وآياتها عشرون ومائة
كلماتها : ٢٠٤٨ حروفها : ١١٧٣٣
ﰡ
﴿ أوفوا ﴾ أتموا، أدوا وافيا. ﴿ العقود ﴾ ما تعاقدتم وتواثقتم عليه.
﴿ بهيمة ﴾ ما استبهم من الحيوان. ﴿ الأنعام ﴾ الإبل والبقر والغنم.
﴿ مُحلى الصيد ﴾ مستحلين صيده. ﴿ حُرم ﴾ محرمون أو على حال الإحرام.
قال أبو ميسرة : المائدة من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها ؛ وهي :﴿ المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ﴾، ﴿ وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ﴾، ﴿ وما علمتم من الجوارح مكلبين ﴾، ﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب ﴾، ﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ وتمام الطهور ﴿ وإذا قمتم إلى الصلاة ﴾، ﴿ والسارق والسارقة ﴾، ﴿ .. لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾ إلى قوله :﴿ عزيز ذو انتقام ﴾ و ﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ ؛ وقوله تعالى :﴿ شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت.. ﴾ الآية :.. وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله جل وعز :﴿ وإذا ناديتم إلى الصلاة ﴾ ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة( الجمعة ) فمخصوص بالجمعة ؛ وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات.
﴿ يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾ قال ابن عباس :.. ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ يعني : ما أحل وما حُرم، وما فُرض وما حُد في القرآن كله، فلا تغدروا ولا تنكثوا، ثم شدد ذلك فقال : والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) ( ١ ).
قال ابن زيد في قوله :﴿ يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾ قال : عقد العهد وعقد اليمين وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد النكاح، قال : هذه العقود خمس ؛ وقال ابن جرير : يأيها الذين آمنوا أقروا بوحدانية الله وأذعنوا له بالعبودية، وسلموا له الألوهية، وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ يعني أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم، والعقود التي عاقدتموها إياه وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضا فأتموها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم أوجبتموه له على أنفسكم، ولا تنكثوها فتنقضوها بعد توكيدها.
قال الزجاج : أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم بعضكم على بعض ؛ والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله، فإن خالفهما فهو رد لا يحب الوفاء به ولا يحل ؛ ﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾ البهيمة : اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها ؛ والأنعام : اسم( ٢ ) للإبل والبقر والغنم ؛ ﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾ إلا ما يقرأ( ٣ ) عليكم تحريمه في القرآن العظيم، كقول المولى سبحانه :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ وفي السنة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه :" كل ذي ناب من السباع فأكله حرام " ؛ ﴿ أحلت ﴾ جعلها الله تعالى حلالا، وفيه إبطال لافتراء المفترين الذين كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والذين كانوا يقولون : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ؛ وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ؛ وقد أزهق الحق إفكهم، وأسقط الكتاب العزيز كذبهم، فقال مولانا سبحانه :( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) ( ٤ ) ؟ ! ﴿ غير محلي الصيد وأنتم حرم ﴾ أي لا محلين الصيد( ٥ ) في حالة الإحرام، وفي الحرم( ٦ ) ؛ و ﴿ حرم ﴾ قيل : مفرد يستوي فيه الواحد والجمع، كما يقال : قوم جنب ؛ قال الجوهري : رجل حرام أي مُحِْرم، والجمع : حُرُم ؛ ﴿ إن الله يحكم ما يريد ﴾ المولى الذي لا رب غيره ولا إله سواه حكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه، يشرع ما يشاء كما يشاء، لا معقب لحكمه.
عن قتادة : يُحكِم ما أراد في خلقه، وبين لعباده، وفرض فرائضه، وحد حدوده، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته ؛ - فأوفوا أيها المؤمنون بما عقد عليكم من تحليل ما أحل لكم، وتحريم ما حرم عليكم، وغير ذلك من عقود، فلا تنكثوها ولا تنتقضوها-( ٧ ).
٢ عن الربيع والضحاك: بهيمة الأنعام؛ هي الأنعام وعن ابن عمر وابن عباس: ما في بطونها إن خرج ميتا فهو حلال، وهذه بهيمة الأنعام؛ وابن جرير يرى أنها الأنعام كلها، أجنتها وسخالها وكبارها..
٣ ومعلوم أن الفعل المضارع يفيد: الحال والاستقبال..
٤ من سورة يونس. الآية ٥٩..
٥ والمراد به صيد البر، وأما صيد البحر فلا يمنع المحرم من صيده ولا من أكله..
٦ والصيد البري في الحرم محظور كل مكلف على كل أحواله، كما هو معلوم..
٧ ما بين العارضتين من جامع البيان..
﴿ شعائر ﴾ معالم الحج، وشرائع الله، وهدى الكعبة.
﴿ الشهر الحرام ﴾ مفرد يراد به الجمع، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
﴿ الهدى ﴾ ما أهدى إلى البيت الحرام من ناقة أو بقرة أو شاة.
﴿ القلائد ﴾ ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه.
﴿ آمين ﴾ قاصدين. ﴿ يبتغون ﴾ يرجون ويطلبون.
﴿ وإذا حللتم ﴾ صرتم إلى حال الإحلال بعد أن كنتم محرمين.
﴿ لا يجرمنكم ﴾ لا يحملنكم. ﴿ شنآن ﴾ بغضُ وكرهُ.
إن صدوكم } أن منعوكم، لأجل منعكم.
﴿ تعاونوا ﴾ ليعن بعضكم بعضا. ﴿ البر ﴾ الخير والمعروف.
﴿ التقوى ﴾ أداء المأمورات واجتناب المنهيات.
﴿ الإثم ﴾ الذنب المترتب على الجريمة. ﴿ العدوان ﴾ ظلم الناس.
﴿ اتقوا الله ﴾ خافوه وأطيعوه.
﴿ يأيها الذين آمنوا لا تحلو شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ﴾ عن عطاء وقد سئل عن ﴿ شعائر الله ﴾ فقال : حرمات الله، اجتناب سخط الله، واتباع طاعته، فذلك شعائر الله ؛ وعن ابن عباس قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر ويتجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال الله عز وجل :﴿ لا تحلوا شعائر الله ﴾، ومما قال ابن جرير : لا تستحلوا أيها الذين آمنوا معالم الله، فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج من تحريم ما حرم الله إصابته فيها على المحرم، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها، وفيما حرم من استحلال حرمات حرمه وغير ذلك من حدوده وفرائضه، وحلاله وحرامه، لأن كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أمارات بين الحق والباطل، يعلم بها حلاله وحرامه، وأمره ونهيه ؛ وإنما قلنا : ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى :﴿ لا تحلوا شعائر الله ﴾، لأن الله نهى عن استحلال شعائره، ومعالم حدوده وإحلالها، نهيا عاما من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء، فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ؛ ولا حجة بذلك كذلك. ا ه.
﴿ ولا الشهر الحرام ﴾ نهى عن استحلال جنس الشهر الحرام، والأشهُر الحرم- كما هو معلوم- أربعة : ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب ؛ واستحلالها يكون بالقتال فيها ؛ ﴿ ولا الهدي ولا القلائد ﴾ الهدي : ما أهدى إلى الكعبة وتَقرب به إلى الله تعالى من النسائك- الذبائح- ومفرده هدْية، مع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو حبل أو غيره ؛ عن مجاهد قال : القلائد : اللحاء في رقاب الناس والبهائم أمن لهم ؛ وعن السدي : كان العرب يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانه، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم فأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر، فيأمن حتى يأتي أهله ؛ نهى من الله جل ذكره عن استحلال حرمة المقَلد، هديا كان ذلك أو إنسانا ؛ ﴿ ولا آمين البيت الحرام ﴾ ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام ؛ ﴿ يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ﴾ يلتمسون إذا قصدوا المسجد العتيق أرباحا في تجارتهم وأن يرضى الله عنهم بحجهم ؛ - نسخ الله من هذه الآية قوله :﴿ ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام ﴾ لإجماع الجميع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة كلها، كذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أمانا من القتل، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان-( ١ ).
عن قتادة في قوله :﴿ يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ﴾ قال : هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم ؛ وفي رواية عنه : والفضل والرضوان اللذان يبتغون : أن يصلح معايشهم في الدنيا، وأن لا يعجل لهم العقوبة فيها ؛ ﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾- الصيد الذي نهيتكم أن تُحِلوه وأنتم حرم.. فلا حرج عليكم في اصطياده واصطادوا إن شئتم حينئذ-( ٢ ) ؛ ﴿ ولا يجرمنكم ﴾ لا يحملنكم ؛ ﴿ شنآن قوم ﴾ عن ابن عباس : لا يحملنكم بغض قوم ؛ ﴿ أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ﴾ ( لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام- وذلك عام الحديبية- على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذه الآية كما سيأتي من قوله :﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾، وقال بعض السلف : ما عاملت مَن عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ؛ والعدل به قامت السموات والأرض ) ( ٣ ) ؛ ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ وصانا الله تعالى أن يعين بعضنا بعضا على كل حق وخير ورشد( ٤ )، وعلى كل طاعة وقربة، ونهى سبحانه أن يُعِين أحد أحدا على ذنب ووزر وخطيئة، أو على جور وبغي وعدوان.
روى البخاري وغيره عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، قيل : يا رسول الله هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟ قال :" تحجزه وتمنعه عن الظلم فذاك نصره " ؛ ﴿ واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾- وهذا وعيد من الله جل ثناؤه وتهديد لمن اعتدى حده، وتجاوز أمره ؛ يقول عز ذكره :﴿ واتقوا الله ﴾ يعني : واحذروا الله أيها المؤمنون أن تَلُقَوه في معادكم وقد اعتديتم حده فيما حد لكم، وخالفتم أمره فيما أمركم به، أو نهيه فيما نهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه، وتستحقوا أليم عذابه، ثم وصف عقابه بالشدة، فقال عز ذِكْره : إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من خلقه، لأنها نار لا يطفأ حرها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهبها، نعوذ بالله منها ومن عمل يقربنا منها-( ٥ ).
٢ من جامع البيان..
٣ ما بين العلامتين( ) من تفسير القرآن العظيم..
٤ وهكذا، فالبر كلمة جامعة لكل خير، ولقد بينت آية كريمة واحدة سبعة عشر بابا من أبواب البر، وذلك قوله سبحانه:(.. ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون...) من الآية ١٧٧ من سورة البقرة..
٥ من جامع البيان..
﴿ الميتة ﴾ ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد.
﴿ الدم ﴾ السائل الأحمر المعروف، ولو كان من الأنعام أو مما يحل أكله من الصيد.
﴿ ولحم الخنزير ﴾ لحم الحيوان المسمى بهذا الاسم، ويلحق باللحم جميع أجزاء ذلك الحيوان.
﴿ وما أهل لغير الله ﴾ ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله.
﴿ المنخنقة ﴾ التي تموت بالخنق. ﴿ الموقوذة ﴾ التي تضرب بشيء ثقيل حتى تموت.
﴿ المتردية ﴾ التي تقع من شاهق أو موضع مرتفع فتموت.
﴿ النطيحة ﴾ التي تموت بسبب نطح غيرها لها.
﴿ ما أكل السبع ﴾ ما عدا عليها وحش فأكل بعضها فماتت.
﴿ إلا ما ذكيتم ﴾ إلا ما ذبحتم ذبحا شرعيا.
﴿ وما ذبح على النصب ﴾ ما يذبح عند الأصنام.
﴿ وأن تستقسموا بالأزلام ﴾ أن تطلبوا القسم مِن القِداح.
﴿ ذلكم فسق ﴾ ارتكاب أي من تلك المحرمات ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله.
﴿ يئس ﴾ انقطع رجاؤهم. ﴿ فلا تخشوهم ﴾ لا تخافوا جمعهم وعُدتهم.
﴿ اضطر في مخمصة ﴾ دعته ضرورة الجوع إلى أكل شيء من تلك المحرمات.
﴿ غير متجانف لإثم ﴾ غير مائل لذنب وحرام.
في الآية الأولى من هذه السورة الكريمة شرع الله تعالى إباحة أكل لحوم الأغنام من الإبل والبقر والغنم، عدا ما سيتلى من الوحي المنزل في النهي عن بعض مِن هذه المطعومات، فقال تقدست أسماؤه :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ وهي ما مات( ١ ) من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة- ذبح بالكيفية المرتضاة شرعا- والأزواج الثمانية : الإبل، البقر، الضأن، المعز، ذكورها وإناثها ؛ أو من غير اصطياد فيما يحل صيده ؛ ﴿ والدم ﴾ هو ذاك الخليط المعروف، حرم الله تعالى أكله مهما كان الحيوان الذي انفصل عنه هذا الخليط، وقد جاء تحريمه ههنا مطلقا، لكنه قيد في قول المولى تباركت آلاؤه :( قل لا أجد فيما أوحي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا.. ) ( ٢ ) : ومعلوم أن المطلق يحمل على المقيد ؛ - فأما ما كان قد صار في معنى اللحم، كالكبد والطحال، وما كان في اللحم غير منسفح( ٣ )، فإن ذلك غير حرام لإجماع الجميع على ذلك- ( ٤ ) ؛ ﴿ ولحم الخنزير ﴾ وحرم عليكم أيها المؤمنون أكل لحم الخنزير( ٥ )، أهليه وبريه ؛ واللحم يعم جميع أجزائه ؛ ﴿ وما أهل لغير الله به ﴾ ما ذكر عند ذبحه اسم غير الله، فهو حرام ؛ ﴿ والمنخقة ﴾ قال السدي : هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتموت ؛ والخنق : حبس النفَس سواء فعل بها ذلك آدمي( ٦ )، أو اتفق لها ذلك، في حبل أو بين عودين أو نحوه، فإنها لا تحل لآكل ؛ ﴿ والموقوذة ﴾ عن الضحاك : التي تضرب حتى تموت( ٧ ) ؛ ﴿ والمتردية ﴾- حرمت عليكم الميتة ترديا من جبل أو في بئر أو غير ذلك، وترديها : رميها بنفسها من مكان عال مشرف إلى أسفله ؛.. ﴿ والنطيحة ﴾.. الشاة التي تنطحها من النطاح بغير تذكية، فحرم الله جل ثناؤه ذلك على المؤمنين إن لم يدركوا ذكاته قبل موته-( ٨ ) ؛ ﴿ وما أكل السبع ﴾ أي : وحرم الله تعالى عليكم أن تأكلوا مما أكل الوحش والحيوان المفترس منه، فإن أكل السبع- كالأسد والنمر والثعلب والذئب ونحوها- من بهيمة بعضها فماتت بذلك فهي حرام ؛ ﴿ إلا ما ذكيتم ﴾ ( إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه فهو ذكي.
وروى عن عمر... ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق ؛ وفي الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي العشراء الدرامي عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال :" لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك " وهو حديث صحيح، لكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة ؛ وقوله تعالى :﴿ وما ذبح على النصب ﴾ كانت النصب حجارةً حول الكعبة، .. كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها ينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله ؛... ينبغي أن يحمل هذا على هذا، لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله ؛ وقوله تعالى :﴿ وأن تستقسموا بالأزلام ﴾ أي : حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام، واحدها زلم، ... ، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك ؛ وهي عبارة عن قداح ثلاثة على أحدها مكتوب افعل، وعلى الآخر لا تفعل، والثالث غفل ليس عليه شيء ؛.. ، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد، والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام ) ( ٩ ) ؛ في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام( ١٠ )، فقال : " قاتلهم الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا " ؛ وهكذا فالاستقسام بالأزلام هو الحادي عشر مما حرم الله تعالى في هذه الآية ؛ - وإنما ذكر مع الذبح على النصب لأنهم كانوا يفعلون كلا منهما عند البيت كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا... ضرب القداح-( ١١ ).
