تفسير سورة المائدة

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة المائدة :
في السورة فصول عديدة تضمنت أحكاما وتشريعات تعبدية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ومعاشية وشخصية، مثل وجوب احترام العهود وتقاليد الحج وأمن الحجاج دون تأثر بعداء أو بغضاء، والأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان بسب ذلك، والحالات التي يحرم فيها أكل لحوم الأنعام، وحل صيد الجوارح، وحل طعام الكتابيين للمسلمين والتزوج بنسائهم وحل طعام المسلمين لهم، وأركان الوضوء والطهارة ورخصة التيمم. وتوكيد العدل شهادة وحكما دون تأثر بعداء أو بغضاء. والنهي عن تحريم الطيبات، وتشريع حد الفساد في الأرض والسرقة وتحلة اليمين، والنهي عن الخمر والميسر وذبائح القمار والأنصاب، والنهي عن صيد البر في الحج وتشريع كفارته مع تحليل صيد البحر. وتسفيه بعض العادات الجاهلية المتصلة بالأنعام. والتنويه بتقاليد الحج والكعبة ومنافعها. وتشريع الإشهاد على التركات وتحقيق صحة الشهادة.
وفيها كذلك فصول عديدة في النصارى واليهود. احتوت دعوتهم إلى الإسلام. وإيذانهم برسالة النبي إليهم. وكون القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب ومهيمنا عليها. وتنديدا بأعمال ودسائس اليهود ومكرهم. وربط حاضر أخلاقهم ومواقفهم بماضي أخلاق آبائهم ومواقفهم. وحكاية تعجيزهم لموسى في صدد دخول الأرض المقدسة. وحكاية قتل أحد ابني آدم لأخيه، وما احتوته شريعة اليهود من أحكام الجرائم. وحكمة اختلاف الشرائع عن بعضها. وتقرير كون اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين وتحذيرا منهم. ونهيا عن موالاة اليهود والنصارى الذين يعادون المسلمين ويسخرون من دينهم. ووجوب حصر الولاء فيما بين المسلمين. وتنديدا بعقيدة النصارى بالمسيح وأمه، وتقريرا ببطلانها لذاتها وعلى لسان السيد المسيح. ومشهدا من مشاهد إيمان بعض النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثناء محببا عليهم، وتقرير كون النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين. وفضلا عن رسالة المسيح لبني إسرائيل والمعجزات التي جاء بها ومواقفهم تجاهها. وإيمان الحواريين به واستنزال مائدة من السماء بناء على طلبهم، وقد سميت السورة باسمها بسبب ذلك.
وقد تخلل هذه الفصول وتلك أمثال ومواعظ استطرادية وتذكيرية وتدعيمية وتعقيبية أيضا.
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت :( إني لآخذة بزمام العضباء : ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة ) وحديثا أخرجه ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها :( أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها ) وحديثا أخرجه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال :( أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها ) وأورد حديثا أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو أيضا قال :( آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ) ( ١ )١وحديثا أخرجه الحاكم عن جبير بن نفير قال :( حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه ). ولم ينفرد ابن كثير في إيراد هذه الأحاديث ؛ حيث أوردها مفسرون آخرون أقدم منه، مثل الطبري والبغوي والزمخشري، منهم من أوردها جميعها، ومنهم من أورد بعضها. ومنهم من زاد عليها ؛ حيث روى الطبري عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال :( نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة ). وفي تفسير القاسمي حديث عن محمد بن كعب قال :( نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة ).
وهذه الأحاديث تثير العجب، فالسورة تحتوي فصولا متعددة ومتنوعة، وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة، وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل : فصول اليهود التي يمكن القول بقوة : إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة، وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب أي قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم : إننا نخاف دائرة تدور علينا. وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال، وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنى وجدوا، وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام ؛ لأنهم نجس ؛ حيث أمر فصل من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود، ونهى عن صد حجاج بيت الله عن الذهاب إلى مكة للحج انتقاما من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام. بل إن دلالات هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية.
وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول : إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن، ونقول : إن فصولها ألفت تأليفا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول. وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد. ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب الخمسة.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيبها بعد سورة الفتح، وتروي هذا رواية أخرى. في حين أن هناك روايات ترتيب تجعلها بعد عدة سور بعد سورة الفتح ( ١ )٢. وقد جارينا المصحف الذي اعتمدناه، والمتبادر أن رواية ترتيبها بعد سورة الفتح هي سبب مطلع السورة الذي نرجح أنه نزل بعد صلح الحديبية بوقت قصير. والله تعالى أعلم.
١ أورد ابن كثير حديثا عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت: ﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾ فالمتبادر أن المقصود من الفتح في حديث الترمذي هو هذه السورة..
٢ انظر روايات ترتيب السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩..

( ١ ) العقود : قيل : إنها العهود والمواثيق. وقيل : إنها التكاليف التي فرضها الله ؛ لأنها بمثابة عهد وميثاق. وقيل : إنها عقود المحالفات الجاهلية. وقيل : إن الفرق بين العقد والعهد هو أن الأول أوثق، ولا يكون إلا بين طرفين أو أكثر، في حين أن الثاني يمكن أن يكون من طرف واحد.
( ٢ ) غير محلي الصيد : غير محللين للصيد.
( ٣ ) وأنتم حرم : وأنتم محرمون للحج أو العمرة. أو أنتم في داخل حدود الحرم، أو أنتم في ظرف الأشهر الحرم على اختلاف الأقوال. والجملة تتحمل كلا منها.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( ١ ) أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ( ٢ ) وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( ٣ ) إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( ١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ ( ٤ ) وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ ( ٥ ) وَلاَ الْقَلآئِدَ ( ٦ ) وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ( ٧ ) يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ( ٨ ) شَنَآنُ ( ٩ ) قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٢ ) ﴾ ( ١ - ٢ ).
في الآية الأولى :
( ١ ) أمر للمسلمين بالوفاء بالعقود.
( ٢ ) وإيذانهم أن الله قد أحل لهم بهيمة الأنعام باستثناء ما حرم من حالاتها في القرآن الذي يتلى عليهم، وعلى أن لا يحللوا بناء على ذلك الصيد وهم في حالة الحرم.
( ٣ ) وإباحة الصيد لهم بعد أن يتحللوا من حالة الإحرام.
وقد انتهت الآية بالتنبيه على أن الله تعالى يحكم بما يريد تنبيها ينطوي فيه إيجاب الوقوف عند حكم الله وإرادته.
سورة المائدة :
في السورة فصول عديدة تضمنت أحكاما وتشريعات تعبدية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ومعاشية وشخصية، مثل وجوب احترام العهود وتقاليد الحج وأمن الحجاج دون تأثر بعداء أو بغضاء، والأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان بسب ذلك، والحالات التي يحرم فيها أكل لحوم الأنعام، وحل صيد الجوارح، وحل طعام الكتابيين للمسلمين والتزوج بنسائهم وحل طعام المسلمين لهم، وأركان الوضوء والطهارة ورخصة التيمم. وتوكيد العدل شهادة وحكما دون تأثر بعداء أو بغضاء. والنهي عن تحريم الطيبات، وتشريع حد الفساد في الأرض والسرقة وتحلة اليمين، والنهي عن الخمر والميسر وذبائح القمار والأنصاب، والنهي عن صيد البر في الحج وتشريع كفارته مع تحليل صيد البحر. وتسفيه بعض العادات الجاهلية المتصلة بالأنعام. والتنويه بتقاليد الحج والكعبة ومنافعها. وتشريع الإشهاد على التركات وتحقيق صحة الشهادة.
وفيها كذلك فصول عديدة في النصارى واليهود. احتوت دعوتهم إلى الإسلام. وإيذانهم برسالة النبي إليهم. وكون القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب ومهيمنا عليها. وتنديدا بأعمال ودسائس اليهود ومكرهم. وربط حاضر أخلاقهم ومواقفهم بماضي أخلاق آبائهم ومواقفهم. وحكاية تعجيزهم لموسى في صدد دخول الأرض المقدسة. وحكاية قتل أحد ابني آدم لأخيه، وما احتوته شريعة اليهود من أحكام الجرائم. وحكمة اختلاف الشرائع عن بعضها. وتقرير كون اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين وتحذيرا منهم. ونهيا عن موالاة اليهود والنصارى الذين يعادون المسلمين ويسخرون من دينهم. ووجوب حصر الولاء فيما بين المسلمين. وتنديدا بعقيدة النصارى بالمسيح وأمه، وتقريرا ببطلانها لذاتها وعلى لسان السيد المسيح. ومشهدا من مشاهد إيمان بعض النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثناء محببا عليهم، وتقرير كون النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين. وفضلا عن رسالة المسيح لبني إسرائيل والمعجزات التي جاء بها ومواقفهم تجاهها. وإيمان الحواريين به واستنزال مائدة من السماء بناء على طلبهم، وقد سميت السورة باسمها بسبب ذلك.
وقد تخلل هذه الفصول وتلك أمثال ومواعظ استطرادية وتذكيرية وتدعيمية وتعقيبية أيضا.
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت :( إني لآخذة بزمام العضباء : ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة ) وحديثا أخرجه ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها :( أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها ) وحديثا أخرجه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال :( أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها ) وأورد حديثا أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو أيضا قال :( آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ) ( ١ )١وحديثا أخرجه الحاكم عن جبير بن نفير قال :( حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه ). ولم ينفرد ابن كثير في إيراد هذه الأحاديث ؛ حيث أوردها مفسرون آخرون أقدم منه، مثل الطبري والبغوي والزمخشري، منهم من أوردها جميعها، ومنهم من أورد بعضها. ومنهم من زاد عليها ؛ حيث روى الطبري عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال :( نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة ). وفي تفسير القاسمي حديث عن محمد بن كعب قال :( نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة ).
وهذه الأحاديث تثير العجب، فالسورة تحتوي فصولا متعددة ومتنوعة، وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة، وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل : فصول اليهود التي يمكن القول بقوة : إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة، وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب أي قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم : إننا نخاف دائرة تدور علينا. وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال، وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنى وجدوا، وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام ؛ لأنهم نجس ؛ حيث أمر فصل من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود، ونهى عن صد حجاج بيت الله عن الذهاب إلى مكة للحج انتقاما من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام. بل إن دلالات هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية.
وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول : إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن، ونقول : إن فصولها ألفت تأليفا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول. وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد. ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب الخمسة.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيبها بعد سورة الفتح، وتروي هذا رواية أخرى. في حين أن هناك روايات ترتيب تجعلها بعد عدة سور بعد سورة الفتح ( ١ )٢. وقد جارينا المصحف الذي اعتمدناه، والمتبادر أن رواية ترتيبها بعد سورة الفتح هي سبب مطلع السورة الذي نرجح أنه نزل بعد صلح الحديبية بوقت قصير. والله تعالى أعلم.
١ أورد ابن كثير حديثا عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت: ﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾ فالمتبادر أن المقصود من الفتح في حديث الترمذي هو هذه السورة..
٢ انظر روايات ترتيب السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩..
( ٤ ) شعائر الله : مناسك الله أو الأنعام التي تشعر أو تجرح نذرا لتقربها عند الكعبة لله، وكانت تسمى شعيرة، وجمعها : شعائر على ما شرحناه في سورة الحج.
( ٥ ) الهدي : بهيمة الأنعام التي تنذر للقربان عند الكعبة على اعتبارها هدية لله تعالى.
( ٦ ) القلائد : كناية عن بهيمة الأنعام التي يوضع في عنقها قلادة من جلد أو لحاء الشجر للإشارة إلى أنها منذورة للقربان لله. وقيل : إن الحجاج في الجاهلية كانوا يضعون في أعناقهم قلائد من جلد أو لحاء الشجر، فيأمنون بذلك من تعرض أحد لهم بسوء. وإن الكلمة تعني ذلك أيضا.
( ٧ ) آمّين البيت الحرام : الذين يقصدون البيت الحرام للحج.
( ٨ ) لا يجرمنكم : لا يحملنكم أو لا يدفعنكم.
( ٩ ) شنآن : عداء وبغضاء.
وفي الآية الثانية :
( ١ ) نهي للمسلمين عن خرق حرمة شعائر الله والشهر الحرام والهدي والقلائد التي تنذر قرابين لله.
( ٢ ) ونهي كذلك عن العدوان على قاصدي زيارة البيت الحرام الذين يطلبون بذلك رحمة الله وفضله.
( ٣ ) وتنبيه لهم بأنهم لا يجوز أن يحملهم بغضهم لقوم وحقدهم عليهم بسبب صدهم إياهم عن المسجد الحرام على البغي والعدوان.
( ٤ ) وأمر لهم بالتعاون والتضامن فيما فيه بر وتقوى ونهي عن التعاون على الإثم والعدوان.
وانتهت الآية بأمرهم بتقوى الله وتنبيههم إلى أن الله شديد العقاب تنبيها ينطوي فيه إنذار لمن يخرق حرماته، ويتجاوز أوامره ونواهيه وأحكامه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في معنى ﴿ شعائر الله ﴾، وفي معنى ﴿ القلائد ﴾ فما رووه عن معنى الأولى أنها حدود الله ونواهيه، أو أنها مناسك الحج وحرماته عامة. أو أنها الهدي المنذور للتضحية من الأنعام المشعر أي الذي يعلم بجرح لإسالة دمه حتى يحترمه الناس ولا يعتدوا عليه. ومما رووه عن معنى الثانية أنها الهدي المنذور للتضحية من الأنعام الذي يوضع في رقابه قلائد من الخيطان أو لحاء الشجر أو ورقه لمنع الاعتداء عليه، أو أنه الحجاج الذين كانوا يضعون مثل هذه القلائد في رقابهم ليمنعوا عن أنفسهم العدوان أو أن التعبير قد شملهم. وكل هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمتين وإن كنا نرجح أنهما عنتا في الدرجة الأولى الأنعام المقلدة بالقلائد المشعرة بالدم بالإضافة إلى ما في الآيات من استحلال الهدي بصورة عامة ؛ لأن في الآية نهيا عن العدوان على الحجاج والتعاون على الإثم والعدوان وعدم إحلال الشهر الحرم. وفي الآية الأولى أمر بالوفاء بالعهود، وكل هذا يمكن أن يدخل في معنى حدود أوامر الله ونواهيه ومناسك الحج أيضا. والله تعالى أعلم.
تعليق على الآيتين الأوليين من السورة
ودلالات عباراتهما وما فيهما من أحكام وتلقين وصور
لم ير المفسرون مناسبة لنزول الآية الأولى. وقد تعددت أقوالهم في دلالات عباراتها.
فأولا : روى الطبري عن ابن عباس أن العقود التي أمرت الفقرة الأولى منها هي عقود الله التي أوجبها على المسلمين فيما أحل وحرم وفرض وبين من حدود.
وروى عن قتادة أنها عقود المحالفات في الجاهلية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : أوفوا بعقد الجاهلية، ولا تحدثوا عقدا في الإسلام. وروى لتأييد ذلك أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حلف الجاهلية فقال له : لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله. قال : نعم. قال : لا يزيده الإسلام إلا شدة. وروى عن ابن زيد أن العقود المأمور بالوفاء بها في الآية هي عقد النكاح وعقد الشركة وعقد اليمين وعقد العهد وعقد الحلف. وروى قولا لآخرين لم يسمهم أنها أمر موجه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به الله عليهم من ميثاق بالعمل بما في التوراة والإنجيل من تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وما عدا القول الأخير الذي يبدو غريبا ؛ لأن الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين، فإن الأقوال الأولى مما تتحمله العبارة القرآنية. وقد قال الطبري : إن أولى الأقوال بالصواب هو قول ابن عباس.
ولم تخرج أقوال المفسرين عن نطاق ما أورده الطبري الذي استوعب جميع الأقوال في صدد الجملة.
على أنه يتبادر لنا على ضوء الآية الثانية على ما سوف نشرحه بعد أنها في صدد الأمر باحترام عقد صلح الحديبية.
وإن كان إطلاق العبارة يجعلها شاملة لكل عقد مشروع بين الناس، ثم لكل ما صار بمثابة عقد بين الله والمسلمين بعد إذ آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما نزل عليه.
وواضح أن الجملة بذلك قد انطوت على تلقين جليل مستمر المدى بوجوب احترام المسلمين لعقودهم وعهودهم مع الله ومع الناس في كل ظرف وعدم الإخلال بها في أي حال. وهو ما تكرر تقريره بأساليب متنوعة وفي سور عديدة مكية ومدنية بحيث يصح أن يقال : إنها من أهم المبادئ القرآنية المحكمة ( ١ )١.
وقد قيدنا العقد بقيد المشروع ؛ لأن كل شرط أو قيد في أي تعاقد بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم مخالف لأوامر الله تعالى ونواهيه في القرآن وسنة رسوله باطل. وهذا أمر لا يحتمل شكا في ذاته. وقد رويت أحاديث نبوية تؤيده جاء في أحدها ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم ) ( ١ )٢وجاء في حديث آخر عن عائشة :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق ) ( ٢ )٣.
وثانيا : روى الطبري عن قتادة أن جملة ﴿ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ هي لتحليل أكل لحوم الأنعام إطلاقا، عدا ما ذكر في القرآن من حالاتها المحرمة. وهذه الحالات هي ما ذكرته الجملة التي بعدها ﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ أو ما ذكرته الآية الثالثة من السورة على اختلاف الأقوال. وروى كذلك عن ابن عمر وابن عباس أنها لتحليل أكل الأجنة التي توجد ميتة في بطون ما يذبح من الأنعام. وروى أيضا عن الربيع بن أنس ما يفيد أن عبارة ﴿ بهيمة الأنعام ﴾ تشمل بالإضافة إلى الإبل والبقر والغنم بقر الوحش والظباء وأشباهها المماثلة للأنعام، وأن الجملة تعني حل أكل هذه البهائم. وقد عقب على هذه الأقوال قائلا : إن أولاها بالصواب هو أنها في صدد تحليل الأنعام الأليفة أي الإبل والبقر والغنم كلها أجنتها وسخالها وكيارها، عدا ما ذكر في القرآن من حالاتها المحرمة. وأنكر أن تكون بقر الوحش والظباء التي تصطاد صيدا من جملتها.
وقد ذكر البغوي رواية تذكر أنها في صدد تحليل الأجنة، وأورد حديثا عن أبي سعيد بسبيل تأييد ذلك جاء فيه ( قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله ؟ قال : كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه ) ( ١ )٤. وإلى هذا روي عن قتادة والحسن أن المقصود من الجملة هو تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم، والمراد من ذلك على الأغلب ما حكي عن تقاليد العرب من تحليل وتحريم في آيات سورة البقرة ( ١٧٣ ) والأنعام ( ١١٨ و ١١٩ و١٨٣ و١٣٩ ) والنحل ( ١١٤ – ١١٦ ) والحج ( ٣٠ ) على ما شرحناه في سياقها وقد أورد البغوي إلى هذا قولا معزوا إلى الكلبي يفيد أن تعبير بهيمة الأنعام يشمل وحشها، وهي الظباء وبقر الوحوش وحمر الوحش.
وليس في كتب التفسير الأخرى زيادة على ذلك. والذي يتبادر لنا على ضوء الجملة التي بعدها وهي :﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ أن مقصد الجملة أو من مقاصدها رفع الحرج عن المسلمين في ذبح الأنعام وأكلها وهم في حالة الحرم باستثناء ما ذكر من حالاتها في القرآن ؛ لأن تحليل أكل الأنعام مطلقا قد ورد في آيات سابقة مكية ومدنية عديدة. وفي أحدها ورد ذلك بعبارة مثل العبارة التي وردت هنا وهي :﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ( ٣٠ ) ﴾ ( سورة الحج : ٣٠ ). ولا تبدو حكمة في ذكر ذلك بالمعنى الذي صرفوه إليه في هذا المقام. كما أن صرف العبارة إلى الأجنة بعدا وتكلفا. وهذا لا ينافي الخبر الذي احتواه حديث أبي سعيد، وهو أنه أو غيره سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل الأجنة الميتة. والحديث لم يرد ولم يورد في أصله لتفسير العبارة.
ويتبادر لنا من فحوى ﴿ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ أن القول المروي عن الربيع بن أنس والكلبي بشمول كلمة بهيمة الأنعام للوحش المماثل لها في محله، وأن الذي منع هو صيدها في حالة الحرم وحسب. والله أعلم.
ثالثا : لقد أول الطبري وغيره جملة :﴿ وأنتم حرم ﴾ بحالة الإحرام للحج أو العمرة. وجملة ﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ بأنها للتحذير من استحلال الصيد في الحالة المذكورة، وقد أوضح بعضهم هذه الحالة إيضاحا متسقا مع الأحكام الإسلامية أيضا. وهي تسربل الرجال بالملابس والأزر غير المخيطة قبيل دخول حدود الحرم المكي، وقبيل الوقوف في عرفات، وفي أثناء زيارة الكعبة لأول مرة والوقوف في عرفات، وامتناعهم عن الحلاقة وتقصير الشعر والتزين والتطيب ومباشرة النساء على ما شرحناه من سياق تفسير آيات البقرة ( ١٩٦ – ٢٠٣ ). وبعضهم ( ١ )٥زاد على ذلك فقال : إن حالة الحرم تعني أيضا الوجود في داخل منطقة الحرم ( ٢ )٦.
والقول الأول يعني أن الصيد يحل للمسلم حينما يتحلل من إحرامه خلال أشهر الحج ويتمتع بين العمرة والحج، ولو كان في منطقة الحرم، والقول الثاني يعني أن الصيد لا يحل قط داخل منطقة الحرم سواء أكان المسلم محرما متسربلا بثياب الإحرام أو متحللا متمتعا. وإنما يحل خارج هذه المنطقة، ولو كان ذلك خلال أشهر الحج.
وهذا وذاك مما قال به الفقهاء في سياق تقرير وبيان أحكام الحج ومناسكه استنادا إلى الآثار المروية. والقول الثاني مستلهم من حرمة القتال في منطقة المسجد الحرام المستفادة من آية البقرة ﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه......... ﴾ وتبعا لها كما هو المتبادر.
وهناك حالة ثالثة يمكن أن ينطبق عليها ( حالة الحرم ) وهي ظرف الأشهر الحرم استلهاما من الآيات التي تحرم القتال في الشهر الحرام على ما شرحناه في سياق سورة البقرة، أو تبعا لها كما هو المتبادر. والروايات القديمة تفيد أن حرمة الأشهر الحرم كانت قبل الإسلام شاملة لجميع بلاد العرب وغير قاصرة على الحرم المكي وحجاجه على ما شرحناه في سياق سورة البقرة، وأن الصيد كان محرما أثناءها سواء أكان ذلك داخل منطقة الحرم أم خارجها. وهذه الحالة تجعل الصيد محرما طيلة الأشهر الحرم، سواء أكان في منطقة الحرم أم خارجها.
ولقد روى البخاري والنسائي عن أبي قتادة :( أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال، فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم : لو سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فسألناه فقال : قد أحسنتم هل معكم منه شيء ؟ قلنا : نعم. ق
١ انظر آيات سورة البقرة (٢٧ و ٤٠ و ١٧٦) وآل عمران (٧٦) والأنعام (١٥٢) والرعد (٢٢) والنحل (٩١ و ٩٥) والإسراء (٣٤) والمؤمنون (٨) والأحزاب (٢٣) والفتح (١٠) والمعارج (٣٢)..
٢ انظر تفسير الآية في المنار. والحديث الأول من مرويات أبي داود والدارقطني والترمذي والثاني من مرويات أصحاب المساند الصحيحة الخمسة. انظر التاج ج ٢ ص ١٨٥ وورود جملة (الولاء لمن أعتق) في الحديث الثاني بسبب مناسبة الحديث، ولكن تلقين الحديث عام شامل كما هو واضح..
٣ المصدر نفسه..
٤ الذكاة: والتذكية في أصلها إتمام الاشتعال ثم صارت اصطلاحا إسلاميا يطلق على ذبح بهيمة الأنعام للأكل وذكر اسم الله عليها حين ذبحها، وهذا الحديث من مرويات أبي داود وأحمد والترمذي انظر التاج ج ٣ ص ٩٥..
٥ انظر الخازن..
٦ خصصنا الرجال بالذكر لأن السنة سمحت للنساء باللباس العادي. فقد روى أصحاب السنن حديثا عن ابن عمر قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سراويل أو قميصا أو خفا) (التاج ج ٢ ص ١٠٦) أما في صدد إحرام الرجال فقد روى الخمسة عن ابن عمر أيضا: (أن رجلا قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب. قال: لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أن لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين) (المصدر نفسه ص ١٠٥) وروى أصحاب السنن عن أبان بن عثمان قال: (سمعت أبي يقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينكح المحرم ولا يخطب) ص ١٠٨..
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ( ١ ) وَالْمُنْخَنِقَةُ ( ٢ ) وَالْمَوْقُوذَةُ ( ٣ ) وَالْمُتَرَدِّيَةُ ( ٤ ) وَالنَّطِيحَةُ ( ٥ ) وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ( ٦ ) إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( ٧ ) وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ( ٨ ) وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ( ٩ ) ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ( ١٠ ) غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ( ١١ ) فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣ ) ﴾ ( ٣ ).
( ١ ) وما أهل لغير الله به : وما ذبح باسم غير الله أو ما ذكر حين ذبحه اسم غير اسم الله.
( ٢ ) المخنقة : المخنوقة أو الميتة خنقا.
( ٣ ) الموقوذة : الميتة من الطعن والنخز والضرب.
( ٤ ) المتردية : الميتة بسبب سقوطها من محل مرتفع.
( ٥ ) النطيحة : الميتة بسبب نطح حيوان آخر لها.
( ٦ ) وما أكل السبع : الذي يأكله وحش ضار.
( ٧ ) إلا ما ذكيتم : باستثناء ما ذبحتموه ذبحا شرعيا وذكرتم اسم الله عليه قبل أن يموت من تأثير العوارض المذكورة.
( ٨ ) وما ذبح على النصب : وما ذبح عند الأوثان.
( ٩ ) وان تستقسموا بالأزلام : الأزلام : هي سهام كانوا يلقونه على سبيل المراهنة أو الاقتراع أو الاستخارة. والاستقسام : هو الاقتراع أو الاستخارة أو المراهنة. وسيأتي شرح ذلك بعد.
( ١٠ ) في مخمصة : في مجاعة.
( ١١ ) غير متجانف لإثم : غير قاصد مقارفة الإثم أو متعمد له.
في الآية :
( ١ ) بيان حالات الأنعام التي حرم الله أكلها على المسلمين. وهي التي تموت ميتة طبيعية. أو خنقا. أو سقوطا من محل مرتفع، أو نطحا. أو ضربا ووقذا، أو من نهش وحش ضار مفترس، أو التي يذكر غير اسم الله عليها حين ذبحها. أو التي تذبح عند الأوثان كقربان لها، أو التي يستقسم عليها بالأزلام. والدم ولحم الخنزير. مع استثناء أمرين في صدد محرمات الأنعام المذكورة حالاتها ( الأول ) في حالة بقاء رمق حياة في البهيمة التي تتعرض للموت خنقا أو سقوطا أو نطحا أو وقذا أو نهشا ؛ حيث يحل أكلها إذا ذبحت ذبحا شرعيا وذكر عليها اسم الله. ( والثاني ) في حالة الجوع الملجئ على شرط أن لا يتجاوز الأكل إلى أكثر من دفع الحاجة والخطر، وأن لا يكون فيه تعمد إثم ومعصية.
( ٢ ) إيذان تنويهي وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بما كان من إكمال الله لهم دينهم وإتمام نعمته عليهم وارتضاء الإسلام لهم دينا، ويأس الكفار منهم بعد ذلك. مع هتاف لهم بعدم خشيتهم من الكفار وبخشية الله تعالى وحده.
ومن المحتمل أن تكون جملة ﴿ ذلكم فسق ﴾ التي هي بمعنى العصيان والتمرد على الله خاصة بالمحرمين الأخيرين، وهما ما أهل به لغير الله والاستقسام بالأزلام، كما أن من المحتمل أن تكون شاملة لجميع المحرمات على الاعتبار نفسه، والعبارة تتحمل الاحتمالين. وقد تتحمل الاحتمال الأخير أكثر ؛ لأنها جاءت بعد ذكر جميع المحرمات. غير أن آية الأنعام ( ١٤٥ ) احتوت وصفين للنوعين ؛ حيث وصف الدم ولحم الخنزير والميتة بأنها رجس أي نجسة ووصفت ما أهل لغير الله به بأنه فسق حيث يمكن الاستئناس بهذا على أن الجملة هي خاصة بالمحرمين الأخيرين والله أعلم.
تعليق على الآية :
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ................. ﴾ الخ
وما فيها من أحكام وتلقين، وما ورد في صددها من أقوال وأحاديث وتمحيص مسألة تاريخ الإنشاء نزول :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾
وتعليق على مدى متناولها
لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية كمجموعة. وإنما رووا روايات في صدد نزول مقطع :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ أو هذا المقطع مع المقطع الذي قبله :﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ﴾ حيث روى الطبري عزوا إلى ابن عباس والسدي ومجاهد وقتادة وابن جريج أنه أو أنهما نزلا في حجة الوداع في يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقي خطبة على المسلمين ؛ حيث نظر أمامه فلم ير إلا موحدا ولم ير مشركا، فحمد الله فنزل عليه جبريل بالمقطع أو المقطعين. وأنه لم يعش بعد نزولها إلا نحو ثمانين ليلة. ومما رواه الطبري في صدد ذلك أنه لما نزلت الآية أو المقطعان. منها يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. قال له : صدقت. وروى كذلك حوارا جرى بين عمر وبين كعب الأحبار رواه الشيخان والترمذي بهذه الصيغة :( قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب لو علينا أنزلت هذه الآية :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ لاتخذنا ذلك عيدا. فقال عمر : إني أعلم أي يوم أنزلت هذه الآية. أنزلت يوم عرفة في يوم جمعة ) ( ١ )١وفي رواية الطبري زيادة غير اسم كعب، وهي قول عمر، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وننبه على أن الطبري روى حوارا مماثلا لما روي بين عمر وكعب جرى بين ابن عباس ويهودي أيضا.
ويلحظ أن الروايات مع ذكرها كلمة :﴿ اليوم ﴾ لم تذكر إلا المقطعين غير مترافقين مع ما قبلها ومع ما بعدها، مع أنهما جزء من آية سبقه آية فيها تشريعات في صدد الحالات المحرمة من الأطعمة الحيوانية ولحقه مقطع ذو صلة وثيقة بالمقاطع السابقة له، بحيث لا يفهم أية حكمة من إدماج هذا الجزء في آية يتصل أولها بآخرها اتصالا موضوعيا وثيقا لو كان نزل لحدته. وقد يقال ما دام قد ذكر ( الآية ) فيكون المراد بذلك جميع الآية، وأن اختصاص ذكر هذا الجزء في الروايات لا يعني بالضرورة نزوله منفردا عنها، وهذا وارد. ولكن يرد معه أن الموضوع الرئيسي الذي احتوته الآية متصل بالآية الأولى من السورة اتصال توضيح وتفسير عبرت عنه جملة :﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾ في هذه الآية التي قال جمهور المؤولين والمفسرين : إنها تعني ما جاء في الآية الثالثة من السورة، وهذا يجعل احتمال نزول هذه الآية مع الآيتين السابقتين لها قوي الورود. وبقية الآية بخاصة تقوي ذلك. والآيتان السابقتان وبخاصة الثانية قد نزلتا على ما رجحناه استلهاما من فحواها بعد وقت قصير من صلح الحديبية الذي بينه وبين حجة الوداع نحو أربع سنين. وهذا يحمل على التوقف في التسليم بالروايات المروية عن نزول الآية أو المقطعين يوم عرفة في حجة الوداع. ويسوغ الترجيح بأن ما جاء في الآية من أحكام عن محرمات الذبائح هو إتمام وتوضيح لجملة :﴿ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ في الآية الأولى من السورة، وبأن الآية الثالثة مع المقطعين نزلت مع الآيتين السابقتين لها، وبأن حكمة التنزيل استهدفت بالمقطعين تدعيم الأوامر والنواهي والأحكام التي احتوتها الآيات الثلاث وتثبيت قلوب المسلمين حولها وحول الدين العظيم الذي جاءت لبيان مداه. وبأن من المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا المقطعين في حجة الوداع في عرفة الذي يمكن أن يكون قد صادف يوم الجمعة، فالتبس الأمر على الرواة. وقد يتبادر لنا احتمال آخر، وهو أن تكون الآيات الثلاث نزلت أثناء زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للكعبة في السنة التالية لصلح الحديبية حسب الشروط التي تم الاتفاق عليها مع قريش ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل تنزيلها آمرة بالوفاء بالعهود، ومنبهة على ما يحسن بالمسلمين وموضحة ما هو حلال لهم وحرام عليهم من الصيد والذبائح وهاتفة بهم، فإن الله قد أكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته، وبأن الكفار قد يئسوا من إطفاء نور دينهم والتغلب عليهم، فالتبس الأمر على الرواة. وهذا التخريج أو ذاك يشمل ما رواه الشيخان والترمذي من حوار بين عمر بن الخطاب واليهودي. والله تعالى أعلم. ومما يحسن التنبيه عليه أن الآية الخامسة من السورة احتوت كلمة :﴿ اليوم ﴾ مع احتوائها أحكاما وتشريعات جديدة. ولم يرد في آية رواية أنها نزلت مع المقطعين، أو مع الآية التي فيها المقطعان، وفحوى الآية الرابعة التي قبلها يفيد أنها نزلت هي والآية الخامسة معا بسبب سؤال عن بعض الأمور أورد من بعض المسلمين نتيجة لما احتوته الآيات السابقة من أحكام واحتوت هي الأخرى أحكاما جديدة ؛ حيث يسوغ القول إن كلمة ﴿ اليوم ﴾ في الآية الثالثة والآية الخامسة معا أسلوبية.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن كلمة ﴿ اليوم ﴾ لا تعني يوما بعينه. وقال الزمخشري : إن المراد هو الزمان والحاضر وما يدانيه ويتصل به، كقولك : كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب ؛ حيث لا يراد بهذا تخصيص الأمس واليوم بمدلولهما الزمني. وهذا مما يؤيد قولنا : إن الكلمة أسلوبية.
ولقد عقب الطبري على تأويل المؤولين بأن الآية أو مقطعيها عنت إكمال فرائض الله وما للمسلمين من حاجة من أمر دينهم بعدها قائلا :( إنه لا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قبض، بل كان قبل وفاته أكثر تتابعا. ويكون بذلك معنى :﴿ أكملت لكم دينكم ﴾ والحالة هذه خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله بكمال العبادات والأحكام والفرائض ). وهذا تعقيب سديد، ولو أن المستفاد من كلام الطبري أنه فهم من حديث الشيخين والترمذي عن الحوار أن الآية أو المقطعين نزلا يوم عرفة في حجة الوداع. وقد تابعه معظم المفسرين ؛ لأنهم جروا على أن يكون ما ثبت عندهم من الأحاديث الصحابية أيضا هو الأولى بالتسليم في تفسير وتأويل القرآن. وهو ما نراه غير متسق مع ما تلهمه الآيات فحوى ومقاما مع ما شرحناه، ونرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله.
ولقد روى المفسرون عن ابن عباس وغيره في تأويل جملة :﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ ﴾ أقوالا. منها أنها بمعنى أنهم يئسوا من رجوع المسلمين إلى دين الآباء القديم. ومنها أنهم يئسوا من قهر المسلمين والتغلب عليهم. ومنها أنهم لم يبق فيهم أي قوة يخشاها المسلمون منهم على دينهم. وكل هذا وارد.
والمقطعان في حد ذاتهما قويان رائعان في تنويههما وهتافهما ومداهما.
ولعلهما من أروع المقاطع القرآنية في بابهما. ولعل هذه الروعة والمدى هما اللذان جعلا المؤولين ينظرون إليهما نظرة خاصة مستقلة. وإن لمن شأنهما من دون ريب أن يبعثا كل الطمأنينة والرخاء والغبطة والفرح والاعتزاز في المسلمين في أي ظرف ومكان، وسواء منهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين وجه الخطاب إليهم مباشرة أم الذين يأتون بعدهم لما خصهم الله به من السعادة والرعاية في الانضواء إلى الإسلام الذي ارتضاه لهم دينا وجعله شريعة تامة خالدة أكملها لهم وأتم نعمته بذلك عليهم لتستجيب إلى جميع حاجاتهم ولتحل جميع م
١ التاج ج ٤ ص ٨٩..
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ ( ١ ) مُكَلِّبِينَ ( ٢ ) تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ٤ ) ﴾ ( ٤ ).
( ١ ) الجوارح : تطلق على الحيوانات والطيور الجارحة أي ذوات الأنياب والمخالب. ويدخل في نطاق الكلمة : الكلاب والذئاب والنمور والسباع والفهود والضباع والصقور والنسور والبزاة. والراجح أن الكلمة هنا للإشارة إلى الجوارح التي تستعمل في الصيد كالكلاب والصقور والبزاة.
( ٢ ) مكلبين : من التكليب، وهو تعليم الكلاب للصيد في الأصل ويستعمل في تعليم الجوارح للصيد عموما. وفي اللغة ( كلاب ) مؤدب الكلاب والجوارح.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ﴾ وما فيها من أحكام وتلقين
في الآية حكاية لسؤال وجوابه. والجواب ينطوي على تعميم وتخصيص. فقد حكت أن أناسا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما أحل لهم. وأمرت بتبليغ السائلين وبالتبعية جميع المسلمين بأن الله قد أحل لهم كل طيب بصورة عامة. وبأنه قد أحل لهم أكل الصيد الذي تمسكه الجوارح المعلمة على أن يذكر اسم الله عليه. مع التنبيه إلى وجوب تقوى الله والتيقن من سرعة حسابه على أعمالهم تنبيها ينطوي على الإنذار أو التحذير من مخالفة أوامر الله.
ولقد تعددت الأقوال في صرف جملة ﴿ واذكروا اسم الله عليه ﴾ ( ١ )١فقيل : إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما ترسلون الجوارح المعلمة لإمساك الصيد حتى إذا أتت بها ميتة جاز لكم أكلها. وقيل : إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما تأكلونه. وقيل : إنها بمعنى اذكروا اسم الله عليه حينما تذبحونه بعد إمساكه. وأوجه الأقوال هو الأول ؛ لأن حكم ما يموت بنهش السبع – والجوارح من السباع – قد تقدم، ولأنه إذا لم يمت المنهوش وذكي حل أكله إطلاقا، فلا يكون هناك حاجة إلى رخصة جديدة.
ولقد روى المفسرون عدة روايات في مناسبة نزول الآية. منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الكلاب، فجاءه بعض المسلمين يسألونه عما يحل لهم اقتناؤه منها. ومنها أن بعض مسلمي البادية سألوه عن حكم ما تصيده جوارحهم المعلمة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والآية صريحة بأنها نزلت جوابا على سؤال. ومن المحتمل أن تكون إحدى الروايتين أو كلتاهما صحيحة. كما أن من المحتمل أن يكون السؤال وقع بمناسبة ما احتوته الآية السابقة من بيان حل الحالات المحرمة، أولا وما يموت من نهش السباع التي منها الجوارح ثانيا. ونحن نرجح هذا الاحتمال كمناسبة مباشرة للآية ؛ لأنه متسق مع محتوياتها ومع سياقها. ومن المحتمل أن يكون السؤال قد وقع عقب نزول الآية السابقة فوضعت الآية بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية، وإلا فتكون قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية.
ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة على هامش هذه الآية كانت مستندا لما وضعه الفقهاء من قواعد وأحكام في موضوع الصيد وأكله. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. منها حديث رواه الخمسة عن عدي بن حاتم جاء فيه :( قلت : يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي، وأذكر اسم الله عليه. فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها. قلت : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا ) ( ١ )٢وللبخاري والترمذي :( إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل، وإن وقع في الماء فلا تأكل ) ( ٢ )٣وللبخاري وأبي داود :( يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة، ثم يجده ميتا وفيه سهمه قال : يأكل إن شاء الله ) ( ٣ )٤ولمسلم وأبي داود في الذي يدرك صيده بعد ثلاث (.......... فكله ما لم ينتن ) ( ٤ )٥وروى الترمذي عن عدي قال :( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صيد البازي قال : ما أمسك عليك فكل ) ( ٥ )٦.
ولقد أورد ابن كثير حديث عدي بن حاتم معزوا إلى الصحيحين، وفيه مباينة وزيادة لما ورد في التاج، فرأينا من المفيد نقله ؛ لأن ابن كثير من أئمة الحديث :( قال عدي بن حاتم : قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك، قلت : وإن قتلن. قال : وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره. قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟. فقال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله. وفي لفظ لهما إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاته. وفي رواية لهما : فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه ) وقد عقب ابن كثير قائلا : فهذا دليل الجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. ثم قال : وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا. ثم أخذ يسوق أحاديث في تأييد جواز أكلها وفي بعض مسائل أخرى لم ترد في الكتب الخمسة، ولكنه نبه على أنها جيدة الأسناد. وأورد بعضها البغوي أيضا ونبه التنبيه نفسه، والمفسران من أئمة الحديث.
ومن هذه الأحاديث حديث عن سلمان الفارسي قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي ) وحديث عن أبي ثعلبة الخشني قال :( قلت يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. فقال : كل ما أمسكن عليك. فقال : ذكياً وغير ذكي وإن أكل منه. قال : نعم وإن أكل منه. قلت : يا رسول الله أفتني في قوسي. قال : كل ما ردت عليك قوسك. قال : ذكيا وغير ذكي قال : نعم وإن تغيب عنك ما لم يصلّ – أي ينتن – أو تجد فيه أثر غير سهمك. قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها، قال : اغسلها وكل فيها ). وهناك صيغ أخرى لحديث أبي ثعلبة جاء في إحداها :( إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك )، وفي إحداها :( قلت : يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس هو معلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي. قال : أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل. وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل. وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ) وهناك أقوال أخرى مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم تدور في النطاق الذي دارت فيه الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم نر ضرورة إلى إيرادها ؛ لأن فيها تكرارا لا فائدة منه.
والأحاديث التي ساقها ابن كثير والبغوي في حل الصيد الذي يأكل منه الجارح أو الكلب لم تحل الخلاف بين الفقهاء.
حيث ظل بعضهم يذهب إلى التحريم مطلقا، وبعضهم إلى الحل مطلقا. وقد توسط بعضهم فقال : بالحل في حالة الجوع. والأحاديث التي تحرم أكل ما أكل منه الكلب أقوى سندا كما هو ظاهر. والقول بحله في حالة الجوع وجيه ومتسق مع المبدأ العام الذي يحل أكل المحرم في حالة الاضطرار والمخمصة. والله تعالى أعلم.
هذا، ومع أن تعبير ﴿ قل أحل لكم الطيبات ﴾ قد يكون في مقامه قاصرا على الأنعام والطيور التي يسوغ أكلها، فإن فيه معنى الجواب المبادر القوي العام والشامل لكل طيب. وهذا متسق مع التلقين القرآني المنطوي في آيات عديدة مكية ومدنية ( ١ )٧من توخي الشريعة الإسلامية – قرآنا وسنة – تحليل الطيبات جميعها. والطيبات كما هو المتبادر هي كل ما لم ينص الشارع على تحريمه. وهي من هذا الاعتبار واسعة النطاق جدا ؛ لأن ما نص الشارع من قرآن وسنة على تحريمه محدود جدا. وهكذا ينطوي في العبارة القرآنية ما انطوى في كثير من الآيات من تيسير التشريع القرآني للمسلمين. ويلمس في كلمة الطيبات معنى تصوري رفيع في صدد تهذيب نفس المسلم وذوقه. وتنزيههما عن كل مستكره في المأكل والمشرب وسائر شؤون الحياة. وفي هذا الذي تكرر في القرآن بأساليب متنوعة ومواضيع عديدة ما فيه من روعة وجلال.
وفي سياق جملة ﴿ واذكروا اسم الله عليه ﴾ واعتبارها شاملة لكل شيء حينما يراد أكله أورد ابن كثير أحاديث نبوية عديدة. منها ما ورد في بعض الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الترمذي والإمام أحمد عن عائشة :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم. فإذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره ) ( ١ )٨وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي جاء فيه :( إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ) ( ٢ )٩وحديث رواه الثلاثة أنفسهم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال : أدركتم العشاء ). وحديث رواه أبو داود جاء فيه :( قال جماعة يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع. قال : فلعلكم تفترقون. قالوا : نعم، قال : فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه ) ( ٣ )١٠.
وفي الأحاديث تعليم وتأديب وتوجيه نحو الله في كل ظرف وشكر نعمته وابتغاء بركته.
١ انظر الطبري والبغوي والطبرسي وابن كثير والخازن..
٢ التاج ج ٣ ص ٩٢ – ٩٣..
٣ المصدر نفسه..
٤ المصدر نفسه..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه ص ٩٢..
٧ انظر بنوع خاص آيات سورة الأعراف (٣١ و ١٥٦)..
٨ التاج ج ٣ ص ١٠٧..
٩ المصدر نفسه..
١٠ المصدر نفسه ص ١١٨..
﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٥ ) ﴾ ( ٥ ).
تعليق على الآية
﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ............... ﴾ الخ
وما فيها من أحكام وتلقين وصور وتمحيص دلالة أهل الكتاب فيها
في الآية تقرير تشريعي وجه الخطاب فيه إلى المسلمين واحتوى :
( ١ ) توكيد لحل الطيبات وإباحتها لهم بصورة عامة.
( ٢ ) وحل طعام الكتابيين وإباحته لهم وحل طعامهم للكتابيين وإباحته لهم.
( ٣ ) وحل التزوج بالمحصنات من المؤمنين والكتابيين وإباحته لهم ضمن نطاقه الشرعي من عقد ومهر ورغبة صادقة في الإحصان وليس بقصد السفاح والتخادن وقضاء الشهوة فقط.
( ٤ ) وإنذار لهم بوجوب الوقوف عند حدود الله وعدم تجاوزها. وبيانا لما في تجاوزهما من كفر بما آمنوا به ؛ ولما يؤدي هذا إليه من حبوط عمل وخسران في الآخرة.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة نزول الآية. غير أن الطبري روى عن قتادة أن الله لما أحل طعام أهل الكتاب ونساءهم في الآية قال أناس من المسلمين : كيف نتزوج نساءهم وهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله عز وجل ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٥ ) ﴾.
وهذا يقتضي أن تكون الآية نزلت على دفعتين، مع أن الجملة منسجمة مع شطر الآية الأول ومعطوفة عليه.
ولقد أورد الطبري أقوالا عديدة معزوة إلى علماء التابعين تفيد أنهم فهموا من جملة :﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾ أنها في صدد ذبائح أهل الكتاب أو أولوها بذلك. وجاراه في ذلك معظم المفسرين بعده ( ١ )١حيث يتبادر على ضوء ذلك أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وأن مضمونها يلهم أنها وما قبلها سلسلة متلاحقة، وأن إباحة التزوج بالمحصنات من المؤمنات والكتابيات قد جاء على سبيل الاستطراد. فإن لم تكن الآية نزلت مع سابقاتها فتكون قد نزلت عقبها فوضعت بعدها، أو وضعت بعدها للمناسبة الموضوعية.
ومع ذلك فمن المحتمل جدا أن يكو ن أورد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم استفتاء في أمر ذبائح أهل الكتاب ونسائهم أو وقعت وقائع متصلة بذلك، فاقتضت الحكمة تنزيل الآية، ولعل ما ذكر في الآيات السابقة من الحالات التي يحرم فيها أكل الأنعام مما أثار ذلك، وقد يخطر بالبال أيضا أن يكون ذلك في مناسبة وقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية بمدة قصيرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الفتح استئناسا من كون الآيات قد نزلت بعد ذلك الصلح بمدة قصيرة على ما ذكرناه قبل. ولقد روي أن امرأة يهودية أهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاة مطبوخة، وأنه تزوج صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود التي كانت بين السبايا ( ١ )٢. فلعل بعض المسلمين تساءل عن الأمر فنزلت الآية تؤيد ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما تكرر وقوعه ومرت أمثلة عديدة منه. وجملة ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٥ ) ﴾ قد تكون تضمنت إيذانا بأن ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان بإلهام الله تعالى لحكمة سامية. وإنذارا للمسلمين بأن عليهم أن يؤمنوا بكل ما يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن من يتردد أو يرتاب في ذلك يحبط عمله ويكون من الخاسرين في الآخرة. والله أعلم.
ويلفت النظر إلى كلمة ﴿ اليوم ﴾ التي استهلت بها الآية ثم إلى جملة ﴿ أحل لكم الطيبات ﴾ بعدها، والتي احتوت مثلها الآية السابقة للآية. فهذا وذاك من القرائن التي نراها قوية على صلة الآية بما سبقها نظما وسياقا وموضوعا وعلى قوة احتمال نزولها معها أو عقبها، وعلى ضعف احتمال انصراف كلمة ﴿ اليوم ﴾ في الآية الثالثة إلى يوم عرفة في حجة الوداع كيوم لنزولها.
والحكمة في هذا التشريع بليغة بعيدة المدى. فالقرآن ما فتئ يقرر وحدة المنبع والهدف التي تجمع بين المسلمين وأهل الكتاب، وتجعلهم بمثابة جبهة واحدة، ويوجب على المسلمين احترام كتبهم وأنبيائهم. فجاء هذا التشريع المستمد من تلك الوحدة التي ينطوي فيها تقرير كون الكتابيين مؤمنين بالله على كل حال صراحة أو تأويلا ولا يشبهون المشركين والوثنيين في طعامهم وذبائحهم ومناكحهم، وهذا ما علل به المفسرون حكمة التشريع خطوة جديدة قوية في سبيل إزالة الجفوة وتوطيد التآنس، والتواثق والتعامل والتقارب عمليا بينهم، ووسيلة لإظهار محاسن الإسلام ورحابة صدره.
وسياق الآية يلهم بقوة أنها نزلت بعد وقعة الحديبية. أو لعلها نزلت بعد وقعة خيبر التي كانت عقب تلك الوقعة. وبعبارة ثانية بعد خضد شوكة اليهود في المدينة والقرى، وهذا يجعل من المتبادر بالإضافة إلى تلك الحكمة أن المسلمين صاروا في موقف الآمن المطمئن وبخاصة من ناحية اليهود الذين هم الكتلة الكتابية الكبرى في بيئتهم، وأنه لم يبق ما يوجب التقاطع بينهم وبين المسلمين، فكان ذلك من أسباب وحكمة التنزيل. وقد اختصصنا اليهود بالذكر ؛ لأنه لم يكن في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتلة كبيرة من النصارى تستطيع أن تلعب دورا مؤذيا ومناوئا كالدور الذي لعبه اليهود أولا ؛ ولأن النصارى الذين كانوا في هذه البيئة كانوا على قدر كبير من الدماثة وحسن النية والبعد عن المناوأة والعداء، وقد اندمج معظمهم في الإسلام ثانيا ؛ ولأن النصارى عامة كانوا إجمالا أكثر دماثة وأحسن أخلاقا وأصفى قلبا من اليهود. وقد فرقت إحدى آيات هذه السورة بين الفريقين في مواقفهما من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته ومن المسلمين فقالت :﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( ٨٢ ) ﴾.
وأثنت آية في سورة الحديد على أخلاقهم ثناء محببا هو على الغالب سجل لما كان واقع غالبهم وخاصة في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي :﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة................ ﴾ هذا في حين احتوت آيات مدنية كثيرة تسجيلا ؛ لما كان من واقع غالب اليهود من أخلاق سيئة وقلوب قاسية وانحرافات خلقية ودينية خطيرة مما مر منه أمثلة كثيرة في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مر تفسيرها.
وواضح أن صيغة الآية تشريعية عامة. وأن ما نبهنا عليه مما احتوته من الحكم الظاهرة والمستنبطة شامل الاستمرار والمدى في كل ظروف المسلمين وأمكنتهم. وفي هذا ما فيه من التوجيه الحكيم في صدد التقريب والتيسير والتأليف والتأنيس بين المسلمين والكتابيين، وبخاصة حينما يكون هؤلاء منسجمين مع المسلمين في تواد وتفاهم. ولا يكون منهم مواقف عدائية ومكائد ونوايا مربية ضد المسلمين يخشى عواقبها في ظروف ومظاهر الحياة الخاصة والعامة.
ولقد أورد المفسرون ( ١ )٣أقوالا كثيرة معظمها معزو إلى ابن عباس وعلماء التابعين وتابعيهم في صدد ما انطوى في الآية من أحكام نوجزها ونعلق عليها كما يلي :
أولا : في صدد الطعام :
١- ما قلناه من أن أهل التأويل القدماء فهموا من جملة ﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾ أن المقصود هو ذبائحهم، فقد رووا عن ابن عباس وأبي الدرداء والشعبي أن الجملة عامة الشمول. وفيها إباحة أكل جميع طعام أهل الكتاب على اختلاف أنواعه. واستدرك بعضهم فقالوا : إن ما يحل لنا من طعامهم هو ما هو حلال لهم في شريعتهم. واستدرك آخرون فقالوا : إن ما هو محرم علينا نصا يظل محرما علينا لو قدموه لنا ولو كان حلالا في شريعتهم كالميتة حتف أنفها، أو ما يموت من نهش السباع أو وقذا أو نطحا أو ترديا أو خنقا ولحم الخنزير والدم المسفوح، أو ما يدخل الخمر فيه من طعام وما ذبح على سبيل الميسر. وهذه المحرمات وردت في الآية الثالثة من السورة وآية أخرى وردت في هذه السورة وفيها :﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٩٠ ) ﴾ وهناك محرمات أخرى وردت في أحاديث نبوية أوردناها في سياق تفسير الآية ( ١٤٥ ) من سورة الأنعام.
والقول الأول هو مقتضى الآية، والاستدراك الثاني هو حق وصواب. وتكون القاعدة أنه لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا طعاما من أهل الكتاب محرم عليهم في كتاب الله وسنة رسوله. أما الاستدراك الأول فلا يكون صوابا فيما نرى إلا في نطاق الاستدراك الثاني. فالخمر عندهم غير محرم، فلا يصح للمسلم تناوله أو تناول طعام مصنوع به. ولا مانع يمنع المسلمين من أكل طعام فيه شحوم بقر وغنم ؛ لأن هذه الشحوم غير محرمة على المسلمين وإن كانت محرمة على الكتابيين في شريعتهم ونعني اليهود. ويقاس على هذا غيره مما هو محرم عندهم وغير محرم عند المسلمين.
٢- وفي مسألة حل ذبائح أهل الكتاب أقوال، فالآية ( ١٢١ ) من سورة الأنعام نهت عن أكل الذبائح التي لا يذكر اسم الله عليها. وبعض أهل التأويل قالوا مع ذلك بإباحة أكل الذبائح المنذورة للكنائس أو التي يذكر اسم المسيح عليها. ولقد روى البغوي عن ابن عمر أنه كان يحرم ما ذكر اسم المسيح عليه ثم قال – البغوي – : ولكن أكثر أهل العلم على حله. وروى – البغوي – أن الشعبي سئل عن ذلك فقال إنه حل. فقد أحل الله طعامهم وهو يعلم ما يقولون، وروى المفسر نفسه عن الحسن أن اليهودي أو النصراني إذا ذبح فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكل وإذا غاب عنك فقد أحل لك. ولم نر قولا في الذبيحة التي لا يذكر الكتابي اسم الله ولا غيره عليها. وتقتضي الآية ( ١٢١ ) من سورة الأنعام تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه. غير أن هناك أحاديث أوردناها في سياق تفسير هذه الآية تذكر أن المسلم إذا نسي ذكر الله حين الذبح لا يضره ذلك ويأكل مما ذبحه ؛ لأنه لا يؤمن إلا بالله وحده. ولا يكون عدم الذكر منه عمدا. وقد يصح أن يقال قياسا على ذلك والله أعلم : أن ذبيحة الكتابي أيضا تؤكل إذا نسي أن يذكر اسم الله عليها نسيانا وغير متعمد على اعتبار أنه يؤمن بالله صراحة أو تأويلا ويتعبد له. وتبعا لذلك قد يكون في القول الثالث الوسط صواب وسداد. فلا يجوز لمسلم أن يأكل ذبيحة الكتابي إذا سمع أو تيقن أنه ذكر اسم غير الله عليها، أما في حالة الغياب وع
١ انظر النيسابوري والنسفي والخازن والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي..
٢ انظر ابن سعد ج ٣ ص ١٦٢ – ١٦٣ وابن هشام ج ٣ ص ٣٨٨ – ٣٩٠..
٣ انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي وابن كثير والخازن والنسفي والنيسابوري..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٦ ) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٧ ) ﴾ ( ٦ – ٧ ).
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ................. ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيها من أحكام وتلقين ومسألة المسح على الخفين وما ورد في كل ذلك من أحاديث.
عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا :
( ١ ) خطابا موجها للمؤمنين يأمرهم عند قيامهم للصلاة أن يغسلوا أيديهم ووجوههم وأرجلهم ويمسحوا برؤوسهم، ويغتسلوا إذا كانوا جنبا. وإذا لم يجدوا ماء في سفر أو حضر أو كانوا مرضى يؤذيهم الماء ووجب عليهم الوضوء أو الاغتسال من الجنابة بسبب قضاء حاجتهم في الغائط للأول وملامسة النساء للثاني فيجزيهم أن يمسحوا أيديهم ووجوههم من صعيد طيب.
( ٢ ) وتنبيها تعليليا بأن الله تعالى لم يرد بأمره إعناتا وإحراجا، وإنما يريد تطهيرهم وإتمام نعمته عليهم.
( ٣ ) وتذكيرا بما ارتبطوا به من ميثاق مع الله تعالى حينما آمنوا به وبرسالة رسوله وقالوا : سمعنا وأطعنا ؛ لتوكيد القيام بما يؤمرون به وبوجوب تقوى الله الذي يعرف ما في الصدور كما يعرف الظواهر.
ولقد روى الطبري حديثا موصولا إلى سعد بن أبي وقاص قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة فقلنا : يا رسول الله نكلمك فلا تكلمنا ونسلم عليك فلا ترد علينا حتى نزلت آية الرخصة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ.................. ﴾ الخ.
وروى البخاري ومسلم والترمذي حديثا عن عائشة جاء فيه :( سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا، وأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال : حبست الناس في قلادة، فأحسست بالموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أوجعني. ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ.................. ﴾ الخ. فقال أسيد بن حضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم ) ( ١ )١
وقد أورد الطبري وغيره من المفسرين هذا الحديث كسبب لنزول آية سورة النساء ( ٤٣ ) التي فيها رخصة التيمم. وقد روى البخاري حديثا عن عائشة في صدد هذه الآية جاء فيه :( هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلبها رجالا فحضرت الصلاة، وليسوا على وضوء، ولم يجدوا ماء فصلوا على غير وضوء، فأنزل الله تعالى آية التيمم ) ( ١ )٢.
والحادث متشابه في الحديثين مما قد يسوغ القول : إنه واحد، وإن من المستبعد أن تكون الآيتان نزلتا فيه مع بعد ما بين نزولهما.
وحديث سعد بن أبي وقاص لم يرد في كتب الصحاح، وليس فيه على احتمال صحته قرينة، على أن الآية نزلت بسبب ما ذكر فيه. وكل ما يمكن أن يفيده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل على عادته بعدم رد السلام على أصحابه، وهو على غير وضوء إلى أن نزلت الآية.
ولما كان من المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كانوا يتوضئون للصلاة في مكة واستمروا على ذلك في المدينة على ما شرحناه وأوردنا الآثار الواردة في صدده في سياق آية النساء المذكورة. ولما كان من الأرجح أن يكون الحادث المذكور في حديث عائشة قد وقع في ظروف نزول آية النساء على ما ذكرناه أيضا في سياق تفسيرها وشرحها. ولا سيما أن الطبري والبغوي، وهما من أقدم المفسرين الذين وصل إلينا كتب تفسيرهم لم يورداه ولم يوردا رواية ما من بابه في سياق آية المائدة التي نحن في صددها. ثم لما كان من الملحوظ أن هذه الآية وحدة تامة منسجمة. فالذي يتبادر لنا أن فريقا من المسلمين أخذوا يتهاونون في أمر الوضوء والطهارة أو في أشكالهما وأركانهما أو لا يرون ذلك واجبا، فاقتضت حكمة التنزيل تنزيل الآية للتوكيد ولبيان الأشكال والأركان مع ذكر رخصة التيمم لإتمام الموضوع.
ويلحظ أن الآية الثانية منسجمة مع الآية الأولى ومعطوفة عليها ؛ حيث يتبادر أنها جاءت بمثابة تعقيب وتدعيم لما أمرت به الآية الأولى. وقد يكون منها تأييد لما قلناه من أن بعض المسلمين تهاونوا في أمر الوضوء والاغتسال من الجنابة، فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بنعمة الله عليهم. وميثاقه الذي أخذه منهم على السمع لما يأمرهم به وطاعته.
والتوكيد عليهم بتقواه وتنبيههم إلى أنه عليم بكل ما في نفوسهم بالإضافة إلى أعمالهم الظاهرة.
والتناسب قائم بين الآيتين وما سبقهما من حيث القصد التشريعي. فإما أن تكونا نزلتا بعد الآيات السابقة مباشرة، فوضعتا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدها للتناسب التشريعي والظرفي. أو وضعت بعدها للتناسب التشريعي وحسب. ونرجح على كل حال أنها نزلت بعد الآيات التي سبقتها، إما فورا وإما بعد مدة ما. والله تعالى أعلم.
ولقد صرف بعض المؤولين جملة :﴿ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ ﴾ في الآية الأولى إلى قصد تعليل إيجاب التيمم إذا فقد الماء أو آذى. ومنهم من صرفها إلى قصد تعليل إيجاب الوضوء. والجملة تتحمل المعنيين. وإن كان صرفها إلى تعليل التيمم أقوى ؛ لأنه الأقرب إليها تتضمن قصد إشعار المسلمين دائما بشعور الطهارة ووجوبها وليس للإحراج.
ومهما يكن من أمر ففي الجملة معنى يصح أن يكون نبراسا يستمد منه المسلمون نورا وهدى في مختلف أمورهم، وهو كون الله تعالى إنما يتوخى في تكاليفه ورخصه نفع المسلمين وطهارتهم ماديا وروحيا دون قصد الإحراج. وفي هذا من الجلال ما فيه.
وأسلوب الآية الثانية قوي نافذ، ومع أنها موجهة إلى المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدد ما أمروا به في الآية الأولى، فإن إطلاق عبارتها يجعل ما احتوته من هتاف وتذكير وتنبيه مستمر المدى شاملا لكل ما أمر الله به ورسمه ونهى عنه.
ولقد قلنا : إن الآثار تؤيد أن الوضوء كان ممارسا منذ وقت مبكر من العهد المكي. وفي نزول الآية الأولى متأخرة مع ممارسة الوضوء قبلها بمدة طويلة مشهد من المشاهد الكثيرة التي احتوت ممارسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتشريعاته لفروض وأمور وأعمال دينية وسياسية واجتماعية وحربية بدون وحي قرآني، ثم ينزل الوحي القرآني مؤيدا لتلك الممارسة والتشريعات والأعمال.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل في مدى جملة :﴿ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾. منها أنه الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم على ما جاء في آية سورة الأعراف ( ١٦٩ ) ومنها أنها البيعة التي روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من وفد الأوس والخزرج قبيل هجرته. والتي تمت الهجرة بناء عليها والتي روي أن صيغتها هي صيغة آية الممتحنة هذه مع التذكير ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٢ ) ﴾ ومنها ما عناه الحديث الذي رواه الشيخان والنسائي عن عبادة بن الصامت الذي جاء فيه :( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. وفي رواية وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ). ومنها أنه ما اعتبر ميثاقا مأخوذا من كل مسلم على السمع والطاعة حين يعلن إسلامه وإيمانه وينضوي إلى الدين الإسلامي. ونحن نطمئن بالقول الأخير ؛ لأنه متساوق مع فحوى الآية التي شمل الهتاف بها لكل أمر، ولكل مؤمن ولكل زمن. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الأولى أحاديث نبوية بفضل الوضوء. منها ما ورد في الكتب الخمسة. منها حديث رواه الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ) ( ١ )٣وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا : بلى يا رسول الله. قال : إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ) ( ٢ )٤ وحديث رواه مسلم عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره ) ( ٣ )٥. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ) ( ٤ )٦وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول ) ( ٥ )٧.
ومما لا ريب فيه أن الشريعة الإسلامية بإيجابها على كل مسلم ومسلمة غسل أطرافهما المكشوفة أكثر من مرة في اليوم والاغتسال من الجنابة التي يمكن أن تتكرر مرارا في الشهر، بالإضافة إلى ما تضمنته آية سورة المدثر الثالثة من إيجاب تطهير ثيابهم. وإلى ما تضمنته الأحاديث النبوية العديدة في هذا الأمر ( ٦ )٨قد هدفت إلى جعل المسلمين مثالا في العناية بطهارة الجسد والثوب في موازاة ما هدفت إليه بالرسالة المحمدية في جعلهم مثالا في الطهارة الروحية على ما عبرت عنه آية سورة البقرة ﴿ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ( ١٥١ ) ﴾. وآية سورة آل عم
١ التاج ج ٤ ص ٩٠..
٢ التاج ج ٤ ص ٨٢..
٣ التاج ج ١ ص ٦٩..
٤ المصدر نفسه ص ٦٩ و ٧٠..
٥ المصدر نفسه..
٦ التاج ج ١ ص ١٣٤ وهناك أحاديث أخرى في كتب الصحاح وغيرها فاكتفينا بما أوردناه.
ويتبادر لنا على ضوء التقريرات القرآنية والنبوية: أن ما ذكر في الأحاديث من الخطايا التي يغفرها الله إن شاء للمسلم إذا توضأ هي ما كان من باب اللمم والهفوات وما ليس من الكبائر وما ليس فيه حق الغير ماله وعرضه ودمه. وما ليس فيه إثم وفحش ظاهر وباطن. وإن قصد التشويق والتبشير من الحكمة الملموحة في الأحاديث. والله أعلم..

