الْعدْل: أَن يَصُوم بدل كل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مد يَوْمًا، وَقيل: يَوْمَانِ، ثمَّ هَذَا على التَّخْيِير أم على التَّرْتِيب؟
قَالَ الشّعبِيّ، وَالنَّخَعِيّ - وَهُوَ رِوَايَة عَن مُجَاهِد -: إِنَّه على التَّرْتِيب، وَقَالَ غَيرهم - وَبِه قَالَ ابْن عَبَّاس -: إِنَّه على التَّخْيِير؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك صياما﴾ وَكلمَة " أَو " للتَّخْيِير ﴿ليذوق وبال أمره﴾ أَي: شدَّة أمره ﴿عَفا الله عَمَّا سلف﴾ يَعْنِي: فِي الْجَاهِلِيَّة ﴿وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ وَالله عَزِيز ذُو انتقام﴾.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْعَامِد إِلَى قتل الصَّيْد ثَانِيًا، هَل تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة ثَانِيًا، أم
67
﴿صياما ليذوق وبال أمره عَفا الله عَمَّا سلف وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ وَالله عَزِيز ذُو انتقام (٩٥) أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه مَتَاعا لكم وللسيارة وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر مَا دمتم حرما وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون (٩٦) جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قيَاما﴾ لَا؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تجب، وَيُقَال لَهُ. أَسَأْت، وينتقم الله مِنْك. وَعَامة الْعلمَاء على أَنه تجب الْكَفَّارَة ثَانِيًا، وَقَوله: ﴿فينتقم الله مِنْهُ﴾ يَعْنِي: فِي الْآخِرَة.
68
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه﴾ قَالَ عمر، وعَلى: صيد الْبَحْر مَا صيد مِنْهُ، وَطَعَامه مَا قذف، وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس. وَعنهُ رِوَايَة أُخْرَى: أَن طَعَامه مَا نضب عَنهُ المَاء. وَقَالَ مُجَاهِد: صَيْده: الطري وَطَعَامه: المالح، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. ﴿مَتَاعا لكم﴾ أَي: مَنْفَعَة لكم ﴿وللسيارة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَتَاعا لكم: خطاب مَعَ أهل الْقرى، والسيارة أهل الْأَمْصَار، وَقَالَ مُجَاهِد: السيارة: المسافرون.
﴿وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر مَا دمتم حرما﴾ حرم الِاصْطِيَاد على الْمحرم، وَقد ذكرنَا ﴿وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون﴾ وَاخْتلف الْعلمَاء فِي صيد الْحَلَال: هَل يحل للْمحرمِ، وَأَن يَأْكُل مِنْهُ؟ قَالَ عمر، وَعُثْمَان: يحل. وَبِه أَخذ اكثر الْفُقَهَاء، وَقَالَ عَليّ، وَابْن عَبَّاس: إِنَّه لَا يحل، وَبِه قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام﴾ قَالَ ثَعْلَب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن يحيى: إِنَّمَا سميت كعبة؛ لتربيعها ﴿الْبَيْت الْحَرَام﴾ وَهُوَ الْكَعْبَة، وَفِي الْخَبَر: " إِن الله - تَعَالَى - حرم مَكَّة مُنْذُ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض " ﴿قيَاما للنَّاس﴾ الْقيام والقوام وَاحِد، قَالَ الله - تَعَالَى -: ﴿أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما﴾ أَي: قواما لمعايشكم، وَقَالَ الشَّاعِر: يمدح النَّبِي.
68
﴿للنَّاس والشهر الْحَرَام وَالْهَدْي والقلائد ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا﴾
وَأَرَادَ بِهِ: أَن الْبَيْت الْحَرَام قوام للنَّاس لدينهم ومعايشهم، أما فِي الدّين؛ لِأَن بِهِ تقوم الْمَنَاسِك وَالْحج، وَأما فِي المعايش؛ فَلِأَن (أهل الْحرم) كَانُوا يأمنون أهل (الْغَارة)، حَتَّى كَانَ يُغير بَعضهم على بعض، ثمَّ لَا يتعرضون لأهل الْحرم، وَيَقُولُونَ: هم أهل الله.
﴿والشهر الْحَرَام﴾ أَرَادَ بِهِ: جنس الْأَشْهر الْحرم، وَهِي أَرْبَعَة أشهر: ثَلَاثَة سرد، وَوَاحِد فَرد كَمَا سبق، وَالْمرَاد بِهِ: أَنه جعل الشَّهْر الْحَرَام قواما للنَّاس؛ يأمنون فِيهِ الْقِتَال؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يكفون عَن الْقَتْل والقتال فِي الْأَشْهر الْحرم.
﴿وَالْهَدْي والقلائد﴾ وَقد بَينا كَيفَ يكون الْهَدْي والقلائد، وَكَونه قواما للنَّاس: أَنهم كَانُوا يأمنون بتقليد الْهَدْي، وَكَانَ أهل الْحرم يتعيشون بِالْهَدْي والقلائد.
﴿ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَن الله بِكُل شَيْء عليم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أَي اتِّصَال لهَذَا بِمَا سبق من الْكَلَام فِي الْآيَة؟ قَالَ الْمبرد أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد: مَعْنَاهُ: أَن ألهمتهم ذَلِك الاحترام، وَأَن لَا يتَعَرَّضُوا لأهل الْحرم؛ فَكَأَنَّهُ بَين فِي الْآيَة صَنْعَة مَعَ أهل الْحرم، قَالَ: ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن كل ذَلِك بعلمي، وإلهامي إيَّاهُم.
وَقَالَ الزّجاج: [قد سبق] فِي هَذِه السُّورَة من الله - تَعَالَى - الْإِخْبَار عَن الغيوب، والكشف عَن الْأَسْرَار، مثل قَوْله: ﴿سماعون للكذب سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك﴾ وَمثل إخْبَاره بتحريفهم الْكتب، وَنَحْو ذَلِك؛ فَقَوله: ﴿ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض﴾ رَاجع إِلَيْهِ.