﴿ ذلكم فسق ﴾ الإشارة إما إلى أقرب مذكور، وهو الاستقسام بالأزلام، وإما أن تكون إلى جميع ما ذكر من استحلال أي شيء من الأحد عشر، فكل شيء منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام، - والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود ؛ إذ قال :﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ؛ ﴿ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ﴾ يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا ؛ قال الضحاك : نزلت هذه الآية حين فتح مكة ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، ... ، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن، ومَن وضع السلاح فهو آمن ؛ ومن أغلق بابه فهو آمن ؛... ﴿ فلا تخشوهم واخشوني ﴾ أي : لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم ؛.. ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج ؛ فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم.. ﴾ الآية ؛ على ما نبينه ؛ وروى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر، فقال : يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ؛ قال : وأي آية ؟ قال :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه ؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة ؛ لفظ مسلم ؛ وعند النسائي : ليلة جمعة ؛... وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة ؛ قلت : القول الأول أصح، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته( العضباء )، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت ؛ و ﴿ اليوم ﴾ قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه ؛ تقول : فعلنا في شهر كذا كذا.. ، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر.. ؛ والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا ؛ فإنها نزلت نجوما( ١٢ ) وآخرها ما نزل منها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حكم، قال ابن عباس والسدي ؛ وقال الجمهور : المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم-( ١٣ ) ؛ ﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ واخترت لكم الشرع الكامل القويم، دينونة وطاعة منكم لي، وأخبرتكم برضاي به لكم، فإنه سبحانه لم يزل راضيا لأمة خاتم أنبيائه محمد صلوات ربنا عليه وسلامه بالإسلام( فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة إن حملناه على ظاهره( ١٤ )، ... ﴿ فمن اضطر في مخمصة ﴾ هذا متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض، أي : من دعته الضرورة في ﴿ مخمصة ﴾ أي : مجاعة، إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات ) ( ١٥ ) ؛ ﴿ غير متجانف لإثم ﴾ غير مائل لحرام، غير ظالم بفعله، وغير متعد ما حُد له ؛ ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾- في هذا الكلام متروك، اكتفى بدلالة ما ذكر عليه منه، وذلك أن معنى الكلام : فمن اضطر في مخمصة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية غير متجانف لإثم فأكله فإن الله غفور رحيم، فترك ذكر فأكله وذكر له الدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما، وأما قوله :﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ فإن معناه : فإن الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله في مخمصة غير متجانف لإثم غفور رحيم، يقول : يستر له عن أكله ما أكل من ذلك بعفوه عن مؤاخذته إياه، وصفحه عنه وعن عقوبته عليه، ﴿ رحيم ﴾ يقول : وهو به رفيق، من رحمته ورفقه به أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية في حال خوفه على نفسه مِن كَلَب الجوع وضُر الحاجة العارضة ببدنه-( ١٦ ).
وصاحب جامع البيان عرف الميتتة بأنها: كل ماله نفس سائلة من دواب البر وطيره، مما أباح الله أكلها، أهليها ووحشيها، فارقتها روحها بغير تذكية.. ا هـ..
٢ من سورة الأنعام..
٣ روت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره..
٤ من جامع البيان..
٥ مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن: قالت العلماء: الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذى، ولا بد أن يحصل للمغتذى أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء؛ والخنزير مطبوع على الحرص والشره، فحرم أكله لئلا يتكيف الإنسان بكيفيته، وأما الغنم فإنها في غاية السلامة، وكأنها عارية عن جميع الأخلاق، فلا تتغير من أكلها أحوال الإنسان. اهـ..
٦ لكن ابن جرير مال إلى أن التي بها الخنق، ويخنقها غيرها تسمى مخنوقة..
٧ منقل عن الصنابجي: ليست الموقوذة إلا في مالك، وليس في الصيد وقيذ..
٨ من جامع البيان..
٩ ما بين العلامتين ( ) من تفسير القرآن العظيم..
١٠ مما نقل صاحب الجامع لأحكام القرآن: والأزلام للعرب ثلاثة أنواع: منها الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه- وأورد نحو ما ذكرنا- والنوع الثاني – سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل، كل قدح منها فيه العقل من أمر الديات، وفي آخر(منكم)، وفي آخر ( من غيركم)، وفي آخر(ملصق)، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك؛.. وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامها؛ على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل؛ والنوع الثالث- هو قداح الميسر وهي عشرة؛ سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقامرة لهوا ولعبا، وكان عقلاؤهم يقصدون به إطعام المساكين، والمعدم في زمن الشتاء وكَلْب البرد وتعذر التحرف؛ وقال مجاهد: الأزلام هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها؛ وقال سفيان ووكيع: وهي الشطرنج؛ فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا؛ وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهم استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله؛ وهو ضرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب؛.. فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة، وليس مما يتعرض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام؛ فإن العتق حكم شرعي، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شيء بتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا؛ فظهر افتراق البابين؛.. وليس من هذا الباب طلب الفأل، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل؛ فيحسن الظن بالله عز وجل، وقد قال:" أنا عند ظن عبدي بي؛ وكان عليه السلام يكره الطيرة؛ لأنها من أعمال الشرك؛ ولأنها تجلب ظن السوء بالله عز وجل؛ قال الخطابي: الفرق بين الفأل والطيرة إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه؛ وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن يكون مريضا فيسمع: يا سالم، أو يكون باغيا فيسمع يا واجد؛ وهذا معنى حديث الترمذي، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لا طيرة وخيرها الفأل" قيل: يا رسول الله، وما الفأل ؟ قال:" الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم"؛... وروى عن أيى الدرداء رضي الله عنه أنه قال: إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة..
١١ ممال نقل النيسابوري.
* باغيا: أي مبتغيا، وهو من يطلب الشيء الضال..
١٢ أي: أقساما متفرقة مجزأة..
١٣ مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن..
١٤ مما أورد ابن جرير: فإن قال قائل: أو ما كان الله راضيا الإسلام لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية ؟! قيل: لم يزل الله راضيا لخلقه الإسلام دينا، ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرف محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه، درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية:﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ بالصفة التي هو بها اليوم، والحال التي أنتم عليها اليوم منه دينا، فالزموه ولا تفارقوه. ا هـ..
١٥ ما بين العلامتين ( ) مما جاء في فتح القدير..
١٦ من جامع البيان؛ للطبري..
﴿ أمسكن عليكم ﴾ حبسن لكم.
﴿ يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ﴾ يسألك المؤمنون أيها النبي يقولون : أي شيء أحل الله تعالى لهم من المطاعم ؟ ( أو الذي أحل لهم من المطاعم إجمالا، ومن الصيد ومن طعام أهل الكتاب ومن نسائهم ) ( ١ ) ؟ ؛ فبلغهم أني أحللت لهم ما ليس بخبيث منها ؛ - وهو ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد، أو : أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة-( ٢ ) ؛ ﴿ وما علمتم من الجوارح مكلبين ﴾ فكأن المعنى : وأحل لكم أكل صيد ما علمتموه من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد، والبازي والصقر ؛ وجرح في اللغة تأتي بمعنى كسب، ومنه قول مولانا تقدست أسماؤه :(.. ويعلم ما جرحتم بالنهار.. ) ( ٣ ) أي ما كسبتم في النهار ؛ ( وانتصاب ﴿ مكلبين ﴾ على الحال من ﴿ علمتم ﴾، وفائدة هذه الحال مع الاستغناء عنها ب﴿ علمتم ﴾ أن معلم الجوارح ينبغي أن يكون ماهرا في علمه، مدربا فيه، موصوفا بالتكليب، ... والجمهور على أن الجوارح يدخل فيه ما يمكن الاصطياد به من السباع ؛ قالوا : المكلب : مؤدب الجوارح ورائضها لأنها تصطاد لصاحبها، وإنما اشتق من الكلب لكثرة هذا المعنى في جنسه، أو لأن كل سبع يسمى كلبا، كقوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " فأكله الأسد، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، .. وهب أن المذكور في الآية إباحة الصيد بالكلب، لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره لجواز الاصطياد بالرمي وبالشبكة ونحوها مع سكوت الآية عنها ؛ ﴿ تعلمونهن ﴾ حال ثانية، أو استئناف ﴿ مما علمكم الله ﴾ من علم التكليب، لأن بعضه إلهام من الله ) ( ٤ ) ؛ ﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ﴾ روى البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله " ( ٥ ) ؛ ﴿ واتقوا الله إن الله سريع الحساب ﴾-يعني جل ثناؤه : واتقوا الله أيها الناس فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلمة، أو مما تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها، أو تَطعََموا ما لم يسم الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم يوحد الله من خلقه، أو ذبحوه، فإن الله قد حرم ذلك عليكم فاجتنبوه ؛ ثم خوفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره، فقال : اعلموا أن الله سريع حسابه لمن حاسبه على نعمته عليه منكم، وشكر الشاكر منكم ربه على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى، لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم، فيحيط به، لا يخفى عليه منه شيء، فيجازي المطيع منك بطاعته، والعاصي بمعصيته، وقد بين لكم جزاء الفريقين..
٢ مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن، ثم تابع يقول: واعلم أن الأصل في الأعيان الحل، لأنها خلقت لمنافع العباد،( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا..) واستثنى من ذلك أصول: الأول- تنصيص الكتاب على تحريمه، كالميتة والدم وغيرهما، ؛ الثاني:- تنصيص السنة، كما روى عن جمع من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية؛ والبغال كالحمير، ولا تحرم الخيل عند الشافعي، لما روى عن جابر أنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل؛ الثالث- ما هو في معنى المنصوص، كالنبيذ فإنه كالخمر، فيشاركها في التحريم؛ الرابع-كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من (الطير)،.. فلا يحل بموجب هذا الأصل الكلب والأسد والذئب والنمر... لأنها تعدوا بأنيابها، ولا يحل من الطيور البازي والشاهين والصقر.. وجميع جوارح الطير؛ الخامس- ما أمر بقتله من الحيوانات فهو حرام، لأن الأمر بقتله إسقاط لحرمته، ومنع من اقتنائه، ولو كان مأكولا لجاز اقتناؤه للتسمين وإعداده للأكل وقت الحاجة، ومنه الفواسق الخمس، وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال:" خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والفأرة والغراب الأبقع والكلب والحدأة؛ والسادس- ما ورده النهي عن قتله فهو حرام. لأنه لو كان مأكولا لجاز ذبحه ليؤكل، كما روى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخطاطيف وكذا الصرد والنملة والمحلة والهدهد والخفاش؛ السابع- الاستطابة والاستخباث، لقوله تعالى:﴿.. قل أحل لكم الطيبات﴾. قال العلماء: فيبعد الرجوع إلى طبقات الناس، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون، لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحل والحرمة، وذلك يخالف موضوع الشرع، فالعرب أولى أمة بالاعتبار، لأن الدين عربي، وهم المخاطبون أولا، وليس لهم ترفه وتنعم يورث تضييق المطاعم على الناس، ولكن المعتبر استطابه سكان القرى والبلاد دون البوادي الذين لا تميز لهم، وأيضا يعتبر أصحاب اليسار والترفه دون أصحاب الضرورات والحاجات، وأيضا المعتبر حال الخصب والرفاهية، دون حال الجدب والشدة..
٣ من سورة الأنعام. من الآية ٦٠..
٤ ما بين العلامتين ( ) مما أورد النيسابوري..
٥ أصحاب كتب السنة أوردوا أكثر من خمسين رواية في أحاديث أحكام صيد البر، أكثرها مما رواه البخاري ومسلم، وبقيتها من رواية أبي داود والترمذي والنسائي؛ يراجع من شاء ﴿جامع الأصول في أحاديث الرسول﴾ حرف الصاد؛ تحت أرقام: ٥٠٠٠، ٤٩٩٩، ٤٩٩٨ إلى٥٠٠٦ الجزء السابع صفحة ٢٤، وما بعدها..
﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب ﴾ ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى ومآكلهم.
﴿ المحصنات من المؤمنات ﴾ العفائف، أو الحرائر
﴿ المحصنات من الذين أوتوا الكتاب ﴾ العفائف أو الحرائر من اليهوديات والنصرانيات.
﴿ أجورهن ﴾ مهورهن. ﴿ مسافحين ﴾ معاهرين زانين.
﴿ أخدان ﴾ معشوقات.
﴿ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ﴾... اليوم أحل الله لكم أيها المؤمنون الحلال من الذبائح والمطاعم دون الخبائث منها ؛ وقوله :﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾، وذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل وأنزل عليهم فدانوا بهما أو أحدهما ﴿ حل لكم ﴾ يقول : حلال لكم أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام، فإن من لم يكن منهم ممن أقر بتوحيد الله عز ذِكُرُه، ودان دين أهل الكتاب فحرام عليكم ذبائحهم-( ١ ) ؛ ﴿ وطعامكم حل لهم ﴾ كما أحل المولى لنا أن نأكل من طعام أهل الكتاب أحل لهم أن يأكلوا من طعامنا ؛ ﴿ والمحصنات من المؤمنات ﴾ وأحل الله تعالى لنا أن نتزوج من الحرائر العفيفات من أهل الإيمان بالدين الخاتم الذي بعث به النبي الخاتم-صلى الله عليه وسلم- ولعل ذكر هذا الحكم كالتمهيد لذكر الحكم الذي بعده :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ فكأن المعنى : وأحل لكم أن تتزوجوا من النساء الحرائر العفيفات ممن أنزل عليهم كتاب سماوي قبل الذي أنزل عليكم ؛ قال مجاهد : المحصنات : الحرائر ؛ والجمهور على أن المحصنات : العفيفات( لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل- حشفا وسوء كلية- ؛ والظاهر من الآية أن المراد من المحصنات العفيفات عن الزنا، كما قال تعالى في الآية الأخرى :(.. محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان.. ) ( ٢ ).
عن ابن عباس : نزلت هذه الآية :( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن.. ) ( ٣ )، قال : فحجز الناس عنهن، حتى نزلت الآية التي بعدها ﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ فنكح الناس نساء أهل الكتاب، .. فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة.. إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها، لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى :( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) ( ٤ ) ؛ ﴿ إذا آتيتموهن أجورهن ﴾ أي : إذا أعطيتموهن مهورهن، وجواب إذا محذوف، أي : فهن حلال ؛ ﴿ محصنين غير مسافحين ﴾ أذن الله تعالى بالتزوج من العفيفة وعهد إلى الزوج أن يكون عفيفا غير مستعلن بالزنا، ﴿ ولا متخذي أخدان ﴾ ولا متخذا خليلة وخدنا ومعشوقة يستسر بمعاهرتها ؛ والخدن يقع على الذكر والأنثى ؛ ﴿ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ﴾ والذي يجحد شرائع الإسلام، وينكر ما يجب الإيمان به والإذعان له يبطل ثواب ما عمل، مهما ظن أنه قربة إلى المولى سبحانه ؛ ﴿ وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ وهذا الجاحد المتجافي عما أوحى الله من أمانات هذا الدين، يسلمه جحوده وإنكاره إلى الخسران والهلاك والبوار، في الآخرة دار القرار.
٢ من سورة النساء. من الآية ٢٥...
٣ من سورة البقرة. من الآية ٢٢١..
٤ من سورة البينة. الآية ١..
﴿ وجوهكم ﴾ ما واجه من بدن الإنسان من تسطيح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا.
﴿ الكعبين ﴾ العظمين الناتئين البارزين من جانبي الساق، ففي كل رجل كعبان.
﴿ المرافق ﴾ المواصل، واحدها مرفق، وهو موصل الذراع في العضد.
﴿ جنبا ﴾ ذوي جنابة بسبب الجماع أو خروج المني.
﴿ فاطهروا ﴾ فتطهروا بالاغتسال وتعميم البدن بالماء.
﴿ الغائط ﴾ الأحداث الخارجة من المخرجين- القبل والدبر- سميت الأحداث بذلك لأن مكانها إذ ذاك كان الغيطان ليغيبوا فيها عن أعين الناس.
﴿ لامستم ﴾ جامعتم، أو التقى جلدكم ومس شيئا من جلد المرأة.
﴿ فتيمموا ﴾فاقصدوا. ﴿ صعيدا طيبا ﴾ ما صعد على وجه الأرض طاهرا.
﴿ حرج ﴾ ضيق ومشقة.
﴿ يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ﴾ عهد الله تعالى إلى أهل الإيمان كلما أرادوا القيام إلى الصلاة ولم يكونوا على طهر أن يتوضؤوا فيغسلوا وجوههم- واحدها وجه-وهو العضو من الإنسان الذي يواجه من يقابله، والذي يحده من أعلى : منابت شعر الرأس ومن أسفل ملتقى عظام الفكين، وحده عرضا ما بين الأذنين- ويغسلوا أيديهم من أصابع الكفين إلى عظم المرفقين- المفصلين اللذين يصلان الذراع بالعضد ؛ وأن يمسحوا بالماء بعض رءوسهم، ويغسلوا أرجلهم حتى العظمتين البارزتين على جانبي كل من الساقين ؛ وهذه آية الوضوء ؛ قال ابن عطية : لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا، فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم ؛ قال القرطبي ؛ ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذكر من إتمام النعمة ؛ فإن هذه الرخصة من إتمام النعم ؛ وأورد النيسابوري في تفسير الآية ثمانيا وستين مسألة ؛ ومما نقل ابن كثير : فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولكن هو في حق المحدث واجب، وفي حق المتطهر ندب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر : يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله، قال :" إني عمدا فعلته يا عمر " رواه مسلم وأهل السنن، .. أما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك، فعن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال : قلت : فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث ؛ وقد رواه البخاري وأهل السنن ؛... ، ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء، ويتأكد ذلك عند القيام من النوم، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " ؛.. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق ؛... وقوله :﴿ وأيديكم إلى المرافق ﴾ أي : مع المرافق، كما قال تعالى :(.. ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا )( ١ ) ؛ ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه، لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أمتي يُدْعُونَ يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " ؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء "...