٧ المصدر نفسه ص ١٣٥..
٨ أوردنا في سياق تفسير سورة الجمعة جملة من ذلك..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ٨ ) وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٩ ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١٠ ) ﴾ ( ٨ – ١٠ ).
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ................ ﴾
والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت أولاها هتافا للمسلمين بأن يكونوا قوامين لله فيما أمر ونهى ومراعين جانبه وحده في الشهادة بالقسط والحق والعمل بهما والتعاون على إقرارهما، دون أن يكون لبغضهم لقوم ما تأثير يؤدي إلى الإخلال بواجب العدل والانحراف عن جادة القسط والحق. فهذا هو واجبهم وهو الأمثل بالمؤمنين. والمحقق لمعنى تقوى الله، والموجب لرضائه. وعليهم أن يلاحظوا دائما أنه خبير بكل ما يفعلونه. أما الآيتان الثانية والثالثة فقد احتوتا تعقيبا على ذلك الهتاف ودعما له وتثبيتا للمسلمين : فالذين آمنوا بالله ولزموا حدوده وعملوا الصالحات لهم المغفرة والأجر العظيم وعدا من الله. أما الذين يكفرون بالله ويكذبون بآياته وينحرفون عن حدوده فهم أصحاب الجحيم.
ولقد روى الطبري : أن الآية الأولى نزلت في اليهود حينما هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية وروايات مقاربة من بابها مروية في تفسير الطبري وغيره كسبب لنزول الآية التي تأتي بعد هذه الآيات. ولم يرو المفسرون الآخرون فيما اطلعنا عليه رواية ما في صدد هذه الآيات. وفحوى الآيات يجعل المناسبة التي يرويها الطبري أكثر ملائمة لنزول الآية التالية. ويحمل على التوقف فيها بالنسبة لهذه الآيات.
والذي يتبادر لنا من روحها وفحواها أنها نزلت في مناسبة أخرى كان فيها خصومة أو مقاضاة بين فريق من المسلمين وآخر من غيرهم. وحاول الفريق المسلم أو عمد إلى الجنف على الفريق الثاني أو الشهادة في حقه شهادة غير صحيحة متأثرا بعدائه وبغضائه. بل وقد يخطر للبال أن يكون موضوع الآيات متصلا بالآية الثانية من السورة التي تحذر المسلمين من أن يحملهم بغضاؤهم لقوم على الإثم والعدوان والتعاون عليهما. فإن صح هذا أمكن القول أن الآيات جزء من السلسلة السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متلاحقة. وقد يبرر هذا ما بين الآيات من تماثل في الخطاب الموجه للمؤمنين وفي الهدف التشريعي والتحذيري. وإن لم يصح فإن من المحتمل كثيرا أن تكون نزلت بعدها فوضعت بعدها أو وضعت بعدها للتناسب التشريعي. والله أعلم.
والمبدأ الذي احتوته الآية الأولى متسق من حيث الأصل مع تقريرات القرآن ومبادئه التي تضمنتها آيات كثيرة مكية ومدنية. وقد جاء ما يقاربها بنوع خاص في آية سورة النساء ( ١٣٥ ). غير أن الأسلوب الذي جاءت به الآية والتعقيب والتدعيم والتبشير والإنذار الذي جاء في الآيتين التاليتين لها يجعل ما احتوته قويا ساطعا، ويجعلها من أروع الآيات القرآنية وأبعدها مدى في مجال الحق والعدل والتجرد والنزاهة شهادة وعملا وقضاء وتطمينا. وفي واجب مراعاة جانب الله وحده في هذا المجال وعدم التأثر فيه بعداء وبغضاء وأحقاد. وإذا لوحظ أن الشنآن إنما كان على الأكثر واردا فيما بين المسلمين وغير المسلمين تجلت روعة الآية ومداها أكثر.
وهناك أحاديث عديدة في وجوب العدل والحكم به والشهادة به أوردناها في سياق الآية ( ١٣٥ ) من سورة النساء التي فيها أمر مماثل لما في هذه الآية، فنكتفي بهذا التنبيه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ١١ ) ﴾ ( ١١ ).
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ................... ﴾ الخ
وما فيها من تلقين
عبارة الآية واضحة. وقد احتوت خطابا للمؤمنين تذكرهم فيه بما كان من نعمة الله عليهم ورعايته لهم، حينما هم قوم أن يعتدوا عليهم فصرفهم عنهم، وانتهت بالأمر بتقوى الله ودعوة إلى الاتكال عليه.
وقد روى الطبري من طرق عديدة وبصيغ مختلفة أن الآية نزلت في مناسبة ما كان من يهود بني النضير من التآمر على اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما ذهب إليهم للاستعانة بهم على دية بعض القتلى حسب العهد الذي بينه وبينهم. وروى في الوقت نفسه أنها في صدد ما تعرض له النبي والمسلمون من كسرة أمام الكفار يوم وقعة ( بطن نخلة ) أو تآمر من بعضهم على قتله. وقد نزل عليه جبريل وأخبره بذلك حتى صلوا صلاة الخوف. وروى أيضا أنها في صدد ما كان من أعرابي من نية غدر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما رآه تحت شجرة وهو في غرة أثناء هذه الوقعة ؛ حيث عمد الأعرابي إلى سيف النبي المعلق فأخذه وقال له : من يمنعك مني ؟ فقال : الله. ولم يلبث أن شلت يده، وسقط السيف من يده. وجاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على هذه الحالة، وأرادوا الفتك به، فمنعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأطلقه. وعلى ما ذكره ابن سعد وابن هشام أيضا ( ١ )١. ويروي الطبري رواية أخرى مفادها : أن الحادث هو محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل شخص أرسلته قريش بعد وقعة بدر التي كانت في السنة الثانية للهجرة. والمفسرون الآخرون أوردو ا بدورهم هذه الروايات.
ويلحظ أن الروايات تروي أحداثا وقعت في السنة الثانية للهجرة والآيات على ما يلهمه السياق نزلت بعد وقعتي الحديبية وخيبر. ولقد روي أن بعض خيالة قريش أرادوا أن يأخذوا المسلمين على غرة في الحديبية كما روي أن قبائل غطفان وأسد تجمعوا لغزو المدينة أثناء رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى الحديبية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة الفتح التي سبق تفسيرها قبل هذه السورة فكف الله أيديهم ؛ حيث يرد بالبال أن الآية بسبيل التذكير بمثل هذا الحادث القريب. ولعله الحادث الأول ؛ لأن روايته أوثق.
ويلحظ كذلك شيء من الانسجام بين الآية والآيات الثلاث السابقة لها بحيث يتبادر أنها نزلت معها على سبيل توكيد الله ومراقبته. وأن ما احتوته من إشارة إنما كانت على سبيل التذكير في موقف يؤمر المسلمون فيه بتقوى الله والتزام حدوده.
ولقد انتهت الآية بالتنبيه إلى أن على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ويعتمدوا عليه فهو كافيهم ومنجيهم من الأخطار. ومثل هذا تكرر كثيرا في الآيات المكية والمدنية لما في ذلك من معالجة روحية وبث للقوة المعنوية في المسلمين لمواجهة ما كانوا يتعرضون له من أخطار ومواقف محرجة. وتلقينها مستمر المدى للمسلمين في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال على ما شرحناه شرحا وافيا في إحدى المناسبات السابقة.
١ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٧٣ و ٧٤ و ٩٨ – ١٠٠ وابن هشام ج ٢ ص ٢١٤ – ٢١٧ و ١٩١ – ٢١٢..
( ١ ) النقيب : لغة من نقب الشيء أي بحثه وفحصه، ونقيب القوم : من يفحص ويبحث أحوالهم، ثم صار علما على رئيسهم، وصاحب التوجيه والأمر فيهم.
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ( ١ ) وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ( ١٢ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ ( ٢ ) مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( ١٣ ) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( ١٤ ) ﴾ ( ١٢ – ١٤ ).
تعليق على الآية
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا............... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيهما من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وفيها تذكير بما كان من أمر بني إسرائيل والنصارى. وبما أخذه الله عليهم من ميثاق بالثبات على طريق الحق والقيام بالواجبات المفروضة عليهم وتصديق الرسل الذين يأتونهم بالهدى من قبل الله وتأييدهم. وبما كان من نقضهم لهذا الميثاق وانحرافهم عن جادة الحق والواجب. وما كان من تحريف اليهود لكلام الله. وما كان من نتيجة لذلك من استحقاقهم للعنته وتقسية قلوبهم.
وما كان من نزاع وعداء وبغضاء بين النصارى، واستمرار ذلك إلى يوم القيامة ؛ حيث ينبئهم الله ويفصل بينهم فيما كانوا يصنعونه. والمتبادر أن جملة ﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء ﴾ أسلوبية، وأن الأولى أن تحمل على أن القصد منها هو تقرير كون ما قام بين النصارى من نزاع وبغضاء وعداء هو بسبب ما كان من إهمالهم ما أمروا به وانحرافهم عن طريق الحق، وروح العبارة وفحواها يدعمان ذلك.
وفي الآية الثانية جملة اعتراضية فيها خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ما يزال يطلع على خيانة من اليهود بسبيل توكيد استمرارهم فيما ارتكسوا فيه من انحرافات ونقض ميثاق باستثناء القليل منهم الذين يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم العفو والتسامح معهم ؛ لأن الله يحب المحسنين.
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات وورودها في الترتيب بعد السلسلة التشريعية يمكن أن يسوغ القول : إنه قصد بها تذكير المسلمين بما كان من أمر أهل الكتاب وانحرافهم ونقضهم مواثيق الله، وبما كان من نكال الله لهم باللعنة والبغضاء والعداوة وتقسية القلوب على سبيل العظة والدعوة إلى الاعتبار والتوكيد على الاستقامة على أوامر الله والتزام حدوده. وفي الآية السابعة من السورة تذكير بميثاق الله الذي أخذه الله من المسلمين مما قد يقوي التوجيه، ويجعل صلة ما بين هذه الآية والآيات السابقة.
وفي الآيات صور لواقع اليهود والنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استمرارا لما قبله من انحراف واختلاف وعداوة ومذاهب وأحزاب وقتال فيما بينهم ما حكته عنهم آيات كثيرة في سورة البقرة وآل عمران والنساء ببيانات أوفى، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
ولقد ذكر الطبري عزوا إلى ابن إسحاق خبر الاثني عشر نقيبا الذين أمر الله موسى إقامتهم ليكونوا كفلاء على قومهم، ثم ذكر أن موسى أرسلهم للتجسس على الأرض المقدسة وذكر أسماءهم. وذكر ذلك ابن كثير أيضا وأورد نفس الأسماء ثم قال : إنه رأى في السفر الرابع من التوراة أسماء غير هذه الأسماء وأوردها. وفي سفر العدد المتداول اليوم وهو فعلا السفر الرابع من أسفار العهد القديم خبران مستقلان. واحد في الإصحاح الثاني منه يذكر خبر أمر الله لموسى بإقامة رئيس على كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر وأسماءهم الذين يذكر أن الله أوحى بها. وثان في الإصحاح الثالث عشر منه يذكر أن الله أوحى لموسى بانتداب رجل من كل سبط ليذهبوا ويتجسسوا على أرض كنعان. والأسماء المذكورة في صدد كل خبر مختلفة. والسفر يذكر أن الله أوحى بأسماء الخبر الأول فقط. والأسماء التي أوردها الطبري هي أسماء الخبر الثاني ؛ حيث يبدو أن ابن إسحاق الذي يعزو الطبري إليه مزيج الخبرين وسمى أسماء الخبر الثاني. وأن ابن كثير ظن أنه صحح الأسماء. ولم ينتبه إلى أن في السفر خبرين لكل منهما أسماء مختلفة عن الآخر. والمتبادر أن الاثني عشر نقيبا المذكور خبرهم في الآيات هم الذين ذكر خبرهم في الإصحاح الثاني من سفر العدد ؛ لأنهم انتدبوا بوحي الله كما ذكر الإصحاح ليكونوا رؤساء لأسباطهم. ولم نر ضرورة إلى ذكر الأسماء ؛ لأن الهدف القرآني لا يقتضيه.
وفي أسفار الخروج والأحبار والعدد وتثنية الاشتراع المتداولة اليوم، والتي تؤرخ رسالة موسى وهارون وسيرتهما وسيرة بني إسرائيل في عهدهما، ثم في أسفار عديدة أخرى مما يعود إلى حقبة ما بعد موسى وهارون من أسفار العهد القديم فصول كثيرة عن لسان الله مبلغة بواسطة موسى وأنبياء بني إسرائيل الآخرين لبني إسرائيل فيها وصايا متنوعة في التزام توحيد الله وعبادته وحده والأعمال الصالحة واجتناب الشرك والأصنام والأعمال السيئة. وفي إنذار الذين ينحرفون عن ذلك عليها سمة الوحي الرباني. وفي الأناجيل المتداولة التي تحكي رسالة وسيرة المسيح عليه السلام فصول كثيرة من هذا الباب أيضا مبلغة من المسيح لبني إسرائيل وغيرهم ممن اتبع المسيح ولم يتبعه على سمة الوحي الرباني كذلك، فالمتبادر أن ذلك هو المواثيق التي ذكرت الآيات أن الله تعالى قد أخذها من نقباء بني إسرائيل وأسباطهم ومن النصارى، فانحرف معظمهم عنها فاستحقوا ما تضمنته الآيات من اللعنة والتنديد والإنذار.
ولقد لحظ بعض المفسرين عدد النقباء في الآية، ولحظوا أن المسيح عليه السلام اتخذ مثل عددهم تلامذة وحواريين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة آل عمران. وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل على جماعات الخزرج والأوس حينما بايعوه بيعة العقبة الثانية اثني عشر نقيبا على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال ؛ حيث رأوا في هذا إلهاما ربانيا متوافقا مع ما كان من ذلك بالنسبة لموسى أولا، ولعيسى ثانيا عليهما السلام. والله تعالى أعلم.
( ٢ ) خائنة : بمعنى خيانة.
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ( ١ ) وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ( ١٢ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ ( ٢ ) مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( ١٣ ) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( ١٤ ) ﴾ ( ١٢ – ١٤ ).
تعليق على الآية
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا............... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيهما من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وفيها تذكير بما كان من أمر بني إسرائيل والنصارى. وبما أخذه الله عليهم من ميثاق بالثبات على طريق الحق والقيام بالواجبات المفروضة عليهم وتصديق الرسل الذين يأتونهم بالهدى من قبل الله وتأييدهم. وبما كان من نقضهم لهذا الميثاق وانحرافهم عن جادة الحق والواجب. وما كان من تحريف اليهود لكلام الله. وما كان من نتيجة لذلك من استحقاقهم للعنته وتقسية قلوبهم.
وما كان من نزاع وعداء وبغضاء بين النصارى، واستمرار ذلك إلى يوم القيامة ؛ حيث ينبئهم الله ويفصل بينهم فيما كانوا يصنعونه. والمتبادر أن جملة ﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء ﴾ أسلوبية، وأن الأولى أن تحمل على أن القصد منها هو تقرير كون ما قام بين النصارى من نزاع وبغضاء وعداء هو بسبب ما كان من إهمالهم ما أمروا به وانحرافهم عن طريق الحق، وروح العبارة وفحواها يدعمان ذلك.
وفي الآية الثانية جملة اعتراضية فيها خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ما يزال يطلع على خيانة من اليهود بسبيل توكيد استمرارهم فيما ارتكسوا فيه من انحرافات ونقض ميثاق باستثناء القليل منهم الذين يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم العفو والتسامح معهم ؛ لأن الله يحب المحسنين.
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات وورودها في الترتيب بعد السلسلة التشريعية يمكن أن يسوغ القول : إنه قصد بها تذكير المسلمين بما كان من أمر أهل الكتاب وانحرافهم ونقضهم مواثيق الله، وبما كان من نكال الله لهم باللعنة والبغضاء والعداوة وتقسية القلوب على سبيل العظة والدعوة إلى الاعتبار والتوكيد على الاستقامة على أوامر الله والتزام حدوده. وفي الآية السابعة من السورة تذكير بميثاق الله الذي أخذه الله من المسلمين مما قد يقوي التوجيه، ويجعل صلة ما بين هذه الآية والآيات السابقة.
وفي الآيات صور لواقع اليهود والنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استمرارا لما قبله من انحراف واختلاف وعداوة ومذاهب وأحزاب وقتال فيما بينهم ما حكته عنهم آيات كثيرة في سورة البقرة وآل عمران والنساء ببيانات أوفى، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
ولقد ذكر الطبري عزوا إلى ابن إسحاق خبر الاثني عشر نقيبا الذين أمر الله موسى إقامتهم ليكونوا كفلاء على قومهم، ثم ذكر أن موسى أرسلهم للتجسس على الأرض المقدسة وذكر أسماءهم. وذكر ذلك ابن كثير أيضا وأورد نفس الأسماء ثم قال : إنه رأى في السفر الرابع من التوراة أسماء غير هذه الأسماء وأوردها. وفي سفر العدد المتداول اليوم وهو فعلا السفر الرابع من أسفار العهد القديم خبران مستقلان. واحد في الإصحاح الثاني منه يذكر خبر أمر الله لموسى بإقامة رئيس على كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر وأسماءهم الذين يذكر أن الله أوحى بها. وثان في الإصحاح الثالث عشر منه يذكر أن الله أوحى لموسى بانتداب رجل من كل سبط ليذهبوا ويتجسسوا على أرض كنعان. والأسماء المذكورة في صدد كل خبر مختلفة. والسفر يذكر أن الله أوحى بأسماء الخبر الأول فقط. والأسماء التي أوردها الطبري هي أسماء الخبر الثاني ؛ حيث يبدو أن ابن إسحاق الذي يعزو الطبري إليه مزيج الخبرين وسمى أسماء الخبر الثاني. وأن ابن كثير ظن أنه صحح الأسماء. ولم ينتبه إلى أن في السفر خبرين لكل منهما أسماء مختلفة عن الآخر. والمتبادر أن الاثني عشر نقيبا المذكور خبرهم في الآيات هم الذين ذكر خبرهم في الإصحاح الثاني من سفر العدد ؛ لأنهم انتدبوا بوحي الله كما ذكر الإصحاح ليكونوا رؤساء لأسباطهم. ولم نر ضرورة إلى ذكر الأسماء ؛ لأن الهدف القرآني لا يقتضيه.
وفي أسفار الخروج والأحبار والعدد وتثنية الاشتراع المتداولة اليوم، والتي تؤرخ رسالة موسى وهارون وسيرتهما وسيرة بني إسرائيل في عهدهما، ثم في أسفار عديدة أخرى مما يعود إلى حقبة ما بعد موسى وهارون من أسفار العهد القديم فصول كثيرة عن لسان الله مبلغة بواسطة موسى وأنبياء بني إسرائيل الآخرين لبني إسرائيل فيها وصايا متنوعة في التزام توحيد الله وعبادته وحده والأعمال الصالحة واجتناب الشرك والأصنام والأعمال السيئة. وفي إنذار الذين ينحرفون عن ذلك عليها سمة الوحي الرباني. وفي الأناجيل المتداولة التي تحكي رسالة وسيرة المسيح عليه السلام فصول كثيرة من هذا الباب أيضا مبلغة من المسيح لبني إسرائيل وغيرهم ممن اتبع المسيح ولم يتبعه على سمة الوحي الرباني كذلك، فالمتبادر أن ذلك هو المواثيق التي ذكرت الآيات أن الله تعالى قد أخذها من نقباء بني إسرائيل وأسباطهم ومن النصارى، فانحرف معظمهم عنها فاستحقوا ما تضمنته الآيات من اللعنة والتنديد والإنذار.
ولقد لحظ بعض المفسرين عدد النقباء في الآية، ولحظوا أن المسيح عليه السلام اتخذ مثل عددهم تلامذة وحواريين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة آل عمران. وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل على جماعات الخزرج والأوس حينما بايعوه بيعة العقبة الثانية اثني عشر نقيبا على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال ؛ حيث رأوا في هذا إلهاما ربانيا متوافقا مع ما كان من ذلك بالنسبة لموسى أولا، ولعيسى ثانيا عليهما السلام. والله تعالى أعلم.
سورة المائدة :
في السورة فصول عديدة تضمنت أحكاما وتشريعات تعبدية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ومعاشية وشخصية، مثل وجوب احترام العهود وتقاليد الحج وأمن الحجاج دون تأثر بعداء أو بغضاء، والأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان بسب ذلك، والحالات التي يحرم فيها أكل لحوم الأنعام، وحل صيد الجوارح، وحل طعام الكتابيين للمسلمين والتزوج بنسائهم وحل طعام المسلمين لهم، وأركان الوضوء والطهارة ورخصة التيمم. وتوكيد العدل شهادة وحكما دون تأثر بعداء أو بغضاء. والنهي عن تحريم الطيبات، وتشريع حد الفساد في الأرض والسرقة وتحلة اليمين، والنهي عن الخمر والميسر وذبائح القمار والأنصاب، والنهي عن صيد البر في الحج وتشريع كفارته مع تحليل صيد البحر. وتسفيه بعض العادات الجاهلية المتصلة بالأنعام. والتنويه بتقاليد الحج والكعبة ومنافعها. وتشريع الإشهاد على التركات وتحقيق صحة الشهادة.
وفيها كذلك فصول عديدة في النصارى واليهود. احتوت دعوتهم إلى الإسلام. وإيذانهم برسالة النبي إليهم. وكون القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب ومهيمنا عليها. وتنديدا بأعمال ودسائس اليهود ومكرهم. وربط حاضر أخلاقهم ومواقفهم بماضي أخلاق آبائهم ومواقفهم. وحكاية تعجيزهم لموسى في صدد دخول الأرض المقدسة. وحكاية قتل أحد ابني آدم لأخيه، وما احتوته شريعة اليهود من أحكام الجرائم. وحكمة اختلاف الشرائع عن بعضها. وتقرير كون اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين وتحذيرا منهم. ونهيا عن موالاة اليهود والنصارى الذين يعادون المسلمين ويسخرون من دينهم. ووجوب حصر الولاء فيما بين المسلمين. وتنديدا بعقيدة النصارى بالمسيح وأمه، وتقريرا ببطلانها لذاتها وعلى لسان السيد المسيح. ومشهدا من مشاهد إيمان بعض النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثناء محببا عليهم، وتقرير كون النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين. وفضلا عن رسالة المسيح لبني إسرائيل والمعجزات التي جاء بها ومواقفهم تجاهها. وإيمان الحواريين به واستنزال مائدة من السماء بناء على طلبهم، وقد سميت السورة باسمها بسبب ذلك.
وقد تخلل هذه الفصول وتلك أمثال ومواعظ استطرادية وتذكيرية وتدعيمية وتعقيبية أيضا.
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت :( إني لآخذة بزمام العضباء : ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة ) وحديثا أخرجه ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها :( أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها ) وحديثا أخرجه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال :( أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها ) وأورد حديثا أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو أيضا قال :( آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ) ( ١ )١وحديثا أخرجه الحاكم عن جبير بن نفير قال :( حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه ). ولم ينفرد ابن كثير في إيراد هذه الأحاديث ؛ حيث أوردها مفسرون آخرون أقدم منه، مثل الطبري والبغوي والزمخشري، منهم من أوردها جميعها، ومنهم من أورد بعضها. ومنهم من زاد عليها ؛ حيث روى الطبري عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال :( نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة ). وفي تفسير القاسمي حديث عن محمد بن كعب قال :( نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة ).
وهذه الأحاديث تثير العجب، فالسورة تحتوي فصولا متعددة ومتنوعة، وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة، وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل : فصول اليهود التي يمكن القول بقوة : إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة، وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب أي قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم : إننا نخاف دائرة تدور علينا. وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال، وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنى وجدوا، وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام ؛ لأنهم نجس ؛ حيث أمر فصل من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود، ونهى عن صد حجاج بيت الله عن الذهاب إلى مكة للحج انتقاما من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام. بل إن دلالات هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية.
وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول : إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن، ونقول : إن فصولها ألفت تأليفا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول. وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد. ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب الخمسة.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيبها بعد سورة الفتح، وتروي هذا رواية أخرى. في حين أن هناك روايات ترتيب تجعلها بعد عدة سور بعد سورة الفتح ( ١ )٢. وقد جارينا المصحف الذي اعتمدناه، والمتبادر أن رواية ترتيبها بعد سورة الفتح هي سبب مطلع السورة الذي نرجح أنه نزل بعد صلح الحديبية بوقت قصير. والله تعالى أعلم.
١ أورد ابن كثير حديثا عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت: ﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾ فالمتبادر أن المقصود من الفتح في حديث الترمذي هو هذه السورة..
٢ انظر روايات ترتيب السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩..
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( ١٥ ) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ١٦ ) ﴾ ( ١٥ – ١٦ ).
تعليق على الآية
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا............... ﴾ الخ
والآية التالية لها.
ومدى ما فيها من دعوة صريحة لأهل الكتاب
وروعة أسلوبها وهدفها ورسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتبه إلى ملوكهم.
ومسألة تحريف وإخفاء الكتب السماوية السابقة
الآيتان موجهتان إلى أهل الكتاب وعبارتهما واضحة. وفيهما إيذان لهم بأنه قد جاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ليبين لهم كثيرا مما أخفوا وأهملوا من كتاب الله وأحكامه. وليتسامح معهم في أمور كثيرة. ومعه كتاب من الله ونور مبين من شأنهما هداية من حسنت نيته ورغب في رضاء الله ورضوانه إلى سبيل الأمن والسلام والطريق المستقيم وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
وينطوي في العبارة القرآنية تقرير كون ما جاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كتاب ونور كفيلين بإنقاذ أهل الكتاب المخاطبين من الخلافات والإشكالات والانحرافات التي ارتكسوا فيها، فأدت إلى النتائج التي ذكرتها الآيات السابقة.
ولقد روى الطبري عن عكرمة أن يهودا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيت فقال لهم : أيكم أعلم ؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ورفع الطور، وبالمواثيق التي أخذت عليهم أن يقول الحق. فقال : إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل فاختصرنا.. فجلدنا مائة، وحلقنا الرؤوس وخالفنا بين الرؤوس إلى الدواب. فحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الزاني منهم بالرجم، فأنزل الله :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ ﴾ الآية وأنزل فيهم كذلك هذه الآية :﴿ وإذا خلا بعضكم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ﴾ ( ٧٦ ). والآية الثانية من آيات سورة البقرة. وجعلنا كمناسبة للرواية غريب. وروي مثل هذه الرواية كمناسبة لنزول آيات أخرى من هذه السورة. وفحوى الآيتين اللتين نحن في صددهما والسياق السابق لهما يسوغ التوقف في الرواية، والقول إن الآيتين متصلتان بما سبقهما، وإنهما جاءتا على سبيل الاستطراد إلى دعوة أهل الكتاب عقب الآيات الثلاث التي احتوت حكاية ما كان من نقض اليهود والنصارى لمواثيق الله وانحرافهم عنها وتعرضهم لسخط الله ونقمته بسبب ذلك، وتقرير ما كان من واقع أمرهم عند نزولها لتهيب بهم إلى الانضواء إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاهتداء بهدي نور الله وكتابه.
وأسلوب الدعوة في الآيتين قوي موجه إلى العقل والقلب معا كما هو ظاهر. والمتبادر أنه ينطوي فيه قصد التأنيس والتذكير بما يجمع بين هذه الدعوة وأهل الكتاب من رسالات الله وكتبه ومواثيقه. وتقرير كونها بمثابة إنقاذ لهم مما هم فيه من خلاف ونزاع. وفرصة للسير في طريق الأمن والسلام.
ودعوة أهل الكتاب في هذه الآيات إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المصدقة لما عندهم ليست جديدة. فقد تكررت في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة قبل هذه المرة، غير أنه يلحظ أنها جاءت هنا صريحة أكثر في بيان كون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل إليهم، وكون القرآن نورا وهدى لهم وأكثر تعميما وتوجيها في الخطاب.
ولما كان فريق من أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد آمنوا قبل نزول هذه الآية بالرسالة المحمدية في مكة، ثم في المدينة نتيجة للدعوة السابقة ولما رآه الذين آمنوا من تطابق بينها وبين ما عندهم على ما ذكرته من آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة فتكون الدعوة في الآية استئنافية موجهة إلى الذين لم يؤمنوا بعد لأسباب متنوعة نبهنا عليها كذلك في مناسبات سابقة.
ومن الغريب أن تكون هذه الصراحة في هذه الآية – وقد جاء بعد قليل آية أخرى فيها صراحة قوية بأسلوب آخر – ثم يصر المبشرون وبعض المستشرقين على القول : إن ما في القرآن من نصوص لا يدل على شمول رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغير العرب من الملل والنحل الأخرى. بل وإننا لنرى في هاتين الآيتين وفي الآية التي تأتي بعد قليل ما يمكن أن يكون فيه تأييد لما روته الروايات من إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسله وكتبه إلى ملوك الأقطار المجاورة لجزيرة العرب وأكثرهم نصارى وهم ملوك الروم ومصر والحبشة وغسان والفرس يبلغهم أنه رسول الله إليهم، ويدعوهم إلى الإسلام من حيث إن هذه الآيات وأمثالها وبخاصة الآيتين ( ٦٦ – ٦٧ ) من هذه السورة اللتين سوف نشرحهما في مناسبتهما، هي التي حفزت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خطوات عملية في سبيل تبليغ دعوته إليهم وإلى غيرهم من ملوك وأمراء وزعماء الأنحاء البعيدة عن الحجاز من جزيرة العرب مثل : اليمن وحضرموت والبحرين وعمان. والروايات تذكر ( ١ )١أن هذا الأمر قد وقع بعد صلح الحديبية وفراغ بال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش واليهود في المدينة والقرى الأخرى. وهذه الآيات قد نزلت على ما يلهمه سياق السلسلة منذ بدء السورة بعد صلح الحديبية.
ولقد أثرت نصوص مختلفة لكتاب الدعوة الذي أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملوك وأشهرها هذا النص المعنون إلى هرقل ( بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين٢ ﴿ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( ٦٤ ) ﴾ ( آل عمران )٣.
ونحن نعرف أن بعض المستشرقين يشككون في ذلك بسبب ثغرات وعلل زعموها في النصوص العديدة المروية. بل وبعضهم يقول : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يفكر في خارج الحجاز أو على أبعد تقدير في خارج الجزيرة. ولم يكن ليجرأ على إرسال رسل وكتب إلى أكبر ملوك الأرض إذ ذاك. والثغرات المزعومة ليس من شأنها نفي أصل الخبر الذي أجمعت عليه الروايات القديمة. والقول بعدم التفكير في خارج الجزيرة يكذبه ما يكاد يكون يقينيا من الجيش الذي سيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الظروف التي رويت فيها الروايات إلى مؤتة في البلقاء للانتقام من الذين قتلوا بعض رسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الجيش العظيم الذي قاده بنفسه إلى تبوك لتأديب قبائل النصارى في مشارف الشام ومقابلة ما بلغه من تجمع الروم لغزو المدينة نتيجة لغزوة مؤتة. أما القول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليجرأ على إرسال رسله إلى ملوك الأرض، فهو هراء بالنسبة إلى صاحب دعوة مؤمن بدعوته أعمق الإيمان، ومستغرق فيها أشد الاستغراق، ومعتقد بواجبه بنشرها في مشارق الأرض ومغاربها وإبلاغها لجميع البشر تنفيذا لأمر ربه القرآني أقوى الاعتقاد. وقد رأى علماء اليهود الراسخين في العلم قد آمنوا بها، ورأى النصارى الذين هم في الحجاز قد آمنوا بها، ورأى وفود النصارى الذين فيهم القسيسون والرهبان قد آمنوا بها، وقد فاضت أعينهم بالدموع مما عرفوا فيها من الحق على ما ذكرته الآيات العديدة التي أوردناها في مناسبات سابقة وبخاصة في مناسبة تفسير آية الأعراف ( ١٥٧ ).
تعليق على الآية
﴿ يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾
وما ينطوي فيها من قرائن وصور
هذا، وجملة :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ جديرة بالتنبيه، من حيث انطواؤها على تقرير كون أهل الكتاب كانوا يخفون كثيرا مما عندهم من كتب الله. ومع أن تقرير القرآن فوق مستوى أي شك في صحته مبدئيا، فإننا لا نشك في أن ذلك كان مما ثبت بوقائع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أهل الكتاب أيضا. ولعل أمر القرآن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحدي اليهود بالإتيان بالتوراة في موقف من مواقف مكابرة لهم على ما جاء في آيات سورة الأعراف ( ٩٣ و ٩٤ ) حيث شرحناه من الدلائل الحاسمة بالنسبة لليهود بخاصة.
ولقد آمن فريق من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية وبالقرآن ؛ لأنهم وجدوا بينهما وبين ما عندهم من الكتاب تطابقا وتوافقا على ما قررته آيات قرآنية عديدة. منها آية الأعراف هذه :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ ( ١٥٧ ) وآيات القصص هذه :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ( ٥٢ ) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ( ٥٣ ) ﴾ وآيات المائدة هذه :﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( ٨٢ ) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٨٣ ) ﴾ ( ١ )٤.
ولقد قلنا قبل : إن هذه الدعوة المستأنفة هي موجهة بخاصة للذين لم يكونوا قد آمنوا بعد من أهل الكتاب. فتكون الجملة قد عنت هؤلاء في الدرجة الأولى. والمتبادر أنهم كانوا ينكرون كثيرا مما عندهم ويخفونه بدافع البغي والمكابرة، ولئلا يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة عليهم مما أشارت إليه آيات عديدة منها آيات البقرة هذه :﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( ٨٩ ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( ٩٠ ) ﴾ وهذه ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٠١ ) ﴾ وآيات آل عمران :{ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ( ٦٩ ) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( ٧٠ ) يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ( ٧١ ) وفي آيات سورة آل عمران ( ٩٣ و ٩٤ ) شاهد قوي حاسم
ولقد اتهم القرآن الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب بتحريف ما عندهم من كتب لنفس الدافع على ما جاء في آيات عديدة. منها آيات البقرة هذه :﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( ٧٥ ) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ٧٦ ) ﴾ ومنها آية سورة النساء هذه :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ ( ٤٦ ) وآية سورة المائدة ( ١٤ ) التي مرت قبل قليل. فجاءت هذه الجملة لتدمغهم بالإضافة إلى ذلك بإخفاء كثير مما عندهم وإنكاره أيضا لنفس الدافع. ولقد كان إيمان الذين آمنوا منهم فاضحا لهم في العملين معا ومصداقا لما قرره القرآن من ذلك بطبيعة الحال.
وقد يكون في هذا وذاك ما ناحية ما تأييد لما فتئنا ننبه عليه من أن ما جاء في القرآن من تقريرات إيمانية وقصص متصلة بتاريخ وعقائد أهل الكتاب، ولم يرد في أسفار أهل الكتاب المتداولة اليوم، هو من جملة ما كان في أيديهم وما كانوا يخفونه أو يحرفونه بسبيل الإنكار والمكابرة. وقد ظل هذا دأب الذين لم يؤمنوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم عدت عليه العوادي أو أبيد نتيجة لذلك، فلم يصل إلى زمننا. وفي أسفار العهد القديم المتداولة اليوم دلائل عديدة على أنه كان هناك أسفار أخرى لم تصل إلينا على ما ذكرناه وسميناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية ( ١٥٧ ) من سورة الأعراف. فيكون في ذلك دلالة من كتبهم التي يتداولونها ويقدسونها على ما قلناه.
وإذا كان كثيرا مما تقدم نتيجة إلى اليهود فإنه وبخاصة الآيات التي نحن في صددها ثم آيات القصص والأعراف يصدق على النصارى أيضا. وآيات سورة المائدة ( ٨٢ و ٨٣ ) التي أوردناها تنطوي بخاصة على موقف فريق من النصارى بصراحة. ومع ذلك ففي تعليقنا على كلمة الإنجيل في سياق آية الأعراف ( ١٥٧ ) أوردنا كثيرا من الشواهد التي نحن في صددها على كون النصارى أيضا كانوا يخفون ويبعدون ويحرفون كثيرا من أسفار وقراطيس نتيجة لما كان بينهم من خلاف وشقاق ونزاع. وكان كل فريق منهم يتهم الفريق الآخر بتحريف ما في يده من كتب وقراطيس ( ١ )٥وكان عدد الأناجيل كبيرا جدا حتى ليصل في بعض الروايات إلى عشرين، وبعضها إلى أكثر، فاختفى معظمها أو باد أو أبيد. وكان ذلك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والنص القرآني صريح بأن ذلك كان قد امتد إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإذ أن طوائف كثيرة لم تؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وظلت على خلاف وشقاق فيما بينهم أيضا بعده، فيكون ذلك قد امتد إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا.
٤ اقرأ أيضا آيات آل عمران (١١٣ – ١١٤ و١٩٩) والنساء (١٦١) والأنعام (١١٤) والرعد (٣٦) والإسراء (١٠٧ و ١٠٨) والعنكبوت (٤٧) ففيها شواهد أخرى على إيمان جماعات من أهل الكتاب وأهل العلم والراسخين في العلم بالقرآن والرسالة المحمدية وفرحهم بهما وتصديقهم بأنهما من عند الله تعالى..
٥ انظر كتاب دليل الحيارى للإمام ابن قيم الجوزية. والجزء الثالث من تاريخ سورية للدبس، وكتابنا القرآن والمبشرون. وقد عقد رشيد رضا في تفسيره في سياق هذه الآية فصلا طويلا على تاريخ الأناجيل وما طرأ عليها من تحريفات. وفعل مثل ذلك في سياق تفسير الآيات المماثلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وآل عمران والنساء فليرجع إليها من أراد التوسع والإطلاع أيضا..
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( ١٥ ) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ١٦ ) ﴾ ( ١٥ – ١٦ ).
تعليق على الآية
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا............... ﴾ الخ
والآية التالية لها.
ومدى ما فيها من دعوة صريحة لأهل الكتاب
وروعة أسلوبها وهدفها ورسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتبه إلى ملوكهم.
ومسألة تحريف وإخفاء الكتب السماوية السابقة
الآيتان موجهتان إلى أهل الكتاب وعبارتهما واضحة. وفيهما إيذان لهم بأنه قد جاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ليبين لهم كثيرا مما أخفوا وأهملوا من كتاب الله وأحكامه. وليتسامح معهم في أمور كثيرة. ومعه كتاب من الله ونور مبين من شأنهما هداية من حسنت نيته ورغب في رضاء الله ورضوانه إلى سبيل الأمن والسلام والطريق المستقيم وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
وينطوي في العبارة القرآنية تقرير كون ما جاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كتاب ونور كفيلين بإنقاذ أهل الكتاب المخاطبين من الخلافات والإشكالات والانحرافات التي ارتكسوا فيها، فأدت إلى النتائج التي ذكرتها الآيات السابقة.
ولقد روى الطبري عن عكرمة أن يهودا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيت فقال لهم : أيكم أعلم ؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ورفع الطور، وبالمواثيق التي أخذت عليهم أن يقول الحق. فقال : إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل فاختصرنا.. فجلدنا مائة، وحلقنا الرؤوس وخالفنا بين الرؤوس إلى الدواب. فحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الزاني منهم بالرجم، فأنزل الله :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ ﴾ الآية وأنزل فيهم كذلك هذه الآية :﴿ وإذا خلا بعضكم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ﴾ ( ٧٦ ). والآية الثانية من آيات سورة البقرة. وجعلنا كمناسبة للرواية غريب. وروي مثل هذه الرواية كمناسبة لنزول آيات أخرى من هذه السورة. وفحوى الآيتين اللتين نحن في صددهما والسياق السابق لهما يسوغ التوقف في الرواية، والقول إن الآيتين متصلتان بما سبقهما، وإنهما جاءتا على سبيل الاستطراد إلى دعوة أهل الكتاب عقب الآيات الثلاث التي احتوت حكاية ما كان من نقض اليهود والنصارى لمواثيق الله وانحرافهم عنها وتعرضهم لسخط الله ونقمته بسبب ذلك، وتقرير ما كان من واقع أمرهم عند نزولها لتهيب بهم إلى الانضواء إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاهتداء بهدي نور الله وكتابه.
وأسلوب الدعوة في الآيتين قوي موجه إلى العقل والقلب معا كما هو ظاهر. والمتبادر أنه ينطوي فيه قصد التأنيس والتذكير بما يجمع بين هذه الدعوة وأهل الكتاب من رسالات الله وكتبه ومواثيقه. وتقرير كونها بمثابة إنقاذ لهم مما هم فيه من خلاف ونزاع. وفرصة للسير في طريق الأمن والسلام.
ودعوة أهل الكتاب في هذه الآيات إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المصدقة لما عندهم ليست جديدة. فقد تكررت في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة قبل هذه المرة، غير أنه يلحظ أنها جاءت هنا صريحة أكثر في بيان كون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل إليهم، وكون القرآن نورا وهدى لهم وأكثر تعميما وتوجيها في الخطاب.
ولما كان فريق من أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد آمنوا قبل نزول هذه الآية بالرسالة المحمدية في مكة، ثم في المدينة نتيجة للدعوة السابقة ولما رآه الذين آمنوا من تطابق بينها وبين ما عندهم على ما ذكرته من آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة فتكون الدعوة في الآية استئنافية موجهة إلى الذين لم يؤمنوا بعد لأسباب متنوعة نبهنا عليها كذلك في مناسبات سابقة.
ومن الغريب أن تكون هذه الصراحة في هذه الآية – وقد جاء بعد قليل آية أخرى فيها صراحة قوية بأسلوب آخر – ثم يصر المبشرون وبعض المستشرقين على القول : إن ما في القرآن من نصوص لا يدل على شمول رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغير العرب من الملل والنحل الأخرى. بل وإننا لنرى في هاتين الآيتين وفي الآية التي تأتي بعد قليل ما يمكن أن يكون فيه تأييد لما روته الروايات من إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسله وكتبه إلى ملوك الأقطار المجاورة لجزيرة العرب وأكثرهم نصارى وهم ملوك الروم ومصر والحبشة وغسان والفرس يبلغهم أنه رسول الله إليهم، ويدعوهم إلى الإسلام من حيث إن هذه الآيات وأمثالها وبخاصة الآيتين ( ٦٦ – ٦٧ ) من هذه السورة اللتين سوف نشرحهما في مناسبتهما، هي التي حفزت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خطوات عملية في سبيل تبليغ دعوته إليهم وإلى غيرهم من ملوك وأمراء وزعماء الأنحاء البعيدة عن الحجاز من جزيرة العرب مثل : اليمن وحضرموت والبحرين وعمان. والروايات تذكر ( ١ )١أن هذا الأمر قد وقع بعد صلح الحديبية وفراغ بال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش واليهود في المدينة والقرى الأخرى. وهذه الآيات قد نزلت على ما يلهمه سياق السلسلة منذ بدء السورة بعد صلح الحديبية.
ولقد أثرت نصوص مختلفة لكتاب الدعوة الذي أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملوك وأشهرها هذا النص المعنون إلى هرقل ( بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين٢ ﴿ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( ٦٤ ) ﴾ ( آل عمران )٣.
ونحن نعرف أن بعض المستشرقين يشككون في ذلك بسبب ثغرات وعلل زعموها في النصوص العديدة المروية. بل وبعضهم يقول : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يفكر في خارج الحجاز أو على أبعد تقدير في خارج الجزيرة. ولم يكن ليجرأ على إرسال رسل وكتب إلى أكبر ملوك الأرض إذ ذاك. والثغرات المزعومة ليس من شأنها نفي أصل الخبر الذي أجمعت عليه الروايات القديمة. والقول بعدم التفكير في خارج الجزيرة يكذبه ما يكاد يكون يقينيا من الجيش الذي سيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الظروف التي رويت فيها الروايات إلى مؤتة في البلقاء للانتقام من الذين قتلوا بعض رسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الجيش العظيم الذي قاده بنفسه إلى تبوك لتأديب قبائل النصارى في مشارف الشام ومقابلة ما بلغه من تجمع الروم لغزو المدينة نتيجة لغزوة مؤتة. أما القول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليجرأ على إرسال رسله إلى ملوك الأرض، فهو هراء بالنسبة إلى صاحب دعوة مؤمن بدعوته أعمق الإيمان، ومستغرق فيها أشد الاستغراق، ومعتقد بواجبه بنشرها في مشارق الأرض ومغاربها وإبلاغها لجميع البشر تنفيذا لأمر ربه القرآني أقوى الاعتقاد. وقد رأى علماء اليهود الراسخين في العلم قد آمنوا بها، ورأى النصارى الذين هم في الحجاز قد آمنوا بها، ورأى وفود النصارى الذين فيهم القسيسون والرهبان قد آمنوا بها، وقد فاضت أعينهم بالدموع مما عرفوا فيها من الحق على ما ذكرته الآيات العديدة التي أوردناها في مناسبات سابقة وبخاصة في مناسبة تفسير آية الأعراف ( ١٥٧ ).
﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٧ ) ﴾ ( ١٧ ).
تعليق على الآية :
﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.................... ﴾ الخ
عبارة الآية واضحة. وفيها بيان لأحد انحرافات النصارى وتقرير كون الذين يقولون : إن الله هو المسيح ابن مريم كفارا بالله عز وجل. وسؤال في معرض التحدي موجه إلى العقول والقلوب معا عما إذا كان أحد يستطيع أن يمنع الله عز وجل أن يهلك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا. فهو صاحب ملك السماوات والأرض وما بينهما خالق كل شيء والقادر على كل شيء.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية لنزول هذه الآية أيضا. ويتبادر لنا أنها متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا، وأنها هي الأخرى جاءت استطرادية لتشير إلى أحد انحرافات النصارى التي ارتكسوا فيها بقولهم : إن الله هو المسيح نفسه بسبب عدم إدراكهم ما جاء به عيسى عليه السلام الذي أدى إلى ما أدى إليه من دبيب الخلاف والانقسامات والعداوة والبغضاء بينهم.
والآية صريحة بأن النصارى كانوا حينما نزلت يعتقدون أن الله تعالى هو المسيح. والمشهور الذي تفيده سلسلة آيات سورة مريم ( ١٦ – ٢٦ ) التي سبق تفسيرها أنهم كانوا وما يزالون يعتقدون أنه ابن الله. ومن المشهور أيضا أنهم كانوا وما يزالون يعتقدون أن المسيح هو أحد الأقانيم الثلاثة لله الواحد. وهذا ما يستفاد من آية سورة النساء ( ١٧١ ) ومن آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد. غير أن ما نقلناه عن إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم من قصة بشارة الملك لمريم بالمسيح كغلام لها وحبلها به وولادته ورسالته، يستتبع أن الله تعالى الذي هو عندهم أقنوم الأب كان شيئا آخر بشكل ما غير المسيح أقنوم الابن حينما حبلت به مريم، ثم وضعته إنسانا ونشأ وعاش في الدنيا كذلك.
ولقد حكت الأناجيل على ما أوردناه في سياق سورة مريم أقوال المسيح التي منها أن أباه الذي في السماوات هو الذي أرسله، وأنه يفعل ويقول ما يأمره به ؛ حيث تستحكم العبارة القرآنية هنا في عقيدة النصارى بأن الله هو المسيح استحكاما مفحما قويا. ولا سيما إنه كان بين النصارى من يعتقد أن المسيح لا يتساوى على أي حال في ألوهيته مع الله، وأن طبيعته اللاهوتية والناسوتية ممتزجة بحيث لا يكون إلها كاملا ولا إنسانا كاملا. وكان هؤلاء أكثرية نصارى بلاد الشام ومصر والعراق في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعروفين باليعقوبيين والنسطوريين. بالإضافة إلى مذاهب النصارى الأخرى فيه على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة مريم.
هذا، والمتبادر أن الفقرة الأخيرة هي في صدد الرد على ما في جعل ولادة المسيح الإعجازية سببا للاعتقاد بألوهيته أو نبوته أو جزئية إلهيته له، أو دليلا عليه من حجة قاصرة في سبيل الإفحام أيضا.
ولقد نبهنا في سياق وتفسير آيات النساء ( ١٧١ و ١٧٢ ) إلى مزاعم بعضهم بكون الأقانيم هي صفات الله مثل صفات ( الحي القيوم العالم ) التي وصف بها الله في القرآن، ونبهنا على ما في هذا من تهافت ومغايرة لما جاء في الأناجيل نفسها، فنكتفي هنا بهذه الإشارة.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ١٨ ) ﴾ ( ١٨ ).
تعليق على الآية :
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ....................... ﴾ الخ
عبارة الآية واضحة كذلك. وفيها حكاية لما كان يدعيه اليهود والنصارى من أنهم أولياء الله وذوو الحظوة عنده، ورد إنكاري فيه تحد وإفحام. فالله يعذبهم كما يعذب غيرهم، ولو كانوا كما يدعون لما كان ذلك. وإنهم لبشر كسائر البشر معرضون لغضب الله ورضائه وفاق أعمالهم، وإليه مصيرهم فيجزيهم عليها.
وقد روى الطبري أن جماعة من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلموه وكلمهم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا : ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه، فأنزل الله الآية وتابعه المفسرون الآخرون في رواية الرواية.
ويلحظ أن الآية قد حكت قولا مشتركا منسوبا إلى اليهود والنصارى معا مما يسوغ القول أكثر أنها استمرار للسياق الاستطرادي. وأن أسلوبها وضمير الجمع المخاطب فيها من قبيل حكاية الحال والجواب عليها مما هو مألوف في النظم القرآني. وقد مرت منه أمثلة كثيرة. ولا يمنع هذا أن يكون هذا القول صدر من بعض اليهود في موقف ما، وأن يكون صدر كذلك من بعض النصارى أيضا، فاقتضت حكمة التنزيل حكايته في هذا السياق.
والمتبادر أن هذا القول الذي كان يصدر عن اليهود والنصارى كان يصدر في معرض التبجج بأنهم على هدى من الله، وبأنهم مستغنون عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وهداه ردا على مخاطبتهم وتوجيه الدعوة إليهم بتصديق الرسالة المحمدية. وأسلوب الرد قوي مفحم وبخاصة في هتافه بهم بأنهم ليسوا إلا أناسا كسائر الناس فيهم قابلية الهدى والضلال والصلاح والخطأ.
ولقد حكت آيات عديدة في سورة البقرة وآل عمران والجمعة تبجحات اليهود بأنهم أولياء الله من دون الناس، وبأن الدار الآخرة خالصة لهم، وبأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودات كما حكت آيات أخرى في سورة البقرة تبجحات النصارى واليهود معا بأنه لن يدخل الجنة إلا من كان على دينهم، وأن من أراد الهدى فعليه أن يكون على دينهم. وتكرر الحكاية يدل على تكرر المواقف بطبيعة الحال.
والقول المحكي وإن كان مطلقا، فالمتبادر أنه قول الذين كانوا يصرون على رفض الإجابة إلى الدعوة المحمدية، ويقفون منها موقف العناد منهم. وقد ارعوى كثير منهم فآمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما أنزل الله عليه وتابعوه على ما ذكرته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة.
ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار وينعتون الله برب إسرائيل وينسبون إليه الوعود المتنوعة بالعناية بهم ورعايتهم في مختلف الظروف على ما يستفاد من أسفار العهد القديم المتداولة المكتوبة بأقلام متأخرة بعد موسى عليه السلام والتي تأثرت كتابتها بأحداثهم وعقدهم على ما نبهنا عليه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية ( ١٥٧ ) من سورة الأعراف. ولقد كان النصارى يقرءون في الأناجيل المكتوبة بدورها بأقلام متأخرة بعد عيسى عليه السلام أن الذين يؤمنون بعيسى وتعاليمه يدعون أبناء الله، وأن المسيح كان ينعت الله بأنه أبوهم الذي في السماوات. فالمتبادر أن هذا وذاك أيضا مما كان يحفز الذين ظلوا مناوئين للرسالة المحمدية من الطائفتين إلى ذلك التبجح ويتخذونه ذريعة للمناوأة. فردت عليهم الآية بالرد القوي المفحم.
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ ( ١ ) مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٩ ) ﴾ ( ١٩ ).
( ١ ) أن تقولوا : لئلا تقولوا.
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ...................... ﴾ الخ
عبارة الآية واضحة كذلك. وفيها دعوة إلى توجيه الخطاب إلى أهل الكتاب مع تعليل جديد. فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم على فترة وانقطاع من مجيء الرسل ليجدد عهد الله ويبين لهم حدوده. ويدعوهم إلى السير في نطاق ذلك، حتى لا يبقى لهم حجة في البقاء على ما هم فيه من انحراف وشذوذ وانقسام. وحتى لا يقولوا : إنه لم يأتهم بشير ونذير يبين لهم ما هم عليه من خطأ وضلال.
والجملة الأخيرة في مقامها ذات مفهوم جديد. فالله قدير على كل شيء. ولا يحد قدرته شيء. وهو الذي أرسل الأولين الذين يعترفون بهم. وليس بدعا على قدرته أن يرسل رسولا من جديد.
ولقد روى الطبري أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا لليهود : اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته. فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا : ما قلنا لكم هذا، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده، فأنزل الله الآية.
ويلحظ أن الآية موجهة إلى أهل الكتاب مثل الآية ( ١٥ ) المقاربة لها في الصيغة ؛ حيث يتبادر أكثر أن تكون استمرارا في السياق الاستطرادي وجزءا منه. وهذا لا يمنع أن يكون الجماعة المذكورون في الرواية قد قالوا لجماعة اليهود ما قالوا، وأن جماعة اليهود قد ردوا عليهم بما ردوا في موقف ما.
وأسلوب الآية قوي في صدد الدعوة المحمدية وتوجيهها إلى أهل الكتاب. وفيه صراحة تدعم صراحة الآية ( ١٥ ) في شمول الدعوة لأهل الكتاب فضلا عن غيرهم.
وعلى ضوء ما جاء في الآيتين ( ١٥- ١٦ ) يصح القول : إنهما في صدد تقرير أن حكمة الله تعالى قد اقتضت إرسال محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد فترة انقطاع الرسل بالنور والكتاب المبين ليبين للناس وبخاصة لأهل الكتاب حدود الله ويحل مشاكلهم ويصحح انحرافاتهم ويستجيب إلى حاجاتهم ويجمعهم جميعا تحت لواء الدين الحق الذي أرسله الله به.
والآية قد جمعت تعابير ( الرسول ) و ( البشير ) و ( النذير ) معا على معنى أن مهمة الرسول هي التبشير والإنذار. وفي هذا رد على ما قاله بعض المستشرقين اعتباطا من أن القرآن كان يفرق بين معاني النذير والرسول، وأنه مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فترة كان يتحاشى فيها أن يقول بأنه رسول ويكتفي بالقول إنه نذير ومنذر، مع أن هذا غير صحيح أيضا ؛ لأن القرآن وصف النبي بالرسول منذ وقت مبكر في مكة، وفي أوائل ما نزل من السور ( الآية ١٥ من سورة المزمل ) ثم تكرر وصفه بالرسالة في آيات كثيرة أخرى مكية، ولأن في القرآن المكي آيات كثيرة تفيد أن التبشير والإنذار هما مهمة الرسول.
هذا، والسلسلة التي تبتدئ بالآية ( ١٢ ) مصبوبة كلها على كون مفهوم ( أهل الكتاب ) هم اليهود والنصارى. وفي هذا تدعيم لما قلناه في آخر تفسير الآية ( ٥ ).
ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون هذا الرسول البشير النذير الذي هو خاتم النبيين كما جاء في الآية ( ٤٠ ) من سورة الأحزاب. وأن يكون هذا الدين هو جماع الهدى والحق ليكون دين الإنسانية جميعا ويظهر على الدين كله كما جاء في آية سورة الفتح ( ٢٨ ) والصف ( ٩ ) فشاءت حكمته تبعا لذلك أن يكون كاملا تاما مستجيبا لكل حاجات البشر وحالا لكل مشاكلهم على اختلاف مستوياتها وأنواعها كما جاء في الآية الثالثة من هذه السورة وآيات سورة النحل ( ٨٩ ) والأنعام ( ٣٧ ) والأعراف ( ١٥٧ ). وكان في ذلك كله أعظم شرف للجنس العربي في دور عروبته الصريحة ؛ لأنه منه وكتابه بلغته. وقد حمل بذلك أعظم وأشرف رسالة ومسؤولية إنسانية خالدة. ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) ( ١ )١ولقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) ( ٢ )٢.
وهذا الحديث يساق في سياق الآيات التي نحن في صددها التي تهتف بأهل الكتاب الذين يستفاد من السياق السابق أن المقصود بهم اليهود والنصارى، وأنه قد جاءهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نذيرا وبشيرا على فترة من الرسل لئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير وينبغي أن لا يكون هذا الحديث والحالة هذه حاجبا للحقيقة القرآنية المقررة في آيات كثيرة بأن مصير غيرهم من جميع النحل والملل والفئات الذين يسمعون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يؤمنون به هو نفس المصير.
١ التاج ج ٣ ص ٣٠٥..
٢ التاج ج ١ ص ٢٠..
( ١ ) وجعلكم ملوكا : أكثر المفسرين على أن هذا التعبير قد قصد به ما تيسر لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من الحرية وملك النفس بعد العبودية لفرعون مصر. وأوردوا حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) وقد يوجه هذا إطلاق العبارة على جميع بني إسرائيل.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ( ١ ) وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ( ٢٠ ) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( ٢١ ) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( ٢٢ ) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( ٢ ) أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ( ٣ ) ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٣ ) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( ٢٤ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٥ ) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) ﴾ ( ٢٠ – ٢٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا....................... ﴾
والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين.
ورد على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقر بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد، وما كتبه عليهم من شتات وذلة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم.
احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه السلام حينما أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول في الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا، ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف، وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل لذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا.
وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن، وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل. وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا ؛ لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن.
وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون : إنها أرض تدر لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك، ثم قالوا : ولكن سكانها أقوياء، ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق، ومدنهم حصينة، وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا : لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد، فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل، ويبثا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما، وكادوا أن يرجموهما، فغضب الرب عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبدية يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.
وفي كتب التفسير ( ١ )١بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات ( ٢ )٢أن طوله كان ٣٣٣٣ ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال لها : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها : ألا أطحنهم برجلي، قالت : بل خل عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول ؛ حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر.
ولقد وقف المفسرون عند جملة :﴿ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ﴾ فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المن والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا : إن كلمة ﴿ العالمين ﴾ إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حق وصواب.
ولقد وقفوا كذلك عند جملة :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ وقالوا : إنها لا تعني الملك بمعناه الشهر بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة ( وجعل منكم أو فيكم ملوكا ) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة : لا أعلم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر : هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم. فقال له : إنك لست فقيرا. فقال : وإن لي خادما أيضا. فقال له : إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد.
ولقد وقفوا عند كلمة ﴿ المقدسة ﴾ فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك، أو أن الله قدسها وباركها ؛ لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور، أو فلسطين والأردن.
وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف ( ١٣٧ ) جملة :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ﴾ وفي الآية الأولى من سورة الإسراء :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ وفي آية سورة الأنبياء ( ٧١ ) ﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾. ونص آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر..... ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح ( ١٢ ) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى، وفي سفر التكوين خبر تجلي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلى الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من ( النيل إلى الفرات ) أبديا، ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف ( ١٣٧ ) وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك.
والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف، ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم، ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجل في أسفارهم. بحيث يصح القول بجزم : إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حق استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال، ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية، فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا، وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة، ونص هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا ( ١ )٣ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول : إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة ( ٢ )٤. وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها، وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى، وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حق ومانع لكل إمكان لخلافه، وأن ما قد تيسر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب، وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم.
ولقد نبه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجبل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد، ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصح أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية. وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله.
ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدل على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اخ
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ( ١ ) وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ( ٢٠ ) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( ٢١ ) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( ٢٢ ) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( ٢ ) أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ( ٣ ) ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٣ ) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( ٢٤ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٥ ) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) ﴾ ( ٢٠ – ٢٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا....................... ﴾
والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين.
ورد على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقر بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد، وما كتبه عليهم من شتات وذلة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم.
احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه السلام حينما أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول في الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا، ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف، وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل لذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا.
وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن، وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل. وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا ؛ لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن.
وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون : إنها أرض تدر لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك، ثم قالوا : ولكن سكانها أقوياء، ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق، ومدنهم حصينة، وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا : لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد، فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل، ويبثا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما، وكادوا أن يرجموهما، فغضب الرب عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبدية يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.
وفي كتب التفسير ( ١ )١بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات ( ٢ )٢أن طوله كان ٣٣٣٣ ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال لها : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها : ألا أطحنهم برجلي، قالت : بل خل عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول ؛ حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر.
ولقد وقف المفسرون عند جملة :﴿ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ﴾ فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المن والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا : إن كلمة ﴿ العالمين ﴾ إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حق وصواب.
ولقد وقفوا كذلك عند جملة :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ وقالوا : إنها لا تعني الملك بمعناه الشهر بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة ( وجعل منكم أو فيكم ملوكا ) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة : لا أعلم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر : هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم. فقال له : إنك لست فقيرا. فقال : وإن لي خادما أيضا. فقال له : إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد.
ولقد وقفوا عند كلمة ﴿ المقدسة ﴾ فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك، أو أن الله قدسها وباركها ؛ لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور، أو فلسطين والأردن.
وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف ( ١٣٧ ) جملة :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ﴾ وفي الآية الأولى من سورة الإسراء :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ وفي آية سورة الأنبياء ( ٧١ ) ﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾. ونص آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر..... ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح ( ١٢ ) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى، وفي سفر التكوين خبر تجلي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلى الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من ( النيل إلى الفرات ) أبديا، ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف ( ١٣٧ ) وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك.
والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف، ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم، ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجل في أسفارهم. بحيث يصح القول بجزم : إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حق استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال، ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية، فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا، وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة، ونص هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا ( ١ )٣ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول : إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة ( ٢ )٤. وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها، وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى، وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حق ومانع لكل إمكان لخلافه، وأن ما قد تيسر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب، وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم.
ولقد نبه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجبل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد، ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصح أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية. وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله.
ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدل على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اخ
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ( ١ ) وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ( ٢٠ ) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( ٢١ ) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( ٢٢ ) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( ٢ ) أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ( ٣ ) ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٣ ) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( ٢٤ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٥ ) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) ﴾ ( ٢٠ – ٢٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا....................... ﴾
والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين.
ورد على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقر بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد، وما كتبه عليهم من شتات وذلة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم.
احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه السلام حينما أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول في الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا، ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف، وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل لذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا.
وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن، وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل. وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا ؛ لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن.
وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون : إنها أرض تدر لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك، ثم قالوا : ولكن سكانها أقوياء، ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق، ومدنهم حصينة، وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا : لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد، فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل، ويبثا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما، وكادوا أن يرجموهما، فغضب الرب عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبدية يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.
وفي كتب التفسير ( ١ )١بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات ( ٢ )٢أن طوله كان ٣٣٣٣ ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال لها : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها : ألا أطحنهم برجلي، قالت : بل خل عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول ؛ حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر.
ولقد وقف المفسرون عند جملة :﴿ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ﴾ فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المن والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا : إن كلمة ﴿ العالمين ﴾ إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حق وصواب.
ولقد وقفوا كذلك عند جملة :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ وقالوا : إنها لا تعني الملك بمعناه الشهر بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة ( وجعل منكم أو فيكم ملوكا ) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة : لا أعلم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر : هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم. فقال له : إنك لست فقيرا. فقال : وإن لي خادما أيضا. فقال له : إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد.
ولقد وقفوا عند كلمة ﴿ المقدسة ﴾ فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك، أو أن الله قدسها وباركها ؛ لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور، أو فلسطين والأردن.
وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف ( ١٣٧ ) جملة :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ﴾ وفي الآية الأولى من سورة الإسراء :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ وفي آية سورة الأنبياء ( ٧١ ) ﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾. ونص آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر..... ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح ( ١٢ ) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى، وفي سفر التكوين خبر تجلي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلى الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من ( النيل إلى الفرات ) أبديا، ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف ( ١٣٧ ) وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك.
والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف، ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم، ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجل في أسفارهم. بحيث يصح القول بجزم : إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حق استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال، ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية، فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا، وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة، ونص هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا ( ١ )٣ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول : إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة ( ٢ )٤. وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها، وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى، وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حق ومانع لكل إمكان لخلافه، وأن ما قد تيسر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب، وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم.
ولقد نبه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجبل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد، ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصح أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية. وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله.
ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدل على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اخ
( ٢ ) من الذين يخافون : هنا محذوف مقدر أي يخافون الله.
( ٣ ) أنعم الله عليهما : وهنا أيضا محذوف مقدر أي شملهما الله بنعمة الهدى والتقوى والتثبيت والاعتماد على الله.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ( ١ ) وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ( ٢٠ ) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( ٢١ ) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( ٢٢ ) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( ٢ ) أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ( ٣ ) ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٣ ) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( ٢٤ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٥ ) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) ﴾ ( ٢٠ – ٢٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا....................... ﴾
والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين.
ورد على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقر بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد، وما كتبه عليهم من شتات وذلة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم.
احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه السلام حينما أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول في الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا، ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف، وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل لذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا.
وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن، وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل. وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا ؛ لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن.
وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون : إنها أرض تدر لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك، ثم قالوا : ولكن سكانها أقوياء، ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق، ومدنهم حصينة، وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا : لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد، فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل، ويبثا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما، وكادوا أن يرجموهما، فغضب الرب عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبدية يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.
وفي كتب التفسير ( ١ )١بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات ( ٢ )٢أن طوله كان ٣٣٣٣ ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال لها : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها : ألا أطحنهم برجلي، قالت : بل خل عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول ؛ حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر.
ولقد وقف المفسرون عند جملة :﴿ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ﴾ فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المن والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا : إن كلمة ﴿ العالمين ﴾ إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حق وصواب.
ولقد وقفوا كذلك عند جملة :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ وقالوا : إنها لا تعني الملك بمعناه الشهر بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة ( وجعل منكم أو فيكم ملوكا ) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة : لا أعلم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر : هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم. فقال له : إنك لست فقيرا. فقال : وإن لي خادما أيضا. فقال له : إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد.
ولقد وقفوا عند كلمة ﴿ المقدسة ﴾ فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك، أو أن الله قدسها وباركها ؛ لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور، أو فلسطين والأردن.
وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف ( ١٣٧ ) جملة :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ﴾ وفي الآية الأولى من سورة الإسراء :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ وفي آية سورة الأنبياء ( ٧١ ) ﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾. ونص آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر..... ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح ( ١٢ ) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى، وفي سفر التكوين خبر تجلي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلى الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من ( النيل إلى الفرات ) أبديا، ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف ( ١٣٧ ) وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك.
والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف، ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم، ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجل في أسفارهم. بحيث يصح القول بجزم : إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حق استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال، ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية، فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا، وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة، ونص هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا ( ١ )٣ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول : إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة ( ٢ )٤. وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها، وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى، وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حق ومانع لكل إمكان لخلافه، وأن ما قد تيسر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب، وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم.
ولقد نبه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجبل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد، ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصح أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية. وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله.
ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدل على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اخ
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ( ١ ) وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ( ٢٠ ) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( ٢١ ) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( ٢٢ ) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( ٢ ) أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ( ٣ ) ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٣ ) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( ٢٤ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٥ ) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) ﴾ ( ٢٠ – ٢٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا....................... ﴾
والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين.
ورد على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقر بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد، وما كتبه عليهم من شتات وذلة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم.
احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه السلام حينما أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول في الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا، ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف، وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل لذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا.
وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن، وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل. وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا ؛ لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن.
وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون : إنها أرض تدر لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك، ثم قالوا : ولكن سكانها أقوياء، ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق، ومدنهم حصينة، وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا : لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد، فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل، ويبثا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما، وكادوا أن يرجموهما، فغضب الرب عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبدية يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.
وفي كتب التفسير ( ١ )١بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات ( ٢ )٢أن طوله كان ٣٣٣٣ ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال لها : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها : ألا أطحنهم برجلي، قالت : بل خل عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول ؛ حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر.
ولقد وقف المفسرون عند جملة :﴿ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ﴾ فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المن والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا : إن كلمة ﴿ العالمين ﴾ إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حق وصواب.
ولقد وقفوا كذلك عند جملة :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ وقالوا : إنها لا تعني الملك بمعناه الشهر بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة ( وجعل منكم أو فيكم ملوكا ) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة : لا أعلم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر : هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم. فقال له : إنك لست فقيرا. فقال : وإن لي خادما أيضا. فقال له : إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد.
ولقد وقفوا عند كلمة ﴿ المقدسة ﴾ فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك، أو أن الله قدسها وباركها ؛ لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور، أو فلسطين والأردن.
وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف ( ١٣٧ ) جملة :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ﴾ وفي الآية الأولى من سورة الإسراء :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ وفي آية سورة الأنبياء ( ٧١ ) ﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾. ونص آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر..... ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح ( ١٢ ) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى، وفي سفر التكوين خبر تجلي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلى الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من ( النيل إلى الفرات ) أبديا، ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف ( ١٣٧ ) وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك.
والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف، ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم، ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجل في أسفارهم. بحيث يصح القول بجزم : إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حق استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال، ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية، فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا، وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة، ونص هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا ( ١ )٣ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول : إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة ( ٢ )٤. وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها، وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى، وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حق ومانع لكل إمكان لخلافه، وأن ما قد تيسر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب، وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم.
ولقد نبه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجبل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد، ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصح أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية. وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله.
ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدل على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اخ
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ( ١ ) وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ( ٢٠ ) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( ٢١ ) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( ٢٢ ) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( ٢ ) أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ( ٣ ) ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٣ ) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( ٢٤ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٥ ) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) ﴾ ( ٢٠ – ٢٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا....................... ﴾
والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين.
ورد على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقر بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد، وما كتبه عليهم من شتات وذلة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم.
احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه السلام حينما أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول في الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا، ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف، وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل لذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا.
وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن، وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل. وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا ؛ لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن.
وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون : إنها أرض تدر لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك، ثم قالوا : ولكن سكانها أقوياء، ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق، ومدنهم حصينة، وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا : لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد، فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل، ويبثا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما، وكادوا أن يرجموهما، فغضب الرب عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبدية يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.
وفي كتب التفسير ( ١ )١بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات ( ٢ )٢أن طوله كان ٣٣٣٣ ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال لها : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها : ألا أطحنهم برجلي، قالت : بل خل عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول ؛ حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر.
ولقد وقف المفسرون عند جملة :﴿ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ﴾ فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المن والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا : إن كلمة ﴿ العالمين ﴾ إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حق وصواب.
ولقد وقفوا كذلك عند جملة :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ وقالوا : إنها لا تعني الملك بمعناه الشهر بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة ( وجعل منكم أو فيكم ملوكا ) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة : لا أعلم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر : هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم. فقال له : إنك لست فقيرا. فقال : وإن لي خادما أيضا. فقال له : إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد.
ولقد وقفوا عند كلمة ﴿ المقدسة ﴾ فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك، أو أن الله قدسها وباركها ؛ لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور، أو فلسطين والأردن.
وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف ( ١٣٧ ) جملة :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ﴾ وفي الآية الأولى من سورة الإسراء :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ وفي آية سورة الأنبياء ( ٧١ ) ﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾. ونص آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر..... ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح ( ١٢ ) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى، وفي سفر التكوين خبر تجلي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلى الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من ( النيل إلى الفرات ) أبديا، ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف ( ١٣٧ ) وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك.
والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف، ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم، ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجل في أسفارهم. بحيث يصح القول بجزم : إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حق استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال، ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية، فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا، وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة، ونص هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا ( ١ )٣ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول : إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة ( ٢ )٤. وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها، وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى، وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حق ومانع لكل إمكان لخلافه، وأن ما قد تيسر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب، وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم.
ولقد نبه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجبل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد، ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصح أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية. وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله.
ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدل على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اخ
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ( ١ ) وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ( ٢٠ ) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( ٢١ ) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( ٢٢ ) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( ٢ ) أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ( ٣ ) ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٣ ) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( ٢٤ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٥ ) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) ﴾ ( ٢٠ – ٢٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا....................... ﴾
والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين.
ورد على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقر بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد، وما كتبه عليهم من شتات وذلة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم.
احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه السلام حينما أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول في الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا، ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف، وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل لذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا.
وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن، وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل. وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا ؛ لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن.
وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون : إنها أرض تدر لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك، ثم قالوا : ولكن سكانها أقوياء، ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق، ومدنهم حصينة، وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا : لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد، فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل، ويبثا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما، وكادوا أن يرجموهما، فغضب الرب عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبدية يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.
وفي كتب التفسير ( ١ )١بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات ( ٢ )٢أن طوله كان ٣٣٣٣ ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال لها : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها : ألا أطحنهم برجلي، قالت : بل خل عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول ؛ حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر.
ولقد وقف المفسرون عند جملة :﴿ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ﴾ فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المن والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا : إن كلمة ﴿ العالمين ﴾ إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حق وصواب.
ولقد وقفوا كذلك عند جملة :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ وقالوا : إنها لا تعني الملك بمعناه الشهر بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة ( وجعل منكم أو فيكم ملوكا ) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة : لا أعلم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر : هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم. فقال له : إنك لست فقيرا. فقال : وإن لي خادما أيضا. فقال له : إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد.
ولقد وقفوا عند كلمة ﴿ المقدسة ﴾ فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك، أو أن الله قدسها وباركها ؛ لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور، أو فلسطين والأردن.
وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف ( ١٣٧ ) جملة :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ﴾ وفي الآية الأولى من سورة الإسراء :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ وفي آية سورة الأنبياء ( ٧١ ) ﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾. ونص آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر..... ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح ( ١٢ ) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى، وفي سفر التكوين خبر تجلي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلى الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من ( النيل إلى الفرات ) أبديا، ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف ( ١٣٧ ) وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك.
والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف، ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم، ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجل في أسفارهم. بحيث يصح القول بجزم : إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حق استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال، ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية، فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا، وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة، ونص هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا ( ١ )٣ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول : إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة ( ٢ )٤. وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها، وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى، وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حق ومانع لكل إمكان لخلافه، وأن ما قد تيسر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب، وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم.
ولقد نبه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجبل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد، ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصح أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية. وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله.
ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدل على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اخ
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ٢٧ ) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ٢٨ ) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ( ١ ) فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ( ٢٩ ) فَطَوَّعَتْ ( ٢ ) لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٣٠ ) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ ( ٣ ) فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ ( ٤ ) أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( ٣١ ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ( ٥ ) فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( ٣٢ ) ﴾ ( ٢٧ -٣٢ ).
تعليق على الآية :
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور
عبارة الآيات واضحة. وقد أمرت أولاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين قربا لله قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر. واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه. أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك. ومنددة بهم ؛ لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا، وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها : إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي ؛ حيث يفيد هذا أن ضمير ﴿ عليهم ﴾ عائد على بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة. وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير. وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة. وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا. وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين. ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود. ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه. وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعوا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم.
ولقد تعددت روايات المفسرين ( ١ )١في تأويل ﴿ ابنى آدم ﴾ حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه، وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم. وقد قال بعد أن استعرض الروايات : إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب، وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسرين أيضا.
وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول، وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل، وهما الولدان الأولان لآدم. وكان قابيل البكر منهما. والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم ؛ حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين، وكون القصة القرآنية هي نفس القصة. ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل ) حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا.
وبين النص القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر. وملخص ما جاء فيه :( أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم. وأن كلا منهما قدم للرب تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل، وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء، فلما خرجا وثب عليه فقتله، وسأل الرب قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو ؟ فأنكر. فقال له : إن دمه يصرخ إلي من الأرض، ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه قوتها، فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن ) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلا قصة الغراب. ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين.
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه، وتقبل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه. وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله. وأغرب بعضهم فذكر شدة توجع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيا فصيحا بذلك ؛ حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يدعم ما قلناه قبل.
والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير، وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه. وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عز وجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه، ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا. ومن عفا عن دم نفس وحماها، فكأنما أحيا الناس جميعا. ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات.
ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف. وهي الحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا. ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل ؟ فقال : أي والذي لا إله غيره. وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا.
وينطوي في جملة :﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ عظات اجتماعية بالغة. فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته. ومستحل دمها مثل مستحل دم كل نفس أو جميع النفوس. وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة. وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد. وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا. وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم، وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري.
واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليست من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان.
والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل ؛ حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر.
وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل. غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك ؛ لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية، على ما ذكرناه قبل.
هذا، ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية ( ٤ ) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود. وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود. وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته.
وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة، وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني قريظة آخر من نكل بهم منهم. وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار.
قيل : فهذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه ) ( ١ )٢وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه :( قال سعد : يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : كن كابن آدم القائل :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾ ( ٢ )٣ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها : إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان :( أ
١ انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٢ هذا النص منقول عن التاج ج ٥ ص ٢٧٥ والجملة الأخيرة منه في نص ابن كثير هكذا (إنه كان حريصا على قتل صاحبه)..
٣ التاج ج ٥ ص ٢٧٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ٢٧ ) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ٢٨ ) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ( ١ ) فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ( ٢٩ ) فَطَوَّعَتْ ( ٢ ) لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٣٠ ) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ ( ٣ ) فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ ( ٤ ) أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( ٣١ ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ( ٥ ) فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( ٣٢ ) ﴾ ( ٢٧ -٣٢ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور
عبارة الآيات واضحة. وقد أمرت أولاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين قربا لله قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر. واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه. أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك. ومنددة بهم ؛ لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا، وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها : إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي ؛ حيث يفيد هذا أن ضمير ﴿ عليهم ﴾ عائد على بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة. وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير. وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة. وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا. وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين. ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود. ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه. وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعوا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم.
ولقد تعددت روايات المفسرين ( ١ )١في تأويل ﴿ ابنى آدم ﴾ حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه، وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم. وقد قال بعد أن استعرض الروايات : إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب، وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسرين أيضا.
وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول، وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل، وهما الولدان الأولان لآدم. وكان قابيل البكر منهما. والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم ؛ حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين، وكون القصة القرآنية هي نفس القصة. ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل ) حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا.
وبين النص القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر. وملخص ما جاء فيه :( أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم. وأن كلا منهما قدم للرب تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل، وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء، فلما خرجا وثب عليه فقتله، وسأل الرب قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو ؟ فأنكر. فقال له : إن دمه يصرخ إلي من الأرض، ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه قوتها، فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن ) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلا قصة الغراب. ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين.
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه، وتقبل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه. وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله. وأغرب بعضهم فذكر شدة توجع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيا فصيحا بذلك ؛ حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يدعم ما قلناه قبل.
والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير، وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه. وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عز وجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه، ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا. ومن عفا عن دم نفس وحماها، فكأنما أحيا الناس جميعا. ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات.
ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف. وهي الحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا. ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل ؟ فقال : أي والذي لا إله غيره. وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا.
وينطوي في جملة :﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ عظات اجتماعية بالغة. فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته. ومستحل دمها مثل مستحل دم كل نفس أو جميع النفوس. وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة. وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد. وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا. وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم، وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري.
واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليست من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان.
والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل ؛ حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر.
وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل. غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك ؛ لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية، على ما ذكرناه قبل.
هذا، ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية ( ٤ ) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود. وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود. وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته.
وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة، وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني قريظة آخر من نكل بهم منهم. وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار.
قيل : فهذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه ) ( ١ )٢وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه :( قال سعد : يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : كن كابن آدم القائل :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾ ( ٢ )٣ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها : إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان :( أ
١ انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٢ هذا النص منقول عن التاج ج ٥ ص ٢٧٥ والجملة الأخيرة منه في نص ابن كثير هكذا (إنه كان حريصا على قتل صاحبه)..
٣ التاج ج ٥ ص ٢٧٥..

( ١ ) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك : تبوء بمعنى تعود أو تحمل وأوجه التأويلات للجملة ( إني لا أبسط يدي إليك لمقاتلتك، وأفضل أن تحمل وحدك إثم قتلك إياي، ثم إثم معصيتك التي لم يقبل الله قربانك بسببها ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ٢٧ ) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ٢٨ ) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ( ١ ) فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ( ٢٩ ) فَطَوَّعَتْ ( ٢ ) لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٣٠ ) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ ( ٣ ) فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ ( ٤ ) أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( ٣١ ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ( ٥ ) فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( ٣٢ ) ﴾ ( ٢٧ -٣٢ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور
عبارة الآيات واضحة. وقد أمرت أولاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين قربا لله قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر. واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه. أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك. ومنددة بهم ؛ لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا، وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها : إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي ؛ حيث يفيد هذا أن ضمير ﴿ عليهم ﴾ عائد على بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة. وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير. وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة. وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا. وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين. ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود. ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه. وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعوا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم.
ولقد تعددت روايات المفسرين ( ١ )١في تأويل ﴿ ابنى آدم ﴾ حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه، وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم. وقد قال بعد أن استعرض الروايات : إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب، وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسرين أيضا.
وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول، وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل، وهما الولدان الأولان لآدم. وكان قابيل البكر منهما. والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم ؛ حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين، وكون القصة القرآنية هي نفس القصة. ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل ) حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا.
وبين النص القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر. وملخص ما جاء فيه :( أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم. وأن كلا منهما قدم للرب تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل، وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء، فلما خرجا وثب عليه فقتله، وسأل الرب قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو ؟ فأنكر. فقال له : إن دمه يصرخ إلي من الأرض، ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه قوتها، فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن ) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلا قصة الغراب. ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين.
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه، وتقبل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه. وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله. وأغرب بعضهم فذكر شدة توجع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيا فصيحا بذلك ؛ حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يدعم ما قلناه قبل.
والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير، وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه. وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عز وجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه، ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا. ومن عفا عن دم نفس وحماها، فكأنما أحيا الناس جميعا. ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات.
ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف. وهي الحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا. ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل ؟ فقال : أي والذي لا إله غيره. وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا.
وينطوي في جملة :﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ عظات اجتماعية بالغة. فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته. ومستحل دمها مثل مستحل دم كل نفس أو جميع النفوس. وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة. وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد. وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا. وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم، وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري.
واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليست من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان.
والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل ؛ حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر.
وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل. غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك ؛ لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية، على ما ذكرناه قبل.
هذا، ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية ( ٤ ) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود. وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود. وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته.
وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة، وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني قريظة آخر من نكل بهم منهم. وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار.
قيل : فهذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه ) ( ١ )٢وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه :( قال سعد : يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : كن كابن آدم القائل :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾ ( ٢ )٣ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها : إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان :( أ
١ انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٢ هذا النص منقول عن التاج ج ٥ ص ٢٧٥ والجملة الأخيرة منه في نص ابن كثير هكذا (إنه كان حريصا على قتل صاحبه)..
٣ التاج ج ٥ ص ٢٧٥..

( ٢ ) فطوعت : بمعنى أساغت ورضيت وسولت وزينت.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ٢٧ ) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ٢٨ ) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ( ١ ) فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ( ٢٩ ) فَطَوَّعَتْ ( ٢ ) لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٣٠ ) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ ( ٣ ) فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ ( ٤ ) أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( ٣١ ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ( ٥ ) فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( ٣٢ ) ﴾ ( ٢٧ -٣٢ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور
عبارة الآيات واضحة. وقد أمرت أولاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين قربا لله قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر. واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه. أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك. ومنددة بهم ؛ لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا، وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها : إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي ؛ حيث يفيد هذا أن ضمير ﴿ عليهم ﴾ عائد على بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة. وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير. وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة. وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا. وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين. ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود. ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه. وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعوا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم.
ولقد تعددت روايات المفسرين ( ١ )١في تأويل ﴿ ابنى آدم ﴾ حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه، وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم. وقد قال بعد أن استعرض الروايات : إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب، وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسرين أيضا.
وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول، وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل، وهما الولدان الأولان لآدم. وكان قابيل البكر منهما. والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم ؛ حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين، وكون القصة القرآنية هي نفس القصة. ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل ) حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا.
وبين النص القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر. وملخص ما جاء فيه :( أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم. وأن كلا منهما قدم للرب تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل، وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء، فلما خرجا وثب عليه فقتله، وسأل الرب قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو ؟ فأنكر. فقال له : إن دمه يصرخ إلي من الأرض، ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه قوتها، فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن ) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلا قصة الغراب. ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين.
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه، وتقبل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه. وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله. وأغرب بعضهم فذكر شدة توجع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيا فصيحا بذلك ؛ حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يدعم ما قلناه قبل.
والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير، وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه. وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عز وجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه، ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا. ومن عفا عن دم نفس وحماها، فكأنما أحيا الناس جميعا. ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات.
ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف. وهي الحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا. ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل ؟ فقال : أي والذي لا إله غيره. وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا.
وينطوي في جملة :﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ عظات اجتماعية بالغة. فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته. ومستحل دمها مثل مستحل دم كل نفس أو جميع النفوس. وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة. وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد. وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا. وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم، وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري.
واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليست من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان.
والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل ؛ حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر.
وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل. غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك ؛ لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية، على ما ذكرناه قبل.
هذا، ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية ( ٤ ) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود. وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود. وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته.
وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة، وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني قريظة آخر من نكل بهم منهم. وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار.
قيل : فهذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه ) ( ١ )٢وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه :( قال سعد : يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : كن كابن آدم القائل :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾ ( ٢ )٣ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها : إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان :( أ
١ انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٢ هذا النص منقول عن التاج ج ٥ ص ٢٧٥ والجملة الأخيرة منه في نص ابن كثير هكذا (إنه كان حريصا على قتل صاحبه)..
٣ التاج ج ٥ ص ٢٧٥..

( ٣ ) يبحث : يحفر وينبش.
( ٤ ) سوأة : هنا كناية عن الجثة بعد الموت.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ٢٧ ) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ٢٨ ) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ( ١ ) فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ( ٢٩ ) فَطَوَّعَتْ ( ٢ ) لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٣٠ ) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ ( ٣ ) فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ ( ٤ ) أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( ٣١ ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ( ٥ ) فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( ٣٢ ) ﴾ ( ٢٧ -٣٢ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور
عبارة الآيات واضحة. وقد أمرت أولاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين قربا لله قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر. واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه. أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك. ومنددة بهم ؛ لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا، وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها : إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي ؛ حيث يفيد هذا أن ضمير ﴿ عليهم ﴾ عائد على بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة. وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير. وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة. وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا. وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين. ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود. ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه. وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعوا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم.
ولقد تعددت روايات المفسرين ( ١ )١في تأويل ﴿ ابنى آدم ﴾ حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه، وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم. وقد قال بعد أن استعرض الروايات : إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب، وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسرين أيضا.
وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول، وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل، وهما الولدان الأولان لآدم. وكان قابيل البكر منهما. والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم ؛ حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين، وكون القصة القرآنية هي نفس القصة. ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل ) حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا.
وبين النص القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر. وملخص ما جاء فيه :( أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم. وأن كلا منهما قدم للرب تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل، وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء، فلما خرجا وثب عليه فقتله، وسأل الرب قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو ؟ فأنكر. فقال له : إن دمه يصرخ إلي من الأرض، ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه قوتها، فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن ) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلا قصة الغراب. ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين.
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه، وتقبل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه. وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله. وأغرب بعضهم فذكر شدة توجع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيا فصيحا بذلك ؛ حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يدعم ما قلناه قبل.
والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير، وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه. وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عز وجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه، ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا. ومن عفا عن دم نفس وحماها، فكأنما أحيا الناس جميعا. ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات.
ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف. وهي الحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا. ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل ؟ فقال : أي والذي لا إله غيره. وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا.
وينطوي في جملة :﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ عظات اجتماعية بالغة. فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته. ومستحل دمها مثل مستحل دم كل نفس أو جميع النفوس. وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة. وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد. وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا. وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم، وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري.
واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليست من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان.
والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل ؛ حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر.
وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل. غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك ؛ لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية، على ما ذكرناه قبل.
هذا، ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية ( ٤ ) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود. وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود. وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته.
وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة، وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني قريظة آخر من نكل بهم منهم. وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار.
قيل : فهذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه ) ( ١ )٢وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه :( قال سعد : يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : كن كابن آدم القائل :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾ ( ٢ )٣ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها : إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان :( أ
١ انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٢ هذا النص منقول عن التاج ج ٥ ص ٢٧٥ والجملة الأخيرة منه في نص ابن كثير هكذا (إنه كان حريصا على قتل صاحبه)..
٣ التاج ج ٥ ص ٢٧٥..

( ٥ ) أو فساد في الأرض : معطوفة على ﴿ بغير حق ﴾ أي من قتل نفسا بقصد البغي والفساد في الأرض.
( ٦ ) ومن أحياها : ومن حافظ على حياة النفس.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ٢٧ ) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ٢٨ ) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ( ١ ) فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ( ٢٩ ) فَطَوَّعَتْ ( ٢ ) لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٣٠ ) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ ( ٣ ) فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ ( ٤ ) أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( ٣١ ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ( ٥ ) فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( ٣٢ ) ﴾ ( ٢٧ -٣٢ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور
عبارة الآيات واضحة. وقد أمرت أولاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين قربا لله قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر. واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه. أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك. ومنددة بهم ؛ لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا، وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها : إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي ؛ حيث يفيد هذا أن ضمير ﴿ عليهم ﴾ عائد على بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة. وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير. وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة. وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا. وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين. ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود. ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه. وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعوا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم.
ولقد تعددت روايات المفسرين ( ١ )١في تأويل ﴿ ابنى آدم ﴾ حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه، وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم. وقد قال بعد أن استعرض الروايات : إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب، وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسرين أيضا.
وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول، وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل، وهما الولدان الأولان لآدم. وكان قابيل البكر منهما. والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم ؛ حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين، وكون القصة القرآنية هي نفس القصة. ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل ) حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا.
وبين النص القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر. وملخص ما جاء فيه :( أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم. وأن كلا منهما قدم للرب تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل، وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء، فلما خرجا وثب عليه فقتله، وسأل الرب قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو ؟ فأنكر. فقال له : إن دمه يصرخ إلي من الأرض، ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه قوتها، فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن ) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلا قصة الغراب. ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين.
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه، وتقبل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه. وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله. وأغرب بعضهم فذكر شدة توجع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيا فصيحا بذلك ؛ حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يدعم ما قلناه قبل.
والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير، وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه. وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عز وجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه، ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا. ومن عفا عن دم نفس وحماها، فكأنما أحيا الناس جميعا. ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات.
ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف. وهي الحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا. ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل ؟ فقال : أي والذي لا إله غيره. وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا.
وينطوي في جملة :﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ عظات اجتماعية بالغة. فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته. ومستحل دمها مثل مستحل دم كل نفس أو جميع النفوس. وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة. وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد. وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا. وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم، وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري.
واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليست من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان.
والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل ؛ حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر.
وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل. غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك ؛ لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية، على ما ذكرناه قبل.
هذا، ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية ( ٤ ) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود. وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود. وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته.
وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة، وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني قريظة آخر من نكل بهم منهم. وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار.
قيل : فهذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه ) ( ١ )٢وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه :( قال سعد : يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : كن كابن آدم القائل :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾ ( ٢ )٣ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها : إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان :( أ
١ انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٢ هذا النص منقول عن التاج ج ٥ ص ٢٧٥ والجملة الأخيرة منه في نص ابن كثير هكذا (إنه كان حريصا على قتل صاحبه)..
٣ التاج ج ٥ ص ٢٧٥..

( ١ ) من خلاف : بمعنى المخالفة في القطع. فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ ( ١ ) أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٣٣ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ( ٢ ) فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٤ ) ﴾ ( ٣٣ – ٣٤ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِنَّمَا جَزَاءوا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا................ ﴾ الخ
والآية التي بعدها ومدى ما فيهما من تلقين وأحكام
احتوت الآيتان تقريرا إنذاريا وتشريعيا في حق الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا ؛ حيث قررت عقوبة من يقدم على ذلك الجرم الفظيع القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض، بالإضافة إلى العذاب العظيم الذي سينالهم في الآخرة. مع استثناء الذين يتوبون قبل القدرة عليهم والتمكن منهم ؛ حيث يمكن أن ينالهم الله بغفرانه ورحمته.
ولقد روى المفسرون١روايات عديدة كسبب لنزول الآيتين. منها أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله رسوله معاقبتهم بالعقوبات المذكورة في الآية الأولى. ومنها أنها نزلت في المشركين عامة. ومنها أنها نزلت في رهط من عكل وعرينة أسلموا وأقاموا في المدينة، ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : إنهم استوخموا الهواء فأعطاهم ذودا من إبل مع رعاته وأذن لهم بالنزول خارج المدينة وشرب ألبان الإبل، فلما خرجوا قتلوا الرعاة. وفي رواية سملوا عيونهم ثم قتلوهم، واستاقوا الإبل وارتدوا إلى الكفر، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيلا وراءهم، فأسروهم وأتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وتركهم في الحرة حتى هلكوا. وفي رواية أنه أحرقهم بالنار. وهذه الرواية من مرويات البخاري بخلاف يسير٢. ومنها أنها نزلت في قوم هلال بن عويمر الذي وادع النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسم قومه أن لا يعتدوا على أحد من المسلمين، أو على أحد يريد الإسلام. فمر بهم قوم من بني كنانة يريدون الإسلام فشدوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم. وهناك رواية يرويها الطبري والبغوي – ويعزوها الأخير إلى الليث بن سعد – أن الآية نزلت عتابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد تنكيله برهط عكل وعرينة على تسليمه أعينهم ولتحديد عقوبة أمثالهم دون تسميل، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمل بعد ذلك أحدا من أعداء الله بناء على هذه الآية، وأنه ما قام خطيبا إلا نهى عن المثلة.
والذي نستلهمه من روح الآيتين ونظمهما وترتيبهما أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة. وبخاصة الآية الأخيرة التي ذكرت أن كثيرا من بني إسرائيل ظلوا على إسرافهم في الفساد والاعوجاج برغم ما كتب الله عليهم من أحكام وأرسله إليهم من رسل فجاءت الآيتان تحتويان إنذارا وتنديدا جديدين لهم وتشريعا لما يجب أن يكون جزاء من يقف مثل موقفهم.
ومحاربة الله ورسوله تعني كما هو المتبادر الكفر برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربتها بالكيد والأذى والتعطيل والتضامن مع الأعداء. وهذا مما كان يفعله اليهود كما حكاه القرآن عنهم في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء.
وما قلناه من ترجيح كون الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لا يمنع أن تكونا قد نزلتا في ظرف من ظروف نكث اليهود ومظاهرتهم للمشركين، وهو ما ذكرته الرواية الأولى من الروايات الواردة في سبب نزول الآيتين. وإذا صح هذا فيكون في الآيتين كما قلنا قبل قرينة على أنهما نزلتا في وقت كان فيه كتلة قوية من اليهود.
أما حادث رهط بدو عكل وعرينة والتنكيل النبوي بهم الوارد في حديث البخاري والروايات الأخرى، فمن المحتمل أن يكون وقع في ظروف نزول الآيتين فالتبس الأمر على الرواة ونقلوا أنهما نزلتا في صدده. ومن القرائن على ذلك أنه ليس في الآيتين عقوبة تسميل الأعين التي ذكرت الروايات، ومنها رواية البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوقعها عليهم. بل ولعل الرواية التي تذكر أن الآيتين نزلتا بعد التنكيل وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمل بعدها وصار ينهى عن المثلة هي الصحيحة. وقد قال الطبري : إن هذا هو الأولى بالصواب.
وفحوى الآية الثانية من القرائن على أن الآيتين هما في صدد كفار أعداء. فمحاربة الله ورسوله لا يمكن أن تكون إلا من كافر. والآية الثانية تؤذن بقبول توبتهم أي إسلامهم قبل القدرة عليهم أي قبل الانتصار عليهم وأسرهم. وقد جاء هذا في آية في سورة التوبة فيها صراحة بأنها في صدد أعداء مشركين ناكثين للعهد وهي هذه :﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) ﴾ وهذا متمثل بأسلوب آخر في آية سورة الأنفال هذه :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ ( ٣٧ ) وقد يكون في هذه الآية بخاصة تدعيم لما تبادر لنا من أن الآيات في صدد كفار أعداء.
ولقد كان زعماء بني النضير اليهود حينما أجلوا عن المدينة مع قبيلتهم ذهبوا إلى خيبر وتزعموا يهودها وأخذوا يحرضون قبائل العرب المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ويغرونهم بغزو المدينة. وقد ذهبوا إلى مكة فحرضوا قريشا أيضا، وأدى هذا إلى زحف قريش والأحزاب على المدينة. ولقد استمروا على حركاتهم العدوانية بعد وقعة الأحزاب والتنكيل ببني قريظة أيضا مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزحف على خيبر ووادي القرى وينكل بأهلها وبزعماء بني النضير بعد صلح الحديبية مع قريش على ما شرحناه في سياق تفسير سور الحشر والأحزاب والفتح. فمن الجائز أن تكون هذه الآيات، بل وما قبلها في صدد ذلك، وأن تكون نزلت قبل أن يزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم. والله أعلم.
وقد يلحظ أن العقوبات في الآية الأولى غير اعتيادية. ونميل إلى القول : إنها أسلوبية بسبيل تعظيم ما كان من اليهود وزعماء بني النضير من حركات فساد وتأليب وعدوان، وما كان من ذلك من خطر على المسلمين وكيانهم.
وعبارة :﴿ من قبل أن تقدروا عليهم ﴾ في الآية ندم الأعداء الكفار وتوبتهم صدقا عن موقفهم قبل الانتصار عليهم ووقوعهم في الأسر. وينطوي في مبدأ من مبادئ الجهاد في الإسلام. وتمثل التسامح الإسلامي السامي في كل المواقف المماثلة، من حيث إنه يوحي بالإغضاء عما كان منهم قبل إسلامهم ما دام أنهم أسلموا من أنفسهم وقبل القدرة عليهم. وينطوي في هذا تقرير كون إصلاح الناس هو من الأهداف الرئيسية التي يهدف إليها القرآن ورسالة الإسلام ومبادئ الجهاد معا. ومن الحق أن ننبه في هذه المناسبة على أن ما قلناه لا يعني أن لا تقبل توبتهم أي إسلامهم بعد القدرة عليهم. فإن هذا من المقررات القرآنية المحكمة المتكررة بحق كل إنسان مهما عظمت جرائمه، وإن وروده في حالة التوبة قبل القدرة هنا كان متناسبا مع الحالة المذكورة في الآيات كما هو المتبادر. وآية سورة التوبة التي أوردناها آنفا لم تشترط التوبة قبل القدرة وجاءت مطلقة لتشمل قبول التوبة قبل القدرة وبعدها كما هو المتبادر أيضا. والله أعلم.
ومع ما قلناه من أن القرائن تدل على أن الآيات في صدد كفار أعداء وفي صدد مواقف اليهود العدوانية والفسادية فإن أئمة ( ١ )٣التأويل والفقه رأوا على ما ذكره الطبري وغيره من المفسرين في صيغة الآيتين التشريعية التامة والمطلقة ما جعلهم يعتبرونها شاملة للمسلمين أيضا بالإضافة إلى الكفار ويصوغون لها قواعد فقهية بعنوان ( الحرابة ) ويرونها قابلة للتطبيق على لصوص المسلمين المهاجرين بلصوصيتهم المصرين على ذلك، وبخاصة في الصحراء والمكابرين في الفسق والفجور والحاملين للسلاح على إخوانهم المسلمين والقاطعين للسبل والمخيفين للناس مسلميهم وذمييهم والمعتدين على أموالهم وأملاكهم وأعراضهم بالإرهاب والقوة. وقد يكون فرض ظهور أفراد ينتسبون إلى الإسلام يقترفون مثل هذه الأفعال الإرهابية واردا، ويكون تطبيق العقوبات الواردة في الآية الأولى عليهم وتسمية أعمالهم باسم ( الحرابة ) سائغا. غير أن قبول التوبة منهم قبل القدرة عليهم، وهو ما تضمنته الآية الثانية يعني فيما يعينه إسقاط قصاص القتل عنهم إذا قتلوا وحد القطع إذا سرقوا وحد الرجم والجلد إذا زنوا وهدر ما أحدثوه من جراحات ودمروه من أملاك ونهبوه من أموال. ولا يصح أن يفرض سواغ ذلك بالنسبة لمسلم تحت السلطان الإسلامي ؛ حيث يكون على هذا السلطان واجب مصادرتهم وتعقبهم وإيقاع العقوبات والحدود عليهم.
وسياق الطبري وغيره يفيد أن هذه النقطة مما خطرت للفقهاء والمؤولين فاختلفوا فيها. فمنهم من قال : إن التوبة التي يقبلها السلطان هي بالنسبة للكفار فقط ؛ حيث يسقط عنهم بالإسلام كل ما كانوا فعلوه إذا ما تابوا وأسلموا قبل القدرة عليهم، وأن على السلطان أن يقيم الحدود على المسلمين إذا ما ارتكبوا جرائم ضد النفوس والأعراض والأموال. ومنهم من قال : إن على السلطان أن يقبل التوبة من المحارب المفسد سواء أكان كافرا أم مسلما، أما إذا ما تاب قبل القدرة عليه. وأورد هؤلاء خبر حوادث وقعت في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما ؛ حيث خرج بعض المسلمين فحملوا السلاح وسفكوا الدماء ونهبوا الأموال، ثم أعلنوا توبتهم وطلبوا الأمان فأعطي لهم، ولم يعاقبوا على ما فعلوه. كما أوردوا في معرض ذلك ما وقع في الردة في زمن أبي بكر رضي الله عنه ؛ حيث كان يعفو عن الذين كانوا يتوبون ويعودون إلى لواء الإسلام وسلطانه دون محاسبتهم عما وقع منهم في أثناء الردة ونحن نرجح القول الأول، ونقول في ما جاء من تعليلات القول الثاني : إن الأحداث كانت في سياق فتنة عامة، وليست فردية شخصية، وإنها لا تصح أن تورد في معرض ما نحن فيه، وإن المسلم الذي يرتكب جرائم غير عادية فيها قتل نفس وقطع سبيل وإخافة للناس وعدوان على أموالهم وأعراضهم يجب أن يكون موضع تطبيق لحدود الله ولو تاب قبل اعتقاله أي القدرة عليه، وإن كل ما يمكن أن يكون في حال توبته هو احتمال عفو الله له إذا ما أقيمت عليه الحدود واستردت منه الأموال. والله أعلم.
وقد يقال : إن المسلم قد يرتد إلى الكفر، ثم يرتكب الجرائم الموصوفة وهو كافر، ثم يتوب قبل القدرة عليه. وواضح أن هذا المجرم لا يكون قد احتفظ بصفة المسلم ويصبح حكمه حكم كافر أو مرتد تقبل توبته إذا ما تاب وعاد إلى الإسلام قبل القدرة عليه. ولقد عزا الطبري إلى بعض الفقهاء والمؤولين قولا في صدد مثل هذا مفاده : أن على الإمام أن يسترد ما في يده من مال الناس ويرده إلى أصحابه، وأن يقيم عليه حد القتل إذا طلب ولي قتيل بدم قتيله وأقام البينة عليه إذا ما كان ذلك عملا شخصيا وليس في سياق حرب عامة. وهذا وجيه، وقد يصح أن يطبق حت
( ٢ ) من قبل أن تقدروا عليهم : من قبل أن يقعوا في أيديكم وتقبضوا عليهم وتظفروا بهم.
﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ ( ١ ) أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٣٣ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ( ٢ ) فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٤ ) ﴾ ( ٣٣ – ٣٤ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِنَّمَا جَزَاءوا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا................ ﴾ الخ
والآية التي بعدها ومدى ما فيهما من تلقين وأحكام
احتوت الآيتان تقريرا إنذاريا وتشريعيا في حق الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا ؛ حيث قررت عقوبة من يقدم على ذلك الجرم الفظيع القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض، بالإضافة إلى العذاب العظيم الذي سينالهم في الآخرة. مع استثناء الذين يتوبون قبل القدرة عليهم والتمكن منهم ؛ حيث يمكن أن ينالهم الله بغفرانه ورحمته.
ولقد روى المفسرون١روايات عديدة كسبب لنزول الآيتين. منها أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله رسوله معاقبتهم بالعقوبات المذكورة في الآية الأولى. ومنها أنها نزلت في المشركين عامة. ومنها أنها نزلت في رهط من عكل وعرينة أسلموا وأقاموا في المدينة، ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : إنهم استوخموا الهواء فأعطاهم ذودا من إبل مع رعاته وأذن لهم بالنزول خارج المدينة وشرب ألبان الإبل، فلما خرجوا قتلوا الرعاة. وفي رواية سملوا عيونهم ثم قتلوهم، واستاقوا الإبل وارتدوا إلى الكفر، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيلا وراءهم، فأسروهم وأتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وتركهم في الحرة حتى هلكوا. وفي رواية أنه أحرقهم بالنار. وهذه الرواية من مرويات البخاري بخلاف يسير٢. ومنها أنها نزلت في قوم هلال بن عويمر الذي وادع النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسم قومه أن لا يعتدوا على أحد من المسلمين، أو على أحد يريد الإسلام. فمر بهم قوم من بني كنانة يريدون الإسلام فشدوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم. وهناك رواية يرويها الطبري والبغوي – ويعزوها الأخير إلى الليث بن سعد – أن الآية نزلت عتابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد تنكيله برهط عكل وعرينة على تسليمه أعينهم ولتحديد عقوبة أمثالهم دون تسميل، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمل بعد ذلك أحدا من أعداء الله بناء على هذه الآية، وأنه ما قام خطيبا إلا نهى عن المثلة.
والذي نستلهمه من روح الآيتين ونظمهما وترتيبهما أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة. وبخاصة الآية الأخيرة التي ذكرت أن كثيرا من بني إسرائيل ظلوا على إسرافهم في الفساد والاعوجاج برغم ما كتب الله عليهم من أحكام وأرسله إليهم من رسل فجاءت الآيتان تحتويان إنذارا وتنديدا جديدين لهم وتشريعا لما يجب أن يكون جزاء من يقف مثل موقفهم.
ومحاربة الله ورسوله تعني كما هو المتبادر الكفر برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربتها بالكيد والأذى والتعطيل والتضامن مع الأعداء. وهذا مما كان يفعله اليهود كما حكاه القرآن عنهم في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء.
وما قلناه من ترجيح كون الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لا يمنع أن تكونا قد نزلتا في ظرف من ظروف نكث اليهود ومظاهرتهم للمشركين، وهو ما ذكرته الرواية الأولى من الروايات الواردة في سبب نزول الآيتين. وإذا صح هذا فيكون في الآيتين كما قلنا قبل قرينة على أنهما نزلتا في وقت كان فيه كتلة قوية من اليهود.
أما حادث رهط بدو عكل وعرينة والتنكيل النبوي بهم الوارد في حديث البخاري والروايات الأخرى، فمن المحتمل أن يكون وقع في ظروف نزول الآيتين فالتبس الأمر على الرواة ونقلوا أنهما نزلتا في صدده. ومن القرائن على ذلك أنه ليس في الآيتين عقوبة تسميل الأعين التي ذكرت الروايات، ومنها رواية البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوقعها عليهم. بل ولعل الرواية التي تذكر أن الآيتين نزلتا بعد التنكيل وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمل بعدها وصار ينهى عن المثلة هي الصحيحة. وقد قال الطبري : إن هذا هو الأولى بالصواب.
وفحوى الآية الثانية من القرائن على أن الآيتين هما في صدد كفار أعداء. فمحاربة الله ورسوله لا يمكن أن تكون إلا من كافر. والآية الثانية تؤذن بقبول توبتهم أي إسلامهم قبل القدرة عليهم أي قبل الانتصار عليهم وأسرهم. وقد جاء هذا في آية في سورة التوبة فيها صراحة بأنها في صدد أعداء مشركين ناكثين للعهد وهي هذه :﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) ﴾ وهذا متمثل بأسلوب آخر في آية سورة الأنفال هذه :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ ( ٣٧ ) وقد يكون في هذه الآية بخاصة تدعيم لما تبادر لنا من أن الآيات في صدد كفار أعداء.
ولقد كان زعماء بني النضير اليهود حينما أجلوا عن المدينة مع قبيلتهم ذهبوا إلى خيبر وتزعموا يهودها وأخذوا يحرضون قبائل العرب المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ويغرونهم بغزو المدينة. وقد ذهبوا إلى مكة فحرضوا قريشا أيضا، وأدى هذا إلى زحف قريش والأحزاب على المدينة. ولقد استمروا على حركاتهم العدوانية بعد وقعة الأحزاب والتنكيل ببني قريظة أيضا مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزحف على خيبر ووادي القرى وينكل بأهلها وبزعماء بني النضير بعد صلح الحديبية مع قريش على ما شرحناه في سياق تفسير سور الحشر والأحزاب والفتح. فمن الجائز أن تكون هذه الآيات، بل وما قبلها في صدد ذلك، وأن تكون نزلت قبل أن يزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم. والله أعلم.
وقد يلحظ أن العقوبات في الآية الأولى غير اعتيادية. ونميل إلى القول : إنها أسلوبية بسبيل تعظيم ما كان من اليهود وزعماء بني النضير من حركات فساد وتأليب وعدوان، وما كان من ذلك من خطر على المسلمين وكيانهم.
وعبارة :﴿ من قبل أن تقدروا عليهم ﴾ في الآية ندم الأعداء الكفار وتوبتهم صدقا عن موقفهم قبل الانتصار عليهم ووقوعهم في الأسر. وينطوي في مبدأ من مبادئ الجهاد في الإسلام. وتمثل التسامح الإسلامي السامي في كل المواقف المماثلة، من حيث إنه يوحي بالإغضاء عما كان منهم قبل إسلامهم ما دام أنهم أسلموا من أنفسهم وقبل القدرة عليهم. وينطوي في هذا تقرير كون إصلاح الناس هو من الأهداف الرئيسية التي يهدف إليها القرآن ورسالة الإسلام ومبادئ الجهاد معا. ومن الحق أن ننبه في هذه المناسبة على أن ما قلناه لا يعني أن لا تقبل توبتهم أي إسلامهم بعد القدرة عليهم. فإن هذا من المقررات القرآنية المحكمة المتكررة بحق كل إنسان مهما عظمت جرائمه، وإن وروده في حالة التوبة قبل القدرة هنا كان متناسبا مع الحالة المذكورة في الآيات كما هو المتبادر. وآية سورة التوبة التي أوردناها آنفا لم تشترط التوبة قبل القدرة وجاءت مطلقة لتشمل قبول التوبة قبل القدرة وبعدها كما هو المتبادر أيضا. والله أعلم.
ومع ما قلناه من أن القرائن تدل على أن الآيات في صدد كفار أعداء وفي صدد مواقف اليهود العدوانية والفسادية فإن أئمة ( ١ )٣التأويل والفقه رأوا على ما ذكره الطبري وغيره من المفسرين في صيغة الآيتين التشريعية التامة والمطلقة ما جعلهم يعتبرونها شاملة للمسلمين أيضا بالإضافة إلى الكفار ويصوغون لها قواعد فقهية بعنوان ( الحرابة ) ويرونها قابلة للتطبيق على لصوص المسلمين المهاجرين بلصوصيتهم المصرين على ذلك، وبخاصة في الصحراء والمكابرين في الفسق والفجور والحاملين للسلاح على إخوانهم المسلمين والقاطعين للسبل والمخيفين للناس مسلميهم وذمييهم والمعتدين على أموالهم وأملاكهم وأعراضهم بالإرهاب والقوة. وقد يكون فرض ظهور أفراد ينتسبون إلى الإسلام يقترفون مثل هذه الأفعال الإرهابية واردا، ويكون تطبيق العقوبات الواردة في الآية الأولى عليهم وتسمية أعمالهم باسم ( الحرابة ) سائغا. غير أن قبول التوبة منهم قبل القدرة عليهم، وهو ما تضمنته الآية الثانية يعني فيما يعينه إسقاط قصاص القتل عنهم إذا قتلوا وحد القطع إذا سرقوا وحد الرجم والجلد إذا زنوا وهدر ما أحدثوه من جراحات ودمروه من أملاك ونهبوه من أموال. ولا يصح أن يفرض سواغ ذلك بالنسبة لمسلم تحت السلطان الإسلامي ؛ حيث يكون على هذا السلطان واجب مصادرتهم وتعقبهم وإيقاع العقوبات والحدود عليهم.
وسياق الطبري وغيره يفيد أن هذه النقطة مما خطرت للفقهاء والمؤولين فاختلفوا فيها. فمنهم من قال : إن التوبة التي يقبلها السلطان هي بالنسبة للكفار فقط ؛ حيث يسقط عنهم بالإسلام كل ما كانوا فعلوه إذا ما تابوا وأسلموا قبل القدرة عليهم، وأن على السلطان أن يقيم الحدود على المسلمين إذا ما ارتكبوا جرائم ضد النفوس والأعراض والأموال. ومنهم من قال : إن على السلطان أن يقبل التوبة من المحارب المفسد سواء أكان كافرا أم مسلما، أما إذا ما تاب قبل القدرة عليه. وأورد هؤلاء خبر حوادث وقعت في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما ؛ حيث خرج بعض المسلمين فحملوا السلاح وسفكوا الدماء ونهبوا الأموال، ثم أعلنوا توبتهم وطلبوا الأمان فأعطي لهم، ولم يعاقبوا على ما فعلوه. كما أوردوا في معرض ذلك ما وقع في الردة في زمن أبي بكر رضي الله عنه ؛ حيث كان يعفو عن الذين كانوا يتوبون ويعودون إلى لواء الإسلام وسلطانه دون محاسبتهم عما وقع منهم في أثناء الردة ونحن نرجح القول الأول، ونقول في ما جاء من تعليلات القول الثاني : إن الأحداث كانت في سياق فتنة عامة، وليست فردية شخصية، وإنها لا تصح أن تورد في معرض ما نحن فيه، وإن المسلم الذي يرتكب جرائم غير عادية فيها قتل نفس وقطع سبيل وإخافة للناس وعدوان على أموالهم وأعراضهم يجب أن يكون موضع تطبيق لحدود الله ولو تاب قبل اعتقاله أي القدرة عليه، وإن كل ما يمكن أن يكون في حال توبته هو احتمال عفو الله له إذا ما أقيمت عليه الحدود واستردت منه الأموال. والله أعلم.
وقد يقال : إن المسلم قد يرتد إلى الكفر، ثم يرتكب الجرائم الموصوفة وهو كافر، ثم يتوب قبل القدرة عليه. وواضح أن هذا المجرم لا يكون قد احتفظ بصفة المسلم ويصبح حكمه حكم كافر أو مرتد تقبل توبته إذا ما تاب وعاد إلى الإسلام قبل القدرة عليه. ولقد عزا الطبري إلى بعض الفقهاء والمؤولين قولا في صدد مثل هذا مفاده : أن على الإمام أن يسترد ما في يده من مال الناس ويرده إلى أصحابه، وأن يقيم عليه حد القتل إذا طلب ولي قتيل بدم قتيله وأقام البينة عليه إذا ما كان ذلك عملا شخصيا وليس في سياق حرب عامة. وهذا وجيه، وقد يصح أن يطبق حت
ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية الثانية وبخاصة الجملة الأخيرة منها، منها حديث عن عبادة بن الصامت قال : إنه رواه مسلم. وقد ورد حديث مقارب له في التاج برواية البخاري ومسلم والترمذي والنسائي هذا نصه :( قال عبادة : كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس فقال : تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عذبه، فبايعناه على ذلك ) ( ١ )١وحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن علي قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب عليه فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه ). ويلوح إلى أن ابن كثير قد أورد الأحاديث على اعتبار انطباق الآية على المسلمين. ومع ذلك فإنه يلوح أنها إنما تصح أن تساق في معرض ذنوب يقترفها مسلم ما في حالة اعتيادية، وليس في حالة توصف بأنها محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا. وقد يكون حينئذ من حكمتها تطمين المؤمن الصادق في إيمانه مع بث الخوف والرجاء في نفسه. أما على اعتبار أن الآية في صدد الكافر وبخاصة الكافر المحارب فليست الأحاديث موضع تطبيق كما هو المتبادر. فالذي يموت كافرا مخلدا في النار. حتى ولو لم يرتكب جرائم أخرى كما هو مقرر في الآيات القرآنية العديدة.
١ التاج ج ٣ ص ٣٤..
( ١ ) ابتغوا إليه الوسيلة : تحروا وافعلوا كل ما يكون فيه رضاء الله والقربى إليه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ( ١ ) وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٣٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٣٦ ) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٥ ) – ٣٧ ).