69
﴿فِي الأَرْض وَأَن الله بِكُل شَيْء عليم (٩٧) اعلموا أَن الله شَدِيد الْعقَاب وَأَن الله غَفُور رَحِيم (٩٨) مَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون (٩٩) قل لَا﴾
70
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿اعلموا أَن الله شَدِيد الْعقَاب وَأَن الله غَفُور رَحِيم﴾ وَفِي الْخَبَر: " لَو يعلم الْمُؤمن مَا عِنْد الله من الْعَذَاب لم يطْمع فِي جنته أحد، وَلَو يعلم الْكَافِر مَا عِنْد الله من الرَّحْمَة لم يقنط من جنته أحد ".
وَقَوله: ﴿مَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل لَا يَسْتَوِي الْخَبيث وَالطّيب﴾ قَالَ السّديّ: يَعْنِي الْكَافِر وَالْمُؤمن. وَقَالَ غَيره: الْخَبيث: الْحَرَام، وَالطّيب: الْحَلَال، وَفِي الْخَبَر: " حلوان الكاهن خَبِيث وَمهر الْبَغي خَبِيث " أَي: حرَام ﴿وَلَو أعْجبك﴾ مَعْنَاهُ: وَلَو سرك ﴿كَثْرَة الْخَبيث﴾.
﴿فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ وَفِي الْمثل: حرَام يَأْتِي جزفا (والحلال) يَأْتِي قوتا. وَعَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " دِرْهَم من الْحَلَال خير من مائَة ألف [دِرْهَم] وقر من الْحَرَام ".
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الصَّحَابَة أَكْثرُوا السُّؤَال على النَّبِي حَتَّى غضب، وَقَامَ
70
﴿يَسْتَوِي الْخَبيث وَالطّيب وَلَو أعْجبك كَثْرَة الْخَبيث فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تفلحون (١٠٠) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ وَإِن تسألوا﴾ خَطِيبًا، وَقَالَ: " إِنَّكُم لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء فِي مقَامي هَذَا إِلَّا أنبأتكم بِهِ، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، من أَبى؟ - وَكَانَ السَّائِل عبد الله بن حذافة السَّهْمِي، وَكَانَ يُقَال فِي نسبه شَيْء، فَلَمَّا قَالَ: من أَبى؟ - قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: أَبوك حذافة، فَقَامَ آخر، وَقَالَ: من أَبى؟ فنسبه إِلَى غير أَبِيه - كَأَنَّهُ كَانَ من حرَام - وَسَأَلَهُ رجل، فَقَالَ: أَيْن أكون غَدا؟ فَقَالَ: فِي النَّار، فَقَامَ آخر، وَقَالَ أَيْن أكون غَدا؟ فَقَالَ: فِي الْجنَّة؛ فبكوا، وَقَالَ عمر: اسْتُرْ علينا يَا رَسُول الله؛ فَإنَّا حَدِيث عهد بالجاهلية، وَجَثَا على رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّه رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دينا؛ وَنزلت الْآيَة ".
وروى أَبُو البخْترِي عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " (لما) نزل قَوْله: ﴿وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت﴾ قَامَ رجل، وَقَالَ: أَفِي كل عَام يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: لَا، وَلَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ، وَلم تطيقوه، ثمَّ قَالَ: ذروني مَا تركْتُم، فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ، وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ، فَمَا أَمرتكُم بِهِ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنهُ، فَانْتَهوا، وَنزلت الْآيَة ".
﴿وَإِن تسألوا عَنْهَا حِين ينزل الْقُرْآن تبد لكم﴾ مَعْنَاهُ: وَإِن صَبَرْتُمْ حَتَّى ينزل الْقُرْآن؛ وجدْتُم فِيهِ بَيَان مَا تحتاجون إِلَيْهِ ﴿عَفا الله عَنْهَا وَالله غَفُور حَلِيم﴾.
71
﴿قد سَأَلَهَا قوم من قبلكُمْ ثمَّ أَصْبحُوا بهَا كَافِرين﴾ قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ أَصْحَاب
71
﴿عَنْهَا حِين ينزل الْقُرْآن تبد لكم عَفا الله عَنْهَا وَالله غَفُور حَلِيم (١٠١) قد سَأَلَهَا قوم من قبلكُمْ ثمَّ أَصْبحُوا بهَا كَافِرين (١٠٢) مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا﴾ الْمَائِدَة، وسألوا الْمَائِدَة ثمَّ كفرُوا، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: قوم صَالح، سَأَلُوا النَّاقة، ثمَّ كفرُوا بهَا، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ الْكفَّار فِي الْجَاهِلِيَّة، سَأَلُوا رَسُول الله أَن يَجْعَل الصَّفَا ذَهَبا.
72
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا حام﴾
قَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ سُؤَالهمْ الَّذِي تقدم عَن هَذِه الأوضاع، وَهَذِه الْآيَة لبَيَان مَا سَأَلُوا ردا عَلَيْهِم، وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي بَيَان هَذِه الأوضاع الْأَرْبَعَة، قَالَ:
أما الْبحيرَة: هِيَ النَّاقة كَانَت إِذا ولدت خَمْسَة أبطن شَقوا أَنَّهَا، وتركوها وَلم يحملوا عَلَيْهَا، وَلم يمنعوها الْكلأ؛ وَبِذَلِك سميت بحيرة من الْبَحْر، وَهُوَ الشق، ثمَّ نظرُوا إِلَى خَامِس وَلَدهَا، فَإِن كَانَ ذكرا نحروه، وَأكله الرِّجَال دون النِّسَاء، وَإِن كَانَت أثنى تركوها كالأم، وَإِن كَانَ مَيتا، أكله الرِّجَال وَالنِّسَاء؛ فَهَذَا معنى الْبحيرَة.
وَأما السائبة: كَانَ الرجل من أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا مرض لَهُ مَرِيض، أَو غَابَ لَهُ قريب، يَقُول: إِن رد الله غائبي، أَو إِن شفى الله مريضي؛ فناقتي هَذِه سائبة، ثمَّ يسيبها، تذْهب حَيْثُ تشَاء، (أَو) يَقُول: إِن كَانَ كَذَا؛ فَعَبْدي عَتيق سائبة. يَعْنِي: من غير وَلَاء، وَلَا مِيرَاث؛ فَهَذَا معنى السائبة.