ثم اختلفوا في أنه هل يستحب تكرار مسح الرأس... أو إنما يستحب مسحة واحدة... لحديث حمران بن أبان قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما، ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم قدمه اليمنى ثلاثا، ثم قدمه اليسرى ثلاثا مثل ذلك، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال :" من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه " أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين. ا ه.
﴿ وإن كنتم جنبا فاطهروا ﴾ ما تقدم من الآية الكريمة بين طهور من أحدث حدثا أصغر يكفيه الوضوء، وأما من صار جنبا لإنزاله المني، أو جماعه للمرأة فقد أحدث حدثا أكبر فعليه أن يتطهر بالاغتسال الذي هو تعميم البدن بالماء ؛ ويتحتم هذا إذا حل وقت الصلاة ؛ ويلحق بالجنب الحائض والنفساء إذا انقطع الحيض والنفاس وحل وقت الصلاة ؛ ﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ﴾ روى البخاري عن عائشة قالت : سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا، فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة، وقال : حبست الناس في قلادة، فتمنيت الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت ﴿ يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم.. ﴾ إلى آخر الآية، فقال أسيد بن حضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم ؛ وعن ابن مسعود : المريض الذي قد أرخص له في التيمم هو الكسير والجريح ؛ وأولها ابن جرير فقال : وإن كنتم جرحى أو بكم قروح أو كسر أو علة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة وأنتم مقيمون غير مسافرين فتيمموا، ... وإن كنتم مسافرين وأنتم أصحاء جنب فتيمموا.. أو جاء أحد منكم من الغائط قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح فليتيمم.. عن ابن عباس : الملامسة الجماع، ولكن الله كريم يكني عما شاء ؛. ﴿ فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ﴾ فإن لم تجدوا أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحاء، أو قد جاء منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهله في سفره ماء.. فتعمدوا واقصدوا وجه الأرض طيبا يعني طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس جائزا لكم حلالا.. فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه.. بأيديكم فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مما علق بأيديكم منه ا ه.
﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ﴾ ربنا المعبود الذي لا إله سواه إنما يريد بنا اليسر ولا يريد أن يجعل علينا في شريعته السمحة ما فيه ضيق ومشقة، فجعل تراب الأرض لنا طهورا ؛ ﴿ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ﴾ ليطهركم من الأحداث والأنجاس، وينقيكم من الخطايا والذنوب، وليتم النعمة بالهداية إلى الحق، والنعيم في جنة الخلد ؛ ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ نعمته، فتظفروا بثواب الشاكرين في الدنيا ويوم الدين ؛ وهكذا فالطهارة شرط لصحة الصلاة، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يقبل الله صدقة من غلول ولا صلاة بغير طهور "، وروى كذلك عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض والصوم جنة والصبر ضياء والصدقة برهان والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ".
﴿ ذات الصدور ﴾ صواحب الصدور، وهي القلوب.
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ﴾- يقول تعالى مذكرا عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه، وإبلاغه عنه، وقبوله منه، .. وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامهم، كما قالوا : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله ؛ وقال الله تعالى :( وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ) ( ١ )-( ٢ ).
﴿ واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ﴾ وصية من ربنا الملك المهيمن بالتقوى، وفاء بعهده، وقياما ببعض حقه، وحذرا من سرائرنا على توجه إلا إليه.
٢ من تفسير القرآن العظيم..
﴿ شهداء بالقسط ﴾ تشهدون بالعدل.
﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم ﴾ لا يحملنكم بغض جماعة من الناس.
﴿ يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ﴾ يدعونا ربنا لننهض بحقوقه، ونحرص على القيام بأماناته، فلنقم في أنفسنا بالقربان والعبادات وفي غيرنا بالوصية بالخير، والنهي عن الشر، وإشاعة الرشد والبر، ابتغاء مرضاة مولانا سبحانه وثوابه، ولنشهد بالعدل دون حيف أو جور ؛ قال : عطاء : لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك، ولا تمنع شهادتك أعدائك وأضدادك ؛ وقال الزجاج : بينوا دين الله، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه ؛ ﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ﴾ ( أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل العدل والإنصاف، ويتركوا الظلم والاعتساف، .. أي : لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا، أي فيهم، فحذف للعلم، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا فقال :﴿ اعدلوا ﴾ ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل فقال :﴿ هو ﴾ أي العدل الذي دل عليه ﴿ اعدلوا ﴾، ﴿ أقرب للتقوى ﴾ أي إلى الاتقاء من عذاب الله، أو من معاصيه ؛ وقيل : المراد سلوك سبيل العدالة مع الكفار الذين صدوا المسلمين عن البيت، بأن لا يقتلوهم إذا أظهروا الإسلام، أو لا يرتكبوا ما لا يحل من مُثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء، أو نقض عهد، أو نحو ذلك ؛ وفي هذا تنبيه على أن العدل مع أعداء الله إذا كان بهذه المكانة، فكيف يكون مع أوليائه وأحبائه ؟ !
﴿ مغفرة ﴾ ستر للخطايا، وصفح عن المعاقبة عليها، والمؤاخذة بها.
ثم ختم الكلام بوعد المؤمنين ) ( ١ ).
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم( ١٠ ) ﴾
كانت الآية التاسعة بشرى بالنعيم الذي وعد الله المؤمنين، والتي بعدها نذير ووعيد للجاحدين المكذبين بأنهم ملازموا النار شديدة التأجج والتوهج، ومتردون في مهاويها ودركاتها.
﴿ فليتوكل ﴾ فليتخذوا وكيلا
﴿ يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ﴾ تذكير بنعمة أنعمها عليهم بعد النعمة العامة التامة التي عاهدوا فيها على الإيمان والسمع والطاعة ؛ والمؤمنون إذا ذكروا ذَكروا وشكروا، وهذه تجلت في أن الله تعالى صرف عنهم كيد عدوه وعدوهم إذ هَم الكفرة الفجار( ١ ) أن يبطشوا بالصفوة الأبرار، فحال ربنا بينهم وبين ما أرادوا ؛ ﴿ واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾- واحذروا الله أيها المؤمنون أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم، وأن تنقضوا الميثاق الذي واثقكم به، فتستوجبوا منه العقاب الذي لا قبل لكم به، ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ يقول : وإلى الله فليلق أزمة أمورهم، ويستسلم لقضائه، ويثق بنصره وعونه، المقرون بوحدانية الله، ورسالة رسوله، العاملون بأمره ونهيه، فإن ذلك من كمال دينهم. وتمام إيمانهم، وإنهم إذا فعلوا ذلك كلأهم، ورعاهم وحفظهم ممن أرادهم بسوء، كما حفظكم ودافع عنكم أيها المؤمنون اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليكم كلاءة منه لكم، إذ كنتم من أهل الإيمان به وبرسوله دون غيره، فإن غيره لا يطيق دفع سوء أراد بكم ربكم، ولا اجتناب نفع لكم لم يقضه لكم-( ٢ ).
٢ من جامع البيان..
﴿ نقيبا ﴾ شاهدا وضمينا، وأمينا على قومه، وكبيرا في جماعته.
﴿ أقمتم ﴾ أديتم بتمام. ﴿ آتيتم ﴾ أعطيتم، ﴿ السبيل ﴾ الطريق.
﴿ عزرتموهم ﴾ نصرتموهم وآزرتموهم على الحق.
﴿ وأقرضتم الله ﴾ أنفقتم في سبيل رضاه. ﴿ لأكفرن ﴾ لأزيلن.
﴿ آمنتم ﴾صدقتم.
﴿ سواء ﴾ وسط.
﴿ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم ﴾ وتحققوا واستيقنوا أني أخذت على بني إسرائيل عهدا وموثقا بالوفاء بأماناتي، وطاعتي والتصديق برسالاتي، واختيار موسى كليمي من كل سبط من أسباط بني إسرائيل رجلا يكون حاكما فيهم، وشاهدا عليهم وضمينا، وكبيرا في جماعته وأمينا ؛ - وهذه الآية نزلت إعلاما من الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أخلاق الذين هموا ببسط أيديهم إليهم من اليهود-( ١ ) ؛ عن الحسن :.. الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقهم وأخلاق أسلافهم قديما.. ا ه.
﴿ وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾، ( ومعنى﴿ إني معكم ﴾ إني ناصركم ومعينكم، والتقدير : وقال الله لهم، فحذف الرابط للعلم به، والخطاب للنقباء أو لكل بني إسرائيل، والحاصل أني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم، وأرى أفعالكم، وأعلم ضمائركم، وأقدر على إيصال الجزاء إليكم ؛ فهذه مقدمة معتبرة جدا في الترغيب والترهيب، ثم ذكر بعدها جملة شرطية، مقدمها مركب من خمسة أمور، والجزاء هو قوله :﴿ لأكفرن ﴾ وهو إشارة إلى إزالة العقاب ؛ وقوله :﴿ ولأدخلنكم ﴾ هو إشارة إلى إيصال الثواب ؛ واللام في ﴿ لئن أقمتم ﴾ موطئة للقسم، وفي ﴿ لأكفرن ﴾ جواب له، ولكنه سد مسد جواب الشرط ) ( ٢ ) ؛ ﴿ فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ﴾ فكل من جاءته نعمة الهداية ومعرفة الحق ثم جحد وغوى وكذب وعصى، فقد اعوج عن قصد الطريق المستقيم ؛ وهكذا شرع المولى الحكيم أداء الصلاة تامة قويمة، وإعطاء الزكاة مستحقيها، والتصديق برسالات الله، ونصرتها ورد الكيد عنها، فإن التعزير يعني النصرة ودفع الخصوم ؛ وإقراض الله تعالى يعني الإنفاق فيما يحب ويرضى، ولعل من الحكمة في ذكره بعد الزكاة الإرشاد إلى بذل الصدقات المندوبة ؛ - وههنا أسئلة : لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أن الإيمان مقدم على الأعمال ؟ وأجيب- بعد التسليم أن الواو للترتيب- بأن اليهود كانوا معترفين بأن النجاة مربوطة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل، فذكر أنه لابد بعد الصلاة والزكاة من الإيمان بجميع الرسل، وإلا لم يكن لتلك الأعمال أثر ؛... آخر- لم قال :﴿ فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ﴾ ؟ فإن من كفر قبل ذلك أيضا فقد أخطأ الطريق المستقيم الذي شرعه الله لهم ؟ ؛ والجواب : أجل، ولكن الضلال بعد الشرط المؤكد المعلق به الوعيد العظيم أشنع، فلهذا خص بالذكر-( ٣ ).
٢ ما بين العلامتين ( ) من تفسير غرائب القرآن..
٣ مما أورد النيسابوري. صاحب تفسير غرائب القرآن..
﴿ خائنة ﴾ خيانة، وفعلة خائنة. ﴿ فاعف ﴾ فتجاوز عن عقوبتهم.
﴿ واصفح ﴾ وأعرض عما كان من إساءتهم.
﴿ المحسنين ﴾ الذين أحسنوا بعفوهم.
﴿ لعناهم ﴾ أبعدناهم وطردناهم من رحمتنا.
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ فبسبب نقض بني إسرائيل عهد الله وميثاقه الذي أخذ عليهم لعنهم سبحانه وأبعدهم وطردهم عن رحمته، (.. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.. ) ( ١ )، وجعل قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، لا تلين لذكر، ولا تستجيب لموعظة ؛ وانطلقوا يغيرون كلام الله تعالى عن مواقعه ويبدلونه، ويتجدد منهم هذا الافتراء ويتابعونه ؛ وتركوا بعضا مما وصاهم الله تعالى بأدائه ورعايته ؛ والنسيان بمعنى الترك جاء به القرآن الحكيم، يقول مولانا العلي العظيم :(.. نسوا الله فنسيهم... ) ( ٢ ) ؛ ﴿ ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ﴾ ينبئ الله تعالى رسوله، ويعلم الأمة الخاتمة أن الغدر ونقض العهد في الخلف من أبناء الغادرين من الإسرائيليين باق فيهم كما كان في الناكثين من أسلافهم، إلا طائفة قليلة يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ؛ ﴿ فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ﴾ لعل المراد : الأمر بالعفو عنهم في جهالة ارتكبوها، أو حماقة عزموا عليها، ماداموا لم يقاتلونا في الدين، ولا عملوا على إخراجنا من ديارنا، ولا ظاهروا على إخراجنا، وهم مع ذلك يؤدون الجزية، ويخضعون لما شرعه الإسلام في تعاملنا معهم ؛ ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ قال ابن عباس : معناه : إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله.
٢ سورة التوبة. من الآية ٦٧..
آيتان كريمتان سبقتا في بيان غدر اليهود، وهنا تقبيح من بعدهم ﴿ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾ لكأن الميثاق في الآية السابقة أخذ على اليهود بقرينة ذكر النقباء الاثني عشر، فليس المراد على هذا جميع بني إسرائيل، وأما في هذه الآية فقد أعطى النصارى ميثاقا أن يكونوا أنصار الله فكانوا- إلا قلة- أنصار الشيطان، وتركوا نصيبا مما نودوا إليه، وعاهدوا عليه ( يقول عز ذكره : أخذنا من النصارى الميثاق على طاعتي، وأداء فرائضي واتباع رسلي والتصديق بهم، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذته عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود فبدلوا كذلك دينهم، ونقضوا نقضهم، وتركوا حظهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي، وضيعوا أمري ) ( ١ ) ؛ عن قتادة : نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهد الله الذي عهده إليهم، وأمر الله الذي أمرهم به ؛ وعن السدي قال : قالت النصارى مثل ما قالت اليهود ونسوا حظا مما ذكروا به ؛ ﴿ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ فألقينا وألصقنا وألزمنا وحرشنا بينهم الأهواء المتخالفة، والتنافر والجدال والتخاصم ؛ قال السدي : قال في النصارى.. ﴿ فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾ فلما فعلوا ذلك أغرى الله عز وجل بينهم وبين اليهود العداوة والبغضاء.. وعن الربيع : إن الله عز ذكره تقدم إلى بني إسرائيل أن لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا، وعلموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرا، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم فأخذوا الرشوة في الحكم، وجاوزوا الحدود، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله(.. وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.. ) ( ٢ ) وقال في النصارى :﴿ فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ ؛ - فإن قال قائل : وما العداوة التي بين النصارى فتكون مخصوصة بمعنى ذلك ؟ قيل : ذلك عداوة النسطورية واليعقوبية( ٣ )، والملكية والنسطورية واليعقوبية- ؛ ﴿ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ﴾ يحذر مولانا الملكُ المهيمن هؤلاء الخائنين، ويتوعدهم بما هم ملاقوه يوم الدين، من الخذلان والعذاب المهين، جزاء ما أشركوا بالله رب العالمين.
٢ من سورة المائدة. من الآية ٦٤..
٣ مما يقول ابن كثير: فكل فرقة تُحرم الأخرى.. فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون وكذلك النسطورية والأريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد..
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني..
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني..
﴿ ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء ﴾ الله مالك جميع الكون، وبارئ كافة الخلق، يوجد ما يشاء، ويمضي ما يريد ؛ ومِن بالِغ تخبط هؤلاء الغلاة الضالين عن سبيل الله، الزاعمين أن المسيح هو الله، افتراؤهم فيما ادعوه إنجيلا ( ٣ ) أن إبليس قد حبس عيسى حتى خلصه الله من أسر عدوه ؛ فكيف ينسبون إلى الألوهية من لا يملك قهر إبليس، ولا يقوى على جلب النفع لنفسه ولا درء الأذى عنها ؟ ! ؛ ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ مقتدر ربنا على صنع ما يشاء، فعال لما يريد، فهو المستحق للعبادة، ولا المسيح الذي يعجز عن دفع ما يصيبه مِن ضر، أو صرف ما ينزل بأمه من هلاك ؛ فلا يفتننكم أن يولد عيسى دون أب، فإن الله تعالى يخلق سلالة من ذكر وأنثى، كشأن خلقه سائر البشر، ويخلق دون ذكر ولا أنثى، كخلقه آدم أبي البشر، فلا أب له ولا أم، ويخلق من أنثى دون ذكر، كالمسيح ابن مريم.