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ.................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها. وبحث في التوسل والأحاديث
الواردة في معنى الوسيلة الأخروي
عبارة الآيات واضحة. وقد وجه الخطاب فيها إلى المؤمنين حاثا إياهم :( أولا ) على تقوى الله وتحري كل ما فيه رضاؤه والقربى إليه والجهاد في سبيله.
ومبينا لهم ( ثانيا ) أن في ذلك فلاحهم وسعادتهم.
ومنبها إياهم ( ثالثا ) إلى هول مصير الكفار يوم القيامة على سبيل التحذير والاستطراد.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذي يتبادر من روحها ومضمونها وترتيبها أنها جاءت معقبة على سلسلة الآيات ( ١٢ – ٣٤ ) التي احتوت التذكير بانحرافات أهل الكتاب وكفرهم ونقضهم مواثيق الله وإهمالهم ما أنزل الله إليهم من كتب وإخفاء كثير منها بسبيل الإنكار والمكابرة والتي تساوقت سياقا وموضوعا على ما نبهنا عليه. فبعد أن انتهت السلسلة جاءت الآيات ملتفتة إلى المؤمنين حاثة مبينة منبهة لهم على النحو الذي شرحناه كأنما تريد أن تقول لهم : إن هذا هو السبيل الأقوم لكم والأجدر بكم، وعليكم أن تعتبروا بمن سبقكم وبالمصير الهائل المعد للكافرين والمنحرفين. والله أعلم.
وواضح من روح الآيتين الثانية والثالثة أنهما بسبيل بيان وتصوير مصير الكفار الذين يموتون كفارا. وهذا يستتبع القول : إن باب التوبة يظل مفتوحا للكافر والمجرم ما دام حيا. على ما نبهنا عليه في المناسبات العديدة المماثلة.
وتصوير مصير الكافرين الأخروي رهيب حقا. فهم المخلدون في النار. ويتمنون الخروج منها وليس هناك أي إمكان لتحقيق أمنيتهم حتى ولو كان لهم ما في الأرض ومثله معه ما افتدوا به. وقد تكررت هذه الصورة أكثر من مرة. والمتبادر أن من أهدافها إثارة الخوف في نفوس الكفار وحملهم على الارعواء والتوبة، وهم في فرصة الحياة والعافية، ثم إثارة الغبطة في نفوس المؤمنين الذين هداهم الله فجنبهم هذا المصير الرهيب وكتب لهم السعادة والنجاة.
وجملة :﴿ وجاهدوا في سبيله ﴾ في مقامها تجعل كلمة :﴿ وجاهدوا ﴾ بمعنى أوسع من القتال ؛ وبعبارة أخرى هي بمعنى بذل كل جهد مادي ومعنوي وحربي وغير حربي وفعلي وقولي في تأييد دين الله وشريعته والتزام حدوده وتنفيذ أوامره في مختلف الظروف وتحمل ما يمكن أن يكون من جراء ذلك من شدة وعنت بالصبر والمجاهدة. وهذا المعنى ملحوظ في آيات كثيرة وردت فيها الكلمة ومشتقاتها.
وجملة :﴿ وابتغوا إليه الوسيلة ﴾ أوجدت على ما يظهر في أذهان بعض المسلمين فكرة ( التوسل ) أي الاستشفاع بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين من أموات وأحياء لدى الله والإقسام عليه بحقهم بقضاء مطالب متنوعة من دفع ضرر وجلب نفع على اعتبار أنهم من الوسائل التي حثت الآية على ابتغائها إليه. وبلغ الأمر إلى أن صاروا يشدون الرحال إلى قبور الأنبياء وغيرهم من أولياء الله وينذرون لهم النذور ويقسمون على الله بحقهم أن يحقق لهم مطالبهم. وقد استشرت هذه العادة عند المسلمين في القرون المتأخرة. وكانت من أهم ما ثار عليه الإمام محمد عبد الوهاب من بدع مخالفة لروح الإسلام والتوحيد، حتى أقدم متبعو دعوته تحت لواء السعوديين في القرن الماضي على هدم مزارات الأولياء في كل بلد احتلوه.
ولقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحب العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستسقاء فقال :( اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ) كما رويت بعض الآثار الأخرى التي روي فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو إلى الله بحقه، فكان هذا وذاك مستندا لمن سار على هذه العادة من المسلمين.
ولم نر المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم يذكرون هذه العادة عند هذه الآية ؛ حيث يدل هذا على أنها لم تكن في القرون الإسلامية الأولى. غير أنها صارت تمارس في القرون الإسلامية الوسطى حيث التفت إليها الإمام المصلح ابن تيمية فيما التفت إليه من بدع، وألف فيها رسالة باسم ( الوسيلة والتوسل ) ضمنها تحقيقا جليلا كعادته رحمة الله عليه. ولقد استطرد إلى ذكرها الإمامان رشيد رضا وجمال القاسمي في تفسيريهما. ونوها برسالة الإمام ابن تيمية واعتبراها القول الفصل في الأمر وأوردا مقتبسات منها.
ومما قرره الإمام : أن لفظ التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يراد به ثلاثة معان :( أحدها ) التوسل بطاعته، وهذا حق وأصل من أصول الدين لقوله تعالى :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ و ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾. و( ثانيها ) التوسل بدعائه، وهذا إنما كان في حياته كما جاء في حديث استسقاء عمر ؛ لأنه لو كان بعد موته لكان الأولى أن يتوسل عمر به، ولا يتوسل بدعاء عمه. ويكون هذا كذلك يوم القيامة بشفاعته لما ورد في هذا من الأحاديث الصحيحة ( ١ )١. و( ثالثها ) التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته. فهذا الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته. ولا عند قبره ولا قبر غيره. ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة أو موقوفة، أو عن من ليس قوله حجة. ثم أخذ الإمام يورد أقوال أئمة الفقه والحديث بسبيل تأييد رأيه. منها ما يقرر حرمة التوسل لدى الله بحق أحد من مخلوقاته ولو كان نبيا. ومنها ما يقرر كراهية شديدة. ومنها ما يعتبره نوعا من الشرك ؛ لأنه دعاء بغير الله أو دعاء غير الله. وقد تنبه إلى أمر مماثل وفيه تأييد لرأيه وهو اتفاق الأئمة على عدم جواز الحلف بغير الله استنادا إلى أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه :( من حلف بغير الله فقد أشرك – وفي رواية – فقد كفر ) ومنها حديث جاء فيه :( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) ( ٢ )٢ وأورد أقوال الأئمة بعدم انعقاد اليمين الذي يحلفه المسلم بالأنبياء والصالحين والكرسي والعرش والملائكة والكعبة والمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسجد الأقصى.
وحجة الإمام ناصعة قوية فيها القول الفصل المستند إلى النقل والعقل، وجمهور الأئمة بعدم جواز دعاء غير الله والإقسام على الله بحق أحد أو شيء مهما عظمت حرمته ومكانته لقضاء الحاجات والمطالب الدنيوية، وبأن هذه العادة التي درج عليها عوام المسلمين في القرون الإسلامية المتأخرة ليس لها سند من سنة نبوية أو صحابية وهي بدعة مخالفة لروح الإسلام والتوحيد الصحيح. والله تعالى أعلم.
هذا، وهناك بعض أحاديث نبوية تتضمن تقرير معنى غيبي لكلمة الوسيلة أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآية. منها حديث عن جابر بن عبد الله جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال : حين يسمع النداء ( ١ )٣ : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة ) ( ٢ )٤. ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إذا سمعتم المؤذن فقولوا : مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ) ( ٣ )٥ ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا صليتم علي فسلوا لي الوسيلة، قيل : يا رسول الله وما الوسيلة ؟ قال : أعلى درجة في الجنة. لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو ) ( ٤ )٦.
ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه :{ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ) ( ١ )٧. ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه ) ( ٢ )٨.
والمجمع عليه عند أئمة التأويل والمفسرين بدون خلاف على ما يقوله ابن كثير : أن معنى الكلمة في الآية هو القربة إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح الذي يرضيه. وأمر الله تعالى المؤمنين بابتغاء الوسيلة إليه يتضمن ذلك كما هو المتبادر، ويتضمن أيضا أن ذلك مما يمكن للمؤمنين أن يحققوه.
وعلى هذا فيكون ما ورد في الأحاديث أمرا آخر لا صلة له بالآية إلا من حيث المشابهة اللفظية. ويجب التسليم به وإن لم يدرك مداه إذا صحت الأحاديث.
ولقد أورد ابن كثير مع سلسلة الأحاديث المذكورة حديثين آخرين. فيهما زيادة عجيبة. منها حديث أخرجه ابن مردويه عن علي جاء فيه :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : في الجنة درجة تدعى الوسيلة فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة، قالوا : يا رسول الله من يسكن معك ؟ قال : علي وفاطمة والحسن والحسين ) ومنهما حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين الأزدي قال :( سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة : يا أيها الناس إن في الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء والأخرى صفراء. أما الصفراء فإنها إلى بطنان العرش، والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة هي لمحمد وأهل بيته. والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته ).
وقد وصف ابن كثير الحديث الأول بأنه منكر، والحديث الثاني بأنه غريب. والهوى الشيعي بارز على الحديثين.
ولقد أورد الحديث الثاني المفسر الشيعي الطبرسي عن الأصبع بن نباته.
والطبرسي أقدم من ابن كثير ؛ حيث يمكن أن يكون في هذا قرينه على الصنع الشيعي.
وننبه على أن الطبري والبغوي والزمخشري وهم من المفسرين المتقدمين كثيرا عن ابن كثير لم يوردوا من الأحاديث التي أوردها ابن كثير في منزلة الوسيلة الأخروية. واكتفوا بتفسير الكلمة في الآية بمعنى القربة إلى الله تعالى بما يرضيه. والطبري والبغوي بخاصة إمامان في الحديث، ولا بد من أنهما يعرفان الأحاديث التي وردت في الكتب الخمسة ؛ حيث يبدو من هذا أنهما لم يريا صلة بين الآية والأحاديث.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ( ١ ) وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٣٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٣٦ ) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٥ ) – ٣٧ ).

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ.................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها. وبحث في التوسل والأحاديث
الواردة في معنى الوسيلة الأخروي
عبارة الآيات واضحة. وقد وجه الخطاب فيها إلى المؤمنين حاثا إياهم :( أولا ) على تقوى الله وتحري كل ما فيه رضاؤه والقربى إليه والجهاد في سبيله.
ومبينا لهم ( ثانيا ) أن في ذلك فلاحهم وسعادتهم.
ومنبها إياهم ( ثالثا ) إلى هول مصير الكفار يوم القيامة على سبيل التحذير والاستطراد.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذي يتبادر من روحها ومضمونها وترتيبها أنها جاءت معقبة على سلسلة الآيات ( ١٢ – ٣٤ ) التي احتوت التذكير بانحرافات أهل الكتاب وكفرهم ونقضهم مواثيق الله وإهمالهم ما أنزل الله إليهم من كتب وإخفاء كثير منها بسبيل الإنكار والمكابرة والتي تساوقت سياقا وموضوعا على ما نبهنا عليه. فبعد أن انتهت السلسلة جاءت الآيات ملتفتة إلى المؤمنين حاثة مبينة منبهة لهم على النحو الذي شرحناه كأنما تريد أن تقول لهم : إن هذا هو السبيل الأقوم لكم والأجدر بكم، وعليكم أن تعتبروا بمن سبقكم وبالمصير الهائل المعد للكافرين والمنحرفين. والله أعلم.
وواضح من روح الآيتين الثانية والثالثة أنهما بسبيل بيان وتصوير مصير الكفار الذين يموتون كفارا. وهذا يستتبع القول : إن باب التوبة يظل مفتوحا للكافر والمجرم ما دام حيا. على ما نبهنا عليه في المناسبات العديدة المماثلة.
وتصوير مصير الكافرين الأخروي رهيب حقا. فهم المخلدون في النار. ويتمنون الخروج منها وليس هناك أي إمكان لتحقيق أمنيتهم حتى ولو كان لهم ما في الأرض ومثله معه ما افتدوا به. وقد تكررت هذه الصورة أكثر من مرة. والمتبادر أن من أهدافها إثارة الخوف في نفوس الكفار وحملهم على الارعواء والتوبة، وهم في فرصة الحياة والعافية، ثم إثارة الغبطة في نفوس المؤمنين الذين هداهم الله فجنبهم هذا المصير الرهيب وكتب لهم السعادة والنجاة.
وجملة :﴿ وجاهدوا في سبيله ﴾ في مقامها تجعل كلمة :﴿ وجاهدوا ﴾ بمعنى أوسع من القتال ؛ وبعبارة أخرى هي بمعنى بذل كل جهد مادي ومعنوي وحربي وغير حربي وفعلي وقولي في تأييد دين الله وشريعته والتزام حدوده وتنفيذ أوامره في مختلف الظروف وتحمل ما يمكن أن يكون من جراء ذلك من شدة وعنت بالصبر والمجاهدة. وهذا المعنى ملحوظ في آيات كثيرة وردت فيها الكلمة ومشتقاتها.
وجملة :﴿ وابتغوا إليه الوسيلة ﴾ أوجدت على ما يظهر في أذهان بعض المسلمين فكرة ( التوسل ) أي الاستشفاع بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين من أموات وأحياء لدى الله والإقسام عليه بحقهم بقضاء مطالب متنوعة من دفع ضرر وجلب نفع على اعتبار أنهم من الوسائل التي حثت الآية على ابتغائها إليه. وبلغ الأمر إلى أن صاروا يشدون الرحال إلى قبور الأنبياء وغيرهم من أولياء الله وينذرون لهم النذور ويقسمون على الله بحقهم أن يحقق لهم مطالبهم. وقد استشرت هذه العادة عند المسلمين في القرون المتأخرة. وكانت من أهم ما ثار عليه الإمام محمد عبد الوهاب من بدع مخالفة لروح الإسلام والتوحيد، حتى أقدم متبعو دعوته تحت لواء السعوديين في القرن الماضي على هدم مزارات الأولياء في كل بلد احتلوه.
ولقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحب العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستسقاء فقال :( اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ) كما رويت بعض الآثار الأخرى التي روي فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو إلى الله بحقه، فكان هذا وذاك مستندا لمن سار على هذه العادة من المسلمين.
ولم نر المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم يذكرون هذه العادة عند هذه الآية ؛ حيث يدل هذا على أنها لم تكن في القرون الإسلامية الأولى. غير أنها صارت تمارس في القرون الإسلامية الوسطى حيث التفت إليها الإمام المصلح ابن تيمية فيما التفت إليه من بدع، وألف فيها رسالة باسم ( الوسيلة والتوسل ) ضمنها تحقيقا جليلا كعادته رحمة الله عليه. ولقد استطرد إلى ذكرها الإمامان رشيد رضا وجمال القاسمي في تفسيريهما. ونوها برسالة الإمام ابن تيمية واعتبراها القول الفصل في الأمر وأوردا مقتبسات منها.
ومما قرره الإمام : أن لفظ التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يراد به ثلاثة معان :( أحدها ) التوسل بطاعته، وهذا حق وأصل من أصول الدين لقوله تعالى :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ و ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾. و( ثانيها ) التوسل بدعائه، وهذا إنما كان في حياته كما جاء في حديث استسقاء عمر ؛ لأنه لو كان بعد موته لكان الأولى أن يتوسل عمر به، ولا يتوسل بدعاء عمه. ويكون هذا كذلك يوم القيامة بشفاعته لما ورد في هذا من الأحاديث الصحيحة ( ١ )١. و( ثالثها ) التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته. فهذا الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته. ولا عند قبره ولا قبر غيره. ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة أو موقوفة، أو عن من ليس قوله حجة. ثم أخذ الإمام يورد أقوال أئمة الفقه والحديث بسبيل تأييد رأيه. منها ما يقرر حرمة التوسل لدى الله بحق أحد من مخلوقاته ولو كان نبيا. ومنها ما يقرر كراهية شديدة. ومنها ما يعتبره نوعا من الشرك ؛ لأنه دعاء بغير الله أو دعاء غير الله. وقد تنبه إلى أمر مماثل وفيه تأييد لرأيه وهو اتفاق الأئمة على عدم جواز الحلف بغير الله استنادا إلى أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه :( من حلف بغير الله فقد أشرك – وفي رواية – فقد كفر ) ومنها حديث جاء فيه :( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) ( ٢ )٢ وأورد أقوال الأئمة بعدم انعقاد اليمين الذي يحلفه المسلم بالأنبياء والصالحين والكرسي والعرش والملائكة والكعبة والمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسجد الأقصى.
وحجة الإمام ناصعة قوية فيها القول الفصل المستند إلى النقل والعقل، وجمهور الأئمة بعدم جواز دعاء غير الله والإقسام على الله بحق أحد أو شيء مهما عظمت حرمته ومكانته لقضاء الحاجات والمطالب الدنيوية، وبأن هذه العادة التي درج عليها عوام المسلمين في القرون الإسلامية المتأخرة ليس لها سند من سنة نبوية أو صحابية وهي بدعة مخالفة لروح الإسلام والتوحيد الصحيح. والله تعالى أعلم.
هذا، وهناك بعض أحاديث نبوية تتضمن تقرير معنى غيبي لكلمة الوسيلة أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآية. منها حديث عن جابر بن عبد الله جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال : حين يسمع النداء ( ١ )٣ : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة ) ( ٢ )٤. ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إذا سمعتم المؤذن فقولوا : مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ) ( ٣ )٥ ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا صليتم علي فسلوا لي الوسيلة، قيل : يا رسول الله وما الوسيلة ؟ قال : أعلى درجة في الجنة. لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو ) ( ٤ )٦.
ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه :{ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ) ( ١ )٧. ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه ) ( ٢ )٨.
والمجمع عليه عند أئمة التأويل والمفسرين بدون خلاف على ما يقوله ابن كثير : أن معنى الكلمة في الآية هو القربة إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح الذي يرضيه. وأمر الله تعالى المؤمنين بابتغاء الوسيلة إليه يتضمن ذلك كما هو المتبادر، ويتضمن أيضا أن ذلك مما يمكن للمؤمنين أن يحققوه.
وعلى هذا فيكون ما ورد في الأحاديث أمرا آخر لا صلة له بالآية إلا من حيث المشابهة اللفظية. ويجب التسليم به وإن لم يدرك مداه إذا صحت الأحاديث.
ولقد أورد ابن كثير مع سلسلة الأحاديث المذكورة حديثين آخرين. فيهما زيادة عجيبة. منها حديث أخرجه ابن مردويه عن علي جاء فيه :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : في الجنة درجة تدعى الوسيلة فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة، قالوا : يا رسول الله من يسكن معك ؟ قال : علي وفاطمة والحسن والحسين ) ومنهما حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين الأزدي قال :( سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة : يا أيها الناس إن في الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء والأخرى صفراء. أما الصفراء فإنها إلى بطنان العرش، والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة هي لمحمد وأهل بيته. والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته ).
وقد وصف ابن كثير الحديث الأول بأنه منكر، والحديث الثاني بأنه غريب. والهوى الشيعي بارز على الحديثين.
ولقد أورد الحديث الثاني المفسر الشيعي الطبرسي عن الأصبع بن نباته.
والطبرسي أقدم من ابن كثير ؛ حيث يمكن أن يكون في هذا قرينه على الصنع الشيعي.
وننبه على أن الطبري والبغوي والزمخشري وهم من المفسرين المتقدمين كثيرا عن ابن كثير لم يوردوا من الأحاديث التي أوردها ابن كثير في منزلة الوسيلة الأخروية. واكتفوا بتفسير الكلمة في الآية بمعنى القربة إلى الله تعالى بما يرضيه. والطبري والبغوي بخاصة إمامان في الحديث، ولا بد من أنهما يعرفان الأحاديث التي وردت في الكتب الخمسة ؛ حيث يبدو من هذا أنهما لم يريا صلة بين الآية والأحاديث.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ( ١ ) وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٣٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٣٦ ) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٥ ) – ٣٧ ).

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ.................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها. وبحث في التوسل والأحاديث
الواردة في معنى الوسيلة الأخروي
عبارة الآيات واضحة. وقد وجه الخطاب فيها إلى المؤمنين حاثا إياهم :( أولا ) على تقوى الله وتحري كل ما فيه رضاؤه والقربى إليه والجهاد في سبيله.
ومبينا لهم ( ثانيا ) أن في ذلك فلاحهم وسعادتهم.
ومنبها إياهم ( ثالثا ) إلى هول مصير الكفار يوم القيامة على سبيل التحذير والاستطراد.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذي يتبادر من روحها ومضمونها وترتيبها أنها جاءت معقبة على سلسلة الآيات ( ١٢ – ٣٤ ) التي احتوت التذكير بانحرافات أهل الكتاب وكفرهم ونقضهم مواثيق الله وإهمالهم ما أنزل الله إليهم من كتب وإخفاء كثير منها بسبيل الإنكار والمكابرة والتي تساوقت سياقا وموضوعا على ما نبهنا عليه. فبعد أن انتهت السلسلة جاءت الآيات ملتفتة إلى المؤمنين حاثة مبينة منبهة لهم على النحو الذي شرحناه كأنما تريد أن تقول لهم : إن هذا هو السبيل الأقوم لكم والأجدر بكم، وعليكم أن تعتبروا بمن سبقكم وبالمصير الهائل المعد للكافرين والمنحرفين. والله أعلم.
وواضح من روح الآيتين الثانية والثالثة أنهما بسبيل بيان وتصوير مصير الكفار الذين يموتون كفارا. وهذا يستتبع القول : إن باب التوبة يظل مفتوحا للكافر والمجرم ما دام حيا. على ما نبهنا عليه في المناسبات العديدة المماثلة.
وتصوير مصير الكافرين الأخروي رهيب حقا. فهم المخلدون في النار. ويتمنون الخروج منها وليس هناك أي إمكان لتحقيق أمنيتهم حتى ولو كان لهم ما في الأرض ومثله معه ما افتدوا به. وقد تكررت هذه الصورة أكثر من مرة. والمتبادر أن من أهدافها إثارة الخوف في نفوس الكفار وحملهم على الارعواء والتوبة، وهم في فرصة الحياة والعافية، ثم إثارة الغبطة في نفوس المؤمنين الذين هداهم الله فجنبهم هذا المصير الرهيب وكتب لهم السعادة والنجاة.
وجملة :﴿ وجاهدوا في سبيله ﴾ في مقامها تجعل كلمة :﴿ وجاهدوا ﴾ بمعنى أوسع من القتال ؛ وبعبارة أخرى هي بمعنى بذل كل جهد مادي ومعنوي وحربي وغير حربي وفعلي وقولي في تأييد دين الله وشريعته والتزام حدوده وتنفيذ أوامره في مختلف الظروف وتحمل ما يمكن أن يكون من جراء ذلك من شدة وعنت بالصبر والمجاهدة. وهذا المعنى ملحوظ في آيات كثيرة وردت فيها الكلمة ومشتقاتها.
وجملة :﴿ وابتغوا إليه الوسيلة ﴾ أوجدت على ما يظهر في أذهان بعض المسلمين فكرة ( التوسل ) أي الاستشفاع بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين من أموات وأحياء لدى الله والإقسام عليه بحقهم بقضاء مطالب متنوعة من دفع ضرر وجلب نفع على اعتبار أنهم من الوسائل التي حثت الآية على ابتغائها إليه. وبلغ الأمر إلى أن صاروا يشدون الرحال إلى قبور الأنبياء وغيرهم من أولياء الله وينذرون لهم النذور ويقسمون على الله بحقهم أن يحقق لهم مطالبهم. وقد استشرت هذه العادة عند المسلمين في القرون المتأخرة. وكانت من أهم ما ثار عليه الإمام محمد عبد الوهاب من بدع مخالفة لروح الإسلام والتوحيد، حتى أقدم متبعو دعوته تحت لواء السعوديين في القرن الماضي على هدم مزارات الأولياء في كل بلد احتلوه.
ولقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحب العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستسقاء فقال :( اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ) كما رويت بعض الآثار الأخرى التي روي فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو إلى الله بحقه، فكان هذا وذاك مستندا لمن سار على هذه العادة من المسلمين.
ولم نر المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم يذكرون هذه العادة عند هذه الآية ؛ حيث يدل هذا على أنها لم تكن في القرون الإسلامية الأولى. غير أنها صارت تمارس في القرون الإسلامية الوسطى حيث التفت إليها الإمام المصلح ابن تيمية فيما التفت إليه من بدع، وألف فيها رسالة باسم ( الوسيلة والتوسل ) ضمنها تحقيقا جليلا كعادته رحمة الله عليه. ولقد استطرد إلى ذكرها الإمامان رشيد رضا وجمال القاسمي في تفسيريهما. ونوها برسالة الإمام ابن تيمية واعتبراها القول الفصل في الأمر وأوردا مقتبسات منها.
ومما قرره الإمام : أن لفظ التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يراد به ثلاثة معان :( أحدها ) التوسل بطاعته، وهذا حق وأصل من أصول الدين لقوله تعالى :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ و ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾. و( ثانيها ) التوسل بدعائه، وهذا إنما كان في حياته كما جاء في حديث استسقاء عمر ؛ لأنه لو كان بعد موته لكان الأولى أن يتوسل عمر به، ولا يتوسل بدعاء عمه. ويكون هذا كذلك يوم القيامة بشفاعته لما ورد في هذا من الأحاديث الصحيحة ( ١ )١. و( ثالثها ) التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته. فهذا الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته. ولا عند قبره ولا قبر غيره. ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة أو موقوفة، أو عن من ليس قوله حجة. ثم أخذ الإمام يورد أقوال أئمة الفقه والحديث بسبيل تأييد رأيه. منها ما يقرر حرمة التوسل لدى الله بحق أحد من مخلوقاته ولو كان نبيا. ومنها ما يقرر كراهية شديدة. ومنها ما يعتبره نوعا من الشرك ؛ لأنه دعاء بغير الله أو دعاء غير الله. وقد تنبه إلى أمر مماثل وفيه تأييد لرأيه وهو اتفاق الأئمة على عدم جواز الحلف بغير الله استنادا إلى أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه :( من حلف بغير الله فقد أشرك – وفي رواية – فقد كفر ) ومنها حديث جاء فيه :( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) ( ٢ )٢ وأورد أقوال الأئمة بعدم انعقاد اليمين الذي يحلفه المسلم بالأنبياء والصالحين والكرسي والعرش والملائكة والكعبة والمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسجد الأقصى.
وحجة الإمام ناصعة قوية فيها القول الفصل المستند إلى النقل والعقل، وجمهور الأئمة بعدم جواز دعاء غير الله والإقسام على الله بحق أحد أو شيء مهما عظمت حرمته ومكانته لقضاء الحاجات والمطالب الدنيوية، وبأن هذه العادة التي درج عليها عوام المسلمين في القرون الإسلامية المتأخرة ليس لها سند من سنة نبوية أو صحابية وهي بدعة مخالفة لروح الإسلام والتوحيد الصحيح. والله تعالى أعلم.
هذا، وهناك بعض أحاديث نبوية تتضمن تقرير معنى غيبي لكلمة الوسيلة أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآية. منها حديث عن جابر بن عبد الله جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال : حين يسمع النداء ( ١ )٣ : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة ) ( ٢ )٤. ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إذا سمعتم المؤذن فقولوا : مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ) ( ٣ )٥ ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا صليتم علي فسلوا لي الوسيلة، قيل : يا رسول الله وما الوسيلة ؟ قال : أعلى درجة في الجنة. لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو ) ( ٤ )٦.
ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه :{ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ) ( ١ )٧. ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه ) ( ٢ )٨.
والمجمع عليه عند أئمة التأويل والمفسرين بدون خلاف على ما يقوله ابن كثير : أن معنى الكلمة في الآية هو القربة إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح الذي يرضيه. وأمر الله تعالى المؤمنين بابتغاء الوسيلة إليه يتضمن ذلك كما هو المتبادر، ويتضمن أيضا أن ذلك مما يمكن للمؤمنين أن يحققوه.
وعلى هذا فيكون ما ورد في الأحاديث أمرا آخر لا صلة له بالآية إلا من حيث المشابهة اللفظية. ويجب التسليم به وإن لم يدرك مداه إذا صحت الأحاديث.
ولقد أورد ابن كثير مع سلسلة الأحاديث المذكورة حديثين آخرين. فيهما زيادة عجيبة. منها حديث أخرجه ابن مردويه عن علي جاء فيه :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : في الجنة درجة تدعى الوسيلة فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة، قالوا : يا رسول الله من يسكن معك ؟ قال : علي وفاطمة والحسن والحسين ) ومنهما حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين الأزدي قال :( سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة : يا أيها الناس إن في الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء والأخرى صفراء. أما الصفراء فإنها إلى بطنان العرش، والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة هي لمحمد وأهل بيته. والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته ).
وقد وصف ابن كثير الحديث الأول بأنه منكر، والحديث الثاني بأنه غريب. والهوى الشيعي بارز على الحديثين.
ولقد أورد الحديث الثاني المفسر الشيعي الطبرسي عن الأصبع بن نباته.
والطبرسي أقدم من ابن كثير ؛ حيث يمكن أن يكون في هذا قرينه على الصنع الشيعي.
وننبه على أن الطبري والبغوي والزمخشري وهم من المفسرين المتقدمين كثيرا عن ابن كثير لم يوردوا من الأحاديث التي أوردها ابن كثير في منزلة الوسيلة الأخروية. واكتفوا بتفسير الكلمة في الآية بمعنى القربة إلى الله تعالى بما يرضيه. والطبري والبغوي بخاصة إمامان في الحديث، ولا بد من أنهما يعرفان الأحاديث التي وردت في الكتب الخمسة ؛ حيث يبدو من هذا أنهما لم يريا صلة بين الآية والأحاديث.
( ١ ) نكالا : عقابا.
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً ( ١ ) مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٣٨ ) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٩ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٠ ) ﴾ ( ٣٨ – ٤٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا...................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما ينطوي فيهما من أحكام
عبارة الآيات واضحة. وتحتوي تشريعا في حد السرقة بالنسبة للسارق والسارقة على السواء مع إيذان رباني بقبول توبة من تاب منهما وأصلح.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة الآيات. وإنما روى الطبري أن امرأة سرقت حليا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة. فقال : اقطعوا يدها اليمنى، فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله :﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾.
والذي يتبادر لنا أن للآيات صلة بالسياق السابق. فقد احتوت الآية ( ٣٢ ) حكما تشريعيا في حق من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا. وكان ذلك في ظرف ارتداد بعض البدو ونهبهم لذود الإبل الذي منحهم إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتلهم الرعاة، فجاءت هذه الآيات لتستطرد إلى تشريع حد السرقة العادية ليكون الفرق واضحا بين عقوبة السرقة العادية التي تقع خفية وخلسة بدون عنف ودم، وبين تلك الجرائم التي تكون عادة مترافقة مع العنف والدم.
ونرجح أن الآيات الثلاث نزلت معا، وأن الإيذان بقبول توبة السارق قد جاء ليتساوق مع الإيذان بقبول توبة المحارب في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون المرأة السارقة سألت عن إمكان التوبة فتليت عليها الآية، فالتبس ذلك على الرواة والله أعلم.
وحد السرقة من الحدود القليلة المعنية في القرآن لبعض الجرائم المهمة.
وجريمة السرقة اعتبرت دائما وفي جميع المجتمعات والظروف من الجرائم المهمة ؛ لأن فيها عدوانا على أموال الغير التي تشغل في المجتمع مقاما رئيسيا بعد مقام الحياة والأعراض والسلامة العامة. فلا غرو أن يرتب القرآن عليها حدا كما رتب على القتل والزنا والفساد في الأرض. ولا غرو أن اشتد في عقوبتها لتكون متكافئة مع خطورتها.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث فيها دلالة على تشدده في موضوع السرقة وإقامة حدها. منها حديث عن عائشة جاء فيه :( أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الفتح، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة ابن زيد حب رسول الله فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمه فيها أسامة، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أتشفع في حد من حدود الله عز وجل، فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها ) ( ١ )١. ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو قال :( سرقت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا فقال : قومها فنحن نفديها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقطعوا يدها فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار. فقال : اقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى ) ( ٢ )٢ ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الخمسة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده. ويسرق الحبل فتقطع يده ) ( ٣ )٣.
وفي كتب التفسير ( ٤ )٤بيانات متنوعة في صدد ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها فيما يلي مع ما يعن للبال من تعليق :

١-
إن حد السرقة لا يقام إلا على العاقل البالغ. وهذا طبيعي ؛ لأن العقل والبلوغ هما اللذان يجعلان الإنسان محلا للتكليف ) ( ٥ )٥.

٢-
وقال الخازن : إن العلم بحرمة السرقة وحدها أيضا شرط لإقامة الحد، ولم يذكر سندا. ومثل على ذلك بالمسلم الحديث العهد الذي لا يعرف أن السرقة في الإسلام حرام تستوجب الحد. ولسنا نرى هذا وجيها. فالآية من جهة مطلقة، والسرقة من جهة ثانية من الجرائم العامة التي هي محرمة في كل شريعة، ولا يمكن أن يجهل أحد أن فاعلها ينجو من عقاب.

٣-
اختلف في النصاب الذي يقطع به بسبب اختلاف المأثور من السنة النبوية. فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ) ( ١ )٦وهناك حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم ) ( ٢ )٧وهناك حديث عن ابن عباس رواه أبو داود والنسائي :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم ) ( ٣ )٨فذهب بعض أئمة الفقه إلى اعتبار النصاب الأدنى ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم – وقيمة الدراهم الثلاثة كانت تقارب قيمة ربع الدينار – وذهب آخرون إلى اعتبار النصاب الأدنى دينارا أو عشرة دراهم. وبناء على ذلك فمن سرق دون النصاب الأدنى لا يقطع. وهذا التشريع النبوي متمم للتشريع القرآني ؛ حيث أوضح ما سكت عنه القرآن.
والمتبادر أن النصاب الأدنى سواء أكان ربع دينار أم دينارا إنما حدد حسب ظروف البيئة النبوية ؛ وهذا يورد على البال سؤالا عما إذا كان يصح أن يكون النصاب عرضة لتقدير ولي الأمر في حالة تغير الظروف والقيم وتطورها ؟ ونميل إلى الإيجاب والله أعلم.
ولقد لاح لنا إلى هذا حكمة سامية في جعل النصاب الذي لا يقطع به ضئيلا، فالذي يسرق القليل يسرق الكثير. والعقوبة إنما استهدفت زجر المجرم وردع غيره عن الجريمة. فإذا ما عرف أن اليد عرضة للقطع مقابل القليل ارتدع عن القليل والكثير معا. ولعل حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده ) مما يدعم ذلك والله أعلم.

٤-
والعلماء متفقون على أن القطع إنما يكون في سرقة مال محرز أي موضوع في مكان من العادة أن يعتبر حرزا، ومسور عليه ولو لم يكن عليه حارس، ويدخل في ذلك الخيمة. ولا يوجبون القطع على من أخذ شيئا موضوعا في مكان غير محرز ولا حارس عليه أو بهيمة في برية لا راعي لها. ويظهر أنهم اعتبروا أن مثل ذلك لا يتصف بوصف السرقة، ولا يخلو هذا من وجاهة ؛ لأن آخذه قد يكون أخذه على أنه مهمل متروك.

٥-
وهناك من أسقط القطع عن جاحد المتاع المستعار أو جاحد الأمانة أو الذي يأخذ شيئا بطريقة الاختطاف والاختلاس العياني استنادا إلى حديث رواه أصحاب السنن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ) ( ١ )٩ وعللوا حكمة ذلك بإمكان استرداد المأخوذ خطفا أو نهبا والأمانة والمعار بالبينة ؛ ولأن مثل هذا العمل لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلوا القول من وجاهة.

٦-
ومما ذكره الخازن أن لا قطع على سرقة مال للسارق فيه شبهة حق كالولد يسرق من مال أبيه أو الوالد من مال ابنه أو العبد من مال سيده أو الشريك من مال شريكه. ولم يذكر المفسر سندا لقوله. ولم نر مفسرا آخر ذكر ذلك ويمكن أن تكون الأحاديث المروية في درء الحدود بالشبهات التي أوردناها في سياق تفسير الآية ( ٢٤ ) في سورة النساء سندا لذلك.

٧-
وأكثر العلماء على أنه لا قطع على آكل الثمر من البستان. وقد روي في صدد ذلك حديثان. واحد رواه أصحاب السنن عن رافع بن خديج قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا قطع في ثمر ولا كثر )١٠. وثانيهما رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن عبد الله بن عمرو قال :( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الثمر المعلق فقال : من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة )١١.

٨-
ولقد فسر شراح الحديث كلمة ( العقوبة ) في هذا الحديث بالتعزير حتى يرتدع السارق. ويكون في تعزيره عبرة لغيره. وقد أوجب العلماء بناء على ذلك تعزير سارق ما هو أدنى من النصاب من المال المحرز، وهذا حق. فالجريمة مهما تفهت لا يجوز أن تذهب بدون عقوبة.
غير أن حديث عبد الله بن عمرو الذي يسمح لذي الحاجة بأكل الثمر من البستان بدون عقوبة بفتح الباب للسؤال عن حكم السارق الذي يسرق عن عوز شديد لسد جوعه أو جوع عياله إذا ما ثبت ذلك لدى الحاكم. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدم قطع سارق سرق في عام قحط ليسد جوعه. ولقد حرم الله أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، واستثنى المضطر في حالة الجوع وخطره وعفا عنه. فهلا يصح أن يقال بجواز إعفاء مثل هذه الحالات الاضطرارية إذا ثبتت لدى الحاكم ولم تعد عند صاحبها حرفة، ولم تعد نطاق الاضطرار. ونحن نميل إلى الإيجاب استئناسا بالتلقين القرآني والنبوي والراشدي. ولا سيما إذا لاحظنا واقع أمر حكام المسلمين وأغنيائهم. فقد جعل القرآن للفقراء والمساكين والأرقاء والمعسرين أنصبة وحقا في كل مورد من موارد بيت المال من فيء وغنائم وصدقات – أي الزكاة – وأوجب على الحكام والأغنياء أداءها لهم بحيث لو فعلوا ذلك بحق لاكتفى كل ذي حاجة ولقضي على العوز والجوع، فلم يقوموا بما أوجبه الله عليهم، وبقي الفقراء والمساكين مرتكسين في أشد حالات البؤس والعوز والشقاء. والله تعالى أعلم.

٩-
والعلماء متفقون على أن القطع هو عمل قضائي ينفذ بأمر ولي الأمر. وهم متفقون كذلك على أن السرقة تثبت بالاعتراف أو البينة. وهذا وذاك حق.

١٠-
وقطع اليد هو قطع الرسغ أي لا يصل إلى المرفق. وهناك حديث عن فضالة بن عبد الله رواه أصحاب السنن :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه ) ( ١ )١٢ وهذا يؤيد ذاك كما هو المتبادر.

١١-
وقد اختلف العلماء في تكرر القطع بتكرر الجرم. فهناك من قال بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في الثانية واليد اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ثم يعزر ويحبس. ورووا في تأييد ذلك حديثا نبويا عن أبي هريرة وعن أبي بكرة لم يرد في أي من الكتب الخمسة جاء فيه :( إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ) ( ٢ )١٣وقد قال المفسر البغوي الذي أورد هذا الحديث : إن مالكا والشافعي أخذ به. وهناك من قال : تقطع اليد اليمنى في
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً ( ١ ) مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٣٨ ) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٩ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٠ ) ﴾ ( ٣٨ – ٤٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا...................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما ينطوي فيهما من أحكام
عبارة الآيات واضحة. وتحتوي تشريعا في حد السرقة بالنسبة للسارق والسارقة على السواء مع إيذان رباني بقبول توبة من تاب منهما وأصلح.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة الآيات. وإنما روى الطبري أن امرأة سرقت حليا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة. فقال : اقطعوا يدها اليمنى، فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله :﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾.
والذي يتبادر لنا أن للآيات صلة بالسياق السابق. فقد احتوت الآية ( ٣٢ ) حكما تشريعيا في حق من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا. وكان ذلك في ظرف ارتداد بعض البدو ونهبهم لذود الإبل الذي منحهم إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتلهم الرعاة، فجاءت هذه الآيات لتستطرد إلى تشريع حد السرقة العادية ليكون الفرق واضحا بين عقوبة السرقة العادية التي تقع خفية وخلسة بدون عنف ودم، وبين تلك الجرائم التي تكون عادة مترافقة مع العنف والدم.
ونرجح أن الآيات الثلاث نزلت معا، وأن الإيذان بقبول توبة السارق قد جاء ليتساوق مع الإيذان بقبول توبة المحارب في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون المرأة السارقة سألت عن إمكان التوبة فتليت عليها الآية، فالتبس ذلك على الرواة والله أعلم.
وحد السرقة من الحدود القليلة المعنية في القرآن لبعض الجرائم المهمة.
وجريمة السرقة اعتبرت دائما وفي جميع المجتمعات والظروف من الجرائم المهمة ؛ لأن فيها عدوانا على أموال الغير التي تشغل في المجتمع مقاما رئيسيا بعد مقام الحياة والأعراض والسلامة العامة. فلا غرو أن يرتب القرآن عليها حدا كما رتب على القتل والزنا والفساد في الأرض. ولا غرو أن اشتد في عقوبتها لتكون متكافئة مع خطورتها.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث فيها دلالة على تشدده في موضوع السرقة وإقامة حدها. منها حديث عن عائشة جاء فيه :( أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الفتح، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة ابن زيد حب رسول الله فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمه فيها أسامة، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أتشفع في حد من حدود الله عز وجل، فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها ) ( ١ )١. ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو قال :( سرقت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا فقال : قومها فنحن نفديها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقطعوا يدها فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار. فقال : اقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى ) ( ٢ )٢ ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الخمسة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده. ويسرق الحبل فتقطع يده ) ( ٣ )٣.
وفي كتب التفسير ( ٤ )٤بيانات متنوعة في صدد ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها فيما يلي مع ما يعن للبال من تعليق :

١-
إن حد السرقة لا يقام إلا على العاقل البالغ. وهذا طبيعي ؛ لأن العقل والبلوغ هما اللذان يجعلان الإنسان محلا للتكليف ) ( ٥ )٥.

٢-
وقال الخازن : إن العلم بحرمة السرقة وحدها أيضا شرط لإقامة الحد، ولم يذكر سندا. ومثل على ذلك بالمسلم الحديث العهد الذي لا يعرف أن السرقة في الإسلام حرام تستوجب الحد. ولسنا نرى هذا وجيها. فالآية من جهة مطلقة، والسرقة من جهة ثانية من الجرائم العامة التي هي محرمة في كل شريعة، ولا يمكن أن يجهل أحد أن فاعلها ينجو من عقاب.

٣-
اختلف في النصاب الذي يقطع به بسبب اختلاف المأثور من السنة النبوية. فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ) ( ١ )٦وهناك حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم ) ( ٢ )٧وهناك حديث عن ابن عباس رواه أبو داود والنسائي :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم ) ( ٣ )٨فذهب بعض أئمة الفقه إلى اعتبار النصاب الأدنى ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم – وقيمة الدراهم الثلاثة كانت تقارب قيمة ربع الدينار – وذهب آخرون إلى اعتبار النصاب الأدنى دينارا أو عشرة دراهم. وبناء على ذلك فمن سرق دون النصاب الأدنى لا يقطع. وهذا التشريع النبوي متمم للتشريع القرآني ؛ حيث أوضح ما سكت عنه القرآن.
والمتبادر أن النصاب الأدنى سواء أكان ربع دينار أم دينارا إنما حدد حسب ظروف البيئة النبوية ؛ وهذا يورد على البال سؤالا عما إذا كان يصح أن يكون النصاب عرضة لتقدير ولي الأمر في حالة تغير الظروف والقيم وتطورها ؟ ونميل إلى الإيجاب والله أعلم.
ولقد لاح لنا إلى هذا حكمة سامية في جعل النصاب الذي لا يقطع به ضئيلا، فالذي يسرق القليل يسرق الكثير. والعقوبة إنما استهدفت زجر المجرم وردع غيره عن الجريمة. فإذا ما عرف أن اليد عرضة للقطع مقابل القليل ارتدع عن القليل والكثير معا. ولعل حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده ) مما يدعم ذلك والله أعلم.

٤-
والعلماء متفقون على أن القطع إنما يكون في سرقة مال محرز أي موضوع في مكان من العادة أن يعتبر حرزا، ومسور عليه ولو لم يكن عليه حارس، ويدخل في ذلك الخيمة. ولا يوجبون القطع على من أخذ شيئا موضوعا في مكان غير محرز ولا حارس عليه أو بهيمة في برية لا راعي لها. ويظهر أنهم اعتبروا أن مثل ذلك لا يتصف بوصف السرقة، ولا يخلو هذا من وجاهة ؛ لأن آخذه قد يكون أخذه على أنه مهمل متروك.

٥-
وهناك من أسقط القطع عن جاحد المتاع المستعار أو جاحد الأمانة أو الذي يأخذ شيئا بطريقة الاختطاف والاختلاس العياني استنادا إلى حديث رواه أصحاب السنن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ) ( ١ )٩ وعللوا حكمة ذلك بإمكان استرداد المأخوذ خطفا أو نهبا والأمانة والمعار بالبينة ؛ ولأن مثل هذا العمل لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلوا القول من وجاهة.

٦-
ومما ذكره الخازن أن لا قطع على سرقة مال للسارق فيه شبهة حق كالولد يسرق من مال أبيه أو الوالد من مال ابنه أو العبد من مال سيده أو الشريك من مال شريكه. ولم يذكر المفسر سندا لقوله. ولم نر مفسرا آخر ذكر ذلك ويمكن أن تكون الأحاديث المروية في درء الحدود بالشبهات التي أوردناها في سياق تفسير الآية ( ٢٤ ) في سورة النساء سندا لذلك.

٧-
وأكثر العلماء على أنه لا قطع على آكل الثمر من البستان. وقد روي في صدد ذلك حديثان. واحد رواه أصحاب السنن عن رافع بن خديج قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا قطع في ثمر ولا كثر )١٠. وثانيهما رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن عبد الله بن عمرو قال :( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الثمر المعلق فقال : من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة )١١.

٨-
ولقد فسر شراح الحديث كلمة ( العقوبة ) في هذا الحديث بالتعزير حتى يرتدع السارق. ويكون في تعزيره عبرة لغيره. وقد أوجب العلماء بناء على ذلك تعزير سارق ما هو أدنى من النصاب من المال المحرز، وهذا حق. فالجريمة مهما تفهت لا يجوز أن تذهب بدون عقوبة.
غير أن حديث عبد الله بن عمرو الذي يسمح لذي الحاجة بأكل الثمر من البستان بدون عقوبة بفتح الباب للسؤال عن حكم السارق الذي يسرق عن عوز شديد لسد جوعه أو جوع عياله إذا ما ثبت ذلك لدى الحاكم. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدم قطع سارق سرق في عام قحط ليسد جوعه. ولقد حرم الله أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، واستثنى المضطر في حالة الجوع وخطره وعفا عنه. فهلا يصح أن يقال بجواز إعفاء مثل هذه الحالات الاضطرارية إذا ثبتت لدى الحاكم ولم تعد عند صاحبها حرفة، ولم تعد نطاق الاضطرار. ونحن نميل إلى الإيجاب استئناسا بالتلقين القرآني والنبوي والراشدي. ولا سيما إذا لاحظنا واقع أمر حكام المسلمين وأغنيائهم. فقد جعل القرآن للفقراء والمساكين والأرقاء والمعسرين أنصبة وحقا في كل مورد من موارد بيت المال من فيء وغنائم وصدقات – أي الزكاة – وأوجب على الحكام والأغنياء أداءها لهم بحيث لو فعلوا ذلك بحق لاكتفى كل ذي حاجة ولقضي على العوز والجوع، فلم يقوموا بما أوجبه الله عليهم، وبقي الفقراء والمساكين مرتكسين في أشد حالات البؤس والعوز والشقاء. والله تعالى أعلم.

٩-
والعلماء متفقون على أن القطع هو عمل قضائي ينفذ بأمر ولي الأمر. وهم متفقون كذلك على أن السرقة تثبت بالاعتراف أو البينة. وهذا وذاك حق.

١٠-
وقطع اليد هو قطع الرسغ أي لا يصل إلى المرفق. وهناك حديث عن فضالة بن عبد الله رواه أصحاب السنن :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه ) ( ١ )١٢ وهذا يؤيد ذاك كما هو المتبادر.

١١-
وقد اختلف العلماء في تكرر القطع بتكرر الجرم. فهناك من قال بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في الثانية واليد اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ثم يعزر ويحبس. ورووا في تأييد ذلك حديثا نبويا عن أبي هريرة وعن أبي بكرة لم يرد في أي من الكتب الخمسة جاء فيه :( إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ) ( ٢ )١٣وقد قال المفسر البغوي الذي أورد هذا الحديث : إن مالكا والشافعي أخذ به. وهناك من قال : تقطع اليد اليمنى في
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً ( ١ ) مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٣٨ ) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٩ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٠ ) ﴾ ( ٣٨ – ٤٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا...................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما ينطوي فيهما من أحكام
عبارة الآيات واضحة. وتحتوي تشريعا في حد السرقة بالنسبة للسارق والسارقة على السواء مع إيذان رباني بقبول توبة من تاب منهما وأصلح.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة الآيات. وإنما روى الطبري أن امرأة سرقت حليا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة. فقال : اقطعوا يدها اليمنى، فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله :﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾.
والذي يتبادر لنا أن للآيات صلة بالسياق السابق. فقد احتوت الآية ( ٣٢ ) حكما تشريعيا في حق من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا. وكان ذلك في ظرف ارتداد بعض البدو ونهبهم لذود الإبل الذي منحهم إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتلهم الرعاة، فجاءت هذه الآيات لتستطرد إلى تشريع حد السرقة العادية ليكون الفرق واضحا بين عقوبة السرقة العادية التي تقع خفية وخلسة بدون عنف ودم، وبين تلك الجرائم التي تكون عادة مترافقة مع العنف والدم.
ونرجح أن الآيات الثلاث نزلت معا، وأن الإيذان بقبول توبة السارق قد جاء ليتساوق مع الإيذان بقبول توبة المحارب في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون المرأة السارقة سألت عن إمكان التوبة فتليت عليها الآية، فالتبس ذلك على الرواة والله أعلم.
وحد السرقة من الحدود القليلة المعنية في القرآن لبعض الجرائم المهمة.
وجريمة السرقة اعتبرت دائما وفي جميع المجتمعات والظروف من الجرائم المهمة ؛ لأن فيها عدوانا على أموال الغير التي تشغل في المجتمع مقاما رئيسيا بعد مقام الحياة والأعراض والسلامة العامة. فلا غرو أن يرتب القرآن عليها حدا كما رتب على القتل والزنا والفساد في الأرض. ولا غرو أن اشتد في عقوبتها لتكون متكافئة مع خطورتها.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث فيها دلالة على تشدده في موضوع السرقة وإقامة حدها. منها حديث عن عائشة جاء فيه :( أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الفتح، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة ابن زيد حب رسول الله فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمه فيها أسامة، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أتشفع في حد من حدود الله عز وجل، فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها ) ( ١ )١. ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو قال :( سرقت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا فقال : قومها فنحن نفديها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقطعوا يدها فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار. فقال : اقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى ) ( ٢ )٢ ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الخمسة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده. ويسرق الحبل فتقطع يده ) ( ٣ )٣.
وفي كتب التفسير ( ٤ )٤بيانات متنوعة في صدد ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها فيما يلي مع ما يعن للبال من تعليق :

١-
إن حد السرقة لا يقام إلا على العاقل البالغ. وهذا طبيعي ؛ لأن العقل والبلوغ هما اللذان يجعلان الإنسان محلا للتكليف ) ( ٥ )٥.

٢-
وقال الخازن : إن العلم بحرمة السرقة وحدها أيضا شرط لإقامة الحد، ولم يذكر سندا. ومثل على ذلك بالمسلم الحديث العهد الذي لا يعرف أن السرقة في الإسلام حرام تستوجب الحد. ولسنا نرى هذا وجيها. فالآية من جهة مطلقة، والسرقة من جهة ثانية من الجرائم العامة التي هي محرمة في كل شريعة، ولا يمكن أن يجهل أحد أن فاعلها ينجو من عقاب.

٣-
اختلف في النصاب الذي يقطع به بسبب اختلاف المأثور من السنة النبوية. فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ) ( ١ )٦وهناك حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم ) ( ٢ )٧وهناك حديث عن ابن عباس رواه أبو داود والنسائي :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم ) ( ٣ )٨فذهب بعض أئمة الفقه إلى اعتبار النصاب الأدنى ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم – وقيمة الدراهم الثلاثة كانت تقارب قيمة ربع الدينار – وذهب آخرون إلى اعتبار النصاب الأدنى دينارا أو عشرة دراهم. وبناء على ذلك فمن سرق دون النصاب الأدنى لا يقطع. وهذا التشريع النبوي متمم للتشريع القرآني ؛ حيث أوضح ما سكت عنه القرآن.
والمتبادر أن النصاب الأدنى سواء أكان ربع دينار أم دينارا إنما حدد حسب ظروف البيئة النبوية ؛ وهذا يورد على البال سؤالا عما إذا كان يصح أن يكون النصاب عرضة لتقدير ولي الأمر في حالة تغير الظروف والقيم وتطورها ؟ ونميل إلى الإيجاب والله أعلم.
ولقد لاح لنا إلى هذا حكمة سامية في جعل النصاب الذي لا يقطع به ضئيلا، فالذي يسرق القليل يسرق الكثير. والعقوبة إنما استهدفت زجر المجرم وردع غيره عن الجريمة. فإذا ما عرف أن اليد عرضة للقطع مقابل القليل ارتدع عن القليل والكثير معا. ولعل حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده ) مما يدعم ذلك والله أعلم.

٤-
والعلماء متفقون على أن القطع إنما يكون في سرقة مال محرز أي موضوع في مكان من العادة أن يعتبر حرزا، ومسور عليه ولو لم يكن عليه حارس، ويدخل في ذلك الخيمة. ولا يوجبون القطع على من أخذ شيئا موضوعا في مكان غير محرز ولا حارس عليه أو بهيمة في برية لا راعي لها. ويظهر أنهم اعتبروا أن مثل ذلك لا يتصف بوصف السرقة، ولا يخلو هذا من وجاهة ؛ لأن آخذه قد يكون أخذه على أنه مهمل متروك.

٥-
وهناك من أسقط القطع عن جاحد المتاع المستعار أو جاحد الأمانة أو الذي يأخذ شيئا بطريقة الاختطاف والاختلاس العياني استنادا إلى حديث رواه أصحاب السنن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ) ( ١ )٩ وعللوا حكمة ذلك بإمكان استرداد المأخوذ خطفا أو نهبا والأمانة والمعار بالبينة ؛ ولأن مثل هذا العمل لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلوا القول من وجاهة.

٦-
ومما ذكره الخازن أن لا قطع على سرقة مال للسارق فيه شبهة حق كالولد يسرق من مال أبيه أو الوالد من مال ابنه أو العبد من مال سيده أو الشريك من مال شريكه. ولم يذكر المفسر سندا لقوله. ولم نر مفسرا آخر ذكر ذلك ويمكن أن تكون الأحاديث المروية في درء الحدود بالشبهات التي أوردناها في سياق تفسير الآية ( ٢٤ ) في سورة النساء سندا لذلك.

٧-
وأكثر العلماء على أنه لا قطع على آكل الثمر من البستان. وقد روي في صدد ذلك حديثان. واحد رواه أصحاب السنن عن رافع بن خديج قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا قطع في ثمر ولا كثر )١٠. وثانيهما رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن عبد الله بن عمرو قال :( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الثمر المعلق فقال : من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة )١١.

٨-
ولقد فسر شراح الحديث كلمة ( العقوبة ) في هذا الحديث بالتعزير حتى يرتدع السارق. ويكون في تعزيره عبرة لغيره. وقد أوجب العلماء بناء على ذلك تعزير سارق ما هو أدنى من النصاب من المال المحرز، وهذا حق. فالجريمة مهما تفهت لا يجوز أن تذهب بدون عقوبة.
غير أن حديث عبد الله بن عمرو الذي يسمح لذي الحاجة بأكل الثمر من البستان بدون عقوبة بفتح الباب للسؤال عن حكم السارق الذي يسرق عن عوز شديد لسد جوعه أو جوع عياله إذا ما ثبت ذلك لدى الحاكم. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدم قطع سارق سرق في عام قحط ليسد جوعه. ولقد حرم الله أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، واستثنى المضطر في حالة الجوع وخطره وعفا عنه. فهلا يصح أن يقال بجواز إعفاء مثل هذه الحالات الاضطرارية إذا ثبتت لدى الحاكم ولم تعد عند صاحبها حرفة، ولم تعد نطاق الاضطرار. ونحن نميل إلى الإيجاب استئناسا بالتلقين القرآني والنبوي والراشدي. ولا سيما إذا لاحظنا واقع أمر حكام المسلمين وأغنيائهم. فقد جعل القرآن للفقراء والمساكين والأرقاء والمعسرين أنصبة وحقا في كل مورد من موارد بيت المال من فيء وغنائم وصدقات – أي الزكاة – وأوجب على الحكام والأغنياء أداءها لهم بحيث لو فعلوا ذلك بحق لاكتفى كل ذي حاجة ولقضي على العوز والجوع، فلم يقوموا بما أوجبه الله عليهم، وبقي الفقراء والمساكين مرتكسين في أشد حالات البؤس والعوز والشقاء. والله تعالى أعلم.

٩-
والعلماء متفقون على أن القطع هو عمل قضائي ينفذ بأمر ولي الأمر. وهم متفقون كذلك على أن السرقة تثبت بالاعتراف أو البينة. وهذا وذاك حق.

١٠-
وقطع اليد هو قطع الرسغ أي لا يصل إلى المرفق. وهناك حديث عن فضالة بن عبد الله رواه أصحاب السنن :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه ) ( ١ )١٢ وهذا يؤيد ذاك كما هو المتبادر.

١١-
وقد اختلف العلماء في تكرر القطع بتكرر الجرم. فهناك من قال بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في الثانية واليد اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ثم يعزر ويحبس. ورووا في تأييد ذلك حديثا نبويا عن أبي هريرة وعن أبي بكرة لم يرد في أي من الكتب الخمسة جاء فيه :( إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ) ( ٢ )١٣وقد قال المفسر البغوي الذي أورد هذا الحديث : إن مالكا والشافعي أخذ به. وهناك من قال : تقطع اليد اليمنى في
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٤١ ) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ( ١ ) فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٤٢ ) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٣ ) ﴾ ( ٤١ – ٤٣ ).
في الآيات :
( ١ ) تسرية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا موجب لحزنه من المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون به في حين أن قلوبهم غير مؤمنة، ويسارعون في إظهار الكفر والجحود والشك في آية مناسبة. ولا من اليهود الذين يسمعون ويصدقون ما ينقله إليهم غيرهم من الأكاذيب ويشجعون عليها ويحرفون الكلام عن مقاصده الصحيحة، ولا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليسمعوا منه شفاها ويوسوسون للناس فيشيرون عليهم بقبول حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حكم بكيت وعدم قبوله إذا حكم بكيت.
( ٢ ) وحملة على هؤلاء خاصة، فإن ما يفعلونه ناشئ عن خبث نفوسهم وسوء نواياهم، وإن الله لمخزيهم في الدنيا ولمعذبهم عذابا عظيما في الآخرة.
( ٣ ) وإنهم لسماعون للكذب راضون به مشجعون عليه، وإنهم لأكالون للمال الحرام.
( ٤ ) وتخيير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءوا إليه ليحكم بينهم. فله أن يقضي بينهم أو يعرض عنهم، وليس عليه من بأس إذا هو أعرض عنهم ولم يقبل أن يحكم بينهم. أما إذا رضي بالقضاء بينهم فعليه القضاء بالعدل والقسط. فإن الله يحب المقسطين الذين لا ينحرفون عن الحق في أي حال.
( ٥ ) وسؤال إنكاري على سبيل التعقيب والتقريع والتعجب عن تحكيم اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتقاضي عنده وعندهم التوراة فيها حكم الله فيما يريدون أن يتقاضوا فيه. وعن إعراضهم عنها. وتقرير بأنهم – وهذا حالهم – لا يمكن أن يعتبروا مؤمنين بما أنزل إليهم الله.
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيهما من صور وتلقين
وأحكام بالنسبة لقضايا أهل الكتاب في ظل السلطان الإسلامي
قد تبدو الآيات فصلا جديدا، ومع ذلك فإن بينها وبين الفصول السابقة تناسبا ما من حيث احتواء هذه وتلك صورا من مواقف اليهود وأخلاقهم. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الفصول السابقة فوضع في مكانه للتناسب الظرفي والموضوعي. وإلا فيكون وضعه للتناسب الموضوعي والله أعلم.
وقد روى الطبري روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها أنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي استشاره يهود بني قريظة في أمرهم حينما حاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأشار إشارة فهموا منها أن النزول على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم معناه الذبح. ومنها أنها نزلت في مناسبة طلب رجل من اليهود من حليف مسلم له أن يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكم قتيل قتله، فإذا كان الحكم بالدية تقاضى عنده وإلا فلا. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود ؛ حيث اجتمع اليهود حين قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكان رجل محصن منهم قد زنى بامرأة محصنة فقالوا : نسأل محمدا عن الحكم، فإن حكم بالجلد والتحميم والتعزير يكون ملكا لا بأس علينا منه، وإن حكم بالرجم يكون نبيا فنحذره من استلاب ما في أيدينا. فأتوه فطلب منهم أن يدلوه على أعلمهم في التوراة، فذكروا له عبد الله بن صوريا، فخلا به وناشده عما إذا كان يعلم أن حكم الزنا في التوراة الرجم فقال : بلى. وإنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك. فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجمهما، ولكن ابن صوريا جحد بعد ذلك ما قاله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بيهودي محمم مجلود، فدعا رجلا من علمائهم فقال : أهكذا تجدون حد الزنا ؟ قال : نعم. قال : فأنشدك بالذي أنزل التوراة أهكذا تجدونه ؟ فقال : إن الحد كان الرجم، ولكن الزنا كثر بين اليهود وصاروا يقيمون الحد على الضعيف دون القوي والشريف، ثم اتفقوا على تبديل الرجم في التوراة بالجلد والتحميم ( ١ )١فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأمر بالزاني فرجم.
وإلى هذه الروايات فقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية ﴿ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم ﴾ إلى جملة :﴿ الْمُقْسِطِينَ ﴾ نزلت في قضية قتيل من بني قريظة قتله بنو النضير. وكان بنو النضير يرون لأنفسهم فضلا على بني قريظة، فإذا ما قتلوا منهم لم يقيدوا من أنفسهم، وإنما دفعوا الدية، وإذا قتل بنو قريظة منهم لا يقبلون إلا القود، فأراد بنو قريظة أن يرفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتحاكموا مع بني النضير عنده حتى يحكم لهم بالقود فقال رجل من المنافقين لبني النضير : إن محمدا قد يحكم عليهم بالقود فاحذروا ولا تقبلوا المحاكمة عنده إلا إذا عرفتم أنه يقضي بالدية فأنزل الله الآية.
وقد أورد المفسرون ما أورد الطبري. وأورد ابن كثير بالإضافة إلى ذلك رواية رواها الإمام أحمد عن ابن عباس مشابهة للرواية الأخيرة، ولكنها تعود إلى الجاهلية ؛ حيث ذكرت ما خلاصته كسبب لنزول الآية أن طائفتين من اليهود اقتتلتا في الجاهلية فقهرت إحداهما الأخرى فاتفقتا على أن القتيل من التي قهرت يودى بمائة وسق ومن المقهورة بخمسين. وبعد قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتلت الذليلة واحدا من العزيزة فطالبت هذه بالدية المضاعفة، فأبت الأولى حتى كادت الحرب تقع بينهما، ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدست الذليلة ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كان حكم كما شاؤوا تحاكموا عنده، وإلا نكصوا فأنزل الله الآية فيهم.
وجمهور المفسرين بما فيهم الطبري يرجحون نزول الآيات في مناسبة قضية الزنا. ومنهم من قال : إن قضية الزنا وقضية القتل بين بني النضير وبني قريظة اجتمعتا معا فأنزل الله الآيات فيهما. وقد روى البخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن عمر :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بيهودي ويهودية زنيا فانطلق إلى يهود فقال : ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ قالوا : نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فأتوا بها فقرؤوها حتى إذا جاءت آية الرجم سترها الذي يقرأ بيده وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال : عبد الله بن سلام وهو مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مره فليرفع يده، فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما. قال ابن عمر : كنت فيمن رجمهما. ورأيت الرجل يقي المرأة من الحجارة بنفسه ) ( ١ )٢وقد أورد ابن كثير هذا الحديث في سياق الآيات.
ونص الآيات صريح بأنها في صدد حادث ندد بسببه بفريق من المنافقين وفريق من اليهود وأنه كان هناك قضية يهودية أريد تحكيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، فكانت مشاورة في صدد ذلك بين الفريقين ثم مؤامرة على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبوله إذا حكم كما يريدون وبرفضه إذا لم يحكم كذلك. وقد يتفق شيء من هذا مع الرواية التي تذكر أن يهوديا سأل حليفا له بالسؤال من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم قتيل قتله على أن يتحاكم عنده إذا كان حكمه بالدية دون القصاص كما يهوي. أو مع الروايات التي تذكر أن قسما من الآيات نزل في قتيل بني قريظة أو القتيل الذي قتلته القبيلة الذليلة من العزيزة من قبيلتي اليهود، والآيات التالية لهذه الآيات تحتوي بيان ما كتبه الله تعالى على اليهود في التوراة من أحكام قتل النفس والدماء والجروح وليس فيها شيء عن حكم التوراة في الزنا بحيث يسوغ القول إن قضية الزنا ليس لها صلة بالآيات.
ولعلها أقحمت عليها ؛ لأنها وردت في حديث صحيح مع أن الحديث لا يذكر بأن لها صلة بالآيات أيضا. ونظم الآيات منسجم مع بعضه بحيث يبعد أن تكون نزلت متفرقة وفي مناسبات مختلفة. ولسنا نرى في رواية أبي لبابة التي انفرد بها الطبري صلة مفهومة بالآيات.
ونص الآيات يفيد أن الفريق المنافق قد نقل على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقله، أو أن الفريق اليهودي حرف ما سمعه على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الفريقين اشتركا معا في التهويش والتشويش، وأنه كان لذلك أثر شديد محزن في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويلهم كذلك أن الحادث وقع في ظرف كان اليهود فيه ما يزالون في المدينة يدسون ويتآمرون مع المنافقين. وإذا صح هذا فيكون ها الفصل والفصول التي سبقته المحتوية على صور من مواقف اليهود وتاريخهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نزلت قبل صلح الحديبية الذي للفصول الأولى من السورة صلة به كما نبهنا على ذلك من قبل. ويكون في هذا دليل على ما ذكرناه في مقدمة السورة من أن في فصول السورة ما هو متقدم في النزول متأخر في الترتيب، وما هو عكس ذلك، وأنها ألفت مؤخرا بعد أن تم نزول ما شاءت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحكم بالقسط بين اليهود في القضايا التي يحكمونه فيها ويريد أن يحكم فيها متسق كما هو واضح مع المبادئ القرآنية المتكررة في إيجاب العدل والقسط بخاصة مع المبدأ الذي شدد عليه في الآية الثامنة من هذه السورة، وهو عدم التأثر ببغض قوم وجعله مؤثرا في العدل معهم. والروعة والتساوق يبدوان بارزين خاصة ؛ لأن الآيات حكت مواقف تهويش وشغب مقصودة وقفها اليهود. وهذا التلقين مستمر المدى كما هو واضح.
وفي الآيات تخيير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم بينهم إذا جاءوا إليه أو الإعراض عنهم. ولقد روى الطبري عن الشعبي وعطاء وابن جريج أن حكم الآية محكم وأن للحاكم المسلم الخيار في الحكم بين من يأتي إليه من غير المسلمين وعدم الحكم. كما روى عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة أن حكمهما منسوخ بآيات أخرى من هذه السورة تأتي بعد قليل فيها أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم، وأن القضاء الإسلامي هو المختص بالنظر في قضايا أهل الذمة والمعاهدين من غير المسلمين
١ فسر الطبري التحميم بتسويد الوجه بالسخام..
٢ التاج ج ٣ ص ٢٤..
( ١ ) السحت : قيل إنه في الأصل بمعنى المحق والاستئصال. وقد ورد في القرآن بهذا المعنى في آية سورة طه هذه ﴿ قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ( ٦١ ) ﴾ ثم أطلق على الرشوة والمال الحرام ؛ لأنه يمحق آخذه ويستأصله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٤١ ) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ( ١ ) فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٤٢ ) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٣ ) ﴾ ( ٤١ – ٤٣ ).

في الآيات :

( ١ ) تسرية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا موجب لحزنه من المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون به في حين أن قلوبهم غير مؤمنة، ويسارعون في إظهار الكفر والجحود والشك في آية مناسبة. ولا من اليهود الذين يسمعون ويصدقون ما ينقله إليهم غيرهم من الأكاذيب ويشجعون عليها ويحرفون الكلام عن مقاصده الصحيحة، ولا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليسمعوا منه شفاها ويوسوسون للناس فيشيرون عليهم بقبول حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حكم بكيت وعدم قبوله إذا حكم بكيت.
( ٢ ) وحملة على هؤلاء خاصة، فإن ما يفعلونه ناشئ عن خبث نفوسهم وسوء نواياهم، وإن الله لمخزيهم في الدنيا ولمعذبهم عذابا عظيما في الآخرة.
( ٣ ) وإنهم لسماعون للكذب راضون به مشجعون عليه، وإنهم لأكالون للمال الحرام.
( ٤ ) وتخيير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءوا إليه ليحكم بينهم. فله أن يقضي بينهم أو يعرض عنهم، وليس عليه من بأس إذا هو أعرض عنهم ولم يقبل أن يحكم بينهم. أما إذا رضي بالقضاء بينهم فعليه القضاء بالعدل والقسط. فإن الله يحب المقسطين الذين لا ينحرفون عن الحق في أي حال.
( ٥ ) وسؤال إنكاري على سبيل التعقيب والتقريع والتعجب عن تحكيم اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتقاضي عنده وعندهم التوراة فيها حكم الله فيما يريدون أن يتقاضوا فيه. وعن إعراضهم عنها. وتقرير بأنهم – وهذا حالهم – لا يمكن أن يعتبروا مؤمنين بما أنزل إليهم الله.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيهما من صور وتلقين
وأحكام بالنسبة لقضايا أهل الكتاب في ظل السلطان الإسلامي
قد تبدو الآيات فصلا جديدا، ومع ذلك فإن بينها وبين الفصول السابقة تناسبا ما من حيث احتواء هذه وتلك صورا من مواقف اليهود وأخلاقهم. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الفصول السابقة فوضع في مكانه للتناسب الظرفي والموضوعي. وإلا فيكون وضعه للتناسب الموضوعي والله أعلم.
وقد روى الطبري روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها أنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي استشاره يهود بني قريظة في أمرهم حينما حاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأشار إشارة فهموا منها أن النزول على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم معناه الذبح. ومنها أنها نزلت في مناسبة طلب رجل من اليهود من حليف مسلم له أن يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكم قتيل قتله، فإذا كان الحكم بالدية تقاضى عنده وإلا فلا. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود ؛ حيث اجتمع اليهود حين قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكان رجل محصن منهم قد زنى بامرأة محصنة فقالوا : نسأل محمدا عن الحكم، فإن حكم بالجلد والتحميم والتعزير يكون ملكا لا بأس علينا منه، وإن حكم بالرجم يكون نبيا فنحذره من استلاب ما في أيدينا. فأتوه فطلب منهم أن يدلوه على أعلمهم في التوراة، فذكروا له عبد الله بن صوريا، فخلا به وناشده عما إذا كان يعلم أن حكم الزنا في التوراة الرجم فقال : بلى. وإنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك. فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجمهما، ولكن ابن صوريا جحد بعد ذلك ما قاله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بيهودي محمم مجلود، فدعا رجلا من علمائهم فقال : أهكذا تجدون حد الزنا ؟ قال : نعم. قال : فأنشدك بالذي أنزل التوراة أهكذا تجدونه ؟ فقال : إن الحد كان الرجم، ولكن الزنا كثر بين اليهود وصاروا يقيمون الحد على الضعيف دون القوي والشريف، ثم اتفقوا على تبديل الرجم في التوراة بالجلد والتحميم ( ١ )١فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأمر بالزاني فرجم.
وإلى هذه الروايات فقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية ﴿ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم ﴾ إلى جملة :﴿ الْمُقْسِطِينَ ﴾ نزلت في قضية قتيل من بني قريظة قتله بنو النضير. وكان بنو النضير يرون لأنفسهم فضلا على بني قريظة، فإذا ما قتلوا منهم لم يقيدوا من أنفسهم، وإنما دفعوا الدية، وإذا قتل بنو قريظة منهم لا يقبلون إلا القود، فأراد بنو قريظة أن يرفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتحاكموا مع بني النضير عنده حتى يحكم لهم بالقود فقال رجل من المنافقين لبني النضير : إن محمدا قد يحكم عليهم بالقود فاحذروا ولا تقبلوا المحاكمة عنده إلا إذا عرفتم أنه يقضي بالدية فأنزل الله الآية.
وقد أورد المفسرون ما أورد الطبري. وأورد ابن كثير بالإضافة إلى ذلك رواية رواها الإمام أحمد عن ابن عباس مشابهة للرواية الأخيرة، ولكنها تعود إلى الجاهلية ؛ حيث ذكرت ما خلاصته كسبب لنزول الآية أن طائفتين من اليهود اقتتلتا في الجاهلية فقهرت إحداهما الأخرى فاتفقتا على أن القتيل من التي قهرت يودى بمائة وسق ومن المقهورة بخمسين. وبعد قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتلت الذليلة واحدا من العزيزة فطالبت هذه بالدية المضاعفة، فأبت الأولى حتى كادت الحرب تقع بينهما، ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدست الذليلة ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كان حكم كما شاؤوا تحاكموا عنده، وإلا نكصوا فأنزل الله الآية فيهم.
وجمهور المفسرين بما فيهم الطبري يرجحون نزول الآيات في مناسبة قضية الزنا. ومنهم من قال : إن قضية الزنا وقضية القتل بين بني النضير وبني قريظة اجتمعتا معا فأنزل الله الآيات فيهما. وقد روى البخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن عمر :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بيهودي ويهودية زنيا فانطلق إلى يهود فقال : ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ قالوا : نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فأتوا بها فقرؤوها حتى إذا جاءت آية الرجم سترها الذي يقرأ بيده وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال : عبد الله بن سلام وهو مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مره فليرفع يده، فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما. قال ابن عمر : كنت فيمن رجمهما. ورأيت الرجل يقي المرأة من الحجارة بنفسه ) ( ١ )٢وقد أورد ابن كثير هذا الحديث في سياق الآيات.
ونص الآيات صريح بأنها في صدد حادث ندد بسببه بفريق من المنافقين وفريق من اليهود وأنه كان هناك قضية يهودية أريد تحكيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، فكانت مشاورة في صدد ذلك بين الفريقين ثم مؤامرة على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبوله إذا حكم كما يريدون وبرفضه إذا لم يحكم كذلك. وقد يتفق شيء من هذا مع الرواية التي تذكر أن يهوديا سأل حليفا له بالسؤال من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم قتيل قتله على أن يتحاكم عنده إذا كان حكمه بالدية دون القصاص كما يهوي. أو مع الروايات التي تذكر أن قسما من الآيات نزل في قتيل بني قريظة أو القتيل الذي قتلته القبيلة الذليلة من العزيزة من قبيلتي اليهود، والآيات التالية لهذه الآيات تحتوي بيان ما كتبه الله تعالى على اليهود في التوراة من أحكام قتل النفس والدماء والجروح وليس فيها شيء عن حكم التوراة في الزنا بحيث يسوغ القول إن قضية الزنا ليس لها صلة بالآيات.
ولعلها أقحمت عليها ؛ لأنها وردت في حديث صحيح مع أن الحديث لا يذكر بأن لها صلة بالآيات أيضا. ونظم الآيات منسجم مع بعضه بحيث يبعد أن تكون نزلت متفرقة وفي مناسبات مختلفة. ولسنا نرى في رواية أبي لبابة التي انفرد بها الطبري صلة مفهومة بالآيات.
ونص الآيات يفيد أن الفريق المنافق قد نقل على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقله، أو أن الفريق اليهودي حرف ما سمعه على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الفريقين اشتركا معا في التهويش والتشويش، وأنه كان لذلك أثر شديد محزن في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويلهم كذلك أن الحادث وقع في ظرف كان اليهود فيه ما يزالون في المدينة يدسون ويتآمرون مع المنافقين. وإذا صح هذا فيكون ها الفصل والفصول التي سبقته المحتوية على صور من مواقف اليهود وتاريخهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نزلت قبل صلح الحديبية الذي للفصول الأولى من السورة صلة به كما نبهنا على ذلك من قبل. ويكون في هذا دليل على ما ذكرناه في مقدمة السورة من أن في فصول السورة ما هو متقدم في النزول متأخر في الترتيب، وما هو عكس ذلك، وأنها ألفت مؤخرا بعد أن تم نزول ما شاءت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحكم بالقسط بين اليهود في القضايا التي يحكمونه فيها ويريد أن يحكم فيها متسق كما هو واضح مع المبادئ القرآنية المتكررة في إيجاب العدل والقسط بخاصة مع المبدأ الذي شدد عليه في الآية الثامنة من هذه السورة، وهو عدم التأثر ببغض قوم وجعله مؤثرا في العدل معهم. والروعة والتساوق يبدوان بارزين خاصة ؛ لأن الآيات حكت مواقف تهويش وشغب مقصودة وقفها اليهود. وهذا التلقين مستمر المدى كما هو واضح.
وفي الآيات تخيير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم بينهم إذا جاءوا إليه أو الإعراض عنهم. ولقد روى الطبري عن الشعبي وعطاء وابن جريج أن حكم الآية محكم وأن للحاكم المسلم الخيار في الحكم بين من يأتي إليه من غير المسلمين وعدم الحكم. كما روى عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة أن حكمهما منسوخ بآيات أخرى من هذه السورة تأتي بعد قليل فيها أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم، وأن القضاء الإسلامي هو المختص بالنظر في قضايا أهل الذمة والمعاهدين من غير المسلمين
١ فسر الطبري التحميم بتسويد الوجه بالسخام..
٢ التاج ج ٣ ص ٢٤..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٤١ ) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ( ١ ) فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٤٢ ) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٣ ) ﴾ ( ٤١ – ٤٣ ).

في الآيات :

( ١ ) تسرية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا موجب لحزنه من المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون به في حين أن قلوبهم غير مؤمنة، ويسارعون في إظهار الكفر والجحود والشك في آية مناسبة. ولا من اليهود الذين يسمعون ويصدقون ما ينقله إليهم غيرهم من الأكاذيب ويشجعون عليها ويحرفون الكلام عن مقاصده الصحيحة، ولا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليسمعوا منه شفاها ويوسوسون للناس فيشيرون عليهم بقبول حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حكم بكيت وعدم قبوله إذا حكم بكيت.
( ٢ ) وحملة على هؤلاء خاصة، فإن ما يفعلونه ناشئ عن خبث نفوسهم وسوء نواياهم، وإن الله لمخزيهم في الدنيا ولمعذبهم عذابا عظيما في الآخرة.
( ٣ ) وإنهم لسماعون للكذب راضون به مشجعون عليه، وإنهم لأكالون للمال الحرام.
( ٤ ) وتخيير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءوا إليه ليحكم بينهم. فله أن يقضي بينهم أو يعرض عنهم، وليس عليه من بأس إذا هو أعرض عنهم ولم يقبل أن يحكم بينهم. أما إذا رضي بالقضاء بينهم فعليه القضاء بالعدل والقسط. فإن الله يحب المقسطين الذين لا ينحرفون عن الحق في أي حال.
( ٥ ) وسؤال إنكاري على سبيل التعقيب والتقريع والتعجب عن تحكيم اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتقاضي عنده وعندهم التوراة فيها حكم الله فيما يريدون أن يتقاضوا فيه. وعن إعراضهم عنها. وتقرير بأنهم – وهذا حالهم – لا يمكن أن يعتبروا مؤمنين بما أنزل إليهم الله.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيهما من صور وتلقين
وأحكام بالنسبة لقضايا أهل الكتاب في ظل السلطان الإسلامي
قد تبدو الآيات فصلا جديدا، ومع ذلك فإن بينها وبين الفصول السابقة تناسبا ما من حيث احتواء هذه وتلك صورا من مواقف اليهود وأخلاقهم. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الفصول السابقة فوضع في مكانه للتناسب الظرفي والموضوعي. وإلا فيكون وضعه للتناسب الموضوعي والله أعلم.
وقد روى الطبري روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها أنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي استشاره يهود بني قريظة في أمرهم حينما حاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأشار إشارة فهموا منها أن النزول على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم معناه الذبح. ومنها أنها نزلت في مناسبة طلب رجل من اليهود من حليف مسلم له أن يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكم قتيل قتله، فإذا كان الحكم بالدية تقاضى عنده وإلا فلا. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود ؛ حيث اجتمع اليهود حين قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكان رجل محصن منهم قد زنى بامرأة محصنة فقالوا : نسأل محمدا عن الحكم، فإن حكم بالجلد والتحميم والتعزير يكون ملكا لا بأس علينا منه، وإن حكم بالرجم يكون نبيا فنحذره من استلاب ما في أيدينا. فأتوه فطلب منهم أن يدلوه على أعلمهم في التوراة، فذكروا له عبد الله بن صوريا، فخلا به وناشده عما إذا كان يعلم أن حكم الزنا في التوراة الرجم فقال : بلى. وإنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك. فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجمهما، ولكن ابن صوريا جحد بعد ذلك ما قاله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بيهودي محمم مجلود، فدعا رجلا من علمائهم فقال : أهكذا تجدون حد الزنا ؟ قال : نعم. قال : فأنشدك بالذي أنزل التوراة أهكذا تجدونه ؟ فقال : إن الحد كان الرجم، ولكن الزنا كثر بين اليهود وصاروا يقيمون الحد على الضعيف دون القوي والشريف، ثم اتفقوا على تبديل الرجم في التوراة بالجلد والتحميم ( ١ )١فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأمر بالزاني فرجم.
وإلى هذه الروايات فقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية ﴿ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم ﴾ إلى جملة :﴿ الْمُقْسِطِينَ ﴾ نزلت في قضية قتيل من بني قريظة قتله بنو النضير. وكان بنو النضير يرون لأنفسهم فضلا على بني قريظة، فإذا ما قتلوا منهم لم يقيدوا من أنفسهم، وإنما دفعوا الدية، وإذا قتل بنو قريظة منهم لا يقبلون إلا القود، فأراد بنو قريظة أن يرفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتحاكموا مع بني النضير عنده حتى يحكم لهم بالقود فقال رجل من المنافقين لبني النضير : إن محمدا قد يحكم عليهم بالقود فاحذروا ولا تقبلوا المحاكمة عنده إلا إذا عرفتم أنه يقضي بالدية فأنزل الله الآية.
وقد أورد المفسرون ما أورد الطبري. وأورد ابن كثير بالإضافة إلى ذلك رواية رواها الإمام أحمد عن ابن عباس مشابهة للرواية الأخيرة، ولكنها تعود إلى الجاهلية ؛ حيث ذكرت ما خلاصته كسبب لنزول الآية أن طائفتين من اليهود اقتتلتا في الجاهلية فقهرت إحداهما الأخرى فاتفقتا على أن القتيل من التي قهرت يودى بمائة وسق ومن المقهورة بخمسين. وبعد قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتلت الذليلة واحدا من العزيزة فطالبت هذه بالدية المضاعفة، فأبت الأولى حتى كادت الحرب تقع بينهما، ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدست الذليلة ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كان حكم كما شاؤوا تحاكموا عنده، وإلا نكصوا فأنزل الله الآية فيهم.
وجمهور المفسرين بما فيهم الطبري يرجحون نزول الآيات في مناسبة قضية الزنا. ومنهم من قال : إن قضية الزنا وقضية القتل بين بني النضير وبني قريظة اجتمعتا معا فأنزل الله الآيات فيهما. وقد روى البخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن عمر :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بيهودي ويهودية زنيا فانطلق إلى يهود فقال : ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ قالوا : نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فأتوا بها فقرؤوها حتى إذا جاءت آية الرجم سترها الذي يقرأ بيده وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال : عبد الله بن سلام وهو مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مره فليرفع يده، فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما. قال ابن عمر : كنت فيمن رجمهما. ورأيت الرجل يقي المرأة من الحجارة بنفسه ) ( ١ )٢وقد أورد ابن كثير هذا الحديث في سياق الآيات.
ونص الآيات صريح بأنها في صدد حادث ندد بسببه بفريق من المنافقين وفريق من اليهود وأنه كان هناك قضية يهودية أريد تحكيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، فكانت مشاورة في صدد ذلك بين الفريقين ثم مؤامرة على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبوله إذا حكم كما يريدون وبرفضه إذا لم يحكم كذلك. وقد يتفق شيء من هذا مع الرواية التي تذكر أن يهوديا سأل حليفا له بالسؤال من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم قتيل قتله على أن يتحاكم عنده إذا كان حكمه بالدية دون القصاص كما يهوي. أو مع الروايات التي تذكر أن قسما من الآيات نزل في قتيل بني قريظة أو القتيل الذي قتلته القبيلة الذليلة من العزيزة من قبيلتي اليهود، والآيات التالية لهذه الآيات تحتوي بيان ما كتبه الله تعالى على اليهود في التوراة من أحكام قتل النفس والدماء والجروح وليس فيها شيء عن حكم التوراة في الزنا بحيث يسوغ القول إن قضية الزنا ليس لها صلة بالآيات.
ولعلها أقحمت عليها ؛ لأنها وردت في حديث صحيح مع أن الحديث لا يذكر بأن لها صلة بالآيات أيضا. ونظم الآيات منسجم مع بعضه بحيث يبعد أن تكون نزلت متفرقة وفي مناسبات مختلفة. ولسنا نرى في رواية أبي لبابة التي انفرد بها الطبري صلة مفهومة بالآيات.
ونص الآيات يفيد أن الفريق المنافق قد نقل على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقله، أو أن الفريق اليهودي حرف ما سمعه على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الفريقين اشتركا معا في التهويش والتشويش، وأنه كان لذلك أثر شديد محزن في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويلهم كذلك أن الحادث وقع في ظرف كان اليهود فيه ما يزالون في المدينة يدسون ويتآمرون مع المنافقين. وإذا صح هذا فيكون ها الفصل والفصول التي سبقته المحتوية على صور من مواقف اليهود وتاريخهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نزلت قبل صلح الحديبية الذي للفصول الأولى من السورة صلة به كما نبهنا على ذلك من قبل. ويكون في هذا دليل على ما ذكرناه في مقدمة السورة من أن في فصول السورة ما هو متقدم في النزول متأخر في الترتيب، وما هو عكس ذلك، وأنها ألفت مؤخرا بعد أن تم نزول ما شاءت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحكم بالقسط بين اليهود في القضايا التي يحكمونه فيها ويريد أن يحكم فيها متسق كما هو واضح مع المبادئ القرآنية المتكررة في إيجاب العدل والقسط بخاصة مع المبدأ الذي شدد عليه في الآية الثامنة من هذه السورة، وهو عدم التأثر ببغض قوم وجعله مؤثرا في العدل معهم. والروعة والتساوق يبدوان بارزين خاصة ؛ لأن الآيات حكت مواقف تهويش وشغب مقصودة وقفها اليهود. وهذا التلقين مستمر المدى كما هو واضح.
وفي الآيات تخيير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم بينهم إذا جاءوا إليه أو الإعراض عنهم. ولقد روى الطبري عن الشعبي وعطاء وابن جريج أن حكم الآية محكم وأن للحاكم المسلم الخيار في الحكم بين من يأتي إليه من غير المسلمين وعدم الحكم. كما روى عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة أن حكمهما منسوخ بآيات أخرى من هذه السورة تأتي بعد قليل فيها أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم، وأن القضاء الإسلامي هو المختص بالنظر في قضايا أهل الذمة والمعاهدين من غير المسلمين
١ فسر الطبري التحميم بتسويد الوجه بالسخام..
٢ التاج ج ٣ ص ٢٤..

( ١ ) الربانيون : نسبة إلى الرب. وهي بمعنى رجال الله وعلماء كتابه.
( ٢ ) الأحبار : الفقهاء أو القضاة، والحبر هو العالم الفقيه.
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ ( ١ ) وَالأَحْبَارُ ( ٢ ) بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( ٤٤ ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ( ٣ ) فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٤٥ ) ﴾ ( ٤٤ – ٤٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ.................. ﴾ الخ
والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام
وتمحيص قاعدة ( شرع ما قبلنا شرع لنا ) وما ورد
في صدد القصاص والجروح من أحاديث وأقوال
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت أولاهما :
( ١ ) تقريرا بأن الله تعالى قد أنزل التوراة فيها هدى ونور. وأوجب على النبيين والربانيين والأحبار المنقادين المسلمين إليه أن يحكموا بين اليهود بموجب ما فيها من شرائع وأحكام ؛ حيث صاروا عليها بما نالوه من علم ووصلوا إليه من مرتبة حفاظا وشهداء. وأن لا يخافوا من أحد غير الله و أن لا يبيعوا آياته وأحكامه بالثمن البخس.
( ٢ ) وإيذانا بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر به لا تصح منه دعوى الإيمان.

وقد تضمنت ثانيتهما :

( ١ ) تقرير بأن الله كتب على اليهود في التوراة قصاص النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن وقصاص الجروح الأخرى جروحا مماثلة لها.
( ٢ ) وإيذانا بأن العفو جائز. وهو بمثابة صدقة يتقرب بها الذي يعفو إلى الله. وأن من يعفو عن شيء من حقه في القصاص يكون عفوه كفارة عن ذنوبه.
( ٣ ) وإيذانا مكررا من الله بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم بانحرافه عن حدوده وشرائعه.
ولقد روى الطبري عن الزهري أن الآية الأولى نزلت في صدد مراجعة اليهود في قضية الزنا حينما رفعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويلحظ أن الآية ليست وحدها وأنها منسجمة مع الآية التي بعدها التي تذكر أحكام الدماء دون الزنا. ثم بما بعدها من الآيات التي تذكر الإنجيل، ثم القرآن كسلسلة واحدة ؛ حيث يتبادر أكثر أنها استمرار للسياق السابق على سبيل البيان والاستطراد. ونرجح أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة أو عقبهما مباشرة. وروحهما تلهم بقوة كما قلنا قبل أن القضية التي أراد اليهود التقاضي فيها عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونشأ عنها المشهد الذي احتوته الآيات السابقة هي قضية دم. وأنهما استهدفتا تقرير كون حكم الله في قضايا الدم واضح في التوراة وكون واجب علماء اليهود وحكامهم هو الحكم بها وعدم الانحراف عنها والرضاء بذلك إذا حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم بها. والتنديد بهم لمحاولتهم الانحراف عن أحكام الله وإهمالها.
والعبارة القرآنية صريحة بأن الأحكام التي فيها قد كتبت على اليهود في التوراة، وقد تؤيد هذه العبارة والآيات السابقة كما قلنا : إن سفر التوراة الذي سجل موسى عليه السلام فيه ما بلغه الله إياه من وصايا وأحكام كان موجودا في أيدي اليهود. وفي سفري الخروج والأحبار من الأسفار المتداولة اليوم التي تحكي كثيرا مما بلغه الله تعالى لموسى من وصايا وأحكام أحكام مماثلة لما جاء في العبارة القرآنية مع مغايرة يسيرة ؛ حيث يمكن أن يقال : إن كتاب السفرين استقوا ما كتبوه من سفر توراة موسى. وقد ورد في الإصحاح ( ٢١ ) من سفر الخروج من جملة الأحكام المبلغة لموسى ( نفس بنفس وعين بعين وسن بسن ورجل برجل وكي بكي وجراحة بجراحة ورض برض ) وورد في الإصحاح ( ٢٤ ) من سفر الأحبار تبليغا عن الله كذلك ( من قتل إنسانا يقتل قتلا. أي إنسان أحدث عيبا في قريبه فليصنع به كما صنع الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن كالعيب الذي يحدثه في الإنسان يحدثه معه ).
واستتباعا لما استلهمناه من الآيات السابقة بأن القرآن جعل لأهل الكتاب في السلطان الإسلامي أن يتقاضوا فيما بينهم وفق ما عندهم من شرائع يمكن القول : إن الآيات التي نحن في صددها قد تكون انطوت على تلقين للسلطان الإسلامي بإجبار اليهود الذين يكونون في نطاق حكمه معاهدين وذميين على التقاضي وفقا لأحكام التوراة إذا ما أرادوا التقاضي عند قضاتهم وأحبارهم وربانييهم.
وقد يقال : وكيف يعرف السلطان الإسلامي أحكام التوراة وسفر التوراة الذي كتبه موسى عن الله مفقود ؟ وهذا سؤال وجيه غير أن الأسفار التي تعود إلى حقبة موسى، وهي الخروج والأحبار والعدد والتثنية احتوت كثيرا من الأحكام والتشريعات محكية عن موسى عن الله ؛ حيث يمكن أن يكون كتابها استقوها من سفر التوراة قبل فقده مهما كان شابها تحريف وتبديل. ويتبادر هنا أن حكمة الله بعد أن اقتضت جعل اليهود مخيرين وأوجبت على أحبارهم وربانييهم أن يحكموا بينهم وفاقا لأحكام التوراة صار من السائغ أن يقال : إنه لا مانع من ترك الأمر في تطبيق ما في أيديهم من أسفار فيها أحكام وتشريعات محكية عن موسى عن الله تعالى دون أحكام خارجة عن نطاقها والله تعالى أعلم.
هذا، وفي كتب التفسير أقوال متنوعة في صدد ما في الآيتين من معان وأحكام وفي صدد تطبيق ذلك أو ما في بابه على المسلمين.
فأولا : في صدد جملة :﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ﴾ روى الطبري عن السدي أنها تعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عن قتادة حديثا مرفوعا جاء فيه :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية : نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الكتاب ). وروى إلى هذا عن الزهري وعكرمة أنها تعني النبيين جميعا ومنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الطبري : إن أولى الأقوال بالصواب عندي أن الله أخبر أن التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء والأحبار لليهود. ونزيد على هذا أن روح الآيتين وفحواهما قويا للدلالة على أن المقصود هم أنبياء بني إسرائيل. وأن الآية بسبيل حكاية ما كان وما ينبغي أن يكون بالنسبة لليهود. والله أعلم.
وثانيا : في صدد جملة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ وجملة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ وجملة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ والجملتان الأخيرتان وردتا في آيات تأتي بعد هذه الآيات فقد روى الطبري عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها كلها في الكافرين. وعن أبي مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم أن المقصود بها أهل الكتاب أو الكفار أو المشركون. وعن الشعبي أن الجملة الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. وعن الحسن أنها وإن كانت في اليهود والنصارى فهي واجبة علينا. وعن ابن عباس أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا فهو كافر، وإن كان غير جاحد فهو ظالم وفاسق.
وحديث البراء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس من الصحاح والأقوال الأخرى اجتهادية. وقد قال الطبري : إن أولاها بالصواب قول من قال : إنها نزلت في أهل الكتاب ؛ لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات نزلت فيهم وهم المعنيون بها.
ومع ما في تصويب الطبري من وجاهة مستمدة من سياق الآيات، فإن نظم الجمل يجعلها عامة الشمول لكل من لم يحكم بما أنزل الله. ويدخل في ذلك المسلمون أيضا كما هو المتبادر. ولقد روى الطبري عن ابن عباس وغيره أن الكفر والظلم والفسق في الجمل الثلاث هي كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وأنها ليست بمعنى خروج عن الملة ؛ حيث يفيد هذا أن المؤولين في الصدر الأول اعتبروا الجمل مطلقة وخرجوها بهذا التخريج، وهو تخريج وجيه دون ريب.
ومهما يكن من أمر فإنه يتبادر لنا أولا : أن الجملة جاءت في مقام تعظيم جريمة إهمال الحكم بما أنزل الله، وأعظم بذلك جريمة. وثانيا : أن خروج من لم يحكم بما أنزل الله من الملة منوط بأن يكون جاحدا لما أنزل الله مستحلا لمخالفته، فإن لم يكن ذلك فيكون قد اقترف كبيرة دون أن يخرج من الملة. وهذا متسق مع ما قاله ابن عباس وأوردناه قبل. وقد يصح أن يضاف إلى ذلك أن هذا أيضا يكون إذا كان الإهمال مقصورا، ولم يكن للمهمل الذي يظهر إسلامه ولم يجحد ما أنزل الله تأويل أو تخريج لهذا الإهمال. والله تعالى أعلم.
وثالثا : في صدد جملة :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾. فقد روى الطبري عن عبد الله بن عمرو وجابر بن زيد من طرق عديدة أنها بمعنى أن عفو المجروح عن جارحه هو كفارة عن ذنوبه. وروى أقوالا معزوة إلى ابن عباس ومجاهد أنها بمعنى أن عفو المجروح عن جارحه هو كفارة للجارح بمعنى مسقط للقصاص والدية عنه، والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه. فالضمير ينبغي أن يعود إلى الأقرب وهو ﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ ﴾. أو الذي يعفو وعفو المجني عليه مسقط لتبعة الجاني بطبيعة الحالة قصاصا كانت أم عقلا. فلا محل للقول الثاني من هذه الناحية. وهناك أحاديث نبوية تأتي بعد قليل فيها حث على العفو وبشرى للذين يعفون بغفران ذنوبهم، وكون عفوهم كفارة لهم مما فيه تأييد للقول الأول.
ورابعا : في صدد ما إذا كانت الآية الثانية هي المستند لقصاص الأطراف والجروح في الإسلام على قاعدة ( شرع ما قبلنا شرع لنا ) أم لا. والمستفاد من أقوال المفسرين، ولا سيما ابن كثير والخازن أن من الأصوليين والفقهاء من قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعبد بشرائع الكتب السماوية السابقة، وإن ما لم ينسخه القرآن والسنة من هذه الشرائع هو شرع للمسلمين، ووضعوا قاعدة :( شرع ما قبلنا شرع لنا ) وقالوا بالتبعية : إن الآية هي مستند قصاص الأطراف والجروح في الإسلام. وهناك من أنكر ذلك وقال : إن ما ورد في الآية هو إخبار بما كتب الله على بني إسرائيل، وإن المسلمين مقيدون بما أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تشريع خاص وبما صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تشريع خاص، سواء أكان فيه إقرار ومطابقة لما في الكتب السماوية السابقة أم نسخ له.
والذي يتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات وسياقها ومناسبتها وهدفها، بل ومضمونها أيضا إذا ما أنعم النظر فيها. ويلفت النظر خاصة إلى جملة :﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ وإلى جملة :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا ﴾ حيث تدلان بصراحة على خصوصية الأحكام بالنسبة لليهود فقط. وفي نصوص الآيات التي تأتي بعد قليل دلائل قوية على وجاهة هذا الرأي أيضا على ما سوف نشرحه بعد. ومن الجدير بالذكر والتنبيه في هذا المقام أن في الأسفار الأربعة ( الخروج والعدد والأحبار وتثنية الاشتراع ) من أسفار العهد القديم نصوصا كثي
( ٣ ) والجروح قصاص : بمعنى إذا جرح إنسان إنسانا جرحا غير ما ورد في الآية، فيقتص منه بجرح مماثل.
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ ( ١ ) وَالأَحْبَارُ ( ٢ ) بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( ٤٤ ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ( ٣ ) فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٤٥ ) ﴾ ( ٤٤ – ٤٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ.................. ﴾ الخ
والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام
وتمحيص قاعدة ( شرع ما قبلنا شرع لنا ) وما ورد
في صدد القصاص والجروح من أحاديث وأقوال
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت أولاهما :
( ١ ) تقريرا بأن الله تعالى قد أنزل التوراة فيها هدى ونور. وأوجب على النبيين والربانيين والأحبار المنقادين المسلمين إليه أن يحكموا بين اليهود بموجب ما فيها من شرائع وأحكام ؛ حيث صاروا عليها بما نالوه من علم ووصلوا إليه من مرتبة حفاظا وشهداء. وأن لا يخافوا من أحد غير الله و أن لا يبيعوا آياته وأحكامه بالثمن البخس.
( ٢ ) وإيذانا بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر به لا تصح منه دعوى الإيمان.