وَأما الوصيلة: فَكَانَت فِي الْغنم، كَانَت الشَّاة إِذا ولدت سَبْعَة أبطن، نظرُوا إِلَى الْبَطن السَّابِع، فَإِن كَانَ ذكرا ذبحوه وَأكله الرِّجَال دون النِّسَاء، وَإِن كَانَت أُنْثَى تركوها، وَإِن كَانَ مَيتا أكله الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَإِن كَانَ ذكرا وَأُنْثَى فِي بطن وَاحِد تركوهما، وَقَالُوا: وصلت أخاها، فَهَذِهِ هِيَ الوصيلة.
وَأما الحام: كَانَ بَعضهم إِذا ولدت نَاقَته عشرَة أبطن؛ تركوها وَلم يركبوها، وَقَالُوا: حمى ظهرهَا، وَكَذَلِكَ إِذا ركب ولد وَلَدهَا؛ يَقُولُونَ: حمى ظهرهَا وتركوها، وَرُبمَا تركوها لآلهتهم على مَا سَيَأْتِي فِي سُورَة الْأَنْعَام؛ فَهَذَا هُوَ الحام، وَهَذِه أوضاع وَضعهَا أهل الْجَاهِلِيَّة على آرائهم، فجَاء الشَّرْع برفعها، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ:
72
﴿حام وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ (١٠٣) وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول قَالُوا حَسبنَا مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا﴾ " رَأَيْت النَّار؛ فَرَأَيْت فِيهَا عَمْرو بن لحي يجر قَصَبَة فِي النَّار " أَي: أمعاءه، وَكَانَ أول من سيب السوائب ﴿وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ﴾
73
﴿وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول﴾ يَعْنِي: إِذا دعوا إِلَى الْكتاب وَالسّنة ﴿قَالُوا حَسبنَا مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ يَعْنِي: كفانا دين آبَائِنَا ﴿أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾.
قَوْله: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم﴾ يَعْنِي: تَخْلِيصهَا من النَّار ﴿لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُول: " عَلَيْكُم أَنفسكُم " وَقد أمرنَا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر؟ قيل: قَالَ مُجَاهِد، وَسَعِيد بن جُبَير: الْآيَة فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى، يَعْنِي: عَلَيْكُم أَنفسكُم، لَا يضركم من ضل من الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِذا اهتديم؛ فَخُذُوا مِنْهُم الْجِزْيَة، وَلَا تتعرضوا لَهُم، واتركوهم وَمَا يَزْعمُونَ؛ فَإِنَّهُ لَا يضركم.
(وَعَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -: " أَنه خطب وَقَالَ: إِنَّكُم تقرءون هَذِه الْآيَة ﴿عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم﴾ من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ)، وَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول: إِذا رَأَيْتُمْ الظَّالِم فَخُذُوا على يَدَيْهِ، أَو يُوشك أَن [يعمكم] الله (بعقاب) " وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " مروا بِالْمَعْرُوفِ، وانهوا عَن
73
﴿يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (١٠٥) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم﴾ الْمُنكر؛ فَإِن قيل مِنْكُم؛ فَذَاك وَإِن رد عَلَيْكُم أَنفسكُم "، [وَيرد] هَذَا مَا روى عَن أبي أُميَّة الشَّيْبَانِيّ أَنه قَالَ: " سَأَلت أَبَا ثَعْلَبَة الْخُشَنِي، فَقلت: إِن الله - تَعَالَى - يَقُول: ﴿عَلَيْكُم أَنفسكُم﴾ وَقد أمرنَا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، فَقَالَ: لقد سَأَلت عَنْهَا خَبِيرا، سَمِعت رَسُول الله - وَقد سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة - يَقُول: مروا بِالْمَعْرُوفِ وانهو عَن الْمُنكر؛ فَإِذا رَأَيْت شحا مُطَاعًا، وَهوى مُتبعا، وَدُنْيا مُؤثرَة، وَإِعْجَاب كل ي رَأْي بِرَأْيهِ، فَعَلَيْك بخويصة نَفسك، ودع أَمر الْعَامَّة " ﴿إِلَى الله مرجعكم ميعا فينبئكم بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ﴾.
74
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن تَمِيم الدَّارِيّ وعدي (بن بداء) ؟ خرجا إِلَى التِّجَارَة، وَكَانَا نَصْرَانِيين، ومعهما بديل مولى عَمْرو بن الْعَاصِ، وَكَانَ مُسلما؛ فَمَرض، وَكتب مَا مَعَه من الْمَتَاع فِي صحيفَة، وألقها بَين الْمَتَاع، ثمَّ أوصى إِلَى هذَيْن النصرانيين أَن يردا مَتَاعه إِلَى مَوْلَاهُ إِن مَاتَ هُوَ، وَكَانَ بَين الْمَتَاع جَام [مخوص] بِالذَّهَب منقوش بِهِ؛ فخانا فِي ذَلِك الْجَام، وأديا سَائِر الْمَتَاع إِلَى أَهله، فوجدوا تِلْكَ الصَّحِيفَة بَين الْمَتَاع؛ فطلبوا الْجَام، فافتقدوه؛ فسألوا عديا، وتميما عَن ذَلِك فأنكرا، وَقَالا: لَا نَدْرِي، وحلفا عَلَيْهِ، ثمَّ إِن ذَلِك الْجَام وجد عِنْد رجل بِالْمَدِينَةِ، فَسئلَ الرجل عَنهُ؛ فَقَالَ: إِنَّمَا أعطانيه عدي وَتَمِيم؛ فاختصموا إِلَى النَّبِي؛ فأصر على الْإِنْكَار، وحلفا عَلَيْهِ؛ فَحلف عَمْرو بن الْعَاصِ وَالْمطلب بن أبي
74
﴿إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت حِين الْوَصِيَّة اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فأصابتكم مُصِيبَة الْمَوْت تحبسونهما من بعد الصَّلَاة فيقسمان﴾ ودَاعَة على أَنَّهُمَا قد خَانا فِي الْجَام، فَأخذ الْجَام ثمَّ إِن تميما أسلم بعد ذَلِك؛ وَأقر بِتِلْكَ الْخِيَانَة " فَهَذِهِ قصَّة الْآيَة وَعَلَيْهَا نزلت الْآيَة.