٢ من سورة آل عمران. من الآية ٥٠ والآية ٥١..
٣ إنجيل متى. الإصحاح الرابع: ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس، فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا، فتقدم إليه المجرب وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا..
﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾-حكاية لما صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم، وبيان لبطلانها، إثر ذكر ما صدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره، وبيان بطلانها، أي قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل ؛ ومرادهم بالأبناء : المقربون، أي : نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم، وبالأحباء : جمع حبيب، بمعنى محب أو محبوب، ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء : الخاصة، كما يقال : أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة، ... وعن الحسن أن النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، فقالوا ما قالوا- ( ١ ) ؛ ﴿ قل فلم يعذبكم بذنوبكم ﴾ بين الكتاب الحكيم سبيل إبطال ما افتروه، فعلمنا أن نرد عليهم إلزاما لهم وتبكيتا، فنقول : إن كان ما زعمتموه صحيحا وأنكم أبناؤه وأحباؤه فكيف يعذبكم ؟ ! ( وهكذا اثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعوى الباطلة والأماني العاطلة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم فقال :﴿ قل فلم يعذبكم بذنوبكم ﴾ أي إن كنتم كما تزعمون، فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل والمسخ، وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك لقولكم :(.. لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.. ) ( ٢ ) فإن الابن من جنس أبيه، لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب وأنتم تذنبون، والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون، فهذا يدل على أنكم كاذبون في هذه الدعوى ؛ وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف ) ( ٣ ) ؛ ﴿ بل أنتم بشر ممن خلق ﴾، ﴿ بل ﴾ للإضراب، أي ليس الأمر كما زعمتم من أن لكم فضلا على الناس ومزية، وإنما أنتم كسائر الآدميين، ويحاسبكم على الطاعة والمعصية، ويحكم فيكم ما يريد ؛ ﴿ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾ يتجاوز عمن يريد رحمته، ويستر عليه خطيئته، فلا يفضحه بها ؛ ويحل غضبه وشديد عقابه على من أراد أن يؤاخذه بما اكتسب، وهو سبحانه لا يظلم مثقال ذرة ؛ ﴿ ولله ملك السموات والأرض وما بينهما ﴾ فهو يقضي في خلقه وملكه، ويحكم لا معقب لحكمه ؛ -وكل ذلك له تعالى، لا ينتمي إليه سبحانه شيء إلا بالمملوكية والعبودية، والمقهورية تحت ملكوته، يتصرف فيه كيف يشاء إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة، وإثابة وتعذيبا، فأنى لهؤلاء ادعاء ما زعموا ؟ !، وربما يقال : إن هذا مع ما تقدم رد لكونهم أبناء لله تعالى بمعنى أشياع نبيه، ففي أولا كونهم أشياعا، وثانيا وجود بنين له عز شأنه، ﴿ وإليه المصير ﴾ أي : الرجوع في الآخرة ﴿ إليه ﴾- لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا- فيجازى كلا من المحسن والمسيء بما يستدعيه علمه من غير صارف يثنيه، ولا عاطف يلويه.
٢ من سورة البقرة. من الآية ٨٠..
٣ ما بين العلامتين ( ) من تفسير ﴿فتح القدير﴾ لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني..
ظل الإسرائيليون الذين كانوا مع موسى عليه السلام يرهبون عدوهم وينقضون ميثاقهم، ويعصون نبيهم، ولم يصيخوا سمعا لنصيحة الرجلين اللذين أنعم الله عليهما، بل أصروا على النكول عن الجهاد، ولم يلتفتوا إلى تحريض وتبشير يوشع وكالب، بل وجهوا الخطاب إلى نبي الله تعالى وكليمه قائلين : يا موسى إنا لن ندخل الأرض المقدسة التي وعدتنا أنها لنا ما دام فيها أهلها ؛ - وهذا عناد، وحَيِْد عن القتال، وإياس من النصر ؛ ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا :﴿ فاذهب أنت وربك ﴾ وصفوه بالذهاب والانتقال، والله متعال عن ذلك ؛ وهذا يدل على أنهم كانوا مُشَبهة ؛ وهو معنى قول الحسن-( ١ ) ؛ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى﴿ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ﴾ ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق لذلك، وسره ذلك ؛ وهكذا رواه البخاري في المغازي ؛ ﴿ إنا هاهنا قاعدون ﴾ سنبقى في مكاننا لا نبرح ؛ ﴿ أبدا ﴾ دهرا طويلا، أو فيما يستقبل من الزمان كله، ﴿ ماداموا فيها ﴾ أي في تلك الأرض، وهو بدل من ﴿ أبدا ﴾ ؛.. ومثله في الإبدال قوله :
وأكرم أخاك الدهر مادمتما معا | كفى بالممات فرقة وتنائيا |
أمر الله تعالى نبيه أن يقرأ على الناس، أو على أهل الكتاب خبر وقصة ابني آدم :﴿ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ﴾ أي : قراءة ملتبسة بالصدق، فإن نبأ الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل :( إن هذا لهو القصص الحق.. ) ( ١ )- أو ملتبسة بالغرض الصحيح، وهو : تقبيح الحسد، والتحذير من سوء عاقبة الحاسد-( ٢ )، ﴿ إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ﴾ عن عبد الله بن عمرو، قال : إن ابني آدم اللذين قربا( ٣ )قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، وأنهما أُمرا أن يُقربا قربانا، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها، طيبة به نفسه، وإن صاحب الحرث قرب شر حرثه.. غير طيبة بها نفسه، وإن الله تقبل قربان صاحب الغنم، ... وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، .. أيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه ؛ وعن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين فيتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربُه الرجل، فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا : لو قربنا قربانا ! وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله أرسل إليه نارا فأكلته، وإن لم يكن رضيه الله خبت النار ؛ فقربا قربانا، وكان أحدهما راعيا، وكان الآخر حراثا.. ، فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانا فتقبل منك ورُد عَلَي ؟ ! فلا والله لا تنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني، ف﴿ قال لأقتلنك ﴾ ؛ فقال له أخوه : ما ذنبي ؟ ! ﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ ؛ عن قتادة : قال : هما هابيل وقابيل، قال : كان أحدهما صاحب زرع والآخر صاحب ماشية فجاء أحدهما بخير ما له وجاء الآخر بشر ماله، فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما وهو هابيل وتركت قربان الآخر فحسده فقال : لأقتلنك ؛ مما جاء في جامع البيان : وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمتنا كالصدقات والزكوات فينا ؛ والقربان في أمتنا الأعمال الصالحة، من الصلاة والصيام والصدقة على أهل المسكنة، وأداء الزكاة المفروضة. ا ه.
٢ من تفسير غرائب القرآن..
٣ المقصود: إذ قرب كل واحد منهما قربانا، إلا أنه جمعهما في الفعل اتكالا على قرينة الحكاية، أو: لأن القربان في الأصل مصدر ثم سمي به ما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة..
٢ من روح المعاني..
٢ استبدل بعضهم بقوله سبحانه﴿ فأصبح﴾ على أن القتل وقع ليلا- وليس بشيء- فإن من عادة العرب أن يقولوا: أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرا ثمرته الخسران، ويعنون بذلك الحصول ومع قطع النظر عن وقت ودون وقت..
﴿ ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ﴾ اللام موطئة للقسم، فكأن المعنى : وقسما لقد بعثنا أنبياء إليهم بالحجة والسلطان والبرهان، وبكلماتنا الدالة على الرشد، المبينة لوجه الحق، ثم تمادى الكثير منهم بعدما تبين الهدى، وشدد النكير على من جحد واعتدى، وعتا أكثرهم وتجاوزوا حدود الله ؛ - وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها كما كانت ( بنو قريظة ) و( بنو النضير ) يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فادوا من أسروه وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث قال :( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.. ) ( ٧ )-( ٨ ).
٢ وفيه أن جد الناس واجتهادهم في دفع قاتل شخص واحد يجب أن يكون مثل جدهم في دفعه لو علموا انه يقصد قتلهم بأسرهم؛ وأورده النيسابوري..
٣ وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد لذلك الفساد وهو غالب عليهم، وكانوا أشد طغيانا فيه وتماديا، فكأنهم قيل: بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل، وهم بعد ذلك لا يبالون..
٤ هذا ما يراه صاحب جامع البيان..
٥ ما بين العلامتين ( ) من فتح القدير..
٦ مما جاء في روح المعاني: وإنما قال سبحانه:﴿وإن كثيرا منهم﴾ لأنه عز شأنه- على ما في الخازن- علم أن منهم من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهم قليل من كثير؛ وذكر ﴿الأرض﴾ مع أن الإسراف لا يكون إلا فيها للإيذان بأن إسراف ذلك الكثير.. انتشر شره في الأرض وسرى إلى غيرهم..
٧ من سورة البقرة. من الآية ٨٥..
٨ من تفسير القرآن العظيم بتصرف يسير..
﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ﴾ والقطع من خلاف هو أن تقطع اليد اليمنى من الرجل اليسرى، أو العكس ؛ ﴿ ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ شرع الله تعالى تلك العقوبة، وشدد عليهم الجزاء العاجل ردعا لهم عن سوء فعلهم، جعله فضيحة لهم وإذلالا، وليكونوا لغيرهم نكالا، صيانة لأموال الناس ودمائهم، وتقديساً لحقهم وأمنهم ؛ ﴿ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ بقدر عظم جرمهم يكون أليم عذابهم، فربنا جل وعز لا يظلم الناس شيئا(.. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) ( ٤ ) ؛ وهذا إذا ما مات على فجوره فلم يغفر له ولا عُفي عنه.
٢ من الجامع لأحكام القرآن..
٣ إذا اقتصر على إخافة الطريق..
٤ من سورة الأنعام. من الآية ١٦٠..
٢ أورد صاحب روح المعاني بحثا يزيد على ألفي كلمة تحدث فيه عن الوسيلة التي تعني الاستعانة بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد،.. وأورد أن طلب الدعاء من المخلوق وجعله وسيلة لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول فقد صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في العمرة: "لا تنسنا يا أخي من دعائك" وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمة الله تعالى عليه أن يستغفر له، وأمر أمته صلى الله تعالى عليه وسلم بطلب الوسيلة له، وبأن يصلوا عليه، وأما إذا كان المطلوب منه ميتا فلا يستريب عالم أنه غير جائز؛ وفي صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله تعالى عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون؛ فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره؛ هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون حتى سقوا؛ ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها؛ والتوسل بجاه غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته؛ ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه سبحانه وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات! إنما هو شيطان أضله وأغواه، وزين له هواه. يراجع من شاء ج ٦، من ص ١٢٤ إلى ص ١٢٩..
٢ من سورة الزمر. من الآية ٤٧..
٣ من سورة يونس. من الآية ٥٤..
٤ من سورة آل عمران. الآية ٩١..
٢ روى الحافظ ابن مردويه عن طلق بن حبيب قال: كنت من أشد الناس تكذيبا بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد الله، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله فيها خلود أهل النار، فقال: يا طلق! أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله مني؟!! إن الذين قرأت هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا فعذبوا ثم أخرجوا منها؛ ثم أهوى بيديه إلى أذنيه/ فقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يخرجون من النار بعدما دخلوا" ونحن نقرأ كما قرأت.
ومما يقول صاحب فتح القدير: وقد تواترت الأحاديث تواتراً لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الرواية بأن عصاة الموحدين يخرجون من النار، فمن أنكر هذا فليس بأهل للمناظرة لأنه أنكر ما هو من ضروريات الشريعة، اللهم غفرا..
يد بخمس مئين عسجد فديت | ما بالها قطعت في ربع دينار |
تناقض ما لنا إلا السكوت له | وأن نعوذ بمولانا من النار |
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
أي : لما كانت أمنية كانت ثمينة، ولما خانت هانت ؛ ﴿ والله عزيز حكيم ﴾ وربنا الذي لا يستحق العبادة سواه يَغْلِب ولا يغلب وهو القاهر فوق عباده، لا يمانعَ ولا يدافع ؛ ولا تفوته الحكمة ولا الصواب أبدا.
٢ وقد أورد بحثا فيه سبع وعشرون مسألة، بين فيها أول من حكم بقطعه من الرجال والنساء، وما المسروق الذي يجب فيه القطع، ومتى يجب القطع، وما الحرز الذي يعد الأخذ منه سرقة ؟ وما حكم اشتراك جماعة في إخراج نصاب من حرز ؟ وهل القبر والمسجد حرز ؟ ثم هل يكون غرم من القطع أم يسقط الضمان عمن قطع ؟ وظهور الدواب حرز لما حملت وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها، وحكم الساكنين في الفنادق إذا سرق واحد منهم من غرفة صاحبه، وهل يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما ؟ وهل يقطع ابنهما في سرقة مالهما ؟، وهل يقطع سارق المصحف ؟ وهل تقطع اليد في السفر ؟ وهل من حكمة لبدء الله تعالى بالسارق قبل السارقة في هذه الآية، بينما بدئ بالزانية قبل الزاني في سورة النور ؟؛ يراجع من شاء الجزء السادس من ص ١٥٩ إلى ص ١٧٥..
٣ مفحص القطاة: حيث تفرخ فيه من الأرض..
روى مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : مُر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي، محمما مجلودا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم، فقال :" هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم " ؟ قالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم، فقال :" أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم " ؟ ! قال : لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم( ١ ) والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أولُ من أحيا أمرك إذ أماتوه " فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل :﴿ يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ﴾ يقول : ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ .. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ ﴿ .. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ﴾.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } في الكفار كلها.
﴿ يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ﴾ عهد الله تعالى إلى خاتم المرسلين محمد عليه الصلوات والتسليم أن لا يغتم لتكذيب المكذبين لرسالته- والمراد بالمسارعة في الشيء : الوقوع فيه بسرعة ورغبة، وإيثار كلمة ﴿ في ﴾ على ( إلى ) للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين، وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك ؛.. لا تحزن ولا تبال بتفاهتهم في الكفر بسرعة حذرا.. من شرهم، وموالاتهم للمشركين، فإن الله تعالى ناصرك عليهم ؛ أو شفقة عليهم حيث لم يوفقوا للهداية، فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء-( ٢ ) ؛ ﴿ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ﴾ يقول بعض النحاة : كأن التركيب على نية التقديم والتأخير، أي : قالوا بأفواههم آمنا ؛ وهؤلاء هم المنافقون ؛ يرضونكم بألسنتهم فيتكلمون بالإسلام، وتأبى صدورهم أن تذعن لوحي الله الحق ؛ ﴿ ومن الذين هادوا ﴾ ربما يكون المعنى : ولا تحزن من كيد الذين هادوا، اليهود الغدرة الفجرة، فهو عطف على ﴿ من الذين قالوا ﴾ ؛ ﴿ سماعون للكذب ﴾ ذهب البعض إلى أن اللام للتعليل، أي يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتقولوا عليه بالباطل ؛ - ( ابتدأ فقال :﴿ سماعون للكذب ﴾ أي : هم سماعون، ومثله :(.. طوافون عليكم.. ) ( ٣ ) ؛ وقيل : الابتداء من قوله :﴿ ومن الذين هادوا ﴾ أي : ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب، أي قابلون لكذب رؤسائهم من تحريف التوراة ؛... قال سفيان بن عيينة : إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله :﴿ سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ﴾.... ﴿ يحرفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ أي : يتأولونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل ؛ وبين أحكامه ؛... والمحرفون من اليهود بعضهم لا كلهم، .. ﴿ يقولون ﴾ في موضع الحال من المضمر في ﴿ يحرفون ﴾ ) ( ٤ ) ؛ ﴿ إن أوتيتم هذا فخذوه ﴾ أي إن أتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد فاقبلوا، ﴿ وإن لم تؤتوه فاحذروا ﴾ وإن أفتاكم بالرجم ولم يطاوعكم على الجلد فلا تقبلوا منه ما قضي به من رجم الزاني المحصن، ﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ﴾ من يشأ الله تعالى له الضلالة عن الرشد فلن تنفعه، ولن ينفعه شيء ؛ عن الحسن وغيره : عذابه ؛ وعن السدي :﴿ فتنته ﴾ إهلاكه ؛ وعن الزجاج : خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه ؛ وقد يشهد لهذا الأخير قول الله تعالى بعد ذلك :﴿ لهم في الدنيا خزي ﴾ فيهتك الله تعالى أستارهم، ويزداد غمهم بظهور الإسلام وتمام نوره ؛ ﴿ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ شديد عقاب الله تعالى لهم في الآخرة، ومع بالغ شدته فإنه دائم لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.
٢ من روح المعاني..
٣ من سورة النور. من الآية ٥٨..