وقد تضمنت ثانيتهما :

( ١ ) تقرير بأن الله كتب على اليهود في التوراة قصاص النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن وقصاص الجروح الأخرى جروحا مماثلة لها.
( ٢ ) وإيذانا بأن العفو جائز. وهو بمثابة صدقة يتقرب بها الذي يعفو إلى الله. وأن من يعفو عن شيء من حقه في القصاص يكون عفوه كفارة عن ذنوبه.
( ٣ ) وإيذانا مكررا من الله بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم بانحرافه عن حدوده وشرائعه.
ولقد روى الطبري عن الزهري أن الآية الأولى نزلت في صدد مراجعة اليهود في قضية الزنا حينما رفعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويلحظ أن الآية ليست وحدها وأنها منسجمة مع الآية التي بعدها التي تذكر أحكام الدماء دون الزنا. ثم بما بعدها من الآيات التي تذكر الإنجيل، ثم القرآن كسلسلة واحدة ؛ حيث يتبادر أكثر أنها استمرار للسياق السابق على سبيل البيان والاستطراد. ونرجح أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة أو عقبهما مباشرة. وروحهما تلهم بقوة كما قلنا قبل أن القضية التي أراد اليهود التقاضي فيها عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونشأ عنها المشهد الذي احتوته الآيات السابقة هي قضية دم. وأنهما استهدفتا تقرير كون حكم الله في قضايا الدم واضح في التوراة وكون واجب علماء اليهود وحكامهم هو الحكم بها وعدم الانحراف عنها والرضاء بذلك إذا حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم بها. والتنديد بهم لمحاولتهم الانحراف عن أحكام الله وإهمالها.
والعبارة القرآنية صريحة بأن الأحكام التي فيها قد كتبت على اليهود في التوراة، وقد تؤيد هذه العبارة والآيات السابقة كما قلنا : إن سفر التوراة الذي سجل موسى عليه السلام فيه ما بلغه الله إياه من وصايا وأحكام كان موجودا في أيدي اليهود. وفي سفري الخروج والأحبار من الأسفار المتداولة اليوم التي تحكي كثيرا مما بلغه الله تعالى لموسى من وصايا وأحكام أحكام مماثلة لما جاء في العبارة القرآنية مع مغايرة يسيرة ؛ حيث يمكن أن يقال : إن كتاب السفرين استقوا ما كتبوه من سفر توراة موسى. وقد ورد في الإصحاح ( ٢١ ) من سفر الخروج من جملة الأحكام المبلغة لموسى ( نفس بنفس وعين بعين وسن بسن ورجل برجل وكي بكي وجراحة بجراحة ورض برض ) وورد في الإصحاح ( ٢٤ ) من سفر الأحبار تبليغا عن الله كذلك ( من قتل إنسانا يقتل قتلا. أي إنسان أحدث عيبا في قريبه فليصنع به كما صنع الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن كالعيب الذي يحدثه في الإنسان يحدثه معه ).
واستتباعا لما استلهمناه من الآيات السابقة بأن القرآن جعل لأهل الكتاب في السلطان الإسلامي أن يتقاضوا فيما بينهم وفق ما عندهم من شرائع يمكن القول : إن الآيات التي نحن في صددها قد تكون انطوت على تلقين للسلطان الإسلامي بإجبار اليهود الذين يكونون في نطاق حكمه معاهدين وذميين على التقاضي وفقا لأحكام التوراة إذا ما أرادوا التقاضي عند قضاتهم وأحبارهم وربانييهم.
وقد يقال : وكيف يعرف السلطان الإسلامي أحكام التوراة وسفر التوراة الذي كتبه موسى عن الله مفقود ؟ وهذا سؤال وجيه غير أن الأسفار التي تعود إلى حقبة موسى، وهي الخروج والأحبار والعدد والتثنية احتوت كثيرا من الأحكام والتشريعات محكية عن موسى عن الله ؛ حيث يمكن أن يكون كتابها استقوها من سفر التوراة قبل فقده مهما كان شابها تحريف وتبديل. ويتبادر هنا أن حكمة الله بعد أن اقتضت جعل اليهود مخيرين وأوجبت على أحبارهم وربانييهم أن يحكموا بينهم وفاقا لأحكام التوراة صار من السائغ أن يقال : إنه لا مانع من ترك الأمر في تطبيق ما في أيديهم من أسفار فيها أحكام وتشريعات محكية عن موسى عن الله تعالى دون أحكام خارجة عن نطاقها والله تعالى أعلم.
هذا، وفي كتب التفسير أقوال متنوعة في صدد ما في الآيتين من معان وأحكام وفي صدد تطبيق ذلك أو ما في بابه على المسلمين.
فأولا : في صدد جملة :﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ﴾ روى الطبري عن السدي أنها تعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عن قتادة حديثا مرفوعا جاء فيه :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية : نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الكتاب ). وروى إلى هذا عن الزهري وعكرمة أنها تعني النبيين جميعا ومنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الطبري : إن أولى الأقوال بالصواب عندي أن الله أخبر أن التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء والأحبار لليهود. ونزيد على هذا أن روح الآيتين وفحواهما قويا للدلالة على أن المقصود هم أنبياء بني إسرائيل. وأن الآية بسبيل حكاية ما كان وما ينبغي أن يكون بالنسبة لليهود. والله أعلم.
وثانيا : في صدد جملة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ وجملة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ وجملة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ والجملتان الأخيرتان وردتا في آيات تأتي بعد هذه الآيات فقد روى الطبري عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها كلها في الكافرين. وعن أبي مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم أن المقصود بها أهل الكتاب أو الكفار أو المشركون. وعن الشعبي أن الجملة الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. وعن الحسن أنها وإن كانت في اليهود والنصارى فهي واجبة علينا. وعن ابن عباس أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا فهو كافر، وإن كان غير جاحد فهو ظالم وفاسق.
وحديث البراء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس من الصحاح والأقوال الأخرى اجتهادية. وقد قال الطبري : إن أولاها بالصواب قول من قال : إنها نزلت في أهل الكتاب ؛ لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات نزلت فيهم وهم المعنيون بها.
ومع ما في تصويب الطبري من وجاهة مستمدة من سياق الآيات، فإن نظم الجمل يجعلها عامة الشمول لكل من لم يحكم بما أنزل الله. ويدخل في ذلك المسلمون أيضا كما هو المتبادر. ولقد روى الطبري عن ابن عباس وغيره أن الكفر والظلم والفسق في الجمل الثلاث هي كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وأنها ليست بمعنى خروج عن الملة ؛ حيث يفيد هذا أن المؤولين في الصدر الأول اعتبروا الجمل مطلقة وخرجوها بهذا التخريج، وهو تخريج وجيه دون ريب.
ومهما يكن من أمر فإنه يتبادر لنا أولا : أن الجملة جاءت في مقام تعظيم جريمة إهمال الحكم بما أنزل الله، وأعظم بذلك جريمة. وثانيا : أن خروج من لم يحكم بما أنزل الله من الملة منوط بأن يكون جاحدا لما أنزل الله مستحلا لمخالفته، فإن لم يكن ذلك فيكون قد اقترف كبيرة دون أن يخرج من الملة. وهذا متسق مع ما قاله ابن عباس وأوردناه قبل. وقد يصح أن يضاف إلى ذلك أن هذا أيضا يكون إذا كان الإهمال مقصورا، ولم يكن للمهمل الذي يظهر إسلامه ولم يجحد ما أنزل الله تأويل أو تخريج لهذا الإهمال. والله تعالى أعلم.
وثالثا : في صدد جملة :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾. فقد روى الطبري عن عبد الله بن عمرو وجابر بن زيد من طرق عديدة أنها بمعنى أن عفو المجروح عن جارحه هو كفارة عن ذنوبه. وروى أقوالا معزوة إلى ابن عباس ومجاهد أنها بمعنى أن عفو المجروح عن جارحه هو كفارة للجارح بمعنى مسقط للقصاص والدية عنه، والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه. فالضمير ينبغي أن يعود إلى الأقرب وهو ﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ ﴾. أو الذي يعفو وعفو المجني عليه مسقط لتبعة الجاني بطبيعة الحالة قصاصا كانت أم عقلا. فلا محل للقول الثاني من هذه الناحية. وهناك أحاديث نبوية تأتي بعد قليل فيها حث على العفو وبشرى للذين يعفون بغفران ذنوبهم، وكون عفوهم كفارة لهم مما فيه تأييد للقول الأول.
ورابعا : في صدد ما إذا كانت الآية الثانية هي المستند لقصاص الأطراف والجروح في الإسلام على قاعدة ( شرع ما قبلنا شرع لنا ) أم لا. والمستفاد من أقوال المفسرين، ولا سيما ابن كثير والخازن أن من الأصوليين والفقهاء من قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعبد بشرائع الكتب السماوية السابقة، وإن ما لم ينسخه القرآن والسنة من هذه الشرائع هو شرع للمسلمين، ووضعوا قاعدة :( شرع ما قبلنا شرع لنا ) وقالوا بالتبعية : إن الآية هي مستند قصاص الأطراف والجروح في الإسلام. وهناك من أنكر ذلك وقال : إن ما ورد في الآية هو إخبار بما كتب الله على بني إسرائيل، وإن المسلمين مقيدون بما أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تشريع خاص وبما صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تشريع خاص، سواء أكان فيه إقرار ومطابقة لما في الكتب السماوية السابقة أم نسخ له.
والذي يتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات وسياقها ومناسبتها وهدفها، بل ومضمونها أيضا إذا ما أنعم النظر فيها. ويلفت النظر خاصة إلى جملة :﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ وإلى جملة :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا ﴾ حيث تدلان بصراحة على خصوصية الأحكام بالنسبة لليهود فقط. وفي نصوص الآيات التي تأتي بعد قليل دلائل قوية على وجاهة هذا الرأي أيضا على ما سوف نشرحه بعد. ومن الجدير بالذكر والتنبيه في هذا المقام أن في الأسفار الأربعة ( الخروج والعدد والأحبار وتثنية الاشتراع ) من أسفار العهد القديم نصوصا كثي
﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٤٦ ) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٤٧ ) ﴾ ( ٤٦ – ٤٧ ).
تعليق على الآية :
﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾
والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام
عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا :
( ١ ) تقريرا بأن الله قد أرسل بعد أنبياء اليهود وتوراتهم عيسى ابن مريم عليه السلام مصدقا ومؤيدا للتوراة وآتاه الإنجيل أيضا. وفيه هو الآخر نور وهدى وموعظة لمن يخشى الله ويتقيه، ومصدق وموقت في الوقت نفسه للتوراة التي نزلت قبله.
( ٢ ) وإيجابا على أهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه، وإنذارا بأن من لم يحكم كذلك فهو فاسق خارج عن أمر الله.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما جاءتا في مقام الاستطراد ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكر عيسى عليه السلام وإنجيله بعد ذكر التوراة وأنبياء بني إسرائيل، وإيجاب الحكم بالإنجيل على النصارى بعد إيجاب الحكم بالتوراة على اليهود. والمتبادر تبعا لذلك أن تكون الآيتان نزلتا عقب الآيات السابقة لها مباشرة. والله أعلم.
وجملة :﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ تعني آثار النبيين المذكورين في الآية ( ٤٤ ) وهذا يعني أن المقصود بكلمة النبيين هم أنبياء بني إسرائيل، ويؤيد ما قلناه قبل في سياق شرح هذه الآية.
وجملة :﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ ﴾ قوية التأييد للرأي الثاني الذي وجهناه في الفقرة الخامسة في سياق الآيات السابقة، وعدم صحة قاعدة ( شرع من قبلنا شرع لنا ) كما هو المتبادر.
ولقد قرئت اللام في كلمة ﴿ وليحكم ﴾ بالسكون على معنى الأمر، كما قرئت بالكسر بمعنى ( كي يحكم ). وكلتا القراءتين صحيحة المعنى في مقامها. غير أن جملة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ أولا والآية ( ٦٨ ) من هذه السورة التي تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء، حتى يقيموا التوراة والإنجيل ثانيا مما يرجح القراءة الأولى.
ولقد رأينا السيد رشيد رضا يورد زعم النصارى أو مغالطتهم بأن هذه الجملة تعني أنهم غير مخاطبين بالقرآن وحكمه. وهذا الزعم غير مستقيم ؛ لأن كل ما تعنيه الجملة بالنسبة للنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده أن عليهم إذا أرادوا أن يحتفظوا بنصرانيتهم أن يحكموا بما في الإنجيل، ويسجل عليهم الفسق إذا خالفوه في أحكامهم. أما كونهم مخاطبين في القرآن ومدعوين إلى الإيمان به وبالرسالة المحمدية ففي القرآن آيات عديدة في ذلك من أقربها آيات هذه السورة ( ١٥ – ١٦ ) و ( ١٩ ).
وهذه الجملة تؤيد كما يتبادر لنا وذكرناه في سياق تعليقنا على الإنجيل في سورة الأعراف أنه كان في أيدي النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنجيل لعيسى لا بد من أنه كان يحتوي ما أنزله الله عليه من وصايا وتعاليم وأحكام. ومن الجدير بالذكر أن في إنجيل مرقس المتداول اليوم عبارات صريحة بأنه كان لعيسى إنجيل وأمر تلامذته بالتبشير به. وفي رسائل بولس ذكر لهذا الإنجيل أيضا ( ١ )١. وليس في أيدي النصارى إلا الأناجيل التي كتبها كتابها بعد وفاة عيسى وضمنوها سيرته.
وينطوي في الجملة أن للنصارى الذين هم في نطاق السلطان الإسلامي حق التقاضي في قضاياهم فيما بينهم أمام قضاتهم كما هو الأمر بالنسبة لليهود على ما شرحناه قبل. وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه، وخاصة في الإيجاب على السلطان الإسلامي ملاحظة التزامهم لأحكام الإنجيل وتعاليمه في قضاياهم. وإذا كان يمكن أن يقال : إن إنجيل عيسى مفقود وهو ما يقال بالنسبة لتوراة موسى أيضا، فما قلناه في صدد الحالة بالنسبة لليهود يصح قوله هنا أيضا، من حيث إن في الأناجيل المتداولة أشياء كثيرة من أقوال وتعاليم ووصايا وأحكام معزوة إلى عيسى عليه السلام أو إلى الله عن لسانه عليها سمة الوحي. فيصح أن يترك لهم هذا على أن يكونوا في نطاقه وحسب. ومن الجدير بالذكر أن في الأناجيل المتداولة ما يفيد أن شريعة التوراة تظل شريعة للنصارى مما لم ينسخه عيسى رأسا أو بأمر الله. فيكون لهم أن يتحاكموا أيضا بشريعة التوراة. والله أعلم.
ولقد رأينا ابن كثير يذكر في سياق تفسير الجملة التي نحن في صددها أنها توجب على النصارى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأن الإنجيل يحتوي بشارة به. ومع وجاهة هذا القول في ذاته فالمتبادر أن الجملة هي في صدد التحاكم القضائي ؛ لأن هذا هو مقتضى السياق. ودعوة القرآن للنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكونها لهم في جملة الناس وإيجاب الإيمان بها عليهم، وتقرير كونهم يجدون صفاته في التوراة والإنجيل، وكون عيسى قد بشر به قد انطوى في نصوص قرآنية بأسلوب أصرح. وقد فهمها طوائف كبيرة من النصارى على هذا الوجه وآمنوا بها على ما شرحناه في سياق تعليقنا على الآية ( ١٥٧ ) من سورة الأعراف وغيرها.
هذا، وهناك مسألة قد تتفرع عن السماح لليهود والنصارى بالتقاضي فيما بينهم وفق كتبهم، وهي حالة غير المسلمين الذين يعيشون في كنف السلطان الإسلامي ذميين ومعاهدين فإنهم قد لا يكونون جميعا يهودا ونصارى، وقد يكون منهم من هو منتسب إلى ملل أخرى. ويتبادر لنا أن حكمة اختصاص اليهود والنصارى والتوراة والإنجيل بالذكر هي كونهم الذين كان للعرب بهم الاتصال الأوثق والأوسع قبل الإسلام. وقد ألممنا بمسألة مماثلة في سياق الآية الخامسة من هذه السورة، ونقول هنا ما قلناه هناك إنه إذا ادعت ملة من الملل التي تعيش في كنف السلطان الإسلامي أن عندها كتابا موحى من الله إلى أحد أنبيائها فيه شرائع لها وأظهرته وكان عليه سمة من سمات الكتب السماوية بقطع النظر عما يكون فيه من مخالفات للقرآن ؛ لأن هذا شأن الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى أيضا فليس للمسلمين أن يكذبوها ويصح أن يعاملوا أهلها في هذه المسألة على ذلك الأساس أيضا. أما إن كان هناك ملة ليس لها كتاب تدعي أنه سماوي منزل على نبي دون دليل قوي من واقع ونص فينطبق عليها وصف الجاهلية الوارد في الآية ( ٥٠ ) التي تأتي في السلسلة التالية ويكون الشرع الإسلامي هو الذي يجب القضاء به في قضاياها. والله تعالى أعلم.
١ الإصحاح ١ و ١٦ من إنجيل مرقس والإصحاح ١ من رسالة بولس إلى أهل روما والإصحاح ٩ من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٦:﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٤٦ ) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٤٧ ) ﴾ ( ٤٦ – ٤٧ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾
والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام

عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا :

( ١ ) تقريرا بأن الله قد أرسل بعد أنبياء اليهود وتوراتهم عيسى ابن مريم عليه السلام مصدقا ومؤيدا للتوراة وآتاه الإنجيل أيضا. وفيه هو الآخر نور وهدى وموعظة لمن يخشى الله ويتقيه، ومصدق وموقت في الوقت نفسه للتوراة التي نزلت قبله.
( ٢ ) وإيجابا على أهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه، وإنذارا بأن من لم يحكم كذلك فهو فاسق خارج عن أمر الله.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما جاءتا في مقام الاستطراد ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكر عيسى عليه السلام وإنجيله بعد ذكر التوراة وأنبياء بني إسرائيل، وإيجاب الحكم بالإنجيل على النصارى بعد إيجاب الحكم بالتوراة على اليهود. والمتبادر تبعا لذلك أن تكون الآيتان نزلتا عقب الآيات السابقة لها مباشرة. والله أعلم.
وجملة :﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ تعني آثار النبيين المذكورين في الآية ( ٤٤ ) وهذا يعني أن المقصود بكلمة النبيين هم أنبياء بني إسرائيل، ويؤيد ما قلناه قبل في سياق شرح هذه الآية.
وجملة :﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ ﴾ قوية التأييد للرأي الثاني الذي وجهناه في الفقرة الخامسة في سياق الآيات السابقة، وعدم صحة قاعدة ( شرع من قبلنا شرع لنا ) كما هو المتبادر.
ولقد قرئت اللام في كلمة ﴿ وليحكم ﴾ بالسكون على معنى الأمر، كما قرئت بالكسر بمعنى ( كي يحكم ). وكلتا القراءتين صحيحة المعنى في مقامها. غير أن جملة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ أولا والآية ( ٦٨ ) من هذه السورة التي تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء، حتى يقيموا التوراة والإنجيل ثانيا مما يرجح القراءة الأولى.
ولقد رأينا السيد رشيد رضا يورد زعم النصارى أو مغالطتهم بأن هذه الجملة تعني أنهم غير مخاطبين بالقرآن وحكمه. وهذا الزعم غير مستقيم ؛ لأن كل ما تعنيه الجملة بالنسبة للنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده أن عليهم إذا أرادوا أن يحتفظوا بنصرانيتهم أن يحكموا بما في الإنجيل، ويسجل عليهم الفسق إذا خالفوه في أحكامهم. أما كونهم مخاطبين في القرآن ومدعوين إلى الإيمان به وبالرسالة المحمدية ففي القرآن آيات عديدة في ذلك من أقربها آيات هذه السورة ( ١٥ – ١٦ ) و ( ١٩ ).
وهذه الجملة تؤيد كما يتبادر لنا وذكرناه في سياق تعليقنا على الإنجيل في سورة الأعراف أنه كان في أيدي النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنجيل لعيسى لا بد من أنه كان يحتوي ما أنزله الله عليه من وصايا وتعاليم وأحكام. ومن الجدير بالذكر أن في إنجيل مرقس المتداول اليوم عبارات صريحة بأنه كان لعيسى إنجيل وأمر تلامذته بالتبشير به. وفي رسائل بولس ذكر لهذا الإنجيل أيضا ( ١ )١. وليس في أيدي النصارى إلا الأناجيل التي كتبها كتابها بعد وفاة عيسى وضمنوها سيرته.
وينطوي في الجملة أن للنصارى الذين هم في نطاق السلطان الإسلامي حق التقاضي في قضاياهم فيما بينهم أمام قضاتهم كما هو الأمر بالنسبة لليهود على ما شرحناه قبل. وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه، وخاصة في الإيجاب على السلطان الإسلامي ملاحظة التزامهم لأحكام الإنجيل وتعاليمه في قضاياهم. وإذا كان يمكن أن يقال : إن إنجيل عيسى مفقود وهو ما يقال بالنسبة لتوراة موسى أيضا، فما قلناه في صدد الحالة بالنسبة لليهود يصح قوله هنا أيضا، من حيث إن في الأناجيل المتداولة أشياء كثيرة من أقوال وتعاليم ووصايا وأحكام معزوة إلى عيسى عليه السلام أو إلى الله عن لسانه عليها سمة الوحي. فيصح أن يترك لهم هذا على أن يكونوا في نطاقه وحسب. ومن الجدير بالذكر أن في الأناجيل المتداولة ما يفيد أن شريعة التوراة تظل شريعة للنصارى مما لم ينسخه عيسى رأسا أو بأمر الله. فيكون لهم أن يتحاكموا أيضا بشريعة التوراة. والله أعلم.
ولقد رأينا ابن كثير يذكر في سياق تفسير الجملة التي نحن في صددها أنها توجب على النصارى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأن الإنجيل يحتوي بشارة به. ومع وجاهة هذا القول في ذاته فالمتبادر أن الجملة هي في صدد التحاكم القضائي ؛ لأن هذا هو مقتضى السياق. ودعوة القرآن للنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكونها لهم في جملة الناس وإيجاب الإيمان بها عليهم، وتقرير كونهم يجدون صفاته في التوراة والإنجيل، وكون عيسى قد بشر به قد انطوى في نصوص قرآنية بأسلوب أصرح. وقد فهمها طوائف كبيرة من النصارى على هذا الوجه وآمنوا بها على ما شرحناه في سياق تعليقنا على الآية ( ١٥٧ ) من سورة الأعراف وغيرها.
هذا، وهناك مسألة قد تتفرع عن السماح لليهود والنصارى بالتقاضي فيما بينهم وفق كتبهم، وهي حالة غير المسلمين الذين يعيشون في كنف السلطان الإسلامي ذميين ومعاهدين فإنهم قد لا يكونون جميعا يهودا ونصارى، وقد يكون منهم من هو منتسب إلى ملل أخرى. ويتبادر لنا أن حكمة اختصاص اليهود والنصارى والتوراة والإنجيل بالذكر هي كونهم الذين كان للعرب بهم الاتصال الأوثق والأوسع قبل الإسلام. وقد ألممنا بمسألة مماثلة في سياق الآية الخامسة من هذه السورة، ونقول هنا ما قلناه هناك إنه إذا ادعت ملة من الملل التي تعيش في كنف السلطان الإسلامي أن عندها كتابا موحى من الله إلى أحد أنبيائها فيه شرائع لها وأظهرته وكان عليه سمة من سمات الكتب السماوية بقطع النظر عما يكون فيه من مخالفات للقرآن ؛ لأن هذا شأن الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى أيضا فليس للمسلمين أن يكذبوها ويصح أن يعاملوا أهلها في هذه المسألة على ذلك الأساس أيضا. أما إن كان هناك ملة ليس لها كتاب تدعي أنه سماوي منزل على نبي دون دليل قوي من واقع ونص فينطبق عليها وصف الجاهلية الوارد في الآية ( ٥٠ ) التي تأتي في السلسلة التالية ويكون الشرع الإسلامي هو الذي يجب القضاء به في قضاياها. والله تعالى أعلم.
١ الإصحاح ١ و ١٦ من إنجيل مرقس والإصحاح ١ من رسالة بولس إلى أهل روما والإصحاح ٩ من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس..

( ١ ) شرعة ومنهاجا : الشرعة بمعنى الشريعة والمنهاج هو الطريق والسبيل والسنة المبينة. والمستلهم من روح الآيات أن الكلمتين في مقامهما بمعنى القواعد والأحكام العملية، وطريقة السير في تنفيذها والجري عليها.
﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( ١ ) وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٤٨ ) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ( ٤٩ ) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ٥٠ ) ﴾ ( ٤٨ -٥٠ )
عبارة الآيات واضحة كذلك. وقد وجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فأولا : قد آذنته أن الله قد أنزل إليه الكتاب بالحق مصدقا ومؤيدا لما أنزله سابقا من الكتب ورقيبا مهيمنا عليها وضابطا ومرجعا لها.
وثانيا : قد أمرته بأن يحكم بين الذين يتقاضون لديه من أهل الكتاب بموجب ما أنزل الله إليه، وأن لا يسايرهم في أهوائهم ومآربهم مسايرة تصرفه عن الحق الذي جاءه.
وثالثا : قد قررت أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة في شرائعها وطرائق تنفيذها، ولكن حكمته اقتضت أن يكون لكل منهم، أو لكل دور وظرف من أدوارهم وظروفهم شرائع وطرائق ليختبرهم بها في كيفية تصرفهم فيما يرسم لهم من حدود وقيود وأحكام.
ورابعا : قد هتفت بالمخاطبين ليتسابقوا بناء على ذلك في الخيرات والفضائل. فإن مرجعهم إلى الله عز وجل. وسوف ينبئهم بما كانوا فيه يختلفون فيظهر المحق من المبطل والمهتدي من الضال.
وخامسا : قد عادت فأمرت النبي ثانية بأن يحكم بينهم بما أنزل الله، وبأن لا يسايرهم ولا يتبع أهوائهم وميولهم، وبأن يكون على حذر من تدليسهم فلا يفتنوه ولا يجعلوه ينحرف عن بعض ما أنزل الله ويتساهل معهم.
وسادسا : قد أهابت به بأن لا يحزن ولا يعبأ بهم إن هم أعرضوا عن قبول حكمه وفق ما أنزل الله. فإن إعراضهم ناشئ عما في نفوسهم من خبث ودنس قضت إرادة الله بأن يعذبهم عليه. فكثير من الناس فاسقون وخارجون عن أمر الله وحكمه، وهم من الجملة فلا موجب للحزن والاغتمام.
وسابعا : قد تساءلت تساؤلا إنكاريا فيه معنى التنديد عما إذا كانوا يبغون أن يحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم بحكم الجاهلية وعرفها ويدع حكم الله.

تعليق على الآية :

﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وأحكام ما ينطوي في جملة :﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾
من ضابط للعقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب السماوية.
ولقد روى المفسرون ( ١ )١أن الآية الثانية نزلت في جماعة من زعماء اليهود وأحبارهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : إننا أشراف قومنا وأحبارهم وبيننا وبين بعض قومنا خصومات، ونريد أن نتحاكم إليك فإذا قضيت لنا عليهم آمنا بك وصدقناك، وإذا فعلنا ذلك تابعنا قومنا، فنزلت الآية. ورووا أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة طلب يهود بني النضير من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحكم لهم بدية مضاعفة لقتلاهم على بني قريظة لأنهم أشرف منهم وفاقا لتقاليد الجاهلية فأبى فنزلت الآية. والرواية الأخيرة رويت في مناسبة الآيات :( ٤١ – ٤٣ ) أيضا على ما ذكرناه قبل. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والمستلهم من روح الآيات ومضمونها ونظمها وعطفها على ما قبلها أنها وحدة تامة نزلت معا، وأنها استمرار في السياق السابق وأسبابه وتعقيب عليه وغير منفصلة عنه لمناسبة جديدة أو مستقلة مع استثناء الآيتين ( ٤٦ و ٧٤ ) من السياق اللتين جاءتا استطراديتين، وأنها استهدفت تثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موقفه والتسرية عنه وتحذيره من تدليس اليهود وتهويشهم كما استهدفت التنديد بهم.
ومما يلهمه روح الآيات ومضمونها أن الحكم الذي كان يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحكم به بإلهام الله في القضية التي رفعت إليه، أو أريد رفعها إليه كان مغايرا لما في التوراة فاتخذ اليهود ذلك وسيلة للمشاغبة والتهويش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه أثنى بلسان القرآن على التوراة وأعلن أكثر من مرة أن القرآن جاء مصدقا ومؤيدا لها، وأنه مأمور بالإيمان بما أنزل الله قبل القرآن، فاحتوت الآيات إيذانا بأن القرآن هو المرجع لكتب الله السابقة – وهذا يعني أن الكتب المتداولة في أيديهم والتي قد يكون بينها وبين القرآن مغايرة ليست عليه حجة – وأن الله تعالى قد جعل لكل أمة أو دور شرعة ومنهاجا ولم تقتض حكمته أن يجعل الناس أمة واحدة على سبيل التعليل والرد والتوضيح.
ومما يلهمه روح الآيات وفحواها وبخاصة الأخيرة منها : أن اليهود كانوا ينتظرون أو يرغبون أن يقضي النبي بينهم في القضية وفقا لتقاليد الجاهلية ؛ لأنها متطابقة مع أهوائهم – وهذا ما تضمنته الرواية المروية لنزول الآية الثالثة – فكان موقف النبي مخالفا لذلك، وجاءت الآية لتندد بهم ولتهتف مستنكرة عما إذا كان يصح أن يكون حكم ما أحسن من حكم الله !.
ولقد تعددت الأقوال المنسوبة إلى ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي التي أوردها المفسرون في تأويل جملتي : و﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ و﴿ مهيمنا عليه ﴾ ؛ حيث قيل في الأولى إنها بمعنى مؤيد لما قبله من الكتاب، أو متطابق معها، أو أن كل شيء فيه عنها هو الصدق والحق. وحيث قيل في الثانية إنها بمعنى الشاهد والرقيب والأمين والمؤتمن على الكتب السابقة، وهناك من جعل الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يكون كل ما تقدم صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومهمته. مع التنبيه على أن الجمهور على أن الضمير عائد إلى القرآن، وهو الأوجه.
والمتبادر لنا أن الجملتين تعنيان في مقامهما : أن القرآن قد جاء ليؤيد ما كان قبله من كتب الله ويتطابق معها، ويكون على ما في أيدي أهل الكتاب منها الضابط والمرجع والرقيب. فما جاء في الكتب المتداولة في أيديهم المنسوبة إلى الله من أسس ومبادئ وتلقينات مطابقا لما جاء في القرآن من ذلك أو غير متناقض معه، فيجوز أن تكون نسبته إلى الله تعالى صحيحة، وما جاء فيه ولم يكن فيها من ذلك يكون هو الحق. وهذا التوجيه مؤيد بما جاء في الآيتين :( ١٥ و ١٦ ) من هذه السورة ثم بما جاء في آية سورة النمل هذه :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( ٧٦ ) ﴾ وفي آيات سورة النحل هذه :﴿ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ( ٦٣ ) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( ٦٤ ) ﴾.
ويكون هذا الضابط بهذا المعنى هو ضابط العقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب المتداولة التي تحتوي كلاما مبلغا عن الله بلسان أنبيائه ؛ لأنه ليس بين الكتب المتداولة اليوم كتب يمكن أن يكون عليها وصف كتاب الله تعالى كما يصدق على القرآن المبلغ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنزل عليه مباشرة كوحي رباني المسجل في وقت نزوله وتبليغه كذلك والمحفوظ كذلك من ذلك الوقت. في حين أن الكتب المتداولة قد كتبت بأقلام بشرية في أوقات مختلفة بعد مدة ما من الأنبياء فيها شذرات محكي تبليغها من الله تعالى مع شذرات كثيرة من أحداث الأنبياء وكلامهم، وفيما هو محكي عن الله تعالى وأنبيائه فيها يتنزهون عنه، ويدل على أنه محرف أو غير صحيح عنهم.
والمتمعن في نصوص الآية الأولى بخاصة يجدها كما قلنا قبل قوية التأييد للرأي القائل أن المسلمين ليسوا مقيدين بأحكام وشرائع الكتب السابقة، وإنما هم مقيدون بأحكام القرآن الذي أنزله الله عرى رسولهم. وقد قال رشيد رضا في تفسيره في سياق تفسير هذه الآية : إنها نص صريح على أن ( شرع من قبلنا ليس شرع لنا ) خلافا لمن قال بذلك محتجين بقوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ سورة الشورى :( ١٣ ) وبقوله تعالى :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ الأنعام ( ٩٠ ) ثم أخذ بين ما في الاحتجاج بذلك من مآخذ بإسهاب فيه كل القوة والوجاهة والسداد.
أما واجب المسلمين تجاه الكتب السماوية السابقة فينحصر في الإيمان بما أنزل الله من كتاب وبوحدة المصدر والأهداف الرئيسية التي تجمع بين الكتب التي أنزلها الله سابقا وبين القرآن في نطاق ما شرحناه في سياق تفسير آية الشورى ( ١٥ ) التي تأمر النبي بأن يقول :﴿ آمنت بما أنزل الله من كتاب ﴾ وآية العنكبوت ( ٤٦ ) التي تأمر المسلمين بأن يقولوا ﴿ آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾.
وقد ترد ملاحظة في صدد هذه الآيات من ناحية أخرى، وهي أن في هذه الآيات وما قبلها إقرارا لأحكام التوراة والإنجيل بالنسبة لليهود والنصارى على الأقل أولا. وتقريرا بأنها نافذة الحكم بعد البعثة النبوية ثانيا. وبأن الذين يسيرون وفقها هم على حق وهدى ثالثا. وقد يكون في هذا نقض لدعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسير وفق ما يأتي به من أحكام وشرائع رابعا. وجوابا على هذا نقول : إن الآيات هي في صدد مشهد قضائي دار فيه جدل ودس وتهويش. وليست بسبيل تقرير أمور تتعلق بالدعوة المحمدية. وقد جاءت لهذا بالأسلوب الذي جاءت به لتتسق مع مقتضيات ذلك المشهد. بحيث يصح القول : إن الآيات في مقامها هي في صدد شؤون قضائية متصلة بما يقوم بين الناس من خلاف ونزاع وفي صدد تقرير احتواء التوراة والإنجيل أحكاما ربانية صالحة للفصل فيما يقوم بين النصارى وبين اليهود الذين يظلون على يهوديتهم ونصرانيتهم من مثل ذلك. وبحيث يبدو من هذا أنه ليس من نقض ولا عدول فيها عن دعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتباع ما أنزل الله عليه من شرائع وأحكام. ولا سيما أن هذه الدعوة ظلت تتكرر بدون فتور في القرآن المكي والقرآن المدني، وظل القرآن المكي والقرآن المدني يشير إلى انحرافهم عن دينهم وميثاق الله الذي أخذه منهم وتحريفهم لكتبهم ويندد بهم ويجدد الدعوة لهم، كما ظل يسجل أثرها الإيجابي والسلبي في اليهود والنصارى على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده في مناسبات عديدة في سور سبق تفسيرها، وفي آيات من هذه السورة سابقة أيضا.
وبطبيعة الحال : إن تقرير صلاحية أحكام التوراة والإنجيل لحل ما يتكون من قضايا بين اليهود وبين النصارى الذين يبقون على دينهم ينطوي على إقرار حرية ممارسة هذه الأحكام وحرية ممارسة الطقوس الأخ
﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( ١ ) وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٤٨ ) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ( ٤٩ ) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ٥٠ ) ﴾ ( ٤٨ -٥٠ )
عبارة الآيات واضحة كذلك. وقد وجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فأولا : قد آذنته أن الله قد أنزل إليه الكتاب بالحق مصدقا ومؤيدا لما أنزله سابقا من الكتب ورقيبا مهيمنا عليها وضابطا ومرجعا لها.
وثانيا : قد أمرته بأن يحكم بين الذين يتقاضون لديه من أهل الكتاب بموجب ما أنزل الله إليه، وأن لا يسايرهم في أهوائهم ومآربهم مسايرة تصرفه عن الحق الذي جاءه.
وثالثا : قد قررت أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة في شرائعها وطرائق تنفيذها، ولكن حكمته اقتضت أن يكون لكل منهم، أو لكل دور وظرف من أدوارهم وظروفهم شرائع وطرائق ليختبرهم بها في كيفية تصرفهم فيما يرسم لهم من حدود وقيود وأحكام.
ورابعا : قد هتفت بالمخاطبين ليتسابقوا بناء على ذلك في الخيرات والفضائل. فإن مرجعهم إلى الله عز وجل. وسوف ينبئهم بما كانوا فيه يختلفون فيظهر المحق من المبطل والمهتدي من الضال.
وخامسا : قد عادت فأمرت النبي ثانية بأن يحكم بينهم بما أنزل الله، وبأن لا يسايرهم ولا يتبع أهوائهم وميولهم، وبأن يكون على حذر من تدليسهم فلا يفتنوه ولا يجعلوه ينحرف عن بعض ما أنزل الله ويتساهل معهم.
وسادسا : قد أهابت به بأن لا يحزن ولا يعبأ بهم إن هم أعرضوا عن قبول حكمه وفق ما أنزل الله. فإن إعراضهم ناشئ عما في نفوسهم من خبث ودنس قضت إرادة الله بأن يعذبهم عليه. فكثير من الناس فاسقون وخارجون عن أمر الله وحكمه، وهم من الجملة فلا موجب للحزن والاغتمام.
وسابعا : قد تساءلت تساؤلا إنكاريا فيه معنى التنديد عما إذا كانوا يبغون أن يحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم بحكم الجاهلية وعرفها ويدع حكم الله.

تعليق على الآية :

﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وأحكام ما ينطوي في جملة :﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾
من ضابط للعقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب السماوية.
ولقد روى المفسرون ( ١ )١أن الآية الثانية نزلت في جماعة من زعماء اليهود وأحبارهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : إننا أشراف قومنا وأحبارهم وبيننا وبين بعض قومنا خصومات، ونريد أن نتحاكم إليك فإذا قضيت لنا عليهم آمنا بك وصدقناك، وإذا فعلنا ذلك تابعنا قومنا، فنزلت الآية. ورووا أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة طلب يهود بني النضير من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحكم لهم بدية مضاعفة لقتلاهم على بني قريظة لأنهم أشرف منهم وفاقا لتقاليد الجاهلية فأبى فنزلت الآية. والرواية الأخيرة رويت في مناسبة الآيات :( ٤١ – ٤٣ ) أيضا على ما ذكرناه قبل. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والمستلهم من روح الآيات ومضمونها ونظمها وعطفها على ما قبلها أنها وحدة تامة نزلت معا، وأنها استمرار في السياق السابق وأسبابه وتعقيب عليه وغير منفصلة عنه لمناسبة جديدة أو مستقلة مع استثناء الآيتين ( ٤٦ و ٧٤ ) من السياق اللتين جاءتا استطراديتين، وأنها استهدفت تثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موقفه والتسرية عنه وتحذيره من تدليس اليهود وتهويشهم كما استهدفت التنديد بهم.
ومما يلهمه روح الآيات ومضمونها أن الحكم الذي كان يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحكم به بإلهام الله في القضية التي رفعت إليه، أو أريد رفعها إليه كان مغايرا لما في التوراة فاتخذ اليهود ذلك وسيلة للمشاغبة والتهويش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه أثنى بلسان القرآن على التوراة وأعلن أكثر من مرة أن القرآن جاء مصدقا ومؤيدا لها، وأنه مأمور بالإيمان بما أنزل الله قبل القرآن، فاحتوت الآيات إيذانا بأن القرآن هو المرجع لكتب الله السابقة – وهذا يعني أن الكتب المتداولة في أيديهم والتي قد يكون بينها وبين القرآن مغايرة ليست عليه حجة – وأن الله تعالى قد جعل لكل أمة أو دور شرعة ومنهاجا ولم تقتض حكمته أن يجعل الناس أمة واحدة على سبيل التعليل والرد والتوضيح.
ومما يلهمه روح الآيات وفحواها وبخاصة الأخيرة منها : أن اليهود كانوا ينتظرون أو يرغبون أن يقضي النبي بينهم في القضية وفقا لتقاليد الجاهلية ؛ لأنها متطابقة مع أهوائهم – وهذا ما تضمنته الرواية المروية لنزول الآية الثالثة – فكان موقف النبي مخالفا لذلك، وجاءت الآية لتندد بهم ولتهتف مستنكرة عما إذا كان يصح أن يكون حكم ما أحسن من حكم الله !.
ولقد تعددت الأقوال المنسوبة إلى ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي التي أوردها المفسرون في تأويل جملتي : و﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ و﴿ مهيمنا عليه ﴾ ؛ حيث قيل في الأولى إنها بمعنى مؤيد لما قبله من الكتاب، أو متطابق معها، أو أن كل شيء فيه عنها هو الصدق والحق. وحيث قيل في الثانية إنها بمعنى الشاهد والرقيب والأمين والمؤتمن على الكتب السابقة، وهناك من جعل الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يكون كل ما تقدم صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومهمته. مع التنبيه على أن الجمهور على أن الضمير عائد إلى القرآن، وهو الأوجه.
والمتبادر لنا أن الجملتين تعنيان في مقامهما : أن القرآن قد جاء ليؤيد ما كان قبله من كتب الله ويتطابق معها، ويكون على ما في أيدي أهل الكتاب منها الضابط والمرجع والرقيب. فما جاء في الكتب المتداولة في أيديهم المنسوبة إلى الله من أسس ومبادئ وتلقينات مطابقا لما جاء في القرآن من ذلك أو غير متناقض معه، فيجوز أن تكون نسبته إلى الله تعالى صحيحة، وما جاء فيه ولم يكن فيها من ذلك يكون هو الحق. وهذا التوجيه مؤيد بما جاء في الآيتين :( ١٥ و ١٦ ) من هذه السورة ثم بما جاء في آية سورة النمل هذه :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( ٧٦ ) ﴾ وفي آيات سورة النحل هذه :﴿ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ( ٦٣ ) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( ٦٤ ) ﴾.
ويكون هذا الضابط بهذا المعنى هو ضابط العقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب المتداولة التي تحتوي كلاما مبلغا عن الله بلسان أنبيائه ؛ لأنه ليس بين الكتب المتداولة اليوم كتب يمكن أن يكون عليها وصف كتاب الله تعالى كما يصدق على القرآن المبلغ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنزل عليه مباشرة كوحي رباني المسجل في وقت نزوله وتبليغه كذلك والمحفوظ كذلك من ذلك الوقت. في حين أن الكتب المتداولة قد كتبت بأقلام بشرية في أوقات مختلفة بعد مدة ما من الأنبياء فيها شذرات محكي تبليغها من الله تعالى مع شذرات كثيرة من أحداث الأنبياء وكلامهم، وفيما هو محكي عن الله تعالى وأنبيائه فيها يتنزهون عنه، ويدل على أنه محرف أو غير صحيح عنهم.
والمتمعن في نصوص الآية الأولى بخاصة يجدها كما قلنا قبل قوية التأييد للرأي القائل أن المسلمين ليسوا مقيدين بأحكام وشرائع الكتب السابقة، وإنما هم مقيدون بأحكام القرآن الذي أنزله الله عرى رسولهم. وقد قال رشيد رضا في تفسيره في سياق تفسير هذه الآية : إنها نص صريح على أن ( شرع من قبلنا ليس شرع لنا ) خلافا لمن قال بذلك محتجين بقوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ سورة الشورى :( ١٣ ) وبقوله تعالى :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ الأنعام ( ٩٠ ) ثم أخذ بين ما في الاحتجاج بذلك من مآخذ بإسهاب فيه كل القوة والوجاهة والسداد.
أما واجب المسلمين تجاه الكتب السماوية السابقة فينحصر في الإيمان بما أنزل الله من كتاب وبوحدة المصدر والأهداف الرئيسية التي تجمع بين الكتب التي أنزلها الله سابقا وبين القرآن في نطاق ما شرحناه في سياق تفسير آية الشورى ( ١٥ ) التي تأمر النبي بأن يقول :﴿ آمنت بما أنزل الله من كتاب ﴾ وآية العنكبوت ( ٤٦ ) التي تأمر المسلمين بأن يقولوا ﴿ آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾.
وقد ترد ملاحظة في صدد هذه الآيات من ناحية أخرى، وهي أن في هذه الآيات وما قبلها إقرارا لأحكام التوراة والإنجيل بالنسبة لليهود والنصارى على الأقل أولا. وتقريرا بأنها نافذة الحكم بعد البعثة النبوية ثانيا. وبأن الذين يسيرون وفقها هم على حق وهدى ثالثا. وقد يكون في هذا نقض لدعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسير وفق ما يأتي به من أحكام وشرائع رابعا. وجوابا على هذا نقول : إن الآيات هي في صدد مشهد قضائي دار فيه جدل ودس وتهويش. وليست بسبيل تقرير أمور تتعلق بالدعوة المحمدية. وقد جاءت لهذا بالأسلوب الذي جاءت به لتتسق مع مقتضيات ذلك المشهد. بحيث يصح القول : إن الآيات في مقامها هي في صدد شؤون قضائية متصلة بما يقوم بين الناس من خلاف ونزاع وفي صدد تقرير احتواء التوراة والإنجيل أحكاما ربانية صالحة للفصل فيما يقوم بين النصارى وبين اليهود الذين يظلون على يهوديتهم ونصرانيتهم من مثل ذلك. وبحيث يبدو من هذا أنه ليس من نقض ولا عدول فيها عن دعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتباع ما أنزل الله عليه من شرائع وأحكام. ولا سيما أن هذه الدعوة ظلت تتكرر بدون فتور في القرآن المكي والقرآن المدني، وظل القرآن المكي والقرآن المدني يشير إلى انحرافهم عن دينهم وميثاق الله الذي أخذه منهم وتحريفهم لكتبهم ويندد بهم ويجدد الدعوة لهم، كما ظل يسجل أثرها الإيجابي والسلبي في اليهود والنصارى على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده في مناسبات عديدة في سور سبق تفسيرها، وفي آيات من هذه السورة سابقة أيضا.
وبطبيعة الحال : إن تقرير صلاحية أحكام التوراة والإنجيل لحل ما يتكون من قضايا بين اليهود وبين النصارى الذين يبقون على دينهم ينطوي على إقرار حرية ممارسة هذه الأحكام وحرية ممارسة الطقوس الأخ
﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( ١ ) وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٤٨ ) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ( ٤٩ ) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ٥٠ ) ﴾ ( ٤٨ -٥٠ )
عبارة الآيات واضحة كذلك. وقد وجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فأولا : قد آذنته أن الله قد أنزل إليه الكتاب بالحق مصدقا ومؤيدا لما أنزله سابقا من الكتب ورقيبا مهيمنا عليها وضابطا ومرجعا لها.
وثانيا : قد أمرته بأن يحكم بين الذين يتقاضون لديه من أهل الكتاب بموجب ما أنزل الله إليه، وأن لا يسايرهم في أهوائهم ومآربهم مسايرة تصرفه عن الحق الذي جاءه.
وثالثا : قد قررت أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة في شرائعها وطرائق تنفيذها، ولكن حكمته اقتضت أن يكون لكل منهم، أو لكل دور وظرف من أدوارهم وظروفهم شرائع وطرائق ليختبرهم بها في كيفية تصرفهم فيما يرسم لهم من حدود وقيود وأحكام.
ورابعا : قد هتفت بالمخاطبين ليتسابقوا بناء على ذلك في الخيرات والفضائل. فإن مرجعهم إلى الله عز وجل. وسوف ينبئهم بما كانوا فيه يختلفون فيظهر المحق من المبطل والمهتدي من الضال.
وخامسا : قد عادت فأمرت النبي ثانية بأن يحكم بينهم بما أنزل الله، وبأن لا يسايرهم ولا يتبع أهوائهم وميولهم، وبأن يكون على حذر من تدليسهم فلا يفتنوه ولا يجعلوه ينحرف عن بعض ما أنزل الله ويتساهل معهم.
وسادسا : قد أهابت به بأن لا يحزن ولا يعبأ بهم إن هم أعرضوا عن قبول حكمه وفق ما أنزل الله. فإن إعراضهم ناشئ عما في نفوسهم من خبث ودنس قضت إرادة الله بأن يعذبهم عليه. فكثير من الناس فاسقون وخارجون عن أمر الله وحكمه، وهم من الجملة فلا موجب للحزن والاغتمام.
وسابعا : قد تساءلت تساؤلا إنكاريا فيه معنى التنديد عما إذا كانوا يبغون أن يحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم بحكم الجاهلية وعرفها ويدع حكم الله.

تعليق على الآية :

﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وأحكام ما ينطوي في جملة :﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾
من ضابط للعقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب السماوية.
ولقد روى المفسرون ( ١ )١أن الآية الثانية نزلت في جماعة من زعماء اليهود وأحبارهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : إننا أشراف قومنا وأحبارهم وبيننا وبين بعض قومنا خصومات، ونريد أن نتحاكم إليك فإذا قضيت لنا عليهم آمنا بك وصدقناك، وإذا فعلنا ذلك تابعنا قومنا، فنزلت الآية. ورووا أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة طلب يهود بني النضير من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحكم لهم بدية مضاعفة لقتلاهم على بني قريظة لأنهم أشرف منهم وفاقا لتقاليد الجاهلية فأبى فنزلت الآية. والرواية الأخيرة رويت في مناسبة الآيات :( ٤١ – ٤٣ ) أيضا على ما ذكرناه قبل. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والمستلهم من روح الآيات ومضمونها ونظمها وعطفها على ما قبلها أنها وحدة تامة نزلت معا، وأنها استمرار في السياق السابق وأسبابه وتعقيب عليه وغير منفصلة عنه لمناسبة جديدة أو مستقلة مع استثناء الآيتين ( ٤٦ و ٧٤ ) من السياق اللتين جاءتا استطراديتين، وأنها استهدفت تثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موقفه والتسرية عنه وتحذيره من تدليس اليهود وتهويشهم كما استهدفت التنديد بهم.
ومما يلهمه روح الآيات ومضمونها أن الحكم الذي كان يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحكم به بإلهام الله في القضية التي رفعت إليه، أو أريد رفعها إليه كان مغايرا لما في التوراة فاتخذ اليهود ذلك وسيلة للمشاغبة والتهويش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه أثنى بلسان القرآن على التوراة وأعلن أكثر من مرة أن القرآن جاء مصدقا ومؤيدا لها، وأنه مأمور بالإيمان بما أنزل الله قبل القرآن، فاحتوت الآيات إيذانا بأن القرآن هو المرجع لكتب الله السابقة – وهذا يعني أن الكتب المتداولة في أيديهم والتي قد يكون بينها وبين القرآن مغايرة ليست عليه حجة – وأن الله تعالى قد جعل لكل أمة أو دور شرعة ومنهاجا ولم تقتض حكمته أن يجعل الناس أمة واحدة على سبيل التعليل والرد والتوضيح.
ومما يلهمه روح الآيات وفحواها وبخاصة الأخيرة منها : أن اليهود كانوا ينتظرون أو يرغبون أن يقضي النبي بينهم في القضية وفقا لتقاليد الجاهلية ؛ لأنها متطابقة مع أهوائهم – وهذا ما تضمنته الرواية المروية لنزول الآية الثالثة – فكان موقف النبي مخالفا لذلك، وجاءت الآية لتندد بهم ولتهتف مستنكرة عما إذا كان يصح أن يكون حكم ما أحسن من حكم الله !.
ولقد تعددت الأقوال المنسوبة إلى ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي التي أوردها المفسرون في تأويل جملتي : و﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ و﴿ مهيمنا عليه ﴾ ؛ حيث قيل في الأولى إنها بمعنى مؤيد لما قبله من الكتاب، أو متطابق معها، أو أن كل شيء فيه عنها هو الصدق والحق. وحيث قيل في الثانية إنها بمعنى الشاهد والرقيب والأمين والمؤتمن على الكتب السابقة، وهناك من جعل الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يكون كل ما تقدم صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومهمته. مع التنبيه على أن الجمهور على أن الضمير عائد إلى القرآن، وهو الأوجه.
والمتبادر لنا أن الجملتين تعنيان في مقامهما : أن القرآن قد جاء ليؤيد ما كان قبله من كتب الله ويتطابق معها، ويكون على ما في أيدي أهل الكتاب منها الضابط والمرجع والرقيب. فما جاء في الكتب المتداولة في أيديهم المنسوبة إلى الله من أسس ومبادئ وتلقينات مطابقا لما جاء في القرآن من ذلك أو غير متناقض معه، فيجوز أن تكون نسبته إلى الله تعالى صحيحة، وما جاء فيه ولم يكن فيها من ذلك يكون هو الحق. وهذا التوجيه مؤيد بما جاء في الآيتين :( ١٥ و ١٦ ) من هذه السورة ثم بما جاء في آية سورة النمل هذه :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( ٧٦ ) ﴾ وفي آيات سورة النحل هذه :﴿ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ( ٦٣ ) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( ٦٤ ) ﴾.
ويكون هذا الضابط بهذا المعنى هو ضابط العقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب المتداولة التي تحتوي كلاما مبلغا عن الله بلسان أنبيائه ؛ لأنه ليس بين الكتب المتداولة اليوم كتب يمكن أن يكون عليها وصف كتاب الله تعالى كما يصدق على القرآن المبلغ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنزل عليه مباشرة كوحي رباني المسجل في وقت نزوله وتبليغه كذلك والمحفوظ كذلك من ذلك الوقت. في حين أن الكتب المتداولة قد كتبت بأقلام بشرية في أوقات مختلفة بعد مدة ما من الأنبياء فيها شذرات محكي تبليغها من الله تعالى مع شذرات كثيرة من أحداث الأنبياء وكلامهم، وفيما هو محكي عن الله تعالى وأنبيائه فيها يتنزهون عنه، ويدل على أنه محرف أو غير صحيح عنهم.
والمتمعن في نصوص الآية الأولى بخاصة يجدها كما قلنا قبل قوية التأييد للرأي القائل أن المسلمين ليسوا مقيدين بأحكام وشرائع الكتب السابقة، وإنما هم مقيدون بأحكام القرآن الذي أنزله الله عرى رسولهم. وقد قال رشيد رضا في تفسيره في سياق تفسير هذه الآية : إنها نص صريح على أن ( شرع من قبلنا ليس شرع لنا ) خلافا لمن قال بذلك محتجين بقوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ سورة الشورى :( ١٣ ) وبقوله تعالى :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ الأنعام ( ٩٠ ) ثم أخذ بين ما في الاحتجاج بذلك من مآخذ بإسهاب فيه كل القوة والوجاهة والسداد.
أما واجب المسلمين تجاه الكتب السماوية السابقة فينحصر في الإيمان بما أنزل الله من كتاب وبوحدة المصدر والأهداف الرئيسية التي تجمع بين الكتب التي أنزلها الله سابقا وبين القرآن في نطاق ما شرحناه في سياق تفسير آية الشورى ( ١٥ ) التي تأمر النبي بأن يقول :﴿ آمنت بما أنزل الله من كتاب ﴾ وآية العنكبوت ( ٤٦ ) التي تأمر المسلمين بأن يقولوا ﴿ آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾.
وقد ترد ملاحظة في صدد هذه الآيات من ناحية أخرى، وهي أن في هذه الآيات وما قبلها إقرارا لأحكام التوراة والإنجيل بالنسبة لليهود والنصارى على الأقل أولا. وتقريرا بأنها نافذة الحكم بعد البعثة النبوية ثانيا. وبأن الذين يسيرون وفقها هم على حق وهدى ثالثا. وقد يكون في هذا نقض لدعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسير وفق ما يأتي به من أحكام وشرائع رابعا. وجوابا على هذا نقول : إن الآيات هي في صدد مشهد قضائي دار فيه جدل ودس وتهويش. وليست بسبيل تقرير أمور تتعلق بالدعوة المحمدية. وقد جاءت لهذا بالأسلوب الذي جاءت به لتتسق مع مقتضيات ذلك المشهد. بحيث يصح القول : إن الآيات في مقامها هي في صدد شؤون قضائية متصلة بما يقوم بين الناس من خلاف ونزاع وفي صدد تقرير احتواء التوراة والإنجيل أحكاما ربانية صالحة للفصل فيما يقوم بين النصارى وبين اليهود الذين يظلون على يهوديتهم ونصرانيتهم من مثل ذلك. وبحيث يبدو من هذا أنه ليس من نقض ولا عدول فيها عن دعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتباع ما أنزل الله عليه من شرائع وأحكام. ولا سيما أن هذه الدعوة ظلت تتكرر بدون فتور في القرآن المكي والقرآن المدني، وظل القرآن المكي والقرآن المدني يشير إلى انحرافهم عن دينهم وميثاق الله الذي أخذه منهم وتحريفهم لكتبهم ويندد بهم ويجدد الدعوة لهم، كما ظل يسجل أثرها الإيجابي والسلبي في اليهود والنصارى على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده في مناسبات عديدة في سور سبق تفسيرها، وفي آيات من هذه السورة سابقة أيضا.
وبطبيعة الحال : إن تقرير صلاحية أحكام التوراة والإنجيل لحل ما يتكون من قضايا بين اليهود وبين النصارى الذين يبقون على دينهم ينطوي على إقرار حرية ممارسة هذه الأحكام وحرية ممارسة الطقوس الأخ
( ١ ) أولياء : نصراء.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ( ١ ) بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٥١ ) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ( ٢ ) يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ( ٣ ) فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( ٥٢ ) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ( ٥٣ ) ﴾ ( ٥١ – ٥٣ ).

في الآيات :

( ١ ) نداء للمؤمنين نهوا فيه عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ونصراء.
( ٢ ) وتقرير رباني بأنهم نصراء بعضهم فقط في حقيقة الأمر، وبأن من يتولاهم من المؤمنين فيعد منهم ويصبح في عداد الظالمين المنحرفين عن أوامر الله الذين لا ينالون رضاء الله وتوفيقه.
( ٣ ) وتنديد بفريق المنافقين مرضى القلوب الذين يسارعون ويشتدون في موالاتهم ومصانعتهم والتواثق معهم. ويقولون : إنهم إنما يفعلون ذلك لحماية أنفسهم من أن تدور عليهم دائرة الحرب وتحل فيهم كارثة من كوارثها.
( ٤ ) وإنذار رباني توقعي ينطوي على التنديد بالمنافقين والبشرى للمؤمنين. فعسى الله أن ينصر المسلمين وييسر لهم فتحا وفرجا وحدثا ليس في الحسبان فيخزى المنافقون ويندموا على ما أسروا في أنفسهم. ويشمت المؤمنون بهم حينئذ ويسألونهم على سبيل الشماتة والاستخفاف عن نتيجة الأيمان المغلظة التي حلفها لهم من اتخذوهم أولياء وسارعوا فيهم وصانعوهم من أهل الكتاب وجدواها.
( ٥ ) وتعقيب أو جواب على ذلك بأنها قد ذهبت سدى، وقد حبط جهد المنافقين وعملهم، وأصبحوا خاسرين عند الله وعند الناس.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء...................... ﴾ الخ
مع الآيتين التاليتين لها وما ورد في سياقها من روايات.
وما فيها من صور وتلقين، وبحث في جواز التحالف
مع غير الأعداء من المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة
والآيات كما تبدو فصل جديد. وقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات منها :( أن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول اختصما وتلاحيا في صدد حلفائهم من اليهود فقال الأول : إني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم، فقال الثاني : ولكني لا أبرأ منهم لأني أخاف الدوائر، فلا بد لي منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله : يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية اليهود على عبادة فهو لك دونه قال : إذا أقبل، فأنزل الله الآيات ). وقد رووا أن شيئا من ذلك وقع بين الرجلين بعد وقعة بدر، أو في أثناء حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني قينقاع حلفاء الخزرج، وأن عبد الله بن أبي بن سلول أمسك بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : أحسن في موالي فقال له : ويحك أرسلني، فقال له : والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة. إني امرؤ أخشى الدوائر. وإلى هذا فإنهم رووا أنها نزلت بعد وقعة أحد حيث قال أحد المسلمين أنا ألحق بفلان اليهودي فآخذ منه أمانا أو أتهود معه. وقال واحد آخر : أنا ألتحق بفلان النصراني في أرض الشام فآخذ منه أمانا أن استنصر معه. ورووا أنها نزلت في لبابة بسبب تحذيره يهود بني قريظة من النزول على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشاروه، وأشار إليهم بما يعني أن مصيرهم حينئذ هو الذبح.
والروايات التي تحكي أقوال ابن أبي سلول سواء في موقفه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حصار بني قينقاع أم ملاحاته مع عبادة بن الصامت تنطبق على الآيات أكثر من الروايتين الأخيرتين كما هو المتبادر. وفي حالة صحة رواية نزول الآيات بسبب ذلك تكون الآية الأولى بمثابة تمهيد لحكاية موقف مرضى القلوب. وتكون الآيات قد نزلت في عهد قوة اليهود في المدينة. ولقد احتوت الآيات التي سبقت هذه الآيات صورا من مواقف اليهود وانحرافاتهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. واستدللنا منها على أنها نزلت في عهد قوة اليهود في المدينة أيضا، وهكذا يمكن أن يكون تقارب ما بين ظروف نزول تلك الآيات، وهذه الآيات وأن يكون وضع هذه الآيات عقب تلك بسبب ذلك. والله أعلم.
والنهي في الآية الأولى قد شمل اليهود والنصارى في حين أن الروايات من جهة وروح الآيات ثم روح آيات أخرى تأتي بعدها من جهة تفيد أن ى اليهود هم أصحاب الموقف الفعلي. وهذا مما يؤيده واقع الأمر حينذاك من حيث كون اليهود هم الذين كانوا كتلا قوية في المدينة وكان بينهم وبين بطون الأوس والخزرج محالفات، وهم الذين يمكن أن يتخذهم بعض المسلمين أولياء ليحتاطوا بولائهم ومصانعتهم من الطوارئ والدوائر دون النصارى الذين لم يكونوا كتلة قوية في الحجاز ولم يكن لهم نتيجة لذلك محالفات مع العرب في المدينة وسائر الحجاز، وهذا يسوغ القول : إن ذكر النصارى إنما جاء من قبيل الاستطراد والتعميم ليتناول النهي الحالات المماثلة مما جرى النظم القرآني عليه.
وفي صدد جملة :﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ قال الطبري : إنها تعني أن بعض اليهود أنصار بعضهم الآخر، وأن بعض النصارى أنصار بعضهم الآخر. وهذا وجيه يزول به ما قد يحيك في الصدر من إشكال كونها تعني تحالف اليهود والنصارى معا. وهو ما كان مغايرا لواقع الأمر حين نزول الآيات استمرارا لما كان قبل ؛ حيث كان العداء قائما بين أهل الديانتين.
ويلحظ أن النهي عن تولي اليهود والنصارى قد جاء بدون تعليل. وفي الآيات التالية آيتان فيهما تكرار للنهي مع بعض أسبابه، وهي أنهم كانوا يتخذون دين المسلمين وأذانهم وصلاتهم هزوا ولعبا. والآيات التالية هي استمرار لهذه الآيات. وهذا يسوغ القول : إن هذه الأسباب واردة بالنسبة للنهي الوارد بدون تعليل في هذه الآيات. ويسوغ القول بالتبعية أن النهي في الدرجة الأولى هو بالنسبة لمن يقف من المسلمين ودينهم هذا الموقف.
وبالإضافة إلى ما ذكرناه فإن روح الآيات صريحة الدلالة على أن النهي موجه لفريق من المسلمين وليس للمسلمين جميعهم ككيان. ومفهوم القول ولا سيما في الظروف التي نزلت فيها الآيات هو التناصر والتحالف في الحروب على الأعداء. وقد كان المسلمون كمجموع أو كيان طرفا وكل من اليهود والنصارى طرفا. والتعليل أو بعض الأسباب التي ذكرت في سياق النهي في الآيات التالية يعني أن كلا من هذين الطرفين أي النصارى واليهود يقفان موقف السخرية والانتقاص والعداء من المسلمين ودينهم كطرف أو كيان، واحتمال تطور هذا الموقف إلى حالة حرب وارد دائما بطبيعة الحال، وهو ما كان يقع فعلا. فتحالف فريق من المسلمين مع أي منهما وهو في موقف عداء وكيد للمسلمين يعني تحالفه ضد المسلمين كمجموع وكيان. ولا يمكن أن يقع هذا من مؤمن صادق وإن وقع فمن الطبيعي أن يخرجه من صف المؤمنين إلى صف الذين يحالفهم ويناصرهم على المؤمنين. وهو ما عنته جملة :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾، ولقد قال الطبري : إن النهي في الآية هو عن تحالف فريق المسلمين وتناصرهم مع النصارى واليهود على أهل الإيمان بالله ورسوله، وهذا متطابق كما قررناه آنفا.
وقد يصح القول والحالة هذه أنه ليس من تعارض بين نهي الآية وبين ما نبه عليه رشيد رضا في سياق الآية ( ٣٨ ) من سورة آل عمران وأوردناه وصوبناه من جواز التناصر بين مجموعة المسلمين أو مجموعة منهم كطرف وكيان، وبين مجموعة من أهل الكتاب ليس لها موقف كيد وعداء وطعن ضد الإسلام والمسلمين. ، على أعداء مشركين. وجواز التعاهد بين مجموعة المسلمين أو مجموعة منهم كطرف وكيان وبين مجموعة من غير المسلمين ليس لها موقف كيد وعداء وطعن ضد الإسلام والمسلمين تعاهد سلم أو تعاهد تعاون على أعداء مشتركين بسبيل إرهابهم.
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت :( خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل يذكر بالجرأة والنجدة ففرح به الأصحاب فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : جئت لأتبعك وأصيب معك. فقال : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا. قال : فارجع فلن أستعين بمشرك ثم مضى. حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له : كما قال أول مرة فرد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالمرة الأولى ثم رجع فأدركنا بالبيداء فقال كالأول، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : تؤمن بالله ورسوله ؟. قال : نعم. فقال له : انطلق ) ( ١ )١.
ويتبادر لنا أن الموقف في ذلك الظرف موقف خاص ومختلف عما نذكره. فالمشركون كانوا جميعهم جاهزين للرسالة النبوية وكثير منهم في موقف عدائي صريح لها. والإسلام في أول عهده. والقرآن يشن أعنف حملة على الشرك والمشركين، وقد كان هدف الرجل الغنيمة فقط على أحسن الفروض الظاهرة.
وقد فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في مواقف أخرى. فقد عاهد اليهود حينما قدم إلى المدينة لأول مرة. ونص الفقرة المتعلقة بهم في كتاب الموادعة الذي كتبه دستورا للعهد الجديد الذي بدأ تحت قيادته صريح فإنها في مثابة حلف حربي حيث جاء في الكتاب المذكور :( وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وإن بينهم النصر على ما حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم ) ( ٢ )٢. وبعد انعقاد صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش دخل بنو خزاعة كطرف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاروا حلفاء له ولم يكونوا مسلمين. هذا، فضلا عما كان يبرمه النبي مع مشركين وكتابيين من مواثيق وعهود سليمة بدءا أو بعد حرب مما احتوت صورا كثيرة منه كتب السيرة ومما أشارت إليه بعض آيات القرآن إشارات مقتضبة ( ٣ )٣.
ومن باب أولى أن يقال : إنه ليس من تعارض بين النهي المنطوي في الآيات وبين حسن التعامل والتعايش والتعاون بين المسلمين وغيرهم إذا لم يكن بينهم حالة حرب وعداء، وكان الغير كافا لسان ويده عنهم مما قررته آية سورة الممتحنة هذه :﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) ﴾.
( ٢ ) يسارعون فيهم : يشتدون في موالاتهم ومصانعتهم.
( ٣ ) نخشى أن تصيبنا دائرة : نخاف أن تدور علينا الدائرة في الحرب أو تقع علينا كارثة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ( ١ ) بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٥١ ) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ( ٢ ) يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ( ٣ ) فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( ٥٢ ) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ( ٥٣ ) ﴾ ( ٥١ – ٥٣ ).

في الآيات :

( ١ ) نداء للمؤمنين نهوا فيه عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ونصراء.
( ٢ ) وتقرير رباني بأنهم نصراء بعضهم فقط في حقيقة الأمر، وبأن من يتولاهم من المؤمنين فيعد منهم ويصبح في عداد الظالمين المنحرفين عن أوامر الله الذين لا ينالون رضاء الله وتوفيقه.
( ٣ ) وتنديد بفريق المنافقين مرضى القلوب الذين يسارعون ويشتدون في موالاتهم ومصانعتهم والتواثق معهم. ويقولون : إنهم إنما يفعلون ذلك لحماية أنفسهم من أن تدور عليهم دائرة الحرب وتحل فيهم كارثة من كوارثها.
( ٤ ) وإنذار رباني توقعي ينطوي على التنديد بالمنافقين والبشرى للمؤمنين. فعسى الله أن ينصر المسلمين وييسر لهم فتحا وفرجا وحدثا ليس في الحسبان فيخزى المنافقون ويندموا على ما أسروا في أنفسهم. ويشمت المؤمنون بهم حينئذ ويسألونهم على سبيل الشماتة والاستخفاف عن نتيجة الأيمان المغلظة التي حلفها لهم من اتخذوهم أولياء وسارعوا فيهم وصانعوهم من أهل الكتاب وجدواها.
( ٥ ) وتعقيب أو جواب على ذلك بأنها قد ذهبت سدى، وقد حبط جهد المنافقين وعملهم، وأصبحوا خاسرين عند الله وعند الناس.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء...................... ﴾ الخ
مع الآيتين التاليتين لها وما ورد في سياقها من روايات.
وما فيها من صور وتلقين، وبحث في جواز التحالف
مع غير الأعداء من المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة
والآيات كما تبدو فصل جديد. وقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات منها :( أن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول اختصما وتلاحيا في صدد حلفائهم من اليهود فقال الأول : إني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم، فقال الثاني : ولكني لا أبرأ منهم لأني أخاف الدوائر، فلا بد لي منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله : يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية اليهود على عبادة فهو لك دونه قال : إذا أقبل، فأنزل الله الآيات ). وقد رووا أن شيئا من ذلك وقع بين الرجلين بعد وقعة بدر، أو في أثناء حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني قينقاع حلفاء الخزرج، وأن عبد الله بن أبي بن سلول أمسك بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : أحسن في موالي فقال له : ويحك أرسلني، فقال له : والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة. إني امرؤ أخشى الدوائر. وإلى هذا فإنهم رووا أنها نزلت بعد وقعة أحد حيث قال أحد المسلمين أنا ألحق بفلان اليهودي فآخذ منه أمانا أو أتهود معه. وقال واحد آخر : أنا ألتحق بفلان النصراني في أرض الشام فآخذ منه أمانا أن استنصر معه. ورووا أنها نزلت في لبابة بسبب تحذيره يهود بني قريظة من النزول على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما استشاروه، وأشار إليهم بما يعني أن مصيرهم حينئذ هو الذبح.
والروايات التي تحكي أقوال ابن أبي سلول سواء في موقفه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حصار بني قينقاع أم ملاحاته مع عبادة بن الصامت تنطبق على الآيات أكثر من الروايتين الأخيرتين كما هو المتبادر. وفي حالة صحة رواية نزول الآيات بسبب ذلك تكون الآية الأولى بمثابة تمهيد لحكاية موقف مرضى القلوب. وتكون الآيات قد نزلت في عهد قوة اليهود في المدينة. ولقد احتوت الآيات التي سبقت هذه الآيات صورا من مواقف اليهود وانحرافاتهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. واستدللنا منها على أنها نزلت في عهد قوة اليهود في المدينة أيضا، وهكذا يمكن أن يكون تقارب ما بين ظروف نزول تلك الآيات، وهذه الآيات وأن يكون وضع هذه الآيات عقب تلك بسبب ذلك. والله أعلم.
والنهي في الآية الأولى قد شمل اليهود والنصارى في حين أن الروايات من جهة وروح الآيات ثم روح آيات أخرى تأتي بعدها من جهة تفيد أن ى اليهود هم أصحاب الموقف الفعلي. وهذا مما يؤيده واقع الأمر حينذاك من حيث كون اليهود هم الذين كانوا كتلا قوية في المدينة وكان بينهم وبين بطون الأوس والخزرج محالفات، وهم الذين يمكن أن يتخذهم بعض المسلمين أولياء ليحتاطوا بولائهم ومصانعتهم من الطوارئ والدوائر دون النصارى الذين لم يكونوا كتلة قوية في الحجاز ولم يكن لهم نتيجة لذلك محالفات مع العرب في المدينة وسائر الحجاز، وهذا يسوغ القول : إن ذكر النصارى إنما جاء من قبيل الاستطراد والتعميم ليتناول النهي الحالات المماثلة مما جرى النظم القرآني عليه.
وفي صدد جملة :﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ قال الطبري : إنها تعني أن بعض اليهود أنصار بعضهم الآخر، وأن بعض النصارى أنصار بعضهم الآخر. وهذا وجيه يزول به ما قد يحيك في الصدر من إشكال كونها تعني تحالف اليهود والنصارى معا. وهو ما كان مغايرا لواقع الأمر حين نزول الآيات استمرارا لما كان قبل ؛ حيث كان العداء قائما بين أهل الديانتين.
ويلحظ أن النهي عن تولي اليهود والنصارى قد جاء بدون تعليل. وفي الآيات التالية آيتان فيهما تكرار للنهي مع بعض أسبابه، وهي أنهم كانوا يتخذون دين المسلمين وأذانهم وصلاتهم هزوا ولعبا. والآيات التالية هي استمرار لهذه الآيات. وهذا يسوغ القول : إن هذه الأسباب واردة بالنسبة للنهي الوارد بدون تعليل في هذه الآيات. ويسوغ القول بالتبعية أن النهي في الدرجة الأولى هو بالنسبة لمن يقف من المسلمين ودينهم هذا الموقف.
وبالإضافة إلى ما ذكرناه فإن روح الآيات صريحة الدلالة على أن النهي موجه لفريق من المسلمين وليس للمسلمين جميعهم ككيان. ومفهوم القول ولا سيما في الظروف التي نزلت فيها الآيات هو التناصر والتحالف في الحروب على الأعداء. وقد كان المسلمون كمجموع أو كيان طرفا وكل من اليهود والنصارى طرفا. والتعليل أو بعض الأسباب التي ذكرت في سياق النهي في الآيات التالية يعني أن كلا من هذين الطرفين أي النصارى واليهود يقفان موقف السخرية والانتقاص والعداء من المسلمين ودينهم كطرف أو كيان، واحتمال تطور هذا الموقف إلى حالة حرب وارد دائما بطبيعة الحال، وهو ما كان يقع فعلا. فتحالف فريق من المسلمين مع أي منهما وهو في موقف عداء وكيد للمسلمين يعني تحالفه ضد المسلمين كمجموع وكيان. ولا يمكن أن يقع هذا من مؤمن صادق وإن وقع فمن الطبيعي أن يخرجه من صف المؤمنين إلى صف الذين يحالفهم ويناصرهم على المؤمنين. وهو ما عنته جملة :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾، ولقد قال الطبري : إن النهي في الآية هو عن تحالف فريق المسلمين وتناصرهم مع النصارى واليهود على أهل الإيمان بالله ورسوله، وهذا متطابق كما قررناه آنفا.
وقد يصح القول والحالة هذه أنه ليس من تعارض بين نهي الآية وبين ما نبه عليه رشيد رضا في سياق الآية ( ٣٨ ) من سورة آل عمران وأوردناه وصوبناه من جواز التناصر بين مجموعة المسلمين أو مجموعة منهم كطرف وكيان، وبين مجموعة من أهل الكتاب ليس لها موقف كيد وعداء وطعن ضد الإسلام والمسلمين. ، على أعداء مشركين. وجواز التعاهد بين مجموعة المسلمين أو مجموعة منهم كطرف وكيان وبين مجموعة من غير المسلمين ليس لها موقف كيد وعداء وطعن ضد الإسلام والمسلمين تعاهد سلم أو تعاهد تعاون على أعداء مشتركين بسبيل إرهابهم.
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت :( خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل يذكر بالجرأة والنجدة ففرح به الأصحاب فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : جئت لأتبعك وأصيب معك. فقال : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا. قال : فارجع فلن أستعين بمشرك ثم مضى. حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له : كما قال أول مرة فرد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالمرة الأولى ثم رجع فأدركنا بالبيداء فقال كالأول، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : تؤمن بالله ورسوله ؟. قال : نعم. فقال له : انطلق ) ( ١ )١.
ويتبادر لنا أن الموقف في ذلك الظرف موقف خاص ومختلف عما نذكره. فالمشركون كانوا جميعهم جاهزين للرسالة النبوية وكثير منهم في موقف عدائي صريح لها. والإسلام في أول عهده. والقرآن يشن أعنف حملة على الشرك والمشركين، وقد كان هدف الرجل الغنيمة فقط على أحسن الفروض الظاهرة.
وقد فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في مواقف أخرى. فقد عاهد اليهود حينما قدم إلى المدينة لأول مرة. ونص الفقرة المتعلقة بهم في كتاب الموادعة الذي كتبه دستورا للعهد الجديد الذي بدأ تحت قيادته صريح فإنها في مثابة حلف حربي حيث جاء في الكتاب المذكور :( وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وإن بينهم النصر على ما حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم ) ( ٢ )٢. وبعد انعقاد صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش دخل بنو خزاعة كطرف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاروا حلفاء له ولم يكونوا مسلمين. هذا، فضلا عما كان يبرمه النبي مع مشركين وكتابيين من مواثيق وعهود سليمة بدءا أو بعد حرب مما احتوت صورا كثيرة منه كتب السيرة ومما أشارت إليه بعض آيات القرآن إشارات مقتضبة ( ٣ )٣.
ومن باب أولى أن يقال : إنه ليس من تعارض بين النهي المنطوي في الآيات وبين حسن التعامل والتعايش والتعاون بين المسلمين وغيرهم إذا لم يكن بينهم حالة حرب وعداء، وكان الغير كافا لسان ويده عنهم مما قررته آية سورة الممتحنة هذه :﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) ﴾.
ولقد احتوت الآيتان الثانية والثالثة بشرى تطمينية بانتصار المسلمين على أعدائهم من يهود وغير يهود وبخيبة المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويصانعونهم احتياطا للطوارئ، ولقد تحققت هذه البشرى فكان ذلك من المعجزات القرآنية.
سورة المائدة :
في السورة فصول عديدة تضمنت أحكاما وتشريعات تعبدية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ومعاشية وشخصية، مثل وجوب احترام العهود وتقاليد الحج وأمن الحجاج دون تأثر بعداء أو بغضاء، والأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان بسب ذلك، والحالات التي يحرم فيها أكل لحوم الأنعام، وحل صيد الجوارح، وحل طعام الكتابيين للمسلمين والتزوج بنسائهم وحل طعام المسلمين لهم، وأركان الوضوء والطهارة ورخصة التيمم. وتوكيد العدل شهادة وحكما دون تأثر بعداء أو بغضاء. والنهي عن تحريم الطيبات، وتشريع حد الفساد في الأرض والسرقة وتحلة اليمين، والنهي عن الخمر والميسر وذبائح القمار والأنصاب، والنهي عن صيد البر في الحج وتشريع كفارته مع تحليل صيد البحر. وتسفيه بعض العادات الجاهلية المتصلة بالأنعام. والتنويه بتقاليد الحج والكعبة ومنافعها. وتشريع الإشهاد على التركات وتحقيق صحة الشهادة.
وفيها كذلك فصول عديدة في النصارى واليهود. احتوت دعوتهم إلى الإسلام. وإيذانهم برسالة النبي إليهم. وكون القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب ومهيمنا عليها. وتنديدا بأعمال ودسائس اليهود ومكرهم. وربط حاضر أخلاقهم ومواقفهم بماضي أخلاق آبائهم ومواقفهم. وحكاية تعجيزهم لموسى في صدد دخول الأرض المقدسة. وحكاية قتل أحد ابني آدم لأخيه، وما احتوته شريعة اليهود من أحكام الجرائم. وحكمة اختلاف الشرائع عن بعضها. وتقرير كون اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين وتحذيرا منهم. ونهيا عن موالاة اليهود والنصارى الذين يعادون المسلمين ويسخرون من دينهم. ووجوب حصر الولاء فيما بين المسلمين. وتنديدا بعقيدة النصارى بالمسيح وأمه، وتقريرا ببطلانها لذاتها وعلى لسان السيد المسيح. ومشهدا من مشاهد إيمان بعض النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثناء محببا عليهم، وتقرير كون النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين. وفضلا عن رسالة المسيح لبني إسرائيل والمعجزات التي جاء بها ومواقفهم تجاهها. وإيمان الحواريين به واستنزال مائدة من السماء بناء على طلبهم، وقد سميت السورة باسمها بسبب ذلك.
وقد تخلل هذه الفصول وتلك أمثال ومواعظ استطرادية وتذكيرية وتدعيمية وتعقيبية أيضا.
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت :( إني لآخذة بزمام العضباء : ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة ) وحديثا أخرجه ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها :( أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها ) وحديثا أخرجه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال :( أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها ) وأورد حديثا أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو أيضا قال :( آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ) ( ١ )١وحديثا أخرجه الحاكم عن جبير بن نفير قال :( حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه ). ولم ينفرد ابن كثير في إيراد هذه الأحاديث ؛ حيث أوردها مفسرون آخرون أقدم منه، مثل الطبري والبغوي والزمخشري، منهم من أوردها جميعها، ومنهم من أورد بعضها. ومنهم من زاد عليها ؛ حيث روى الطبري عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال :( نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة ). وفي تفسير القاسمي حديث عن محمد بن كعب قال :( نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة ).
وهذه الأحاديث تثير العجب، فالسورة تحتوي فصولا متعددة ومتنوعة، وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة، وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل : فصول اليهود التي يمكن القول بقوة : إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة، وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب أي قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم : إننا نخاف دائرة تدور علينا. وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال، وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنى وجدوا، وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام ؛ لأنهم نجس ؛ حيث أمر فصل من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود، ونهى عن صد حجاج بيت الله عن الذهاب إلى مكة للحج انتقاما من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام. بل إن دلالات هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية.
وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول : إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن، ونقول : إن فصولها ألفت تأليفا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول. وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد. ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب الخمسة.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيبها بعد سورة الفتح، وتروي هذا رواية أخرى. في حين أن هناك روايات ترتيب تجعلها بعد عدة سور بعد سورة الفتح ( ١ )٢. وقد جارينا المصحف الذي اعتمدناه، والمتبادر أن رواية ترتيبها بعد سورة الفتح هي سبب مطلع السورة الذي نرجح أنه نزل بعد صلح الحديبية بوقت قصير. والله تعالى أعلم.
١ أورد ابن كثير حديثا عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت: ﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾ فالمتبادر أن المقصود من الفتح في حديث الترمذي هو هذه السورة..
٢ انظر روايات ترتيب السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩..
( ١ ) أذلة : هنا بمعنى مشفقين رحماء.
( ٢ ) أعزة : هنا بمعنى أشداء عنفاء.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ ( ١ ) عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ ( ٢ ) عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٥٤ ) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( ٥٥ ) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( ٥٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٥٧ ) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ ( ٣ ) اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( ٥٨ ) ﴾ ( ٥٤ – ٥٨ ).

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء للمؤمنين فيه تحذير من الارتداد عن دينهم وإنذار لهم وهوان ذلك على الله إن هم فعلوه، فارتدادهم لن يضر الله وإنما يضرهم. وإن الله لقادر في مثل هذه الحالة على الإتيان بمؤمنين آخرين مخلصي الإيمان يحبهم ويحبونه. رحماء مشفقين على إخوانهم أشداء قساة على أعدائهم. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ولا دوران دائرة.
( ٢ ) وتقرير على سبيل التعقيب على النهي والتحذير وجه فيه الخطاب إلى المؤمنين أيضا فلا يصح أن يكون لهم ولي غير الله ورسوله والمؤمنين المخلصين القائمين بجميع واجباتهم نحو الله والناس بالصلاة والزكاة، فهم فقط أولياؤهم حصرا. وإن من يتولى الله ورسوله والمؤمنين المخلصين هو من حزب الله وإن حزب الله هو الغالب.
( ٣ ) ونهي آخر موجه للمؤمنين، كذلك بعدم اتخاذ أهل الكتاب والكفار الذين يتخذون دينهم هزوا ولعبا أولياء. وحث لهم على تقوى الله إن كانوا مؤمنين حقا والتزام أوامره ونواهيه.
( ٤ ) وبيان تذكيري ببعض تصرفات الذين ينهون عن اتخاذهم أولياء. فهم إذا أذن المؤذن إلى الصلاة اتخذوا ذلك وسيلة للسخرية والغمز. وهم إنما يفعلون ذلك ؛ لأنهم قوم قد ضلت عقولهم عن فهم الحق واتباعه والوقوف عنده.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ...... ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين.
وما ورد في صددها من روايات شيعية وغير شيعية
لقد روى المفسرون روايات عديدة ومتنوعة في نزول هذه الآيات وفيما تعنيه. فروى الطبري عن الحسن ومجاهد وغيرهما أن الآية الأولى هي في حق الذين ارتدوا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق أبي بكر وأصحابه الذين جاهدوا فيهم وردوهم إلى الإسلام. وقال الطبري : إن في الآية وعيدا لمن سبق في علم الله أنه سيرتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الوبر والمدر وقيام من هم خير منهم بنصرته ووفاهم بوعده لهم ووفى المرتدين بوعيده.
وروي مع ذلك عن عياض الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت :﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ أومأ إلى أبي موسى الأشعري وقال هؤلاء قومك أو هؤلاء قوم هذا. وروى الطبري عن أبي جعفر أحد الأئمة الاثني عشر أن الآية ( ٥٥ ) نزلت في علي بن أبي طالب ؛ لأنه تصدق وهو راكع. وعن ابن عباس أن الآيات :( ٥٧ – ٦١ ) نزلت في رفاعة بن زيد التابوت وسويد بن الحرث اليهوديين اللذين كانا أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهم. وهناك رواية تذكر أن الآيات :( ٥٤ و ٥٥ ) نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم هو وبعض اليهود فقطع سائر اليهود موالاتهم لهم، فأنزل الله الآيات لتطمين الذين أسلموا من اليهود. وقد أورد البغوي والخازن وابن كثير والنيسابوري هذه الروايات. منهم من أوردها جميعها، ومنهم من أورد بعضها، ومنهم من عزاها إلى الطبري، ومنهم من أوردها من طرق أخرى. وبينما يروي الطبري أن الآية ( ٤٥ ) عنت أبا موسى الأشعري وقومه يروي ابن كثير مع هذه الرواية رواية عن جابر بن عبد الله بأنها عنت قوما من اليمن ثم من كنده ثم من السكون ثم من تجيب. كما يروي النيسابوري حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفيد أنها عنت سلمان الفارسي وقومه.
ومفسرو الشيعة ورواتهم وعلماؤهم يعلقون أهمية كبيرة على هذه الآيات وبخاصة الآيات :( ٥٤ و ٥٥ و ٥٦ ) ويرون فيها على ضوء أحاديث وروايات ينفردون في روايتها نصا قرآنيا على ولاية علي رضي الله عنه وأولاده للمؤمنين وإمامتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرهم. وهذا ما يجعلنا نسهب شيئا في شرح هذا الأمر لوضع الأمر في نصابه الحق إن شاء الله.
فمما أورده الطبرسي أحد مفسريهم والمعتدلين منهم ( ١ )١رواية عن علي بن إبراهيم بن هاشم أن الآية الأولى نزلت في مهدي الأمة وأصحابه، وأولها خطاب لمن ظلم آل محمد وقتلهم وغصب حقهم. وقد عقب المفسر على الرواية قائلا : وينصر هذا القول كون ما جاء في فقرتها الثانية ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ لم يكونوا موجودين عند نزولها، ويتناول القول من يكون بعدهم بهذه الصفة إلى قيام الساعة. وروى المفسر نفسه أيضا رواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر أنها في أمير المؤمنين علي وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين. وعقب المفسر على هذا بسبيل تدعيم الرواية قائلا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف عليا رضي الله عنه الوصف الوارد في الآية الأولى بلفظ :( يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) في حديث صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر حيث قال :( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده ) ( ١ )٢، ثم أعطاها عليا. ثم استمر المفسر فقال : أما الوصف باللين على أهل الإيمان والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع عدم الخوف فيه لومة لائم الذي جاء في الآية مما لا يمكن أن يدع علي عنه بما ظهر من مقاماته المشهورة.
ويروي الطبرسي عن علي أنه قال يوم البصرة أي اليوم الذي جرى حرب الجمل فيه بين علي وأنصاره وعائشة وطلحة والزبير وأنصارهم : والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم. يريد القول بذلك الذين عنتهم الآية الأولى لم يكونوا موجودين، وإنما جاؤوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن عليا قاتل ذلك اليوم محققا ما في الآية.
ويروى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( يرد علي قوم من أصحابي يوم القيامة فيجلون عن الحوض فأقول : يا رب أصحابي أصحابي، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ( ٢ )٣.
لقد أورد هذا المفسر الرواية التي أوردها الطبري عزوا إلى أبي جعفر في صدد الآية ( ٥٥ ) بتفصيل مثير عن السدي عن غيابة بن ربعي قال :( بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أقبل رجل معمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا قال الرجل : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ابن عباس : سألتك بالله من أنت فكشف العمامة عن وجهه وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين، وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول :( علي قائد البررة وقاتل الكفرة ومنصور من نصره ومخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد. إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا. وكان علي راكعا، فأومأ بخنصره اليمنى إليه، وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره. وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال :﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ( ٢٧ ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( ٢٨ ) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ( ٢٩ ) هَارُونَ أَخِي ( ٣٠ ) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( ٣١ ) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( ٣٢ ) ﴾ فأنزلت عليه قرآنا ناطقا :﴿ سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾. اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر : فوالله ما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند ربه فقال : يا محمد اقرأ قال : وما أقرأ ؟ قال اقرأ :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾. ومع أن الرواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي حينما تصدق علي بخاتمه، فإن المفسر يروي رواية أخرى جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال له : هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال : نعم خاتم من فضة، فقال : من أعطاكه قال : ذلك القائم، وأومأ إلى علي، فقال : على أي حال أعطاكه قال : وهو راكع فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قرأ :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾.
ومما أورده المفسر الشيعي الكاشي في سياق الآيات رواية عن الإمام الصادق في سياق تفسير الآية ( ٥٥ ) جاء فيها أنها في حق إمامة علي وأولاده إلى يوم القيامة وإنه هو المقصود بوصف :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ وأنه كان عليه حلة قيمتها ألف دينار كان أهداها إليه النجاشي، فجاء سائل إليه وهو راكع فقال : السلام عليك يا ولي الله وأولى المؤمنين من أنفسهم، تصدق على مسكين فطرح الحلة إليه، فأنزل الله الآية وصير نعمة أولاده بنعمته، فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، وإن السائل الذي سأل أمير المؤمنين هو من الملائكة، والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة ) وروى عن الصادق عن أبيه عن أجداده ( إنه لما نزلت الآية :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ التي عنت بجملة :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ عليا اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال بعضهم : إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا علي بن أبي طالب فقالوا : قد علمنا أن محمدا صادق فيما قول. ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ ( ١ ) عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ ( ٢ ) عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٥٤ ) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( ٥٥ ) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( ٥٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٥٧ ) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ ( ٣ ) اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( ٥٨ ) ﴾ ( ٥٤ – ٥٨ ).