فَقَوله: ﴿شَهَادَة بَيْنكُم﴾ يقْرَأ فِي الشواذ " شَهَادَة بَيْنكُم " وَقَرَأَ الْأَعْرَج " شَهَادَة بَيْنكُم " بِالرَّفْع والتنوين، وَالْمَعْرُوف " شَهَادَة بَيْنكُم " ﴿إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت﴾ أَي: أَسبَاب الْمَوْت ﴿حِين الْوَصِيَّة اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم﴾ ذكر اثْنَان على الرّفْع؛ لِأَنَّهُ خبر الِابْتِدَاء، وَمعنى هَذَا الْكَلَام: أَن الشَّهَادَة فِيمَا بَيْنكُم على الْوَصِيَّة عِنْد الْمَوْت: اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم.
﴿أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ﴾ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول شُرَيْح، وَالنَّخَعِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَجَمَاعَة -: أَن مَعْنَاهُ من غير أهل ملتكم، يَعْنِي: من أهل الذِّمَّة، وَقَالَ الْحسن، وَالزهْرِيّ: مَعْنَاهُ: من غير قبيلتكم.
﴿إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض﴾ أَي: سافرتم ﴿فأصابتكم مُصِيبَة الْمَوْت تحبسونهما من بعد الصَّلَاة﴾ أَكثر الْعلمَاء على أَنه أَرَادَ بِهِ: صَلَاة الْعَصْر، (وَقَالَ الْحسن: بعد صَلَاة الظّهْر، وَالْأول أصح؛ وَإِنَّمَا خص بِهِ صَلَاة الْعَصْر؛ لِأَن وَقت الْعَصْر) مُعظم مُحْتَرم عِنْد (جَمِيع) أهل الْأَدْيَان، وَكَأن النَّاس بعد الْعَصْر يكون أجمع فِي الْأَسْوَاق والمساجد. وَالْمرَاد بِهِ: حبس الحالفين بعد الْعَصْر.
75
﴿بِاللَّه إِن ارتبتم لَا نشتري بِهِ ثمنا وَلَو كَانَ ذَا قربى وَلَا نكتم شَهَادَة الله إِنَّا إِذا لمن الآثمين (١٠٦) فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا فآخران يقومان مقامهما من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان فيقسمان بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَمَا اعتدينا إِنَّا إِذا﴾
﴿فيقسمان بِاللَّه إِن ارتبتم﴾ يَعْنِي: إِن وَقعت لكم رِيبَة فِي قَول الحالفين أَو الشَّاهِدين يحلفان أَنا ﴿لَا نشتري بِهِ ثمنا وَلَو كَانَ ذَا قربى﴾ أَي: لَا نقُول إِلَّا الصدْق وَلَو كَانَ على الْقَرِيب ﴿وَلَا نكتم شَهَادَة الله إِنَّا إِذا لمن الآثمين﴾ وَإِنَّمَا قَالَ: شَهَادَة الله؛ لِأَن الشَّهَادَة تكون بِأَمْر الله
76
﴿فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا﴾ يَعْنِي: فَإِن اطلع، وَأظْهر خيانتهما ﴿فآخران يقومان مقامهما من الَّذين لستحق عَلَيْهِم الأوليان﴾ يقْرَأ هَذَا على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: " من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان ". وَقَرَأَ (حَفْص عَن عَاصِم) " من الَّذين اسْتحق " بِنصب التَّاء والحاء ﴿عَلَيْهِم الأوليان﴾ وَقَرَأَ أَبُو بكر عَن عَاصِم، وَحَمْزَة: " من الَّذين اسْتحق " - بِضَم التَّاء وَكسر الْحَاء - عَلَيْهِم الْأَوَّلين.
فَأَما معنى الْقِرَاءَة الأولى فَقَوله: ﴿اسْتحق عَلَيْهِم﴾ يَعْنِي: اسْتحق فيهم، أَو اسْتحق مِنْهُم كَقَوْلِه: ﴿ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل﴾ أَي: على جُذُوع النّخل، يَعْنِي: الَّذين وَقعت الْخِيَانَة فِي حَقهم، وهم أَوْلِيَاء الْمَيِّت، و ﴿الأوليان﴾ تَثْنِيَة: الأولى، وَالْأولَى: هُوَ الْأَقْرَب، وَمَعْنَاهُ: إِن عثر على خِيَانَة الحالفين؛ يقوم الأوليان من أَوْلِيَاء الْمَيِّت؛ فيحلفان، وَأما قَوْله: ﴿من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم﴾ أَي حق وَوَجَب فيهم، وَمَعْنَاهُ وَمعنى الْقِرَاءَة الأولى سَوَاء.
وَأما الْقِرَاءَة الثَّالِثَة: ﴿من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الْأَوَّلين﴾ فَهُوَ بدل عَن قَوْله: ﴿من الَّذين﴾ أَو عَن الِاسْم الْمُضمر تَحت قَوْله: ﴿عَلَيْهِم﴾ ؛ فَيكون المُرَاد بِهِ أَيْضا أَوْلِيَاء الْمَيِّت وَيكون الْمَعْنى مَا بَينا.