٤ من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ أكالون ﴾ كثير أكلهم وجمعهم وأخذهم. ﴿ السحت ﴾ للمال الحرام.
﴿ بالقسط ﴾ بالعدل.
﴿ سماعون للكذب ﴾ يكرر الذكر الحكيم أن اليهود مردوا على تسمع البعض منهم لما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ليتقول عليه، ثم أخبر العليم الخبير سبحانه أنهم أحرص الناس على أكل المال الحرام وأخذه وجمعه. ﴿ أكالون للسحت ﴾ قال عمر : ما كان من السحت : الرشا ومهر الزانية ؛ ونقل عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم : الرشوة( ١ ) في الحكم، ومهر البغي، وعسب الفحل... ، زاد بعضهم ونقص بعضهم ؛ قال المهدوي : ومن جعل كسب الحجام( ٢ ) ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه.
﴿ فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ﴾ روى البخاري في صحيحه عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما تجدون في التوراة في شأن الرجم " ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون ؛ قال عبد الله بن سلام : كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك، فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا صدقت يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة ؛ ﴿ فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ خير الله تعالى نبيه بين الحكم والإعراض ؛ - ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو ثابت اليوم، وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمة والعهد إذا احتكموا إليهم مثل الذي جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، أم ذلك منسوخ ؟، فقال بعضهم : ذلك ثابت اليوم لم ينسخه شيء، وللحكام من الخيار في كل دهر بهذه الآية مثل ما جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛.. ؛ وقال آخرون : بل التخيير منسوخ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكم بينهم بالحق، وليس له ترك النظر بينهم ؛.. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : إن حكم هذه الآية ثابت لم ينسخ، وإن للحكام من الخيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وترك الحكم بينهم والنظر، مثل الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية، وإنما قلنا : ذلك أولاهما بالصواب لأن القائلين : عن حكم هذه الآية منسوخ زعموا أنه نسخ بقوله :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾ وقد دللنا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام أن النسخ لا يكون نسخا إلا ما كان نفيا لحكم غيره بكل معانيه حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعا على صحته بوجه من الوجوه، ... وإذا لم يكن في ظاهر التنزيل دليل على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفى أحد الأمرين حكم الآخر، ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يصح بأن أحدهما ناسخ صاحبه ولا من المسلمين على ذلك إجماع، صح ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيد أحدهما صاحبه ويوافق حكمه حكمه، ولا نسخ في أحدهما للآخر-( ٣ ) ؛ ﴿ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ﴾ وإن تركت الفصل في خصوماتهم، وعادوك من أجل ذلك فلا تبال بعداوتهم فإني سأكفيكهم، وأرد عنك كيدهم ؛ وإذا أردت أن تحكم بينهم فالتزم العدل فإني أٌحِب من أقسط( ٤ ) وعدل.
٢ مما قال صاحب الجامع لأحكام القرآن: الصحيح في كسب الحجام أنه طيب، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته؛ و(قد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبو طيبة، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه؛ قال ابن عبد البر: هذا يدل على أن كسب الحجام طيب، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جُعلا ولا عوضا لشيء من الباطل؛ وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام؛ وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه..
٣ من جامع البيان للطبري..
٤ أما قسط﴿الثلاثي﴾ فإنه بمعنى جار وظلم، ومنه قول الله تعالى:( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} من سورة الجن..
﴿ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ﴾ عجب الله تعالى من سوء صنيع اليهود، وحذرهم عاقبة أمرهم ؛ وفعلهم مذموم من وجوه، فهم بدلوا حكم الله الذي نزله في التوراة، ثم جاءوا يحتكمون إلى من كتموا بشرى نبوته، وعمدوا إلى تكذيبه حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، ثم أعرضوا عن قضائه بينهم بعدما تقاضوا عنده ؛ ومن فعل ذلك فليس من الإيمان ولا من أهل الإيمان في شيء.
﴿ استحفظوا ﴾ استودعوا.
﴿ هادوا ﴾ عادوا وتابوا. ﴿ اخشون ﴾ خافون وارهبون.
﴿ ولا تشتروا بآياتي ﴾ ولا تستبدلوا بوحي.
﴿ ثمنا ﴾مقابلا من رشوة أو جاه أو حظ من حظوظ الدنيا
﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ﴾ عظم الله تعالى كتابه المنزل على موسى عليه السلام ؛ ومجده بأنه وحيه، جعل فيه ما يرشد إلى الحق ويهدي إلى الرشد، وفيه الضياء الذي يُكشَف به ما تشابه على الناس وأظلم ؛ وفيه بيان الشرائع، والتبشير بالنبي الخاتم ؛ ﴿ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ﴾ يحكم بالتوراة الأنبياء الذين انقادوا لشرع الله تعالى وخضعوا ؛ عن عكرمة :﴿ النبيون الذين أسلموا ﴾ ( ١ ) النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق ؛ ﴿ للذين هادوا ﴾ أي الذين تابوا من كفر ورجعوا بعد زيغ كان منهم، وهذا يعني الحكم لهم وعليهم ؛ ﴿ والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ﴾ ويحكم بالحق الذي في التوراة ﴿ الربانيون ﴾ المربون بالعلم، ﴿ والأحبار ﴾ والعلماء ؛ بسبب ما استحفظوا عليه من كلام الله تعالى في كتابه- وقد أخذ الله على العلماء أن يحفظوا كتابه من وجهين : أحدهما-أن يحفظوه في صدورهم، ويدرسوه بألسنتهم ؛ والثاني-أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه ؛ ﴿ وكانوا ﴾ أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار ﴿ عليه ﴾ على أن كل ما جاء في التوراة حق من عند الله ﴿ شهداء ﴾ رقباء لئلا يبدل، ... ثم نهى اليهود المعاصرين عن التحريف لرهبة فقال :﴿ فلا تخشوا الناس واخشون ﴾ وعن التغيير لرغبة فقال :﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ وهو الرشوة وابتغاء الجاه، ثم عمم الحكم فقال :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون ﴾- ( ٢ ).
٢ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ كتبنا ﴾ فرضنا
﴿ النفس بالنفس ﴾ تقتص النفس وتقتل إذا قتلت نفسا بغير حق.
﴿ العين بالعين ﴾ وتقلع العين مقابل قلع عين ظلما، وتفقأ.
﴿ والجروح قصاص ﴾ تقتص الجراح بالجراح.
﴿ فمن تصدق به فهو كفارة له ﴾ فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للجارح.
﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ﴾ عن ابن عباس : تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح ؛ ( وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود، وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به، بعد إقراره بنبوته، وإدباره عنه بعد إقباله، وتعريف منه له جراءتهم قديما وحديثا على ربهم وعلى رسل ربهم، وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل ) ( ١ ) ؛ ﴿ فمن تصدق به فهو كفارة له ﴾ نقل مجاهد عن ابن عباس : كان على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح، قال : وذلك قول الله تعالى ذكره :﴿ وكتبنا عليهم فيها ﴾ في التوراة، فخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل عليهم الدية في النفس والجراح، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن تصدق به فهو كفارة له ؛ وربما يكون المراد : مَن تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص، بأن عفا عن الجاني، فهو كفارة للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه ؛ ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ﴾ المتجاوزون الحد، البالغون أقصى غايات الظلم والبغي.
﴿ نور ﴾ ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم.
﴿ وقفينا ﴾ أتبعنا. ﴿ آتيناه ﴾ أعطيناه، وأنزلنا عليه.
﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ﴾ وبعثنا من بعد النبيين الذين أسلموا، وأتبعناهم بعيسى ابن مريم، المسيح عليه السلام، وأرسلناه حال كونه مصدقا لما سبقه من كتابنا ﴿ التوراة ﴾، المنزل على موسى، وأعطينا عبدنا المسيح عيسى وأنزلنا عليه كتابنا ﴿ الإنجيل ﴾ فيه الهداية إلى الحق، والنور الذي يزيح ظلمات الشرك والشك ؛ وجعلنا ﴿ الإنجيل ﴾ مصدقا لما جاء في ﴿ التوراة ﴾ وهاديا للتي هي أقوم، وواعظا لكل من عظم مقام ربه ووفي بعهده والتزم ؛ - وجعل كله هدى بعد ما جعل مشتملا عليه مبالغة، في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أظهر، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه، والمنتفعون بجدواه-( ١ ) وذلك كقوله تقدست أسماؤه :(.. فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ( ٢ )، وكذا :( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب.. ) ( ٣ ) وقوله عز ثناؤه :( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ( ٤ ).
٢ من سورة ق. من الآية ٤٥..
٣ من سورة يس. من الآية ١١..
٤ من سورة ق. من الآية ٣٧..
﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ﴾ ﴿ .. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ﴾ في الكفار كلها.
﴿ الكتاب ﴾ القرآن المجيد. ﴿ لما بين يديه من الكتاب ﴾ لما سبقه من كتب.
﴿ مهيمنا ﴾ رقيبا، ومؤتمنا. ﴿ شرعة ﴾ طريقة توصل إلى النجاة.
﴿ منهاجا ﴾ سبيلا مستمرا. ﴿ ليبلوكم ﴾ ليختبركم. ﴿ آتاكم ﴾ أعطاكم.
﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ فسارعوا إلى الطاعات. ﴿ مرجعكم ﴾ مصيركم.
﴿ فينبئكم ﴾ فيخبركم.
تحدثت الآيات من قبل عن التوراة والإنجيل، الكتابين المنزلين من لدن الله العزيز العليم، وبينت ماذا على من أنزلا فيهما من وجوب الاهتداء بهديهما، والاستضاءة بنورهما، والاحتكام إلى شرعهما، ثم جاءت هذه الآيات تمجد الكتاب الحكيم، القرآن العظيم وتذكر بفضله على سائر الكتب ﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ﴾ فالمخاطب النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وأل في ﴿ الكتاب ﴾ المنزل عليه للعهد، و ﴿ بالحق ﴾ أي متلبسا بالحق، و﴿ الكتاب ﴾ الذي أنزل من بين يديه، وأوحى إلى رسولين سبقا النبي الخاتم في الزمان، أل فيه للجنس، أي جنس الكتب السالفة المنزلة، والمراد : التوراة والإنجيل، و﴿ مهيمنا ﴾ أي : شهيدا، كما روي عن ابن عباس ؛ وعن قتادة :﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ الكتب التي خلت قبله، ﴿ ومهيمنا عليه ﴾ أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت قبله ؛ وأصل الهيمنة : الحفظ والارتقاب ؛ ﴿ فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي : مادام القرآن أمينا على الكتب السالفة وشاهدا على الحق الذي تضمنته، ومادام ينسخ غيره، ولا ينسخه غيره، فاحكم بين من تحاكم إليك بما أنزل الله تعالى عليك- في كل ما احتكموا فيه إليك من الحدود والجروح والقود والنفوس، فارجم الزاني المحصن، واقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة ظلما، وافقأ العين بالعين، واجدع الأنف بالأنف، فإني أنزلت إليك القرآن مصدقا في ذلك ما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليه، يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبله، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود.. يقول : اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك فاختر الحكم عليهم ولا تتركن العمل بذلك اتباعا منك أهواءهم، وإيثارا لها على الحق الذي أنزلته إليك في كتابي-( ١ ) ؛ وجائز أن يكون المخاطب بالنهي النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد سائر الحكام ؛ ويجوز أن يُنهى من لا يتصور منه وقوع المنهي عنه، كما في قوله تعالى :( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار.. ) ( ٢ ) ؛ ﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾ جعل الله تعالى بحكمته لكل أمة طريقة توصل إلى النجاة ﴿ شرعة ﴾ وخصها بمنهاج وسبيل مستمر يُبلغ من استمسك به رضوان المولى وثوابَه ؛ ومهما تفاوتت الشرائع التي بعث ربنا بها رسله فإن أصل الإيمان في تلك الرسالات لا يختلف ؛ في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد " وقد نطق الكتاب الحق بأن اختلاف ملة عن ملة لا ينافي اشتراك كافة الرسالات في اليقين بوحدانية الله المعبود بحق، والدعوة إلى إفراده بالطاعة والتقديس دون سواه، يقول جل علاه :( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) ( ٣ ).
﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾- ولو شاء ربك لجعل شرائعكم واحدة، ولم يجعل لكل أمة شريعة ومنهاجا غير شرائع الأمم الأُخَر ومنهاجهم، فكنتم تكونون أمة واحدة لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم، ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك، فخالف بين شرائعكم ليختبركم، فيعرف المطيع منكم من العاصي، والعامل بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من المخالف ؛ والابتلاء : هو الاختبار، ... الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم فإنه قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم، ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانا وضمت إليه غائبا فأرادت الخبر عنه أن تُغلب المخاطب، فيخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب، فلذلك قال تعالى ذكره- :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾.. قوله :﴿ فاستبقوا الخيران إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ يقول تعالى ذكره : فبادروا أيها الناس إلى الصالحات من الأعمال والقرب إلى ربكم، بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى نبيكم، فإنه إنما أنزله امتحانا لكم وابتلاء، ليتبين المحسن منكم من المسيء فيجازي جميعكم على عمله جزاءه عند مصيركم إليه، فإن إليه مصيركم جميعا فيخبر كل فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرق الأخرى ؛... فإن قال قائل : أو لم ينبئنا ربنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون ؟ فقيل : إنه بين ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج، دون الثواب والعقاب عيانا، فمصدق بذلك ومكذب، وأما عند المرجع إليه فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكون معها في معرفة المحق والمبطل.. - ( ٤ ).
٢ من سورة هود. الآية ١١٢، ومن الآية ١١٣..
٣ من سورة الأنبياء. الآية ٢٥؛ وقال سبحانه:( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)....
٤ من جامع البيان..
﴿ تولوا ﴾ صدوا وأعرضوا.
﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون ﴾ وهذا توكيد لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المتحاكمين إليه بما أنزل الله عليه، وتذكير لكل حاكم ان يستمسك بالحق، وأن لا ينصرف عن القضاء به بين الناس مخافة أن يصرفوه إلى تحقيق أهوائهم، ويقال في النهي هنا ما قيل من قبل فإنما أن يكون الخطاب للنبي والمراد سائر الحكام ؛ أو أن النهي يجوز أن يوجه إلى من لا يتصور منه وقوع المنهي عنه ؛ ﴿ عن بعض ما انزل الله إليك ﴾ لعل في هذا ما يقطع طمع الأعداء في أن يصرفوا المؤمن ولو عن بعض أمانات الله لديه ؛ ولقد استحفظنا مولانا على الدين كله، وبين الكتاب الحكيم أن قوما استجابوا لأعداء الحق في شيء من الباطل فغدوا بهذا من المرتدين. يقول مولانا الحق المبين :( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم ) ( ١ ).
﴿ فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون ﴾ فإن أعرض المتحاكمون إليك عن القضاء بالقسط، وانصرفوا مدبرين عنه متجاوزين له فليرتقبوا من الله العزيز بطشة عاجلة تحل بهم عقوبة على بعض آثامهم وأوزارهم، ويوم القيامة يوفون جزاءهم، ويَصْلَوْن السعير الذي أعد لهم ؛ وليصير أهل الرشد، والدعاة إلى البر والخير والقسط، ولا يهولنهم كثرة المبطلين، الخارجين على حدود رب العالمين، فإنها سنته الماضية في الأولين والآخرين، وصدق مولانا العلي العظيم :( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ( ٢ ).
٢ من سورة يوسف. الآية ١٠٣..
﴿ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴾ أيتولون ويعرضون عن حكم الله الذي أوحاه ويطلبون حكم عبدة الأوثان والأصنام، وتلك هي الملة الجاهلية ؟ ! وليس من حكم أفضل وأحسن عاقبة من حكم الخبير البصير اللطيف القدير جل علاه ؛ مما روى البخاري عن ابن عباس-مرفوعا- :" أبغض الناس إلى الله عز وجل من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية.. ".
﴿ أولياء ﴾ نصراء.
نهى الله تعالى عن مناصرة اليهود والنصارى، ومعاشرتهم معاشرة أهل الحق، ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض.. ) ( ١ ) فالكفر ملة واحدة، والجنس الزائغ ينضم إلى ما هو من جنسه في الغي و البغي ؛ ولعل النداء هنا لكل من يتصف بالإيمان، أعم من أن يكون ظاهرا وباطنا، أو ظاهرا فقط، فيدخل المسلم والمنافق-والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادقة والمعاشرة والمناصرة ؛ وقوله :﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ تعليل للنهي، والمعنى : أن بعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم، وبعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى، وبالبعض الآخر الطائفة الأخرى، للقطع بأنهم في غاية من العداوة والشقاق :( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء.. ) ( ٢ ) ؛ وقيل : المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالى الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعداوة ما جاء به، وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين، ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال :﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم، وهو وعيد شديد، فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية-( ٣ ).
﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ المتجاوز حدود الله، المعرض عن آياته لا ينال توفيقا، ولا ينشرح بالدين الحق صدرا.
٢ من سورة البقرة. من الآية ١١٣..
٣ ما بين العارضتين مما أوِردَ في فتح القدير.
﴿ يسارعون فيهم ﴾ في معاونتهم.
﴿ تصيبنا دائرة ﴾ تنزل نائبة، وتدور أمور.
﴿ بالفتح ﴾ بفتح بلاد المسلمين.
﴿ أمر من عنده ﴾ سعة للمسلمين.
﴿ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ﴾ عن قتادة : أناس من المنافقين كانوا يوادون اليهود ويناصحونهم دون المؤمنين ؛ والخطاب في ﴿ فترى ﴾ إما للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح للخطاب ؛ والرؤية إما قلبية وإما بصرية ؛ ﴿ يسارعون فيهم ﴾ يتبادرون إلى موالاتهم ؛ والدائرة : نزول نائبة، أو دوران أمور ؛ والمرض في القلوب : الشك والنفاق ؛ يقول الذين نافقوا مسارعين إلى مودة أهل الكفر : نخشى أن تدور الدائرة على المؤمنين، وتكون الدولة لأعدائهم فيصيبنا منهم ما نكره :( وقد رد الله تعالى عليهم أعمالهم الباطلة، وقطع أطماعهم الفارغة، وبشر المؤمنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه :﴿ فعسى الله أن يأتي بالفتح ﴾ فإن عسى منه عز وجل وعد محتوم، لما أن الكريم إذا أطمع أطعم، فما ظنك بأكرم الأكرمين ؟ ! ؛ والمراد بالفتح فتح مكة-كما روى عن السدي- وقيل : فتح بلاد الكفار، واختاره الجبائي ؛ وقال قتادة، ومقاتل : هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه، وإعزاز الدين... ﴿ أو أمر من عنده ﴾ وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة، والجلاء لبني النضير... - وبه يتعلق. ﴿ على ما أسروا ﴾.. ﴿ فيصبحوا ﴾ أي أولئك المنافقون، .. والمراد فيصيروا ﴿ على ما أسروا في أنفسهم ﴾ من الكفر والشك في أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ﴿ نادمين ﴾ خبر-يصبح- وبه يتعلق. ﴿ على ما أسروا ﴾..
﴿ حبطت أعمالهم ﴾ بطل ثواب عملهم وذهب أجره.
﴿ ويقول الذين آمنوا ﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة، .... والمعنى : ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم، ويرجون دولتهم، ويظهرون لهم غاية المحبة، وعدم المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم تخيبة رجائهم، وانعكاس تقديرهم، لوقوع ضد ما كانوا يترقبونه ويتعالون به، تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم ﴿ أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ﴾ أي بالنصرة والمعونة- كما قالوه- فيما حكي عنهم :(.. وإن قوتلتم لننصرنكم.. ) ( ١ ).. والمعنى : إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك ؛.. واختار غير واحد أن المعنى : يقول المؤمنون الصادقون بعضهم لبعض :﴿ أهؤلاء الذين أقسموا بالله ﴾ تعالى لليهود... ، و﴿ جهد أيمانهم ﴾ منصوب على أنه مصدر- لأقسموا- من معناه، والمعنى : أقسموا إقساما مجتهدا فيه.. ) ( ٢ ) ؛ ﴿ حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ﴾ قد تكون هذه الجملة دعائية، دعاء عليهم بالهلاك والوبال وذهاب ثواب الأعمال، وقد تكون مسوقة من لدن المولى تعالى لبيان مآل ما صنعوه، وقد تكون من جملة ما يحكيه الكتاب المبين من قول المؤمنين.
٢ ما بين العلامتين ( ) من روح المعاني..
﴿ فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ﴾ الفاء واقعة في جواب شرط ﴿ مَن ﴾ فكان التقدير : من يرتد عن الإسلام فسوف يأتي الله مكانهم بعد إهلاكهم بقوم من صفاتهم أنهم يحبون الله تعالى، يميلون إليه سبحانه بصدق ويسارعون إلى مرضاته، ويحبهم جل وتقدس فيثيبهم أجزل الثواب، ويكرمهم ويرضى عنهم ؛ ومن رضوانه سبحانه يمنحهم عطفا وحنوا على إخوانهم المؤمنين، متذللين لهم، ﴿ أعزة على الكافرين ﴾-أشداء متغلبين عليهم- مِن عَزهُ، إذا غلبه- ونص العلامة الطيبي أن هذا الوصف جيء به للتكميل، لأن الوصف قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم، فدفع ذلك الوهم بالإتيان به.. - ( ٦ )، فهم مع عُلُو مقامهم، وهيبتهم في نفوس أعدائهم، يخفضون أجنحتهم يتواضعون، كما جاء في قول الحق تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه :( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.. ) ( ٧ )، كما علمنا في شخص نبيه الكريم، بقوله الحكيم :(.. واخفض جناحك للمؤمنين ) ( ٨ ) ؛ ﴿ يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ﴾( يجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين، .. متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين، وقلب محاسنهم مساوئ، ومناقبهم مثالب، حسدا وبغضا، وكراهة للحق وأهله ) ( ٩ ) ؛ مما يقول القرطبي-رحمه الله تعالى- : فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي-رضي الله تعالى عنهم- ؛ لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي الله تعالى ؛ وقيل : الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة ؛ والله أعلم. ا ه.
وعن قتادة : أنزل الله هذه الآية( ١٠ ) وقد علم أنه يرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام.. فبعث الله عصابة مع أبي بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه حتى سبي وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، حتى أقروا بالماعون- وهي الزكاة- صغرة أقمياء، فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية وكانت أهون عليهم : أن يستعدوا أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين مِن مال ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال ؛ ﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ﴾ ذلك العطاء الذي منح المولى أهل محبته من حنو على المسلمين، وغلظة على الكافرين، ومضاء في الحق، وشدة في الدين، ذلك العطاء تفضل من الوهاب الغني يهبه مَن يشاء من عباده، وهو-تباركت آلاؤه- عظيم المنن والآلاء، محيط العلم بكل الأشياء.
٢ من سورة فاطر. الآيتان ١٧، ١٦..
٣ من جامع لحكام القرآن..
٤ اسم حصن بالبحرين؛ وفي الحديث:" أول جمعة جمعت بعد المدينة بجواثي"..
٥ نقل أبو الفضل شهاب الدين الألوسي البغدادي: روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" بنو مدلج، ورئيسهم: ذو الحمار، وهو الأسود العنسي؛ كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي، بيته فقتله، وأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتله ليلة قتل، فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد، وأتى خبره في شهر ربيع الأول؛ وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ابن حبيب، تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم/ سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فقدم عليه الصلاة والسلام رسولان له بذلك، فحين قرأ صلى الله تعالى عليه وسلم كتابه، قال لهما:" فما تقولان أنتما" ؟ قالا: نقول كما قال؛ فقال صلى الله تعالى عليه وسلم:" أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما، ثم كتب إليه:" بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"، وكان ذلك في سنة عشر، فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس، وفي إسلامي شر الناس.. ؛ وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشام فأسلم وحسن إسلامه، وارتدت سبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فزارة قوم عيينة بن حصن؛ وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري؛ وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل؛ وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة؛ وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة في قصة مشهورة، وصح أنها أسلمت بعد وحسن إسلامها؛ وكندة قوم الأشعت بن قيس؛ وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على ردته، وقيل: إنه أسلم؛ ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا، فيه: إن جبلة ورد إلي في سراة قوم فأسلم فأكرمته، ثم سار إلى مكة فطاف فوطىء إزاره رجل من بني فزارة، فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه... فاستعدى الفزاري على جبلة إلي، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك، وهو سوقة ؟ فقلت: شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد، فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد:
تنصرت بعد الحق عارا للطمـة ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر
فأدركـنـي منها لجـاج حميـة فبعث لها العين الصحيحة بالعـور
فيـا ليـت أمي لم تلدنـي وليتنـي صبرت على القول الذي قاله عمـر
.
٦ من روح المعاني..
٧ من سورة الفتح. من الآية ٢٩..
٨ من سورة الحجر. من الآية ٨٨..
٩ من فتح القدير..
١٠ نقل عن فخر الدين الرازي: هذه الآية من أول الدلائل على فساد مذهب الإمامية، لأن الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر لو كانوا أنكروا نصا جليا على إمامة علي رضي الله عنه لكان كلهم مرتدين، ثم لجاء الله بقوم تحاربهم وتردهم إلى الحق، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل الأمر بالضد: فإن فرقة الشيعة مقهورون أبدا حصل الجزم بعدم النص. ا هـ..
٢ وأورد الألوسي- رحمه الله تعالى- بحثا في الرد على الشيعة الذين زعموا أن الآية الكريمة، أثبتت إمامة علي رضي الله تعالى عنه، ونفت الإمامة عمن عداه؛ والبحث يناهز الألفي كلمة ٢٠٠٠...
٣ من سورة التوبة. من الآية ٢٣..
نهى الله جل علاه أن نوالي المستهزئين( ١ ) بالدين والذين يسيرون به إلى غير وجهه( ٢ )، وهذا يعم كل من فعل ذلك من اليهود والنصارى، ومن المشركين، ومن المنافقين وأهل البدع المدعين أنهم على الإسلام ؛ ﴿ واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ﴾ واخشوا ربكم المعبود بحق أن تحبوا أو تناصروا أحدا من هؤلاء، فإن ذلك هو مقتضى الإيمان، كما جاء في القرآن :( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.. ) ( ٣ ).
٢ واللعب من معانيه: أخذ الشيء على غير وجهه، والاتجاه به إلى العبث وما تتحق به غاية كريمة..
٣ من سورة المجادلة. من الآية٢٢..
٢ من سورة الجمعة. من الآية ٩..
٣ أو: لا يعقلون ما في الصلاة من المنافع؛ وبحسبها أنها توجه إلى الخالق، واستجابة لأمر البر الرحيم الوهاب الكريم؛ قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصلاة..
٢ من سورة التوبة. من الآية ٧٤..
٣ من تفسير القرآن العظيم..
﴿ من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ﴾ أنبئكم بشر مصير وجزاء يوم القيامة أعده الواحد القهار للذين أبعدهم من رحمته ؟، وأحل بهم غضبا لا يرضى بعده عنهم أبدا، كما عجل سخطه بأسلافهم الذين مسخهم قردة وخنازير، وجعل منهم من عبد الشيطان والباطل والطغيان ؛ في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله ؟ فقال :" إن الله لم يهلك قوما- أو قال لم يمسخ قوما- فيجعل لهم نسلا ولا عقبا إن القردة والخنازير كانت قبل ذلك " ) ﴿ من لعنه الله ﴾خبر لمبتدأ محذوف مع تقدير مضاف محذوف، أي : هو لعن من لعنه الله، أو : دين من لعنه الله، .. ﴿ وجعل منهم القردة والخنازير ﴾ أي : مسخ بعضهم قردة وخنازير.. فإن الله مسخ أصحاب السبت قردة، وكفار مائدة عيسى منهم خنازير ؛.. ﴿ وعبد الطاغوت ﴾.. ومن عبد الطاغوت، .... ﴿ أولئك شر مكانا ﴾ الإشارة إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة ؛ وجعلت الشرارة للمكان، وهي لأهله للمبالغة، ويجوز أن يكون الإسناد مجازيا، قوله :﴿ وأضل عن سواء السبيل ﴾ معطوف على ﴿ شر ﴾ أي : هم أضل من غيرهم عن الطريق المستقيم ) ( ٣ ).
٢ من روح المعاني..
٣ ما بين العلامتين( ) من فتح القدير..
﴿ والله أعلم بما كانوا يكتمون ﴾ والإله المعبود بحق سبحانه محيط علما بما أضمروه من نفاق، وما أخفوه من غيظ وأضغان، وهو مجازيهم بما انطوت عليه نفوسهم الغادرة من مخاتلة ومخادعة :( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ) ( ٣ ).
٢ من سورة آل عمران. الآية ٧٢..
٣ من سورة النساء. الآية ١٤٥..
٢ من سورة آل عمران. من الآية ٧٣..
٣ من فتح القدير، بتصرف يسير..
في سبع آيات قبل هذه من الآية ٥٧ حتى الآية ٦٤ بين الكتاب العزيز بعض إفك الإسرائيليين ومكرهم وزورهم إذ سخروا من الدين ومن المصلين، وما قدروا الله العلي العظيم، ومن حِلْمِه سبحانه أن ذكر أنهم مع إسرافهم في فجورهم وافترائهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه، واجتنبوا البغي والفساد، لغفر لهم ما كان من غي وآثام، ولأدركوا نعيم الجنة دار السلام ؛ -﴿ ولو أن أهل الكتاب ﴾ وهم اليهود والنصارى ﴿ آمنوا ﴾ بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فصدقوه واتبعوا ما أنزل عليه، ﴿ واتقوا ﴾ ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه، ﴿ لكفرنا عنهم سيآتهم ﴾ يقول : محونا عنهم ذنوبهم فغطينا عليها، ولم نفضحهم بها، ﴿ ولأدخلناهم جنات النعيم ﴾ يقول : ولأدخلناهم بساتين ينعمون بها في الآخرة...
﴿ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ﴾ مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم قائلة فيه الحق أنه رسول الله(.. وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.. ) ( ٢ )، لا غالية قائلة إنه ابن الله-تعالى عما قالوا من ذلك- ولا مقصرة قائلة هو لغير ِرشْدَه ( ٣ )، ... وكثير منهم سيء عملهم-( ٤ ).
٢ من سورة النساء. من الآية ١٧١..
٣ طائفة من اليهود-عليهم لعائن الله- اتهموا مريم عليها السلام بالزنى..
٤ من جامع البيان..
وزعمت الشيعة أن المراد ب ﴿ما أنزل إليك﴾ خلافة علي.. فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه؛... وأنت تعلم أن أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة، ولا مسلمة لديهم أصلا،.... والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحيهما لعدم وجدانهما له على شرطهما، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما- وحاشاهما من ذلك؛.... ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة علي كرم الله تعالى وجهه، وأن الموصول فيها خاص قوله تعالى:﴿ والله يعصمك من الناس﴾ فإن الناس فيه وإن كان عاما إلا أن المراد بهم الكفار، ويهديك إليه ﴿إن الله لا يهدي القوم الكافرين﴾ فإنه في موضع التعليل.. ا هـ مما أورد الألوسي..
٢ ما بين العارضتين مما جاء في الجامع لأحكام القرآن؛ بتصرف..
٣ الروافض: طوائف الرافضة وهم الشيعة الذين رفضوا زيد بن علي وتركوه إذ لم يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما..
٤ العقل: الدية..
٥ من سورة الأحزاب. من الآية ٣٧..
٦ إن العبد إذا تعرف إلى الله تعالى في الرخاء عرفه الله تعالى في الشدة ولقد عاش ألوف من الداعين إلى الحق العالمين على نصرة الإسلام وإعزاز أهله وسيادة أحكامه عاشوا في محن متلاحقة منذ الثلث الأخير من القرن الهجري الماضي فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا؛ ورأينا من آيات ربنا وأسباب كشفه السوء ما زادنا إيمانا وتسليما، ومن السكينة ما عصمنا الله تعالى به من الفتن، فمن مات منا فعلى شهادة:( والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم. ويدخلهم الجنة عرفها لهم) من سورة محمد عليه السلام، وهي سورة القتال- ومن حيي فهو على عهده الذي عاهد الله عليه، يدعو إلى الخير والبر والرشاد، فيهدي الله به في المشارق والمغارب، وتلك بشرى مولانا البر الرحيم:( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)..
٧ من سورة ق. الآية ٣٧..
٨ مما أورد الشوكاني..
وأورد صاحب الجامع لأحكام القرآن:﴿ فلا تأس على القوم الكافرين﴾ أي لا تحزن عليهم،.. وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بنهي عن الحزن؛ لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن. ا هـ..
٢ سورة الإسراء. الآية ٨٢..
مما قال قتادة : الصابئون : عبدة الملائكة ؛ والنصارى هم الذين نزل فيهم الإنجيل، ومن دخل في دينهم بعد ؛ ومعلوم أن هذه الفرق لا يثبت لها الإيمان بعد إرسال خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام إلا إذا صدقت برسالته واتبعت النور الذي أنزل معه ونهجت نهجه وسلكت سبيله فهؤلاء لا خوف عليهم فيما يستقبلون من أحوال الآخرة وأهوالها، ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم من أهل ومال وولد، فإن المولى تقدست أسماؤه يخلفهم في ذلك كله.