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء للمؤمنين فيه تحذير من الارتداد عن دينهم وإنذار لهم وهوان ذلك على الله إن هم فعلوه، فارتدادهم لن يضر الله وإنما يضرهم. وإن الله لقادر في مثل هذه الحالة على الإتيان بمؤمنين آخرين مخلصي الإيمان يحبهم ويحبونه. رحماء مشفقين على إخوانهم أشداء قساة على أعدائهم. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ولا دوران دائرة.
( ٢ ) وتقرير على سبيل التعقيب على النهي والتحذير وجه فيه الخطاب إلى المؤمنين أيضا فلا يصح أن يكون لهم ولي غير الله ورسوله والمؤمنين المخلصين القائمين بجميع واجباتهم نحو الله والناس بالصلاة والزكاة، فهم فقط أولياؤهم حصرا. وإن من يتولى الله ورسوله والمؤمنين المخلصين هو من حزب الله وإن حزب الله هو الغالب.
( ٣ ) ونهي آخر موجه للمؤمنين، كذلك بعدم اتخاذ أهل الكتاب والكفار الذين يتخذون دينهم هزوا ولعبا أولياء. وحث لهم على تقوى الله إن كانوا مؤمنين حقا والتزام أوامره ونواهيه.
( ٤ ) وبيان تذكيري ببعض تصرفات الذين ينهون عن اتخاذهم أولياء. فهم إذا أذن المؤذن إلى الصلاة اتخذوا ذلك وسيلة للسخرية والغمز. وهم إنما يفعلون ذلك ؛ لأنهم قوم قد ضلت عقولهم عن فهم الحق واتباعه والوقوف عنده.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ...... ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين.
وما ورد في صددها من روايات شيعية وغير شيعية
لقد روى المفسرون روايات عديدة ومتنوعة في نزول هذه الآيات وفيما تعنيه. فروى الطبري عن الحسن ومجاهد وغيرهما أن الآية الأولى هي في حق الذين ارتدوا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق أبي بكر وأصحابه الذين جاهدوا فيهم وردوهم إلى الإسلام. وقال الطبري : إن في الآية وعيدا لمن سبق في علم الله أنه سيرتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الوبر والمدر وقيام من هم خير منهم بنصرته ووفاهم بوعده لهم ووفى المرتدين بوعيده.
وروي مع ذلك عن عياض الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت :﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ أومأ إلى أبي موسى الأشعري وقال هؤلاء قومك أو هؤلاء قوم هذا. وروى الطبري عن أبي جعفر أحد الأئمة الاثني عشر أن الآية ( ٥٥ ) نزلت في علي بن أبي طالب ؛ لأنه تصدق وهو راكع. وعن ابن عباس أن الآيات :( ٥٧ – ٦١ ) نزلت في رفاعة بن زيد التابوت وسويد بن الحرث اليهوديين اللذين كانا أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهم. وهناك رواية تذكر أن الآيات :( ٥٤ و ٥٥ ) نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم هو وبعض اليهود فقطع سائر اليهود موالاتهم لهم، فأنزل الله الآيات لتطمين الذين أسلموا من اليهود. وقد أورد البغوي والخازن وابن كثير والنيسابوري هذه الروايات. منهم من أوردها جميعها، ومنهم من أورد بعضها، ومنهم من عزاها إلى الطبري، ومنهم من أوردها من طرق أخرى. وبينما يروي الطبري أن الآية ( ٤٥ ) عنت أبا موسى الأشعري وقومه يروي ابن كثير مع هذه الرواية رواية عن جابر بن عبد الله بأنها عنت قوما من اليمن ثم من كنده ثم من السكون ثم من تجيب. كما يروي النيسابوري حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفيد أنها عنت سلمان الفارسي وقومه.
ومفسرو الشيعة ورواتهم وعلماؤهم يعلقون أهمية كبيرة على هذه الآيات وبخاصة الآيات :( ٥٤ و ٥٥ و ٥٦ ) ويرون فيها على ضوء أحاديث وروايات ينفردون في روايتها نصا قرآنيا على ولاية علي رضي الله عنه وأولاده للمؤمنين وإمامتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرهم. وهذا ما يجعلنا نسهب شيئا في شرح هذا الأمر لوضع الأمر في نصابه الحق إن شاء الله.
فمما أورده الطبرسي أحد مفسريهم والمعتدلين منهم ( ١ )١رواية عن علي بن إبراهيم بن هاشم أن الآية الأولى نزلت في مهدي الأمة وأصحابه، وأولها خطاب لمن ظلم آل محمد وقتلهم وغصب حقهم. وقد عقب المفسر على الرواية قائلا : وينصر هذا القول كون ما جاء في فقرتها الثانية ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ لم يكونوا موجودين عند نزولها، ويتناول القول من يكون بعدهم بهذه الصفة إلى قيام الساعة. وروى المفسر نفسه أيضا رواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر أنها في أمير المؤمنين علي وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين. وعقب المفسر على هذا بسبيل تدعيم الرواية قائلا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف عليا رضي الله عنه الوصف الوارد في الآية الأولى بلفظ :( يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) في حديث صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر حيث قال :( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده ) ( ١ )٢، ثم أعطاها عليا. ثم استمر المفسر فقال : أما الوصف باللين على أهل الإيمان والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع عدم الخوف فيه لومة لائم الذي جاء في الآية مما لا يمكن أن يدع علي عنه بما ظهر من مقاماته المشهورة.
ويروي الطبرسي عن علي أنه قال يوم البصرة أي اليوم الذي جرى حرب الجمل فيه بين علي وأنصاره وعائشة وطلحة والزبير وأنصارهم : والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم. يريد القول بذلك الذين عنتهم الآية الأولى لم يكونوا موجودين، وإنما جاؤوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن عليا قاتل ذلك اليوم محققا ما في الآية.
ويروى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( يرد علي قوم من أصحابي يوم القيامة فيجلون عن الحوض فأقول : يا رب أصحابي أصحابي، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ( ٢ )٣.
لقد أورد هذا المفسر الرواية التي أوردها الطبري عزوا إلى أبي جعفر في صدد الآية ( ٥٥ ) بتفصيل مثير عن السدي عن غيابة بن ربعي قال :( بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أقبل رجل معمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا قال الرجل : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ابن عباس : سألتك بالله من أنت فكشف العمامة عن وجهه وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين، وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول :( علي قائد البررة وقاتل الكفرة ومنصور من نصره ومخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد. إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا. وكان علي راكعا، فأومأ بخنصره اليمنى إليه، وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره. وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال :﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ( ٢٧ ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( ٢٨ ) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ( ٢٩ ) هَارُونَ أَخِي ( ٣٠ ) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( ٣١ ) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( ٣٢ ) ﴾ فأنزلت عليه قرآنا ناطقا :﴿ سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾. اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر : فوالله ما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند ربه فقال : يا محمد اقرأ قال : وما أقرأ ؟ قال اقرأ :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾. ومع أن الرواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي حينما تصدق علي بخاتمه، فإن المفسر يروي رواية أخرى جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال له : هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال : نعم خاتم من فضة، فقال : من أعطاكه قال : ذلك القائم، وأومأ إلى علي، فقال : على أي حال أعطاكه قال : وهو راكع فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قرأ :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾.
ومما أورده المفسر الشيعي الكاشي في سياق الآيات رواية عن الإمام الصادق في سياق تفسير الآية ( ٥٥ ) جاء فيها أنها في حق إمامة علي وأولاده إلى يوم القيامة وإنه هو المقصود بوصف :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ وأنه كان عليه حلة قيمتها ألف دينار كان أهداها إليه النجاشي، فجاء سائل إليه وهو راكع فقال : السلام عليك يا ولي الله وأولى المؤمنين من أنفسهم، تصدق على مسكين فطرح الحلة إليه، فأنزل الله الآية وصير نعمة أولاده بنعمته، فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، وإن السائل الذي سأل أمير المؤمنين هو من الملائكة، والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة ) وروى عن الصادق عن أبيه عن أجداده ( إنه لما نزلت الآية :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ التي عنت بجملة :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ عليا اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال بعضهم : إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا علي بن أبي طالب فقالوا : قد علمنا أن محمدا صادق فيما قول. ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ ( ١ ) عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ ( ٢ ) عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٥٤ ) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( ٥٥ ) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( ٥٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٥٧ ) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ ( ٣ ) اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( ٥٨ ) ﴾ ( ٥٤ – ٥٨ ).

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء للمؤمنين فيه تحذير من الارتداد عن دينهم وإنذار لهم وهوان ذلك على الله إن هم فعلوه، فارتدادهم لن يضر الله وإنما يضرهم. وإن الله لقادر في مثل هذه الحالة على الإتيان بمؤمنين آخرين مخلصي الإيمان يحبهم ويحبونه. رحماء مشفقين على إخوانهم أشداء قساة على أعدائهم. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ولا دوران دائرة.
( ٢ ) وتقرير على سبيل التعقيب على النهي والتحذير وجه فيه الخطاب إلى المؤمنين أيضا فلا يصح أن يكون لهم ولي غير الله ورسوله والمؤمنين المخلصين القائمين بجميع واجباتهم نحو الله والناس بالصلاة والزكاة، فهم فقط أولياؤهم حصرا. وإن من يتولى الله ورسوله والمؤمنين المخلصين هو من حزب الله وإن حزب الله هو الغالب.
( ٣ ) ونهي آخر موجه للمؤمنين، كذلك بعدم اتخاذ أهل الكتاب والكفار الذين يتخذون دينهم هزوا ولعبا أولياء. وحث لهم على تقوى الله إن كانوا مؤمنين حقا والتزام أوامره ونواهيه.
( ٤ ) وبيان تذكيري ببعض تصرفات الذين ينهون عن اتخاذهم أولياء. فهم إذا أذن المؤذن إلى الصلاة اتخذوا ذلك وسيلة للسخرية والغمز. وهم إنما يفعلون ذلك ؛ لأنهم قوم قد ضلت عقولهم عن فهم الحق واتباعه والوقوف عنده.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ...... ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين.
وما ورد في صددها من روايات شيعية وغير شيعية
لقد روى المفسرون روايات عديدة ومتنوعة في نزول هذه الآيات وفيما تعنيه. فروى الطبري عن الحسن ومجاهد وغيرهما أن الآية الأولى هي في حق الذين ارتدوا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق أبي بكر وأصحابه الذين جاهدوا فيهم وردوهم إلى الإسلام. وقال الطبري : إن في الآية وعيدا لمن سبق في علم الله أنه سيرتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الوبر والمدر وقيام من هم خير منهم بنصرته ووفاهم بوعده لهم ووفى المرتدين بوعيده.
وروي مع ذلك عن عياض الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت :﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ أومأ إلى أبي موسى الأشعري وقال هؤلاء قومك أو هؤلاء قوم هذا. وروى الطبري عن أبي جعفر أحد الأئمة الاثني عشر أن الآية ( ٥٥ ) نزلت في علي بن أبي طالب ؛ لأنه تصدق وهو راكع. وعن ابن عباس أن الآيات :( ٥٧ – ٦١ ) نزلت في رفاعة بن زيد التابوت وسويد بن الحرث اليهوديين اللذين كانا أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهم. وهناك رواية تذكر أن الآيات :( ٥٤ و ٥٥ ) نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم هو وبعض اليهود فقطع سائر اليهود موالاتهم لهم، فأنزل الله الآيات لتطمين الذين أسلموا من اليهود. وقد أورد البغوي والخازن وابن كثير والنيسابوري هذه الروايات. منهم من أوردها جميعها، ومنهم من أورد بعضها، ومنهم من عزاها إلى الطبري، ومنهم من أوردها من طرق أخرى. وبينما يروي الطبري أن الآية ( ٤٥ ) عنت أبا موسى الأشعري وقومه يروي ابن كثير مع هذه الرواية رواية عن جابر بن عبد الله بأنها عنت قوما من اليمن ثم من كنده ثم من السكون ثم من تجيب. كما يروي النيسابوري حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفيد أنها عنت سلمان الفارسي وقومه.
ومفسرو الشيعة ورواتهم وعلماؤهم يعلقون أهمية كبيرة على هذه الآيات وبخاصة الآيات :( ٥٤ و ٥٥ و ٥٦ ) ويرون فيها على ضوء أحاديث وروايات ينفردون في روايتها نصا قرآنيا على ولاية علي رضي الله عنه وأولاده للمؤمنين وإمامتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرهم. وهذا ما يجعلنا نسهب شيئا في شرح هذا الأمر لوضع الأمر في نصابه الحق إن شاء الله.
فمما أورده الطبرسي أحد مفسريهم والمعتدلين منهم ( ١ )١رواية عن علي بن إبراهيم بن هاشم أن الآية الأولى نزلت في مهدي الأمة وأصحابه، وأولها خطاب لمن ظلم آل محمد وقتلهم وغصب حقهم. وقد عقب المفسر على الرواية قائلا : وينصر هذا القول كون ما جاء في فقرتها الثانية ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ لم يكونوا موجودين عند نزولها، ويتناول القول من يكون بعدهم بهذه الصفة إلى قيام الساعة. وروى المفسر نفسه أيضا رواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر أنها في أمير المؤمنين علي وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين. وعقب المفسر على هذا بسبيل تدعيم الرواية قائلا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف عليا رضي الله عنه الوصف الوارد في الآية الأولى بلفظ :( يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) في حديث صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر حيث قال :( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده ) ( ١ )٢، ثم أعطاها عليا. ثم استمر المفسر فقال : أما الوصف باللين على أهل الإيمان والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع عدم الخوف فيه لومة لائم الذي جاء في الآية مما لا يمكن أن يدع علي عنه بما ظهر من مقاماته المشهورة.
ويروي الطبرسي عن علي أنه قال يوم البصرة أي اليوم الذي جرى حرب الجمل فيه بين علي وأنصاره وعائشة وطلحة والزبير وأنصارهم : والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم. يريد القول بذلك الذين عنتهم الآية الأولى لم يكونوا موجودين، وإنما جاؤوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن عليا قاتل ذلك اليوم محققا ما في الآية.
ويروى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( يرد علي قوم من أصحابي يوم القيامة فيجلون عن الحوض فأقول : يا رب أصحابي أصحابي، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ( ٢ )٣.
لقد أورد هذا المفسر الرواية التي أوردها الطبري عزوا إلى أبي جعفر في صدد الآية ( ٥٥ ) بتفصيل مثير عن السدي عن غيابة بن ربعي قال :( بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أقبل رجل معمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا قال الرجل : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ابن عباس : سألتك بالله من أنت فكشف العمامة عن وجهه وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين، وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول :( علي قائد البررة وقاتل الكفرة ومنصور من نصره ومخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد. إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا. وكان علي راكعا، فأومأ بخنصره اليمنى إليه، وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره. وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال :﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ( ٢٧ ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( ٢٨ ) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ( ٢٩ ) هَارُونَ أَخِي ( ٣٠ ) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( ٣١ ) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( ٣٢ ) ﴾ فأنزلت عليه قرآنا ناطقا :﴿ سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾. اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر : فوالله ما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند ربه فقال : يا محمد اقرأ قال : وما أقرأ ؟ قال اقرأ :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾. ومع أن الرواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي حينما تصدق علي بخاتمه، فإن المفسر يروي رواية أخرى جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال له : هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال : نعم خاتم من فضة، فقال : من أعطاكه قال : ذلك القائم، وأومأ إلى علي، فقال : على أي حال أعطاكه قال : وهو راكع فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قرأ :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾.
ومما أورده المفسر الشيعي الكاشي في سياق الآيات رواية عن الإمام الصادق في سياق تفسير الآية ( ٥٥ ) جاء فيها أنها في حق إمامة علي وأولاده إلى يوم القيامة وإنه هو المقصود بوصف :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ وأنه كان عليه حلة قيمتها ألف دينار كان أهداها إليه النجاشي، فجاء سائل إليه وهو راكع فقال : السلام عليك يا ولي الله وأولى المؤمنين من أنفسهم، تصدق على مسكين فطرح الحلة إليه، فأنزل الله الآية وصير نعمة أولاده بنعمته، فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، وإن السائل الذي سأل أمير المؤمنين هو من الملائكة، والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة ) وروى عن الصادق عن أبيه عن أجداده ( إنه لما نزلت الآية :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ التي عنت بجملة :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ عليا اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال بعضهم : إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا علي بن أبي طالب فقالوا : قد علمنا أن محمدا صادق فيما قول. ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ ( ١ ) عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ ( ٢ ) عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٥٤ ) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( ٥٥ ) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( ٥٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٥٧ ) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ ( ٣ ) اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( ٥٨ ) ﴾ ( ٥٤ – ٥٨ ).

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء للمؤمنين فيه تحذير من الارتداد عن دينهم وإنذار لهم وهوان ذلك على الله إن هم فعلوه، فارتدادهم لن يضر الله وإنما يضرهم. وإن الله لقادر في مثل هذه الحالة على الإتيان بمؤمنين آخرين مخلصي الإيمان يحبهم ويحبونه. رحماء مشفقين على إخوانهم أشداء قساة على أعدائهم. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ولا دوران دائرة.
( ٢ ) وتقرير على سبيل التعقيب على النهي والتحذير وجه فيه الخطاب إلى المؤمنين أيضا فلا يصح أن يكون لهم ولي غير الله ورسوله والمؤمنين المخلصين القائمين بجميع واجباتهم نحو الله والناس بالصلاة والزكاة، فهم فقط أولياؤهم حصرا. وإن من يتولى الله ورسوله والمؤمنين المخلصين هو من حزب الله وإن حزب الله هو الغالب.
( ٣ ) ونهي آخر موجه للمؤمنين، كذلك بعدم اتخاذ أهل الكتاب والكفار الذين يتخذون دينهم هزوا ولعبا أولياء. وحث لهم على تقوى الله إن كانوا مؤمنين حقا والتزام أوامره ونواهيه.
( ٤ ) وبيان تذكيري ببعض تصرفات الذين ينهون عن اتخاذهم أولياء. فهم إذا أذن المؤذن إلى الصلاة اتخذوا ذلك وسيلة للسخرية والغمز. وهم إنما يفعلون ذلك ؛ لأنهم قوم قد ضلت عقولهم عن فهم الحق واتباعه والوقوف عنده.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ...... ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين.
وما ورد في صددها من روايات شيعية وغير شيعية
لقد روى المفسرون روايات عديدة ومتنوعة في نزول هذه الآيات وفيما تعنيه. فروى الطبري عن الحسن ومجاهد وغيرهما أن الآية الأولى هي في حق الذين ارتدوا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق أبي بكر وأصحابه الذين جاهدوا فيهم وردوهم إلى الإسلام. وقال الطبري : إن في الآية وعيدا لمن سبق في علم الله أنه سيرتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الوبر والمدر وقيام من هم خير منهم بنصرته ووفاهم بوعده لهم ووفى المرتدين بوعيده.
وروي مع ذلك عن عياض الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت :﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ أومأ إلى أبي موسى الأشعري وقال هؤلاء قومك أو هؤلاء قوم هذا. وروى الطبري عن أبي جعفر أحد الأئمة الاثني عشر أن الآية ( ٥٥ ) نزلت في علي بن أبي طالب ؛ لأنه تصدق وهو راكع. وعن ابن عباس أن الآيات :( ٥٧ – ٦١ ) نزلت في رفاعة بن زيد التابوت وسويد بن الحرث اليهوديين اللذين كانا أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهم. وهناك رواية تذكر أن الآيات :( ٥٤ و ٥٥ ) نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم هو وبعض اليهود فقطع سائر اليهود موالاتهم لهم، فأنزل الله الآيات لتطمين الذين أسلموا من اليهود. وقد أورد البغوي والخازن وابن كثير والنيسابوري هذه الروايات. منهم من أوردها جميعها، ومنهم من أورد بعضها، ومنهم من عزاها إلى الطبري، ومنهم من أوردها من طرق أخرى. وبينما يروي الطبري أن الآية ( ٤٥ ) عنت أبا موسى الأشعري وقومه يروي ابن كثير مع هذه الرواية رواية عن جابر بن عبد الله بأنها عنت قوما من اليمن ثم من كنده ثم من السكون ثم من تجيب. كما يروي النيسابوري حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفيد أنها عنت سلمان الفارسي وقومه.
ومفسرو الشيعة ورواتهم وعلماؤهم يعلقون أهمية كبيرة على هذه الآيات وبخاصة الآيات :( ٥٤ و ٥٥ و ٥٦ ) ويرون فيها على ضوء أحاديث وروايات ينفردون في روايتها نصا قرآنيا على ولاية علي رضي الله عنه وأولاده للمؤمنين وإمامتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرهم. وهذا ما يجعلنا نسهب شيئا في شرح هذا الأمر لوضع الأمر في نصابه الحق إن شاء الله.
فمما أورده الطبرسي أحد مفسريهم والمعتدلين منهم ( ١ )١رواية عن علي بن إبراهيم بن هاشم أن الآية الأولى نزلت في مهدي الأمة وأصحابه، وأولها خطاب لمن ظلم آل محمد وقتلهم وغصب حقهم. وقد عقب المفسر على الرواية قائلا : وينصر هذا القول كون ما جاء في فقرتها الثانية ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ لم يكونوا موجودين عند نزولها، ويتناول القول من يكون بعدهم بهذه الصفة إلى قيام الساعة. وروى المفسر نفسه أيضا رواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر أنها في أمير المؤمنين علي وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين. وعقب المفسر على هذا بسبيل تدعيم الرواية قائلا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف عليا رضي الله عنه الوصف الوارد في الآية الأولى بلفظ :( يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) في حديث صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر حيث قال :( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده ) ( ١ )٢، ثم أعطاها عليا. ثم استمر المفسر فقال : أما الوصف باللين على أهل الإيمان والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع عدم الخوف فيه لومة لائم الذي جاء في الآية مما لا يمكن أن يدع علي عنه بما ظهر من مقاماته المشهورة.
ويروي الطبرسي عن علي أنه قال يوم البصرة أي اليوم الذي جرى حرب الجمل فيه بين علي وأنصاره وعائشة وطلحة والزبير وأنصارهم : والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم. يريد القول بذلك الذين عنتهم الآية الأولى لم يكونوا موجودين، وإنما جاؤوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن عليا قاتل ذلك اليوم محققا ما في الآية.
ويروى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( يرد علي قوم من أصحابي يوم القيامة فيجلون عن الحوض فأقول : يا رب أصحابي أصحابي، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ( ٢ )٣.
لقد أورد هذا المفسر الرواية التي أوردها الطبري عزوا إلى أبي جعفر في صدد الآية ( ٥٥ ) بتفصيل مثير عن السدي عن غيابة بن ربعي قال :( بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أقبل رجل معمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا قال الرجل : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ابن عباس : سألتك بالله من أنت فكشف العمامة عن وجهه وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين، وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول :( علي قائد البررة وقاتل الكفرة ومنصور من نصره ومخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد. إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا. وكان علي راكعا، فأومأ بخنصره اليمنى إليه، وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره. وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال :﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ( ٢٧ ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( ٢٨ ) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ( ٢٩ ) هَارُونَ أَخِي ( ٣٠ ) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( ٣١ ) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( ٣٢ ) ﴾ فأنزلت عليه قرآنا ناطقا :﴿ سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾. اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر : فوالله ما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند ربه فقال : يا محمد اقرأ قال : وما أقرأ ؟ قال اقرأ :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾. ومع أن الرواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي حينما تصدق علي بخاتمه، فإن المفسر يروي رواية أخرى جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال له : هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال : نعم خاتم من فضة، فقال : من أعطاكه قال : ذلك القائم، وأومأ إلى علي، فقال : على أي حال أعطاكه قال : وهو راكع فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قرأ :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾.
ومما أورده المفسر الشيعي الكاشي في سياق الآيات رواية عن الإمام الصادق في سياق تفسير الآية ( ٥٥ ) جاء فيها أنها في حق إمامة علي وأولاده إلى يوم القيامة وإنه هو المقصود بوصف :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ وأنه كان عليه حلة قيمتها ألف دينار كان أهداها إليه النجاشي، فجاء سائل إليه وهو راكع فقال : السلام عليك يا ولي الله وأولى المؤمنين من أنفسهم، تصدق على مسكين فطرح الحلة إليه، فأنزل الله الآية وصير نعمة أولاده بنعمته، فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، وإن السائل الذي سأل أمير المؤمنين هو من الملائكة، والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة ) وروى عن الصادق عن أبيه عن أجداده ( إنه لما نزلت الآية :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ التي عنت بجملة :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ عليا اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال بعضهم : إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا علي بن أبي طالب فقالوا : قد علمنا أن محمدا صادق فيما قول. ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا
( ٣ ) إذا ناديتم إلى الصلاة : كناية عن الأذان الإسلامي على ما عليه الجمهور.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ ( ١ ) عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ ( ٢ ) عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٥٤ ) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( ٥٥ ) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( ٥٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٥٧ ) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ ( ٣ ) اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( ٥٨ ) ﴾ ( ٥٤ – ٥٨ ).

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء للمؤمنين فيه تحذير من الارتداد عن دينهم وإنذار لهم وهوان ذلك على الله إن هم فعلوه، فارتدادهم لن يضر الله وإنما يضرهم. وإن الله لقادر في مثل هذه الحالة على الإتيان بمؤمنين آخرين مخلصي الإيمان يحبهم ويحبونه. رحماء مشفقين على إخوانهم أشداء قساة على أعدائهم. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ولا دوران دائرة.
( ٢ ) وتقرير على سبيل التعقيب على النهي والتحذير وجه فيه الخطاب إلى المؤمنين أيضا فلا يصح أن يكون لهم ولي غير الله ورسوله والمؤمنين المخلصين القائمين بجميع واجباتهم نحو الله والناس بالصلاة والزكاة، فهم فقط أولياؤهم حصرا. وإن من يتولى الله ورسوله والمؤمنين المخلصين هو من حزب الله وإن حزب الله هو الغالب.
( ٣ ) ونهي آخر موجه للمؤمنين، كذلك بعدم اتخاذ أهل الكتاب والكفار الذين يتخذون دينهم هزوا ولعبا أولياء. وحث لهم على تقوى الله إن كانوا مؤمنين حقا والتزام أوامره ونواهيه.
( ٤ ) وبيان تذكيري ببعض تصرفات الذين ينهون عن اتخاذهم أولياء. فهم إذا أذن المؤذن إلى الصلاة اتخذوا ذلك وسيلة للسخرية والغمز. وهم إنما يفعلون ذلك ؛ لأنهم قوم قد ضلت عقولهم عن فهم الحق واتباعه والوقوف عنده.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ...... ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين.
وما ورد في صددها من روايات شيعية وغير شيعية
لقد روى المفسرون روايات عديدة ومتنوعة في نزول هذه الآيات وفيما تعنيه. فروى الطبري عن الحسن ومجاهد وغيرهما أن الآية الأولى هي في حق الذين ارتدوا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق أبي بكر وأصحابه الذين جاهدوا فيهم وردوهم إلى الإسلام. وقال الطبري : إن في الآية وعيدا لمن سبق في علم الله أنه سيرتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الوبر والمدر وقيام من هم خير منهم بنصرته ووفاهم بوعده لهم ووفى المرتدين بوعيده.
وروي مع ذلك عن عياض الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت :﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ أومأ إلى أبي موسى الأشعري وقال هؤلاء قومك أو هؤلاء قوم هذا. وروى الطبري عن أبي جعفر أحد الأئمة الاثني عشر أن الآية ( ٥٥ ) نزلت في علي بن أبي طالب ؛ لأنه تصدق وهو راكع. وعن ابن عباس أن الآيات :( ٥٧ – ٦١ ) نزلت في رفاعة بن زيد التابوت وسويد بن الحرث اليهوديين اللذين كانا أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهم. وهناك رواية تذكر أن الآيات :( ٥٤ و ٥٥ ) نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم هو وبعض اليهود فقطع سائر اليهود موالاتهم لهم، فأنزل الله الآيات لتطمين الذين أسلموا من اليهود. وقد أورد البغوي والخازن وابن كثير والنيسابوري هذه الروايات. منهم من أوردها جميعها، ومنهم من أورد بعضها، ومنهم من عزاها إلى الطبري، ومنهم من أوردها من طرق أخرى. وبينما يروي الطبري أن الآية ( ٤٥ ) عنت أبا موسى الأشعري وقومه يروي ابن كثير مع هذه الرواية رواية عن جابر بن عبد الله بأنها عنت قوما من اليمن ثم من كنده ثم من السكون ثم من تجيب. كما يروي النيسابوري حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفيد أنها عنت سلمان الفارسي وقومه.
ومفسرو الشيعة ورواتهم وعلماؤهم يعلقون أهمية كبيرة على هذه الآيات وبخاصة الآيات :( ٥٤ و ٥٥ و ٥٦ ) ويرون فيها على ضوء أحاديث وروايات ينفردون في روايتها نصا قرآنيا على ولاية علي رضي الله عنه وأولاده للمؤمنين وإمامتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرهم. وهذا ما يجعلنا نسهب شيئا في شرح هذا الأمر لوضع الأمر في نصابه الحق إن شاء الله.
فمما أورده الطبرسي أحد مفسريهم والمعتدلين منهم ( ١ )١رواية عن علي بن إبراهيم بن هاشم أن الآية الأولى نزلت في مهدي الأمة وأصحابه، وأولها خطاب لمن ظلم آل محمد وقتلهم وغصب حقهم. وقد عقب المفسر على الرواية قائلا : وينصر هذا القول كون ما جاء في فقرتها الثانية ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ لم يكونوا موجودين عند نزولها، ويتناول القول من يكون بعدهم بهذه الصفة إلى قيام الساعة. وروى المفسر نفسه أيضا رواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر أنها في أمير المؤمنين علي وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين. وعقب المفسر على هذا بسبيل تدعيم الرواية قائلا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف عليا رضي الله عنه الوصف الوارد في الآية الأولى بلفظ :( يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) في حديث صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر حيث قال :( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده ) ( ١ )٢، ثم أعطاها عليا. ثم استمر المفسر فقال : أما الوصف باللين على أهل الإيمان والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع عدم الخوف فيه لومة لائم الذي جاء في الآية مما لا يمكن أن يدع علي عنه بما ظهر من مقاماته المشهورة.
ويروي الطبرسي عن علي أنه قال يوم البصرة أي اليوم الذي جرى حرب الجمل فيه بين علي وأنصاره وعائشة وطلحة والزبير وأنصارهم : والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم. يريد القول بذلك الذين عنتهم الآية الأولى لم يكونوا موجودين، وإنما جاؤوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن عليا قاتل ذلك اليوم محققا ما في الآية.
ويروى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( يرد علي قوم من أصحابي يوم القيامة فيجلون عن الحوض فأقول : يا رب أصحابي أصحابي، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ( ٢ )٣.
لقد أورد هذا المفسر الرواية التي أوردها الطبري عزوا إلى أبي جعفر في صدد الآية ( ٥٥ ) بتفصيل مثير عن السدي عن غيابة بن ربعي قال :( بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أقبل رجل معمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا قال الرجل : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ابن عباس : سألتك بالله من أنت فكشف العمامة عن وجهه وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين، وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول :( علي قائد البررة وقاتل الكفرة ومنصور من نصره ومخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد. إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا. وكان علي راكعا، فأومأ بخنصره اليمنى إليه، وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره. وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال :﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ( ٢٧ ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( ٢٨ ) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ( ٢٩ ) هَارُونَ أَخِي ( ٣٠ ) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( ٣١ ) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( ٣٢ ) ﴾ فأنزلت عليه قرآنا ناطقا :﴿ سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾. اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر : فوالله ما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند ربه فقال : يا محمد اقرأ قال : وما أقرأ ؟ قال اقرأ :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾. ومع أن الرواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي حينما تصدق علي بخاتمه، فإن المفسر يروي رواية أخرى جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال له : هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال : نعم خاتم من فضة، فقال : من أعطاكه قال : ذلك القائم، وأومأ إلى علي، فقال : على أي حال أعطاكه قال : وهو راكع فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قرأ :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾.
ومما أورده المفسر الشيعي الكاشي في سياق الآيات رواية عن الإمام الصادق في سياق تفسير الآية ( ٥٥ ) جاء فيها أنها في حق إمامة علي وأولاده إلى يوم القيامة وإنه هو المقصود بوصف :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ وأنه كان عليه حلة قيمتها ألف دينار كان أهداها إليه النجاشي، فجاء سائل إليه وهو راكع فقال : السلام عليك يا ولي الله وأولى المؤمنين من أنفسهم، تصدق على مسكين فطرح الحلة إليه، فأنزل الله الآية وصير نعمة أولاده بنعمته، فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، وإن السائل الذي سأل أمير المؤمنين هو من الملائكة، والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة ) وروى عن الصادق عن أبيه عن أجداده ( إنه لما نزلت الآية :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ التي عنت بجملة :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ عليا اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال بعضهم : إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا علي بن أبي طالب فقالوا : قد علمنا أن محمدا صادق فيما قول. ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا
( ١ ) هل تنقمون منا : هل تحقدون علينا وتضمرون لنا الحقد والغيظ.
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا ( ١ ) إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ( ٥٩ ) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ( ٢ ) الطَّاغُوتَ ( ٣ ) أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ( ٦٠ ) ﴾ ( ٥٩ – ٦٠ ).

في هاتين الآيتين :

( ١ ) أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه السؤال إلى أهل الكتاب على سبيل الإنكار والتنديد عما إذا كانت نقمتهم وحقدهم على المسلمين وغيظهم منهم ليس إلا لأنهم يعلنون إيمانهم بالله، وبما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما أنزل على أنبيائه السابقين، في حين أن أكثرهم منحرفون وفاسقون ومتمردون على الله.
( ٢ ) وأمر آخر بتوجيه سؤال آخر على سبيل التنديد بهم أيضا عما إذا كانوا يودون أن ينبئهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن من هم الأولى بالنقمة والعيب والنكال عند الله. وإنهم لهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعباد الطاغوت. فهؤلاء هم شر مكانا وأضل عن السبيل القويم في الحقيقة وواقع الأمر والمنطق.
تعليق على الآية
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ ﴾
والآية التالية لها
لقد روى الطبري أن الآيتين نزلتا بمناسبة سؤال أورده على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من اليهود عن من يؤمن به من الرسل فقال :﴿ آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ﴾ فلما ذكر عيسى جحدوا وقالوا : لا نؤمن بمن يؤمن به. وروى المفسرون الآخرون هذه الرواية. ومنهم من رواها بزيادة ( ١ )١ وهي أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم :( والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم ).
والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. وتقتضي أن تكون الآيتان فصلا جديدا لا صلة له بالسياق السابق، مع أنهما تلهمان بقوة أنهما متصلتان اتصالا وثيقا بالآيات السابقة، وأن الانسجام بينهما شديد بحيث يصح القول : إنهما جاءتا على سبيل التعقيب والتنديد بموقف السخرية والهزء بدين المسلمين وأذانهم وصلاتهم المحكي في آخر آية من الآيات السابقة.
على أن هذا لا يمنع أن يكون جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم السؤال المروي في الآية، وأن يكون بدر منهم سوء أدب وبذاءة لسان في الدين الإسلامي كما بدر منهم ذلك إزاء أذان المسلمين وصلاتهم قبل نزول هذه الآيات وما قبلها، فأشير إلى ذلك في معرض الكلام عن مواقفهم وواقعهم. ولقد تكررت حكاية مثل ذلك في آيات عديدة في السور السابقة ( ١ )٢ مما يدل على تكرر حدوثه منهم.
وفي الآيتين دلالة قاطعة على أن المقصود المباشر من أهل الكتاب هم اليهود. فهم الذين تكررت الإشارة القرآنية إلى أنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ومسخهم قردة وخنازير، وإلى أنهم انحرفوا عن التوحيد إلى عبادة العجل وآمنوا بالجبت والطاغوت. وهذا قد يؤيد ما قلناه قبل من أن ذكر النصارى في السياق السابق كان على سبيل الاستطراد، وأن اليهود هم أصحاب الموقف الفعلي الذي نزل بسببه النهي والتحذير.
والآية الأولى قوية في أسلوبها الإنكاري والحجاجي والإفحامي على ما هو ظاهر. كما أن الآية الثانية قوية في أسلوبها التقريعي. وهذا وذاك يدلان على ما كان لموقف اليهود من إثارة واستفزاز وما كان فيه من قحة وسوء أدب اقتضت حكمة التنزيل مقابلتهم عليه بما يستحقون وبما هو من واقع تاريخهم وأخلاقهم.
وواضح أن الآيتين تدلان فيما تدلان عليه على أن اليهود كانوا مغيظين محنقين من ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهور دعوته وانتشار دينه واشتداد قوته، وبخاصة مما في ذلك من قطع الطريق عليهم وإحباط زهوهم وحجتهم وإيقافهم في موقف المتناقض المكابر ؛ لأنها تأمر بالإيمان بالله وحده وبما أنزله على الرسل السابقين.
ومما في ذلك من زعزعة لمركزهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني الذي كان لهم عند العرب وكانوا يجنون بسببه كثيرا من الثمرات المادية والأدبية. وفي الآيات التالية تأييدات صريحة لهذا المعنى، كما أن آيات عديدة في السورة السابقة احتوت مثل ذلك ( ١ )٣.
وهذه ثالث مرة ترد فيها الإشارة إلى مسخ بعض اليهود. غير أنها تذكر مسخهم قردة وخنازير، في حين أن المرتين الأوليين في سورتي البقرة والأعراف ذكر فيهما المسخ قردة فقط. وليس في هذا تناقض أو تعديل جديد مما قد يرد على الوهم. فالإشارة القرآنية هنا وفي المرتين السابقتين لم تستهدف ذكر الحادث تاريخيا وقصصيا. وإنما استهدفت التنديد باليهود وتذكيرهم بحادث نكال وخزي رباني في بعض بني قومهم. وروحها تلهم أنهم كانوا يتناقلون خبر هذا الحادث، وأن في هذا الخبر خبر مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير في آن واحد. والآيات القرآنية تتلى علنا ولم يرو أن اليهود أنكروا ذلك. ولقد أورد المفسرون روايات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في أسباب وكيفية مسخ فريق من اليهود قردة وخنازير في دور من أدوار تاريخهم في سياق هذه الآيات، كما أوردوا مثل ذلك في سياق المرات السابقة مما يدل على أن ذلك كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والمتبادر أن ذلك مقتبس من اليهود. ولقد علقنا على الحادث بذاته في سياق سورة الأعراف بما فيه الكفاية فلا نرى محلا للزيادة أو الإعادة.
أما عبادة الطاغوت فتوجد في أسفار عديدة من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم إشارات كثيرة جدا إلى ما كان من انحراف بني إسرائيل عن التوحيد وعبادتهم العجل والبعل وغيره من آلهة المصريين والكنعانيين والعمونييين والمؤابيين والفينيقيين وتقديمهم القرابين لها وتنديد الله تعالى بهم وإنذاراته القارعة لهم بواسطة الأنبياء ونكال الله فيهم وتسليطه أعداءهم عليهم بسبب ذلك. وهذا مبثوث في أسفار القضاة ويشوع وصموئيل والملوك وأخبار الأيام من أسفار العهد القديم بكثرة تغني عن التمثيل. وبذلك يستحكم في بني إسرائيل التنديد القرآني الذي يأتي هنا مكررا ؛ حيث ندد فيهم من أجل ذلك في آيات عديدة في سورة البقرة التي مر تفسيرها. وقد جعل الخطاب في بعضها موجها إلى المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين في بيئته للربط بين أخلاقهم وشذوذهم وأخلاق وشذوذ آباءهم الأولين.
ولقد ورد في الآية ( ٥١ ) من سورة النساء نسبة هذا الشذوذ إلى هؤلاء المعاصرين المقيمين في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث ذكر فيها بأسلوب التنديد والإنكار أنهم كانوا يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للكفار العرب : إن ذلك أهدى مما عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون على ما جاء في الآية ( ٦٠ ) حيث انطوى في ذلك تقرير استمرار الشذوذ والانحراف المحكي عن آبائهم في هؤلاء الأبناء أيضا.
( ٢ ) عبد الطاغوت تعددت قراءات هذه الجملة. منها ما يجعل عبد جمع عابد مثل خادم وجمعها خدم والطاغوت مضاف إليه. ومنها ما يجعل عبد فعل ماض، والطاغوت مفعولا. ومنها عبدوا بدلا من عبد. والطبري رجح القراءة الثانية. والمصحف رسم الجملة على هذه القراءة. ويتبادر لنا أن صيغة الآية تجعل القراءة الأولى أكثر وجاهة. والله أعلم.
( ٣ ) الطاغوت : هنا بمعنى الأوثان أو الأصنام. وقد وردت في هذا المعنى في آية سورة النساء ( ٥١ ) أيضا، وقد ذكرت أسفار العهد القديم مرارا عديدة عبادة بني إسرائيل للأصنام وانحرافهم عن توحيد الله.
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا ( ١ ) إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ( ٥٩ ) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ( ٢ ) الطَّاغُوتَ ( ٣ ) أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ( ٦٠ ) ﴾ ( ٥٩ – ٦٠ ).

في هاتين الآيتين :

( ١ ) أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه السؤال إلى أهل الكتاب على سبيل الإنكار والتنديد عما إذا كانت نقمتهم وحقدهم على المسلمين وغيظهم منهم ليس إلا لأنهم يعلنون إيمانهم بالله، وبما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما أنزل على أنبيائه السابقين، في حين أن أكثرهم منحرفون وفاسقون ومتمردون على الله.
( ٢ ) وأمر آخر بتوجيه سؤال آخر على سبيل التنديد بهم أيضا عما إذا كانوا يودون أن ينبئهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن من هم الأولى بالنقمة والعيب والنكال عند الله. وإنهم لهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعباد الطاغوت. فهؤلاء هم شر مكانا وأضل عن السبيل القويم في الحقيقة وواقع الأمر والمنطق.
تعليق على الآية
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ ﴾
والآية التالية لها
لقد روى الطبري أن الآيتين نزلتا بمناسبة سؤال أورده على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من اليهود عن من يؤمن به من الرسل فقال :﴿ آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ﴾ فلما ذكر عيسى جحدوا وقالوا : لا نؤمن بمن يؤمن به. وروى المفسرون الآخرون هذه الرواية. ومنهم من رواها بزيادة ( ١ )١ وهي أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم :( والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم ).
والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. وتقتضي أن تكون الآيتان فصلا جديدا لا صلة له بالسياق السابق، مع أنهما تلهمان بقوة أنهما متصلتان اتصالا وثيقا بالآيات السابقة، وأن الانسجام بينهما شديد بحيث يصح القول : إنهما جاءتا على سبيل التعقيب والتنديد بموقف السخرية والهزء بدين المسلمين وأذانهم وصلاتهم المحكي في آخر آية من الآيات السابقة.
على أن هذا لا يمنع أن يكون جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم السؤال المروي في الآية، وأن يكون بدر منهم سوء أدب وبذاءة لسان في الدين الإسلامي كما بدر منهم ذلك إزاء أذان المسلمين وصلاتهم قبل نزول هذه الآيات وما قبلها، فأشير إلى ذلك في معرض الكلام عن مواقفهم وواقعهم. ولقد تكررت حكاية مثل ذلك في آيات عديدة في السور السابقة ( ١ )٢ مما يدل على تكرر حدوثه منهم.
وفي الآيتين دلالة قاطعة على أن المقصود المباشر من أهل الكتاب هم اليهود. فهم الذين تكررت الإشارة القرآنية إلى أنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ومسخهم قردة وخنازير، وإلى أنهم انحرفوا عن التوحيد إلى عبادة العجل وآمنوا بالجبت والطاغوت. وهذا قد يؤيد ما قلناه قبل من أن ذكر النصارى في السياق السابق كان على سبيل الاستطراد، وأن اليهود هم أصحاب الموقف الفعلي الذي نزل بسببه النهي والتحذير.
والآية الأولى قوية في أسلوبها الإنكاري والحجاجي والإفحامي على ما هو ظاهر. كما أن الآية الثانية قوية في أسلوبها التقريعي. وهذا وذاك يدلان على ما كان لموقف اليهود من إثارة واستفزاز وما كان فيه من قحة وسوء أدب اقتضت حكمة التنزيل مقابلتهم عليه بما يستحقون وبما هو من واقع تاريخهم وأخلاقهم.
وواضح أن الآيتين تدلان فيما تدلان عليه على أن اليهود كانوا مغيظين محنقين من ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهور دعوته وانتشار دينه واشتداد قوته، وبخاصة مما في ذلك من قطع الطريق عليهم وإحباط زهوهم وحجتهم وإيقافهم في موقف المتناقض المكابر ؛ لأنها تأمر بالإيمان بالله وحده وبما أنزله على الرسل السابقين.
ومما في ذلك من زعزعة لمركزهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني الذي كان لهم عند العرب وكانوا يجنون بسببه كثيرا من الثمرات المادية والأدبية. وفي الآيات التالية تأييدات صريحة لهذا المعنى، كما أن آيات عديدة في السورة السابقة احتوت مثل ذلك ( ١ )٣.
وهذه ثالث مرة ترد فيها الإشارة إلى مسخ بعض اليهود. غير أنها تذكر مسخهم قردة وخنازير، في حين أن المرتين الأوليين في سورتي البقرة والأعراف ذكر فيهما المسخ قردة فقط. وليس في هذا تناقض أو تعديل جديد مما قد يرد على الوهم. فالإشارة القرآنية هنا وفي المرتين السابقتين لم تستهدف ذكر الحادث تاريخيا وقصصيا. وإنما استهدفت التنديد باليهود وتذكيرهم بحادث نكال وخزي رباني في بعض بني قومهم. وروحها تلهم أنهم كانوا يتناقلون خبر هذا الحادث، وأن في هذا الخبر خبر مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير في آن واحد. والآيات القرآنية تتلى علنا ولم يرو أن اليهود أنكروا ذلك. ولقد أورد المفسرون روايات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في أسباب وكيفية مسخ فريق من اليهود قردة وخنازير في دور من أدوار تاريخهم في سياق هذه الآيات، كما أوردوا مثل ذلك في سياق المرات السابقة مما يدل على أن ذلك كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والمتبادر أن ذلك مقتبس من اليهود. ولقد علقنا على الحادث بذاته في سياق سورة الأعراف بما فيه الكفاية فلا نرى محلا للزيادة أو الإعادة.
أما عبادة الطاغوت فتوجد في أسفار عديدة من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم إشارات كثيرة جدا إلى ما كان من انحراف بني إسرائيل عن التوحيد وعبادتهم العجل والبعل وغيره من آلهة المصريين والكنعانيين والعمونييين والمؤابيين والفينيقيين وتقديمهم القرابين لها وتنديد الله تعالى بهم وإنذاراته القارعة لهم بواسطة الأنبياء ونكال الله فيهم وتسليطه أعداءهم عليهم بسبب ذلك. وهذا مبثوث في أسفار القضاة ويشوع وصموئيل والملوك وأخبار الأيام من أسفار العهد القديم بكثرة تغني عن التمثيل. وبذلك يستحكم في بني إسرائيل التنديد القرآني الذي يأتي هنا مكررا ؛ حيث ندد فيهم من أجل ذلك في آيات عديدة في سورة البقرة التي مر تفسيرها. وقد جعل الخطاب في بعضها موجها إلى المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين في بيئته للربط بين أخلاقهم وشذوذهم وأخلاق وشذوذ آباءهم الأولين.
ولقد ورد في الآية ( ٥١ ) من سورة النساء نسبة هذا الشذوذ إلى هؤلاء المعاصرين المقيمين في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث ذكر فيها بأسلوب التنديد والإنكار أنهم كانوا يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للكفار العرب : إن ذلك أهدى مما عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون على ما جاء في الآية ( ٦٠ ) حيث انطوى في ذلك تقرير استمرار الشذوذ والانحراف المحكي عن آبائهم في هؤلاء الأبناء أيضا.
﴿ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ( ٦١ ) وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٦٢ ) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( ٦٣ ) ﴾ ( ٦١ – ٦٣ ).
في الآيات :
( ١ ) تقرير منطو على التنديد باليهود الذين هم موضوع الكلام بأنهم إذا جاءوا المسلمين أو إلى مجالس النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : صدقنا وآمنا، في حين أنهم حين دخولهم دخلوا وقلوبهم جاحدة وحين خروجهم يخرجون كفارا جاحدين، وبأن هذه هي حقيقتهم التي يعلمها الله وهو الأعلم بحقائق ما يكتمون في نفوسهم.
( ٢ ) وتقرير آخر منطو على التنديد كذلك بأن المدقق في حالهم يرى كثيرا منهم يوغلون في ارتكاب الآثام والعدوان وأكل المال الحرام دون ما تورع ولا مبالاة، وأنه لبئس العمل والخلق عملهم وخلقهم.
( ٣ ) وتحد ينطوي على التنديد بأحبارهم ورهبانهم بأنهم كان عليهم أن يزجروا بني ملتهم عن تلك الأخلاق السيئة، ولكنهم لم يفعلوا، ولبئس الصنيع صنيعتهم.
تعليق على الآية :
﴿ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا........................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيهما من صورة وتلقين
وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعلنونه بإيمانهم به في حين كانوا كاذبين.
والرواية لم ترد في كتب الحديث المعتبرة، ومع احتمال صحة الواقعة المروية التي حكت مثلها آيات أخرى في سور أخرى ( ١ )١ فإننا نرى انسجاما تاما بين الآيات واتصالا وثيقا بينها وبين الآيات السابقة سياقا وموضوعا مما يسوغ القول : إنها نزلت معها جملة واحدة، أو نزلت عقبها لإكمال السياق، وكل ما يمكن أن يكون أن السياق احتوى فيما احتواه إشارة إلى الواقعة المحكية في الرواية في جملة الوقائع التي صدرت منهم والأخلاق التي اتصفوا بها في معرض التنديد بهم والتحذير منهم والنهي عن موالاتهم ومصانعتهم.
وفي الواقعة المحكية من بشاعة سوء القصد ونية الكيد والدس ما هو واضح. وهذا من مشاهد مواقف اليهود الخبيثة إزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته مضافة إلى مشاهد مواقفهم المماثلة إزاء المؤمنين. وقد تكرر هذا وذاك منهم على ما حكته آيات عديدة في سورة سابقة كما قلنا. ومع ذلك فإن صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحتمله منهم ؛ لأنه كان في نطاق المماحكة والمكر والكلام ولم يتبدل موقفه منهم إلا حينما تجاوزوا هذا النطاق إلى التظاهر بالعداء والتآمر مع الأعداء على ما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة والأنفال وآل عمران والنساء والحشر والأحزاب والجمعة والفتح.
والآية الثالثة في احتوائها معنى التنديد بأحبار اليهود وربانييهم تلهم أنه كان لهم ضلع ويد بارزة في المواقف الخبيثة التي كان يقفها اليهود فضلا عما تفيده من إغضائهم عما كان مستشريا في اليهود من أخلاق سيئة واستحلال مال الغير والعدوان عليه. فاقتضت الحكمة أن يغمزوا هذه الغمزة كأنه أريد أن يقال لهم : إنه كان الأولى بهم والواجب عليهم أن ينهوا عامة بني ملتهم عن قول الإثم وأكل السحت. ولكنهم لم يفعلوا هذا أيضا. ولقد أشارت آيات أخرى إلى ضلع الأحبار والربانيين في مواقف العناد والدس والكيد والصد بصراحة ( ١ )٢. وهكذا تؤيد الإشارات القرآنية بعضها بعضا. بل ولعل من الصواب أن يقال : إن موقف عامة اليهود متأثر بموقف هؤلاء الرؤساء. ومن أجل ذلك استحقوا ما احتوته آيات القرآن من التنديد والتقريع بصورة عامة.
ومهما تكن الآيات في صدد اليهود فإن فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين من حيث تقبيح استشراء الإثم والعدوان وأكل المال الحرام بين الناس. وتقبيح سكوت الرؤساء الدينيين خاصة عن ذلك وعدم نهيهم عنه.
١ انظر تفسير آيات البقرة: (٧٦ و ١٠٥) وآل عمران (٧١ – ٧٤)..
٢ اقرأ تفسير آيات البقرة: (٤٤) وآل عمران (١٨٧، ١٨٨) وفي سورة التوبة آيات صريحة منها هذه الآية: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ (٣١) وهذه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ................﴾ (٣٤)..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:﴿ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ( ٦١ ) وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٦٢ ) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( ٦٣ ) ﴾ ( ٦١ – ٦٣ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير منطو على التنديد باليهود الذين هم موضوع الكلام بأنهم إذا جاءوا المسلمين أو إلى مجالس النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : صدقنا وآمنا، في حين أنهم حين دخولهم دخلوا وقلوبهم جاحدة وحين خروجهم يخرجون كفارا جاحدين، وبأن هذه هي حقيقتهم التي يعلمها الله وهو الأعلم بحقائق ما يكتمون في نفوسهم.
( ٢ ) وتقرير آخر منطو على التنديد كذلك بأن المدقق في حالهم يرى كثيرا منهم يوغلون في ارتكاب الآثام والعدوان وأكل المال الحرام دون ما تورع ولا مبالاة، وأنه لبئس العمل والخلق عملهم وخلقهم.
( ٣ ) وتحد ينطوي على التنديد بأحبارهم ورهبانهم بأنهم كان عليهم أن يزجروا بني ملتهم عن تلك الأخلاق السيئة، ولكنهم لم يفعلوا، ولبئس الصنيع صنيعتهم.

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا........................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيهما من صورة وتلقين
وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعلنونه بإيمانهم به في حين كانوا كاذبين.
والرواية لم ترد في كتب الحديث المعتبرة، ومع احتمال صحة الواقعة المروية التي حكت مثلها آيات أخرى في سور أخرى ( ١ )١ فإننا نرى انسجاما تاما بين الآيات واتصالا وثيقا بينها وبين الآيات السابقة سياقا وموضوعا مما يسوغ القول : إنها نزلت معها جملة واحدة، أو نزلت عقبها لإكمال السياق، وكل ما يمكن أن يكون أن السياق احتوى فيما احتواه إشارة إلى الواقعة المحكية في الرواية في جملة الوقائع التي صدرت منهم والأخلاق التي اتصفوا بها في معرض التنديد بهم والتحذير منهم والنهي عن موالاتهم ومصانعتهم.
وفي الواقعة المحكية من بشاعة سوء القصد ونية الكيد والدس ما هو واضح. وهذا من مشاهد مواقف اليهود الخبيثة إزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته مضافة إلى مشاهد مواقفهم المماثلة إزاء المؤمنين. وقد تكرر هذا وذاك منهم على ما حكته آيات عديدة في سورة سابقة كما قلنا. ومع ذلك فإن صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحتمله منهم ؛ لأنه كان في نطاق المماحكة والمكر والكلام ولم يتبدل موقفه منهم إلا حينما تجاوزوا هذا النطاق إلى التظاهر بالعداء والتآمر مع الأعداء على ما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة والأنفال وآل عمران والنساء والحشر والأحزاب والجمعة والفتح.
والآية الثالثة في احتوائها معنى التنديد بأحبار اليهود وربانييهم تلهم أنه كان لهم ضلع ويد بارزة في المواقف الخبيثة التي كان يقفها اليهود فضلا عما تفيده من إغضائهم عما كان مستشريا في اليهود من أخلاق سيئة واستحلال مال الغير والعدوان عليه. فاقتضت الحكمة أن يغمزوا هذه الغمزة كأنه أريد أن يقال لهم : إنه كان الأولى بهم والواجب عليهم أن ينهوا عامة بني ملتهم عن قول الإثم وأكل السحت. ولكنهم لم يفعلوا هذا أيضا. ولقد أشارت آيات أخرى إلى ضلع الأحبار والربانيين في مواقف العناد والدس والكيد والصد بصراحة ( ١ )٢. وهكذا تؤيد الإشارات القرآنية بعضها بعضا. بل ولعل من الصواب أن يقال : إن موقف عامة اليهود متأثر بموقف هؤلاء الرؤساء. ومن أجل ذلك استحقوا ما احتوته آيات القرآن من التنديد والتقريع بصورة عامة.
ومهما تكن الآيات في صدد اليهود فإن فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين من حيث تقبيح استشراء الإثم والعدوان وأكل المال الحرام بين الناس. وتقبيح سكوت الرؤساء الدينيين خاصة عن ذلك وعدم نهيهم عنه.
١ انظر تفسير آيات البقرة: (٧٦ و ١٠٥) وآل عمران (٧١ – ٧٤)..
٢ اقرأ تفسير آيات البقرة: (٤٤) وآل عمران (١٨٧، ١٨٨) وفي سورة التوبة آيات صريحة منها هذه الآية: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ (٣١) وهذه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ................﴾ (٣٤)..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:﴿ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ( ٦١ ) وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٦٢ ) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( ٦٣ ) ﴾ ( ٦١ – ٦٣ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير منطو على التنديد باليهود الذين هم موضوع الكلام بأنهم إذا جاءوا المسلمين أو إلى مجالس النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : صدقنا وآمنا، في حين أنهم حين دخولهم دخلوا وقلوبهم جاحدة وحين خروجهم يخرجون كفارا جاحدين، وبأن هذه هي حقيقتهم التي يعلمها الله وهو الأعلم بحقائق ما يكتمون في نفوسهم.
( ٢ ) وتقرير آخر منطو على التنديد كذلك بأن المدقق في حالهم يرى كثيرا منهم يوغلون في ارتكاب الآثام والعدوان وأكل المال الحرام دون ما تورع ولا مبالاة، وأنه لبئس العمل والخلق عملهم وخلقهم.
( ٣ ) وتحد ينطوي على التنديد بأحبارهم ورهبانهم بأنهم كان عليهم أن يزجروا بني ملتهم عن تلك الأخلاق السيئة، ولكنهم لم يفعلوا، ولبئس الصنيع صنيعتهم.

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا........................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيهما من صورة وتلقين
وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعلنونه بإيمانهم به في حين كانوا كاذبين.
والرواية لم ترد في كتب الحديث المعتبرة، ومع احتمال صحة الواقعة المروية التي حكت مثلها آيات أخرى في سور أخرى ( ١ )١ فإننا نرى انسجاما تاما بين الآيات واتصالا وثيقا بينها وبين الآيات السابقة سياقا وموضوعا مما يسوغ القول : إنها نزلت معها جملة واحدة، أو نزلت عقبها لإكمال السياق، وكل ما يمكن أن يكون أن السياق احتوى فيما احتواه إشارة إلى الواقعة المحكية في الرواية في جملة الوقائع التي صدرت منهم والأخلاق التي اتصفوا بها في معرض التنديد بهم والتحذير منهم والنهي عن موالاتهم ومصانعتهم.
وفي الواقعة المحكية من بشاعة سوء القصد ونية الكيد والدس ما هو واضح. وهذا من مشاهد مواقف اليهود الخبيثة إزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته مضافة إلى مشاهد مواقفهم المماثلة إزاء المؤمنين. وقد تكرر هذا وذاك منهم على ما حكته آيات عديدة في سورة سابقة كما قلنا. ومع ذلك فإن صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحتمله منهم ؛ لأنه كان في نطاق المماحكة والمكر والكلام ولم يتبدل موقفه منهم إلا حينما تجاوزوا هذا النطاق إلى التظاهر بالعداء والتآمر مع الأعداء على ما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة والأنفال وآل عمران والنساء والحشر والأحزاب والجمعة والفتح.
والآية الثالثة في احتوائها معنى التنديد بأحبار اليهود وربانييهم تلهم أنه كان لهم ضلع ويد بارزة في المواقف الخبيثة التي كان يقفها اليهود فضلا عما تفيده من إغضائهم عما كان مستشريا في اليهود من أخلاق سيئة واستحلال مال الغير والعدوان عليه. فاقتضت الحكمة أن يغمزوا هذه الغمزة كأنه أريد أن يقال لهم : إنه كان الأولى بهم والواجب عليهم أن ينهوا عامة بني ملتهم عن قول الإثم وأكل السحت. ولكنهم لم يفعلوا هذا أيضا. ولقد أشارت آيات أخرى إلى ضلع الأحبار والربانيين في مواقف العناد والدس والكيد والصد بصراحة ( ١ )٢. وهكذا تؤيد الإشارات القرآنية بعضها بعضا. بل ولعل من الصواب أن يقال : إن موقف عامة اليهود متأثر بموقف هؤلاء الرؤساء. ومن أجل ذلك استحقوا ما احتوته آيات القرآن من التنديد والتقريع بصورة عامة.
ومهما تكن الآيات في صدد اليهود فإن فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين من حيث تقبيح استشراء الإثم والعدوان وأكل المال الحرام بين الناس. وتقبيح سكوت الرؤساء الدينيين خاصة عن ذلك وعدم نهيهم عنه.
١ انظر تفسير آيات البقرة: (٧٦ و ١٠٥) وآل عمران (٧١ – ٧٤)..
٢ اقرأ تفسير آيات البقرة: (٤٤) وآل عمران (١٨٧، ١٨٨) وفي سورة التوبة آيات صريحة منها هذه الآية: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ (٣١) وهذه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ................﴾ (٣٤)..

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ( ١ ) غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( ٦٤ ) ﴾ ( ٦٤ ).
( ١ ) مغلولة : مقيدة. والكلمة كناية عن البخل والإمساك.
تعليق على الآية :
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾
وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت :
( ١ ) حكاية لقول اليهود يد الله مغلولة سبحانه وتعالى.
( ٢ ) وردا عنيفا عليهم : فهم المغلولة أيديهم الملعونون بما قالوا. وإن يديه لمبسوطتان ينفق كيف يشاء على من يشاء.
( ٣ ) وتقريرا لما يحدثه فيهم ما ينزل الله على نبيه من آيات حيث يزيدهم كفرا وطغيانا وغيظا وسعيا في الأرض فسادا.
( ٤ ) وتقريرا لما جازاهم الله وقابلهم على ذلك ؛ حيث ألقى بينهم العداوة والبغضاء وأطفأ نار الحرب كلما أوقدوها وأحبط كل كيد ومكر لهم. والله لا يحب المفسدين أمثالهم.
ولقد روى المفسرون أن الآية نزلت في يهودي اسمه فنحاص قال : إن يد الله مغلولة بقصد الشكوى من ضيق حالة اليهود الاقتصادية بعد أن كانوا في بحبوحة وسعة.
والرواية لم ترد في الصحاح، ومع احتمال صحتها فالذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا، وأنها احتوت الإشارة إلى هذا القول الصادر عن بعضهم والتذكير به في جملة الأخلاق التي اتصفوا بها وسوء الأدب الذي يصدر عنهم نحو الله ورسوله والمؤمنين ودينهم وصلاتهم في معرض التنديد والتحذير والنهي عن توليتهم. هذا مع التنبيه على أن نسبة القول في الآية لجميع اليهود تفيد أن القول المنسوب في الروايات إلى واحد منهم، إنما كان تعبيرا عنهم جميعا. ومن هنا وجهت الحملة العنيفة عليهم جميعا.
ولقد قلنا قبل : إن موضوع الكلام الأصلي في السياق السابق هم اليهود واستدللنا على ذلك من فحوى بعض الآيات فذكرهم صراحة في هذه الآية مؤيد لذلك تأييدا حاسما.
والآية في حد ذاتها احتوت صورة بشعة عن سوء أدب يهود المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق الله تعالى. وصورة ثانية عن شدة الغيظ الذي ملأ صدورهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوة مركزه وانتشار دعوته ورسوخ قدمه. وصورة ثالثة عن المكائد والدسائس التي ينصبونها ويبثونها ضده وضد دعوته ومركزه أيضا، وصورة رابعة عن تطور حالتهم الاقتصادية من حسن إلى سوء.
ولعل الكلمة التي صدرت عن بعضهم وكانت كما قلنا تعبيرا عما في صدورهم جميعهم قد صدرت في ثورة من ثورات الغيظ المشتد فيهم الذي احتوت الآية إشارة إليه. والمتبادر أن التفاف الناس حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وازورارهم عن اليهود قد أثر تأثيرا غير يسير في نشاط اليهود الاقتصادي، ومجال الاستغلال الذي كانوا يجولون فيه بين العرب وجعلهم يشعرون بالضيق بعد السعة التي كانوا يتبجحون بالغنى نتيجة لها حتى جعلهم ذلك يقولون كلمة بشعة أخرى فيها سوء أدب إزاء الله تعالى وهي :﴿ إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾ على ما حكته الآية ( ١٨١ ) من سورة آل عمران فكان ذلك من أسباب هذا الغيظ أيضا. وفي هذا صورة من تطور حالهم. ولعل في الآيات التالية قرينة ما على ذلك.
ولقد قلنا في سياق تفسير سلسلة الآيات الواردة في اليهود في سورة البقرة : إن تجهمهم من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ومواقفهم المناوئة له بمختلف الأساليب قد كانت متأتية من حسبانهم حساب ما سوف يكون لانتشار دعوته واشتداد قوته من أثر في المركز الممتاز الذي كان لهم بين العرب، وبخاصة في المدينة اقتصاديا واجتماعيا ودينيا. وفي هذه الآية وما فيها من صور مصداق لذلك.
وبعض المفسرين قالوا : إن جملة :﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ هي في صدد ما بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء لا تنقطعان، وعزوا هذا القول إلى مجاهد. وقال بعضهم : إنها في اليهود خاصة ؛ لأنهم كانوا منقسمين في الدين طوائف يعادي بعضهم بعضا ( ١ )١.
ومع أن العداوة والبغضاء لم تنقطعا بين اليهود والنصارى فإن القول الثاني هو الأرجح ؛ لأن الآية تصريح باسم اليهود وهي فيهم. ولقد كان بين يهود المدينة خصومات وعداء في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل أن منهم من كان في الجاهلية حليفا للأوس، ومنهم من كان حليفا للخزرج. وكان بين الأوس والخزرج عداوة وحروب ودماء، فكان حلفاء الخزرج من اليهود يقاتلون معهم الأوس واليهود المتحالفين معهم، وكان حلفاء الأوس من اليهود يقاتلون معهم الخزرج واليهود المتحالفين معهم، على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات ( ٨٤ – ٨٥ ) من سورة البقرة مما فيه مصداق لما جاء في الآية عما كان بينهم من عداوة وبغضاء. وكان مثل ذلك بينهم بعد موسى عليه السلام وفي عهد دولتيهم يهوذا وإسرائيل على ما هو مستفيض في أسفار الملوك وأخبار الأيام من أسفار العهد القديم ( ١ )٢. وكان مثل ذلك بعد ذلك أيضا في زمن الدولة السلوقية والدولة البطليوسية اليونانيتين والدولة الرومانية والدولة المكابية على ما هو مأثور من الروايات التاريخية القديمة ( ٢ )٣. وقد ظلوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يزالون منقسمين دينيا وسياسيا وعنصريا إلى طوائف متباغضة. وسيظل ذلك بينهم إلى يوم القيامة مصداقا لقول الله تعالى.
ولقد أشار بعض المفسرين في سياق جملة :﴿ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ﴾ إلى ما كان من غزوات قديمة ضد اليهود القدماء مثل غزوة بختنصر والمجوس وما كان تسلطهم عليهم. وذهب بعضهم إلى أن المقصود بذلك الحروب التي قامت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته من مكة إلى المدينة، وكانوا هم في موقف المعتدين فيها مما فصلناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والفتح والحشر. ومهما يكن من أمر ففي الجملة إطلاق يشمل الماضي والحاضر والمستقبل معا بحيث يقال : إنهم استحقوا غضب الله تعالى بعد انحرافهم واستمرارهم فيه. وكان من نتيجة ذلك عزيمة الله تعالى على إثارة العداوة والبغضاء بينهم وإحباط ما يثيرونه من حروب ومكائد ودسائس في الماضي، وفي زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي المستقبل إلى يوم القيامة. وفي هذا ما فيه من وعد وبشرى ربانيين يضاف إليهما ما جاء في سورة الأعراف من عهد رباني بأن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب كما جاء في الآية ( ١٦٥ ) ثم ما جاء في آيات سورة البقرة ( ٦١ و ٨٥ ) وسورة آل عمران ( ١١٢ ) من أن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضبه في الدنيا بالإضافة إلى عذابه في الآخرة. مما يجب على المسلم الإيمان به رغم ما يبدو الآن من بروز وقوة لهم وتأثيرهم في بعض دول الأرض. فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل. وقد قال :﴿ ..... سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( ٤٤ ) وأملي لهم إن كيدي متين ﴾ ( القلم : ٤٤ و ٤٥ ) والأعراف ( ١٨٢ و ١٨٣ ).
ولقد وقف بعض المفسرين عند كلمة :﴿ يداه ﴾ فمنهم من أولها بأنها كناية عن نعم الله، وبأن تثنيتها في مقام التعظيم. ومنهم من أولها بأنها كناية عن قدرة الله. ومنهم من قال : إن يد الله صفة من صفاته يجب التسليم بها دون البحث في الكيفية، على ما كان عليه السلف من أهل السنة. ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير الآية الأخيرة من سورة القصص فلا نرى محلا للإعادة أو ضرورة للزيادة.
ولقد روى الترمذي والبخاري حديثا نبويا عن أبي هريرة في سياق تفسير هذه الآية جاء فيه :( يمين الرحمن ملأى سحاء لا يغيضها الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض ) ( ١ )٤حيث يفيد هذا أن المقصود من الجملة القرآنية تقرير كرم الله سبحانه وسخائه غير المحدودين. وهو ما تلهمه جملة :﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ﴾ ذاتها.
١ انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي، ففي بعضها قول وفي بعضها القولان..
٢ انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص ١٣٠، ١٣٤..
٣ المصدر نفسه ص ٢٣٤، ٢٩٦..
٤ التاج ج ٤ فصل التفسير ص ٩١، ٩٢..
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ٦٥ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ( ١ ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ( ٦٦ ) ﴾ ( ٦٥ – ٦٦ ).
في الآيتين :
( ١ ) تقرير استدراكي بأن أهل الكتاب لو آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتقوا الله في سيرتهم لنالوا رضاء الله وجناته وغفرانه لسيئاتهم. وبأنهم لو اتبعوا التوراة والإنجيل وأقاموا أحكامها واتبعوا كذلك ما أنزل إليهم من ربهم لا تسع عليهم الرزق، ولأتاهم من كل جهة أو من فوقهم بما ينزل عليهم من مطر ومن تحتهم بما ينبت الله من متنوع النبات.
( ٢ ) وتقرير آخر بواقع حالهم من أن أعمال الكثيرين منهم وأخلاقهم سيئة معوجة منحرفة عما أنزل الله تعالى، وليس فيهم إلا القليل الذين يسيرون بقصد واعتدال. وعدم الغلو في المواقف أو يسيرون سيرا مستقيما.
تعليق على الآية :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ............... ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين والمتبادر الواضح أنهما متصلتان بالآيات السابقة لهما سياقا وموضوعا.
ومع أن موضوع الحديث القريب هم اليهود، فقد جاء الكلام في الآيتين عن أهل الكتاب وشملتا بذكر الإنجيل النصارى كما هو ظاهر. والذي نرجحه أن ذلك كما هو في الآيات السابقة من قبيل الاستطراد. ولا سيما أن مقام الكلام يتحمل التعميم، كما يدرك ذلك عند إنعام النظر.
والمتبادر أن الآيتين قد احتوتا ردا على شكوى اليهود من الضيق بعد السعة والعسر بعد اليسر التي عبروا عنها بتلك الكلمة البذيئة في حق الله التي حكتها عنهم الآية ( ٦٤ ). فما وقع هو ناشئ عن انحرافهم واعوجاجهم. وليس بسبب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما زعموا، ولو أنهم آمنوا كما آمن الناس وأقاموا أحكام كتب الله لا تسع عليهم الرزق ودرت عليهم الخيرات فضلا عما ينالونه من غفران الله لسيئاتهم وحسن جزائه الأخروي.
ومن المؤولين من صرف جملة :﴿ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ إلى القرآن ومنهم من صرفها إلى كتب الله السابقة. والقول الأول معزو إلى ابن عباس. ونحن نراه الأوجه ؛ لأن ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو منزل إلى الناس جميعا وأهل الكتاب من الجملة. ويعضد هذا الآية الأولى من الآيتين التي تقرر بأنهم لو آمنوا لكفر الله عنهم سيئاتهم ؛ حيث إن المقصود إيمانهم برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ويعضده ذكر التوراة والإنجيل قبل الجملة، وتعضده أيضا الآيتان ( ١٥، ١٦ ) من هذه السورة ؛ حيث خوطب فيهما أهل الكتاب بأنه قد جاءهم من الله نور وكتاب مبين. وبهذا يزول ما يرد من إشكال في لوم أهل الكتاب على عدم إقامتهم التوراة والإنجيل وإيذانهم بأنهم لو أقاموا لحسنت حالتهم. فالمطلوب منهم أو الواجب عليهم أن يقيموها ويقيموا في الوقت نفسه أحكام ما أنزل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن.
وقد يرد إشكال آخر، فما دام أن الدعوة الإسلامية موجهة إليهم، وفي حال إيمانهم بها تكون الشريعة الإسلامية التي تقوم على القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية هي شريعتهم، فكيف يؤمرون والحالة هذه بإقامة التوراة والإنجيل ؟ وجوابا على هذا نقول : إن الآية قد جاءت في معرض التنديد لتقول لأهل الكتاب : إن ما أصابهم من ضيق وعسر إنما أصابهم لأنهم أيضا لم يقيموا أحكام كتبهم ويتبعوا وصاياها، ومن جملة ذلك الإيمان برسالة النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الواردة صفته في التوراة والإنجيل على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف ( ١٥٧ ) التي تذكر ذلك.
ومن المؤولين من أول جملة :﴿ أمة مقتصدة ﴾ بمعنى طائفة مؤمنة مسلمة.
وقالوا : إنها تعني الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود والنصارى. ومنهم من أولها بمعنى معتدلة في موقفها غير مغالية في عدائها ومناوئتها وانحرافها ( ١ )١. وكلا التأويلين وجيه، غير أن هناك بعض آيات فيها استثناء وفيها تنويه بالمؤمنين منهم على سبيل الاستدراك مثل آيات سورة آل عمران ( ١١٣ – ١١٥ ) والنساء ( ٤٦ ) و ( ١٦٢ ) والمائدة ( ١٣ ) مما قد يرجح الرأي الأول على الثاني. والله أعلم.
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. ومنهم من أورد القولين..
( ١ ) مقتصدة : معتدلة في مواقفها أو مستقيمة، أو قليلة الانحراف.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ٦٥ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ( ١ ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ( ٦٦ ) ﴾ ( ٦٥ – ٦٦ ).

في الآيتين :

( ١ ) تقرير استدراكي بأن أهل الكتاب لو آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتقوا الله في سيرتهم لنالوا رضاء الله وجناته وغفرانه لسيئاتهم. وبأنهم لو اتبعوا التوراة والإنجيل وأقاموا أحكامها واتبعوا كذلك ما أنزل إليهم من ربهم لا تسع عليهم الرزق، ولأتاهم من كل جهة أو من فوقهم بما ينزل عليهم من مطر ومن تحتهم بما ينبت الله من متنوع النبات.
( ٢ ) وتقرير آخر بواقع حالهم من أن أعمال الكثيرين منهم وأخلاقهم سيئة معوجة منحرفة عما أنزل الله تعالى، وليس فيهم إلا القليل الذين يسيرون بقصد واعتدال. وعدم الغلو في المواقف أو يسيرون سيرا مستقيما.

تعليق على الآية :

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ............... ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين والمتبادر الواضح أنهما متصلتان بالآيات السابقة لهما سياقا وموضوعا.
ومع أن موضوع الحديث القريب هم اليهود، فقد جاء الكلام في الآيتين عن أهل الكتاب وشملتا بذكر الإنجيل النصارى كما هو ظاهر. والذي نرجحه أن ذلك كما هو في الآيات السابقة من قبيل الاستطراد. ولا سيما أن مقام الكلام يتحمل التعميم، كما يدرك ذلك عند إنعام النظر.
والمتبادر أن الآيتين قد احتوتا ردا على شكوى اليهود من الضيق بعد السعة والعسر بعد اليسر التي عبروا عنها بتلك الكلمة البذيئة في حق الله التي حكتها عنهم الآية ( ٦٤ ). فما وقع هو ناشئ عن انحرافهم واعوجاجهم. وليس بسبب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما زعموا، ولو أنهم آمنوا كما آمن الناس وأقاموا أحكام كتب الله لا تسع عليهم الرزق ودرت عليهم الخيرات فضلا عما ينالونه من غفران الله لسيئاتهم وحسن جزائه الأخروي.
ومن المؤولين من صرف جملة :﴿ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ إلى القرآن ومنهم من صرفها إلى كتب الله السابقة. والقول الأول معزو إلى ابن عباس. ونحن نراه الأوجه ؛ لأن ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو منزل إلى الناس جميعا وأهل الكتاب من الجملة. ويعضد هذا الآية الأولى من الآيتين التي تقرر بأنهم لو آمنوا لكفر الله عنهم سيئاتهم ؛ حيث إن المقصود إيمانهم برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ويعضده ذكر التوراة والإنجيل قبل الجملة، وتعضده أيضا الآيتان ( ١٥، ١٦ ) من هذه السورة ؛ حيث خوطب فيهما أهل الكتاب بأنه قد جاءهم من الله نور وكتاب مبين. وبهذا يزول ما يرد من إشكال في لوم أهل الكتاب على عدم إقامتهم التوراة والإنجيل وإيذانهم بأنهم لو أقاموا لحسنت حالتهم. فالمطلوب منهم أو الواجب عليهم أن يقيموها ويقيموا في الوقت نفسه أحكام ما أنزل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن.
وقد يرد إشكال آخر، فما دام أن الدعوة الإسلامية موجهة إليهم، وفي حال إيمانهم بها تكون الشريعة الإسلامية التي تقوم على القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية هي شريعتهم، فكيف يؤمرون والحالة هذه بإقامة التوراة والإنجيل ؟ وجوابا على هذا نقول : إن الآية قد جاءت في معرض التنديد لتقول لأهل الكتاب : إن ما أصابهم من ضيق وعسر إنما أصابهم لأنهم أيضا لم يقيموا أحكام كتبهم ويتبعوا وصاياها، ومن جملة ذلك الإيمان برسالة النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الواردة صفته في التوراة والإنجيل على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف ( ١٥٧ ) التي تذكر ذلك.
ومن المؤولين من أول جملة :﴿ أمة مقتصدة ﴾ بمعنى طائفة مؤمنة مسلمة.
وقالوا : إنها تعني الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود والنصارى. ومنهم من أولها بمعنى معتدلة في موقفها غير مغالية في عدائها ومناوئتها وانحرافها ( ١ )١. وكلا التأويلين وجيه، غير أن هناك بعض آيات فيها استثناء وفيها تنويه بالمؤمنين منهم على سبيل الاستدراك مثل آيات سورة آل عمران ( ١١٣ – ١١٥ ) والنساء ( ٤٦ ) و ( ١٦٢ ) والمائدة ( ١٣ ) مما قد يرجح الرأي الأول على الثاني. والله أعلم.
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. ومنهم من أورد القولين..

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٦٧ ) ﴾ ( ٦٧ ).
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ......................... ﴾
وما روي في صددها وخاصة ما رواه الشيعة
من سبب نزولها، وحقيقة هدفها ومداها.
عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب تبليغ ما أنزله الله إليه. وإيذان له بأن أي تقصير أو إهمال في ذلك يجعله غير مبلغ لرسالة الله. وعليه أن لا يخشى في ذلك أحدا، فإن الله حاميه وعاصمه من الناس. والكافرون الذين يمكن أن يأتيه أذى أو صد منهم لن يوفقهم الله، ولن يهديهم فيما يريدون ويقصدون.
ولقد تعددت الروايات في سبب ومناسبة نزول هذه الآية والمقصود منها.
فقال الطبري : إنها في صدد اليهود والنصارى الذين ذكروا في الآيات السابقة ؛ حيث أمره الله أن يستمر في تبليغهم ما أنزل الله ولا يبالي بمواقفهم المناوئة. وروى مع ذلك عن مجاهد أن الشطر الأول نزل لحدته، فلما نزل قال : إنما أنا واحد كيف أصنع فتجتمع علي الناس، فنزل الشطر الثاني. وإلى هذا فقد روى عن ابن جريج أن المقصود بها تطمينه من قريش الذين كان يهابهم. وروي عن محمد بن كعب القرظي أن جملة :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ نزلت في مناسبة مجيء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وحده في ظل شجرة، فاخترط سيفه ثم قال من يمنعك مني ؟ قال : الله، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب رأسه بالشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله الجملة. وروى ابن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرس، فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية، فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس ). وروى البغوي عن الحسن : أن الله لما بعث رسوله ضاق ذرعا، وعرف أن من الناس من يكذبه فأنزل الله الآية. وقال البغوي بعد هذه الرواية : وقيل إنها نزلت في عتب اليهود حيث دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاستهزأوا به وقالوا : تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى فسكت عنهم فنزلت.
وقيل : إنها نزلت في قضية الرجم والزنا اليهودية. وقيل : إنها نزلت في مسألة زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش. وقيل في الجهاد ؛ حيث كرهه المنافقون وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسك أحيانا عن الحث عليه فأنزل الله الآية. وهناك روايات يرويها الشيعة سنوردها، ونعلق عليها فيما بعد. ونعلق على الأقوال والروايات السابقة فنقول : إنه لم يرد شيء منها في الصحاح. والنفس لا تطمئن إلى معظمها التي يقتضي بعضها أن تكون الآية نزلت متفرقة في مناسبات مختلفة. ويقتضي بعضها أن تكون نزلت في مكة. والتكلف والتلفيق ظاهر فيها. وإذا كان بعض الآيات المكية احتوى إشارة إلى ما كان يعتري النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أسى وضيق بتكذيب الناس ومناوأتهم له فهذه الحالة لم تعد قائمة في العهد المدني الذي قويت فيه الدعوة، وكثر المسلمون وتبدل حالهم من الضعف إلى القوة. ولم ترو رواية ما بأن الآية مكية. وهذا فضلا عن أن ما أشارت إليه الآيات المكية من أسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضيقه لم يكن خوفا من الناس يحمله على عدم تبليغ ما أنزل إليه. ولقد أنزل الله عليه في مكة آيات كثيرة، فيها إنذارات قارعة وحملات قاصمة ونعوت لاذعة فكان يتلوها علنا دون ما خوف من زعماء قريش وأغنيائهم الأقوياء وجماهير الناس الذين رضخوا لتحريضهم، ووقفوا من الدعوة موقف الانقباض. فالقول : إن الآية نزلت في أول التبليغ ؛ لأنه ضاق ذرعا بمن كان يكذبه من الناس لا يصح تاريخا ولا موضوعا. ومسألة قضية اليهود في الزنا والرجم ومسألة نكاح زينب بنت جحش ليس لها محل في هذا المقام.
وما سبق الآية ولحقها يسوغان الجزم بأنها جزء من موضوع السياق المتصل بالنهي عن تولي أهل الكتاب ولومهم ؛ لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشامل لهم. وهذا يجعل قول الطبري الذي أوردناه في مطلع الروايات والأقوال هو الأوجه المتسق مع السياق والفحوى. وقد عزاه الطبري إلى ابن عباس وقتادة قال في توضيحه : إن الله أمر رسوله بإبلاغ اليهود والنصارى الذين قص قصتهم وذكر انحرافهم ونهى عن موالاتهم ما أنزله عليه دون أن يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه مكروه ولا جزع من كثرة عددهم وقلة عدد من معه، وأن لا يتقي أحدا في ذات الله فإن الله تعالى كافيه كل أحد من خلقه ودافع عنه كل مكروه. وأعلمه أنه إن قصر في إبلاغ شيء مما أنزل عليه فهو في تركه شيئا من ذلك، وإن قل فيكون في منزلة من لم يبلغ منه شيئا، وهذا توضيح جيد يجلي الآية ومداها جلاء قويا. وقد يحسن أن نذكر في هذا المقام بالآيات الست الأخيرة من سورة الحجر ؛ حيث يصح القول : إن الموقف الذي استوجب نزول هذه الآيات المكية وشرحناه في سياقها قد تكرر في العهد المدني بالنسبة لأهل الكتاب، فاقتضت حكمة الله تنزيل الآية لتثبت النبي وإيذانه بأن الله عاصمه منهم كما آذنه في آيات الحجر أنه عاصمه من المشركين، وأن عليه أن يستمر في مهمته وإبلاغ ما أنزل الله عليه دون خشية من أحد كتابي وغير كتابي. ولعل ما روي في سياق الآية من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى أبي طالب يخبره أن الله عاصمه وكافيه، إن صح، قد كان في مناسبة آيات سورة الحجر المكية فالتبس الأمر على الرواة. ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أن في الآية تأييدا أقوى لما ذكرناه في سياق تفسير الآيتين ( ١٥، ١٦ ) من هذه السورة من احتمال صحة روايات إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسلا وكتبا إلى ملوك وأمراء البلاد المتاخمة ودعوتهم إلى الإسلام. وذلك باحتوائها أمرا مؤكدا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ رسالته لأهل الكتاب دون أن يخشى شيئا، وتطمينا بأن الله تعالى حاميه وعاصمه ؛ حيث يمكن أن يتناسب هذا الأسلوب مع فكرة ونتائج إرسال الرسل والكتب إلى أولئك الملوك والأمراء ودعوتهم. والله تعالى أعلم.
ولقد ورد في الفصل التفسير في كتب البخاري ومسلم والترمذي حديثان في سياق تفسير هذه الآية رأينا أن نوردهما بدورنا على هامش تفسيرها. أحدهما : رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت :( من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ ( ١ )١ وثانيهما : رواه الترمذي عن عائشة أيضا قالت :( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرس حتى نزلت ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ فأخرج النبي رأسه من القبة فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله ( ٢ )٢.
وفي الحديث الأول توضيح وتوكيد لمعنى جوهري وأصلي في العصمة النبوية بحيث يجب على كل مسلم أن يؤمن بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغ كل ما أنزل إليه من ربه. وفي الحديث الثاني صورة رائعة لعمق إيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بربه وبما ينزله عليه، وتطبيق للآية الكريمة.
ولقد روى مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب خطبة طويلة في حجة الوداع التي مات بعدها بنحو ثمانين ليلة فقال فيما قال :( قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد. ثلاث مرات ) ( ٣ )٣ حيث ينطوي في هذا كذلك عمق إيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم برسالته ومسؤوليته عنها تجاه الله عز وجل وحرصه على استشهاد جمهور المسلمين في موقف حافل جامع على أنه قد بلغ رسالة ربه.
روايات الشيعة في صدد الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ...... ﴾
والتعليق عليها
نأتي الآن إلى روايات الشيعة في صدد هذه الآية التي يعلقون عليها أهمية عظيمة تشابه لما يعقلونه على الآيتين ( ٥٤ و ٥٥ ) من هذه السورة في تثبيت إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كنص قرآني أيضا. فقد روى الطبرسي المفسر الشيعي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن جابر بن عبد الله أن الله أمر رسوله بتنصيب علي رضي الله عنه إماما بعده، فتخوف أن يقول الناس : إنه حابى ابن عمه، فأنزل الله الآية فأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولها في غدير خم ولاية علي، وفي رواية أنه أخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وروى نفس المفسر عن إمامي الشيعة أبي جعفر وأبي عبد الله مثل ذلك. وروى المفسر الشيعي الكاشي حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون عزو وراو وسند ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال مبينا سبب نزول الآية : إن جبريل هبط إلي ثلاث مرات يأمرني بأمر ربي بأن أقوم فأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي الذي محله مني محل هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وهو وليكم بعد الله ورسوله، وقد أنزل الله علي بذلك آية أخرى في ذلك وهي :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( ٥٥ ) ﴾. فسألت جبريل أن يستغفر لي عن تبليغ ذلك إليكم أيها الناس لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين وإوغال الآثمين وحيل المستهترين بالإسلام. الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم والذين آذوني فسموني أذناً، ولو شئت أن أسميهم بأسمائهم لسميت وأن أومئ إليهم بأعيانهم لأومأت، فأنزل الله علي : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في علي وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ( ١ )٤. وفي كتب تفسير المفسرين روايات وأحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردناه ونقول تعليقا على ذلك : إن سياق الآية السابق واللاحق والتي هي منسجمة معها أشد الانسجام يدل دلالة نعتقد أنها حاسمة على أنها نزلت آمرة النبي بتبليغ ما أنزل الله إليه إلى أهل الكتاب دون خشية وحذر، وأنها نزلت في وقت كان اليهود في المدينة على شيء من الوجود القوي بحيث يمكن أن نقول : إن روايات الشيعة مقحمة على الآية وسياقها إقحاما عجيبا فضلا عن نصوص بعضها العجيبة التي تبرز عليها الصنعة بروزا قويا شأن الروايات التي يسوقونها أوردناها في سياق الآيتين ( ٥٤ و ٥٥ ) من هذه السورة. والغاية منها ظاهرة وهي زعم كون خلافة علي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤيدة بنصوص قرآنية ونبوية، وزعم مخالفة الجمهور الأعظم من المهاجرين والأنصار للقرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحريفهم القرآن بإسقاط اسم علي من الآية حاشاهم ثم حاشاهم، ولا يجوز لمسلم عاقل أن يخالجه شك في أن النب
١ التاج ج ٤ ص ٩٢..
٢ المصدر نفسه..
٣ من خطبة حجة الوداع انظرها في التاج ج ٢ ص ١٤٠ – ١٤٥. ولقد أورد ابن هشام خطبة حجة الوداع وفيها زيادة بعد جملة (كتاب الله) وهي (سنة نبيه) انظر ج ٤ ص ٢٧٢ وما بعدها..
٤ انظر هذا الحديث في الجزء ٢ ص ١٦٩ من كتاب التفسير والمفسرون للذهبي..
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ٦٨ ) ﴾ ( ٦٨ ).
تعليق على الآية
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ....... ﴾ وما فيها من أحكام ودلالات
عبارة الآية واضحة كذلك. وقد احتوت :
( ١ ) أمرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لأهل الكتاب : إنهم لن يكونوا على شيء من الهدى والحق والصواب وأسباب النجاة إلا إذا نفذوا أحكام التوراة والإنجيل وأقاموا على أحسن وجه، ثم آمنوا واتبعوا ما أنزل عليه أيضا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واسطة من الله إليهم به.
( ٢ ) وتقريرا توكيديا بأن ما ينزله الله عليه سوف يزيد كثيرا منهم طغيانا وكفرا.
( ٣ ) وتسلية له على ذلك، فلا ينبغي أن يحزن أو يعبأ بموقف الكافرين منهم.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جماعة من اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بالتوراة وتشهد أنها من الله حق قال : بلى. ولكنكم أحدثتم وجحدتم وخالفتموها وكتمتم ما أمر الله أن تبينوه منها للناس، وأنا بريء من إحداثكم فقالوا له : فإنا نأخذ بما في أيدينا وهو الحق والهدى. ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله الآية.
والرواية لم ترد في الصحاح، والمتبادر المستلهم من فحوى آيات السياق السابق أن الآية لم تنزل لحدتها بمناسبة ما روته الرواية، وأنها جزء من السياق واستمرار له. ففي الآيات السابقة وجه اللوم إلى أهل الكتاب وقيل لهم لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومال أنزل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو موجه إليهم لحسنت حالتهم، فجاءت هذه الآية لتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لهم ما احتوته. ولعل الآية السابقة لهذه الآية على ضوء هذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا – جاءت بمثابة تمهيد وتشجيع. وكأنما أرادت أن تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن عليه أن يقول هذا لأهل الكتاب بكل جرأة وصراحة وبدون تردد ولا حسبان ما يحدثه في كثير منهم من ازدياد الكفر والطغيان. فالله عاصمه وحاميه منهم ومن غيرهم.
وهذا لا يمنع صحة المحاورة المروية في الرواية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود في مجلس من المجالس قبل نزول الآيات.
وإذا صحت الرواية فيكون فيها تأييد لما قلناه أكثر من مرة من أن ذكر النصارى والإنجيل في السياق قد جاء من قبيل الاستطراد والتعميم. وأن المقصود في الدرجة الأولى في السياق هم اليهود. والله أعلم.
وما قلناه قبل في صدد مدى الحث على إقامة التوراة والإنجيل في سياق الآية ( ٦٦ ) ينسحب على ما جاء من ذلك في هذه الآية. وجملة :﴿ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾ ليس من شأنها أن تضعف ما قلناه أو تنقصه ما دامت مقترنة بنفس الجملة السابقة :﴿ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ على ما شرحناه سابقا. وشرح الآية المستلهم من روحها وفحواها بالإضافة إلى الشرح السابق للآيتين ( ٦٥ و ٦٦ ) المستلهم كذلك من روحهما وفحواهما ينطوي على دلالة تكاد أن تكون قطعية على صواب ما قررناه من أن الآية ( ٦٧ ) التي يتمسك بها الشيعة جزء من السياق وأن تمسكهم بها تعسف وتمحل.
وفي الآية نص صريح والحالة هذه على أن اليهود والنصارى من وجهة النظر الإسلامية ليسوا على هدى يضمن لهم النجاة عند الله ما داموا لا يؤمنون بالرسالة المحمدية والقرآن الذي أنزله الله على محمد صلوات الله عليه وسلامه، وهو ما دعوا إليه مرارا. وكانت أحدث دعوة إليه قبل هذه الآية في الآية ( ٦٥ ) وقبلها في الآيات ( ١٣ – ١٦ و ١٩ ) من هذه السورة.
ولقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار ) ( ١ )١حيث ينطوي في الحديث تفسير وتوضيح لمدى الآية متساوقان مع ما استلهمناه منها.
١ التاج ج ١ ص ٣٠..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٦٩ ) ﴾ ( ٦٩ ).
عبارة الآية واضحة. وهي مماثلة – برفق طفيف – لآية سورة البقرة ( ٦١ ) التي جاءت في سياق التنديد باليهود ومواقفهم وجحودهم كما جاءت هذه هنا. وليس هناك رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها متصلة بالسياق اتصال تعقيب واستطراد وتنبيه ؛ لتقرر أن رضاء الله لا ينال باليهودية والنصرانية والصابئية والإسلام وإنما ينال بالإيمان بالله إيمانا صادقا واليوم الآخر والعمل الصالح لا غير. وإن من يفعل منهم ذلك فهو الذي لا يكون عليه خوف ولا حزن من العاقبة.
وما دامت الآية متصلة بالسياق فإن وجوب الإيمان بالرسالة المحمدية والقرآن منطو فيها بالنسبة لليهود والنصارى والصابئين بطبيعة الحال. ولقد شرحنا هذه المسألة شرحا أوفى في سياق تفسير آية البقرة المذكور فنكتفي بهذا التنبيه.
﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ( ٧٠ ) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ( ١ ) فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( ٧١ ) ﴾ ( ٧٠ – ٧١ ).
تعليق على الآية :
﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً........................ ﴾
والآية التالية لها وما فيهما من صور
في الآيتين إشارة تنديدية إلى مواقف بني إسرائيل من الرسل الذين يأتونهم من قبل الله وتقرير لواقع حالهم :
( ١ ) فلقد أخذ الله عليهم الميثاق والعهد بأن يسمعوا ويطيعوا لرسله. ولكنهم نقضوا عهد الله فكانوا كلما جاءهم رسول بما لا يحبون من المواعظ والأوامر والنواهي كذبوه أو قتلوه.
( ٢ ) ولقد ظنوا أنهم لن يتعرضوا لابتلاء الله واختباره ومؤاخذته وعقابه، فظلوا في غيهم عميا عن رؤية الحق، صما عن سماعه حتى عاقبهم الله وابتلاهم فتابوا فتاب عليهم ثم عاد كثير منهم إلى التصامم عن سماع الحق والتعامي عن رؤيته.
( ٣ ) وإن الله ليعلم ما يعلمون ومحصيه عليهم وسائلهم عنه.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بالسياق أيضا اتصال تنديد وتعقيب وتذكير وإنذار.
ويتبادر لنا أن فيهما معنى من معاني التسرية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا كان اليهود قد وقفوا منه المواقف الخبيثة والجاحدة التي وقفوها والتي حكتها الآيات السابقة فإن ذلك ديدن آبائهم من قبلهم. فلا محل للهم والحزن. ولقد احتوت سلسلة آيات البقرة الواردة فيهم مثل ذلك في مقام التنديد والتسرية أيضا. ولقد علقنا على الموضوع بذاته بما يغني عن التكرار.
( ١ ) وحسبوا أن لا تكون فتنة : ظنوا أنهم لا يبتلون أو لا يختبرون أو لا يؤاخذون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٠:﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ( ٧٠ ) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ( ١ ) فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( ٧١ ) ﴾ ( ٧٠ – ٧١ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً........................ ﴾
والآية التالية لها وما فيهما من صور
في الآيتين إشارة تنديدية إلى مواقف بني إسرائيل من الرسل الذين يأتونهم من قبل الله وتقرير لواقع حالهم :
( ١ ) فلقد أخذ الله عليهم الميثاق والعهد بأن يسمعوا ويطيعوا لرسله. ولكنهم نقضوا عهد الله فكانوا كلما جاءهم رسول بما لا يحبون من المواعظ والأوامر والنواهي كذبوه أو قتلوه.
( ٢ ) ولقد ظنوا أنهم لن يتعرضوا لابتلاء الله واختباره ومؤاخذته وعقابه، فظلوا في غيهم عميا عن رؤية الحق، صما عن سماعه حتى عاقبهم الله وابتلاهم فتابوا فتاب عليهم ثم عاد كثير منهم إلى التصامم عن سماع الحق والتعامي عن رؤيته.
( ٣ ) وإن الله ليعلم ما يعلمون ومحصيه عليهم وسائلهم عنه.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بالسياق أيضا اتصال تنديد وتعقيب وتذكير وإنذار.
ويتبادر لنا أن فيهما معنى من معاني التسرية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا كان اليهود قد وقفوا منه المواقف الخبيثة والجاحدة التي وقفوها والتي حكتها الآيات السابقة فإن ذلك ديدن آبائهم من قبلهم. فلا محل للهم والحزن. ولقد احتوت سلسلة آيات البقرة الواردة فيهم مثل ذلك في مقام التنديد والتسرية أيضا. ولقد علقنا على الموضوع بذاته بما يغني عن التكرار.

﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٧٢ ) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٧٣ ) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧٤ ) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ( ١ ) كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٧٥ ) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٧٦ ) ﴾ ( ٧٢ – ٧٦ ).
تعليق على الآية :
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها
عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :
( ١ ) تقرير كفر الذين يقولون إن الله هو المسيح والذين يقولون إنه ثالث ثلاثة.
( ٢ ) وتقرير كون ذلك هو مخالف لدعوة المسيح الذي دعا بني إسرائيل إلى الله وحده ربه وربهم وأنذر المشركين به بالحرمان من الجنة وبعذاب النار.
( ٣ ) وتقرير حقيقة المسيح وأمه. فهو رسول مثل سائر الرسل الذين سبقوه وأمه صديقة مؤمنة. وكلاهما بشر مثل سائر البشر، وكانا مثلهم يأكلان الطعام.
( ٤ ) وسؤالين استنكاريين وتنديديين موجهين للنصارى : فهل يجوز أن يعبدوا من دون الله ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. وهل لا ينبغي لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله من أقوالهم. وهو الغفور الرحيم الذي يقبل توبة التائبين إليه. أما الذين يظلون منحرفين ظالمين أنفسهم فليس لهم أنصار ينصرونهم من الله.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة هي الأخرى بالسياق السابق اتصال تعقيب وتنديد وتذكير وإنذار.
ومع أن الآية الأخيرة قد تلهم أن الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيهه فيها إلى النصارى كان وجاهيا، وعلى سبيل التنديد الجدلي. فإن السياق السابق واللاحق يلهم أن هذه الآية منسجمة مع سائر الآيات. ويجعلنا نرجح أن السؤال فيها أسلوبي وعلى سبيل التنديد من جهة وعلى سبيل تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يوجهه من حجة مفحمة للنصارى من جهة أخرى. ويتبادر أنها جاءت من باب الاستطراد لبيان انحراف النصارى أيضا عن الإنجيل ودعوة المسيح كما انحرف اليهود. ولتوكيد كون أهل الكتاب اليهود والنصارى معا ليسوا على شيء ما داموا لا يقيمون التوراة والإنجيل على ما قررته الآية ( ٧٢ ) بالإضافة إلى عدم اتباع ما أنزل الله إليهم على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى وردت في الآية ( ١٧ ) من هذه السورة. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد علقنا على موضوع التثليث الذي تضمنته الآية الثانية وعقيدة النصارى بأن الآلهة ثلاثة في سياق الآية ( ١٧١ ) من سورة النساء بما يغني كذلك عن التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا فهو تقرير الآية هنا كفر الذين يثلثون الآلهة ويقولون : إن الله الذي هو في عقيدتهم واحد من الأقانيم الثلاثة ثالث ثلاثة. فهذا التقرير هنا جديد ؛ لأن آية النساء جاءت بأسلوب التنديد والاستنكار والنهي.
ومن الجدير بالذكر أن الأناجيل المتداولة اليوم والتي يعترف بها النصارى قد احتوت أقوالا كثيرة منسوبة إلى المسيح فيها مصداق لما جاء في الآيات من حيث كونه بشرا وابن الإنسان، ومن حيث إنه كان يدعو إلى الله ويصفه بأنه ربه ورب كل الذين يخاطبهم ورب الناس. وقد أوردنا طائفة من هذه الأقوال في سياق تفسير سورة مريم فلا نرى حاجة إلى التكرار إلا أن نقول : إنه من وجهة النظر الإسلامية أن ما يعزى في الأناجيل المتداولة إلى عيسى عليه السلام من أقوال فيها ما يمكن أن لا يتطابق مع القرآن في هذه الآيات وفي غيرها صراحة أو تأويلا من كون المسيح بشرا كسائر البشر ولد بمعجزة، ورسولا كسائر الرسل دعا إلى الله وحده وكون الله عز وجل واحدا لا شريك له ولا ولد، ولا يقبل التعدد والتجزؤ هو منحول أو محرف عن أصله الحق. ومن الجدير بالتنبيه أن الروايات القديمة ذكرت أن من رجال المذاهب النصرانية في القرون النصرانية الأولى من كان يعتقد ويقول ببشرية عيسى عليه السلام وكونه رسولا ونبيا وحسب، وينكر ألوهيته وألوهية أمه ) ( ١ )١.
وذكر أم المسيح ووصفها بالصديقة متصلان كما هو المتبادر بعقيدة اليهود والنصارى فيها. فالأولون بهتوها وقذفوها كما حكته الآية ( ١٥٩ ) من سورة النساء وأوردنا في سياق ما يروجونه من روايات قديمة ( ٢ )٢. ومن الآخرين من ألهها وعبدها كما هو مأثور في الروايات التاريخية ( ٣ )٣. بل وقائم إلى الآن عند بعض الطوائف النصرانية. فالإشارة القرآنية هي بسبيل الرد على هؤلاء وهؤلاء ووضع أم المسيح في موضعها الحق من كونها مؤمنة مخلصة لله طاهرة من الدنس، وكون الله قد جعلها محل عنايته وبركته واصطفاها لمعجزة ولادة المسيح بدون مس رجل على ما جاء في آيات آل عمران ( ٣٣ – ٤٨ ) وآيات مريم ( ١ – ٢ ) وقد أوردنا ما جاء في صدد ذلك في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم، فنكتفي بالتنبيه إلى ذلك. وإذا كان في بعض آيات القرآن بيانات ليست واردة في هذا الإصحاح فالذي نعتقده أنها وردت في قراطيس وأناجيل أخرى لم تصل إلينا.
١ انظر تاريخ سورية للدبس مجلد ٣ ج ٢ وجلد ٤ ج ٣..
٢ المصدر نفسه..
٣ المصدر نفسه..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٢:﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٧٢ ) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٧٣ ) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧٤ ) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ( ١ ) كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٧٥ ) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٧٦ ) ﴾ ( ٧٢ – ٧٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) تقرير كفر الذين يقولون إن الله هو المسيح والذين يقولون إنه ثالث ثلاثة.
( ٢ ) وتقرير كون ذلك هو مخالف لدعوة المسيح الذي دعا بني إسرائيل إلى الله وحده ربه وربهم وأنذر المشركين به بالحرمان من الجنة وبعذاب النار.
( ٣ ) وتقرير حقيقة المسيح وأمه. فهو رسول مثل سائر الرسل الذين سبقوه وأمه صديقة مؤمنة. وكلاهما بشر مثل سائر البشر، وكانا مثلهم يأكلان الطعام.
( ٤ ) وسؤالين استنكاريين وتنديديين موجهين للنصارى : فهل يجوز أن يعبدوا من دون الله ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. وهل لا ينبغي لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله من أقوالهم. وهو الغفور الرحيم الذي يقبل توبة التائبين إليه. أما الذين يظلون منحرفين ظالمين أنفسهم فليس لهم أنصار ينصرونهم من الله.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة هي الأخرى بالسياق السابق اتصال تعقيب وتنديد وتذكير وإنذار.
ومع أن الآية الأخيرة قد تلهم أن الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيهه فيها إلى النصارى كان وجاهيا، وعلى سبيل التنديد الجدلي. فإن السياق السابق واللاحق يلهم أن هذه الآية منسجمة مع سائر الآيات. ويجعلنا نرجح أن السؤال فيها أسلوبي وعلى سبيل التنديد من جهة وعلى سبيل تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يوجهه من حجة مفحمة للنصارى من جهة أخرى. ويتبادر أنها جاءت من باب الاستطراد لبيان انحراف النصارى أيضا عن الإنجيل ودعوة المسيح كما انحرف اليهود. ولتوكيد كون أهل الكتاب اليهود والنصارى معا ليسوا على شيء ما داموا لا يقيمون التوراة والإنجيل على ما قررته الآية ( ٧٢ ) بالإضافة إلى عدم اتباع ما أنزل الله إليهم على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى وردت في الآية ( ١٧ ) من هذه السورة. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد علقنا على موضوع التثليث الذي تضمنته الآية الثانية وعقيدة النصارى بأن الآلهة ثلاثة في سياق الآية ( ١٧١ ) من سورة النساء بما يغني كذلك عن التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا فهو تقرير الآية هنا كفر الذين يثلثون الآلهة ويقولون : إن الله الذي هو في عقيدتهم واحد من الأقانيم الثلاثة ثالث ثلاثة. فهذا التقرير هنا جديد ؛ لأن آية النساء جاءت بأسلوب التنديد والاستنكار والنهي.
ومن الجدير بالذكر أن الأناجيل المتداولة اليوم والتي يعترف بها النصارى قد احتوت أقوالا كثيرة منسوبة إلى المسيح فيها مصداق لما جاء في الآيات من حيث كونه بشرا وابن الإنسان، ومن حيث إنه كان يدعو إلى الله ويصفه بأنه ربه ورب كل الذين يخاطبهم ورب الناس. وقد أوردنا طائفة من هذه الأقوال في سياق تفسير سورة مريم فلا نرى حاجة إلى التكرار إلا أن نقول : إنه من وجهة النظر الإسلامية أن ما يعزى في الأناجيل المتداولة إلى عيسى عليه السلام من أقوال فيها ما يمكن أن لا يتطابق مع القرآن في هذه الآيات وفي غيرها صراحة أو تأويلا من كون المسيح بشرا كسائر البشر ولد بمعجزة، ورسولا كسائر الرسل دعا إلى الله وحده وكون الله عز وجل واحدا لا شريك له ولا ولد، ولا يقبل التعدد والتجزؤ هو منحول أو محرف عن أصله الحق. ومن الجدير بالتنبيه أن الروايات القديمة ذكرت أن من رجال المذاهب النصرانية في القرون النصرانية الأولى من كان يعتقد ويقول ببشرية عيسى عليه السلام وكونه رسولا ونبيا وحسب، وينكر ألوهيته وألوهية أمه ) ( ١ )١.
وذكر أم المسيح ووصفها بالصديقة متصلان كما هو المتبادر بعقيدة اليهود والنصارى فيها. فالأولون بهتوها وقذفوها كما حكته الآية ( ١٥٩ ) من سورة النساء وأوردنا في سياق ما يروجونه من روايات قديمة ( ٢ )٢. ومن الآخرين من ألهها وعبدها كما هو مأثور في الروايات التاريخية ( ٣ )٣. بل وقائم إلى الآن عند بعض الطوائف النصرانية. فالإشارة القرآنية هي بسبيل الرد على هؤلاء وهؤلاء ووضع أم المسيح في موضعها الحق من كونها مؤمنة مخلصة لله طاهرة من الدنس، وكون الله قد جعلها محل عنايته وبركته واصطفاها لمعجزة ولادة المسيح بدون مس رجل على ما جاء في آيات آل عمران ( ٣٣ – ٤٨ ) وآيات مريم ( ١ – ٢ ) وقد أوردنا ما جاء في صدد ذلك في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم، فنكتفي بالتنبيه إلى ذلك. وإذا كان في بعض آيات القرآن بيانات ليست واردة في هذا الإصحاح فالذي نعتقده أنها وردت في قراطيس وأناجيل أخرى لم تصل إلينا.
١ انظر تاريخ سورية للدبس مجلد ٣ ج ٢ وجلد ٤ ج ٣..
٢ المصدر نفسه..
٣ المصدر نفسه..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٢:﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٧٢ ) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٧٣ ) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧٤ ) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ( ١ ) كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٧٥ ) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٧٦ ) ﴾ ( ٧٢ – ٧٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) تقرير كفر الذين يقولون إن الله هو المسيح والذين يقولون إنه ثالث ثلاثة.
( ٢ ) وتقرير كون ذلك هو مخالف لدعوة المسيح الذي دعا بني إسرائيل إلى الله وحده ربه وربهم وأنذر المشركين به بالحرمان من الجنة وبعذاب النار.
( ٣ ) وتقرير حقيقة المسيح وأمه. فهو رسول مثل سائر الرسل الذين سبقوه وأمه صديقة مؤمنة. وكلاهما بشر مثل سائر البشر، وكانا مثلهم يأكلان الطعام.
( ٤ ) وسؤالين استنكاريين وتنديديين موجهين للنصارى : فهل يجوز أن يعبدوا من دون الله ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. وهل لا ينبغي لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله من أقوالهم. وهو الغفور الرحيم الذي يقبل توبة التائبين إليه. أما الذين يظلون منحرفين ظالمين أنفسهم فليس لهم أنصار ينصرونهم من الله.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة هي الأخرى بالسياق السابق اتصال تعقيب وتنديد وتذكير وإنذار.
ومع أن الآية الأخيرة قد تلهم أن الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيهه فيها إلى النصارى كان وجاهيا، وعلى سبيل التنديد الجدلي. فإن السياق السابق واللاحق يلهم أن هذه الآية منسجمة مع سائر الآيات. ويجعلنا نرجح أن السؤال فيها أسلوبي وعلى سبيل التنديد من جهة وعلى سبيل تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يوجهه من حجة مفحمة للنصارى من جهة أخرى. ويتبادر أنها جاءت من باب الاستطراد لبيان انحراف النصارى أيضا عن الإنجيل ودعوة المسيح كما انحرف اليهود. ولتوكيد كون أهل الكتاب اليهود والنصارى معا ليسوا على شيء ما داموا لا يقيمون التوراة والإنجيل على ما قررته الآية ( ٧٢ ) بالإضافة إلى عدم اتباع ما أنزل الله إليهم على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى وردت في الآية ( ١٧ ) من هذه السورة. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد علقنا على موضوع التثليث الذي تضمنته الآية الثانية وعقيدة النصارى بأن الآلهة ثلاثة في سياق الآية ( ١٧١ ) من سورة النساء بما يغني كذلك عن التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا فهو تقرير الآية هنا كفر الذين يثلثون الآلهة ويقولون : إن الله الذي هو في عقيدتهم واحد من الأقانيم الثلاثة ثالث ثلاثة. فهذا التقرير هنا جديد ؛ لأن آية النساء جاءت بأسلوب التنديد والاستنكار والنهي.
ومن الجدير بالذكر أن الأناجيل المتداولة اليوم والتي يعترف بها النصارى قد احتوت أقوالا كثيرة منسوبة إلى المسيح فيها مصداق لما جاء في الآيات من حيث كونه بشرا وابن الإنسان، ومن حيث إنه كان يدعو إلى الله ويصفه بأنه ربه ورب كل الذين يخاطبهم ورب الناس. وقد أوردنا طائفة من هذه الأقوال في سياق تفسير سورة مريم فلا نرى حاجة إلى التكرار إلا أن نقول : إنه من وجهة النظر الإسلامية أن ما يعزى في الأناجيل المتداولة إلى عيسى عليه السلام من أقوال فيها ما يمكن أن لا يتطابق مع القرآن في هذه الآيات وفي غيرها صراحة أو تأويلا من كون المسيح بشرا كسائر البشر ولد بمعجزة، ورسولا كسائر الرسل دعا إلى الله وحده وكون الله عز وجل واحدا لا شريك له ولا ولد، ولا يقبل التعدد والتجزؤ هو منحول أو محرف عن أصله الحق. ومن الجدير بالتنبيه أن الروايات القديمة ذكرت أن من رجال المذاهب النصرانية في القرون النصرانية الأولى من كان يعتقد ويقول ببشرية عيسى عليه السلام وكونه رسولا ونبيا وحسب، وينكر ألوهيته وألوهية أمه ) ( ١ )١.
وذكر أم المسيح ووصفها بالصديقة متصلان كما هو المتبادر بعقيدة اليهود والنصارى فيها. فالأولون بهتوها وقذفوها كما حكته الآية ( ١٥٩ ) من سورة النساء وأوردنا في سياق ما يروجونه من روايات قديمة ( ٢ )٢. ومن الآخرين من ألهها وعبدها كما هو مأثور في الروايات التاريخية ( ٣ )٣. بل وقائم إلى الآن عند بعض الطوائف النصرانية. فالإشارة القرآنية هي بسبيل الرد على هؤلاء وهؤلاء ووضع أم المسيح في موضعها الحق من كونها مؤمنة مخلصة لله طاهرة من الدنس، وكون الله قد جعلها محل عنايته وبركته واصطفاها لمعجزة ولادة المسيح بدون مس رجل على ما جاء في آيات آل عمران ( ٣٣ – ٤٨ ) وآيات مريم ( ١ – ٢ ) وقد أوردنا ما جاء في صدد ذلك في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم، فنكتفي بالتنبيه إلى ذلك. وإذا كان في بعض آيات القرآن بيانات ليست واردة في هذا الإصحاح فالذي نعتقده أنها وردت في قراطيس وأناجيل أخرى لم تصل إلينا.
١ انظر تاريخ سورية للدبس مجلد ٣ ج ٢ وجلد ٤ ج ٣..
٢ المصدر نفسه..
٣ المصدر نفسه..

( ١ ) صديقة : شديدة الإيمان والتصديق، أو شديدة الصدق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٢:﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٧٢ ) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٧٣ ) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧٤ ) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ( ١ ) كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٧٥ ) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٧٦ ) ﴾ ( ٧٢ – ٧٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) تقرير كفر الذين يقولون إن الله هو المسيح والذين يقولون إنه ثالث ثلاثة.
( ٢ ) وتقرير كون ذلك هو مخالف لدعوة المسيح الذي دعا بني إسرائيل إلى الله وحده ربه وربهم وأنذر المشركين به بالحرمان من الجنة وبعذاب النار.
( ٣ ) وتقرير حقيقة المسيح وأمه. فهو رسول مثل سائر الرسل الذين سبقوه وأمه صديقة مؤمنة. وكلاهما بشر مثل سائر البشر، وكانا مثلهم يأكلان الطعام.
( ٤ ) وسؤالين استنكاريين وتنديديين موجهين للنصارى : فهل يجوز أن يعبدوا من دون الله ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. وهل لا ينبغي لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله من أقوالهم. وهو الغفور الرحيم الذي يقبل توبة التائبين إليه. أما الذين يظلون منحرفين ظالمين أنفسهم فليس لهم أنصار ينصرونهم من الله.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة هي الأخرى بالسياق السابق اتصال تعقيب وتنديد وتذكير وإنذار.
ومع أن الآية الأخيرة قد تلهم أن الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيهه فيها إلى النصارى كان وجاهيا، وعلى سبيل التنديد الجدلي. فإن السياق السابق واللاحق يلهم أن هذه الآية منسجمة مع سائر الآيات. ويجعلنا نرجح أن السؤال فيها أسلوبي وعلى سبيل التنديد من جهة وعلى سبيل تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يوجهه من حجة مفحمة للنصارى من جهة أخرى. ويتبادر أنها جاءت من باب الاستطراد لبيان انحراف النصارى أيضا عن الإنجيل ودعوة المسيح كما انحرف اليهود. ولتوكيد كون أهل الكتاب اليهود والنصارى معا ليسوا على شيء ما داموا لا يقيمون التوراة والإنجيل على ما قررته الآية ( ٧٢ ) بالإضافة إلى عدم اتباع ما أنزل الله إليهم على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى وردت في الآية ( ١٧ ) من هذه السورة. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد علقنا على موضوع التثليث الذي تضمنته الآية الثانية وعقيدة النصارى بأن الآلهة ثلاثة في سياق الآية ( ١٧١ ) من سورة النساء بما يغني كذلك عن التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا فهو تقرير الآية هنا كفر الذين يثلثون الآلهة ويقولون : إن الله الذي هو في عقيدتهم واحد من الأقانيم الثلاثة ثالث ثلاثة. فهذا التقرير هنا جديد ؛ لأن آية النساء جاءت بأسلوب التنديد والاستنكار والنهي.
ومن الجدير بالذكر أن الأناجيل المتداولة اليوم والتي يعترف بها النصارى قد احتوت أقوالا كثيرة منسوبة إلى المسيح فيها مصداق لما جاء في الآيات من حيث كونه بشرا وابن الإنسان، ومن حيث إنه كان يدعو إلى الله ويصفه بأنه ربه ورب كل الذين يخاطبهم ورب الناس. وقد أوردنا طائفة من هذه الأقوال في سياق تفسير سورة مريم فلا نرى حاجة إلى التكرار إلا أن نقول : إنه من وجهة النظر الإسلامية أن ما يعزى في الأناجيل المتداولة إلى عيسى عليه السلام من أقوال فيها ما يمكن أن لا يتطابق مع القرآن في هذه الآيات وفي غيرها صراحة أو تأويلا من كون المسيح بشرا كسائر البشر ولد بمعجزة، ورسولا كسائر الرسل دعا إلى الله وحده وكون الله عز وجل واحدا لا شريك له ولا ولد، ولا يقبل التعدد والتجزؤ هو منحول أو محرف عن أصله الحق. ومن الجدير بالتنبيه أن الروايات القديمة ذكرت أن من رجال المذاهب النصرانية في القرون النصرانية الأولى من كان يعتقد ويقول ببشرية عيسى عليه السلام وكونه رسولا ونبيا وحسب، وينكر ألوهيته وألوهية أمه ) ( ١ )١.
وذكر أم المسيح ووصفها بالصديقة متصلان كما هو المتبادر بعقيدة اليهود والنصارى فيها. فالأولون بهتوها وقذفوها كما حكته الآية ( ١٥٩ ) من سورة النساء وأوردنا في سياق ما يروجونه من روايات قديمة ( ٢ )٢. ومن الآخرين من ألهها وعبدها كما هو مأثور في الروايات التاريخية ( ٣ )٣. بل وقائم إلى الآن عند بعض الطوائف النصرانية. فالإشارة القرآنية هي بسبيل الرد على هؤلاء وهؤلاء ووضع أم المسيح في موضعها الحق من كونها مؤمنة مخلصة لله طاهرة من الدنس، وكون الله قد جعلها محل عنايته وبركته واصطفاها لمعجزة ولادة المسيح بدون مس رجل على ما جاء في آيات آل عمران ( ٣٣ – ٤٨ ) وآيات مريم ( ١ – ٢ ) وقد أوردنا ما جاء في صدد ذلك في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم، فنكتفي بالتنبيه إلى ذلك. وإذا كان في بعض آيات القرآن بيانات ليست واردة في هذا الإصحاح فالذي نعتقده أنها وردت في قراطيس وأناجيل أخرى لم تصل إلينا.
١ انظر تاريخ سورية للدبس مجلد ٣ ج ٢ وجلد ٤ ج ٣..
٢ المصدر نفسه..
٣ المصدر نفسه..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٢:﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٧٢ ) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٧٣ ) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧٤ ) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ( ١ ) كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٧٥ ) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٧٦ ) ﴾ ( ٧٢ – ٧٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ الخ
والآيات الأربع التي بعدها

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) تقرير كفر الذين يقولون إن الله هو المسيح والذين يقولون إنه ثالث ثلاثة.
( ٢ ) وتقرير كون ذلك هو مخالف لدعوة المسيح الذي دعا بني إسرائيل إلى الله وحده ربه وربهم وأنذر المشركين به بالحرمان من الجنة وبعذاب النار.
( ٣ ) وتقرير حقيقة المسيح وأمه. فهو رسول مثل سائر الرسل الذين سبقوه وأمه صديقة مؤمنة. وكلاهما بشر مثل سائر البشر، وكانا مثلهم يأكلان الطعام.
( ٤ ) وسؤالين استنكاريين وتنديديين موجهين للنصارى : فهل يجوز أن يعبدوا من دون الله ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. وهل لا ينبغي لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله من أقوالهم. وهو الغفور الرحيم الذي يقبل توبة التائبين إليه. أما الذين يظلون منحرفين ظالمين أنفسهم فليس لهم أنصار ينصرونهم من الله.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة هي الأخرى بالسياق السابق اتصال تعقيب وتنديد وتذكير وإنذار.
ومع أن الآية الأخيرة قد تلهم أن الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيهه فيها إلى النصارى كان وجاهيا، وعلى سبيل التنديد الجدلي. فإن السياق السابق واللاحق يلهم أن هذه الآية منسجمة مع سائر الآيات. ويجعلنا نرجح أن السؤال فيها أسلوبي وعلى سبيل التنديد من جهة وعلى سبيل تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يوجهه من حجة مفحمة للنصارى من جهة أخرى. ويتبادر أنها جاءت من باب الاستطراد لبيان انحراف النصارى أيضا عن الإنجيل ودعوة المسيح كما انحرف اليهود. ولتوكيد كون أهل الكتاب اليهود والنصارى معا ليسوا على شيء ما داموا لا يقيمون التوراة والإنجيل على ما قررته الآية ( ٧٢ ) بالإضافة إلى عدم اتباع ما أنزل الله إليهم على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى وردت في الآية ( ١٧ ) من هذه السورة. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد علقنا على موضوع التثليث الذي تضمنته الآية الثانية وعقيدة النصارى بأن الآلهة ثلاثة في سياق الآية ( ١٧١ ) من سورة النساء بما يغني كذلك عن التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا فهو تقرير الآية هنا كفر الذين يثلثون الآلهة ويقولون : إن الله الذي هو في عقيدتهم واحد من الأقانيم الثلاثة ثالث ثلاثة. فهذا التقرير هنا جديد ؛ لأن آية النساء جاءت بأسلوب التنديد والاستنكار والنهي.
ومن الجدير بالذكر أن الأناجيل المتداولة اليوم والتي يعترف بها النصارى قد احتوت أقوالا كثيرة منسوبة إلى المسيح فيها مصداق لما جاء في الآيات من حيث كونه بشرا وابن الإنسان، ومن حيث إنه كان يدعو إلى الله ويصفه بأنه ربه ورب كل الذين يخاطبهم ورب الناس. وقد أوردنا طائفة من هذه الأقوال في سياق تفسير سورة مريم فلا نرى حاجة إلى التكرار إلا أن نقول : إنه من وجهة النظر الإسلامية أن ما يعزى في الأناجيل المتداولة إلى عيسى عليه السلام من أقوال فيها ما يمكن أن لا يتطابق مع القرآن في هذه الآيات وفي غيرها صراحة أو تأويلا من كون المسيح بشرا كسائر البشر ولد بمعجزة، ورسولا كسائر الرسل دعا إلى الله وحده وكون الله عز وجل واحدا لا شريك له ولا ولد، ولا يقبل التعدد والتجزؤ هو منحول أو محرف عن أصله الحق. ومن الجدير بالتنبيه أن الروايات القديمة ذكرت أن من رجال المذاهب النصرانية في القرون النصرانية الأولى من كان يعتقد ويقول ببشرية عيسى عليه السلام وكونه رسولا ونبيا وحسب، وينكر ألوهيته وألوهية أمه ) ( ١ )١.
وذكر أم المسيح ووصفها بالصديقة متصلان كما هو المتبادر بعقيدة اليهود والنصارى فيها. فالأولون بهتوها وقذفوها كما حكته الآية ( ١٥٩ ) من سورة النساء وأوردنا في سياق ما يروجونه من روايات قديمة ( ٢ )٢. ومن الآخرين من ألهها وعبدها كما هو مأثور في الروايات التاريخية ( ٣ )٣. بل وقائم إلى الآن عند بعض الطوائف النصرانية. فالإشارة القرآنية هي بسبيل الرد على هؤلاء وهؤلاء ووضع أم المسيح في موضعها الحق من كونها مؤمنة مخلصة لله طاهرة من الدنس، وكون الله قد جعلها محل عنايته وبركته واصطفاها لمعجزة ولادة المسيح بدون مس رجل على ما جاء في آيات آل عمران ( ٣٣ – ٤٨ ) وآيات مريم ( ١ – ٢ ) وقد أوردنا ما جاء في صدد ذلك في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم، فنكتفي بالتنبيه إلى ذلك. وإذا كان في بعض آيات القرآن بيانات ليست واردة في هذا الإصحاح فالذي نعتقده أنها وردت في قراطيس وأناجيل أخرى لم تصل إلينا.
١ انظر تاريخ سورية للدبس مجلد ٣ ج ٢ وجلد ٤ ج ٣..
٢ المصدر نفسه..
٣ المصدر نفسه..

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ( ٧٧ ) ﴾ ( ٧٧ ).
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينهى أهل الكتاب عن الغلو في عقائدهم الدينية غلوا يتنافى مع الحق والحقيقة. وعن سلوك طريق سلكها قوم قبلهم اتباعا لأهوائهم فضلوا عن الطريق القويم وأضلوا كثيرا من غيرهم أيضا.
تعليق على الآية :
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ......................... ﴾الخ
وما فيها من تلقين وما ورد في عدم الغلو في الدين من أحاديث
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآية. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وقد قال الطبري : إن النهي الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيهه هو للنصارى في صدد انحرافهم في عقائدهم عن الحق، وإن الذين نهوا عن اتباع أهوائهم هم اليهود. وعزا القول الثاني إلى مجاهد. وقال البغوي : إن المقصود بالنهي والتحذير هم رؤساء الضلال من اليهود والنصارى. وقال ابن كثير : إن النهي موجه إلى النصارى والتحذير هو من رؤسائهم المنحرفين السابقين.
وما قاله الطبري هو الأوجه. فالخطاب في الآيات السابقة موجه للنصارى، والآية استمرار لها. وتحذيرهم من ﴿ قوم قد ضلوا ﴾ يدل على أن هؤلاء من غيرهم. وليس هناك غيرهم إلا اليهود. والوصف الذي وصفوا به في شطر الآية الثانية قد وصفوا به في آيات عديدة سابقة. منها آية قريبة وهي الآية ( ٦٠ ) من هذه السورة. ومنها آيات سورة النساء ( ٤٤ – ٤٥ ) ولعل في الآية التالية قرينة على ذلك أيضا. وهكذا تكون الآية قد استهدفت تحذير النصارى من السير في طريق اليهود الذين اتبعوا فيما سبق أهوائهم فضلوا وأضلوا.
ومع أن أسلوب الآية قد يلهم أن الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيهه إلى أهل الكتاب كان وجاهيا وعلى سبيل التنديد، فإن السياق السابق واللاحق يلهم أنه أيضا تعبير أسلوبي فيه تعليم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يوجهه لهم من تحذير وتنبيه.
ومع أن نهي الآية لأهل الكتاب عن الغلو في الدين في مقامه بمعنى النهي عن الانحراف في العقيدة الأصلية فقد وقف المفسر القاسمي في ( محاسن التأويل ) عند الآية، وأورد بعض أحاديث نبوية في سياقها ؛ حيث يبدو أنه رأى في الآية تلقينا للمسلمين أيضا، والأحاديث التي أوردها ليست في معنى النهي الذي هدفت إليه الآية أي الانحراف عن العقيدة الأصلية، وإنما هي في صدد التزمت والتنطع والتشدد في المبادرات الدينية المفصلة بالعبادات والمعاملات. وهناك كثيرون من المسلمين في مختلف العصور وبخاصة الأخيرة، ومنهم المتزيون بزي الرجال الدين من يتجاوزون الحق والاعتدال في أقوالهم وأفعالهم وتزمتهم ويتهمون من لا يسير على طرائقهم أو يشتدون في تسيير الناس على طرائقهم دون أن يكون لهذه الطرائق سند صحيح من قرآن أو سنة. كما أن هناك كثيرين من أصحاب المذاهب الدينية المشوبة بالسياسة الذين يتبعون أهوائهم ويغلبونها على الحق والمنطق ويفسرون القرآن، وينسبون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أحاديث غير صحيحة بسبيل تأييد هذه الأهواء. والمتبادر أن المفسر لحظ ذلك فوقف عند الآية مستطردا إلى ما عليه هؤلاء وهؤلاء من غلو وأورد ما أورده من أحاديث نبوية في ذلك. ولا نرى والحالة هذه بأسا في ذلك. ومن الأحاديث التي أوردها حديث رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ) وحديث رواه مسلم عن ابن مسعود قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هلك المتنطعون قالها ثلاثا ). والمتبادر أن في الحديث الثاني تفسيرا للحديث الأول من حيث إن المقصود به هو التزمت ومجاوزة الحق والاعتدال في الأقوال والأفعال المتصلة بالدين والتدين. ومن الجدير بالتنبيه أن في القرآن المكي والمدني آيات كثيرة في النعي الشديد على الذين يتبعون هواهم ويتخذونه إلها ويجعلونه ضابطا لسيرهم في شئون الدين والدنيا والتنديد بهم مما مرت أمثلة كثيرة منه في السور التي سبق تفسيرها وهي عامة شاملة للمسلمين بطبيعة الحال.
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( ٧٨ ) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ٧٩ ) ﴾ ( ٧٨ – ٧٩ ).
تعليق على الآية :
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ......................... ﴾ الخ
والآية التي بعدها وما فيهما من تلقين وما ورد في صدد ذلك من أحاديث
عبارة الآيتين واضحة، وقد احتوتا إشارة تذكيرية لدور من أدوار تاريخ بني إسرائيل ؛ حيث كفر بعض أجيالهم فاستحقوا اللعنة على لسان داود وعيسى عليهما السلام بسبب كفرهم وعصيانهم وبغيهم وتجاوزهم حدود الله. وبسبب أن بعضهم كان يسكت عما يرتكبه البعض الآخر من آثام ومنكرات ولا ينهى عن ذلك أحد أحدا، ولبئس ما كانوا يفعلون.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا أيضا، وأنهما استهدفتا بيانا توضيحيا للآية السابقة التي حذرت من اتباع أهواء الذين ضلوا من قبل وأضلوا. وانطوتا في الوقت نفسه على تدعيم الخطاب الموجه إلى النصارى في صدد نهيهم عن الغلو والانحراف ورجوعهم إلى الحق. فلا يصح لهم أن يسيروا في الطريق التي سار فيها اليهود وأتباع الأهواء مثلهم. فمن هؤلاء من لعنوا بلسان بعض الأنبياء بسبب كفرهم وعصيانهم وتجاوزهم حدود الله وعدم تناهيهم عن الآثام والمنكرات.
ولقد عزا الطبري إلى ابن عباس وابن جريج أن داود عليه السلام دعا على فريق من بني إسرائيل ولعنهم فصاروا خنازير. وأن عيسى عليه السلام دعا على فريق منهم ولعنهم فصاروا قردة. وعزا إلى قتادة أن لعنة داود ودعاءه جعلتهم قردة ولعنة عيسى ودعاءه جعلتهم خنازير. وقال البغوي : إن اليهود لما اعتدوا في السبت في ميناء أيلة قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة وخنازير، وإنهم لما كفروا بعيسى عليه السلام قال : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فضلا عن أنها غير صادرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يسوغ التحفظ إزاءها.
ومهما يكن من أمر فإن تخصيص لعنتي داود وعيسى عليهما السلام بالذكر متصل فيما يتبادر لنا بحوادث معينة معروفة عند اليهود والنصارى.
ولقد وقف بعض المفسرين عند هذه الآيات أيضا، وأوردوا في سياقها أحاديث نبوية فيها تعليم للمسلمين بما يجب عليهم من التناهي عن المنكر وإنذار لمن لا يفعل ذلك ؛ حيث يبدو أنهم رأوا فيها تلقينا شاملا للمسلمين وأوردوا الأحاديث بناء على ذلك وهذا وجيه. ولا سيما إن بعض الأحاديث ينطوي على التذكير بما كان من ذلك من بني إسرائيل. ومن الأحاديث التي أوردها الطبري حديث عن ابن مسعود رواه بطرق عديدة بتباين يسير وقد ورد صيغة له في التاج برواية أبي داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود وهذه هي :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قرأ :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( ٧٨ ) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ٧٩ ) ﴾. ثم قال : والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم ) ( ١ )١، ومما أورده ابن كثير حديث أخرجه الإمام أحمد عن عدي بن عميرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا عذب الله الخاصة والعامة ) ( ١ )٢، وحديث رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ) ( ٢ )٣. وحديث رواه أبو داود عن ابن عميرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وفي رواية فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها ) ( ٣ )٤، وحديث أخرجه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال :( قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا فقال فيما قال : ألا يمنعن رجلا هيبته الناس أن يقول الحق إذا علمه )، وحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) ( ٤ )٥، وحديث رواه الإمام أحمد عن المنذر بن جرير عن أبيه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب )، وحديث رواه ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا ) ( ٥ )٦. وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود فيه ما في هذا الحديث الذي لم يرد في الصحاح روياه عن أبي بكر قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) ( ٦ )٧.
حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني بمنتهى القوة والروعة، وبخاصة في ما ينطوي في بعضها من حث قوي على إنكار الظلم والإثم والانحراف على الحاكم والسلطان الجائر.
ولا شك أن في الآيات على ضوء الأحاديث النبوية التي تورد في سياقها تلقينا اجتماعيا جليلا يصح أن يكون منبع إلهام في كل ظرف. فمصلحة المجتمع وقوته وطمأنينته وخيره وصلاحه تقوم إلى أبعد حد على التعاون على الخير والمعروف والأمر بهما، والتناهي عن الشر والمنكر وإنكارهما. والمجتمع الذي يستشري فيه الإثم والمنكر وتضعف فيه الدعوة إلى إنكارهما والنهي عنهما يكون مجتمعا فاسدا معرضا للانحلال وعرضة لنقمة الله ولعنته. ولقد تكرر في القرآن تقرير هذه المعاني بأساليب متنوعة مما مر منه أمثلة في السور التي سبق تفسيرها.
١ التاج ج ٥ ص ٢٠٤..
٢ أي إذا لم ينكروا..
٣ ورد هذا النص في التاج أيضا انظر ج ٥ ص ٢٠٤..
٤ ورد هذا النص في التاج أيضا انظر ج ٥ ص ٢٠٥..
٥ وهذا أيضا انظر التاج ج ٣ ص ٤٨..
٦ بعض هذه الأحاديث أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآيات (٦٢ و ٦٣) من هذه السورة..
٧ التاج ج ٤ ص ٩٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٨:﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( ٧٨ ) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ٧٩ ) ﴾ ( ٧٨ – ٧٩ ).

تعليق على الآية :

﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ......................... ﴾ الخ
والآية التي بعدها وما فيهما من تلقين وما ورد في صدد ذلك من أحاديث
عبارة الآيتين واضحة، وقد احتوتا إشارة تذكيرية لدور من أدوار تاريخ بني إسرائيل ؛ حيث كفر بعض أجيالهم فاستحقوا اللعنة على لسان داود وعيسى عليهما السلام بسبب كفرهم وعصيانهم وبغيهم وتجاوزهم حدود الله. وبسبب أن بعضهم كان يسكت عما يرتكبه البعض الآخر من آثام ومنكرات ولا ينهى عن ذلك أحد أحدا، ولبئس ما كانوا يفعلون.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا أيضا، وأنهما استهدفتا بيانا توضيحيا للآية السابقة التي حذرت من اتباع أهواء الذين ضلوا من قبل وأضلوا. وانطوتا في الوقت نفسه على تدعيم الخطاب الموجه إلى النصارى في صدد نهيهم عن الغلو والانحراف ورجوعهم إلى الحق. فلا يصح لهم أن يسيروا في الطريق التي سار فيها اليهود وأتباع الأهواء مثلهم. فمن هؤلاء من لعنوا بلسان بعض الأنبياء بسبب كفرهم وعصيانهم وتجاوزهم حدود الله وعدم تناهيهم عن الآثام والمنكرات.
ولقد عزا الطبري إلى ابن عباس وابن جريج أن داود عليه السلام دعا على فريق من بني إسرائيل ولعنهم فصاروا خنازير. وأن عيسى عليه السلام دعا على فريق منهم ولعنهم فصاروا قردة. وعزا إلى قتادة أن لعنة داود ودعاءه جعلتهم قردة ولعنة عيسى ودعاءه جعلتهم خنازير. وقال البغوي : إن اليهود لما اعتدوا في السبت في ميناء أيلة قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة وخنازير، وإنهم لما كفروا بعيسى عليه السلام قال : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فضلا عن أنها غير صادرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يسوغ التحفظ إزاءها.
ومهما يكن من أمر فإن تخصيص لعنتي داود وعيسى عليهما السلام بالذكر متصل فيما يتبادر لنا بحوادث معينة معروفة عند اليهود والنصارى.
ولقد وقف بعض المفسرين عند هذه الآيات أيضا، وأوردوا في سياقها أحاديث نبوية فيها تعليم للمسلمين بما يجب عليهم من التناهي عن المنكر وإنذار لمن لا يفعل ذلك ؛ حيث يبدو أنهم رأوا فيها تلقينا شاملا للمسلمين وأوردوا الأحاديث بناء على ذلك وهذا وجيه. ولا سيما إن بعض الأحاديث ينطوي على التذكير بما كان من ذلك من بني إسرائيل. ومن الأحاديث التي أوردها الطبري حديث عن ابن مسعود رواه بطرق عديدة بتباين يسير وقد ورد صيغة له في التاج برواية أبي داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود وهذه هي :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قرأ :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( ٧٨ ) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ٧٩ ) ﴾. ثم قال : والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم ) ( ١ )١، ومما أورده ابن كثير حديث أخرجه الإمام أحمد عن عدي بن عميرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا عذب الله الخاصة والعامة ) ( ١ )٢، وحديث رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ) ( ٢ )٣. وحديث رواه أبو داود عن ابن عميرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وفي رواية فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها ) ( ٣ )٤، وحديث أخرجه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال :( قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا فقال فيما قال : ألا يمنعن رجلا هيبته الناس أن يقول الحق إذا علمه )، وحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) ( ٤ )٥، وحديث رواه الإمام أحمد عن المنذر بن جرير عن أبيه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب )، وحديث رواه ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا ) ( ٥ )٦. وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود فيه ما في هذا الحديث الذي لم يرد في الصحاح روياه عن أبي بكر قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) ( ٦ )٧.
حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني بمنتهى القوة والروعة، وبخاصة في ما ينطوي في بعضها من حث قوي على إنكار الظلم والإثم والانحراف على الحاكم والسلطان الجائر.
ولا شك أن في الآيات على ضوء الأحاديث النبوية التي تورد في سياقها تلقينا اجتماعيا جليلا يصح أن يكون منبع إلهام في كل ظرف. فمصلحة المجتمع وقوته وطمأنينته وخيره وصلاحه تقوم إلى أبعد حد على التعاون على الخير والمعروف والأمر بهما، والتناهي عن الشر والمنكر وإنكارهما. والمجتمع الذي يستشري فيه الإثم والمنكر وتضعف فيه الدعوة إلى إنكارهما والنهي عنهما يكون مجتمعا فاسدا معرضا للانحلال وعرضة لنقمة الله ولعنته. ولقد تكرر في القرآن تقرير هذه المعاني بأساليب متنوعة مما مر منه أمثلة في السور التي سبق تفسيرها.
١ التاج ج ٥ ص ٢٠٤..
٢ أي إذا لم ينكروا..
٣ ورد هذا النص في التاج أيضا انظر ج ٥ ص ٢٠٤..
٤ ورد هذا النص في التاج أيضا انظر ج ٥ ص ٢٠٥..
٥ وهذا أيضا انظر التاج ج ٣ ص ٤٨..
٦ بعض هذه الأحاديث أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآيات (٦٢ و ٦٣) من هذه السورة..
٧ التاج ج ٤ ص ٩٥..

﴿ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ( ٨٠ ) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨١ ) ﴾ ( ٨٠ -٨١ ).
تعليق على الآية :
﴿ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ......................... ﴾
والآية التالية لها وما فيها من صور
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة بنزول الآيتين، والمتبادر أن الضمير في :﴿ منهم ﴾ عائد إلى بني إسرائيل ( ١ )١الذين كانوا موضوع الكلام في الآيتين السابقتين. وهكذا يصح القول : إن الآيتين متصلتان بالسياق السابق واستمرار له. وروح الآيتين وفحواهما يلهمان أن المقصود بهما بنو إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة. وهكذا ينتقل الكلام عن أخلاق اليهود ومواقفهم من الماضي إلى الحاضر. ويربط بين أخلاق الآباء والأبناء مما جرى عليه النظم القرآني. ولقد اختلفت الأقوال في المقصود من :﴿ الذين كفروا ﴾ فقيل : إنهم المشركون. وقيل : إنهم المنافقون الذين هم كانوا كفارا في حقيقة أمرهم ( ١ )٢.
واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة كانوا وراء المنافقين منذ بدء الهجرة، وظلوا وراءهم على ما شرحناه في سياق تفسير آية سورة البقرة ( ١٤ ) وسورة الحشر ( ١١ ) وتحالفوا مع مشركي العرب أيضا على ما شرحناه في سياق تفسير آية سورة النساء ( ٥١ ) وآيات سورة الأحزاب ( ١١ – ٢٧ ) غير أننا نرجح أن المقصود هم كفار المشركين استدلالا من قرنهم مع اليهود في الآية التالية. والمتبادر أن في الآية الثانية إشارة إلى ما كان من دعاوى اليهود الكاذبة بأنهم يؤمنون برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما حكته الآية ( ٦١ ) من هذه السورة والآية ( ٧٦ ) من سورة البقرة والآية ( ٧٧ ) من سورة آل عمران.
وهكذا تكون الآيتان بسبيل التنديد ببني إسرائيل في المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فهؤلاء الذين لعن الأنبياء أسلافهم بسبب أخلاقهم وتمردهم وعدم تناهيهم عن المنكر لم يرعووا ولم يرتدعوا. وكثير منهم يوالون الذين كفروا بالله ورسالة رسوله. وفي ذلك مناقضة لدعواهم الإيمان ؛ لأنهم لو كانوا يؤمنون حقا بالله ورسوله، وما أنزل إليهم لما فعلوا ذلك. والحقيقة من أمرهم هي أن كثيرا منهم فاسقون متمردون على الله تعالى. ولبئس ما سولت لهم أنفسهم من موقف خبيث استحقوا عليه سخط الله الدائم وعذاب النار الأبدي.
١ ذكر هذا الطبري أيضا..
٢ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن حيث أوردوا هذه الأقوال..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٠:﴿ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ( ٨٠ ) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨١ ) ﴾ ( ٨٠ -٨١ ).

تعليق على الآية :

﴿ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ......................... ﴾
والآية التالية لها وما فيها من صور
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة بنزول الآيتين، والمتبادر أن الضمير في :﴿ منهم ﴾ عائد إلى بني إسرائيل ( ١ )١الذين كانوا موضوع الكلام في الآيتين السابقتين. وهكذا يصح القول : إن الآيتين متصلتان بالسياق السابق واستمرار له. وروح الآيتين وفحواهما يلهمان أن المقصود بهما بنو إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة. وهكذا ينتقل الكلام عن أخلاق اليهود ومواقفهم من الماضي إلى الحاضر. ويربط بين أخلاق الآباء والأبناء مما جرى عليه النظم القرآني. ولقد اختلفت الأقوال في المقصود من :﴿ الذين كفروا ﴾ فقيل : إنهم المشركون. وقيل : إنهم المنافقون الذين هم كانوا كفارا في حقيقة أمرهم ( ١ )٢.
واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة كانوا وراء المنافقين منذ بدء الهجرة، وظلوا وراءهم على ما شرحناه في سياق تفسير آية سورة البقرة ( ١٤ ) وسورة الحشر ( ١١ ) وتحالفوا مع مشركي العرب أيضا على ما شرحناه في سياق تفسير آية سورة النساء ( ٥١ ) وآيات سورة الأحزاب ( ١١ – ٢٧ ) غير أننا نرجح أن المقصود هم كفار المشركين استدلالا من قرنهم مع اليهود في الآية التالية. والمتبادر أن في الآية الثانية إشارة إلى ما كان من دعاوى اليهود الكاذبة بأنهم يؤمنون برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما حكته الآية ( ٦١ ) من هذه السورة والآية ( ٧٦ ) من سورة البقرة والآية ( ٧٧ ) من سورة آل عمران.
وهكذا تكون الآيتان بسبيل التنديد ببني إسرائيل في المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فهؤلاء الذين لعن الأنبياء أسلافهم بسبب أخلاقهم وتمردهم وعدم تناهيهم عن المنكر لم يرعووا ولم يرتدعوا. وكثير منهم يوالون الذين كفروا بالله ورسالة رسوله. وفي ذلك مناقضة لدعواهم الإيمان ؛ لأنهم لو كانوا يؤمنون حقا بالله ورسوله، وما أنزل إليهم لما فعلوا ذلك. والحقيقة من أمرهم هي أن كثيرا منهم فاسقون متمردون على الله تعالى. ولبئس ما سولت لهم أنفسهم من موقف خبيث استحقوا عليه سخط الله الدائم وعذاب النار الأبدي.
١ ذكر هذا الطبري أيضا..
٢ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن حيث أوردوا هذه الأقوال..

( ١ ) قسيسين : جمع قس. وتعددت الأقوال في اشتقاقها ومعناها. فقيل : إنها مشتقة من قس الإبل يقسها بمعنى أحسن رعيها وسوقها. وقيل : إنها من التقسس بمعنى التجسس ونشر الأخبار وتسمع الأصوات وتعرية العظم من اللحم. ولعل القول الأول هو الأنسب. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل نزول القرآن أن معناها رتبة دينية عند النصارى. وقد سمي بعضهم بها. ومن مشهوريهم قس بن ساعدة الإيادي الخطيب.
( ٢ ) رهبان : جمع راهب. وكان يطلق على المتبتل من النصارى المنقطع في دير، الذي نذر حرمان نفسه من التنعم بالزواج والولد ولذات الطعام والزينة. وقيل : إنها مشتقة من الرهبة بمعنى الخوف. أو من رهب الإبل بمعنى هزالها وكلالها. ولعل القول الثاني أنسب ؛ لأن حرمان الرهبان أنفسهم من لذات الحياة يؤدي إلى هزالهم وكلالهم، وإذا صح أن تكون من الرهبنة فينطوي فيها معنى الخوف من الله وكون ذلك هو الذي يجعل الرهبان يحرمون أنفسهم من متع الحياة ولذاتها. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل الإسلام أنها تطلق على المتقشفين المتبعدين عن اللذائذ المتفرغين للعبادة من النصارى. وفي سورة الحديد إشارة إلى ذلك في صدد النصارى وفيها كلمة ( رهبانية ) وروي في مناسبتها حديثان جاء في أحدهما :( لا رهبانية في الإسلام ) تفسير الطبرسي وفي أحدهما :( لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ) تفسير ابن كثير.
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ( ١ ) وَرُهْبَانًا ( ٢ ) وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( ٨٢ ) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٨٣ ) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( ٨٤ ) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( ٨٥ ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ٨٦ ) ﴾ ( ٨٢ – ٨٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى......... ﴾
والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا توكيديا بأن أشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا، وأقربهم مودة هم النصارى. وتعليلا لهذه المودة هو أنهم كانوا متواضعين لا يستكبرون عن الحق واتباعه. ومشهدا من مشاهد إيمان جماعة منهم فيهم القسيسون والرهبان كتعليل آخر. وقد تضمن المشهد صورة رائعة لإيمان هذه الجماعة. وأثر ما تلاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن عليهم ؛ حيث فاضت أعينهم من الدمع حينما سمعوا ذلك ابتهاجا بالحق الذي انطوى فيه وعرفوه من قبل. وحيث أعلنوا إيمانهم ودعوة الله أن يكتبهم في سجل المؤمنين الشاهدين المصدقين، وتساءلوا عما إذا كان يصح أن لا يصدقوا ويؤمنوا بالله والحق الذي سمعوه عن الله في حين أنهم يأملون من الله أن يجعلهم في جملة عباده الصالحين. واحتوت الآيات تقريرا بأن الله عز وجل قد أثابهم على ما وقع منهم بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وهو جزاء المحسنين، وبأن الذين كفروا هم أصحاب الجحيم.
وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه :( إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فقالوا : لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله :﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ................... ﴾ الخ الآيات. والحديث ليس من الصحاح. ويقتضي أن تكون بعض الآيات نزل لحدته، كما يفيد أن الآيات نزلت في حادث جديد. والآيات منسجمة مرتبط أولها بآخرها. والتمعن فيها وفي السياق السابق لها يسوغ الترجيح أنها لم تنزل في حادث جديد، وأنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. فبعد أن استمرت الآيات توالى في وصف انحرافات الكتابيين الدينية بصورة عامة. وفي وصف مواقف اليهود الكيدية للدعوة المحمدية والمسلمين ووصف أخلاقهم الخبيثة ومناقضتهم لمبادئ الإيمان بالله ووحدته جاءت هذه الآيات خاتمة، واحتوت موقف وحقيقة كل من اليهود والنصارى من المسلمين. وأن المشهد الواقعي الرائع الذي احتوت حكايته الآيات بإيمان جماعة من النصارى فيهم القسيسون والرهبان كان حادثا سابقا وجاء هنا من قبيل التذكير والتدعيم والتعليل لما قررته من كون النصارى أقرب مودة إلى المسلمين. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في هوية أصحاب هذا المشهد. ومن الروايات ما يؤيد ما سوغناه من أن المشهد ليس جديدا. فهناك رواية تذكر أن الآيات عنت النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا حينما سمعوا القرآن من مهاجري المسلمين. ورواية تذكر أنها في صدد إيمان وفد حبشي أرسله النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اختلاف في عدده بين ١٢ وبين ٧٠. ورواية تذكر أن هذا الوفد جاء مع جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في الحبشة حينما عادوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ورواية تذكر أنهم جماعة من النصارى كانوا على شريعة عيسى الأصلية دون ذكر هويتهم. ورواية تذكر أنهم نصارى نجران اليمن أو وفدهم. ورواية تذكر أنهم وفد رومي قدم من الشام.
والوصف يلهم أن المشهد كان في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والروايات تذكر أن وفد نصارى نجران رجع بدون أن يؤمن، على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة آل عمران ( ٣٤ – ٦٤ ) وعلى هذا فإما أن يكون أصحاب هذا المشهد وفدا حبشيا جاء إلى المدينة مرسلا من النجاشي لمقابلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرف عنه ما عرف من المهاجرين، وربما جاء معهم حين رجعوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. أو وفدا من الشام وأطرافها ؛ حيث كانت النصرانية سائدة. وقد يستلهم من الوصف أن الوفد كان يفهم العربية أو كان منهم من يفهمها. فهذا التأثر الشديد يرجح أن يكون من أسلوب القرآن وفحواه وروحانيته معا مما قد يتأثر به العارف بالعربية أكثر. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون من نصارى الشام أو أطرافها التي كانت مأهولة بنصارى العرب والمستعربين من الأقوام العربية الجنس.
ولقد قال ابن كثير : إن هذا المشهد هو للذين ذكر إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في آيات آل عمران ( ١٩٩ ) والإسراء ( ١٠٧ و ١٠٨ ) والقصص ( ٥٢ – ٥٥ ) وهذا القول يؤيد تسويغنا أيضا، وإن كنا نرجح أنه مشهد آخر لوفد قادم إلى المدينة من الخارج في حين أن المشاهد المذكورة في آيات سورة آل عمران والإسراء والقصص هي على الأرجح لأناس كانوا مقيمين بين ظهراني المسلمين في مكة والمدينة. وإنه ليصح أن يقال بناء على ذلك : إن أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انتشرت إلى خارج الجزيرة، فأثارت الأفكار ولفتت الأنظار، وجعلت بعض رهبان النصارى وقسيسيهم، وبتعبير آخر علماءهم الذين يستطيعون الحجاج والجدل ووزن الأقوال ويرغبون في معرفة وقائع الأمور وحقائقها، والوقوف عليها بأنفسهم يفدون إلى المدينة ليروا هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعوا منه ويحاجوه ويجادلوه. وقد تأثر الوافدون بما رأوا وسمعوا ولمسوا من قوة الحق والروحانية والتطابق مع م جاء به رسل الله السابقون فصدقوا وآمنوا. وخطورة هذا الحادث عظيمة جدا، كما هو المتبادر من حيث سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية. ومن المحتمل جدا أن يكون لكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسله الذين أرسلهم أثر في هذه الوفادة.
وإذا ما أضفنا هذا المشهد إلى ما احتوته آيات آل عمران والإسراء والقصص المذكورة آنفا ثم آيات البقرة ( ١٢١ ) وآل عمران ( ١١٣ – ١١٥ ) والنساء ( ١٦٢ ) والرعد ( ٣٦ ) والأحقاف ( ١٠ ) التي تذكر إيمان بعض أهل الكتاب وأهل العلم منهم من يهود ونصارى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن يظهر أن هذه المشاهد قد تكررت في العهدين المكي والمدني في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذا شهادة عيان قوية صادقة على ما كان لروحانية القرآن وروحانية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية الدعوة من تأثير في كل من كان يسمعها بعقله وقلبه ومنطقه، وكان رائده الحق والهدى، ولم يكن خبيث الطوية متعمدا للعناد والجحود من الكتابيين وعلمائهم ورؤساء دنيهم في مقدمتهم. وهذا هو الذي قرره القرآن في صدد مستمعي آيات القرآن والدعوة النبوية إذا كانوا من الفئة الأولى، كما جاء في آيات عديدة، منها آية سورة يس ( ١١ ) هذه ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ﴾ وآية سورة السجدة :﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( ١٥ ) ﴾ وإذا كان جمهرة اليهود في الحجاز الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤمنوا، ففي القرآن شواهد كثيرة على أن هذا كان لأسباب عديدة لا تمت إلى صدق دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية رسالته.
وفي السلسلة التي نحن بصددها آيات تتضمن أسباب ذلك كما أن مثل هذه الأسباب واردة في السلاسل الواردة في حق اليهود في سور البقرة وآل عمران والنساء. والآيات القرآنية المكية والمدنية تلهم أن أكثر النصارى في الحجاز آمنوا بالرسالة النبوية ؛ لأنهم لم يكن لديهم من الأسباب ما كان لدى اليهود فضلا عما كانوا عليه من دماثة خلق وحسن طوية نوه بها القرآن في الآيات التي نحن في صددها وفي آية سورة الحديد هذه :﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ﴾ ( ٢٧ ). ولم يمض على فتح المسلمين بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية إلا ردح قصير، حتى أخذ النصارى فيها يقبلون على اعتناق الإسلام إلى أن اعتنقه سوادهم الأعظم. وشاء بعضهم أن يحتفظوا بدينهم فكان لهم ذلك. اتساقا مع حرية التدين التي قررها القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة ( الكافرون ).
ونحن نعتقد أن موقف هؤلاء كان متأثرا بأسباب مادية ودنيوية أكثر من كل شيء. وقد يكون أكثرهم من الرهبان الذين كانوا يجنون ثمرات كثيرة من موارد الأديرة التي كانت تحت أيديهم. ولعل هذا ما قررت واقعة المشاهد آية سورة التوبة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾( ٣٤ ).
ولقد ظل هذا الواقع بشكليه يتكرر في كل مكان وزمان. فمن استطاع أن يتغلب على أنانيته وهواه، ويتفلت من تأثير المنافع المادية والتعصب الأعمى يؤمن بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن انساق بأنانيته وهواه فأعمياه عن الحق والحقيقة وجعلاه يتعصب تعصبا أعمى ظل مكابرا مناوئا، وظل يستجيب للتحريض والإغراء والتهويش والمكائد ضد الإسلام والمسلمين.
وما دام القرآن قد وصف النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وصفهم به من دماثة وخلق وحسن طوية ورحمة ورأفة، وبأنهم أقرب الناس مودة للمسلمين فيصح القول : إن هذه الصفات المحببة هي نتيجة لتلقينات المسيحية السمحاء، ولقد كان بعضهم لا يكتفون بعدم الاستجابة إلى الإسلام، بل يقفون من الإسلام والمسلمين موقف المناوئ الباغي والمكابر المكائد المعادي، ولا يزال هذا يظهر في كل ظروف فيكون أصحاب ذلك منحرفين عن تلك التلقينات.
ووصف اليهود بأنهم أعداء المسلمين قد ورد في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء ( ١ )١. غير أن في هذا الوصف الذي جاء في الآيات معنى خاصا ؛ حيث يفيد أنهم من أشد أعدائهم. وليس من ريب في أن هذا قد كان قائما على مواقف ومشاهد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن المعجزات القرآنية أن هذا يتكرر اليوم بأشد صوره.
ومهما يكن من
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٢:( ١ ) قسيسين : جمع قس. وتعددت الأقوال في اشتقاقها ومعناها. فقيل : إنها مشتقة من قس الإبل يقسها بمعنى أحسن رعيها وسوقها. وقيل : إنها من التقسس بمعنى التجسس ونشر الأخبار وتسمع الأصوات وتعرية العظم من اللحم. ولعل القول الأول هو الأنسب. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل نزول القرآن أن معناها رتبة دينية عند النصارى. وقد سمي بعضهم بها. ومن مشهوريهم قس بن ساعدة الإيادي الخطيب.
( ٢ ) رهبان : جمع راهب. وكان يطلق على المتبتل من النصارى المنقطع في دير، الذي نذر حرمان نفسه من التنعم بالزواج والولد ولذات الطعام والزينة. وقيل : إنها مشتقة من الرهبة بمعنى الخوف. أو من رهب الإبل بمعنى هزالها وكلالها. ولعل القول الثاني أنسب ؛ لأن حرمان الرهبان أنفسهم من لذات الحياة يؤدي إلى هزالهم وكلالهم، وإذا صح أن تكون من الرهبنة فينطوي فيها معنى الخوف من الله وكون ذلك هو الذي يجعل الرهبان يحرمون أنفسهم من متع الحياة ولذاتها. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل الإسلام أنها تطلق على المتقشفين المتبعدين عن اللذائذ المتفرغين للعبادة من النصارى. وفي سورة الحديد إشارة إلى ذلك في صدد النصارى وفيها كلمة ( رهبانية ) وروي في مناسبتها حديثان جاء في أحدهما :( لا رهبانية في الإسلام ) تفسير الطبرسي وفي أحدهما :( لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ) تفسير ابن كثير.
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ( ١ ) وَرُهْبَانًا ( ٢ ) وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( ٨٢ ) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٨٣ ) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( ٨٤ ) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( ٨٥ ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ٨٦ ) ﴾ ( ٨٢ – ٨٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى......... ﴾
والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا توكيديا بأن أشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا، وأقربهم مودة هم النصارى. وتعليلا لهذه المودة هو أنهم كانوا متواضعين لا يستكبرون عن الحق واتباعه. ومشهدا من مشاهد إيمان جماعة منهم فيهم القسيسون والرهبان كتعليل آخر. وقد تضمن المشهد صورة رائعة لإيمان هذه الجماعة. وأثر ما تلاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن عليهم ؛ حيث فاضت أعينهم من الدمع حينما سمعوا ذلك ابتهاجا بالحق الذي انطوى فيه وعرفوه من قبل. وحيث أعلنوا إيمانهم ودعوة الله أن يكتبهم في سجل المؤمنين الشاهدين المصدقين، وتساءلوا عما إذا كان يصح أن لا يصدقوا ويؤمنوا بالله والحق الذي سمعوه عن الله في حين أنهم يأملون من الله أن يجعلهم في جملة عباده الصالحين. واحتوت الآيات تقريرا بأن الله عز وجل قد أثابهم على ما وقع منهم بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وهو جزاء المحسنين، وبأن الذين كفروا هم أصحاب الجحيم.
وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه :( إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فقالوا : لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله :﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ................... ﴾ الخ الآيات. والحديث ليس من الصحاح. ويقتضي أن تكون بعض الآيات نزل لحدته، كما يفيد أن الآيات نزلت في حادث جديد. والآيات منسجمة مرتبط أولها بآخرها. والتمعن فيها وفي السياق السابق لها يسوغ الترجيح أنها لم تنزل في حادث جديد، وأنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. فبعد أن استمرت الآيات توالى في وصف انحرافات الكتابيين الدينية بصورة عامة. وفي وصف مواقف اليهود الكيدية للدعوة المحمدية والمسلمين ووصف أخلاقهم الخبيثة ومناقضتهم لمبادئ الإيمان بالله ووحدته جاءت هذه الآيات خاتمة، واحتوت موقف وحقيقة كل من اليهود والنصارى من المسلمين. وأن المشهد الواقعي الرائع الذي احتوت حكايته الآيات بإيمان جماعة من النصارى فيهم القسيسون والرهبان كان حادثا سابقا وجاء هنا من قبيل التذكير والتدعيم والتعليل لما قررته من كون النصارى أقرب مودة إلى المسلمين. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في هوية أصحاب هذا المشهد. ومن الروايات ما يؤيد ما سوغناه من أن المشهد ليس جديدا. فهناك رواية تذكر أن الآيات عنت النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا حينما سمعوا القرآن من مهاجري المسلمين. ورواية تذكر أنها في صدد إيمان وفد حبشي أرسله النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اختلاف في عدده بين ١٢ وبين ٧٠. ورواية تذكر أن هذا الوفد جاء مع جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في الحبشة حينما عادوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ورواية تذكر أنهم جماعة من النصارى كانوا على شريعة عيسى الأصلية دون ذكر هويتهم. ورواية تذكر أنهم نصارى نجران اليمن أو وفدهم. ورواية تذكر أنهم وفد رومي قدم من الشام.
والوصف يلهم أن المشهد كان في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والروايات تذكر أن وفد نصارى نجران رجع بدون أن يؤمن، على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة آل عمران ( ٣٤ – ٦٤ ) وعلى هذا فإما أن يكون أصحاب هذا المشهد وفدا حبشيا جاء إلى المدينة مرسلا من النجاشي لمقابلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرف عنه ما عرف من المهاجرين، وربما جاء معهم حين رجعوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. أو وفدا من الشام وأطرافها ؛ حيث كانت النصرانية سائدة. وقد يستلهم من الوصف أن الوفد كان يفهم العربية أو كان منهم من يفهمها. فهذا التأثر الشديد يرجح أن يكون من أسلوب القرآن وفحواه وروحانيته معا مما قد يتأثر به العارف بالعربية أكثر. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون من نصارى الشام أو أطرافها التي كانت مأهولة بنصارى العرب والمستعربين من الأقوام العربية الجنس.
ولقد قال ابن كثير : إن هذا المشهد هو للذين ذكر إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في آيات آل عمران ( ١٩٩ ) والإسراء ( ١٠٧ و ١٠٨ ) والقصص ( ٥٢ – ٥٥ ) وهذا القول يؤيد تسويغنا أيضا، وإن كنا نرجح أنه مشهد آخر لوفد قادم إلى المدينة من الخارج في حين أن المشاهد المذكورة في آيات سورة آل عمران والإسراء والقصص هي على الأرجح لأناس كانوا مقيمين بين ظهراني المسلمين في مكة والمدينة. وإنه ليصح أن يقال بناء على ذلك : إن أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انتشرت إلى خارج الجزيرة، فأثارت الأفكار ولفتت الأنظار، وجعلت بعض رهبان النصارى وقسيسيهم، وبتعبير آخر علماءهم الذين يستطيعون الحجاج والجدل ووزن الأقوال ويرغبون في معرفة وقائع الأمور وحقائقها، والوقوف عليها بأنفسهم يفدون إلى المدينة ليروا هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعوا منه ويحاجوه ويجادلوه. وقد تأثر الوافدون بما رأوا وسمعوا ولمسوا من قوة الحق والروحانية والتطابق مع م جاء به رسل الله السابقون فصدقوا وآمنوا. وخطورة هذا الحادث عظيمة جدا، كما هو المتبادر من حيث سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية. ومن المحتمل جدا أن يكون لكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسله الذين أرسلهم أثر في هذه الوفادة.
وإذا ما أضفنا هذا المشهد إلى ما احتوته آيات آل عمران والإسراء والقصص المذكورة آنفا ثم آيات البقرة ( ١٢١ ) وآل عمران ( ١١٣ – ١١٥ ) والنساء ( ١٦٢ ) والرعد ( ٣٦ ) والأحقاف ( ١٠ ) التي تذكر إيمان بعض أهل الكتاب وأهل العلم منهم من يهود ونصارى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن يظهر أن هذه المشاهد قد تكررت في العهدين المكي والمدني في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذا شهادة عيان قوية صادقة على ما كان لروحانية القرآن وروحانية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية الدعوة من تأثير في كل من كان يسمعها بعقله وقلبه ومنطقه، وكان رائده الحق والهدى، ولم يكن خبيث الطوية متعمدا للعناد والجحود من الكتابيين وعلمائهم ورؤساء دنيهم في مقدمتهم. وهذا هو الذي قرره القرآن في صدد مستمعي آيات القرآن والدعوة النبوية إذا كانوا من الفئة الأولى، كما جاء في آيات عديدة، منها آية سورة يس ( ١١ ) هذه ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ﴾ وآية سورة السجدة :﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( ١٥ ) ﴾ وإذا كان جمهرة اليهود في الحجاز الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤمنوا، ففي القرآن شواهد كثيرة على أن هذا كان لأسباب عديدة لا تمت إلى صدق دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية رسالته.
وفي السلسلة التي نحن بصددها آيات تتضمن أسباب ذلك كما أن مثل هذه الأسباب واردة في السلاسل الواردة في حق اليهود في سور البقرة وآل عمران والنساء. والآيات القرآنية المكية والمدنية تلهم أن أكثر النصارى في الحجاز آمنوا بالرسالة النبوية ؛ لأنهم لم يكن لديهم من الأسباب ما كان لدى اليهود فضلا عما كانوا عليه من دماثة خلق وحسن طوية نوه بها القرآن في الآيات التي نحن في صددها وفي آية سورة الحديد هذه :﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ﴾ ( ٢٧ ). ولم يمض على فتح المسلمين بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية إلا ردح قصير، حتى أخذ النصارى فيها يقبلون على اعتناق الإسلام إلى أن اعتنقه سوادهم الأعظم. وشاء بعضهم أن يحتفظوا بدينهم فكان لهم ذلك. اتساقا مع حرية التدين التي قررها القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة ( الكافرون ).
ونحن نعتقد أن موقف هؤلاء كان متأثرا بأسباب مادية ودنيوية أكثر من كل شيء. وقد يكون أكثرهم من الرهبان الذين كانوا يجنون ثمرات كثيرة من موارد الأديرة التي كانت تحت أيديهم. ولعل هذا ما قررت واقعة المشاهد آية سورة التوبة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾( ٣٤ ).
ولقد ظل هذا الواقع بشكليه يتكرر في كل مكان وزمان. فمن استطاع أن يتغلب على أنانيته وهواه، ويتفلت من تأثير المنافع المادية والتعصب الأعمى يؤمن بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن انساق بأنانيته وهواه فأعمياه عن الحق والحقيقة وجعلاه يتعصب تعصبا أعمى ظل مكابرا مناوئا، وظل يستجيب للتحريض والإغراء والتهويش والمكائد ضد الإسلام والمسلمين.
وما دام القرآن قد وصف النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وصفهم به من دماثة وخلق وحسن طوية ورحمة ورأفة، وبأنهم أقرب الناس مودة للمسلمين فيصح القول : إن هذه الصفات المحببة هي نتيجة لتلقينات المسيحية السمحاء، ولقد كان بعضهم لا يكتفون بعدم الاستجابة إلى الإسلام، بل يقفون من الإسلام والمسلمين موقف المناوئ الباغي والمكابر المكائد المعادي، ولا يزال هذا يظهر في كل ظروف فيكون أصحاب ذلك منحرفين عن تلك التلقينات.
ووصف اليهود بأنهم أعداء المسلمين قد ورد في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء ( ١ )١. غير أن في هذا الوصف الذي جاء في الآيات معنى خاصا ؛ حيث يفيد أنهم من أشد أعدائهم. وليس من ريب في أن هذا قد كان قائما على مواقف ومشاهد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن المعجزات القرآنية أن هذا يتكرر اليوم بأشد صوره.
ومهما يكن من

﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ( ١ ) وَرُهْبَانًا ( ٢ ) وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( ٨٢ ) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٨٣ ) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( ٨٤ ) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( ٨٥ ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ٨٦ ) ﴾ ( ٨٢ – ٨٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى......... ﴾
والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا توكيديا بأن أشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا، وأقربهم مودة هم النصارى. وتعليلا لهذه المودة هو أنهم كانوا متواضعين لا يستكبرون عن الحق واتباعه. ومشهدا من مشاهد إيمان جماعة منهم فيهم القسيسون والرهبان كتعليل آخر. وقد تضمن المشهد صورة رائعة لإيمان هذه الجماعة. وأثر ما تلاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن عليهم ؛ حيث فاضت أعينهم من الدمع حينما سمعوا ذلك ابتهاجا بالحق الذي انطوى فيه وعرفوه من قبل. وحيث أعلنوا إيمانهم ودعوة الله أن يكتبهم في سجل المؤمنين الشاهدين المصدقين، وتساءلوا عما إذا كان يصح أن لا يصدقوا ويؤمنوا بالله والحق الذي سمعوه عن الله في حين أنهم يأملون من الله أن يجعلهم في جملة عباده الصالحين. واحتوت الآيات تقريرا بأن الله عز وجل قد أثابهم على ما وقع منهم بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وهو جزاء المحسنين، وبأن الذين كفروا هم أصحاب الجحيم.
وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه :( إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فقالوا : لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله :﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ................... ﴾ الخ الآيات. والحديث ليس من الصحاح. ويقتضي أن تكون بعض الآيات نزل لحدته، كما يفيد أن الآيات نزلت في حادث جديد. والآيات منسجمة مرتبط أولها بآخرها. والتمعن فيها وفي السياق السابق لها يسوغ الترجيح أنها لم تنزل في حادث جديد، وأنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. فبعد أن استمرت الآيات توالى في وصف انحرافات الكتابيين الدينية بصورة عامة. وفي وصف مواقف اليهود الكيدية للدعوة المحمدية والمسلمين ووصف أخلاقهم الخبيثة ومناقضتهم لمبادئ الإيمان بالله ووحدته جاءت هذه الآيات خاتمة، واحتوت موقف وحقيقة كل من اليهود والنصارى من المسلمين. وأن المشهد الواقعي الرائع الذي احتوت حكايته الآيات بإيمان جماعة من النصارى فيهم القسيسون والرهبان كان حادثا سابقا وجاء هنا من قبيل التذكير والتدعيم والتعليل لما قررته من كون النصارى أقرب مودة إلى المسلمين. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في هوية أصحاب هذا المشهد. ومن الروايات ما يؤيد ما سوغناه من أن المشهد ليس جديدا. فهناك رواية تذكر أن الآيات عنت النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا حينما سمعوا القرآن من مهاجري المسلمين. ورواية تذكر أنها في صدد إيمان وفد حبشي أرسله النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اختلاف في عدده بين ١٢ وبين ٧٠. ورواية تذكر أن هذا الوفد جاء مع جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في الحبشة حينما عادوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ورواية تذكر أنهم جماعة من النصارى كانوا على شريعة عيسى الأصلية دون ذكر هويتهم. ورواية تذكر أنهم نصارى نجران اليمن أو وفدهم. ورواية تذكر أنهم وفد رومي قدم من الشام.
والوصف يلهم أن المشهد كان في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والروايات تذكر أن وفد نصارى نجران رجع بدون أن يؤمن، على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة آل عمران ( ٣٤ – ٦٤ ) وعلى هذا فإما أن يكون أصحاب هذا المشهد وفدا حبشيا جاء إلى المدينة مرسلا من النجاشي لمقابلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرف عنه ما عرف من المهاجرين، وربما جاء معهم حين رجعوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. أو وفدا من الشام وأطرافها ؛ حيث كانت النصرانية سائدة. وقد يستلهم من الوصف أن الوفد كان يفهم العربية أو كان منهم من يفهمها. فهذا التأثر الشديد يرجح أن يكون من أسلوب القرآن وفحواه وروحانيته معا مما قد يتأثر به العارف بالعربية أكثر. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون من نصارى الشام أو أطرافها التي كانت مأهولة بنصارى العرب والمستعربين من الأقوام العربية الجنس.
ولقد قال ابن كثير : إن هذا المشهد هو للذين ذكر إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في آيات آل عمران ( ١٩٩ ) والإسراء ( ١٠٧ و ١٠٨ ) والقصص ( ٥٢ – ٥٥ ) وهذا القول يؤيد تسويغنا أيضا، وإن كنا نرجح أنه مشهد آخر لوفد قادم إلى المدينة من الخارج في حين أن المشاهد المذكورة في آيات سورة آل عمران والإسراء والقصص هي على الأرجح لأناس كانوا مقيمين بين ظهراني المسلمين في مكة والمدينة. وإنه ليصح أن يقال بناء على ذلك : إن أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انتشرت إلى خارج الجزيرة، فأثارت الأفكار ولفتت الأنظار، وجعلت بعض رهبان النصارى وقسيسيهم، وبتعبير آخر علماءهم الذين يستطيعون الحجاج والجدل ووزن الأقوال ويرغبون في معرفة وقائع الأمور وحقائقها، والوقوف عليها بأنفسهم يفدون إلى المدينة ليروا هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعوا منه ويحاجوه ويجادلوه. وقد تأثر الوافدون بما رأوا وسمعوا ولمسوا من قوة الحق والروحانية والتطابق مع م جاء به رسل الله السابقون فصدقوا وآمنوا. وخطورة هذا الحادث عظيمة جدا، كما هو المتبادر من حيث سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية. ومن المحتمل جدا أن يكون لكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسله الذين أرسلهم أثر في هذه الوفادة.
وإذا ما أضفنا هذا المشهد إلى ما احتوته آيات آل عمران والإسراء والقصص المذكورة آنفا ثم آيات البقرة ( ١٢١ ) وآل عمران ( ١١٣ – ١١٥ ) والنساء ( ١٦٢ ) والرعد ( ٣٦ ) والأحقاف ( ١٠ ) التي تذكر إيمان بعض أهل الكتاب وأهل العلم منهم من يهود ونصارى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن يظهر أن هذه المشاهد قد تكررت في العهدين المكي والمدني في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذا شهادة عيان قوية صادقة على ما كان لروحانية القرآن وروحانية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية الدعوة من تأثير في كل من كان يسمعها بعقله وقلبه ومنطقه، وكان رائده الحق والهدى، ولم يكن خبيث الطوية متعمدا للعناد والجحود من الكتابيين وعلمائهم ورؤساء دنيهم في مقدمتهم. وهذا هو الذي قرره القرآن في صدد مستمعي آيات القرآن والدعوة النبوية إذا كانوا من الفئة الأولى، كما جاء في آيات عديدة، منها آية سورة يس ( ١١ ) هذه ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ﴾ وآية سورة السجدة :﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( ١٥ ) ﴾ وإذا كان جمهرة اليهود في الحجاز الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤمنوا، ففي القرآن شواهد كثيرة على أن هذا كان لأسباب عديدة لا تمت إلى صدق دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية رسالته.
وفي السلسلة التي نحن بصددها آيات تتضمن أسباب ذلك كما أن مثل هذه الأسباب واردة في السلاسل الواردة في حق اليهود في سور البقرة وآل عمران والنساء. والآيات القرآنية المكية والمدنية تلهم أن أكثر النصارى في الحجاز آمنوا بالرسالة النبوية ؛ لأنهم لم يكن لديهم من الأسباب ما كان لدى اليهود فضلا عما كانوا عليه من دماثة خلق وحسن طوية نوه بها القرآن في الآيات التي نحن في صددها وفي آية سورة الحديد هذه :﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ﴾ ( ٢٧ ). ولم يمض على فتح المسلمين بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية إلا ردح قصير، حتى أخذ النصارى فيها يقبلون على اعتناق الإسلام إلى أن اعتنقه سوادهم الأعظم. وشاء بعضهم أن يحتفظوا بدينهم فكان لهم ذلك. اتساقا مع حرية التدين التي قررها القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة ( الكافرون ).
ونحن نعتقد أن موقف هؤلاء كان متأثرا بأسباب مادية ودنيوية أكثر من كل شيء. وقد يكون أكثرهم من الرهبان الذين كانوا يجنون ثمرات كثيرة من موارد الأديرة التي كانت تحت أيديهم. ولعل هذا ما قررت واقعة المشاهد آية سورة التوبة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾( ٣٤ ).
ولقد ظل هذا الواقع بشكليه يتكرر في كل مكان وزمان. فمن استطاع أن يتغلب على أنانيته وهواه، ويتفلت من تأثير المنافع المادية والتعصب الأعمى يؤمن بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن انساق بأنانيته وهواه فأعمياه عن الحق والحقيقة وجعلاه يتعصب تعصبا أعمى ظل مكابرا مناوئا، وظل يستجيب للتحريض والإغراء والتهويش والمكائد ضد الإسلام والمسلمين.
وما دام القرآن قد وصف النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وصفهم به من دماثة وخلق وحسن طوية ورحمة ورأفة، وبأنهم أقرب الناس مودة للمسلمين فيصح القول : إن هذه الصفات المحببة هي نتيجة لتلقينات المسيحية السمحاء، ولقد كان بعضهم لا يكتفون بعدم الاستجابة إلى الإسلام، بل يقفون من الإسلام والمسلمين موقف المناوئ الباغي والمكابر المكائد المعادي، ولا يزال هذا يظهر في كل ظروف فيكون أصحاب ذلك منحرفين عن تلك التلقينات.
ووصف اليهود بأنهم أعداء المسلمين قد ورد في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء ( ١ )١. غير أن في هذا الوصف الذي جاء في الآيات معنى خاصا ؛ حيث يفيد أنهم من أشد أعدائهم. وليس من ريب في أن هذا قد كان قائما على مواقف ومشاهد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن المعجزات القرآنية أن هذا يتكرر اليوم بأشد صوره.
ومهما يكن من
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ( ١ ) وَرُهْبَانًا ( ٢ ) وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( ٨٢ ) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٨٣ ) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( ٨٤ ) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( ٨٥ ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ٨٦ ) ﴾ ( ٨٢ – ٨٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى......... ﴾
والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا توكيديا بأن أشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا، وأقربهم مودة هم النصارى. وتعليلا لهذه المودة هو أنهم كانوا متواضعين لا يستكبرون عن الحق واتباعه. ومشهدا من مشاهد إيمان جماعة منهم فيهم القسيسون والرهبان كتعليل آخر. وقد تضمن المشهد صورة رائعة لإيمان هذه الجماعة. وأثر ما تلاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن عليهم ؛ حيث فاضت أعينهم من الدمع حينما سمعوا ذلك ابتهاجا بالحق الذي انطوى فيه وعرفوه من قبل. وحيث أعلنوا إيمانهم ودعوة الله أن يكتبهم في سجل المؤمنين الشاهدين المصدقين، وتساءلوا عما إذا كان يصح أن لا يصدقوا ويؤمنوا بالله والحق الذي سمعوه عن الله في حين أنهم يأملون من الله أن يجعلهم في جملة عباده الصالحين. واحتوت الآيات تقريرا بأن الله عز وجل قد أثابهم على ما وقع منهم بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وهو جزاء المحسنين، وبأن الذين كفروا هم أصحاب الجحيم.
وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه :( إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فقالوا : لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله :﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ................... ﴾ الخ الآيات. والحديث ليس من الصحاح. ويقتضي أن تكون بعض الآيات نزل لحدته، كما يفيد أن الآيات نزلت في حادث جديد. والآيات منسجمة مرتبط أولها بآخرها. والتمعن فيها وفي السياق السابق لها يسوغ الترجيح أنها لم تنزل في حادث جديد، وأنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. فبعد أن استمرت الآيات توالى في وصف انحرافات الكتابيين الدينية بصورة عامة. وفي وصف مواقف اليهود الكيدية للدعوة المحمدية والمسلمين ووصف أخلاقهم الخبيثة ومناقضتهم لمبادئ الإيمان بالله ووحدته جاءت هذه الآيات خاتمة، واحتوت موقف وحقيقة كل من اليهود والنصارى من المسلمين. وأن المشهد الواقعي الرائع الذي احتوت حكايته الآيات بإيمان جماعة من النصارى فيهم القسيسون والرهبان كان حادثا سابقا وجاء هنا من قبيل التذكير والتدعيم والتعليل لما قررته من كون النصارى أقرب مودة إلى المسلمين. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في هوية أصحاب هذا المشهد. ومن الروايات ما يؤيد ما سوغناه من أن المشهد ليس جديدا. فهناك رواية تذكر أن الآيات عنت النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا حينما سمعوا القرآن من مهاجري المسلمين. ورواية تذكر أنها في صدد إيمان وفد حبشي أرسله النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اختلاف في عدده بين ١٢ وبين ٧٠. ورواية تذكر أن هذا الوفد جاء مع جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في الحبشة حينما عادوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ورواية تذكر أنهم جماعة من النصارى كانوا على شريعة عيسى الأصلية دون ذكر هويتهم. ورواية تذكر أنهم نصارى نجران اليمن أو وفدهم. ورواية تذكر أنهم وفد رومي قدم من الشام.
والوصف يلهم أن المشهد كان في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والروايات تذكر أن وفد نصارى نجران رجع بدون أن يؤمن، على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة آل عمران ( ٣٤ – ٦٤ ) وعلى هذا فإما أن يكون أصحاب هذا المشهد وفدا حبشيا جاء إلى المدينة مرسلا من النجاشي لمقابلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرف عنه ما عرف من المهاجرين، وربما جاء معهم حين رجعوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. أو وفدا من الشام وأطرافها ؛ حيث كانت النصرانية سائدة. وقد يستلهم من الوصف أن الوفد كان يفهم العربية أو كان منهم من يفهمها. فهذا التأثر الشديد يرجح أن يكون من أسلوب القرآن وفحواه وروحانيته معا مما قد يتأثر به العارف بالعربية أكثر. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون من نصارى الشام أو أطرافها التي كانت مأهولة بنصارى العرب والمستعربين من الأقوام العربية الجنس.
ولقد قال ابن كثير : إن هذا المشهد هو للذين ذكر إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في آيات آل عمران ( ١٩٩ ) والإسراء ( ١٠٧ و ١٠٨ ) والقصص ( ٥٢ – ٥٥ ) وهذا القول يؤيد تسويغنا أيضا، وإن كنا نرجح أنه مشهد آخر لوفد قادم إلى المدينة من الخارج في حين أن المشاهد المذكورة في آيات سورة آل عمران والإسراء والقصص هي على الأرجح لأناس كانوا مقيمين بين ظهراني المسلمين في مكة والمدينة. وإنه ليصح أن يقال بناء على ذلك : إن أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انتشرت إلى خارج الجزيرة، فأثارت الأفكار ولفتت الأنظار، وجعلت بعض رهبان النصارى وقسيسيهم، وبتعبير آخر علماءهم الذين يستطيعون الحجاج والجدل ووزن الأقوال ويرغبون في معرفة وقائع الأمور وحقائقها، والوقوف عليها بأنفسهم يفدون إلى المدينة ليروا هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعوا منه ويحاجوه ويجادلوه. وقد تأثر الوافدون بما رأوا وسمعوا ولمسوا من قوة الحق والروحانية والتطابق مع م جاء به رسل الله السابقون فصدقوا وآمنوا. وخطورة هذا الحادث عظيمة جدا، كما هو المتبادر من حيث سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية. ومن المحتمل جدا أن يكون لكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسله الذين أرسلهم أثر في هذه الوفادة.
وإذا ما أضفنا هذا المشهد إلى ما احتوته آيات آل عمران والإسراء والقصص المذكورة آنفا ثم آيات البقرة ( ١٢١ ) وآل عمران ( ١١٣ – ١١٥ ) والنساء ( ١٦٢ ) والرعد ( ٣٦ ) والأحقاف ( ١٠ ) التي تذكر إيمان بعض أهل الكتاب وأهل العلم منهم من يهود ونصارى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن يظهر أن هذه المشاهد قد تكررت في العهدين المكي والمدني في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذا شهادة عيان قوية صادقة على ما كان لروحانية القرآن وروحانية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية الدعوة من تأثير في كل من كان يسمعها بعقله وقلبه ومنطقه، وكان رائده الحق والهدى، ولم يكن خبيث الطوية متعمدا للعناد والجحود من الكتابيين وعلمائهم ورؤساء دنيهم في مقدمتهم. وهذا هو الذي قرره القرآن في صدد مستمعي آيات القرآن والدعوة النبوية إذا كانوا من الفئة الأولى، كما جاء في آيات عديدة، منها آية سورة يس ( ١١ ) هذه ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ﴾ وآية سورة السجدة :﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( ١٥ ) ﴾ وإذا كان جمهرة اليهود في الحجاز الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤمنوا، ففي القرآن شواهد كثيرة على أن هذا كان لأسباب عديدة لا تمت إلى صدق دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية رسالته.
وفي السلسلة التي نحن بصددها آيات تتضمن أسباب ذلك كما أن مثل هذه الأسباب واردة في السلاسل الواردة في حق اليهود في سور البقرة وآل عمران والنساء. والآيات القرآنية المكية والمدنية تلهم أن أكثر النصارى في الحجاز آمنوا بالرسالة النبوية ؛ لأنهم لم يكن لديهم من الأسباب ما كان لدى اليهود فضلا عما كانوا عليه من دماثة خلق وحسن طوية نوه بها القرآن في الآيات التي نحن في صددها وفي آية سورة الحديد هذه :﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ﴾ ( ٢٧ ). ولم يمض على فتح المسلمين بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية إلا ردح قصير، حتى أخذ النصارى فيها يقبلون على اعتناق الإسلام إلى أن اعتنقه سوادهم الأعظم. وشاء بعضهم أن يحتفظوا بدينهم فكان لهم ذلك. اتساقا مع حرية التدين التي قررها القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة ( الكافرون ).
ونحن نعتقد أن موقف هؤلاء كان متأثرا بأسباب مادية ودنيوية أكثر من كل شيء. وقد يكون أكثرهم من الرهبان الذين كانوا يجنون ثمرات كثيرة من موارد الأديرة التي كانت تحت أيديهم. ولعل هذا ما قررت واقعة المشاهد آية سورة التوبة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾( ٣٤ ).
ولقد ظل هذا الواقع بشكليه يتكرر في كل مكان وزمان. فمن استطاع أن يتغلب على أنانيته وهواه، ويتفلت من تأثير المنافع المادية والتعصب الأعمى يؤمن بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن انساق بأنانيته وهواه فأعمياه عن الحق والحقيقة وجعلاه يتعصب تعصبا أعمى ظل مكابرا مناوئا، وظل يستجيب للتحريض والإغراء والتهويش والمكائد ضد الإسلام والمسلمين.
وما دام القرآن قد وصف النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وصفهم به من دماثة وخلق وحسن طوية ورحمة ورأفة، وبأنهم أقرب الناس مودة للمسلمين فيصح القول : إن هذه الصفات المحببة هي نتيجة لتلقينات المسيحية السمحاء، ولقد كان بعضهم لا يكتفون بعدم الاستجابة إلى الإسلام، بل يقفون من الإسلام والمسلمين موقف المناوئ الباغي والمكابر المكائد المعادي، ولا يزال هذا يظهر في كل ظروف فيكون أصحاب ذلك منحرفين عن تلك التلقينات.
ووصف اليهود بأنهم أعداء المسلمين قد ورد في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء ( ١ )١. غير أن في هذا الوصف الذي جاء في الآيات معنى خاصا ؛ حيث يفيد أنهم من أشد أعدائهم. وليس من ريب في أن هذا قد كان قائما على مواقف ومشاهد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن المعجزات القرآنية أن هذا يتكرر اليوم بأشد صوره.
ومهما يكن من
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ( ١ ) وَرُهْبَانًا ( ٢ ) وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( ٨٢ ) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٨٣ ) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( ٨٤ ) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( ٨٥ ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ٨٦ ) ﴾ ( ٨٢ – ٨٦ ).