76
﴿لمن الظَّالِمين (١٠٧) ذَلِك أدنى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم وَاتَّقوا الله واسمعوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (١٠٨) يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم قَالُوا لَا علم لنا إِنَّك أَنْت علام الغيوب (١٠٩) إِذْ قَالَ الله يَا﴾
ثمَّ بَين كَيْفيَّة قسهما؛ فَقَالَ: ﴿فيقسمان بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَمَا اعتدينا إِنَّا إِذا لمن الظَّالِمين﴾
77
﴿ذَلِك أدنى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا﴾ يَعْنِي: ذَلِك أقرب وَأَحْرَى أَن تُؤَدُّوا الشَّهَادَة على وَجههَا ﴿أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم﴾ يَعْنِي: وَإِن يخَافُوا رد الْيَمين بعد يمينهم على المدعين؛ فَلَا يحلفوا على الْكَذِب؛ خوفًا من أَن يرد الْيَمين عَلَيْهِم، وَيكون يمينهم أولى.
﴿وَاتَّقوا الله واسمعوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين﴾ قَالَ النَّخعِيّ، وَشُرَيْح: الْآيَة مَنْسُوخَة، وَقَوله: ﴿أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ﴾ لقد كَانَت شَهَادَة أهل الذِّمَّة مَقْبُولَة على الْوَصِيَّة ثمَّ نسخ، وَقد جوز بَعضهم شَهَادَة أهل الذِّمَّة فِي الْوَصِيَّة؛ خَاصَّة من لَا يرى نسخ الْآيَة مِنْهُم، وَقَالَ الْحسن: الْآيَة محكمَة، وَقد حمل قَوْله: " أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ " على غير قبيلتكم كَمَا بَينا.
قَوْله: ﴿يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم قَالُوا لَا علم لنا﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُولُونَ: لَا علم لنا، وَقد علمُوا مَا أجابوا؟ قيل: إِن جَهَنَّم تزفر زفرَة تذهل (بهَا) عُقُولهمْ؛ فَيَقُولُونَ من شدَّة الْفَزع: لَا علم لنا؛ ثمَّ يرد الله - تَعَالَى - عَلَيْهِم عُقُولهمْ، فيخبرون بِالْجَوَابِ، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا علم لنا إِلَّا الْعلم الَّذِي أَنْت أعلم بِهِ منا، أَو إِلَّا مَا علمتنا، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا علم لنا بِوَجْه الْحِكْمَة فِي سؤالك إيانا عَن أَمر أَنْت أعلم بِهِ منا، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا علم بعاقبة أَمرهم، وَبِمَا أَحْدَثُوا من بعد، وَأَن أَمرهم على مَاذَا ختم، وعَلى هَذَا دلّ شَيْئَانِ: أَحدهمَا: من الْآيَة قَوْله ﴿إِنَّك أَنْت علام الغيوب﴾، وَالثَّانِي: مَا روى صَحِيحا عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " يسْلك بطَائفَة من أَصْحَابِي ذَات الشمَال - يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة - فَأَقُول: يَا رب، أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيَقُول الله - تبَارك وَتَعَالَى -: إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك، إِنَّهُم لم يزَالُوا مرتدين على أَعْقَابهم مُنْذُ فَارَقْتهمْ. فَأَقُول مَا قَالَ العَبْد الصَّالح: {وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت
77
﴿عِيسَى ابْن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك إِذْ أيدتك بِروح الْقُدس تكلم النَّاس فِي المهد وكهلا وَإِذ علمتك الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة وَالْإِنْجِيل وَإِذ تخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير بإذني فتنفخ فِيهَا فَتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وَإِذ تخرج الْمَوْتَى بإذني وَإِذ كَفَفْت بني إِسْرَائِيل عَنْك إِذْ جئتهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذين كفرُوا مِنْهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (١١٠) وَإِذ أوحيت إِلَى الحواريين أَن آمنُوا بِي﴾ فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد) ".
78
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك﴾ أمره بشكر النِّعْمَة، ثمَّ عد عَلَيْهِ نعْمَة؛ فَقَالَ: ﴿إِذْ أيدتك بِروح الْقُدس تكلم النَّاس فِي المهد وكهلا وَإِذ علمتك الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة وَالْإِنْجِيل﴾ وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ.
﴿وَإِذ تخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير بإذني فتنفخ فِيهَا فَتكون طيرا بإذني﴾ وَقد بَينا فِيمَا سبق كيفيته. ﴿وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وَإِذ تخرج الْمَوْتَى بإذني وَإِذ كَفَفْت بني إِسْرَائِيل عَنْك إِذْ جئتهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذين كفرُوا مِنْهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذ أوحيت إِلَى الحواريين أَن آمنُوا بِي وبرسولي﴾ هَذَا الْوَحْي بِمَعْنى الإلهام، أَو بِمَعْنى الْأَمر، أَي: ألهمتهم وأمرتهم، قَالَ العجاج:
(الْحَمد لله الَّذِي اسْتَقَلت بِهِ السَّمَاء فاطمأنت
(أوحى) لَهَا الْقَرار فاستقرت)
أَي: أمرهَا بالقرار.
﴿قَالُوا آمنا واشهد بأننا مُسلمُونَ﴾ وَقد ذكرنَا معنى الحواريين.
78
﴿وبرسولي قَالُوا آمنا واشهد بأننا مُسلمُونَ (١١١) إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء قَالَ اتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين (١١٢) ﴾
79
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل تَسْتَطِيع رَبك﴾ وَقَرَأَ الْكسَائي: " هَل يَسْتَطِيع " - بِالتَّاءِ - " رَبك " بِفَتْح الْبَاء، وَهَذِه قِرَاءَة عَليّ، ومعاذ وَعَائِشَة، وَكَانَت عَائِشَة تحلف أَن الحواريين أعرف بِاللَّه من أَن يَقُولُوا: هَل يَسْتَطِيع رَبك.
ولقراءتهم مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ هَل تسْأَل رَبك، وَالثَّانِي: هَل تستدعي طَاعَة رَبك بإجابته سؤالك إِيَّاه؟ وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فَفِي مَعْنَاهَا أَقْوَال:
أَحدهَا مَعْنَاهُ: هَل يفعل رَبك. وَقَالَ الْفراء: يَقُول الرجل لغيره: هَل تَسْتَطِيع أَن تفعل كَذَا، يُرِيد بِهِ: هَل تفعل كَذَا؟.