٢ ما بين العلامتين ( ) مما أورد النيسابوري...
﴿ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴾ اللام موطئة للقسم و ﴿ قد ﴾ للتحقيق، أخذ الله تعالى عهدا مؤكدا وعقدا موثقا على أبناء يعقوب عليه السلام وذريته أن يستجيبوا لربهم ويسلموا له ؛ وهذه هي الآية الثالثة ( ١ ) في هذه السورة( ٢ ) الكريمة التي ينبئنا فيها العليم الخبير أنه أخذ العهود والمواثيق عليهم، - والمراد بالميثاق المأخوذ : العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، واتباعه فيما يأتي ويذر، أو في التوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة ﴿ وأرسلنا إليهم رسلا ﴾ ذوي عدد كثير، وأولي شأن خطير، يعرفونهم ذلك، ويتعهدونهم بالعظة والتذكير.. - ( ٣ ).
﴿ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم ﴾ قال أبو حيان ﴿ كلما ﴾ منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى ما المصدرية الظرفية، وقد تسمى شرطية لاقتضائها جوابا كالشرط غير الجازم، وجوابها ﴿ فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ﴾ أي : كلما بعث الله إليهم رسولا استكبروا أن يطيعوه، وتواصوا أن يعاندوه، فإما كذبوه وصدوا عنه، وإما آذوه وقتلوه، كما قتلوا زكريا ويحي عليهما السلام، وكذبوا عيسى وكثيرا من الأنبياء.
٢ وفي سورة البقرة تكرر هذا الإنباء في الآيات: ٩٣، ٨٤، ٨٣، ٦٣..
٣ من روح المعاني..
٢ ما بين العلامتين ( ) من جامع البيان..
٢ من سورة الزخرف. من الآية ٥٩..
٣ مما أورد ابن كثير: وهذا أعلى مقاماتها، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة ( أم إسحق) ونبوة ( أم موسى) ونبوة (أم عيسى) استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله:( وأوحينا إلى موسى أن أرضعيه) وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال، قال الله تعالى:(وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى..)..
٤ لاحتياجه إلى غيره، وعدم قيامه بنفسه، ومشابهته للحوادث..
٥ ما بين العارضتين من جامع البيان..
٢ كالشوكاني- رحمه الله- في فتح القدير؛ ومن قبله القرطبي، في الجامع لأحكام القرآن؛ والنيسابوري، في تفسير غرائب القرآن؛ وقبلهم الطبري، في جامع البيان..
٣ إلى هذا ذهب الألوسي- رحمه الله- صاحب روح المعاني..
وهكذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية، وأجل الفرائض الشرعية، وتارك ذلك شريك للعصاة، متعرض لسخط مولاه ؛ إن الوفاء بهذه الأمانة الدينية سبيل القوامة على البشرية، وصدق مولانا تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه، وهو القائل في محكم التنزيل :( كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.. ) ( ٣ )، وقال جل ثناؤه :( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) ( ٤ ).
٢ أورد صاحب تفسير القرآن العظيم أكثر من ستة أحاديث، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجه، لكنها أقل من درجة الصحيح..
٣ من سورة آل عمران. من الآية ١١٠..
٤ من سورة آل عمران. الآية ١٠٤..
في آيات قبل هذه بين الكتاب العزيز بعض سبل الخبال والضلال التي اتبعها الغواة من الإسرائيليين، فلعنهم الله تعالى فيما أنزل من كتبه، وعلى ألسن المرسلين-صلوات ربنا على النبيين أجمعين- ثم بدأت الآية الكريمة ﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ﴾ كالتقرير لما قبلها من تعداد مساوئ اليهود والذين اتخذوا من دون الله سبحانه آلهة ؛ ودخول اللام عليها يزيدها تقريرا وتوكيدا، فهي المواطئة للقسم ؛ والخطاب لسيدنا رسول الله صلوات ربنا عليه وسلامه، ولكل من يصلح للخطاب ؛ فكأن المعنى : لتلاقُن أغلظ الناس في عداوتكم أيها المؤمنون من كان يهوديا( ١ ) أو مشركا، - ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود، ومباهتة للحق، وغمط للناس، وتنقص بحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء، حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، وسموه وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة-( ٢ )، ( وفي الآية من الفائدة أن التمرد والمعصية عادة لهم ففرغ يا محمد ولا تبال بمكرهم، ولا تحزن على كيدهم ) ( ٣ ).
﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ﴾ عن مجاهد : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة ؛ وقال السدي : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا من الحبشة سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بَكَوْا وآمنوا، فأنزل الله عليه فيهم :﴿ وأنهم لا يستكبرون ﴾.
٢ من تفسير القرآن العظيم..
٣ من تفسير غرائب القرآن..
٢ مما أورد النيسابوري: والخطاب في ﴿ترى﴾ لكل راء،.. ومعنى: ﴿ مما عرفوا من الحق﴾ أي: مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق، ف﴿ من ﴾ الأولى لابتداء الغاية، على أن فيض الدمع نشأ من معرفة الحق، والثانية للبيان، ويحتمل التبعيض، يعني أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم، فكيف لو عرفوا بكله وأحاطوا بالسنة ؟!..﴿فأثابهم الله بما قالوا﴾ ظاهره يدل على أنهم إنما استحقوا الثواب بمجرد القول، ولكن فيما سبق من وصفهم بمعرفة الحق ما يدل على خلوص عقيدتهم، فلا جرم لما انضاف إليه القول كمل الإيمان. أقول: وهكذا فالقلب الخاشع يلين إذا تليت عليه آيات الله، فتخشع الجوارح لذكر الله وما نزل من الحق، وتقشعر الجلود وتدمع العين؛ ولقد أثنى المولى تقدست أسماؤه على صفوة من هدى واجتبى بقوله الحكيم:(.. إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا)*، وفي موطن آخر يقول تبارك اسمه: (.. إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا)**، ورضي الله عن قوم، يتلون آيات الله آناء الليل، وتتجافى جنوبهم عن المضاجع يتهجدون بقراءته، وتشهدهم الملائكة يتلونه بالأسحار.
*من سورة مريم. من الآية ٥٧.
** من سورة الإسراء من الآية ١٠٧، والآيتان ١٠٩، ١٠٨..
ومعنى ﴿ تحرموا ﴾ لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله، ولا تظهروا باللسان تحريمه، أو : لا تجتنبوه اجتنابا يشبه اجتناب المحرمات، فهذه الوجوه محمولة على الاعتقاد والقول والعمل، ... والطيبات : المستلذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب ؛ ثم نهى عن الاعتداء مطلقا ليدخل تحته النهي عن الإسراف...
و﴿ كلوا ﴾ أمر إباحة وتحليل، ﴿ مما رزقكم الله ﴾ في إدخال ﴿ من ﴾ التبعيضية إرشاد إلى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض، وصرف الباقي إلى المحتاجين-( ١ ). ونقل القرطبي ما حاصله : في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه ؛ قال الطبري( ٢ ) : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ... ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛... أخرج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده قال : حدثنا أبو المغيرة قال : حدثنا معان بن رفاعة، قال : حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه ؛ قال : فمر رجل بغار فيه شيء من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا ؛ قال : لو إني أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل ؛ فأتاه فقال : يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا ؛ قال : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة " ؛ قال الطبري : فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس، وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ ؛ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته ؛ والأكل في هذه الآية عبارة عن التمتع بالأكل والشرب واللباس والركوب ونحو ذلك ؛ ﴿ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴾ خافوا ربكم الذي تستيقنون بحكمته أن تعتدوا في حدوده فتحرموا على أنفسكم ما أحل سبحانه لكم من الطيبات، أو تحلوا لأنفسكم ما لم يأذن به، فإن التصديق الجازم واليقين الراسخ يُلزمان أهل الإيمان سلوك سبيل الطاعة والقصد، دون تفريط أو غلو.
أخرج الإمام مسلم( ٣ ) في صحيحه عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ؛ فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ؛ وقال بعضهم : لا آكل اللحم ؛ وقال بعضهم : لا أنام على الفراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال :" ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " ؛ وأخرجه البخاري في صحيحه( ٤ ) عن أنس أيضا، ولفظه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته : فلما أخبروا كأنهم تقالوها- فقالو : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر ؛ فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ؛ وقال آخر : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر ؛ وقال آخر : أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا ؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
٢ أورد الطبري- رحمه الله تعالى- في سبب نزول هذه الآيات ست عشرة رواية، كلها لم تبلغ مبلغ الصحيح..
٣ كتاب النكاح؛ باب: استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه ووجد مؤنة..
٤ في كتاب النكاح..
نقل ابن جرير بسنده عن عمر : لكل مسكين مدان من حنطة، وفي رواية ثانية له : لكل مسكين نصف صاع من بر أو نصف صاع من تمر ؛ ونقل عن علي : نصف صاع من حنطة ؛ وعن الحسن : يغذيهم ويعشيهم ؛ أو يكسو كل واحد منهم ثوبا ؛ وعن أبي جعفر : كسوة الشتاء والصيف ثوب ثوب ؛ أو يفك- كفارة عن يمينه- أسر عبد، يعتق رقبته، ويحرره ؛ - ﴿ فكفارته ﴾ : أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور، ويسمى بالواجب المخير، وحاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها، ولا يجوز الإخلال بجميعها، ولكنه إذا أتى بأي واحدة منها فإنه يخرج عن العهدة، ومن هنا قال أكثر الفقهاء : الواجب واحد لا يعينه من الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة، فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر وهو الصوم-( ٣ ).
﴿ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ فمن لم يستطع التكفير عن يمينه التي حنث فيها، ولزمه أن يكفر عنها( ٤ ) ثم لم يتيسر له أن يأتي بخصلة من الخصال الثلاث المذكورات آنفا فليصم ثلاثة أيام تكفيرا عما وقع فيه، وهذا ما شرعه لكم مولاكم، سترا لخطاياكم، وتغطية لما كان منكم إذا حلفتم وما وفيتم ؛ ﴿ واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ﴾ ﴿ واحفظوا أيمانكم ﴾ قللوها ولا تكثروا منها، أولا تتركوها بغير تكفير إذا حنثتم فيها، أولا تنسوها تهاونا بها ؛ كذلك يوضح الله تعالى لكم أحكامه وأعلام شرعه، لتشكروا نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج.
روى الإمام مسلم- رحمه الله-في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " ؛ كما روى عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله "، واللجاج في اليمين : المضي على مقتضاه وإن لزم من ذلك حرج ومشقة، وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة، ولا يعتل باليمين، فإن المولى الحكيم أنزل في كتابه الكريم :( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس.. ) ( ٥ ).
٢ من سورة آل عمران. الآية ٧٧..
٣ من تفسير غرائب القرآن..
٤ لا تنعقد اليمين بغير الله وأسمائه وصفاته، ففي الصحيحين:" ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"؛ وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا لإله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق"؛ وفي هذا الذي شرعه على لسان رسوله فيمن حلف بصنم ووثن تعليم لمن يريد أن يتعلم أن ربنا غفور رحيم، وديننا سمح عظيم، لا يسارع بطرد الناس من رحابه لخطأ اقترفوه، وإنما يطالبهم أن يعودوا لإلى الحق، وينطقوا بكلمة التوحيد، فهل آن للذين يفكرون المسلمين أن يكفوا ؟!..
٥ من سورة البقرة. من الآية ٢٢٤..
﴿ الأنصاب ﴾ ما نُصِب فعُبد كالأصنام ؛ قال ابن سيده : كل شيء رفع واستقبل.
﴿ الأزلام ﴾ القداح، والسهام يستقسم بها. فهو نصب.
﴿ رجس ﴾ قذَر، نجس، قبيح، حرام.
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون( ٩٠ )
- هذا بيان من الله تعالى ذكره للذين حرموا على أنفسهم النساء والنوم واللحم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالقسيسين والرهبان، فأنزل الله فيهم على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابه ينهاهم عن ذلك فقال :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات، ثم قال :﴿ ولا تعتدوا ﴾.. في حدودي فتحلوا ما حرمت عليكم فإن ذلك لكم غير جائز، كما غير جائز لكم تحريم ما حللت، وإني لا أحب المعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرم عليهم مما إذا استحلوه وتقدموا عليه كانوا من المعتدين في حدوده، فقال لهم : يأيها الذين صدقوا الله ورسوله إن الخمر التي تشربونها والميسر الذي تتياسرونه والأنصاب التي تذبحون عندها والأزلام التي تستقسمون بها ﴿ رجس ﴾ يقول : إثم ونتن سخطه الله وكرهه لكم-( ١ ) ؛ والخمر ما خامر العقل وغطاه وستره فأسكره أو خدر إدراكه ووعيه أو فتره( ٢ ) ؛ ﴿ والميسر ﴾ أي : اللعب بالقداح، وطلب غرة من يلاعب ليخدعه فيقمره( ٣ ) ؛ قال مجاهد : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر( ٤ ) حتى لعب الصبيان بالجوز ؛ وقال عطاء في الميسر : إنه القمار بالقداح في كل شيء ؛ ﴿ والأنصاب ﴾ كل ما نصب فعبد كالأوثان والأصنام( ٥ ) ؛ ﴿ والأزلام ﴾ السهام التي يُستقسم بها ؛ وكانت لقريش في الجاهلية سهام مكتوب عليها : افعل ولا تفعل، قد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد الرجل سفرا أو نكاحا أتى السادن فقال : أخرج لي زلما، فيخرجه وينظر إليه، فإذا خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قدح النهي قعد عما أراده ؛ قال الشاعر مادحا :
لم يزجر الطير إن مرت به سُنُحا | ولا يُفيض على قِسْم بأزلام |
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواية- قربة- خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :".. هل علمت أن الله حرمها " ؟ ! قال : لا، قال : فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بم ساررته " ؟ قال : أمرته ببيعها ؛ فقال :" إن الذي حرم شربها حرم بيعها " قال : ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها- وفي الصحيحين- صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفرا من أصحابه عند أبي طلحة، حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال : أما شعرتم أن الخمر قد حرمت ؟ ! فقالوا : حتى ننظر، ونسأل، فقالوا : يا أنس ! اسكب ما بقي من إنائك، فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر وهي خمرهم يومئذ ؛ وروى الشيخان- البخاري ومسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة "، وروى مسلم عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة " وفي الصحيحين :" لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
٢ العرب تقول: خامر الشيء: قاربه وخالطه؛ ونقل عن أبي حنيفة: قد تكون الخمر من الحبوب؛ وقال في قوله تعالى:(.. إني أراني أعصر خمرا..) إن الخمر هنا العنب؛ قال: وأراه سماها باسم ما في الإمكان أن تؤول إليه، فكأنه قال: إني أراني أعصر عنبا. وخُمرة الخمر: ما خالك من سكرها، وقيل: خمرتها وخمارها ما أصابك من ألمها وصداعها وأذاها؛ قال الشاعر:
لـذ أصـابـت حُميـاها مـقـاتـله | فـلـم تكـد تنجـلي عن قلبـه الخـُمـَرُ |
٣ في حديث أبي هريرة: من قال تعال أقامرك فليتصدق بقدر ما أراد أن يجعله خطرا- أي مخاطرا به- في القمار. ويقال: تقمر الرجل: غلب من يقامره..
٤ عن علي رضي الله عنه: الشطرنج ميسر العجم؛ شبه اللعب به بالميسر. ا هـ. والأيسار: المقامرون؛ ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرون: ياسرون؛ وقال الجوهري: الميسر: قمار العرب بالأزلام..
٥ قال ابن سيده: كل شيء رُفِعَ واستُقبِل فهو نُصب؛ والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيُهل عليها، ويذبح لغير الله تعالى؛ والنصب: العلم المنصوب..
٦ ما بين العارضتين مما نقل الألوسي..
٧ من سورة البقرة. من الآية ٢١٩..
٨ من سورة النساء. من الآية ٤٣..
٩ ما بين العلامتين ( ) من الجامع لحكام القرآن..
﴿ منتهون ﴾ تاركون.
﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾ في الآية الكريمة التي سبقت جاءت القبائح الأربع بعد أداة الحصر ﴿ إنما ﴾ فكلها لا تكون أبدا إلا من أخبث الشر وأقبحه، وفي هذه حصر مراد الشيطان في اتخاذ مأثمي الخمر والميسر سبيلا لصد المخامرين والمقامرين عن عبادة الخالق سبحانه، وطريقا لزرع التعادي والتباغض بين المخلوقين ؛ والاستفهام في ختام الآية :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ زجر ووعيد شديد، - وإنما أفرد ذكر الخمر والميسر ثانيا لأن الخطاب مع المؤمنين : فقرنهما أولا بذكر الأنصاب والأزلام تنبيها على أنها جميعا من أعمال الجاهلية وأهل الشرك( ١ )، ثم أفردهما لأن الكلام مسوق لتحريمهما على المخاطبين حيث إنهم كانوا لا يتعاطون سوى هذين-( ٢ ).