تعليق على الآية :

﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى......... ﴾
والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا توكيديا بأن أشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا، وأقربهم مودة هم النصارى. وتعليلا لهذه المودة هو أنهم كانوا متواضعين لا يستكبرون عن الحق واتباعه. ومشهدا من مشاهد إيمان جماعة منهم فيهم القسيسون والرهبان كتعليل آخر. وقد تضمن المشهد صورة رائعة لإيمان هذه الجماعة. وأثر ما تلاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن عليهم ؛ حيث فاضت أعينهم من الدمع حينما سمعوا ذلك ابتهاجا بالحق الذي انطوى فيه وعرفوه من قبل. وحيث أعلنوا إيمانهم ودعوة الله أن يكتبهم في سجل المؤمنين الشاهدين المصدقين، وتساءلوا عما إذا كان يصح أن لا يصدقوا ويؤمنوا بالله والحق الذي سمعوه عن الله في حين أنهم يأملون من الله أن يجعلهم في جملة عباده الصالحين. واحتوت الآيات تقريرا بأن الله عز وجل قد أثابهم على ما وقع منهم بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وهو جزاء المحسنين، وبأن الذين كفروا هم أصحاب الجحيم.
وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه :( إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فقالوا : لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله :﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ................... ﴾ الخ الآيات. والحديث ليس من الصحاح. ويقتضي أن تكون بعض الآيات نزل لحدته، كما يفيد أن الآيات نزلت في حادث جديد. والآيات منسجمة مرتبط أولها بآخرها. والتمعن فيها وفي السياق السابق لها يسوغ الترجيح أنها لم تنزل في حادث جديد، وأنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. فبعد أن استمرت الآيات توالى في وصف انحرافات الكتابيين الدينية بصورة عامة. وفي وصف مواقف اليهود الكيدية للدعوة المحمدية والمسلمين ووصف أخلاقهم الخبيثة ومناقضتهم لمبادئ الإيمان بالله ووحدته جاءت هذه الآيات خاتمة، واحتوت موقف وحقيقة كل من اليهود والنصارى من المسلمين. وأن المشهد الواقعي الرائع الذي احتوت حكايته الآيات بإيمان جماعة من النصارى فيهم القسيسون والرهبان كان حادثا سابقا وجاء هنا من قبيل التذكير والتدعيم والتعليل لما قررته من كون النصارى أقرب مودة إلى المسلمين. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في هوية أصحاب هذا المشهد. ومن الروايات ما يؤيد ما سوغناه من أن المشهد ليس جديدا. فهناك رواية تذكر أن الآيات عنت النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا حينما سمعوا القرآن من مهاجري المسلمين. ورواية تذكر أنها في صدد إيمان وفد حبشي أرسله النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اختلاف في عدده بين ١٢ وبين ٧٠. ورواية تذكر أن هذا الوفد جاء مع جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في الحبشة حينما عادوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ورواية تذكر أنهم جماعة من النصارى كانوا على شريعة عيسى الأصلية دون ذكر هويتهم. ورواية تذكر أنهم نصارى نجران اليمن أو وفدهم. ورواية تذكر أنهم وفد رومي قدم من الشام.
والوصف يلهم أن المشهد كان في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والروايات تذكر أن وفد نصارى نجران رجع بدون أن يؤمن، على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة آل عمران ( ٣٤ – ٦٤ ) وعلى هذا فإما أن يكون أصحاب هذا المشهد وفدا حبشيا جاء إلى المدينة مرسلا من النجاشي لمقابلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرف عنه ما عرف من المهاجرين، وربما جاء معهم حين رجعوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. أو وفدا من الشام وأطرافها ؛ حيث كانت النصرانية سائدة. وقد يستلهم من الوصف أن الوفد كان يفهم العربية أو كان منهم من يفهمها. فهذا التأثر الشديد يرجح أن يكون من أسلوب القرآن وفحواه وروحانيته معا مما قد يتأثر به العارف بالعربية أكثر. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون من نصارى الشام أو أطرافها التي كانت مأهولة بنصارى العرب والمستعربين من الأقوام العربية الجنس.
ولقد قال ابن كثير : إن هذا المشهد هو للذين ذكر إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في آيات آل عمران ( ١٩٩ ) والإسراء ( ١٠٧ و ١٠٨ ) والقصص ( ٥٢ – ٥٥ ) وهذا القول يؤيد تسويغنا أيضا، وإن كنا نرجح أنه مشهد آخر لوفد قادم إلى المدينة من الخارج في حين أن المشاهد المذكورة في آيات سورة آل عمران والإسراء والقصص هي على الأرجح لأناس كانوا مقيمين بين ظهراني المسلمين في مكة والمدينة. وإنه ليصح أن يقال بناء على ذلك : إن أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انتشرت إلى خارج الجزيرة، فأثارت الأفكار ولفتت الأنظار، وجعلت بعض رهبان النصارى وقسيسيهم، وبتعبير آخر علماءهم الذين يستطيعون الحجاج والجدل ووزن الأقوال ويرغبون في معرفة وقائع الأمور وحقائقها، والوقوف عليها بأنفسهم يفدون إلى المدينة ليروا هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعوا منه ويحاجوه ويجادلوه. وقد تأثر الوافدون بما رأوا وسمعوا ولمسوا من قوة الحق والروحانية والتطابق مع م جاء به رسل الله السابقون فصدقوا وآمنوا. وخطورة هذا الحادث عظيمة جدا، كما هو المتبادر من حيث سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية. ومن المحتمل جدا أن يكون لكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسله الذين أرسلهم أثر في هذه الوفادة.
وإذا ما أضفنا هذا المشهد إلى ما احتوته آيات آل عمران والإسراء والقصص المذكورة آنفا ثم آيات البقرة ( ١٢١ ) وآل عمران ( ١١٣ – ١١٥ ) والنساء ( ١٦٢ ) والرعد ( ٣٦ ) والأحقاف ( ١٠ ) التي تذكر إيمان بعض أهل الكتاب وأهل العلم منهم من يهود ونصارى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن يظهر أن هذه المشاهد قد تكررت في العهدين المكي والمدني في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذا شهادة عيان قوية صادقة على ما كان لروحانية القرآن وروحانية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية الدعوة من تأثير في كل من كان يسمعها بعقله وقلبه ومنطقه، وكان رائده الحق والهدى، ولم يكن خبيث الطوية متعمدا للعناد والجحود من الكتابيين وعلمائهم ورؤساء دنيهم في مقدمتهم. وهذا هو الذي قرره القرآن في صدد مستمعي آيات القرآن والدعوة النبوية إذا كانوا من الفئة الأولى، كما جاء في آيات عديدة، منها آية سورة يس ( ١١ ) هذه ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ﴾ وآية سورة السجدة :﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( ١٥ ) ﴾ وإذا كان جمهرة اليهود في الحجاز الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤمنوا، ففي القرآن شواهد كثيرة على أن هذا كان لأسباب عديدة لا تمت إلى صدق دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروحانية رسالته.
وفي السلسلة التي نحن بصددها آيات تتضمن أسباب ذلك كما أن مثل هذه الأسباب واردة في السلاسل الواردة في حق اليهود في سور البقرة وآل عمران والنساء. والآيات القرآنية المكية والمدنية تلهم أن أكثر النصارى في الحجاز آمنوا بالرسالة النبوية ؛ لأنهم لم يكن لديهم من الأسباب ما كان لدى اليهود فضلا عما كانوا عليه من دماثة خلق وحسن طوية نوه بها القرآن في الآيات التي نحن في صددها وفي آية سورة الحديد هذه :﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ﴾ ( ٢٧ ). ولم يمض على فتح المسلمين بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية إلا ردح قصير، حتى أخذ النصارى فيها يقبلون على اعتناق الإسلام إلى أن اعتنقه سوادهم الأعظم. وشاء بعضهم أن يحتفظوا بدينهم فكان لهم ذلك. اتساقا مع حرية التدين التي قررها القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة ( الكافرون ).
ونحن نعتقد أن موقف هؤلاء كان متأثرا بأسباب مادية ودنيوية أكثر من كل شيء. وقد يكون أكثرهم من الرهبان الذين كانوا يجنون ثمرات كثيرة من موارد الأديرة التي كانت تحت أيديهم. ولعل هذا ما قررت واقعة المشاهد آية سورة التوبة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾( ٣٤ ).
ولقد ظل هذا الواقع بشكليه يتكرر في كل مكان وزمان. فمن استطاع أن يتغلب على أنانيته وهواه، ويتفلت من تأثير المنافع المادية والتعصب الأعمى يؤمن بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن انساق بأنانيته وهواه فأعمياه عن الحق والحقيقة وجعلاه يتعصب تعصبا أعمى ظل مكابرا مناوئا، وظل يستجيب للتحريض والإغراء والتهويش والمكائد ضد الإسلام والمسلمين.
وما دام القرآن قد وصف النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وصفهم به من دماثة وخلق وحسن طوية ورحمة ورأفة، وبأنهم أقرب الناس مودة للمسلمين فيصح القول : إن هذه الصفات المحببة هي نتيجة لتلقينات المسيحية السمحاء، ولقد كان بعضهم لا يكتفون بعدم الاستجابة إلى الإسلام، بل يقفون من الإسلام والمسلمين موقف المناوئ الباغي والمكابر المكائد المعادي، ولا يزال هذا يظهر في كل ظروف فيكون أصحاب ذلك منحرفين عن تلك التلقينات.
ووصف اليهود بأنهم أعداء المسلمين قد ورد في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء ( ١ )١. غير أن في هذا الوصف الذي جاء في الآيات معنى خاصا ؛ حيث يفيد أنهم من أشد أعدائهم. وليس من ريب في أن هذا قد كان قائما على مواقف ومشاهد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن المعجزات القرآنية أن هذا يتكرر اليوم بأشد صوره.
ومهما يكن من
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٨٧ ) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾ ( ٨٧ – ٨٨ ).
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ................. ﴾ الخ
وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث وروايات
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت نهيا للمسلمين عن تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات على أنفسهم وعن تجاوز حدوده، وأمرا بالأكل مما رزقهم الله من الحلال الطيب مع التمسك بواجب تقواه، وهو الذي يؤمنون به. وواضح من روح الآية ونصها أن جملة :﴿ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ﴾ لا تعني النهي عن جعل الحلال حراما دائما، وإنما تعني النهي عن حرمان النفس بالاستمتاع بما هو مباح حلال من الطيبات.
والآيات فصل جديد كما تبدو. وقد روى الطبري ( ١ )١ عن ابن عباس وعكرمة والسدي وقتادة وغيرهم روايات عديدة مختلفة الصيغ متفقة المعنى كسبب لنزول الآيات. وهي أن جماعة من المسلمين اختلفت الروايات في أسمائهم وفيمن سمتهم من كان من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود أرادوا أن يقلدوا الرهبان والقسيسين فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وتفرغوا للعبادة من صلاة وذكر وصوم، وأرادوا أن يتخذوا لأنفسهم صوامع، ومنهم من حاول أن يقطع مذاكيره. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكرهه، وأغلظ لهم المقال ثم قال :( إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد. شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. وإني لأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن رغب عن سنتي فليس مني فلم تلبث الآيتان أن نزلتا )، ويروي الطبري صيغا أخرى مما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم للجماعة. منها :( إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم )، ومنها :( لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ) ومنها :( ليس في ديني ترك النساء واللحم واتخاذ الصوامع ). وهذه الروايات كسبب لنزول الآيات لم ترد في الصحاح. وقد وردت أحاديث صحيحة فيها شيء مما في هذه الروايات دون ذكر كون الآيات نزلت في مناسبتها. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو قال :( أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أقول : لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أأنت تقول ذلك ؟ فقال : قد قلته يا رسول الله. فقال : إنك لن تستطيع، فصم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا ) ( ١ )٢. وروى الشيخان والنسائي عن أنس قال :( جاء إلى بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة رهط يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر : إني أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ( ٢ )٣. وروى أبو داود عن عائشة :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال : يا عثمان أرغبت عن سنتي ؟ قال : لا والله يا رسول الله، ولكني سنتك أطلب قال : فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا فصم وأفطر وصل ونم ) ( ٣ )٤. وهناك حديث رواه الترمذي عن ابن عباس يذكر سبب نزول الآية جاء فيه :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت علي اللحم، فأنزل الله الآية ) ( ١ )٥. ومع ذلك فإن الطبري يروي رواية أخرى كسبب لنزولها جاء فيها :( أن ضيفا نزل على عبد الله بن رواحة، فأخرت امرأته عشاءه إلى أن يحضر زوجها ؛ لأن الطعام قليل، فلما جاء وعرف ذلك غضب وقال : لن أذوقه فقالت : وأنا لن أذوقه ما لم تذقه، فقال الضيف : وأنا لن أذوقه ما لم تذوقاه. فتراجع ابن واحة وقال لامرأته : قربي طعامك وكلوا باسم الله. وغدا فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر. فقال له : أحسنت وأنزل الله الآية ) ومهما يكن من أمر، فالمتبادر أن الآيات نزلت في مناسبة ما مما ذكرته الأحاديث والروايات. وإنا كنا نرجح الرواية الأولى التي ذكرت الأحاديث الصحيحة محتواها، وبعض الأسماء التي جاءت فيها ؛ لأنها أكثر تساوقا مع فحوى الآيات وما سبقها، وإذا صح هذا فتكون الآيات تليت في المناسبات الأخرى، فالتبس الأمر على الرواة. والله أعلم. وإذا صح ترجيحنا فيصح القول : إن الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت بعدها. والله أعلم. والحادث الذي ذكرته الرواية الأولى وأيدت فحواه الأحاديث الصحيحة صورة رائعة لاستغراق المؤمنين الأولين في عبادة الله والرغبة في التقرب إليه.
والآيتان في حد ذاتهما احتوتا كما هو المتبادر تشريعا وتلقينا عامي الشمول للمسلمين. وهما رائعان ومتسقان مع المبادئ العامة التي قررها القرآن، ومتمشيان مع طبائع الأمور. ومن مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود والظهور فهذه الشريعة لا تدعو إلى التنسك والزهد في أطايب العيش، بل وتنكر ذلك. وقد استنكرته آية سورة الأعراف هذه :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾ ( ٣٢ ) وقد عاتب الله رسوله على شيء منه في حادث عائلي ما مر شرحه في سياق تفسير سورة التحريم. وكل ما تأمر به الشريعة الإسلامية هو مراعاة القصد والاعتدال وتحري الطيب الحلال.
ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ) ( ١ )٦. وروى الطبرسي حديثا آخر جاء فيه :( لا رهبانية في الإسلام ) ( ٢ )٧.
ولقد تعددت أقوال المؤولين التي يرويها المفسرون في تأويل جملة :﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ حيث قيل : إنها بمعنى لا تتجاوزوا ما رسم الله من الحلال والحرام كما قيل : إنها بمعنى لا تستنوا بغير سنة الإسلام. أو إنها بمعنى لا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام، وكل هذه المعاني مما تتحمله الجملة. وقد خطر لنا معنى آخر، وهو عدم الإسراف ووجوب الاعتدال فيما أحله الله للمسلمين من طيبات الحياة على ضوء آية الأعراف هذه :﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين ( ٣١ ) ﴾ والله تعالى أعلم.
١ لقد روى المفسرون الآخرون ما رواه الطبري فاكتفيا بالعزو إليه..
٢ التاج ج ٢ ص ٩٠ و ٩١..
٣ المصدر نفسه ص ٢٥٤ ومعنى تقاولها استقلوها..
٤ المصدر نفسه ص ٩٢ وعثمان بن مظعون أحد الحالفين والناذرين على ما جاء في الرواية الأولى..
٥ التاج ج ٣ ص ٩٣..
٦ انظر تفسير آية الحديد (٢٧) في تفسير ابن كثير..
٧ انظر تفسير الطبرسي لهذه الآية أيضا..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٧:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٨٧ ) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾ ( ٨٧ – ٨٨ ).

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ................. ﴾ الخ
وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث وروايات
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت نهيا للمسلمين عن تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات على أنفسهم وعن تجاوز حدوده، وأمرا بالأكل مما رزقهم الله من الحلال الطيب مع التمسك بواجب تقواه، وهو الذي يؤمنون به. وواضح من روح الآية ونصها أن جملة :﴿ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ﴾ لا تعني النهي عن جعل الحلال حراما دائما، وإنما تعني النهي عن حرمان النفس بالاستمتاع بما هو مباح حلال من الطيبات.
والآيات فصل جديد كما تبدو. وقد روى الطبري ( ١ )١ عن ابن عباس وعكرمة والسدي وقتادة وغيرهم روايات عديدة مختلفة الصيغ متفقة المعنى كسبب لنزول الآيات. وهي أن جماعة من المسلمين اختلفت الروايات في أسمائهم وفيمن سمتهم من كان من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود أرادوا أن يقلدوا الرهبان والقسيسين فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وتفرغوا للعبادة من صلاة وذكر وصوم، وأرادوا أن يتخذوا لأنفسهم صوامع، ومنهم من حاول أن يقطع مذاكيره. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكرهه، وأغلظ لهم المقال ثم قال :( إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد. شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. وإني لأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن رغب عن سنتي فليس مني فلم تلبث الآيتان أن نزلتا )، ويروي الطبري صيغا أخرى مما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم للجماعة. منها :( إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم )، ومنها :( لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ) ومنها :( ليس في ديني ترك النساء واللحم واتخاذ الصوامع ). وهذه الروايات كسبب لنزول الآيات لم ترد في الصحاح. وقد وردت أحاديث صحيحة فيها شيء مما في هذه الروايات دون ذكر كون الآيات نزلت في مناسبتها. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو قال :( أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أقول : لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أأنت تقول ذلك ؟ فقال : قد قلته يا رسول الله. فقال : إنك لن تستطيع، فصم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا ) ( ١ )٢. وروى الشيخان والنسائي عن أنس قال :( جاء إلى بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة رهط يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر : إني أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ( ٢ )٣. وروى أبو داود عن عائشة :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال : يا عثمان أرغبت عن سنتي ؟ قال : لا والله يا رسول الله، ولكني سنتك أطلب قال : فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا فصم وأفطر وصل ونم ) ( ٣ )٤. وهناك حديث رواه الترمذي عن ابن عباس يذكر سبب نزول الآية جاء فيه :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت علي اللحم، فأنزل الله الآية ) ( ١ )٥. ومع ذلك فإن الطبري يروي رواية أخرى كسبب لنزولها جاء فيها :( أن ضيفا نزل على عبد الله بن رواحة، فأخرت امرأته عشاءه إلى أن يحضر زوجها ؛ لأن الطعام قليل، فلما جاء وعرف ذلك غضب وقال : لن أذوقه فقالت : وأنا لن أذوقه ما لم تذقه، فقال الضيف : وأنا لن أذوقه ما لم تذوقاه. فتراجع ابن واحة وقال لامرأته : قربي طعامك وكلوا باسم الله. وغدا فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر. فقال له : أحسنت وأنزل الله الآية ) ومهما يكن من أمر، فالمتبادر أن الآيات نزلت في مناسبة ما مما ذكرته الأحاديث والروايات. وإنا كنا نرجح الرواية الأولى التي ذكرت الأحاديث الصحيحة محتواها، وبعض الأسماء التي جاءت فيها ؛ لأنها أكثر تساوقا مع فحوى الآيات وما سبقها، وإذا صح هذا فتكون الآيات تليت في المناسبات الأخرى، فالتبس الأمر على الرواة. والله أعلم. وإذا صح ترجيحنا فيصح القول : إن الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت بعدها. والله أعلم. والحادث الذي ذكرته الرواية الأولى وأيدت فحواه الأحاديث الصحيحة صورة رائعة لاستغراق المؤمنين الأولين في عبادة الله والرغبة في التقرب إليه.
والآيتان في حد ذاتهما احتوتا كما هو المتبادر تشريعا وتلقينا عامي الشمول للمسلمين. وهما رائعان ومتسقان مع المبادئ العامة التي قررها القرآن، ومتمشيان مع طبائع الأمور. ومن مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود والظهور فهذه الشريعة لا تدعو إلى التنسك والزهد في أطايب العيش، بل وتنكر ذلك. وقد استنكرته آية سورة الأعراف هذه :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾ ( ٣٢ ) وقد عاتب الله رسوله على شيء منه في حادث عائلي ما مر شرحه في سياق تفسير سورة التحريم. وكل ما تأمر به الشريعة الإسلامية هو مراعاة القصد والاعتدال وتحري الطيب الحلال.
ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ) ( ١ )٦. وروى الطبرسي حديثا آخر جاء فيه :( لا رهبانية في الإسلام ) ( ٢ )٧.
ولقد تعددت أقوال المؤولين التي يرويها المفسرون في تأويل جملة :﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ حيث قيل : إنها بمعنى لا تتجاوزوا ما رسم الله من الحلال والحرام كما قيل : إنها بمعنى لا تستنوا بغير سنة الإسلام. أو إنها بمعنى لا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام، وكل هذه المعاني مما تتحمله الجملة. وقد خطر لنا معنى آخر، وهو عدم الإسراف ووجوب الاعتدال فيما أحله الله للمسلمين من طيبات الحياة على ضوء آية الأعراف هذه :﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين ( ٣١ ) ﴾ والله تعالى أعلم.
١ لقد روى المفسرون الآخرون ما رواه الطبري فاكتفيا بالعزو إليه..
٢ التاج ج ٢ ص ٩٠ و ٩١..
٣ المصدر نفسه ص ٢٥٤ ومعنى تقاولها استقلوها..
٤ المصدر نفسه ص ٩٢ وعثمان بن مظعون أحد الحالفين والناذرين على ما جاء في الرواية الأولى..
٥ التاج ج ٣ ص ٩٣..
٦ انظر تفسير آية الحديد (٢٧) في تفسير ابن كثير..
٧ انظر تفسير الطبرسي لهذه الآية أيضا..

﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ( ١ ) وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ( ٢ ) فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٨٩ ) ﴾ ( ٨٩ ).
( ١ ) اللغو في أيمانكم : روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عن اللغو في الأيمان : هو كلام الرجل في بيته : كلا والله وبلى والله ( ٣ )١.
( ٢ ) بما عقدتهم الأيمان : بما وثقتم الأيمان أو ضممتم في أنفسكم عليه، أو أوجبتموه على أنفسكم باليمين أو تعمدتم الالتزام به.
تعليق على الآية :
﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ..................... ﴾ الخ
وما ينطوي من أحكام وتلقين ونبذة مقتبسة في أنواع الأقسام في الإسلام
وما يجوز وما لا يجوز.
عبارة الآية واضحة وما فيها :
( ١ ) إيذان للمسلمين بأن الله تعالى لا يؤاخذهم على ما يمتزج في كلامهم من لغو الأيمان المعتاد في أساليب الخطاب، وإنما يؤاخذهم بالأيمان التي يعزمون على أنفسهم بها على أمر معين سلبا أو إيجابا وعن تصميم.
( ٢ ) وبيان لما يجب عليهم في مثل هذه الحال. فإذا أقسم المسلم يمينا فيها عزيمة على الإقدام على عمل ما، أو الامتناع عن عمل ما، ثم بدا له أن يرجع عنها أو كان الأوجب الرجوع عنها حسب نوع العزيمة وماهيتها من الإباحة والكراهية فعليه أن يقدم كفارة عن يمينه، وهي إطعام عشرة مساكين من نوع أوسط طعام أسرة الحالف أو كسوتهم أو عتق رقبة. فمن لم يستطع فعل ذلك فعليه أن يصوم بدل الكفارة ثلاثة أيام. وفي هذه الحالة لا يبقى حرج عليه من اليمين فيفعل أو لا يفعل ما حلف عليه سلبا أو إيجابا.
( ٣ ) وتوصية المسلمين بوجوب حفظ أيمانهم.
وقد انتهت الآية بتقرير كون الله إنما ينزل آياته متضمنة مثل هذه الأحكام والبيانات حتى يشعر المسلمون المخاطبون بفضله ويقوموا بواجب شكره. مما جرى النظم القرآني عليه في تشريعات وتقريرات عديدة.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أنه لما نزلت الآيات السابقة قال الذين حرموا على أنفسهم طيات الحياة : ما نصنع يا رسول الله بأيماننا التي حلفناها على ذلك ؟ فأنزل الله الآية.
والرواية محتملة الصحة. ولا يبعد مع ذلك أن يكون خبر عزيمة الذين اعتزموا التنسك قد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع خبر اليمين وأن تكون الآية قد نزلت مع الآيتين السابقتين كفصل تام، فيه نهي عن تحريم التنسك وحرمان النفس من طيبات الحياة وحث أو إباحة الاستمتاع بالحلال الطيب، وتحلة لليمين معا.
والآية في حد ذاتها جملة تشريعية تامة في صدد الأيمان وكفارتها ؛ ولذلك أفردناها عن الآيتين السابقتين. وهي ثانية آية في هذا الصدد. ففي سورة البقرة آية تماثل الشطر الأول منها جاءت في معرض النهي عن اتخاذ اليمين وسيلة للامتناع عن الخير والإصلاح وتقوى الله. والآيتان متساوقتان. ويمكن أن تكون إحداهما متممة للأخرى فيما استهدفه القرآن من تلقين وتشريع في صدد أدب اليمين وتهذيب أخلاق المسلم وتوجيهه نحو الخير ومنعه أو حمايته من المزالق ومما يكرهه الله لعباده المؤمنين من أعمال ومواقف وعزائم.
ولقد روى المفسرون في صدد هذه الآية حديثا نبويا رواه الخمسة عن أبي موسى جاء فيه :( والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ) ( ١ )٢.
وهكذا يظهر من هذا الحديث ومن آية سورة البقرة ( ٢٢٤ ) التي جاء فيها ﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ﴾ شدة التساوق بين المبادئ القرآنية والتلقينات النبوية. وكون المهم في الإسلام هو عمل الخير وعدم الوقوع في الضار أو المنكر أو المكروه. فإذا حلف امرؤ يمينا على أمر يفعله أو لا يفعله وكان في تنفيذها ضرر وشر ومنكر ومكروه أو كان هناك ما هو خير منها فعليه الرجوع عنها مع التكفير هنا. ولا يجوز له في حال أن يتخذ اليمين وسيلة للامتناع عن الخير والبر والإصلاح أو لعمل ما فيه ضرر وشر ومنكر ومكروه. وفي هذا من التلقين والتهذيب ما يتسق مع مصلحة الإنسانية في كل ظرف ومكان. والتكفير عن اليمين هو بمثابة توبة إلى الله واعتذار وإعلان ندم. وقد جعلت الكفارة وسيلة لعمل البر في الوقت نفسه. وفي هذا ما فيه من التوجيه الجليل أيضا.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية في الأيمان اللغو، وفي اليمين الغموس، وفي اليمين المصبورة، وفي اليمين التي تحلف لاقتطاع مال المسلم وفي ما يصح الحلف به ولا يصح وفي عدم لزوم الكفارة لمن يستثني في يمينه الخ. أوردناها في سياق تفسير الآية ( ٢٢٤ ) من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة، ولقد أوردوا أقوالا متنوعة لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم ولأئمة الفقه في ما في الآيات من أحكام نوجزها ونعلق عليها فيما يلي :
١- هناك من ذهب إلى اعتبار اليمين التي يحلفها الحالف وهو يظن أنه يحلف صادقا ويكون الأمر على غير ذلك من باب اللغو أو الخطأ الذي لا يؤاخذ عليه. وهذا وجيه يؤيده نص آية سورة البقرة ( ٢٢٤ ).
٢- هناك من ذهب إلى أن اليمين التي يحلفها الحالف ليقتطع بها مال رجل مسلم لا تفيد الكفارة في التكفير عنها، ولا يخلو هذا من وجاهة مع القول : إن التوبة الصادقة مع إصلاح الضرر قد يضمنان غفران الله استلهاما من آيات التوبة في القرآن على ما شرحناه في سياق سورة البروج.
٣- هناك قول بأن تحريم المرء الطيبات على نفسه بدون يمين يوجب الكفارة. وقول إنه لا يوجب إذا لم يكن يمين. وهذا هو الأوجه ؛ لأن الكفارة شرعت لليمين. غير أن التحريم بدون عذر مشروع يظل مخالفا لنهي الله ومعرضا صاحبه لغضبه ما لم يتب عنه على ما هو المتبادر.
٤- هناك من فسر كلمة :﴿ أوسط ﴾ بمعنى المعتدل المعتاد، وهناك من فسرها بمعنى ( خير ) و ( أحسن ) فإذا كان أهل الحالف يأكلون اللحم والسمن والتمر والخبز ولو لم يكن ذلك دائما، فمن الواجب أن يكون طعام المساكين العشرة من ذلك. وإلى هذا فهناك اتساق على عدم جواز الإطعام من النوع الرديء الذي لا يأكله أهل الحالف عادة. وهذا وذاك حق متسق مع نص الآية وروحها. ويستتبع هذا القول : إنه إذا كان طعام أهل الحالف من الأنواع الرديئة مثل خبز الذرة والشعير والملح والبصل والخل والزيت فلا بأس على الحالف من أن يطعم المساكين منه أيضا. عملا بالمبدأ القرآني :﴿ ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ﴾.
٥- وهناك قوال بأن الطعام هو وجبة واحدة مشبعة. وقول إن قوت يوم كامل. أو غذاء أو عشاء. والآية تتحمل كل ذلك ومن السائغ القول إن على الميسور أن يفعل الأحسن.
٦- وهناك قول : إنه يصح جمع المساكين العشرة وإطعامهم أو إطعامهم متفرقين، وكل هذا وجيه. وعزا رشيد رضا إلى أبي حنيفة جواز إطعام مسكين واحدة عشرة أيام، ولا بأس في هذا وإن كان الأولى التزام النص وإطعام عشرة مساكين.
٧- وأجاز بعضهم إعطاء بدل عيني. والآية تذكر الطعام الذي يمكن أن يقال : إن المقصود به المهيأ للأكل. ولعل القائلين جوزوه ؛ لأنه يمكن أن يتحول إلى طعام مجز. وليس في هذا الرأي بأس فيما نرى. وقد اختلفوا في القدر، فقيل إنه مد من بر أو مد من تمر أو نصف صاع من بر أو نصف صاع من تمر. أو مد بر ومد تمر أو نصف صاع بر ونصف صاع تمر. وروى رشيد رضا عن ابن ماجة حديثا يذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفر بصاع من تمر، وأمر به مع التنبيه على أن المفسر وصف الحديث بأنه ضعيف. ونقول هنا ما قلناه في الطعام المهيأ. وهو أن على الميسور أن يعطي الأكثر الأفضل.
والمتبادر أن المقادير المروية هي ما كانت تعد مجزية في الظرف والعرف اللذين قدرت فيهما، وهذا ما ينبغي أن يلاحظ في أي ظرف وعرف كما هو المتبادر. والمهم على كل حال إعطاء ما يكافئ ما احتوته الآية على الوجه الأفضل الممكن.
ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه يذكر جواز إعطاء ثمن الطعام نقدا. وقياسا على جواز إعطاء بدل عيني عنه نرى أن إعطاء الثمن سائغ أيضا. والله تعالى أعلم.
٨- وهناك قول بأن أي نوع من الكساء مجز. وقول إنه يجب أن يكون كسوة تامة. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية بل وفحواها. وهناك اختلاف في القدر، فقيل ثوبان : واحد للصيف وآخر للشتاء. وقيل إزار ورداء وقميص وسروال. وقيل إزار ورداء وقيل عمامة وعباءة. وعلى كل حال فالمهم هو كسوة تامة. وهي عرضة للتبدل بتبدل الظروف بطبيعة الحال. وهناك قول بأن وصف ﴿ أوسط ﴾ يشمل الكسوة فيكون الواجب كسوة المساكين كسوة تامة من خير ما يكسي الحالف أهله. وفي هذا وجاهة ظاهرة.
وقد يسوغ القول قياسا على سواغ إعطاء ثمن الطعام أن إعطاء ثمن الكسوة نقدا سائغا أيضا. والله أعلم.
٩- هناك قول : إن ( أو ) للتخيير. وهناك من قال : إنها للترتيب. وهذا وذاك هما في صدد الطعام والكسوة وتحرير الرقبة ؛ لأن الصيام إنما يجزي في حالة عدم القدرة على الطعام والكسوة والرقبة. والقولان مما يتحمله النظم القرآني. وهناك من أوجب البدء بالأعلى. فالقادر على الرقبة فعليه أن يحرر رقبة والقادر على الكسوة عليه أن يكسو إن كانت الكسوة أغلى من وجبة الطعام. ولا يخلو هذا من وجاهة.
١٠- هناك من قال : إن من كان عنده فضل لإطعام عشرة مساكين بعد قوته وقوت عياله يوما وليلة وجب عليه ذلك ولا يجزيه الطعام ولو لم يكن ذا مال كثير. وهناك من جعل ذلك منوطا بحيازة ما فوق المائتي درهم. وهناك من جعل ذلك منوطا بفضل يزيد على رأس مال الحالف الذي يتعيش به. والرأي الأخير هو الأوجه فيما يتبادر لنا. وعلى كل حال فالصيام لا يجزي إلا في حالة العجز عن أقل الكفارات الأخرى قيمة. وهذا العجز يقدر حسب ظروف الحالف. وهذه مسألة إيمانية يوكل المرء فيها إلى دينه وتقواه.
١١- وهناك من لم يقيد الرقبة بأي قيد من لون ودين وجنس. وهناك من قيدها بأن تكون مؤمنة استلهاما من آية النساء ( ٩٢ ) التي تقيد الرقبة الواجب عتقها على القتل الخطأ بكونها مؤمنة. وهناك من قيدها إلى هذا بأن لا يكون فيها عيب أو عاهة من عمى وطرش وخرس وجنون أو لا يكون صغير السن. ويتبادر لنا أن قيد ( المؤمنة ) وجيه. ولكن إذا لم يوجد مملوك مسلم يشتري ليعتق فلا بأس فيما نرى من عتق رقبة غير مؤمنة ؛ لأن في ذلك على كل حال تحريرا للإنسان الذي كرم الله جنسه مطلقا. وقد يكون إطلاق النص هذا مما يعضد هذا التسويغ. والمتبادر أن القائلين بسلامة الرقيق من العيب وبكونه كبير السن حتى لا يسترخص الحالف الرقبة التي يشتريها. ومع أن تحرير إنسان كبير وسليم قد يكون أنفع إلا أن تحرير إنسان صغير وذي عاهة ينطوي على البر والإشفاق أيضا مما يجعلنا لا نرى ذلك القيد وجيها وضروريا. والله أعلم.
١٢- وهناك من أوجب أن يكون صيام الأيام الثلاثة متتاب
١ انظر التاج ج ٣ ص ٧٠..
٢ التاج ج ٣ ص ٧٨ وقد أورد مؤلف التاج مع هذا الحديث حديثين آخرين من بابهما واحدا رواه مسلم والنسائي جاء فيه: (والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) وآخر رواه مسلم والترمذي وأبو داود جاء فيه: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل)..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٩٠ ) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ( ٩١ ) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ( ٩٢ ) ﴾ ( ٩٠ – ٩٢ ).
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ........................ ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وصور
وأحكام وتلقين وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمؤمنين باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وبيانا بأن كلا منها رجس وشر واجب الاجتناب، وتنبيها على ما يؤدي إليه الخمر والميسر بخاصة بوسوسة الشيطان من العداوة والبغضاء بين المؤمنين ومنع متعاطيهما منهم عن ذكر الله وعن الصلاة. وسؤالا فيه معنى اللوم والتبكيت وإيجاب الانتهاء عما إذا كان المؤمنون منتهين بعد الآن عن هذين العملين المنكرين، وحثا على طاعة الله ورسوله فيما يأمرانهم به وينهيانهم عنه، وتحذيرا من المخالفة بأسلوب ينطوي على الإنذار. فإذا لم يحذروا فليس على الرسول إلا البلاغ وأمرهم لله القادر عليهم.
ولقد روى الطبري حديثا جاء فيه :( قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت آية البقرة ( ٢١٩ ) فدعي فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية النساء ( ٤٣ ) فدعي فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية المائدة، فدعي فقرئت عليه فقال : انتهينا انتهينا ) ( ١ )١ وإلى هذا الحديث فإن الطبري أورد روايات أخرى كسبب لنزول الآيات. منها أن جماعة من المهاجرين والأنصار شربوا خمرا في وليمة أقامها أنصاري فانتشوا فتفاخروا فتشاجروا وضرب بعضهم سعد بن أبي وقاص على أنفه فكسره فنزلت الآيات. ومنها أن جماعة سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمر والميسر فنزلت آية البقرة ثم سألوه فنزلت آية النساء ثم سألوه فنزلت آية المائدة ( ١ )٢.
وعدا الرواية الأولى التي يرويها أيضا أصحاب السنن فليس شيء من الروايات الأخرى واردا في كتب الحديث، ويلحظ أن الروايات حتى أولاها التي هي أقواها سندا مقتصرة على الخمر، في حين أن الآية احتوت نهيا عن الأنصاب والأزلام والميسر أيضا.
ولقد قال الطبري حينما أورد الآية الأولى : إن هذا بيان من الله تعالى للذين حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم تشبها بالقسيسين والرهبان بما هو الأولى والأوجب عليهم أن يحرموه. والقول وجيه ويربط بين هذه الآيات والآيات السابقة. مع التنبيه إلى أن حكمة التنزيل اقتضت توجيه الكلام فيها إلى جميع المسلمين كما هو الشأن في الآيات السابقة جريا على النظم القرآني في المناسبات المماثلة.
ولعل وضع الآيات بعد تلك مباشرة مما يقوي هذا التوجيه، ويسوغ القول باحتمال نزولها بعدها. وهذا لا يمنع أن يكون وقع ما روي في الحديث والروايات الأخرى كله أو بعضه. فاقتضت حكمة التنزيل جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام معا في النهي والبيان.
ولقد تضمنت آية سورة البقرة المار ذكرها تنبيها إلى أن إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما، وتضمنت آية سورة النساء المار ذكرها نهيا عن الصلاة في حالة السكر. فجاءت هذه الآيات أقوى من المرتين بل خطوة حاسمة لتحريم الخمر والميسر ؛ حيث يصح القول بأن حالة العهد المدني صارت تتحمل هذه الخطوة الحاسمة إلى تحريم هذه الأفعال الضارة التي كان لها رسوخ شديد بين العرب ومتصلة بمصالحهم الاقتصادية في الوقت نفسه والتي اكتفي بسبب ذلك بالخطوات التمهيدية في صددها في آيتي البقرة والنساء.
ولقد قال بعض المتمحلين : إن أسلوب الآيات أسلوب تحذير وكراهية أكثر منه أسلوب تشريع وتحريم حاسم. وحاولوا تأييد تمحلهم بالقول بأن حد شارب الخمر ليس قرآنيا وإنما هو سنة نبوية وراشدية متموجة المقدار. وليس من حد على لاعب الميسر. وهذا وذاك لا يقومان على أساس صحيح لا من حيث أسلوب الآيات ولا من حيث مضمونها. بل ومن الحق أن يقال : إن أسلوبها ومضمونها احتويا قوة في التحريم. ويكفي أن يكون الخمر والميسر قد قرنا مع الأنصاب بالذكر للتدليل على ذلك. فإنه لن يسع أن يقول مثلا : إن النهي عن الأنصاب التي كان يقيم المشركون طقوسهم الدينية ويقربون قرابينهم عندها هو من قبيل التحذير والكراهية، وليس من قبيل التحريم الزاجر. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول هذه الآيات. يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم – الذي أمر القرآن المسلمين بأخذ ما آتاهم والانتهاء عما نهاهم، كما أنه من الله – من أحاديث عديدة في تحريم كل مسكر وفي اعتبار كل مسكر خمرا، وفي لعن شاربها وبائعها وحاملها وإنذار شاربيها ومستحليها ومسمى بعضها بأسماء أخرى بالنذر القاصمة. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر وجاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كل مسكر خمر وكل مسكر حرام )٣. وحديث رواه الخمسة عن عائشة وجاء فيه : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( كل شراب أسكر فهو حرام )٤ وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن طارق الجعفي :( أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء )٥، وحديث رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال :( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : إنا يا رسول الله بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال : هل يسكر ؟ قلت : نعم، قال : فاجتنبوه، فقلت : إن الناس غير تاركيه، قال : فإن لم يتركوه فقاتلوهم )٦ وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام ) ( ٣ )٧، وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ) ( ٤ )٨ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه ) ( ٥ )٩. وحديث رواه النسائي والترمذي عن ابن عمر ونفر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه، وفي رواية : فاضربوا عنقه ) ( ٦ )١٠، وحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ) ( ٧ )١١، وحديث رواه أصحاب السنن :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال : صديد أهل النار. ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ) ( ٨ )١٢. أما كون القرآن لم يضع حدا على شارب الخمر ولاعب الميسر فالمتبادر أن ذلك راجع إلى كونهما ذنبين شخصيين لا يتعلق بهما حق الغير. فالحدود القرآنية إنما تفسر بهذا الأصل فيما يتبادر لنا في جملة ما تفسر به أيضا.
ويلحظ أن القرآن لم يعين حدا على تارك الصلاة والصوم والحج والزكاة وهي أركان الإسلام مما يمكن أن يفسر بمثل ذلك. والقول بعدم حرمة المسكر والميسر كفر لا ريب فيه بإجماع علماء المسلمين في كل زمن، ومكان استنادا إلى هذه الآيات وروحها والأحاديث النبوية العديدة. وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى أن يجلد شارب الخمر دون لاعب الميسر فحكمة ذلك ما في شرب الخمر من إضاعة عقل وكرامة واحتمال إقدام الشارب على أفعال ضارة به وبغيره كما هو المتبادر. ويلحظ أن المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك يجعل السنة النبوية من باب التعزير والتأديب ؛ حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس :( أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وفي رواية : أنه أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. وفي رواية للترمذي : أنه ضرب شارب الخمر بنعلين أربعين ) ( ١ )١٣. وروى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال : اضربوه، فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم : أخزاك الله، فقال عليه الصلاة والسلام : لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان ) ( ٢ )١٤. وروى البخاري :( أنه كان رجل على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمى عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال بعض القوم : اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ) ( ٣ )١٥. وليس في النهي النبوي في الحديثين ما يخفف إثم شارب الخمر واستحقاقه للتعزير وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير تجاوز ذلك إلى لعنه. وفي هذا تأديب نبوي رفيع كما هو المتبادر.
وقد استلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنته من بعده فروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أن أبا بكر جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال : ما ترون في جلد الخمر ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أرى أن تجعلها كأخف الحدود فجلد ثمانين ( ١ )١٦.
ولقد روى الشيخان عن ابن عمر قال : سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل ) ( ٢ )١٧. والجملة الأخيرة من الحديث المتوافقة مع بعض الأحاديث التي أوردناها قبل تنزيل الوهم بحل ما يمكن أن يصنع من غير المواد المذكورة من شراب مسكر كما هو ظاهر. والمتبادر أن المواد التي ذكرت في الحديث هي ما كان يصنع منه الخمر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه.
هذا، وهناك أحاديث أخرى فيها بعض الأحكام في صدد الخمر أيضا. منها حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت :( قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه عن النبيذ، فنهاهم أن ينتبذوا في الدباء والنقير
١ هذا الحديث رواه أصحاب السنن أيضا انظر التاج ج ٤ ص ٩٤..
٢ هناك روايات أخرى يرويها الطبري ويرويها المفسرون الآخرون، فاكتفينا بما أوردناه لأنها متقاربة..
٣ التاج ج ٣ ص ١٢٦ – ١٣٠..
٤ المصدر نفسه..
٥ التاج ج ٣ ص ١٢٦ – ١٣٠..
٦ المصدر نفسه..
٧ المصدر نفسه..
٨ المصدر نفسه..
٩ المصدر نفسه..
١٠ المصدر نفسه..
١١ المصدر نفسه..
١٢ المصدر نفسه..
١٣ التاج ج ٣ ص ٢٨..
١٤ المصدر نفسه..
١٥ المصدر نفسه..
١٦ التاج ج ٤ ص ٩٤..
١٧ المصدر نفسه..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٩٠ ) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ( ٩١ ) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ( ٩٢ ) ﴾ ( ٩٠ – ٩٢ ).

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ........................ ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وصور
وأحكام وتلقين وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمؤمنين باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وبيانا بأن كلا منها رجس وشر واجب الاجتناب، وتنبيها على ما يؤدي إليه الخمر والميسر بخاصة بوسوسة الشيطان من العداوة والبغضاء بين المؤمنين ومنع متعاطيهما منهم عن ذكر الله وعن الصلاة. وسؤالا فيه معنى اللوم والتبكيت وإيجاب الانتهاء عما إذا كان المؤمنون منتهين بعد الآن عن هذين العملين المنكرين، وحثا على طاعة الله ورسوله فيما يأمرانهم به وينهيانهم عنه، وتحذيرا من المخالفة بأسلوب ينطوي على الإنذار. فإذا لم يحذروا فليس على الرسول إلا البلاغ وأمرهم لله القادر عليهم.
ولقد روى الطبري حديثا جاء فيه :( قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت آية البقرة ( ٢١٩ ) فدعي فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية النساء ( ٤٣ ) فدعي فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية المائدة، فدعي فقرئت عليه فقال : انتهينا انتهينا ) ( ١ )١ وإلى هذا الحديث فإن الطبري أورد روايات أخرى كسبب لنزول الآيات. منها أن جماعة من المهاجرين والأنصار شربوا خمرا في وليمة أقامها أنصاري فانتشوا فتفاخروا فتشاجروا وضرب بعضهم سعد بن أبي وقاص على أنفه فكسره فنزلت الآيات. ومنها أن جماعة سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمر والميسر فنزلت آية البقرة ثم سألوه فنزلت آية النساء ثم سألوه فنزلت آية المائدة ( ١ )٢.
وعدا الرواية الأولى التي يرويها أيضا أصحاب السنن فليس شيء من الروايات الأخرى واردا في كتب الحديث، ويلحظ أن الروايات حتى أولاها التي هي أقواها سندا مقتصرة على الخمر، في حين أن الآية احتوت نهيا عن الأنصاب والأزلام والميسر أيضا.
ولقد قال الطبري حينما أورد الآية الأولى : إن هذا بيان من الله تعالى للذين حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم تشبها بالقسيسين والرهبان بما هو الأولى والأوجب عليهم أن يحرموه. والقول وجيه ويربط بين هذه الآيات والآيات السابقة. مع التنبيه إلى أن حكمة التنزيل اقتضت توجيه الكلام فيها إلى جميع المسلمين كما هو الشأن في الآيات السابقة جريا على النظم القرآني في المناسبات المماثلة.
ولعل وضع الآيات بعد تلك مباشرة مما يقوي هذا التوجيه، ويسوغ القول باحتمال نزولها بعدها. وهذا لا يمنع أن يكون وقع ما روي في الحديث والروايات الأخرى كله أو بعضه. فاقتضت حكمة التنزيل جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام معا في النهي والبيان.
ولقد تضمنت آية سورة البقرة المار ذكرها تنبيها إلى أن إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما، وتضمنت آية سورة النساء المار ذكرها نهيا عن الصلاة في حالة السكر. فجاءت هذه الآيات أقوى من المرتين بل خطوة حاسمة لتحريم الخمر والميسر ؛ حيث يصح القول بأن حالة العهد المدني صارت تتحمل هذه الخطوة الحاسمة إلى تحريم هذه الأفعال الضارة التي كان لها رسوخ شديد بين العرب ومتصلة بمصالحهم الاقتصادية في الوقت نفسه والتي اكتفي بسبب ذلك بالخطوات التمهيدية في صددها في آيتي البقرة والنساء.
ولقد قال بعض المتمحلين : إن أسلوب الآيات أسلوب تحذير وكراهية أكثر منه أسلوب تشريع وتحريم حاسم. وحاولوا تأييد تمحلهم بالقول بأن حد شارب الخمر ليس قرآنيا وإنما هو سنة نبوية وراشدية متموجة المقدار. وليس من حد على لاعب الميسر. وهذا وذاك لا يقومان على أساس صحيح لا من حيث أسلوب الآيات ولا من حيث مضمونها. بل ومن الحق أن يقال : إن أسلوبها ومضمونها احتويا قوة في التحريم. ويكفي أن يكون الخمر والميسر قد قرنا مع الأنصاب بالذكر للتدليل على ذلك. فإنه لن يسع أن يقول مثلا : إن النهي عن الأنصاب التي كان يقيم المشركون طقوسهم الدينية ويقربون قرابينهم عندها هو من قبيل التحذير والكراهية، وليس من قبيل التحريم الزاجر. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول هذه الآيات. يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم – الذي أمر القرآن المسلمين بأخذ ما آتاهم والانتهاء عما نهاهم، كما أنه من الله – من أحاديث عديدة في تحريم كل مسكر وفي اعتبار كل مسكر خمرا، وفي لعن شاربها وبائعها وحاملها وإنذار شاربيها ومستحليها ومسمى بعضها بأسماء أخرى بالنذر القاصمة. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر وجاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كل مسكر خمر وكل مسكر حرام )٣. وحديث رواه الخمسة عن عائشة وجاء فيه : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( كل شراب أسكر فهو حرام )٤ وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن طارق الجعفي :( أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء )٥، وحديث رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال :( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : إنا يا رسول الله بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال : هل يسكر ؟ قلت : نعم، قال : فاجتنبوه، فقلت : إن الناس غير تاركيه، قال : فإن لم يتركوه فقاتلوهم )٦ وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام ) ( ٣ )٧، وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ) ( ٤ )٨ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه ) ( ٥ )٩. وحديث رواه النسائي والترمذي عن ابن عمر ونفر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه، وفي رواية : فاضربوا عنقه ) ( ٦ )١٠، وحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ) ( ٧ )١١، وحديث رواه أصحاب السنن :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال : صديد أهل النار. ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ) ( ٨ )١٢. أما كون القرآن لم يضع حدا على شارب الخمر ولاعب الميسر فالمتبادر أن ذلك راجع إلى كونهما ذنبين شخصيين لا يتعلق بهما حق الغير. فالحدود القرآنية إنما تفسر بهذا الأصل فيما يتبادر لنا في جملة ما تفسر به أيضا.
ويلحظ أن القرآن لم يعين حدا على تارك الصلاة والصوم والحج والزكاة وهي أركان الإسلام مما يمكن أن يفسر بمثل ذلك. والقول بعدم حرمة المسكر والميسر كفر لا ريب فيه بإجماع علماء المسلمين في كل زمن، ومكان استنادا إلى هذه الآيات وروحها والأحاديث النبوية العديدة. وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى أن يجلد شارب الخمر دون لاعب الميسر فحكمة ذلك ما في شرب الخمر من إضاعة عقل وكرامة واحتمال إقدام الشارب على أفعال ضارة به وبغيره كما هو المتبادر. ويلحظ أن المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك يجعل السنة النبوية من باب التعزير والتأديب ؛ حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس :( أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وفي رواية : أنه أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. وفي رواية للترمذي : أنه ضرب شارب الخمر بنعلين أربعين ) ( ١ )١٣. وروى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال : اضربوه، فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم : أخزاك الله، فقال عليه الصلاة والسلام : لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان ) ( ٢ )١٤. وروى البخاري :( أنه كان رجل على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمى عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال بعض القوم : اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ) ( ٣ )١٥. وليس في النهي النبوي في الحديثين ما يخفف إثم شارب الخمر واستحقاقه للتعزير وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير تجاوز ذلك إلى لعنه. وفي هذا تأديب نبوي رفيع كما هو المتبادر.
وقد استلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنته من بعده فروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أن أبا بكر جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال : ما ترون في جلد الخمر ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أرى أن تجعلها كأخف الحدود فجلد ثمانين ( ١ )١٦.
ولقد روى الشيخان عن ابن عمر قال : سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل ) ( ٢ )١٧. والجملة الأخيرة من الحديث المتوافقة مع بعض الأحاديث التي أوردناها قبل تنزيل الوهم بحل ما يمكن أن يصنع من غير المواد المذكورة من شراب مسكر كما هو ظاهر. والمتبادر أن المواد التي ذكرت في الحديث هي ما كان يصنع منه الخمر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه.
هذا، وهناك أحاديث أخرى فيها بعض الأحكام في صدد الخمر أيضا. منها حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت :( قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه عن النبيذ، فنهاهم أن ينتبذوا في الدباء والنقير
١ هذا الحديث رواه أصحاب السنن أيضا انظر التاج ج ٤ ص ٩٤..
٢ هناك روايات أخرى يرويها الطبري ويرويها المفسرون الآخرون، فاكتفينا بما أوردناه لأنها متقاربة..
٣ التاج ج ٣ ص ١٢٦ – ١٣٠..
٤ المصدر نفسه..
٥ التاج ج ٣ ص ١٢٦ – ١٣٠..
٦ المصدر نفسه..
٧ المصدر نفسه..
٨ المصدر نفسه..
٩ المصدر نفسه..
١٠ المصدر نفسه..
١١ المصدر نفسه..
١٢ المصدر نفسه..
١٣ التاج ج ٣ ص ٢٨..
١٤ المصدر نفسه..
١٥ المصدر نفسه..
١٦ التاج ج ٤ ص ٩٤..
١٧ المصدر نفسه..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٩٠ ) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ( ٩١ ) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ( ٩٢ ) ﴾ ( ٩٠ – ٩٢ ).

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ........................ ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وصور
وأحكام وتلقين وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمؤمنين باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وبيانا بأن كلا منها رجس وشر واجب الاجتناب، وتنبيها على ما يؤدي إليه الخمر والميسر بخاصة بوسوسة الشيطان من العداوة والبغضاء بين المؤمنين ومنع متعاطيهما منهم عن ذكر الله وعن الصلاة. وسؤالا فيه معنى اللوم والتبكيت وإيجاب الانتهاء عما إذا كان المؤمنون منتهين بعد الآن عن هذين العملين المنكرين، وحثا على طاعة الله ورسوله فيما يأمرانهم به وينهيانهم عنه، وتحذيرا من المخالفة بأسلوب ينطوي على الإنذار. فإذا لم يحذروا فليس على الرسول إلا البلاغ وأمرهم لله القادر عليهم.
ولقد روى الطبري حديثا جاء فيه :( قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت آية البقرة ( ٢١٩ ) فدعي فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية النساء ( ٤٣ ) فدعي فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية المائدة، فدعي فقرئت عليه فقال : انتهينا انتهينا ) ( ١ )١ وإلى هذا الحديث فإن الطبري أورد روايات أخرى كسبب لنزول الآيات. منها أن جماعة من المهاجرين والأنصار شربوا خمرا في وليمة أقامها أنصاري فانتشوا فتفاخروا فتشاجروا وضرب بعضهم سعد بن أبي وقاص على أنفه فكسره فنزلت الآيات. ومنها أن جماعة سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمر والميسر فنزلت آية البقرة ثم سألوه فنزلت آية النساء ثم سألوه فنزلت آية المائدة ( ١ )٢.
وعدا الرواية الأولى التي يرويها أيضا أصحاب السنن فليس شيء من الروايات الأخرى واردا في كتب الحديث، ويلحظ أن الروايات حتى أولاها التي هي أقواها سندا مقتصرة على الخمر، في حين أن الآية احتوت نهيا عن الأنصاب والأزلام والميسر أيضا.
ولقد قال الطبري حينما أورد الآية الأولى : إن هذا بيان من الله تعالى للذين حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم تشبها بالقسيسين والرهبان بما هو الأولى والأوجب عليهم أن يحرموه. والقول وجيه ويربط بين هذه الآيات والآيات السابقة. مع التنبيه إلى أن حكمة التنزيل اقتضت توجيه الكلام فيها إلى جميع المسلمين كما هو الشأن في الآيات السابقة جريا على النظم القرآني في المناسبات المماثلة.
ولعل وضع الآيات بعد تلك مباشرة مما يقوي هذا التوجيه، ويسوغ القول باحتمال نزولها بعدها. وهذا لا يمنع أن يكون وقع ما روي في الحديث والروايات الأخرى كله أو بعضه. فاقتضت حكمة التنزيل جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام معا في النهي والبيان.
ولقد تضمنت آية سورة البقرة المار ذكرها تنبيها إلى أن إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما، وتضمنت آية سورة النساء المار ذكرها نهيا عن الصلاة في حالة السكر. فجاءت هذه الآيات أقوى من المرتين بل خطوة حاسمة لتحريم الخمر والميسر ؛ حيث يصح القول بأن حالة العهد المدني صارت تتحمل هذه الخطوة الحاسمة إلى تحريم هذه الأفعال الضارة التي كان لها رسوخ شديد بين العرب ومتصلة بمصالحهم الاقتصادية في الوقت نفسه والتي اكتفي بسبب ذلك بالخطوات التمهيدية في صددها في آيتي البقرة والنساء.
ولقد قال بعض المتمحلين : إن أسلوب الآيات أسلوب تحذير وكراهية أكثر منه أسلوب تشريع وتحريم حاسم. وحاولوا تأييد تمحلهم بالقول بأن حد شارب الخمر ليس قرآنيا وإنما هو سنة نبوية وراشدية متموجة المقدار. وليس من حد على لاعب الميسر. وهذا وذاك لا يقومان على أساس صحيح لا من حيث أسلوب الآيات ولا من حيث مضمونها. بل ومن الحق أن يقال : إن أسلوبها ومضمونها احتويا قوة في التحريم. ويكفي أن يكون الخمر والميسر قد قرنا مع الأنصاب بالذكر للتدليل على ذلك. فإنه لن يسع أن يقول مثلا : إن النهي عن الأنصاب التي كان يقيم المشركون طقوسهم الدينية ويقربون قرابينهم عندها هو من قبيل التحذير والكراهية، وليس من قبيل التحريم الزاجر. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول هذه الآيات. يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم – الذي أمر القرآن المسلمين بأخذ ما آتاهم والانتهاء عما نهاهم، كما أنه من الله – من أحاديث عديدة في تحريم كل مسكر وفي اعتبار كل مسكر خمرا، وفي لعن شاربها وبائعها وحاملها وإنذار شاربيها ومستحليها ومسمى بعضها بأسماء أخرى بالنذر القاصمة. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر وجاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كل مسكر خمر وكل مسكر حرام )٣. وحديث رواه الخمسة عن عائشة وجاء فيه : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( كل شراب أسكر فهو حرام )٤ وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن طارق الجعفي :( أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء )٥، وحديث رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال :( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : إنا يا رسول الله بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال : هل يسكر ؟ قلت : نعم، قال : فاجتنبوه، فقلت : إن الناس غير تاركيه، قال : فإن لم يتركوه فقاتلوهم )٦ وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام ) ( ٣ )٧، وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ) ( ٤ )٨ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه ) ( ٥ )٩. وحديث رواه النسائي والترمذي عن ابن عمر ونفر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه، وفي رواية : فاضربوا عنقه ) ( ٦ )١٠، وحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ) ( ٧ )١١، وحديث رواه أصحاب السنن :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال : صديد أهل النار. ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ) ( ٨ )١٢. أما كون القرآن لم يضع حدا على شارب الخمر ولاعب الميسر فالمتبادر أن ذلك راجع إلى كونهما ذنبين شخصيين لا يتعلق بهما حق الغير. فالحدود القرآنية إنما تفسر بهذا الأصل فيما يتبادر لنا في جملة ما تفسر به أيضا.
ويلحظ أن القرآن لم يعين حدا على تارك الصلاة والصوم والحج والزكاة وهي أركان الإسلام مما يمكن أن يفسر بمثل ذلك. والقول بعدم حرمة المسكر والميسر كفر لا ريب فيه بإجماع علماء المسلمين في كل زمن، ومكان استنادا إلى هذه الآيات وروحها والأحاديث النبوية العديدة. وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى أن يجلد شارب الخمر دون لاعب الميسر فحكمة ذلك ما في شرب الخمر من إضاعة عقل وكرامة واحتمال إقدام الشارب على أفعال ضارة به وبغيره كما هو المتبادر. ويلحظ أن المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك يجعل السنة النبوية من باب التعزير والتأديب ؛ حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس :( أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وفي رواية : أنه أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. وفي رواية للترمذي : أنه ضرب شارب الخمر بنعلين أربعين ) ( ١ )١٣. وروى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال : اضربوه، فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم : أخزاك الله، فقال عليه الصلاة والسلام : لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان ) ( ٢ )١٤. وروى البخاري :( أنه كان رجل على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمى عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال بعض القوم : اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ) ( ٣ )١٥. وليس في النهي النبوي في الحديثين ما يخفف إثم شارب الخمر واستحقاقه للتعزير وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير تجاوز ذلك إلى لعنه. وفي هذا تأديب نبوي رفيع كما هو المتبادر.
وقد استلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنته من بعده فروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أن أبا بكر جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال : ما ترون في جلد الخمر ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أرى أن تجعلها كأخف الحدود فجلد ثمانين ( ١ )١٦.
ولقد روى الشيخان عن ابن عمر قال : سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل ) ( ٢ )١٧. والجملة الأخيرة من الحديث المتوافقة مع بعض الأحاديث التي أوردناها قبل تنزيل الوهم بحل ما يمكن أن يصنع من غير المواد المذكورة من شراب مسكر كما هو ظاهر. والمتبادر أن المواد التي ذكرت في الحديث هي ما كان يصنع منه الخمر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه.
هذا، وهناك أحاديث أخرى فيها بعض الأحكام في صدد الخمر أيضا. منها حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت :( قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه عن النبيذ، فنهاهم أن ينتبذوا في الدباء والنقير
١ هذا الحديث رواه أصحاب السنن أيضا انظر التاج ج ٤ ص ٩٤..
٢ هناك روايات أخرى يرويها الطبري ويرويها المفسرون الآخرون، فاكتفينا بما أوردناه لأنها متقاربة..
٣ التاج ج ٣ ص ١٢٦ – ١٣٠..
٤ المصدر نفسه..
٥ التاج ج ٣ ص ١٢٦ – ١٣٠..
٦ المصدر نفسه..
٧ المصدر نفسه..
٨ المصدر نفسه..
٩ المصدر نفسه..
١٠ المصدر نفسه..
١١ المصدر نفسه..
١٢ المصدر نفسه..
١٣ التاج ج ٣ ص ٢٨..
١٤ المصدر نفسه..
١٥ المصدر نفسه..
١٦ التاج ج ٤ ص ٩٤..
١٧ المصدر نفسه..

﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( ٩٣ ) ﴾ ( ٩٣ ).
تعليق على الآية :
﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ................................. ﴾ الخ
وما فيها من تلقين
عبارة الآية واضحة. وقد روى الطبري وغيره روايات عديدة مختلفة الصيغ متفقة في الجوهر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما نزلت الآيات السابقة عن حالة الذين شربوا الخمر، وأكلوا لحم ذبائح الميسر منهم ومن إخوانهم الذين ماتوا قبل نزولها فنزلت الآية.
والروايات لم ترد في الصحاح. ولكنها محتملة وتكون الآية بذلك متصلة بما سبقها اتصالا موضوعيا، ولعلها نزلت عقبها مباشرة قبل أن ينزل قرآن آخر. والله أعلم.
وقد قال الطبري في شرح مدى الآية قولين جاء في واحد منهما أن الفقرة الأولى هي بسبيل رفع الحرج عن الذين أكلوا وشربوا قبل التحريم إذا ما آمنوا واتقوا وعملوا الصالحات وخافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه وثبتوا على ذلك.
وجاء في ثانيهما أن الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله تعالى بالقبول والتصديق والعمل به. والثاني هو الاتقاء بالثبات على ذلك. والثالث بالإحسان والتقرب بنوافل الأعمال. وقال البغوي : إن الاتقاء الأول اتقاء الشرك، والثاني بمعنى الدوام في الاتقاء، والثالث الإحسان في الأعمال. ومما قاله الطبري أن الأول بالنسبة للذين ماتوا والثاني للذين ظلوا أحياء في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والثالث للزمن المقبل.
وفي كل هذه الأقوال وجاهة. ولقد انطوت الآية على رفع الحرج عن المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما فعلوه ولم يكن محرما عند فعله. كما انطوت على تلقين مستمر المدى بكون المهم عند الله تعالى هو الإيمان والتصديق والاجتهاد في اتقاء حرمات الله ومحرماته واتباع أوامره واجتناب نواهيه والعمل الصالح والإحسان فيه، ثم يتسامح الله عز وجل فيما يتناوله المؤمنون من مشروب ومطعوم بحسن نية وبغير قصد الإثم وبغير العلم بالإثم، ولو كان في حقيقته فيه شبهة أو تهمة. وهذا متسق مع تلقينات القرآن العامة، ومتسق مع طبائع الأمور، ومن مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود.
وواضح من هذا أن التسامح لا يشمل الذين يتناولون المحرمات من مطعوم ومشروب عن علم خلافا لما يقوله بعض الفساق والمجان.
ويظهر أن هذا قديم ؛ حيث رأينا الرازي يتصدى له وينفذه تنفيذا سديدا على ما جاء في تفسير رشيد رضا مسهبا مع تنفيذه بدوره تنفيذا سديدا.
ومقام الآية ونصها لا يمكن أن يتحملا ذلك. فهي في صدد الذين تناولوا ما تناولوه قبل تحريمه، وهي تشترط لرفع الجناح عنهم أن يتقوا حرمات الله بعد تحريمه ويؤمنوا ويحسنوا ويعملوا الصالحات.
واستحلال ذلك بعد نزول الآيات المحرمة كفر وتناول المحرمات مع الاعتراف بحرمتها دون استحلالها كبيرة. وكل ما يمكن أن يقال في الحالة الثانية هو أن باب التوبة مفتوح أمام المؤمن في نطاق شروطها من ندم واستغفار وعزم على عدم العودة وفي حالة الصحة. والله أعلم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٩٤ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ( ١ ) يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ( ٢ ) مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( ٩٥ ) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ( ٣ ) وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٩٦ ) ﴾ ( ٩٤ – ٩٦ ).
في الآيات :
( ١ ) تنبيه للمسلمين بأن الله قد يختبرهم في متناول أيديهم ورماحهم شيئا من الصيد حتى يظهر فعلا المؤمن المخلص الذي يخاف الله ويؤمن بالغيب ولو لم يره، ويقف عند أوامره.
( ٢ ) وإنذار للذين ينحرفون عند الاختبار، ويعتدون حدود حرمات الله فإن لهم عنده عذابا أليما.
( ٣ ) ونهي عن قتل الصيد في حالة الإحرام وتشريع الكفارة لمن يفعل ذلك. وهو تقريب قربان عند الكعبة من الأنعام معادل لما قتل، أو إطعام بعض مساكين أو صيام بعض أيام تعادل ذلك ليشعر بهذا قاتل الصيد أنه اقترف محظورا وكفر عنه.
( ٤ ) وإيذان بأن الله قد عفا عما سلف من ذلك، وأن من عاد إليه فإنه يكون قد عرض نفسه لانتقام الله العزيز.
( ٥ ) وخطاب تشريعي للمسلمين بأن الله تعالى قد أحل لهم صيد البحر وأكله على أن يتمتع بهذه الرخصة المسلمون على السواء المقيم منهم والمسافر، وبأنه قد حرم عليهم صيد البر ما داموا حرما. وموعظة لهم فعليهم بتقوى الله الذي سيحشرون إليه ويقفون بين يديه.
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ............................ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وما ورد
في صددها من أحاديث وشرح لمعنى الكعبة
وقد روى البغوي في سياق الآية الأولى : أنها نزلت عام الحديبية وكان المسلمون محرمين فابتلاهم الله بالصيد وكانت الوحوش تغشى رحالهم بكثرة فهموا بأخذها فنزلت. وروى أن الآية الثانية نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شد على حمار وحش وهو محرم فقتله. ولم نطلع على رواية في مناسبة حل صيد البحر وطعامه. وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولا في تفسير الطبري.
ويلحظ أن الآيات وحدة منسجمة شكلا وموضوعا. وأن فيها موضوعا لم يذكر في روايات النزول وهو حل صيد البحر وطعامه مما يجعلنا نرجح نزول الآيات دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون وقع ما ذكرته الروايات فكان ذلك مناسبة لنزول الفصل ليكون تشريعا تاما في موضوع الصيد في حالة الحرم.
وقد لا تبدو صلة ظرفية بين هذا الفصل والآيات السابقة له. ولكن التناسب الموضوعي ملموح لأنه فصل تشريعي كسابقه وفيه تشريع فيما يؤول إلى الأكل وقصده هو الصيد. والمتبادر أن وضعه في مكانه بسبب ذلك إن لم يكن قد نزل بعد الآيات السابقة مباشرة.
ومع أننا لم نطلع على ما يفيد أن صيد البحر كان محظورا أو غير محظور في حالة الحرم قبل الإسلام، فالذي نرجحه من مدى ومفهوم التقليد القديم في حظر الصيد المنبثق من حظر سفك الدم في حالة الإحرام أنه كان محظورا فاقتضت حكمة التنزيل إباحته ؛ ليكون ذلك تسهيلا للمسلمين عامة وللذين يأتون من المسافات البعيدة ويكون البحر طريقهم أو على طريقهم. وهذا يؤدي إلى القول أن المقصود من الجملة القرآنية إباحة صيد البحر وأكله في حالة الحرم كما هو المتبادر.
ولقد شرحنا مدى جملة :﴿ وأنتم حرم ﴾ في سياق تفسير الآية الأولى من السورة. فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية والأقوال المعزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في مدى ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها ونعلق عليها فيما يلي ( ١ )١ :
١- هناك من قال : إن الكفارة إنما تجب على الذين يقتلون الصيد عمدا وهم ناسون أنهم في حالة الإحرام. فإذا لم يكونوا ناسين فلا يحكم عليهم بكفارة ؛ لأن ذنبهم أعظم من أن يكفر ويكونون موضع انتقام الله. وينحل إحرامهم ويبطل حجهم. وصرف القائلون جملة :﴿ عفا الله عما سلف ﴾ إلى ما قبل نزول الآيات. وهناك من قال : إن الكفارة تصح لمن يقتل الصيد لأول مرة عمدا في حالة الإحرام، ولو كان ذاكرا أنه في هذه الحالة. فمن كرر العمل فيغدو ذنبه أعظم من أن تكفره كفارة فلا يحكم عليه ويكون موضع انتقام الله. واتفقوا مع القول الأول بصرف العفو عما سلف إلى ما قبل نزول الآيات وقالوا : إن الكفارة لا تسقط ما أنذر الله به من العذاب في الآية الأولى لأنه خالفها. ونبهوا على أن على المحكمين أن يسألا الذي يحكمهما إن كان قتل صيدا عمدا قبل ذلك، فإن قال : نعم رداه ولم يحكما، وإن قال : لا. حكما. وقد صوب الطبري القول الثاني. وهو تصويب في محله إلا في أمر عدم سقوط ذنب الذي يقتل الصيد لأول مرة بالكفارة. فالكفارة ليست تعويضا لصاحب حق، وإنما هي بمثابة توبة لله. والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات كما جاء في آية سورة الشورى ( ٢٥ ) وهناك ذنوب أعظم تسقط بالتوبة فضلا عن الكفارة على ما مر شرحه في سياق الآيات ( ٣٣ – ٣٤ ) من هذه السورة وفي سياق بحث التوبة في سياق سورة الفرقان.
٢- هناك من قال : إن ( أو ) هي للتخيير. فالحكمان العدلان يحكمان بما يعادل الصيد طعاما أو صياما أو هديا. والصائد يختار إحدى هذه الثلاث للتكفير.
وهناك من قال : إنها للترتيب فيجب الهدي أولا، فإن لم يمكن الطعام فإن لم يمكن فالصيام. والنظم القرآني يتحمل كلا القولين. وإن كنا نميل إلى القول : إن على الميسور أن يقدم هديا إن وجد وقدر عليه، وإلا فيطعم المساكين وإن لم يقدر فليصم، وقد نبهوا على أن الهدي يذبح عند الكعبة. ويوزع لحمه على المساكين.
٣- وقد بينوا الحدود التي يحسن أن يحكم الحكمان في نطاقها. فمن قتل حمار وحش أو بقرة وحش أو وعلا فعليه هدي بقرة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام عشرة أيام. ومن قتل غزالا أو أرنبا أو ضبا أو يربوعا فعليه شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ستة أيام. ومن قتل دون ذلك كعصفور أو سمان أو حمامة فلا يحكم عليه بهدي ؛ لأنه ليس في الأنعام ما يعادل ذلك، وإن كان يستحب أن يقرب سخلة أو شاة. ويحكم عليه بطعام ثلاثة مساكين أو صيام ثلاثة أيام. والطعام قوت يوم كامل نصف صاع أو مد من بر أو تمر أو أكل جاهز.
٤- ومما قالوه : إن الصيد يقوم بدراهم وهو حي ويشتري مما ند له من النعم إذا كان القاتل قادرا ولم يكن يملك ندا. وإن لم يجد ندا فيشتري بها حنطة أو تمر أو طعام ويوزع على المساكين. فإن لم يجد فيصوم مقابل ذلك أياما. وهناك من قال : إن صيام يوم يقابل ما قيمته نصف صاع أو مد. وهناك من قال : إن مقابل صيام اليوم ما قيمته صاع أو مد. والاختلاف في عدد الأصوع والأمداد هو بسبب اختلاف روايات مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ترو في الصحاح. ومهما يكن من أمر فالمبدأ الذي احتوته هذه الفقرة هو تقويم الصيد بثمنه وهو حي وشراء ند له وتقريبه وإطعامه للمساكين إذا أمكن وشراء طعام أو حنطة أو تمر بالثمن وتوزيعه على المساكين إذا كان القاتل قادرا وصيام أيام عن كل ما قيمته صاع أو مد أو نصف صاع أو نصف مد يصح أن يكون مبدأ عاما يطبق في كل ظرف. والله أعلم.
٥- وقد نبهوا على أن النهي هو في صدد ما يؤكل من الحيوان. وأباحوا قتل المؤذي منه في حالة الحرم استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى واحدا منها الخمسة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن : الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور ). وفي رواية :( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ) ( ١ )٢. ولقد ألحق الفقهاء الوحوش الضارة والحيوانات الضارة الأخرى قياسا على هذه الأحاديث، وهو وجيه.
٦- وقد نبهوا إلى جواز أكل صيد البر للمحرم إذا لم يصده الآكل أو يصد له. استنادا إلى حديث رواه الإمام الشافعي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ) ( ٢ )٣. ولقد روى الخمسة عن ابن عباس قال :( أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمار وحش وهو محرم فرده عليه وقال : لولا أنا محرمون لقبلناه منك، وفي رواية : أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال : إنا لا نأكله، إنا حرم ) ( ٣ )٤. وقد فسر المفسرون هذا الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظن أن هذا الصيد قد صيد له ليزيلوا التناقض بينه وبين الحديث السابق. وأوردوا بسبيل ذلك حديثا جاء فيه :( إن عثمان بن عفان نزل مع ركب بالروحاء، فقرب إليهم طير وهم محرمون فقال لهم عثمان : كلوا فإني غير آكله. فقال له عمرو بن العاص وكان معه : أتأمرنا بما لست آكلا. فقال : لولا أني أظن أنه صيد من أجلي لأكلت فأكل القوم ) ( ٤ )٥. وهناك حديث مؤيد لذلك رواه البخاري والنسائي عن أبي قتادة :( أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال، فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم : لو سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فسألناه فقال : لقد أحسنتم. هل معكم منه شيء ؟ قلنا : نعم. قال : فأهدوا لنا، فأتيناه منه فأكل منه وهو محرم ) ( ٥ )٦.
٧- ونبهوا كذلك إلى أن صيد البحر وطعامه مباح للمحرم وغير المحرم. وسواء أخرج من الماء حيا أم ميتا. وكذلك ما قذفه البحر إلى الساحل. وما يقدد منه وما يملح. وجعلوا الأنهار في مثابة البحار في هذا الأمر. وبعضهم استثنى الضفادع والسرطانات ؛ لأنها ليست حيوانات بحرية تماما.
٨- أما الحكمان ذوا العدل فلم نطلع على شيء في صددهما. والمتبادر أن الصائد هو الذي يختارهما من ذوي العدل والخبرة ليقدروا المسألة ويشيروا على الصائد برأيهم فيها. فهذه مسألة دينية وليست مسألة قضائية حقوقية بين متخاصمين حتى يصح أن يكون لولي أمر المسلمين دخل فيها. والله أعلم.
هذا، وبمناسبة ورود كلمة الكعبة لأول مرة نقول : إن المفسرين قالوا : إنها سميت بذلك ؛ لأنها مربعة أو مرتفعة. وإنها من كعبت المرأة إذا نتأ ثديها أو ارتفع كما قالوا : إنها سميت بذلك لانفرادها عن البنيان ( ١ )٧. وقد ينطوي في هذا المعنى الأول بشكل ما. ولقد أشير إليها في مواضع عديدة في السور السابقة المكية والمدينة باسم البيت والبيت الحرام والبيت العتيق، وهو ما كان العرب يسمونها به قبل الإسلام. وكانوا يضعون فيها وحولها أصنامهم ويطوفون بها ويقيمون صلاتهم ويقربون قرابينهم عندها. والمأثور في الروايات
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. والطبري عادته أكثرهم استيعابا وإسهابا..
٢ التاج ج ٢ ص ١٠٧..
٣ المصدر نفسه..
٤ المصدر نفسه ص ١٠٦..
٥ تفسير الطبري..
٦ التاج ج ٣ ص ٨٣..
٧ تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير..
( ١ ) النعم : مرادفة للأنعام.
( ٢ ) ذوا عدل : معروفين بالعدل والاستقامة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٤:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٩٤ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ( ١ ) يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ( ٢ ) مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( ٩٥ ) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ( ٣ ) وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٩٦ ) ﴾ ( ٩٤ – ٩٦ ).

في الآيات :

( ١ ) تنبيه للمسلمين بأن الله قد يختبرهم في متناول أيديهم ورماحهم شيئا من الصيد حتى يظهر فعلا المؤمن المخلص الذي يخاف الله ويؤمن بالغيب ولو لم يره، ويقف عند أوامره.
( ٢ ) وإنذار للذين ينحرفون عند الاختبار، ويعتدون حدود حرمات الله فإن لهم عنده عذابا أليما.
( ٣ ) ونهي عن قتل الصيد في حالة الإحرام وتشريع الكفارة لمن يفعل ذلك. وهو تقريب قربان عند الكعبة من الأنعام معادل لما قتل، أو إطعام بعض مساكين أو صيام بعض أيام تعادل ذلك ليشعر بهذا قاتل الصيد أنه اقترف محظورا وكفر عنه.
( ٤ ) وإيذان بأن الله قد عفا عما سلف من ذلك، وأن من عاد إليه فإنه يكون قد عرض نفسه لانتقام الله العزيز.
( ٥ ) وخطاب تشريعي للمسلمين بأن الله تعالى قد أحل لهم صيد البحر وأكله على أن يتمتع بهذه الرخصة المسلمون على السواء المقيم منهم والمسافر، وبأنه قد حرم عليهم صيد البر ما داموا حرما. وموعظة لهم فعليهم بتقوى الله الذي سيحشرون إليه ويقفون بين يديه.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ............................ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وما ورد
في صددها من أحاديث وشرح لمعنى الكعبة
وقد روى البغوي في سياق الآية الأولى : أنها نزلت عام الحديبية وكان المسلمون محرمين فابتلاهم الله بالصيد وكانت الوحوش تغشى رحالهم بكثرة فهموا بأخذها فنزلت. وروى أن الآية الثانية نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شد على حمار وحش وهو محرم فقتله. ولم نطلع على رواية في مناسبة حل صيد البحر وطعامه. وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولا في تفسير الطبري.
ويلحظ أن الآيات وحدة منسجمة شكلا وموضوعا. وأن فيها موضوعا لم يذكر في روايات النزول وهو حل صيد البحر وطعامه مما يجعلنا نرجح نزول الآيات دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون وقع ما ذكرته الروايات فكان ذلك مناسبة لنزول الفصل ليكون تشريعا تاما في موضوع الصيد في حالة الحرم.
وقد لا تبدو صلة ظرفية بين هذا الفصل والآيات السابقة له. ولكن التناسب الموضوعي ملموح لأنه فصل تشريعي كسابقه وفيه تشريع فيما يؤول إلى الأكل وقصده هو الصيد. والمتبادر أن وضعه في مكانه بسبب ذلك إن لم يكن قد نزل بعد الآيات السابقة مباشرة.
ومع أننا لم نطلع على ما يفيد أن صيد البحر كان محظورا أو غير محظور في حالة الحرم قبل الإسلام، فالذي نرجحه من مدى ومفهوم التقليد القديم في حظر الصيد المنبثق من حظر سفك الدم في حالة الإحرام أنه كان محظورا فاقتضت حكمة التنزيل إباحته ؛ ليكون ذلك تسهيلا للمسلمين عامة وللذين يأتون من المسافات البعيدة ويكون البحر طريقهم أو على طريقهم. وهذا يؤدي إلى القول أن المقصود من الجملة القرآنية إباحة صيد البحر وأكله في حالة الحرم كما هو المتبادر.
ولقد شرحنا مدى جملة :﴿ وأنتم حرم ﴾ في سياق تفسير الآية الأولى من السورة. فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية والأقوال المعزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في مدى ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها ونعلق عليها فيما يلي ( ١ )١ :

١-
هناك من قال : إن الكفارة إنما تجب على الذين يقتلون الصيد عمدا وهم ناسون أنهم في حالة الإحرام. فإذا لم يكونوا ناسين فلا يحكم عليهم بكفارة ؛ لأن ذنبهم أعظم من أن يكفر ويكونون موضع انتقام الله. وينحل إحرامهم ويبطل حجهم. وصرف القائلون جملة :﴿ عفا الله عما سلف ﴾ إلى ما قبل نزول الآيات. وهناك من قال : إن الكفارة تصح لمن يقتل الصيد لأول مرة عمدا في حالة الإحرام، ولو كان ذاكرا أنه في هذه الحالة. فمن كرر العمل فيغدو ذنبه أعظم من أن تكفره كفارة فلا يحكم عليه ويكون موضع انتقام الله. واتفقوا مع القول الأول بصرف العفو عما سلف إلى ما قبل نزول الآيات وقالوا : إن الكفارة لا تسقط ما أنذر الله به من العذاب في الآية الأولى لأنه خالفها. ونبهوا على أن على المحكمين أن يسألا الذي يحكمهما إن كان قتل صيدا عمدا قبل ذلك، فإن قال : نعم رداه ولم يحكما، وإن قال : لا. حكما. وقد صوب الطبري القول الثاني. وهو تصويب في محله إلا في أمر عدم سقوط ذنب الذي يقتل الصيد لأول مرة بالكفارة. فالكفارة ليست تعويضا لصاحب حق، وإنما هي بمثابة توبة لله. والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات كما جاء في آية سورة الشورى ( ٢٥ ) وهناك ذنوب أعظم تسقط بالتوبة فضلا عن الكفارة على ما مر شرحه في سياق الآيات ( ٣٣ – ٣٤ ) من هذه السورة وفي سياق بحث التوبة في سياق سورة الفرقان.

٢-
هناك من قال : إن ( أو ) هي للتخيير. فالحكمان العدلان يحكمان بما يعادل الصيد طعاما أو صياما أو هديا. والصائد يختار إحدى هذه الثلاث للتكفير.
وهناك من قال : إنها للترتيب فيجب الهدي أولا، فإن لم يمكن الطعام فإن لم يمكن فالصيام. والنظم القرآني يتحمل كلا القولين. وإن كنا نميل إلى القول : إن على الميسور أن يقدم هديا إن وجد وقدر عليه، وإلا فيطعم المساكين وإن لم يقدر فليصم، وقد نبهوا على أن الهدي يذبح عند الكعبة. ويوزع لحمه على المساكين.

٣-
وقد بينوا الحدود التي يحسن أن يحكم الحكمان في نطاقها. فمن قتل حمار وحش أو بقرة وحش أو وعلا فعليه هدي بقرة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام عشرة أيام. ومن قتل غزالا أو أرنبا أو ضبا أو يربوعا فعليه شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ستة أيام. ومن قتل دون ذلك كعصفور أو سمان أو حمامة فلا يحكم عليه بهدي ؛ لأنه ليس في الأنعام ما يعادل ذلك، وإن كان يستحب أن يقرب سخلة أو شاة. ويحكم عليه بطعام ثلاثة مساكين أو صيام ثلاثة أيام. والطعام قوت يوم كامل نصف صاع أو مد من بر أو تمر أو أكل جاهز.

٤-
ومما قالوه : إن الصيد يقوم بدراهم وهو حي ويشتري مما ند له من النعم إذا كان القاتل قادرا ولم يكن يملك ندا. وإن لم يجد ندا فيشتري بها حنطة أو تمر أو طعام ويوزع على المساكين. فإن لم يجد فيصوم مقابل ذلك أياما. وهناك من قال : إن صيام يوم يقابل ما قيمته نصف صاع أو مد. وهناك من قال : إن مقابل صيام اليوم ما قيمته صاع أو مد. والاختلاف في عدد الأصوع والأمداد هو بسبب اختلاف روايات مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ترو في الصحاح. ومهما يكن من أمر فالمبدأ الذي احتوته هذه الفقرة هو تقويم الصيد بثمنه وهو حي وشراء ند له وتقريبه وإطعامه للمساكين إذا أمكن وشراء طعام أو حنطة أو تمر بالثمن وتوزيعه على المساكين إذا كان القاتل قادرا وصيام أيام عن كل ما قيمته صاع أو مد أو نصف صاع أو نصف مد يصح أن يكون مبدأ عاما يطبق في كل ظرف. والله أعلم.

٥-
وقد نبهوا على أن النهي هو في صدد ما يؤكل من الحيوان. وأباحوا قتل المؤذي منه في حالة الحرم استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى واحدا منها الخمسة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن : الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور ). وفي رواية :( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ) ( ١ )٢. ولقد ألحق الفقهاء الوحوش الضارة والحيوانات الضارة الأخرى قياسا على هذه الأحاديث، وهو وجيه.

٦-
وقد نبهوا إلى جواز أكل صيد البر للمحرم إذا لم يصده الآكل أو يصد له. استنادا إلى حديث رواه الإمام الشافعي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ) ( ٢ )٣. ولقد روى الخمسة عن ابن عباس قال :( أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمار وحش وهو محرم فرده عليه وقال : لولا أنا محرمون لقبلناه منك، وفي رواية : أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال : إنا لا نأكله، إنا حرم ) ( ٣ )٤. وقد فسر المفسرون هذا الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظن أن هذا الصيد قد صيد له ليزيلوا التناقض بينه وبين الحديث السابق. وأوردوا بسبيل ذلك حديثا جاء فيه :( إن عثمان بن عفان نزل مع ركب بالروحاء، فقرب إليهم طير وهم محرمون فقال لهم عثمان : كلوا فإني غير آكله. فقال له عمرو بن العاص وكان معه : أتأمرنا بما لست آكلا. فقال : لولا أني أظن أنه صيد من أجلي لأكلت فأكل القوم ) ( ٤ )٥. وهناك حديث مؤيد لذلك رواه البخاري والنسائي عن أبي قتادة :( أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال، فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم : لو سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فسألناه فقال : لقد أحسنتم. هل معكم منه شيء ؟ قلنا : نعم. قال : فأهدوا لنا، فأتيناه منه فأكل منه وهو محرم ) ( ٥ )٦.

٧-
ونبهوا كذلك إلى أن صيد البحر وطعامه مباح للمحرم وغير المحرم. وسواء أخرج من الماء حيا أم ميتا. وكذلك ما قذفه البحر إلى الساحل. وما يقدد منه وما يملح. وجعلوا الأنهار في مثابة البحار في هذا الأمر. وبعضهم استثنى الضفادع والسرطانات ؛ لأنها ليست حيوانات بحرية تماما.

٨-
أما الحكمان ذوا العدل فلم نطلع على شيء في صددهما. والمتبادر أن الصائد هو الذي يختارهما من ذوي العدل والخبرة ليقدروا المسألة ويشيروا على الصائد برأيهم فيها. فهذه مسألة دينية وليست مسألة قضائية حقوقية بين متخاصمين حتى يصح أن يكون لولي أمر المسلمين دخل فيها. والله أعلم.
هذا، وبمناسبة ورود كلمة الكعبة لأول مرة نقول : إن المفسرين قالوا : إنها سميت بذلك ؛ لأنها مربعة أو مرتفعة. وإنها من كعبت المرأة إذا نتأ ثديها أو ارتفع كما قالوا : إنها سميت بذلك لانفرادها عن البنيان ( ١ )٧. وقد ينطوي في هذا المعنى الأول بشكل ما. ولقد أشير إليها في مواضع عديدة في السور السابقة المكية والمدينة باسم البيت والبيت الحرام والبيت العتيق، وهو ما كان العرب يسمونها به قبل الإسلام. وكانوا يضعون فيها وحولها أصنامهم ويطوفون بها ويقيمون صلاتهم ويقربون قرابينهم عندها. والمأثور في الروايات
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. والطبري عادته أكثرهم استيعابا وإسهابا..
٢ التاج ج ٢ ص ١٠٧..
٣ المصدر نفسه..
٤ المصدر نفسه ص ١٠٦..
٥ تفسير الطبري..
٦ التاج ج ٣ ص ٨٣..
٧ تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير..

( ٣ ) السيارة : بمعنى القافلة والمسافرين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٤:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٩٤ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ( ١ ) يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ( ٢ ) مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( ٩٥ ) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ( ٣ ) وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٩٦ ) ﴾ ( ٩٤ – ٩٦ ).

في الآيات :

( ١ ) تنبيه للمسلمين بأن الله قد يختبرهم في متناول أيديهم ورماحهم شيئا من الصيد حتى يظهر فعلا المؤمن المخلص الذي يخاف الله ويؤمن بالغيب ولو لم يره، ويقف عند أوامره.
( ٢ ) وإنذار للذين ينحرفون عند الاختبار، ويعتدون حدود حرمات الله فإن لهم عنده عذابا أليما.
( ٣ ) ونهي عن قتل الصيد في حالة الإحرام وتشريع الكفارة لمن يفعل ذلك. وهو تقريب قربان عند الكعبة من الأنعام معادل لما قتل، أو إطعام بعض مساكين أو صيام بعض أيام تعادل ذلك ليشعر بهذا قاتل الصيد أنه اقترف محظورا وكفر عنه.
( ٤ ) وإيذان بأن الله قد عفا عما سلف من ذلك، وأن من عاد إليه فإنه يكون قد عرض نفسه لانتقام الله العزيز.
( ٥ ) وخطاب تشريعي للمسلمين بأن الله تعالى قد أحل لهم صيد البحر وأكله على أن يتمتع بهذه الرخصة المسلمون على السواء المقيم منهم والمسافر، وبأنه قد حرم عليهم صيد البر ما داموا حرما. وموعظة لهم فعليهم بتقوى الله الذي سيحشرون إليه ويقفون بين يديه.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ............................ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وما ورد
في صددها من أحاديث وشرح لمعنى الكعبة
وقد روى البغوي في سياق الآية الأولى : أنها نزلت عام الحديبية وكان المسلمون محرمين فابتلاهم الله بالصيد وكانت الوحوش تغشى رحالهم بكثرة فهموا بأخذها فنزلت. وروى أن الآية الثانية نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شد على حمار وحش وهو محرم فقتله. ولم نطلع على رواية في مناسبة حل صيد البحر وطعامه. وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولا في تفسير الطبري.
ويلحظ أن الآيات وحدة منسجمة شكلا وموضوعا. وأن فيها موضوعا لم يذكر في روايات النزول وهو حل صيد البحر وطعامه مما يجعلنا نرجح نزول الآيات دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون وقع ما ذكرته الروايات فكان ذلك مناسبة لنزول الفصل ليكون تشريعا تاما في موضوع الصيد في حالة الحرم.
وقد لا تبدو صلة ظرفية بين هذا الفصل والآيات السابقة له. ولكن التناسب الموضوعي ملموح لأنه فصل تشريعي كسابقه وفيه تشريع فيما يؤول إلى الأكل وقصده هو الصيد. والمتبادر أن وضعه في مكانه بسبب ذلك إن لم يكن قد نزل بعد الآيات السابقة مباشرة.
ومع أننا لم نطلع على ما يفيد أن صيد البحر كان محظورا أو غير محظور في حالة الحرم قبل الإسلام، فالذي نرجحه من مدى ومفهوم التقليد القديم في حظر الصيد المنبثق من حظر سفك الدم في حالة الإحرام أنه كان محظورا فاقتضت حكمة التنزيل إباحته ؛ ليكون ذلك تسهيلا للمسلمين عامة وللذين يأتون من المسافات البعيدة ويكون البحر طريقهم أو على طريقهم. وهذا يؤدي إلى القول أن المقصود من الجملة القرآنية إباحة صيد البحر وأكله في حالة الحرم كما هو المتبادر.
ولقد شرحنا مدى جملة :﴿ وأنتم حرم ﴾ في سياق تفسير الآية الأولى من السورة. فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية والأقوال المعزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في مدى ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها ونعلق عليها فيما يلي ( ١ )١ :

١-
هناك من قال : إن الكفارة إنما تجب على الذين يقتلون الصيد عمدا وهم ناسون أنهم في حالة الإحرام. فإذا لم يكونوا ناسين فلا يحكم عليهم بكفارة ؛ لأن ذنبهم أعظم من أن يكفر ويكونون موضع انتقام الله. وينحل إحرامهم ويبطل حجهم. وصرف القائلون جملة :﴿ عفا الله عما سلف ﴾ إلى ما قبل نزول الآيات. وهناك من قال : إن الكفارة تصح لمن يقتل الصيد لأول مرة عمدا في حالة الإحرام، ولو كان ذاكرا أنه في هذه الحالة. فمن كرر العمل فيغدو ذنبه أعظم من أن تكفره كفارة فلا يحكم عليه ويكون موضع انتقام الله. واتفقوا مع القول الأول بصرف العفو عما سلف إلى ما قبل نزول الآيات وقالوا : إن الكفارة لا تسقط ما أنذر الله به من العذاب في الآية الأولى لأنه خالفها. ونبهوا على أن على المحكمين أن يسألا الذي يحكمهما إن كان قتل صيدا عمدا قبل ذلك، فإن قال : نعم رداه ولم يحكما، وإن قال : لا. حكما. وقد صوب الطبري القول الثاني. وهو تصويب في محله إلا في أمر عدم سقوط ذنب الذي يقتل الصيد لأول مرة بالكفارة. فالكفارة ليست تعويضا لصاحب حق، وإنما هي بمثابة توبة لله. والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات كما جاء في آية سورة الشورى ( ٢٥ ) وهناك ذنوب أعظم تسقط بالتوبة فضلا عن الكفارة على ما مر شرحه في سياق الآيات ( ٣٣ – ٣٤ ) من هذه السورة وفي سياق بحث التوبة في سياق سورة الفرقان.

٢-
هناك من قال : إن ( أو ) هي للتخيير. فالحكمان العدلان يحكمان بما يعادل الصيد طعاما أو صياما أو هديا. والصائد يختار إحدى هذه الثلاث للتكفير.
وهناك من قال : إنها للترتيب فيجب الهدي أولا، فإن لم يمكن الطعام فإن لم يمكن فالصيام. والنظم القرآني يتحمل كلا القولين. وإن كنا نميل إلى القول : إن على الميسور أن يقدم هديا إن وجد وقدر عليه، وإلا فيطعم المساكين وإن لم يقدر فليصم، وقد نبهوا على أن الهدي يذبح عند الكعبة. ويوزع لحمه على المساكين.

٣-
وقد بينوا الحدود التي يحسن أن يحكم الحكمان في نطاقها. فمن قتل حمار وحش أو بقرة وحش أو وعلا فعليه هدي بقرة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام عشرة أيام. ومن قتل غزالا أو أرنبا أو ضبا أو يربوعا فعليه شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ستة أيام. ومن قتل دون ذلك كعصفور أو سمان أو حمامة فلا يحكم عليه بهدي ؛ لأنه ليس في الأنعام ما يعادل ذلك، وإن كان يستحب أن يقرب سخلة أو شاة. ويحكم عليه بطعام ثلاثة مساكين أو صيام ثلاثة أيام. والطعام قوت يوم كامل نصف صاع أو مد من بر أو تمر أو أكل جاهز.