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: هَل يُطِيع رَبك اسْتَطَاعَ بِمَعْنى أطَاع، كَقَوْلِهِم: اسْتَجَابَ، يَعْنِي: أجَاب، فَيكون مَعْنَاهُ: هَل يطيعك رَبك؛ بإجابة سؤالك، وَفِي الْآثَار: " من أطَاع الله أطاعه الله " أَي: يُجيب دعاءه.
وَقيل: إِن الحواريين قَالُوا ذَلِك قبل استحكام الْمعرفَة، وَأَرَادَ بِهِ: الْقُدْرَة، وَلَو استحكمت معرفتهم لم يَقُولُوا ذَلِك، وَالصَّحِيح أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين، وَهَذَا لِأَن الِاسْتِطَاعَة لَا تنْسب إِلَى الله غَالِبا؛ وَإِنَّمَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ، وَأما الِاسْتِطَاعَة تكون للْعَبد.
وَقَوله: ﴿أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء﴾ اعْلَم أَن الْمَائِدَة: اسْم لما يكون عَلَيْهِ طَعَام؛ فَإِذا لم يكن عَلَيْهِ طَعَام لَا يُسمى مائدة، وَاخْتلفُوا فِي اشتقاق الْمَائِدَة: مِنْهُم من قَالَ: هِيَ من الميد، بِمَعْنى الْإِعْطَاء، وَمِنْه: قَالُوا لأمير الْمُؤمنِينَ: الممتاد، يَعْنِي: الَّذِي يطْلب عطاؤه؛ فعلى هَذَا سميت مائدة؛ لِأَنَّهَا تُعْطِي من عَلَيْهَا الطَّعَام.
وَقيل: هُوَ من [الميد] بِمَعْنى الْحَرَكَة؛ فعلى هَذَا سميت مائدة؛ لِأَنَّهَا تتحرك بِمَا
79
﴿قَالُوا نُرِيد أَن نَأْكُل مِنْهَا وتطمئن قُلُوبنَا ونعلم أَن قد صدقتنا ونكون عَلَيْهَا من الشَّاهِدين (١١٣) قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم اللَّهُمَّ رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وَآيَة مِنْك وارزقنا وَأَنت خير الرازقين (١١٤) قَالَ الله إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم فَمن يكفر بعد مِنْكُم فَإِنِّي أعذبه عذَابا لَا أعذبه أحدا من الْعَالمين (١١٥) وَإِذ قَالَ الله يَا﴾ عَلَيْهَا من الطَّعَام.
﴿قَالَ اتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾ نَهَاهُم عَن اقتراح الْآيَات بعد الْإِيمَان، وَقيل: أَرَادَ بِهِ أَي: اكتفوا بِطَعَام الأَرْض عَن طَعَام السَّمَاء.
80
قَوْله - تَعَالَى: ﴿قَالُوا نُرِيد أَن نَأْكُل مِنْهَا﴾ يَعْنِي: أكل تبرك لَا أكل حَاجَة ﴿وتطمئن قُلُوبنَا﴾ أَي: يزْدَاد إيمَانهَا، وَهُوَ مثل قَوْله: ( ﴿وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي﴾ ونعلم أَن قد صدقتنا) أَي: نزداد إِيمَانًا بصدقك، وَفِي بعض التفاسير: أَن عِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - كَانَ قد أَمرهم أَن يَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لما سَأَلُوهُ أَن يسْأَل الْمَائِدَة، قَالَ لَهُم: صُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ فَإِذا أفطرتم لَا تسْأَلُون الله شَيْئا إِلَّا أَعْطَاكُم، فَفَعَلُوا ذَلِك، فَلَمَّا أعْطوا الْمَائِدَة، عرفُوا صدقه؛ فَذَلِك معنى قَوْله: ﴿ونعلم أَن قد صدقتنا ونكون عَلَيْهَا من الشَّاهِدين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم اللَّهُمَّ رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا﴾ قيل: إِنَّه لما أَرَادَ سُؤال الْمَائِدَة اغْتسل، وَصلى رَكْعَتَيْنِ، فطأطأ رَأسه، وغض بَصَره، وَبكى، ثمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا " والعيد: المُرَاد بِهِ: يَوْم السرُور لَهُم ﴿وَآيَة مِنْك وارزقنا وَأَنت خير الرازقين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ الله إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم فَمن يكفر بعد مِنْكُم فَإِنِّي أعذبه عذَابا لَا أعذبه أحدا من الْعَالمين﴾ أَي: جنس عَذَاب لم أعذب بِهِ أحدا، وَقيل: إِن ذَلِك الْعَذَاب (أَنه) مسخهم خنازير على مَا سنبين فِي الْقِصَّة.
ثمَّ اخْتلفُوا، قَالَ الْحسن، وَمُجاهد: إِن الْمَائِدَة لم تنزل أصلا، فَإِن الله - تَعَالَى -
80
لما أوعد على كفرهم بعد نزُول الْمَائِدَة؛ خَافُوا أَن يكفر بَعضهم؛ فاستعفوا عَن إِنْزَال الْمَائِدَة؛ فعلى هَذَا تَقْدِير قَوْله: ﴿إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي: إِن سَأَلْتُم، إِلَّا أَنهم استعفوا فَلم ينزل، وَالصَّحِيح - وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ - أَنَّهَا منزلَة؛ لِأَن الله تَعَالَى لَا يعد شَيْئا ثمَّ يخلف، وَقد قَالَ: ﴿إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم﴾.
والقصة فِي ذَلِك: أَن عِيسَى لما سَأَلَ الْمَائِدَة؛ نزلت من السَّمَاء سفرة حَمْرَاء بَين غمامتين كَانُوا يرونها، بسطت بَين أَيْديهم، وَكَانَت مغطاة، فَقَامَ عِيسَى إِلَيْهَا، وَرفع عَنْهَا الغطاء، فَإِذا عَلَيْهَا سَبْعَة أرغفة، وَسَبْعَة أحوات، وَفِي رِوَايَة: كَانَ عَلَيْهَا خَمْسَة أرغفة، وسمكة مشوية لَيْسَ فِيهَا فلوس وَلَا شوك كَمَا يكون فِي سمك الأَرْض، وَكَانَ حولهَا من كل بقل إِلَّا الكرات، وَكَانَ عِنْد رَأسهَا الْملح وَعند ذنبها الْخلّ، وَكَانَ عَلَيْهَا خمس رمانات وتميرات، وَقيل: كَانَت الأرغفة من خبز الْأرز، وَقَالَ عَطِيَّة: كَانَت عَلَيْهَا سَمَكَة لَهَا طعم جَمِيع الأَرْض، وَقيل: كَانَ عَلَيْهَا ثَمَر من ثمار الْجنَّة. وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن عِيسَى سُئِلَ: أَهَذا من طَعَام الْجنَّة؟ فَقَالَ: لَا من طَعَام الْجنَّة، وَلَا من طَعَام الأَرْض، إِنَّمَا هُوَ طَعَام خلقه الله - تَعَالَى - لكم. وَفِي الْقِصَّة: أَن هَذَا الْمَائِدَة لما نزلت؛ دَعَا عِيسَى لَهَا الْفُقَرَاء، والزمني، وَالْمَسَاكِين، حَتَّى يَأْكُلُوا، وَكَانَت تنزل عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ يَوْمًا، يَأْكُل مِنْهَا كل يَوْم أَرْبَعَة آلَاف، أَو خَمْسَة آلَاف نفر، فَكَانُوا يَأْكُلُون، وَلَا ينقص مِنْهَا شَيْء، ثمَّ تصعد، ثمَّ تنزل، هَكَذَا كل يَوْم حَتَّى خانوا فِيهَا، فمسخوا قردة وَخَنَازِير، وَرفعت الْمَائِدَة. ثمَّ اخْتلفُوا فِي تِلْكَ الْخِيَانَة، فروى عمار بن يَاسر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أنزلت عَلَيْهِم الْمَائِدَة، وَعَلَيْهَا الْخبز وَاللَّحم، وَأمرُوا أَن لَا يدخروا مِنْهَا للغد، فادخروا وخانوا؛ فَأَصْبحُوا قردة وَخَنَازِير " وَفِي رِوَايَة: " أَصْبحُوا خنازير ". وَقيل: كَانَت خيانتهم أَن الْيَهُود قَالُوا لَهُم: إِن عِيسَى سحركم بالمائدة، وَلم يكن ثمَّ مائدة؛ فشكوا فِيهِ؛ فمسخوا خنازير، وَقيل: كَانَت خيانتهم أَن فِي الِابْتِدَاء كَانَ يَأْكُل مِنْهَا الْأَغْنِيَاء والفقراء؛ فَأَمرهمْ الله - تَعَالَى - أَن يَدْعُو لَهَا الْفُقَرَاء دون
81
﴿عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم﴾ الْأَغْنِيَاء؛ ابْتَلَاهُم؛ فَأكل الْأَغْنِيَاء وخالفوا، فَأَصْبحُوا خنازير.
82
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم﴾ اخْتلفُوا فِي أَن هَذَا القَوْل مَتى يكون؟ قَالَ السّديّ: إِنَّمَا قَالَ الله - تَعَالَى - ذَلِك حِين رَفعه إِلَى السَّمَاء؛ لِأَن قَوْله: " إِذْ للماضي، وَالصَّحِيح أَنه يكون فِي الْقِيَامَة، وَالْقِيَامَة وَإِن لم تكن بعد، وَلكنهَا فِي علم الله، فَلَمَّا كَانَت كائنة لَا محَالة فَهِيَ كالكائنة؛ فصح قَوْله: ﴿وَإِذ قَالَ الله﴾ وَقيل: إِذا بِمَعْنى إِذْ وَيجوز مثل ذَلِك قَالَ الشَّاعِر:
(لم يجزه بِهِ الْإِلَه إِذْ جزا... جنَّات عدن فِي السَّمَوَات الْعلَا)
يَعْنِي: إِذا جزى ﴿أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله﴾ قيل: هَذَا سُؤال توبيخ وَالْمرَاد بِهِ: قومه، وَكَانَت الْحِكْمَة فِي سُؤَاله عَنهُ؛ حَتَّى يسمع قومه إِنْكَاره؛ لأَنهم كَانُوا يدعونَ أَن عِيسَى أَمرهم (باتخاذه إِلَهًا) ؛ فَإِن قَالَ قَائِل: هم لم يتخذوا أمه إِلَيْهَا؛ فَمَا معنى قَوْله: ﴿اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله﴾ ؟ قيل: إِنَّه - جلّ وَعز - لما أَرَادَ ذكر عِيسَى مَعَ أمه، قَالَ: إِلَهَيْنِ، وَهَذَا كَمَا يُقَال عِنْد ذكر أبي بكر وَعمر مَعًا: عمرَان، وَقَالُوا: هَذَا سنة عمرين، وَيُقَال للشمس وَالْقَمَر: قمران، قَالَ الفرزدق:
(لنا قمراها والنجوم طوالع... )
يَعْنِي: الشَّمْس وَالْقَمَر، وَقيل: إِن عِيسَى كَانَ بَعْضًا لِمَرْيَم، فَلَمَّا اتخذوه إِلَهًا؛ فكأنهم اتَّخذُوا أمه إِلَهًا؛ فَقَالَ: ﴿إِلَهَيْنِ من دون الله﴾ ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته﴾ اشْتغل أَولا بالثناء عَلَيْهِ والتنزيه، وَنسبه إِلَى الْقُدس وَالطَّهَارَة ﴿تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك﴾ قَالَ
82
﴿مَا فِي نَفسك إِنَّك أَنْت علام الغيوب (١١٦) مَا قلت لَهُم إِلَّا مَا أَمرتنِي بِهِ أَن اعبدوا الله رَبِّي وربكم وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد (١١٧) إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت﴾ الزّجاج: نفس النَّبِي: جملَته وَحَقِيقَته، فَمَعْنَاه: تعلم حَقِيقَة أَمْرِي، وَلَا أعلم حَقِيقَة أَمرك، وَقيل: مَعْنَاهُ: تعلم مَا فِي غيبي وَلَا أعلم مَا فِي غيبك، وَعَلِيهِ دلّ قَوْله: ﴿إِنَّك أَنْت علام الغيوب﴾ وَهُوَ معنى الأول،
83