٤-
ومما قالوه : إن الصيد يقوم بدراهم وهو حي ويشتري مما ند له من النعم إذا كان القاتل قادرا ولم يكن يملك ندا. وإن لم يجد ندا فيشتري بها حنطة أو تمر أو طعام ويوزع على المساكين. فإن لم يجد فيصوم مقابل ذلك أياما. وهناك من قال : إن صيام يوم يقابل ما قيمته نصف صاع أو مد. وهناك من قال : إن مقابل صيام اليوم ما قيمته صاع أو مد. والاختلاف في عدد الأصوع والأمداد هو بسبب اختلاف روايات مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ترو في الصحاح. ومهما يكن من أمر فالمبدأ الذي احتوته هذه الفقرة هو تقويم الصيد بثمنه وهو حي وشراء ند له وتقريبه وإطعامه للمساكين إذا أمكن وشراء طعام أو حنطة أو تمر بالثمن وتوزيعه على المساكين إذا كان القاتل قادرا وصيام أيام عن كل ما قيمته صاع أو مد أو نصف صاع أو نصف مد يصح أن يكون مبدأ عاما يطبق في كل ظرف. والله أعلم.

٥-
وقد نبهوا على أن النهي هو في صدد ما يؤكل من الحيوان. وأباحوا قتل المؤذي منه في حالة الحرم استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى واحدا منها الخمسة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن : الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور ). وفي رواية :( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ) ( ١ )٢. ولقد ألحق الفقهاء الوحوش الضارة والحيوانات الضارة الأخرى قياسا على هذه الأحاديث، وهو وجيه.

٦-
وقد نبهوا إلى جواز أكل صيد البر للمحرم إذا لم يصده الآكل أو يصد له. استنادا إلى حديث رواه الإمام الشافعي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ) ( ٢ )٣. ولقد روى الخمسة عن ابن عباس قال :( أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمار وحش وهو محرم فرده عليه وقال : لولا أنا محرمون لقبلناه منك، وفي رواية : أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال : إنا لا نأكله، إنا حرم ) ( ٣ )٤. وقد فسر المفسرون هذا الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظن أن هذا الصيد قد صيد له ليزيلوا التناقض بينه وبين الحديث السابق. وأوردوا بسبيل ذلك حديثا جاء فيه :( إن عثمان بن عفان نزل مع ركب بالروحاء، فقرب إليهم طير وهم محرمون فقال لهم عثمان : كلوا فإني غير آكله. فقال له عمرو بن العاص وكان معه : أتأمرنا بما لست آكلا. فقال : لولا أني أظن أنه صيد من أجلي لأكلت فأكل القوم ) ( ٤ )٥. وهناك حديث مؤيد لذلك رواه البخاري والنسائي عن أبي قتادة :( أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال، فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم : لو سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فسألناه فقال : لقد أحسنتم. هل معكم منه شيء ؟ قلنا : نعم. قال : فأهدوا لنا، فأتيناه منه فأكل منه وهو محرم ) ( ٥ )٦.

٧-
ونبهوا كذلك إلى أن صيد البحر وطعامه مباح للمحرم وغير المحرم. وسواء أخرج من الماء حيا أم ميتا. وكذلك ما قذفه البحر إلى الساحل. وما يقدد منه وما يملح. وجعلوا الأنهار في مثابة البحار في هذا الأمر. وبعضهم استثنى الضفادع والسرطانات ؛ لأنها ليست حيوانات بحرية تماما.

٨-
أما الحكمان ذوا العدل فلم نطلع على شيء في صددهما. والمتبادر أن الصائد هو الذي يختارهما من ذوي العدل والخبرة ليقدروا المسألة ويشيروا على الصائد برأيهم فيها. فهذه مسألة دينية وليست مسألة قضائية حقوقية بين متخاصمين حتى يصح أن يكون لولي أمر المسلمين دخل فيها. والله أعلم.
هذا، وبمناسبة ورود كلمة الكعبة لأول مرة نقول : إن المفسرين قالوا : إنها سميت بذلك ؛ لأنها مربعة أو مرتفعة. وإنها من كعبت المرأة إذا نتأ ثديها أو ارتفع كما قالوا : إنها سميت بذلك لانفرادها عن البنيان ( ١ )٧. وقد ينطوي في هذا المعنى الأول بشكل ما. ولقد أشير إليها في مواضع عديدة في السور السابقة المكية والمدينة باسم البيت والبيت الحرام والبيت العتيق، وهو ما كان العرب يسمونها به قبل الإسلام. وكانوا يضعون فيها وحولها أصنامهم ويطوفون بها ويقيمون صلاتهم ويقربون قرابينهم عندها. والمأثور في الروايات
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. والطبري عادته أكثرهم استيعابا وإسهابا..
٢ التاج ج ٢ ص ١٠٧..
٣ المصدر نفسه..
٤ المصدر نفسه ص ١٠٦..
٥ تفسير الطبري..
٦ التاج ج ٣ ص ٨٣..
٧ تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير..

( ١ ) قياما للناس : قوام حياة الناس ومصالحهم.
﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا ( ١ ) لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٩٧ ) اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩٨ ) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٩٩ ) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٠٠ ) ﴾ ( ٩٧ – ١٠٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ............................... ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وتلقين وحكمة الإبقاء على معظم تقاليد الحج السابقة للإسلام

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) تنبيها إلى ما في الكعبة التي هي بيت الله الحرام، والأشهر الحرم والهدي والقلائد وحرماتها وتقاليدها من أسباب قوام أمور الناس ومعايشهم ومصالحهم.
( ٢ ) وهتافا للمؤمنين : بأن عليهم أن يتأكدوا ويعلموا أن الله العليم بكل ما في السماوات والأرض عليم بمقتضيات كل شيء، وبما يقوم به أمر الناس. وأنه شديد العقاب على من يتمرد على حرماته وينقضها غفور رحيم لمن حسنت نيته وراقب الله في أعماله وندم على ما فرط منه.
( ٣ ) وتنبيها آخر إلى أنه ليس على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا البلاغ، وأن الله مراقب المخاطبين وعليم بكل ما يبدون وما يكتمون ومحصيه عليهم.
( ٤ ) والتفاتا في الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر به بأن يقول للناس : إنه لا يصح في حال أن يكون الخبيث والطيب والحلال والحرام سواء، ولو كان ظاهر الخبيث أو الحرام معجبا مغريا بكثرته.
( ٥ ) وهتافا موجها إلى أولي العقول بتقوى الله تعالى، فإن فيها الفلاح والنجاح.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة على سبيل البيان والتعليل لتقاليد الحج المتنوعة التي من جملتها تحريم الصيد. ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أو عقبها مباشرة.
ولقد شرحنا في مناسبات سابقة من هذه السورة وقبلها مدى ودلالات وتقاليد الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد، فلا ضرورة للإعادة أو الزيادة. وإنما نريد أن نلفت النظر إلى ما احتوته الآيات من تعليل رائع في مداه ومفهومه وتلقينه لتقاليد الحج. فالله عز وجل إنما ألهم العرب هذه التقاليد أولا، وأقرها في القرآن ثانيا، من أجل ما فيها من مصالح عظيمة للناس متنوعة الأشكال والصور وخاصة وعامة ودنيوية وتعبدية معا، وفيه قرينة على ما كان لهذه التقاليد من أثر صالح في حياة العرب قبل الإسلام ؛ حيث كانت وسيلة لاجتماعهم في مناسك واحدة ومكان واحد على اختلاف عقائدهم ومعبوداتهم ومنازلهم، ومظهرا من مظاهر حركة وحدوية ظهرت فيهم، وهدنة مقدسة تتوقف فيها الحروب والمنازعات ويسود فيها الأمن والطمأنينة في تلك الربوع الشاسعة الواسعة التي ليس فيها سلطات حكومية أو قضائية نافذة، وسببا لقيام أسواق يتبادلون فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم، ويحلون مشاكلهم، وتتوحد لغاتهم ولهجاتهم. ويتداولون مفاخرهم، ويستمعون للمواعظ والخطب والقصائد والأخبار المتنوعة في مداها وتأثيرها مما شرحنا صوره في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الحج والبقرة.
وفي كل هذا مظهر حركة يقظة وجيشان نفوس وأفكار سبقت البعثة النبوية.
والآيات بهذا الاعتبار تنبه على أن التشريع الإسلامي إنما يستهدف مصالح الناس المادية والمعنوية. وتزيل وهما يمكن أن يقوم في الأذهان نحو تقاليد الحج التي أبقي أكثرها على ما كان عليه في الجاهلية بعد تجريدها مما فيها من شوائب ومعائب. كما أنها تحتوي تلقينا جليلا شاملا ومستمرا بإباحة توطيد وإيجاد وتيسير كل ما من شأنه أن يكون فيه قوام مصالح الناس ومعايشهم، ووسيلة إلى قوة المسلمين وعمران بلادهم، وارتقاء أحوالهم مع مراعاة الله تعالى والوقوف
عند الحدود التي رسمها للحلال والحرام والطيب والخبيث والنافع والضار والخير والشر والعدل والإحسان والبغي والطغيان.
ولقد أتمت الآية الأخيرة هذا التلقين بما نبهت عليه من عدم جواز إقبال الناس على الخبيث والحرام والضار والشر انخداعا بمظهره وزخرفه ولذته وسهولة الحصول عليه، ومن وجوب التفريق بينه وبين الطيب والحلال والنافع والخير وعدم التسوية بين هذا وذاك. وفي المقطع الأخير من الآية معنى قوي ؛ حيث وجه الخطاب فيه لذوي العقول المفكرة على اعتبار أنهم يستطيعون التمييز وإدراك ما في تنبيه القرآن من حكمة وحق وأسباب نجاح وفلاح يستطيعون أن يبينوه للناس، ويتقون الله ويدعون إلى تقواه.
وكل هذا متسق مع التقريرات والتلقينات القرآنية العامة على ما مر التنبيه إليه في مناسبات كثيرة سابقة. وكل هذا كذلك من مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود ؛ لأنه متسق مع مصلحة الإنسانية وكرامتها وخيرها وصلاحها وطهارة روحها، ولا يستطيع عاقل منصف في أي ظرف أن ينكره.
﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا ( ١ ) لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٩٧ ) اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩٨ ) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٩٩ ) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٠٠ ) ﴾ ( ٩٧ – ١٠٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ............................... ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وتلقين وحكمة الإبقاء على معظم تقاليد الحج السابقة للإسلام

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) تنبيها إلى ما في الكعبة التي هي بيت الله الحرام، والأشهر الحرم والهدي والقلائد وحرماتها وتقاليدها من أسباب قوام أمور الناس ومعايشهم ومصالحهم.
( ٢ ) وهتافا للمؤمنين : بأن عليهم أن يتأكدوا ويعلموا أن الله العليم بكل ما في السماوات والأرض عليم بمقتضيات كل شيء، وبما يقوم به أمر الناس. وأنه شديد العقاب على من يتمرد على حرماته وينقضها غفور رحيم لمن حسنت نيته وراقب الله في أعماله وندم على ما فرط منه.
( ٣ ) وتنبيها آخر إلى أنه ليس على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا البلاغ، وأن الله مراقب المخاطبين وعليم بكل ما يبدون وما يكتمون ومحصيه عليهم.
( ٤ ) والتفاتا في الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر به بأن يقول للناس : إنه لا يصح في حال أن يكون الخبيث والطيب والحلال والحرام سواء، ولو كان ظاهر الخبيث أو الحرام معجبا مغريا بكثرته.
( ٥ ) وهتافا موجها إلى أولي العقول بتقوى الله تعالى، فإن فيها الفلاح والنجاح.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة على سبيل البيان والتعليل لتقاليد الحج المتنوعة التي من جملتها تحريم الصيد. ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أو عقبها مباشرة.
ولقد شرحنا في مناسبات سابقة من هذه السورة وقبلها مدى ودلالات وتقاليد الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد، فلا ضرورة للإعادة أو الزيادة. وإنما نريد أن نلفت النظر إلى ما احتوته الآيات من تعليل رائع في مداه ومفهومه وتلقينه لتقاليد الحج. فالله عز وجل إنما ألهم العرب هذه التقاليد أولا، وأقرها في القرآن ثانيا، من أجل ما فيها من مصالح عظيمة للناس متنوعة الأشكال والصور وخاصة وعامة ودنيوية وتعبدية معا، وفيه قرينة على ما كان لهذه التقاليد من أثر صالح في حياة العرب قبل الإسلام ؛ حيث كانت وسيلة لاجتماعهم في مناسك واحدة ومكان واحد على اختلاف عقائدهم ومعبوداتهم ومنازلهم، ومظهرا من مظاهر حركة وحدوية ظهرت فيهم، وهدنة مقدسة تتوقف فيها الحروب والمنازعات ويسود فيها الأمن والطمأنينة في تلك الربوع الشاسعة الواسعة التي ليس فيها سلطات حكومية أو قضائية نافذة، وسببا لقيام أسواق يتبادلون فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم، ويحلون مشاكلهم، وتتوحد لغاتهم ولهجاتهم. ويتداولون مفاخرهم، ويستمعون للمواعظ والخطب والقصائد والأخبار المتنوعة في مداها وتأثيرها مما شرحنا صوره في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الحج والبقرة.
وفي كل هذا مظهر حركة يقظة وجيشان نفوس وأفكار سبقت البعثة النبوية.
والآيات بهذا الاعتبار تنبه على أن التشريع الإسلامي إنما يستهدف مصالح الناس المادية والمعنوية. وتزيل وهما يمكن أن يقوم في الأذهان نحو تقاليد الحج التي أبقي أكثرها على ما كان عليه في الجاهلية بعد تجريدها مما فيها من شوائب ومعائب. كما أنها تحتوي تلقينا جليلا شاملا ومستمرا بإباحة توطيد وإيجاد وتيسير كل ما من شأنه أن يكون فيه قوام مصالح الناس ومعايشهم، ووسيلة إلى قوة المسلمين وعمران بلادهم، وارتقاء أحوالهم مع مراعاة الله تعالى والوقوف
عند الحدود التي رسمها للحلال والحرام والطيب والخبيث والنافع والضار والخير والشر والعدل والإحسان والبغي والطغيان.
ولقد أتمت الآية الأخيرة هذا التلقين بما نبهت عليه من عدم جواز إقبال الناس على الخبيث والحرام والضار والشر انخداعا بمظهره وزخرفه ولذته وسهولة الحصول عليه، ومن وجوب التفريق بينه وبين الطيب والحلال والنافع والخير وعدم التسوية بين هذا وذاك. وفي المقطع الأخير من الآية معنى قوي ؛ حيث وجه الخطاب فيه لذوي العقول المفكرة على اعتبار أنهم يستطيعون التمييز وإدراك ما في تنبيه القرآن من حكمة وحق وأسباب نجاح وفلاح يستطيعون أن يبينوه للناس، ويتقون الله ويدعون إلى تقواه.
وكل هذا متسق مع التقريرات والتلقينات القرآنية العامة على ما مر التنبيه إليه في مناسبات كثيرة سابقة. وكل هذا كذلك من مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود ؛ لأنه متسق مع مصلحة الإنسانية وكرامتها وخيرها وصلاحها وطهارة روحها، ولا يستطيع عاقل منصف في أي ظرف أن ينكره.
﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا ( ١ ) لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٩٧ ) اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩٨ ) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٩٩ ) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٠٠ ) ﴾ ( ٩٧ – ١٠٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ............................... ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وتلقين وحكمة الإبقاء على معظم تقاليد الحج السابقة للإسلام

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) تنبيها إلى ما في الكعبة التي هي بيت الله الحرام، والأشهر الحرم والهدي والقلائد وحرماتها وتقاليدها من أسباب قوام أمور الناس ومعايشهم ومصالحهم.
( ٢ ) وهتافا للمؤمنين : بأن عليهم أن يتأكدوا ويعلموا أن الله العليم بكل ما في السماوات والأرض عليم بمقتضيات كل شيء، وبما يقوم به أمر الناس. وأنه شديد العقاب على من يتمرد على حرماته وينقضها غفور رحيم لمن حسنت نيته وراقب الله في أعماله وندم على ما فرط منه.
( ٣ ) وتنبيها آخر إلى أنه ليس على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا البلاغ، وأن الله مراقب المخاطبين وعليم بكل ما يبدون وما يكتمون ومحصيه عليهم.
( ٤ ) والتفاتا في الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر به بأن يقول للناس : إنه لا يصح في حال أن يكون الخبيث والطيب والحلال والحرام سواء، ولو كان ظاهر الخبيث أو الحرام معجبا مغريا بكثرته.
( ٥ ) وهتافا موجها إلى أولي العقول بتقوى الله تعالى، فإن فيها الفلاح والنجاح.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة على سبيل البيان والتعليل لتقاليد الحج المتنوعة التي من جملتها تحريم الصيد. ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أو عقبها مباشرة.
ولقد شرحنا في مناسبات سابقة من هذه السورة وقبلها مدى ودلالات وتقاليد الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد، فلا ضرورة للإعادة أو الزيادة. وإنما نريد أن نلفت النظر إلى ما احتوته الآيات من تعليل رائع في مداه ومفهومه وتلقينه لتقاليد الحج. فالله عز وجل إنما ألهم العرب هذه التقاليد أولا، وأقرها في القرآن ثانيا، من أجل ما فيها من مصالح عظيمة للناس متنوعة الأشكال والصور وخاصة وعامة ودنيوية وتعبدية معا، وفيه قرينة على ما كان لهذه التقاليد من أثر صالح في حياة العرب قبل الإسلام ؛ حيث كانت وسيلة لاجتماعهم في مناسك واحدة ومكان واحد على اختلاف عقائدهم ومعبوداتهم ومنازلهم، ومظهرا من مظاهر حركة وحدوية ظهرت فيهم، وهدنة مقدسة تتوقف فيها الحروب والمنازعات ويسود فيها الأمن والطمأنينة في تلك الربوع الشاسعة الواسعة التي ليس فيها سلطات حكومية أو قضائية نافذة، وسببا لقيام أسواق يتبادلون فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم، ويحلون مشاكلهم، وتتوحد لغاتهم ولهجاتهم. ويتداولون مفاخرهم، ويستمعون للمواعظ والخطب والقصائد والأخبار المتنوعة في مداها وتأثيرها مما شرحنا صوره في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الحج والبقرة.
وفي كل هذا مظهر حركة يقظة وجيشان نفوس وأفكار سبقت البعثة النبوية.
والآيات بهذا الاعتبار تنبه على أن التشريع الإسلامي إنما يستهدف مصالح الناس المادية والمعنوية. وتزيل وهما يمكن أن يقوم في الأذهان نحو تقاليد الحج التي أبقي أكثرها على ما كان عليه في الجاهلية بعد تجريدها مما فيها من شوائب ومعائب. كما أنها تحتوي تلقينا جليلا شاملا ومستمرا بإباحة توطيد وإيجاد وتيسير كل ما من شأنه أن يكون فيه قوام مصالح الناس ومعايشهم، ووسيلة إلى قوة المسلمين وعمران بلادهم، وارتقاء أحوالهم مع مراعاة الله تعالى والوقوف
عند الحدود التي رسمها للحلال والحرام والطيب والخبيث والنافع والضار والخير والشر والعدل والإحسان والبغي والطغيان.
ولقد أتمت الآية الأخيرة هذا التلقين بما نبهت عليه من عدم جواز إقبال الناس على الخبيث والحرام والضار والشر انخداعا بمظهره وزخرفه ولذته وسهولة الحصول عليه، ومن وجوب التفريق بينه وبين الطيب والحلال والنافع والخير وعدم التسوية بين هذا وذاك. وفي المقطع الأخير من الآية معنى قوي ؛ حيث وجه الخطاب فيه لذوي العقول المفكرة على اعتبار أنهم يستطيعون التمييز وإدراك ما في تنبيه القرآن من حكمة وحق وأسباب نجاح وفلاح يستطيعون أن يبينوه للناس، ويتقون الله ويدعون إلى تقواه.
وكل هذا متسق مع التقريرات والتلقينات القرآنية العامة على ما مر التنبيه إليه في مناسبات كثيرة سابقة. وكل هذا كذلك من مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود ؛ لأنه متسق مع مصلحة الإنسانية وكرامتها وخيرها وصلاحها وطهارة روحها، ولا يستطيع عاقل منصف في أي ظرف أن ينكره.
تعليق على مدى جملة :﴿ ما على الرسول إلا البلاغ ﴾
ونقف عند مدى جملة :﴿ ما على الرسول إلا البلاغ ﴾ لنقول : إنها في مقامها تعني أن الرسول لم يرسل ليسيطر على أفعال العباد وقلوبهم، وإنما ليكون مبلغا عن الله فيما شاء من رسوم وحدود. وقد تكرر هذا في مثل هذا المقام في سور مكية ومدنية عديدة.
وليس بين هذا وبين ما أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يباشره في العهد المدني بخاصة من سلطان زمني على المسلمين ومن يدخل في ذمتهم ومن أعمال فيها مهمة الدولة والسلطان مثل تسيير وقيادة الجيوش والحرب والصلح وجباية الزكاة وقبض الزكاة وخمس الغنائم والفيء والتصرف فيها حسب الحدود المرسومة والقضاء بين المسلمين فيما يشجر بينهم من مشاكل ومنازعات وإقامة الحدود الخ. فكل هذا باشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإلهام أو وحي قرآني، وصار له به سلطان زمني بالإضافة إلى مهمة التبليغ عن الله. ولا يعني هذا أنه صار له على قلوب الناس وأفعالهم سيطرة مانعة لهم من أي فعل وتفكير. فقد كان وظل يقوم بتبليغ ما أمره الله به لهم ويعمل فيهم في نطاق ذلك. وما كان يبقى في حيز تفكيرهم رفع عنهم إثمه ؛ لأن الله قرر ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ كما جاء في الآية ( ٢٨٦ ) من سورة البقرة وفي نطاق شرحنا لها. وما كانوا يفعلونه إن كان حلالا ومباحا أقرهم عليه، وإن كان بغيا وعدوانا أقام عليهم فيه أحكام الله في نطاق تبليغاته ووحيه وإلهامه. والله تعالى أعلم.
﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا ( ١ ) لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٩٧ ) اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩٨ ) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٩٩ ) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٠٠ ) ﴾ ( ٩٧ – ١٠٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ............................... ﴾ الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وتلقين وحكمة الإبقاء على معظم تقاليد الحج السابقة للإسلام

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) تنبيها إلى ما في الكعبة التي هي بيت الله الحرام، والأشهر الحرم والهدي والقلائد وحرماتها وتقاليدها من أسباب قوام أمور الناس ومعايشهم ومصالحهم.
( ٢ ) وهتافا للمؤمنين : بأن عليهم أن يتأكدوا ويعلموا أن الله العليم بكل ما في السماوات والأرض عليم بمقتضيات كل شيء، وبما يقوم به أمر الناس. وأنه شديد العقاب على من يتمرد على حرماته وينقضها غفور رحيم لمن حسنت نيته وراقب الله في أعماله وندم على ما فرط منه.
( ٣ ) وتنبيها آخر إلى أنه ليس على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا البلاغ، وأن الله مراقب المخاطبين وعليم بكل ما يبدون وما يكتمون ومحصيه عليهم.
( ٤ ) والتفاتا في الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر به بأن يقول للناس : إنه لا يصح في حال أن يكون الخبيث والطيب والحلال والحرام سواء، ولو كان ظاهر الخبيث أو الحرام معجبا مغريا بكثرته.
( ٥ ) وهتافا موجها إلى أولي العقول بتقوى الله تعالى، فإن فيها الفلاح والنجاح.
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة على سبيل البيان والتعليل لتقاليد الحج المتنوعة التي من جملتها تحريم الصيد. ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أو عقبها مباشرة.
ولقد شرحنا في مناسبات سابقة من هذه السورة وقبلها مدى ودلالات وتقاليد الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد، فلا ضرورة للإعادة أو الزيادة. وإنما نريد أن نلفت النظر إلى ما احتوته الآيات من تعليل رائع في مداه ومفهومه وتلقينه لتقاليد الحج. فالله عز وجل إنما ألهم العرب هذه التقاليد أولا، وأقرها في القرآن ثانيا، من أجل ما فيها من مصالح عظيمة للناس متنوعة الأشكال والصور وخاصة وعامة ودنيوية وتعبدية معا، وفيه قرينة على ما كان لهذه التقاليد من أثر صالح في حياة العرب قبل الإسلام ؛ حيث كانت وسيلة لاجتماعهم في مناسك واحدة ومكان واحد على اختلاف عقائدهم ومعبوداتهم ومنازلهم، ومظهرا من مظاهر حركة وحدوية ظهرت فيهم، وهدنة مقدسة تتوقف فيها الحروب والمنازعات ويسود فيها الأمن والطمأنينة في تلك الربوع الشاسعة الواسعة التي ليس فيها سلطات حكومية أو قضائية نافذة، وسببا لقيام أسواق يتبادلون فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم، ويحلون مشاكلهم، وتتوحد لغاتهم ولهجاتهم. ويتداولون مفاخرهم، ويستمعون للمواعظ والخطب والقصائد والأخبار المتنوعة في مداها وتأثيرها مما شرحنا صوره في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الحج والبقرة.
وفي كل هذا مظهر حركة يقظة وجيشان نفوس وأفكار سبقت البعثة النبوية.
والآيات بهذا الاعتبار تنبه على أن التشريع الإسلامي إنما يستهدف مصالح الناس المادية والمعنوية. وتزيل وهما يمكن أن يقوم في الأذهان نحو تقاليد الحج التي أبقي أكثرها على ما كان عليه في الجاهلية بعد تجريدها مما فيها من شوائب ومعائب. كما أنها تحتوي تلقينا جليلا شاملا ومستمرا بإباحة توطيد وإيجاد وتيسير كل ما من شأنه أن يكون فيه قوام مصالح الناس ومعايشهم، ووسيلة إلى قوة المسلمين وعمران بلادهم، وارتقاء أحوالهم مع مراعاة الله تعالى والوقوف
عند الحدود التي رسمها للحلال والحرام والطيب والخبيث والنافع والضار والخير والشر والعدل والإحسان والبغي والطغيان.
ولقد أتمت الآية الأخيرة هذا التلقين بما نبهت عليه من عدم جواز إقبال الناس على الخبيث والحرام والضار والشر انخداعا بمظهره وزخرفه ولذته وسهولة الحصول عليه، ومن وجوب التفريق بينه وبين الطيب والحلال والنافع والخير وعدم التسوية بين هذا وذاك. وفي المقطع الأخير من الآية معنى قوي ؛ حيث وجه الخطاب فيه لذوي العقول المفكرة على اعتبار أنهم يستطيعون التمييز وإدراك ما في تنبيه القرآن من حكمة وحق وأسباب نجاح وفلاح يستطيعون أن يبينوه للناس، ويتقون الله ويدعون إلى تقواه.
وكل هذا متسق مع التقريرات والتلقينات القرآنية العامة على ما مر التنبيه إليه في مناسبات كثيرة سابقة. وكل هذا كذلك من مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود ؛ لأنه متسق مع مصلحة الإنسانية وكرامتها وخيرها وصلاحها وطهارة روحها، ولا يستطيع عاقل منصف في أي ظرف أن ينكره.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ١٠١ ) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ( ١٠٢ ) ﴾ ( ١٠١ – ١٠٢ ).
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ......................... ﴾ الخ
وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت :
( ١ ) نهيا للمسلمين عن سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور بدون مناسبة وضرورة.
( ٢ ) وتعليلا للنهي بأنهم قد يجابون إجابة فيها ما يكرهون أو يسيئهم بشدته ومشقته.
( ٣ ) وتنبيها تدعيميا للنهي والتعليل. فقد كان بعض من سبقهم يسألون أنبياءهم مثل هذه الأسئلة فكانت أجوبتها سببا لجحودهم وتمردهم.
( ٤ ) وإيعازا لهم بأنهم إذا كانوا يودون السؤال عن شيء فليسألوا عنه حين ينزل قرآن فيه مناسبة لذلك. فهذا هو ما يصح وما يحسن أن يسألوا عنه بدون حرج ولا خوف عاقبة فيجابوا بما فيها البيان.
( ٥ ) وإيذانا بأن الله تعالى قد عفا عما وقع من مثل هذه الأمور، وهو الغفور الحليم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والآيات فصل مستقل كما يبدو. ولعلها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها في ترتيب السورة، وقد روي في سبب نزولها روايات عديدة. منها رواية رواها البخاري والترمذي عن ابن عباس قال :( كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله الآيات ) ( ١ )١. ورواية رواها الترمذي ومسلم عن علي قال :( لما نزلت :﴿ ولله على الناس حج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلا ﴾ قالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ فسكت. قالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ قال : لا. ولو قلت : نعم لوجبت فأنزل الله الآيات ) ( ٢ )٢. ورواية رواها البخاري ومسلم عن أنس قال :( بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال : عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فما أتى على الأصحاب يوم أشد منه حتى غطوا رؤوسهم ولهم خنين فقام عمر فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فقام رجل فقال : من أبي ؟ قال : أبوك فلان فنزلت الآيات ) ( ٣ )٣. ولقد أورد الطبري هذه الروايات مع شيء من الزيادة وبطرق أخرى. فالرواية الثانية رواها عن أبي هريرة فيها زيادة ( ولو وجبت لكفرتم ) وليس فيها أن السؤال ورد حينما نزلت الآية ﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ وإنما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام في الناس فقال :( كتب عليكم الحج ) والرواية الأخيرة رواها بهذه الصيغة :( سأل الناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فألحفوا في المسألة، فغضب فقال : لا تسألوني عن شيء في مقامي إلا أجبتكم عليه، فقام رجل كان يدعى إلى غير أبيه فقال : من أبي يا رسول الله فقال : له أبوك حذافة. فقام رجل آخر فقال : أين أبي يا رسول الله فقال له : في النار، فقام عمر فقبل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك فاعف عنا عفا الله عنك، فسكن غضبه، وفي رواية قال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبنبينا محمد رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن فنزلت الآية ).
وإلى هذا فإن الطبري روى عن ابن عباس أن الآيتين نزلتا بسبب سؤال بعضهم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام التي ورد ذكرها في الآية التي تأتي بعد الآيتين اللتين نحن في صددهما. وليس في كتب التفسير زيادة عما في كتاب الطبري.
ويتبادر لنا أن السؤال عن البحيرة وأخواتها لا يقتضي نهيا ولا إنذارا ولا غضبا من الله ورسوله. وهذا ما جعلنا نفرد الآيتين عن الآيات التالية لها. إلا أن يقال : إن السؤال أورد في مناسبة أو في صيغة غير لائقة. والله تعالى أعلم.
ويلحظ أن الأحاديث التي يرويها البخاري ومسلم والترمذي متباعدة إلا أن يقال : إن من الجائز أن يكون كل ما ورد فيها كان يحدث حتى كثرت الأسئلة بدون مناسبة وضرورة، وكان منها ما هو غير لائق في مداه أو صيغته فوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم موقف الغاضب ونزلت الآيات ناهية منذرة معلمة.
ومهما يكن من أمر فالآيتان كما هو متبادر من فحواهما بسبيل التحذير من اللجاجة والمواقف والأسئلة المثيرة التي قد يكون لها نتائج ضارة وسيئة لأصحابها وغيرهم. وفي هذا ما فيه من تلقين تأديبي وتعليمي رفيع مستمر المدى.
ولقد روى مسلم عن سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته ) ( ١ )٤. وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) ( ٢ )٥. ولقد أورد ابن كثير والقاسمي حديثا عزاه الأخير إلى ابن ماجة والترمذي والحاكم جاء فيه :( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا ) وأورد ابن كثير حديثا وصفه بالصحيح جاء فيه :( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ).
وينطوي في الأحاديث تلقينات رائعة واسعة المدى متسقة مع التلقين القرآني، وفيها مثل أخلاقية واجتماعية وسلوكية وتعبدية يحتذيها المسلم ويقيس عليها أمورا كثيرة من شؤون الدين والدنيا مماثلة لها في كل ظرف ومكان. والله تعالى أعلم.
وواضح من روح الآيات والأحاديث أن الأسئلة المكروهة هي ما كان فيه تنطع وتكلف وحذلقة وقصد إحراج ومماراة وجدل من دون ما ضرورة من شرع ودين ومصلحة. وأن الأسئلة التي لا يكون فيها ذلك و كان فيها رغبة معرفة حدود كتاب الله وسنة رسوله ليست مكروهة ولا محظورة بل هي واجبة على المسلم. ولقد روى أبو داود حديثا عن جابر قال :( خرجنا في سفر فأصاب رجل منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال ) ( ١ )٦.
هذا، ولقد روى الطبري في صدد جملة :﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ﴾ أنهم الذين سألوا عيسى إنزال المائدة، فلما أعطوها كفروا أو إنهم قوم صالح سألوا معجزة، فلما أظهر الله لهم معجزة الناقة كفروا أو إنهم بعض المنافقين واليهود طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الأمور، فلما أجيبوا كفروا. وليس شيء من هذه الأقوال واردا في كتب الصحاح. ولا نرى الأمثلة تنطبق تماما على فحوى العبارة. وفي الجملة إخبار رباني وليس هناك توضيح نبوي فيوقف عند ذلك بدون تخمين كما هو الواجب في هذا وأمثاله. والله تعالى أعلم.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والآيات فصل مستقل كما يبدو. ولعلها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها في ترتيب السورة، وقد روي في سبب نزولها روايات عديدة. منها رواية رواها البخاري والترمذي عن ابن عباس قال :( كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله الآيات ) ( ١ )١. ورواية رواها الترمذي ومسلم عن علي قال :( لما نزلت :﴿ ولله على الناس حج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلا ﴾ قالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ فسكت. قالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ قال : لا. ولو قلت : نعم لوجبت فأنزل الله الآيات ) ( ٢ )٢. ورواية رواها البخاري ومسلم عن أنس قال :( بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال : عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فما أتى على الأصحاب يوم أشد منه حتى غطوا رؤوسهم ولهم خنين فقام عمر فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فقام رجل فقال : من أبي ؟ قال : أبوك فلان فنزلت الآيات ) ( ٣ )٣. ولقد أورد الطبري هذه الروايات مع شيء من الزيادة وبطرق أخرى. فالرواية الثانية رواها عن أبي هريرة فيها زيادة ( ولو وجبت لكفرتم ) وليس فيها أن السؤال ورد حينما نزلت الآية ﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ وإنما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام في الناس فقال :( كتب عليكم الحج ) والرواية الأخيرة رواها بهذه الصيغة :( سأل الناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فألحفوا في المسألة، فغضب فقال : لا تسألوني عن شيء في مقامي إلا أجبتكم عليه، فقام رجل كان يدعى إلى غير أبيه فقال : من أبي يا رسول الله فقال : له أبوك حذافة. فقام رجل آخر فقال : أين أبي يا رسول الله فقال له : في النار، فقام عمر فقبل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك فاعف عنا عفا الله عنك، فسكن غضبه، وفي رواية قال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبنبينا محمد رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن فنزلت الآية ).
وإلى هذا فإن الطبري روى عن ابن عباس أن الآيتين نزلتا بسبب سؤال بعضهم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام التي ورد ذكرها في الآية التي تأتي بعد الآيتين اللتين نحن في صددهما. وليس في كتب التفسير زيادة عما في كتاب الطبري.
ويتبادر لنا أن السؤال عن البحيرة وأخواتها لا يقتضي نهيا ولا إنذارا ولا غضبا من الله ورسوله. وهذا ما جعلنا نفرد الآيتين عن الآيات التالية لها. إلا أن يقال : إن السؤال أورد في مناسبة أو في صيغة غير لائقة. والله تعالى أعلم.
ويلحظ أن الأحاديث التي يرويها البخاري ومسلم والترمذي متباعدة إلا أن يقال : إن من الجائز أن يكون كل ما ورد فيها كان يحدث حتى كثرت الأسئلة بدون مناسبة وضرورة، وكان منها ما هو غير لائق في مداه أو صيغته فوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم موقف الغاضب ونزلت الآيات ناهية منذرة معلمة.
ومهما يكن من أمر فالآيتان كما هو متبادر من فحواهما بسبيل التحذير من اللجاجة والمواقف والأسئلة المثيرة التي قد يكون لها نتائج ضارة وسيئة لأصحابها وغيرهم. وفي هذا ما فيه من تلقين تأديبي وتعليمي رفيع مستمر المدى.
ولقد روى مسلم عن سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته ) ( ١ )٤. وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) ( ٢ )٥. ولقد أورد ابن كثير والقاسمي حديثا عزاه الأخير إلى ابن ماجة والترمذي والحاكم جاء فيه :( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا ) وأورد ابن كثير حديثا وصفه بالصحيح جاء فيه :( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ).
وينطوي في الأحاديث تلقينات رائعة واسعة المدى متسقة مع التلقين القرآني، وفيها مثل أخلاقية واجتماعية وسلوكية وتعبدية يحتذيها المسلم ويقيس عليها أمورا كثيرة من شؤون الدين والدنيا مماثلة لها في كل ظرف ومكان. والله تعالى أعلم.
وواضح من روح الآيات والأحاديث أن الأسئلة المكروهة هي ما كان فيه تنطع وتكلف وحذلقة وقصد إحراج ومماراة وجدل من دون ما ضرورة من شرع ودين ومصلحة. وأن الأسئلة التي لا يكون فيها ذلك و كان فيها رغبة معرفة حدود كتاب الله وسنة رسوله ليست مكروهة ولا محظورة بل هي واجبة على المسلم. ولقد روى أبو داود حديثا عن جابر قال :( خرجنا في سفر فأصاب رجل منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال ) ( ١ )٦.
هذا، ولقد روى الطبري في صدد جملة :﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ﴾ أنهم الذين سألوا عيسى إنزال المائدة، فلما أعطوها كفروا أو إنهم قوم صالح سألوا معجزة، فلما أظهر الله لهم معجزة الناقة كفروا أو إنهم بعض المنافقين واليهود طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الأمور، فلما أجيبوا كفروا. وليس شيء من هذه الأقوال واردا في كتب الصحاح. ولا نرى الأمثلة تنطبق تماما على فحوى العبارة. وفي الجملة إخبار رباني وليس هناك توضيح نبوي فيوقف عند ذلك بدون تخمين كما هو الواجب في هذا وأمثاله. والله تعالى أعلم.

( ١ ) بحيرة : من البحر وهو الشق.
( ٢ ) سائبة : من السيب. وهو الترك.
( ٣ ) وصيلة : من الوصل.
( ٤ ) حام : من الحماية.
﴿ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ ( ١ ) وَلاَ سَآئِبَةٍ ( ٢ ) وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ( ٣ ) وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( ١٠٣ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ( ١٠٤ ) ﴾ ( ١٠٣ – ١٠٤ ).

تعليق على الآية :

﴿ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ.................... ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين

في الآيتين :

( ١ ) تقرير بأن الله تعالى لم يشرع شريعة البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ولم يأمر بالجري على تقاليدها.
( ٢ ) واستدراك بأن الذين يمارسون هذه الشريعة من الكفار إنما يفترون على الله الكذب حينما ينسبونها إليه وأكثرهم جاهل لا يدرك مدى ما يقول.
( ٣ ) وتنديد بعقولهم وتناقضهم : فهم من جهة يسخفون في نسبة هذه الشريعة إلى الله، ويدعون أنهم يسيرون عليها حسب أوامر الله بينما هم من جهة أخرى إذا بين لهم ما شرع الله ورسوله مما فيه المصلحة والفائدة، ودعوا إلى اتباعه أبوا، وقالوا إنه يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا.
( ٤ ) وتقريع لاذع بسبيل الرد عليهم بأسلوب سؤال عما إذا كان يصح في العقل أن يحتجوا بآبائهم، فيسيروا على ما كانوا عليه سيرا أعمى ولو كان آبائهم لا يعلمون شيئا، وليسوا من أمرهم على هدى.
ولقد ذكرنا في سياق تفسير الآيتين السابقتين أن الطبري روى أنهما نزلتا في صدد سؤال عن تقاليد البحيرة وأخواتها. وقد توقفنا في هذه الرواية. بسبب صيغتها. ولم نطلع على رواية أخرى كسبب لنزول الآيات التي نحن في صددها والتي نرجح أنها مستقلة عن ما سبقها، وأنها نزلت جوابا على استفسار أورده بعضهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه التقاليد وما كان يدعيه العرب من أن ذلك تقاليد دينية شرعها الله. فنزلت الآيات موضحة نافية أن يكون ذلك من شرع الله. ومقررة أن هذه الدعوى كذب وافتراء على الله. ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها وظن بعضهم أنها نزلت بسبب السؤال الذي ترويه الرواية. أو أن تكون وضعت بعدها للتماثل بينها وبن ما قبلها من حيث احتواء السياق أوامر وتحذيرات. والله تعالى أعلم.
وهناك حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب في شرح المقصود من عبارة الآية الأولى جاء فيه :( البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة هي الناقة البكر تبكر بأنثى ثم تثني بعد بأنثى ليس بينهما ذكر وكانوا يسيبونها لطواغيتهم، والحامي هو فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضاه ودعوه للطواغيت، وأعفوه من الحمل ) ( ١ )١. وهذه التعريفات لا توضح مدى التقاليد والاصطلاحات الجاهلية توضيحا شافيا. وفي كتب التفسير بيانات أوسع فيها صور عديدة لذلك. غير أنها متغايرة وليس فيها ما يساعد على ترجيح صورة على أخرى. وقد أوردنا إحداها في سياق تفسير الآيات ( ١٣٦ – ١٤٠ ) من سورة الأنعام فنكتفي بذلك.
وروح الآيات تلهم أن العرب قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن هذه التقاليد من أمر الله وشرعه. ويمارسونها ويحترمونها على هذا الاعتبار بسبيل شكر الله أو التقرب إليه لتحقيق مطالبهم ورغباتهم، وأنهم قد تلقوها كذلك عن آبائهم. وأنهم كانوا شديدي التعلق بتقاليد الآباء وتقديسها. وهذا مما تكرر تقريره أكثر من مرة في القرآن عنهم ؛ حيث يفيد ذلك أنهم كانوا يكررون الاحتجاج بتقاليد الآباء وقدسيتها واتصالها بالله عز وجل في كل مناسبة متجددة مماثلة.
هذا، ولقد أورد الطبري والبغوي في سياق الآيات حديثا روياه بطرقهما عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأكثم بن جون الخزاعي : يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه به رجل منك ولا به منك. وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي، فقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه. فقال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله. فقال : لا إنك مؤمن وهو كافر ) وقد أورد ابن كثير هذا الحديث وأورد صيغا أخرى منها، عزا بعضها إلى البخاري وبعضها إلى الإمام أحمد، وبعضها إلى البزار. فلم نر ضرورة إلى إيرادها ؛ لأن حديث الطبري والبغوي أوفى. فإن صحت هذه الأحاديث فيكون فيها مشهد روحاني شهده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر به فيوقف عند ذلك وتستشف حكمته وهي الوعظ والإنذار وتوكيد متساوق مع توكيد الآيات بأن هذه التقاليد لا تمت إلى الله، وإنما هي خروج عن الفطرة السليمة وانحراف نحو الشرك والوثنية. والله تعالى أعلم.
﴿ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ ( ١ ) وَلاَ سَآئِبَةٍ ( ٢ ) وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ( ٣ ) وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( ١٠٣ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ( ١٠٤ ) ﴾ ( ١٠٣ – ١٠٤ ).

تعليق على الآية :

﴿ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ.................... ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين

في الآيتين :

( ١ ) تقرير بأن الله تعالى لم يشرع شريعة البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ولم يأمر بالجري على تقاليدها.
( ٢ ) واستدراك بأن الذين يمارسون هذه الشريعة من الكفار إنما يفترون على الله الكذب حينما ينسبونها إليه وأكثرهم جاهل لا يدرك مدى ما يقول.
( ٣ ) وتنديد بعقولهم وتناقضهم : فهم من جهة يسخفون في نسبة هذه الشريعة إلى الله، ويدعون أنهم يسيرون عليها حسب أوامر الله بينما هم من جهة أخرى إذا بين لهم ما شرع الله ورسوله مما فيه المصلحة والفائدة، ودعوا إلى اتباعه أبوا، وقالوا إنه يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا.
( ٤ ) وتقريع لاذع بسبيل الرد عليهم بأسلوب سؤال عما إذا كان يصح في العقل أن يحتجوا بآبائهم، فيسيروا على ما كانوا عليه سيرا أعمى ولو كان آبائهم لا يعلمون شيئا، وليسوا من أمرهم على هدى.
ولقد ذكرنا في سياق تفسير الآيتين السابقتين أن الطبري روى أنهما نزلتا في صدد سؤال عن تقاليد البحيرة وأخواتها. وقد توقفنا في هذه الرواية. بسبب صيغتها. ولم نطلع على رواية أخرى كسبب لنزول الآيات التي نحن في صددها والتي نرجح أنها مستقلة عن ما سبقها، وأنها نزلت جوابا على استفسار أورده بعضهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه التقاليد وما كان يدعيه العرب من أن ذلك تقاليد دينية شرعها الله. فنزلت الآيات موضحة نافية أن يكون ذلك من شرع الله. ومقررة أن هذه الدعوى كذب وافتراء على الله. ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها وظن بعضهم أنها نزلت بسبب السؤال الذي ترويه الرواية. أو أن تكون وضعت بعدها للتماثل بينها وبن ما قبلها من حيث احتواء السياق أوامر وتحذيرات. والله تعالى أعلم.
وهناك حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب في شرح المقصود من عبارة الآية الأولى جاء فيه :( البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة هي الناقة البكر تبكر بأنثى ثم تثني بعد بأنثى ليس بينهما ذكر وكانوا يسيبونها لطواغيتهم، والحامي هو فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضاه ودعوه للطواغيت، وأعفوه من الحمل ) ( ١ )١. وهذه التعريفات لا توضح مدى التقاليد والاصطلاحات الجاهلية توضيحا شافيا. وفي كتب التفسير بيانات أوسع فيها صور عديدة لذلك. غير أنها متغايرة وليس فيها ما يساعد على ترجيح صورة على أخرى. وقد أوردنا إحداها في سياق تفسير الآيات ( ١٣٦ – ١٤٠ ) من سورة الأنعام فنكتفي بذلك.
وروح الآيات تلهم أن العرب قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن هذه التقاليد من أمر الله وشرعه. ويمارسونها ويحترمونها على هذا الاعتبار بسبيل شكر الله أو التقرب إليه لتحقيق مطالبهم ورغباتهم، وأنهم قد تلقوها كذلك عن آبائهم. وأنهم كانوا شديدي التعلق بتقاليد الآباء وتقديسها. وهذا مما تكرر تقريره أكثر من مرة في القرآن عنهم ؛ حيث يفيد ذلك أنهم كانوا يكررون الاحتجاج بتقاليد الآباء وقدسيتها واتصالها بالله عز وجل في كل مناسبة متجددة مماثلة.
هذا، ولقد أورد الطبري والبغوي في سياق الآيات حديثا روياه بطرقهما عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأكثم بن جون الخزاعي : يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه به رجل منك ولا به منك. وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي، فقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه. فقال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله. فقال : لا إنك مؤمن وهو كافر ) وقد أورد ابن كثير هذا الحديث وأورد صيغا أخرى منها، عزا بعضها إلى البخاري وبعضها إلى الإمام أحمد، وبعضها إلى البزار. فلم نر ضرورة إلى إيرادها ؛ لأن حديث الطبري والبغوي أوفى. فإن صحت هذه الأحاديث فيكون فيها مشهد روحاني شهده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر به فيوقف عند ذلك وتستشف حكمته وهي الوعظ والإنذار وتوكيد متساوق مع توكيد الآيات بأن هذه التقاليد لا تمت إلى الله، وإنما هي خروج عن الفطرة السليمة وانحراف نحو الشرك والوثنية. والله تعالى أعلم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ١٠٥ ) ﴾ ( ١٠٥ ).
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ........................... ﴾
وما ورد في صددها من أحاديث وما فيها من تلقين.
في الآية هتاف للمسلمين بأنهم إذا كانوا مهتدين بهدي الله ورسوله، فلا يضرهم من كفر وسلك غير سبيل الحق والهدى. فالجميع مرجعهم إلى الله تعالى وحينئذ ينبئهم بما عملوا ويجزيهم عليه بما استحقوا.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآية. والمتبادر المستلهم من فحواها وروحها ومقامها أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستدراك وتسلية ؛ حيث تقول للمسلمين إن الكفار إذا كانوا يسيرون في تلك التقاليد ويعزونها إلى الله كذبا ويتمسكون بما كان عليه آباؤهم من سخف وضلال فأنتم غير مسئولين عنهم، وإنما أنتم مسئولون عن أنفسكم. وإن عليكم أن تسيروا وفق ما أنزل الله دون أن تأهبوا بضلال الضالين وجحود الجاحدين.
على أن الآية في حد ذاتها جملة مستقلة تامة المدى أيضا. وقد اعتبرها المؤولون والمفسرون كذلك، وأرادوا الكلام في صددها على هذا الاعتبار.
ولقد أورد المفسرون ( ١ )١. روايات عديدة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في مدى هذه الآية يستفاد منها أن هناك من اعتبرها خطابا لجميع المسلمين بالنسبة لأهل الكتاب أو لأهل كل ملة ضالة. فما داموا مؤمنين مهتدين بهدي الله ورسوله فلا يضرهم ضلال غيرهم من أهل الملل الأخرى، وأن هناك من اعتبرها خطابا لجميع المسلمين بالنسبة إلى بعضهم بشرط أن يبذل المهتدون بهدى الله ورسوله منهم جهودهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح وتقويم ما يكون في جماعات من المسلمين أو أفرادهم من فساد وبغي وانحراف عن ذلك الهدى، فإن عجزوا فعليهم أنفسهم فلا يضرهم ذلك الفساد والانحراف ما داموا مهتدين.
والقول الأول فيما يتبادر لنا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومقام ورودها. وفيها كما قلنا تسلية لجميع المسلمين عن ضلال غيرهم من جهة، وحث على وجوب تمسكهم بهدى الله ورسوله، وعدم الانحراف عنه من جهة، وتوطيد لحرية الدين فيما يتبادر لنا من جهة، وتوكيد لما استلهمناه من آيات كثيرة سابقة ونبهنا عليه من أن المسلمين غير مكلفين بمحاربة من لم يسلم من أهل الملل والأخرى بسبب عدم إسلامه فقط.
ولا يعني هذا رفع واجب الدعوة عن المسلمين إلى الإسلام. فالدعوة واجب مستمر الوجوب على المسلمين في كل ظرف ومكان. سواء في ذلك أفرادهم وهيئاتهم وحكوماتهم في النطاق القرآني وهو :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ ( النحل : ١٢٥ ). فوعد الله عز وجل بإظهار دينهم على الدين كله إنما يتحقق بذلك. وهذا فضلا عما في القرآن والسنة من نصوص صريحة في هذا من حيث رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي عامة شاملة. وقد أمر بإبلاغها وصار ذلك واجب المسلمين من بعده. على أن هذا القول لا يتعارض مع القول الثاني أيضا ولا يضعف وجاهته. ولا سيما أن هناك أحاديث نبوية وصحابية يوردها رواة الحديث ومفسرو القرآن في سياق الآية، بل فيها ما هو صريح بأنه ذو علاقة بها. منها حديثان رواهما الترمذي وأبو داود : أحدهما عن أبي بكر قال :( إنكم تقرأون هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) ( ١ )٢. وثانيهما عن أبي أمية الشعباني قال :( سألت أبا ثعلبة عن :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ................... ﴾ الآية فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك. ودع العوام. فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. قيل : يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم ) ( ١ )٣.
وحديث رواه النسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال :( بينما نحن حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكرت الفتنة فقال إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أمانتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه، فقمت إليه وقلت : كيف أفعل عند ذلك يا رسول الله جعلني الله فداك ؟ قال : الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ) ( ٢ )٤. وهناك أحاديث أخرى أوردها المفسرون ها هنا حديث رواه الطبري وأورده عن أبي بكر قال :( يا أيها الناس لا تغتروا بقول الله ﴿ عليكم أنفسكم ﴾ فيقول أحدكم علي نفسي والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب ثم ليدعو خياركم الله فلا يستجيب لهم ) وحديث رواه الخازن عن ابن مسعود قال :( مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم، فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم )ومنها حديث رواه الطبري عن الحسن قال :( إن هذه الآية قرئت على ابن مسعود فقال : ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم، فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم ) وحديث رواه الطبري عن سفيان بن عقال قال :( قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول :﴿ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ فقال : إنها ليست لي ولا لأصحابي ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا فليبلغ الشاهد الغائب، وكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم ). وحديث رواه البغوي عن ابن عباس في الآية :( مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ). وحديث رواه الخازن عن عبد الله بن المبارك :( أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي هذه الآية، فإن الله قال فيها عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره من القبائح والمكروهات ).
وظاهر أن في الأحاديث ما يزيل كل وهم يمكن أن يحيك في صدر أحد بأن الآية تخاطب أفراد المسلمين وتوعز إليهم بالاكتفاء بما يكون عليه الواحد منهم من عافية في أمر دينه ودنياه وعدم الأبوه لما يكون من انحراف غيره من بني دينه وضلاله عن جادة الحق والاستقامة. ويتأكد هذا المعنى بآية آل عمران ( ٧٤ ) التي توجب على المسلمين أن يكون منهم دائما جماعات يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وما ورد في صدد ذلك من أحاديث نبوية أوردناها في سياق تفسير هذه الآية.
١ الطبري أكثرهم استيعابا لها. انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ التاج ج ٤ ص ٩٥ وفي رواية الطبري أن أبا بكر قال: (والله ما أنزل الله في كتابه أشد منها)..
٣ التاج ج ٤ ص ٩٥، ٩٦..
٤ التاج ج ٥ ص ٢٠٥ ويمكن أن يقال في التوفيق بين هذا الحديث والذي قبله: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصد بالثاني الحالة التي يصل الأمر فيها من الفساد وخفة الأمانة واختلاف الناس وشدة الفتنة إلى الحد الذي لا يسمع فيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وروح الحديث ونصه يؤيدان ذلك. والله أعلم..
( ١ ) من غيركم : من غير المسلمين على أرجح الأقوال.
( ٢ ) تحبسونهما : بمعنى تجعلونهما ينتظران إلى ما بعد الصلاة ليؤديا شهادتهما.
( ٣ ) لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى : بمعنى لا نكتم شهادتنا ولا نكذب فيها مهما أعطينا من الرشوة، ولو كان الحق على أقاربنا أو كانت المسألة تخص أقاربنا.
﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ( ١ ) إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا ( ٢ ) مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ( ٣ ) وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ( ١٠٦ ) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ( ٤ ) فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا ( ٥ ) مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ( ٦ ) فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٧ ) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ( ٧ ) وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ١٠٨ ) ﴾ ( ١٠٦ – ١٠٨ ).
في هذه الآيات تشريع بشأن الوصية والإشهاد عليها وتحقيق صحتها في حال الاشتباه. وقد احتوت الآيتان الأوليان منها على ما يلي :
( ١ ) أمر المسلمون بأنه إذا شعر أحد منهم بقرب أجله وكان في سفر بعيد عن أهله فعليه أن يشهد على وصيته وتركته شاهدين عدلين من المسلمين أو غير المسلمين.
( ٢ ) فإذا وقع قضاء الله في الموصى وجاء الشاهدان ليسلما أهل الميت التركة، أو يبلغا الوصية وارتاب هؤلاء في صحة أقوالهما فلهم أن يطلبوا منهم يمينا على صدقهما وعدم كتمانهما شيئا لأي سبب كان سواء أمن أجل منفعتهما الخاصة أم من أجل صالح قريب من أقاربهما.
( ٣ ) وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يحجزوا الشاهدين ليؤديا اليمين والشهادة بعد الصلاة.
( ٤ ) فإذا ظهر بعد يمينهما وشهادتهما أنهما كاذبان أو أنهما جنفا وخانا فيهما فيصح أن يتقدم اثنان من أولياء الميت الذين يقع عليهم الحيف وضرر الشهادة الكاذبة فيخلفاهما في مقام الشهادة ويشهدا بما يريانه الحق ويقسما بالله على أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما لم يجنفا ولم يعتديا فيهما. وحينئذ تقبل هذه الشهادة وتنقض الشهادة الأولى.
وقد احتوت الآية الثالثة ( ١ ) تعليلا بأن هذه الطريقة التي جعلت بها شهادة أولياء الميت حجة مقبولة ضد شهادة الشاهدين الأصليين من شأنها أن تجعلهما يتحريان الحق ويلتزمانه ويصدقان في شهادتهما خشية التكذيب والفضيحة من جراء رد شهادتهما وجعل حق لأولياء الميت في الشهادة بدلا منهما. ( ٢ ) وتحذيرا للمسلمين. فعليهم أن يتقوا الله في حقوق بعضهم، وأن يسمعوا ويطيعوا أوامره. فإن الله لا يوفق الفاسقين عن أوامره ونواهيه.

تعليق على الآية :

﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وصور وتلقين
والآيات كما يبدو فصل جديد. ولعلها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها، أو لعلها وضعت في مكانها للتناسب التشريعي الملموح بينها وبين سابقتها.
ولقد روى البخاري والترمذي حديثا في صدد هذه الآيات عن ابن عباس جاء فيه :( خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم وجد الجام بمكة، فقيل اشتريناه من عدي وتميم. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم. قال : وفيهم نزلت :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ الآية ) ( ١ )١.
وقد روى الطبري هذه الرواية مع شيء من الزيادة والبيان خلاصته : أن اسم السهمي بديل، وأنه كان في رحلة تجارية في الشام، وأن تميم الداري وعدي بن بداء سافرا معه، وكانوا على دين النصرانية حينئذ. وإنه لما مرض وشعر بدنو أجله كتب قائمة بمتاعه ودسها فيه وعهد إلى رفيقه المذكورين بتسليم متاعه إلى أهله، وإنهما فتشا متاعه بعد موته فوجدا فيه الإناء المخوص بالذهب فأخذاه لنفسهما وسلما بقية المتاع لأهله، ثم باعاه في مكة، وفتح أهل الميت المتاع فوجدوا القائمة، وسألوا الرفيقين فأنكراه. ثم وجدوا الإناء في يد شخص في مكة فقال : إنه اشتراه منهما، فراجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعقد مجلسا بعد صلاة العصر وحلف الرجلين فأصرا على الإنكار. وفي رواية : ادعيا أن الإناء لهما، فتقدم اثنان من أولياء الميت فحلفا أنه لقريبهم، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم. وفي رواية : إن الشاهدين بعد أن حلفا تركا وشأنهما، ثم إن تميما أسلم وتأثم من عمله، فأخبر أهل الميت بالحقيقة ورد إليهم ما أخذه من ثمن الإناء، فراجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأظهروا استعدادهم للشهادة فاستشهدهما ثم حكم على عدي برد ما قبضه من ثمن الإناء فانتزع منه، ولم تلبث الآيات أن نزلت. وليس في هذا البيان ما يمنع صحته ولا ما يتعارض مع حديث ابن عباس. وهناك رواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر في المسألة وحكم فيها بعد نزول الآيات وفاقا لها. وحديث ابن عباس يذكر أن الآيات نزلت بعد النظر والحكم وسنده أقوى. وفي هذه الحالة يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر وحكم في المسألة بإلهام رباني، ثم نزلت الآيات بإقرار ذلك وبأسلوب يجعل الأسلوب الذي نظره وحكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشريعا عاما في الحالات المماثلة. ومثل هذا قد تكرر ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ولقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء التابعين وتابعيهم فيما احتوته الآيات من معان وأحكام. وقد استوعبها الطبري أكثر من غيره ( ١ )٢. وهذا إيجاز لها :
١ – هناك من أول جملة ﴿ من غيركم ﴾ بمعنى أهل الكتاب، أو بمعنى غير المسلمين إطلاقا. وهناك من قال : إنها تعني من أسرة غير أسرة المتوفى أو حيَّه أو عشيرته من المسلمين. وروي عن الزهري في صدد تأييد الرأي الثاني قوله : إن السنة مضت على عدم جواز شهادة كافر على مسلم لا في حضر ولا في سفر، وإن الجملة هي في المسلمين فيما بينهم. ومعظم الأقوال بأنها تعني من غير المسلمين إطلاقا. ويدخل في ذلك المجوس والمشركون والوثنيون مع أهل الكتاب. وقد صوب الطبري هذا وفند صرف جملة :﴿ من غيركم ﴾ إلى عشيرة أهل الميت أو حيَّه ؛ لأن الخطاب موجه للمؤمنين. وهو تصويب في محله. وقد يرد أن القسم بالله لا يتوقع الصدق فيه إلا من مسلم. ويرد على هذا أن الكتابيين والمشركين كانوا يؤمنون بالله ويحلفون به حيث يكون توقع الصدق واردا منهم أيضا.
٢ – ومن أصحاب الرأي الثاني من قال :( أولا ) إن إشهاد غير المسلمين في مثل هذا الموقف مشروط بأن لا يكون هناك مسلمون يمكن إشهادهم. ومنهم من قال : إن ( أو ) للتخيير ؛ حيث يصح إشهاد مسلمين وغير مسلمين. والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه مع تنبيه أو استدراك. فالآية تجعل صفة العدل مما يجب توفره في الشاهد بحيث يصح أن يقال : إن للموصي إذا لم يطمئن لاستقامة وأمانة من حضره من المسلمين أن يوصي من يطمئن باستقامته وأمانته ممن حضره من غيرهم. والله أعلم. ( وثانيا ) إن أصحاب هذا الرأي قالوا : إن إشهاد غير المسلمين إنما يجوز في السفر ؛ لأن في هذه الحالة فقط يتوقع عدم وجود مسلمين للشهادة. وقد يكون هذا متسقا مع نص الآيات وظرف نزولها. غير أن تعذر وجود شهود من المسلمين في بعض الظروف المستعجلة والحرجة يكون واردا. وروح الآيات تسوغ كما هو المتبادر لنا استشهاد غير المسلمين في غير السفر إذا تعذر وجود مسلمين والله أعلم. ( وثالثا ) هناك من قال : إن شهادة غير المسلمين كانت مقبولة في البدء، ثم نسخت بآية البقرة ( ٢٨٢ ) التي نزلت بعد هذه الآيات والتي قصرت الشهادة على المسلمين في جملة :﴿ من رجالكم ﴾ وهناك من قال إنها محكمة لم تنسخ. والمتبادر أن هذا هو الأوجه ؛ لأن تعذر وجود شهود من المسلمين وارد في كل ظرف. ( ورابعا ) إن هناك من قال : إن شهادة غير المسلم على المسلم لا تجوز إلا في قضية وصية. ويبدو مما أورده الطبري من أقوال عديدة أن هذا مجمع عليه. ولم يرد في الأقوال ما ينقضه. ولكن مما يرد على البال أن يكون هناك حق لمسلم على مسلم، ولا يكون لصاحب الحق شاهد أو شاهد عدل أمين إلا غير مسلم. فهل يصح أن يقال : إنه لا مانع من ضياع حق المسلم في مثل هذه الحالة ؟ ونحن نميل إلى القول : إن ذلك لا يصح.
وورود الآية في مقام الوصية ليس من شأنه أن ينفي ذلك أو يحصره فيها. ولقد تطرقنا إلى هذه المسألة في سياق تفسير سورة البقرة المذكورة، وألمعنا إلى ما ذكره رشيد رضا عزوا إلى ابن القيم، وانتهينا إلى ترجيح صحة شهادة غير المسلم على المسلم إذا لم يكن إثبات حق المسلم إلا بها. فنكتفي بهذا التنبيه. والله أعلم.

٣-
هناك من قال : إنه إذا تقدم مسلمان فشهدا خلاف ما تشهد به غير المسلمين أخذ بشهادتهما وأبطلت شهادة غير المسلمين إطلاقا. ويتبادر لنا أن هذا مناف لنص الآيات. فالآيات تنص على قبول شهادة الشاهدين على الوصية إطلاقا ولو كانا غير مسلمين إذا ما تعذر وجود مسلمين وعدم رد شهادتهما والأخذ بشهادة غيرهما إلا إذا ظهر أنهما أثما في شهادتهما، أو ادعي أنهما آثمان وأريد إثبات ذلك. والله أعلم.

٤-
وفي صدد الصلاة المذكورة في الآيات فإن هناك من قال : إنها صلاة يصليها الشاهد مسلما أم غير مسلم لتكون شهادته عقبها أدعى إلى الاطمئنان، وهناك من قال : إنها صلاة العصر ؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعقد مجالسه بعدها ؛ لأنها قريبة من الغروب. وأكثر الأقوال في جانب هذا. ونراه هو الأوجه، ولقد صرف أكثر المؤولين جملة الصلاة الوسطى في الآية ( ٢٢٨ ) من سورة البقرة إلى صلاة العصر على ما شرحناه في سياق تفسيرها ؛ حيث يتبادر أن وقتها كان مساعدا في المدينة لاجتماع الناس من حيث الطقس، ومن حيث الفراغ فحثت الآية على المحافظة عليها بصورة خاصة.
٥ ـ والمتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي روجع وحل المسألة على اعتباره ولي أمر المؤمنين وصاحب السلطان فيهم، بالإضافة إلى نبوته الشريفة والمسألة هي مسألة قضائية تكون بعده من نطاق سلطان ولي أمر المسلمين أو من ينيبه عنه كما هو المتبادر.
هذا، والآيات من جهة ما تؤكد واجب الوصية المأمور بها في الآيات ( ١٠٨ – ١٨٢ ) من سورة البقرة والمنوه بها في الآيات :( ١١ – ١٢ ) من سورة النساء وضرورتها بصورة عامة. كما تؤكد واجب الإشهاد عليها تفاديا من التلاعب والتبديل فيها، وفي هذا تعليم للمسلمين وحرص على نفاذ الوصية وحقوق أصحاب الحق فيها، وتلقين مستمر المدى كما هو واضح يضاف إلى التلقين المنطوي في آيات سورة البقرة، والذي نوهنا به في سياق تفسيرها بما يغني عن التكرار.
وجملة :﴿ إن ارتبتم ﴾ في الآية ( ١٠٦ ) جديرة بالتنويه ؛ حيث يتبادر أنه ينطوي فيها أن اليمين لا يل
( ٤ ) فإن عثر على أنهما استحقا إثما : فإن تبين وعرف أنهما اقترفا إثما بكتمهم الشهادة أو كذبهم فيها.
( ٥ ) يقومان مقامهما : يخلفانهما في مقام الشهادة.
( ٦ ) من الذين استحق عليهم الأوليان : بمعنى نالهم ضرر الإثم والحلف الكاذب في الشهادة من أولياء الميت وورثته.
﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ( ١ ) إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا ( ٢ ) مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ( ٣ ) وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ( ١٠٦ ) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ( ٤ ) فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا ( ٥ ) مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ( ٦ ) فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٧ ) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ( ٧ ) وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ١٠٨ ) ﴾ ( ١٠٦ – ١٠٨ ).
في هذه الآيات تشريع بشأن الوصية والإشهاد عليها وتحقيق صحتها في حال الاشتباه. وقد احتوت الآيتان الأوليان منها على ما يلي :
( ١ ) أمر المسلمون بأنه إذا شعر أحد منهم بقرب أجله وكان في سفر بعيد عن أهله فعليه أن يشهد على وصيته وتركته شاهدين عدلين من المسلمين أو غير المسلمين.
( ٢ ) فإذا وقع قضاء الله في الموصى وجاء الشاهدان ليسلما أهل الميت التركة، أو يبلغا الوصية وارتاب هؤلاء في صحة أقوالهما فلهم أن يطلبوا منهم يمينا على صدقهما وعدم كتمانهما شيئا لأي سبب كان سواء أمن أجل منفعتهما الخاصة أم من أجل صالح قريب من أقاربهما.
( ٣ ) وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يحجزوا الشاهدين ليؤديا اليمين والشهادة بعد الصلاة.
( ٤ ) فإذا ظهر بعد يمينهما وشهادتهما أنهما كاذبان أو أنهما جنفا وخانا فيهما فيصح أن يتقدم اثنان من أولياء الميت الذين يقع عليهم الحيف وضرر الشهادة الكاذبة فيخلفاهما في مقام الشهادة ويشهدا بما يريانه الحق ويقسما بالله على أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما لم يجنفا ولم يعتديا فيهما. وحينئذ تقبل هذه الشهادة وتنقض الشهادة الأولى.
وقد احتوت الآية الثالثة ( ١ ) تعليلا بأن هذه الطريقة التي جعلت بها شهادة أولياء الميت حجة مقبولة ضد شهادة الشاهدين الأصليين من شأنها أن تجعلهما يتحريان الحق ويلتزمانه ويصدقان في شهادتهما خشية التكذيب والفضيحة من جراء رد شهادتهما وجعل حق لأولياء الميت في الشهادة بدلا منهما. ( ٢ ) وتحذيرا للمسلمين. فعليهم أن يتقوا الله في حقوق بعضهم، وأن يسمعوا ويطيعوا أوامره. فإن الله لا يوفق الفاسقين عن أوامره ونواهيه.

تعليق على الآية :

﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وصور وتلقين
والآيات كما يبدو فصل جديد. ولعلها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها، أو لعلها وضعت في مكانها للتناسب التشريعي الملموح بينها وبين سابقتها.
ولقد روى البخاري والترمذي حديثا في صدد هذه الآيات عن ابن عباس جاء فيه :( خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم وجد الجام بمكة، فقيل اشتريناه من عدي وتميم. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم. قال : وفيهم نزلت :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ الآية ) ( ١ )١.
وقد روى الطبري هذه الرواية مع شيء من الزيادة والبيان خلاصته : أن اسم السهمي بديل، وأنه كان في رحلة تجارية في الشام، وأن تميم الداري وعدي بن بداء سافرا معه، وكانوا على دين النصرانية حينئذ. وإنه لما مرض وشعر بدنو أجله كتب قائمة بمتاعه ودسها فيه وعهد إلى رفيقه المذكورين بتسليم متاعه إلى أهله، وإنهما فتشا متاعه بعد موته فوجدا فيه الإناء المخوص بالذهب فأخذاه لنفسهما وسلما بقية المتاع لأهله، ثم باعاه في مكة، وفتح أهل الميت المتاع فوجدوا القائمة، وسألوا الرفيقين فأنكراه. ثم وجدوا الإناء في يد شخص في مكة فقال : إنه اشتراه منهما، فراجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعقد مجلسا بعد صلاة العصر وحلف الرجلين فأصرا على الإنكار. وفي رواية : ادعيا أن الإناء لهما، فتقدم اثنان من أولياء الميت فحلفا أنه لقريبهم، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم. وفي رواية : إن الشاهدين بعد أن حلفا تركا وشأنهما، ثم إن تميما أسلم وتأثم من عمله، فأخبر أهل الميت بالحقيقة ورد إليهم ما أخذه من ثمن الإناء، فراجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأظهروا استعدادهم للشهادة فاستشهدهما ثم حكم على عدي برد ما قبضه من ثمن الإناء فانتزع منه، ولم تلبث الآيات أن نزلت. وليس في هذا البيان ما يمنع صحته ولا ما يتعارض مع حديث ابن عباس. وهناك رواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر في المسألة وحكم فيها بعد نزول الآيات وفاقا لها. وحديث ابن عباس يذكر أن الآيات نزلت بعد النظر والحكم وسنده أقوى. وفي هذه الحالة يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر وحكم في المسألة بإلهام رباني، ثم نزلت الآيات بإقرار ذلك وبأسلوب يجعل الأسلوب الذي نظره وحكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشريعا عاما في الحالات المماثلة. ومثل هذا قد تكرر ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ولقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء التابعين وتابعيهم فيما احتوته الآيات من معان وأحكام. وقد استوعبها الطبري أكثر من غيره ( ١ )٢. وهذا إيجاز لها :
١ – هناك من أول جملة ﴿ من غيركم ﴾ بمعنى أهل الكتاب، أو بمعنى غير المسلمين إطلاقا. وهناك من قال : إنها تعني من أسرة غير أسرة المتوفى أو حيَّه أو عشيرته من المسلمين. وروي عن الزهري في صدد تأييد الرأي الثاني قوله : إن السنة مضت على عدم جواز شهادة كافر على مسلم لا في حضر ولا في سفر، وإن الجملة هي في المسلمين فيما بينهم. ومعظم الأقوال بأنها تعني من غير المسلمين إطلاقا. ويدخل في ذلك المجوس والمشركون والوثنيون مع أهل الكتاب. وقد صوب الطبري هذا وفند صرف جملة :﴿ من غيركم ﴾ إلى عشيرة أهل الميت أو حيَّه ؛ لأن الخطاب موجه للمؤمنين. وهو تصويب في محله. وقد يرد أن القسم بالله لا يتوقع الصدق فيه إلا من مسلم. ويرد على هذا أن الكتابيين والمشركين كانوا يؤمنون بالله ويحلفون به حيث يكون توقع الصدق واردا منهم أيضا.
٢ – ومن أصحاب الرأي الثاني من قال :( أولا ) إن إشهاد غير المسلمين في مثل هذا الموقف مشروط بأن لا يكون هناك مسلمون يمكن إشهادهم. ومنهم من قال : إن ( أو ) للتخيير ؛ حيث يصح إشهاد مسلمين وغير مسلمين. والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه مع تنبيه أو استدراك. فالآية تجعل صفة العدل مما يجب توفره في الشاهد بحيث يصح أن يقال : إن للموصي إذا لم يطمئن لاستقامة وأمانة من حضره من المسلمين أن يوصي من يطمئن باستقامته وأمانته ممن حضره من غيرهم. والله أعلم. ( وثانيا ) إن أصحاب هذا الرأي قالوا : إن إشهاد غير المسلمين إنما يجوز في السفر ؛ لأن في هذه الحالة فقط يتوقع عدم وجود مسلمين للشهادة. وقد يكون هذا متسقا مع نص الآيات وظرف نزولها. غير أن تعذر وجود شهود من المسلمين في بعض الظروف المستعجلة والحرجة يكون واردا. وروح الآيات تسوغ كما هو المتبادر لنا استشهاد غير المسلمين في غير السفر إذا تعذر وجود مسلمين والله أعلم. ( وثالثا ) هناك من قال : إن شهادة غير المسلمين كانت مقبولة في البدء، ثم نسخت بآية البقرة ( ٢٨٢ ) التي نزلت بعد هذه الآيات والتي قصرت الشهادة على المسلمين في جملة :﴿ من رجالكم ﴾ وهناك من قال إنها محكمة لم تنسخ. والمتبادر أن هذا هو الأوجه ؛ لأن تعذر وجود شهود من المسلمين وارد في كل ظرف. ( ورابعا ) إن هناك من قال : إن شهادة غير المسلم على المسلم لا تجوز إلا في قضية وصية. ويبدو مما أورده الطبري من أقوال عديدة أن هذا مجمع عليه. ولم يرد في الأقوال ما ينقضه. ولكن مما يرد على البال أن يكون هناك حق لمسلم على مسلم، ولا يكون لصاحب الحق شاهد أو شاهد عدل أمين إلا غير مسلم. فهل يصح أن يقال : إنه لا مانع من ضياع حق المسلم في مثل هذه الحالة ؟ ونحن نميل إلى القول : إن ذلك لا يصح.
وورود الآية في مقام الوصية ليس من شأنه أن ينفي ذلك أو يحصره فيها. ولقد تطرقنا إلى هذه المسألة في سياق تفسير سورة البقرة المذكورة، وألمعنا إلى ما ذكره رشيد رضا عزوا إلى ابن القيم، وانتهينا إلى ترجيح صحة شهادة غير المسلم على المسلم إذا لم يكن إثبات حق المسلم إلا بها. فنكتفي بهذا التنبيه. والله أعلم.

٣-
هناك من قال : إنه إذا تقدم مسلمان فشهدا خلاف ما تشهد به غير المسلمين أخذ بشهادتهما وأبطلت شهادة غير المسلمين إطلاقا. ويتبادر لنا أن هذا مناف لنص الآيات. فالآيات تنص على قبول شهادة الشاهدين على الوصية إطلاقا ولو كانا غير مسلمين إذا ما تعذر وجود مسلمين وعدم رد شهادتهما والأخذ بشهادة غيرهما إلا إذا ظهر أنهما أثما في شهادتهما، أو ادعي أنهما آثمان وأريد إثبات ذلك. والله أعلم.

٤-
وفي صدد الصلاة المذكورة في الآيات فإن هناك من قال : إنها صلاة يصليها الشاهد مسلما أم غير مسلم لتكون شهادته عقبها أدعى إلى الاطمئنان، وهناك من قال : إنها صلاة العصر ؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعقد مجالسه بعدها ؛ لأنها قريبة من الغروب. وأكثر الأقوال في جانب هذا. ونراه هو الأوجه، ولقد صرف أكثر المؤولين جملة الصلاة الوسطى في الآية ( ٢٢٨ ) من سورة البقرة إلى صلاة العصر على ما شرحناه في سياق تفسيرها ؛ حيث يتبادر أن وقتها كان مساعدا في المدينة لاجتماع الناس من حيث الطقس، ومن حيث الفراغ فحثت الآية على المحافظة عليها بصورة خاصة.
٥ ـ والمتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي روجع وحل المسألة على اعتباره ولي أمر المؤمنين وصاحب السلطان فيهم، بالإضافة إلى نبوته الشريفة والمسألة هي مسألة قضائية تكون بعده من نطاق سلطان ولي أمر المسلمين أو من ينيبه عنه كما هو المتبادر.
هذا، والآيات من جهة ما تؤكد واجب الوصية المأمور بها في الآيات ( ١٠٨ – ١٨٢ ) من سورة البقرة والمنوه بها في الآيات :( ١١ – ١٢ ) من سورة النساء وضرورتها بصورة عامة. كما تؤكد واجب الإشهاد عليها تفاديا من التلاعب والتبديل فيها، وفي هذا تعليم للمسلمين وحرص على نفاذ الوصية وحقوق أصحاب الحق فيها، وتلقين مستمر المدى كما هو واضح يضاف إلى التلقين المنطوي في آيات سورة البقرة، والذي نوهنا به في سياق تفسيرها بما يغني عن التكرار.
وجملة :﴿ إن ارتبتم ﴾ في الآية ( ١٠٦ ) جديرة بالتنويه ؛ حيث يتبادر أنه ينطوي فيها أن اليمين لا يل
( ٧ ) أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم : بمعنى أن يخافوا أن يرد حق اليمين والشهادة إلى غيرهم، فيكون في ذلك تكذيب وفضيحة لهم.
﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ( ١ ) إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا ( ٢ ) مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ( ٣ ) وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ( ١٠٦ ) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ( ٤ ) فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا ( ٥ ) مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ( ٦ ) فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٧ ) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ( ٧ ) وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ١٠٨ ) ﴾ ( ١٠٦ – ١٠٨ ).
في هذه الآيات تشريع بشأن الوصية والإشهاد عليها وتحقيق صحتها في حال الاشتباه. وقد احتوت الآيتان الأوليان منها على ما يلي :
( ١ ) أمر المسلمون بأنه إذا شعر أحد منهم بقرب أجله وكان في سفر بعيد عن أهله فعليه أن يشهد على وصيته وتركته شاهدين عدلين من المسلمين أو غير المسلمين.
( ٢ ) فإذا وقع قضاء الله في الموصى وجاء الشاهدان ليسلما أهل الميت التركة، أو يبلغا الوصية وارتاب هؤلاء في صحة أقوالهما فلهم أن يطلبوا منهم يمينا على صدقهما وعدم كتمانهما شيئا لأي سبب كان سواء أمن أجل منفعتهما الخاصة أم من أجل صالح قريب من أقاربهما.
( ٣ ) وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يحجزوا الشاهدين ليؤديا اليمين والشهادة بعد الصلاة.
( ٤ ) فإذا ظهر بعد يمينهما وشهادتهما أنهما كاذبان أو أنهما جنفا وخانا فيهما فيصح أن يتقدم اثنان من أولياء الميت الذين يقع عليهم الحيف وضرر الشهادة الكاذبة فيخلفاهما في مقام الشهادة ويشهدا بما يريانه الحق ويقسما بالله على أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما لم يجنفا ولم يعتديا فيهما. وحينئذ تقبل هذه الشهادة وتنقض الشهادة الأولى.
وقد احتوت الآية الثالثة ( ١ ) تعليلا بأن هذه الطريقة التي جعلت بها شهادة أولياء الميت حجة مقبولة ضد شهادة الشاهدين الأصليين من شأنها أن تجعلهما يتحريان الحق ويلتزمانه ويصدقان في شهادتهما خشية التكذيب والفضيحة من جراء رد شهادتهما وجعل حق لأولياء الميت في الشهادة بدلا منهما. ( ٢ ) وتحذيرا للمسلمين. فعليهم أن يتقوا الله في حقوق بعضهم، وأن يسمعوا ويطيعوا أوامره. فإن الله لا يوفق الفاسقين عن أوامره ونواهيه.

تعليق على الآية :

﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وصور وتلقين
والآيات كما يبدو فصل جديد. ولعلها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها، أو لعلها وضعت في مكانها للتناسب التشريعي الملموح بينها وبين سابقتها.
ولقد روى البخاري والترمذي حديثا في صدد هذه الآيات عن ابن عباس جاء فيه :( خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم وجد الجام بمكة، فقيل اشتريناه من عدي وتميم. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم. قال : وفيهم نزلت :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ الآية ) ( ١ )١.
وقد روى الطبري هذه الرواية مع شيء من الزيادة والبيان خلاصته : أن اسم السهمي بديل، وأنه كان في رحلة تجارية في الشام، وأن تميم الداري وعدي بن بداء سافرا معه، وكانوا على دين النصرانية حينئذ. وإنه لما مرض وشعر بدنو أجله كتب قائمة بمتاعه ودسها فيه وعهد إلى رفيقه المذكورين بتسليم متاعه إلى أهله، وإنهما فتشا متاعه بعد موته فوجدا فيه الإناء المخوص بالذهب فأخذاه لنفسهما وسلما بقية المتاع لأهله، ثم باعاه في مكة، وفتح أهل الميت المتاع فوجدوا القائمة، وسألوا الرفيقين فأنكراه. ثم وجدوا الإناء في يد شخص في مكة فقال : إنه اشتراه منهما، فراجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعقد مجلسا بعد صلاة العصر وحلف الرجلين فأصرا على الإنكار. وفي رواية : ادعيا أن الإناء لهما، فتقدم اثنان من أولياء الميت فحلفا أنه لقريبهم، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم. وفي رواية : إن الشاهدين بعد أن حلفا تركا وشأنهما، ثم إن تميما أسلم وتأثم من عمله، فأخبر أهل الميت بالحقيقة ورد إليهم ما أخذه من ثمن الإناء، فراجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأظهروا استعدادهم للشهادة فاستشهدهما ثم حكم على عدي برد ما قبضه من ثمن الإناء فانتزع منه، ولم تلبث الآيات أن نزلت. وليس في هذا البيان ما يمنع صحته ولا ما يتعارض مع حديث ابن عباس. وهناك رواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر في المسألة وحكم فيها بعد نزول الآيات وفاقا لها. وحديث ابن عباس يذكر أن الآيات نزلت بعد النظر والحكم وسنده أقوى. وفي هذه الحالة يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر وحكم في المسألة بإلهام رباني، ثم نزلت الآيات بإقرار ذلك وبأسلوب يجعل الأسلوب الذي نظره وحكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشريعا عاما في الحالات المماثلة. ومثل هذا قد تكرر ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ولقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء التابعين وتابعيهم فيما احتوته الآيات من معان وأحكام. وقد استوعبها الطبري أكثر من غيره ( ١ )٢. وهذا إيجاز لها :
١ – هناك من أول جملة ﴿ من غيركم ﴾ بمعنى أهل الكتاب، أو بمعنى غير المسلمين إطلاقا. وهناك من قال : إنها تعني من أسرة غير أسرة المتوفى أو حيَّه أو عشيرته من المسلمين. وروي عن الزهري في صدد تأييد الرأي الثاني قوله : إن السنة مضت على عدم جواز شهادة كافر على مسلم لا في حضر ولا في سفر، وإن الجملة هي في المسلمين فيما بينهم. ومعظم الأقوال بأنها تعني من غير المسلمين إطلاقا. ويدخل في ذلك المجوس والمشركون والوثنيون مع أهل الكتاب. وقد صوب الطبري هذا وفند صرف جملة :﴿ من غيركم ﴾ إلى عشيرة أهل الميت أو حيَّه ؛ لأن الخطاب موجه للمؤمنين. وهو تصويب في محله. وقد يرد أن القسم بالله لا يتوقع الصدق فيه إلا من مسلم. ويرد على هذا أن الكتابيين والمشركين كانوا يؤمنون بالله ويحلفون به حيث يكون توقع الصدق واردا منهم أيضا.
٢ – ومن أصحاب الرأي الثاني من قال :( أولا ) إن إشهاد غير المسلمين في مثل هذا الموقف مشروط بأن لا يكون هناك مسلمون يمكن إشهادهم. ومنهم من قال : إن ( أو ) للتخيير ؛ حيث يصح إشهاد مسلمين وغير مسلمين. والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه مع تنبيه أو استدراك. فالآية تجعل صفة العدل مما يجب توفره في الشاهد بحيث يصح أن يقال : إن للموصي إذا لم يطمئن لاستقامة وأمانة من حضره من المسلمين أن يوصي من يطمئن باستقامته وأمانته ممن حضره من غيرهم. والله أعلم. ( وثانيا ) إن أصحاب هذا الرأي قالوا : إن إشهاد غير المسلمين إنما يجوز في السفر ؛ لأن في هذه الحالة فقط يتوقع عدم وجود مسلمين للشهادة. وقد يكون هذا متسقا مع نص الآيات وظرف نزولها. غير أن تعذر وجود شهود من المسلمين في بعض الظروف المستعجلة والحرجة يكون واردا. وروح الآيات تسوغ كما هو المتبادر لنا استشهاد غير المسلمين في غير السفر إذا تعذر وجود مسلمين والله أعلم. ( وثالثا ) هناك من قال : إن شهادة غير المسلمين كانت مقبولة في البدء، ثم نسخت بآية البقرة ( ٢٨٢ ) التي نزلت بعد هذه الآيات والتي قصرت الشهادة على المسلمين في جملة :﴿ من رجالكم ﴾ وهناك من قال إنها محكمة لم تنسخ. والمتبادر أن هذا هو الأوجه ؛ لأن تعذر وجود شهود من المسلمين وارد في كل ظرف. ( ورابعا ) إن هناك من قال : إن شهادة غير المسلم على المسلم لا تجوز إلا في قضية وصية. ويبدو مما أورده الطبري من أقوال عديدة أن هذا مجمع عليه. ولم يرد في الأقوال ما ينقضه. ولكن مما يرد على البال أن يكون هناك حق لمسلم على مسلم، ولا يكون لصاحب الحق شاهد أو شاهد عدل أمين إلا غير مسلم. فهل يصح أن يقال : إنه لا مانع من ضياع حق المسلم في مثل هذه الحالة ؟ ونحن نميل إلى القول : إن ذلك لا يصح.
وورود الآية في مقام الوصية ليس من شأنه أن ينفي ذلك أو يحصره فيها. ولقد تطرقنا إلى هذه المسألة في سياق تفسير سورة البقرة المذكورة، وألمعنا إلى ما ذكره رشيد رضا عزوا إلى ابن القيم، وانتهينا إلى ترجيح صحة شهادة غير المسلم على المسلم إذا لم يكن إثبات حق المسلم إلا بها. فنكتفي بهذا التنبيه. والله أعلم.

٣-
هناك من قال : إنه إذا تقدم مسلمان فشهدا خلاف ما تشهد به غير المسلمين أخذ بشهادتهما وأبطلت شهادة غير المسلمين إطلاقا. ويتبادر لنا أن هذا مناف لنص الآيات. فالآيات تنص على قبول شهادة الشاهدين على الوصية إطلاقا ولو كانا غير مسلمين إذا ما تعذر وجود مسلمين وعدم رد شهادتهما والأخذ بشهادة غيرهما إلا إذا ظهر أنهما أثما في شهادتهما، أو ادعي أنهما آثمان وأريد إثبات ذلك. والله أعلم.

٤-
وفي صدد الصلاة المذكورة في الآيات فإن هناك من قال : إنها صلاة يصليها الشاهد مسلما أم غير مسلم لتكون شهادته عقبها أدعى إلى الاطمئنان، وهناك من قال : إنها صلاة العصر ؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعقد مجالسه بعدها ؛ لأنها قريبة من الغروب. وأكثر الأقوال في جانب هذا. ونراه هو الأوجه، ولقد صرف أكثر المؤولين جملة الصلاة الوسطى في الآية ( ٢٢٨ ) من سورة البقرة إلى صلاة العصر على ما شرحناه في سياق تفسيرها ؛ حيث يتبادر أن وقتها كان مساعدا في المدينة لاجتماع الناس من حيث الطقس، ومن حيث الفراغ فحثت الآية على المحافظة عليها بصورة خاصة.
٥ ـ والمتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي روجع وحل المسألة على اعتباره ولي أمر المؤمنين وصاحب السلطان فيهم، بالإضافة إلى نبوته الشريفة والمسألة هي مسألة قضائية تكون بعده من نطاق سلطان ولي أمر المسلمين أو من ينيبه عنه كما هو المتبادر.
هذا، والآيات من جهة ما تؤكد واجب الوصية المأمور بها في الآيات ( ١٠٨ – ١٨٢ ) من سورة البقرة والمنوه بها في الآيات :( ١١ – ١٢ ) من سورة النساء وضرورتها بصورة عامة. كما تؤكد واجب الإشهاد عليها تفاديا من التلاعب والتبديل فيها، وفي هذا تعليم للمسلمين وحرص على نفاذ الوصية وحقوق أصحاب الحق فيها، وتلقين مستمر المدى كما هو واضح يضاف إلى التلقين المنطوي في آيات سورة البقرة، والذي نوهنا به في سياق تفسيرها بما يغني عن التكرار.
وجملة :﴿ إن ارتبتم ﴾ في الآية ( ١٠٦ ) جديرة بالتنويه ؛ حيث يتبادر أنه ينطوي فيها أن اليمين لا يل
﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١٠٩ ) ﴾ ( ١٠٩ ).
عبارة الآية واضحة. وقد قال المفسرون ( ٣ )١، ما مفاده : إنها تحتمل أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال إنذار وتعقيب فيكون معناها :( إن الله تعالى لا يوفق ولا يسعد الفاسقين المتمردين على أوامر الله الذين لا يتقونه في اليوم الذي يجمع الله فيه الرسل فيسألهم عما أجيبوا ). كما قالوا : إنها تحتمل أن تكون بدء الفصل التالي ومقدمة له.
وكلا الاحتمالين وجيه يتحمله أسلوب الآية وسياق الكلام، وإن كنا نرجح الثاني ؛ لأن الآيات التالية تلهم أن حكاية تذكير الله بعيسى عليه السلام ومخاطبته له مما سوف يكون في يوم القيامة فتكون الآية متسقة مع هذا أكثر لهذا السبب. وهذا الاتساق يبدو واضحا أكثر أيضا في حكاية جواب عيسى عليه السلام لله تعالى في الآيات :( ١١٦ – ١١٨ ) إذا ما أمعن النظر فيها.
وإذا صح توجيهنا فتكون الآية بدء فصل جديد لا تبدو صلة ما بينه وبين الآيات السابقة، ويحتمل أن يكون نزل عقبها بدون فاصل فوضع بعدها والله أعلم.
ولقد تعددت التأويلات المعزوة إلى علماء التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم لجملة :﴿ لا علم لنا ﴾ لأن رسل الله يعلمون على الأقل ماذا أجيبوا في حياتهم. فمنهم من قال : إن جوابهم نتيجة ذهول من هول الموقف. ومنهم من قال : إنهم قصدوا به أن لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا. والذي يتبادر لنا أن الجملة الجوابية جملة أسلوبية، وأن المراد منها بيان كونهم لم يعرفوا إلا القليل الظاهر في حين أن الله عز وجل يعلم الحقائق ما ظهر منها وما خفي وما وقع منها في حياتهم وبعدها.
١ انظر تفسير الطبري والخازن وابن كثير وغيرهم..
﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).
تعليق على الآية :
﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

( ١ ) مائدة : قيل إنها من ماده يميده بمعنى : موته وأطعمه مرادفا لجذر ماره يميره أو بمعنى أعطاه ورفده. وقيل : إنها من ماد يميد بمعنى تحرك، وإن الكلمة تعني الخوان الذي يوضع عليه الطعام ؛ لأنه يتحرك وضعا ورفعا، أو لأنها تميد بمن يتقدم إليها من الآكلين. وعلى كل حال فقد صارت بمعنى الخوان الذي يوضع عليه الطعام.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

( ٢ ) عيدا : معنى الكلمة في الأصل العائد ؛ ثم صارت بمعنى العائد من أسباب السرور أو الفرح، والعائد من أسباب العبادة أو من أسباب ما هو جدير بالحفاوة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٠:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١١٠ ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ١١١ ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( ١ ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ١١٣ ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( ٢ ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ١١٤ ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ١١٥ ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١٩ ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٢٠ ) ﴾ ( ١١٠ – ١٢٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ...................... ﴾ الخ
وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور
وأهداف وما ورد في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل.
ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه.
أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل.
وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.
ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص.
والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به.
ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( ١ )١، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا، ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.
( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه، فصاموا فطلبوا المائدة، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ). وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( ١ )٢. ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :
( ١ ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد.
( ٢ ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان.
( ٣ ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام.
( ٤ ) إنها من كل طعام عدا اللحم.
( ٥ ) إنها من ثمار الجنة.
( ٦ ) إنها خبز ورز وبقل.
( ٧ ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها.
( ٨ ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي، وبقيت على هيئتها، ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح.
ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( ١ )٣. وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها :( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا، فجاع ووقع عليه انجذاب، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( ٢ )٤. غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة ال
١ انظر الإصحاحات ١٠ و ١٢ من إنجيل متى و ٣ من مرقص و ١١ من لوقا..
٢ التاج ج ٤ ٩٧..
٣ انظر إنجيل متى الإصحاح ٦ ويوحنا الإصحاح ١٥ ومرقص الإصحاح ٦ ولوقا الإصحاح ٩..
٤ النص منقول من النسخة الكاثوليكية..

Icon