﴿مَا قلت لَهُم إِلَّا مَا أَمرتنِي بِهِ أَن اعبدوا الله بِي وربكم وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني﴾ أَي: رفعتني ﴿كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم﴾ وَقد بَينا معنى التوفي فِيمَا سبق ﴿وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ طلب الْمَغْفِرَة لَهُم، وهم كفار؟ ﴿وَكَيف قَالَ: وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم، وَهَذَا لَا يَلِيق بسؤال الْمَغْفِرَة؟﴾ قيل: أما الأول فَمَعْنَى قَوْله: وَإِن تغْفر لَهُم، يَعْنِي: بعد الْإِيمَان، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم على قَول السّديّ؛ لِأَن الْإِيمَان لَا ينفع فِي الْقِيَامَة، وَالصَّحِيح آخر الْقَوْلَيْنِ، قَالَ بَعضهم: هَذَا فِي فريقين مِنْهُم فَقَوله: ﴿إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك﴾ يَعْنِي: من كفر مِنْهُم ﴿وَإِن تغْفر لَهُم﴾ يَعْنِي: من آمن مِنْهُم. وَقَالَ أهل الْمعَانِي من أَرْبَاب النَّحْو: لَيْسَ هَذَا على وَجه طلب الْمَغْفِرَة، وَإِنَّمَا هَذَا على تَسْلِيم الْأَمر إِلَيْهِ، وتفويضه إِلَى مُرَاده؛ أَلا ترَاهُ يَقُول: " فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم " وَلَو كَانَ على وَجه طلب الْمَغْفِرَة لقَالَ: " فَإنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم ".
وَأما السُّؤَال الثَّانِي: اعْلَم أَن فِي مصحف ابْن مَسْعُود: " وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم " وَكَانَ ابْن شنبوذ يقْرَأ كَذَلِك زَمَانا بِبَغْدَاد؛ فَمنع عَنهُ، وَفِيه قصَّة، (وَقيل) : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير الْآيَة: إِن تغْفر لَهُم فَإِنَّهُم عِبَادك، وَإِن تُعَذبهُمْ فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم. وَقيل: مَعْنَاهُ: إِن تغْفر لَهُم لَا ينقص من (عزك)
83
﴿الْعَزِيز الْحَكِيم (١١٨) قَالَ الله هَذَا يَوْم ينفع الصَّادِقين صدقهم لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم (١١٩) لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كل شَيْء قدير (١٢٠) ﴾ شَيْء وَلَا يخرج من حكمتك. وَيدخل فِي حِكْمَة الله - تَعَالَى - وسعة رَحمته أَن يغْفر للْكفَّار، وَلكنه أخبر أَن لَا يغْفر، وَهُوَ لَا يخلف خَبره وَمن قَالَ: إِنَّه على تَسْلِيم الْأَمر لَا على وَجه طلب الْمَغْفِرَة، استقام النّظم على قَوْله، كَمَا بَينا.
84
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ الله هَذَا يَوْم ينفع الصَّادِقين صدقهم﴾ يقْرَأ: " يَوْم " بِالرَّفْع على الإبتداء، وَيقْرَأ: " يَوْم " على بِالنّصب، كَأَنَّهُ أَرَادَ فِي يَوْم؛ فَحذف فِي وَنصب يَوْم.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ينفع الصَّادِقين صدقهم بالقيامة، وَلَيْسَت بدار النَّفْع؟ قيل: مَعْنَاهُ: ينفع الصَّادِقين صدقهم فِي الدُّنْيَا لَا صدقهم فِي الْقِيَامَة، وَقيل: نفعهم بِالصّدقِ فِي الْقِيَامَة: أَنهم لَو كذبُوا؛ نطقت جوارحهم فافتضحوا، فَإِذا صدقُوا لم يفتضحوا ( ﴿لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم﴾ لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كل شَيْء قدير) وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
84
تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام
قَالَ - رَضِي الله عَنهُ -: اعْلَم أَن سُورَة الْأَنْعَام مَكِّيَّة، روى يُوسُف بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: سُورَة الْأَنْعَام نزلت جملَة بِمَكَّة لَيْلًا، مَعهَا سَبْعُونَ ألف ملك يحدونها بالتسبيح. وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي، وَفِي تَمام الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قَرَأَهَا فِي لَيْلَة اسْتغْفر لَهُ السبعون ألف ملك أُولَئِكَ ليله ونهاره إِلَى أَن يصبح "، وَفِي بعض الرِّوَايَات: " أَن تِلْكَ الْمَلَائِكَة كَانَ لَهُم زجل بالتسبيح، وَكَانَت الأَرْض ترتج، وَالنَّبِيّ يَقُول: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم حَتَّى نزلت " وَفِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَن [أبي] صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: نزلت سُورَة الْأَنْعَام جملَة بِمَكَّة إِلَّا آيَتَيْنِ: قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل تَعَالَوْا﴾ الْآيَة. وَقَوله: ﴿مَا قدرُوا الله حق قدره﴾ الْآيَة وَفِي بعض الرِّوَايَات: " إِلَّا ثَلَاث آيَات: من قَوْله: ﴿قل تَعَالَوْا﴾ إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث، وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: سُورَة الْأَنْعَام من نَجَائِب الْقُرْآن، وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من قَرَأَ سُورَة الْأَنْعَام فقد انْتهى فِي رضَا ربه.
85

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجعل الظُّلُمَات والنور ثمَّ الَّذين كفرُوا﴾
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ حُكيَ عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: هَذِه الْآيَة أول آيَة فِي التَّوْرَاة، وَآخر آيَة فِي التَّوْرَاة:
86
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(ونشهد أَنَّك عبد المليك أتيت بشرع وَدين قيم)