٢ من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان..
﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ﴾ لما كان به ﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ قد يراد به : انتهوا، عطف عليه الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام ( أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه، ويدخل فيه أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليا، ﴿ واحذروا ﴾ أي مخالفتهما في ذلك، وهذا مؤكد للأمر الأول، وجوز أن يكون المراد : أطيعوا فيما أمرا، واحذروا عما نهيا، فلا تأكيد ) ( ١ ) ؛ ﴿ فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ﴾ فالمعرضون عن الطاعة والمقبلون على الآثام عليهم أن يتذكروا أنه لا حجة لهم يوم يلقون ربهم، فقد أعذر سبحانه إليهم، وبين لهم الرسول وبلغهم ما شرع المولى مما فيه صلاحهم.
﴿ اتقوا ﴾ افعلوا ما أمر ربكم، وابتعدوا عما حذركم منه لتتقوا غضبه وعذابه.
﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ﴾ رفع الله تعالى الحرج والإثم عن المؤمنين الصالحين في طعامهم وكل أحوالهم إذا استصبحوا الإيمان والتقوى والعمل الصالح ؛ صح أنه لما نزلت آيات تحريم الخمر التي تحدثنا عنها آنفا نادى مناد : ألا إن الخمر قد حرمت، يقول أنس : فجزت في سكك المدينة، فقالوا : قتل فلان وفلان وهي في بطونهم، فأنزل الله تعالى :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ ؛ أي لا يأثمون في ذلك إذا اتقوا المحرمات، لأنهم شربوها حين كانت محللة ؛ ﴿ ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ﴾ ثم استداموا التقوى وثبتوا على الإيمان واستجابوا لكل ما يأتيهم من شرع الله، وبمداومة العمل الصالح يبلغ من أحبه الله جل علاه مرتبة الإحسان، فإذا هو يعبد الله كأنه يراه.
﴿ تناله ﴾ تدركه وتصل إليه. ﴿ رماحكم ﴾ جمع رمح- سلاح معروف-.
﴿ ليعلم الله من يخافه بالغيب ﴾ ليظهر الله من يخاف عقابه الغائب عنكم.
﴿ اعتدى ﴾ تجاوز ما شرع. ﴿ أليم ﴾ مؤلم موجع.
يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم( ٩٤ )
سنة الله تعالى أن يبتلي عباده ؛ والأمانة التي حملناها أن نتبع منهاجه فنفوز ونفلح ؛ ومن يتبع غير سبيل المؤمنين يقع في السخط والخسران المبين، وما اختبرنا به المولى سبحانه الكف عن الصيد البري ما دمنا على إحرام ﴿ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ﴾، قال مقاتل بن حيان : ابتلاهم بالصيد وهم محرمون عام الحديبية، حتى إن الوحش والطير يغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح، وما رأوا مثل ذلك قط، فنهاهم الله عن ذلك ابتلاء ؛ قال الواحدي : الذي تناله أيديهم من الصيد الفراخ والبيض وصغار الوحش، والذي تناله الرماح : الكبار ؛ ﴿ ليعلم الله من يخافه بالغيب ﴾-كي يعلم أهل طاعة الله والإيمان به، والمنتهون إلى حدوده وأمره ونهيه من الذي يخاف الله فيتقي ما نهاه عنه أو يجتنبه خوف عقابه ﴿ بالغيب ﴾ بمعنى في الدنيا بحيث لا يراه، .. وإن ما لم يعاين فإن العرب تسميه غيبا.. فتأويل الكلام إذا : ليعلم أولياء الله( ١ ) من يخاف الله فيتقي محارمه التي حرمها عليه، من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يعاينه-( ٢ ) وهكذا، فإن من يَقْدُر الله تعالى حق قدره يعظم ربه سبحانه ويقدسه، ويتهيبه ويحذر غضبه :( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ) ( ٣ ) ؛ ﴿ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ﴾ فمن تجاوز منكم بعد إنذارنا هذا فعاود الصيد وهو محرم فقد خالف شرعي واستحق عقابي الموجع.
٢ من جامع البيان..
٣ من سورة الملك. الآية ١٢..
﴿ متعمدا ﴾ قاصدا عالما بالتحريم.
﴿ فجزاء مثل ما قتل من النعم ﴾ فعليه جزاء مماثل لما قتل بذبحه من الإبل أو البقر أو الغنم.
﴿ ذوا عدل منكم ﴾ رجلان صاحبا عدالة من المسلمين.
﴿ هديا بالغ الكعبة ﴾ يذبح قاتل الصيد ما حكم به العدلان عند الكعبة للفقراء.
﴿ أو عدل ذلك صياما ﴾ أو ما يعادل ذلك الذي حكم به، يقدر ويصوم عنه أياما.
﴿ عفا الله عما سلف ﴾ تجاوز سبحانه عما مضى.
﴿ ومن عاد ﴾ من رجع فخالف. ﴿ فينتقم ﴾ يحل به بلاء وعذابا ونقمة.
﴿ عزيز ﴾ لا نظير له، ولا غالب يغلبه.
﴿ ذو انتقام ﴾ صاحب انتقام شديد.
﴿ يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾ هذا نهي من الله للمؤمنين عن قتل الصيد وهم في حال إحرامهم، والألف واللام في ﴿ الصيد ﴾ للعهد، أو للجنس، ثم جاءت الآية التي بعد هذه تقصر الحظر على الصيد البري، أما الصيد البحري فهو مباح للمقيم والمسافر والحال والمحرم ؛ ﴿ وأنتم حرم ﴾ أي : والحال أنكم محرمون بالحج، وبالعمرة كذلك ؛ ﴿ ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ﴾ ومن يقتل منكم صيدا بريا حال إحرامه وهو يقصد قتله فهو مطالب شرعا بإحدى ثلاث : أن يشتري بقيمة ما صاد بهيمة من بهائم الأنعام- الإبل، البقر، الضأن، المعز- يهديها لتذبح في الحرم وتوزع على فقرائه، أو : يطعم بالقيمة محاويج، أو يصوم أياما بعدما يوازي أنصاف آصع من حنطة يعدل ثمنها قيمة ما أتلف من صيد ؛ ﴿ ليذوق وبال أمره ﴾ شرع الله تعالى ما شرع من جزاء من قتل صيدا حال إحرامه لأجل أن يتجرع الواقع في هذا الإثم عقوبة ومشقة أعقبهما سوء صنيعة ؛ إذ الوبال : سوء العاقبة، والمرعى الوبيل الذي يتأذى به بعد أكله ؛ ﴿ عفا الله عما سلف ﴾ تجاوز المولى البر الرحيم- تقدست أسماؤه- عما مضى قبل أن يجيئكم منه الهدى ؛ ﴿ ومن عاد فينتقم الله منه ﴾ قال ابن جريج : قلت لعطاء :﴿ ما عفا الله عما سلف ﴾ ؟ قال : عما كان في الجاهلية، قال : قلت : وما ﴿ ومن عاد فينتقم الله منه ﴾ ؟ قال : ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة، قلت : فهل في العود من حد تعلمه ؟ ! قال : لا، قال : قلت : فترى حقا على الإمام أن يعاقبه ؟ قال : لا، هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عز وجل، ولكن يفتدي ؛ ﴿ والله عزيز ذو انتقام ﴾- والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع، لأن الخلق خلقه والأمر أمره، له العزة والمنعة ؛ وقوله :﴿ ذو انتقام ﴾ يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه- ( ١ ).
﴿ تحشرون ﴾ تجمعون لديه، وتوقفون بين يديه.
﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم والسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ﴾ هذا بيان من ربنا، في شأن الصيد البحري وبيان لبعض أحكامه.
قال مجاهد : يصطاد المحرم والمحل من البحر ويأكل من صيده ؛ وعن أبي بكر : طعام البحر : كل ما فيه ؛ ( والمراد بالبحر هما : كل ماء يوجد فيه صيد بحري، وأن كان نهرا أو غديرا ؛... أحل لكم مصيد البحر وطعامه تمتيعا لكم : أي لمن كان مقيما منكم يأكله طريا، ﴿ وللسيارة ﴾ أي المسافرين منكم يتزودونه ويجعلونه قديدا، .... ؛ قوله :﴿ وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ﴾ أي حرم عليكم ما يصاد في البر ما دمتم محرمين، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان الصائد حلالا، وإليه ذهب الجمهور إن كان الحلال صاده للمحرم، لا إذا لم يصده لأجله، وهو القول الراجح، ... ؛ قوله :﴿ واتقوا الله الذي إليه تحشرون ﴾ أي : اتقوا الله فيما نهاكم عنه الذي إليه تحشرون لا إلى غيره ؟، وفيه تشديد ومبالغة في التحذير ؛...
﴿ الكعبة ﴾ البنية المربعة المكعبة الظاهرة البارزة.
﴿ قياما ﴾ يقوم عليها صلاح معاشهم ومعادهم.
﴿ والهدي ﴾ ما يهدى من الإبل والبقر والغنم ليذبح في الحرم، طعمة للمساكين.
﴿ والقلائد ﴾ ما يوضع في أعناق الهدي علامة على كونها سيقت لتذبح في الحرم.
﴿ والشهر الحرام ﴾ الأشهر التي حرم الله تعالى فيها القتال ؛ وهي أربعة في كل عام.
قوله :﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ﴾ جعل هنا : بمعنى خلق، وسميت الكعبة كعبة لأنها مربعة، والتكعيب التربيع... ؛ وقيل : سميت كعبة لنتوئها وبروزها، ... ﴿ والبيت الحرام ﴾ عطف بيان... وسمي بيتا لأن له سقوفا وجدارا، وهي حقيقة البيت وإن لم يكن به ساكن، وسمي حراما لتحريم الله سبحانه إياه ؛ وقوله :﴿ قياما للناس ﴾... ، معنى كونه قياما : أنه مدار لمعاشهم ودينهم : أي يقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم : يأمن فيه خائفهم، وينصر فيه ضعيفهم، ويربح فيه تجارهم، ويتعبد فيه متعبدهم ؛ قوله :﴿ الشهر الحرام ﴾ عطف على الكعبة، وهو ذو الحجة وخصه من بين الأشهر الحرم لكونه زمان تأدية الحج، وقيل : هو اسم جنس، والمراد به الأشهر الحرم : ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب ؛ فإنهم كانوا لا يطلبون فيها دما، ولا يقاتلون بها عدوا، ولا يهتكون فيها حرمة، فكانت من هذه الحيثية قياما للناس ؛ ﴿ والهدي والقلائد ﴾ أي : وجعل الله الهدي والقلائد قياما للناس ؛ والمراد بالقلائد : ذوات القلائد من الهدي، ولا مانع من أن يراد بالقلائد أنفسها، والإشارة ب ﴿ ذلك ﴾ إلى الجعل، أي : ذلك الجعل ﴿ لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ﴾.. يعلم تفاصيل أمر السموات والأرض، ويعلم مصالحكم الدينية والدنيوية فإنها من جملة ما فيهما فكل ما شرعه لكم فهو جلب لمصالحكم، ودفع لما يضركم، ﴿ وإن الله بكل شيء عليم ﴾ هذا تعميم بعد التخصيص ) ( ١ ).
﴿ ما على الرسول إلا البلاغ ﴾ النبي المبعوث فيكم ليس بمسئول عما يجرم المجرمون إنما عليه البشارة والإنذار، وقد بشر- عليه الصلاة والسلام- وأنذر، وأعذر وحذر، وقام بما حمل من أمانات الدعوة، ﴿ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ﴾ فالذين لم يرعوا الأمانة- أسروا بذلك أو جهروا به- هم الخاسرون، وسواء عنده- عز وجل- من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار.
سنة الله تعالى أن يخالف بين الحسن والقبيح، والصالح والفاسد، فليسا سواء، لا في الأولى ولا في العقبى، وقد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغنا هذا الحق عن ربنا الحق :﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ﴾، والخبيث : المكروه ( ١ )، فإن كان في الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار ؛ والطيب : خلاف الخبيث، وقد تتسع معانيه ( ٢ ) ؛ ﴿ ولو أعجبك كثرة الخبيث ﴾ ليس يستوي ما هو طيب ومن هو طيب مع ما خبث ومن خبث أعجبك كثرة الخبيث أو لم يعجبك، والمخاطب هنا : كل من يصلح للخطاب ؛ وربنا بحكمته فرق بين الحق والباطل وأهل كل منهما، وبين البر والفاجر، وبين المهتدين والغاوين، وبين المصلحين والمفسدين، يقول سبحانه وهو أصدق القائلين :( أم حسب الذين اجترحوا السيآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) ( ٣ )، ويقول تقدست أسماؤه :( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) ( ٤ )، ويقول تباركت آلاؤه :( أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون ) ( ٥ ) ؛ - لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله ولو كثر أهل المعاصي فعجبت من كثرتهم، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون، الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلوا دون أهل معصيته، وأن أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا ؛ يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : فلا تعجبن من كثرة من يعصى الله فيمهله ولا يعاجله بالعقوبة، فإن العقبى الصالحة لأهل الله عنده دونهم، ... وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد به بعض أتباعه، يدل على ذلك قوله :﴿ فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ﴾- ( ٦ ) فاحذروا الله يا أصحاب العقول أن تغركم سطوة الباطل، أو ما مُتع به الفجار من زخرف وعرض حائل، بل على من أراد الفوز بما يرغب، والنجاة مما يرهب أن يؤثر ما بقي على ما يفنى ( ٧ ) ؛ ( وهو عام في حرام الأموال وحلالها، وفاسد الأعمال وصالحها، وسقيم المذاهب وصحيحها، ورديء النفوس وجيدها ؛ وأخبث الخبائث الروحانية : الجهل والمعصية ؛ وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته ؛ والبون بين الصنفين في العالم الروحاني أبقى وأدوم، وأجل وأعظم، فلا تستبدل الخبيث يا إنسان بالطيب، ولو أعجبك كثرة الخبيث، لأن كثرته في التحقيق قلة، ولذته في نفس الأمر ذلة، وفقده زيف، وصرف العمر في طلبه حيف ) ( ٨ ). ﴿ يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ﴾ في الصحيحين عن أنس قال : قال رجل : يا نبي الله من أبي ؟ قال : " أبوك فلان " قال : فنزلت :
٢ يقال: أرض طيبة: أي تصلح للنبات؛ وبلدة طيبة: آمنة كثيرة الخير؛ وتربة طيبة: طاهرة؛ وامرأة طيبة: إذا كانت حصانا عفيفة؛ ونفس طيبة: راضية بما قدر الله تعالى لها؛ وكلمة طيبة: ليس فيها مكروه؛ ونكهة طيبة: ليس فيها نتن وإن لم يكن فيها ريح طيبة كالند والعود؛ وزبون طيب: سهل في مبايعته؛ وريح طيبة: لينة ليست بالعاصفة الشديدة؛ وطاب الشيء: لذ وزكا..
٣ سورة الجاثية. الآية ٢١..
٤ سورة ص. الآية ٢٨..
٥ سورة القلم. الآيتان ٢٦، ٢٥..
٦ من جامع البيان للطبري..
٧ في المأثور: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى؛ وروى البنوي عن أبي أمامة-يرفعه-:" قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"..
٨ ما بين العلامتين ( ) من تفسير غرائب القرآن.. للنيسابوري..
" إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا قيل قال وكثرة السؤال وإضاعة المال " - قال جماعة من العلماء : المراد بقوله :" وكثرة السؤال " التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا، وتكلفا فيما لم ينزل، والأغلوطات وتشقيق المولدات، ... قال مالك : أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير من حضر من العلماء، فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل، لكن الآية مصرحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه، ولا مساءة في جواب نوازل الوقت فافترقا ؛ لكن بعض السلف قد كان يكرهها إذا لم تكن قد وقعت، فكان عمر رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن، ونقل عن زيد بن ثابت أنه كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد كان حدث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا : لم يكن قال : فذروه حتى يكون، وعن عمار بن ياسر وقد سئل عن مسألة فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا ؛ قال : دعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناها لكم ؛ وعن ابن عباس قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن ؛ منهم :( ويسألونك عن الشهر الحرام.. ) ( ٢ )، ( ويسألونك عن المحيض.. ) ( ٣ )، وشبهه، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم ؛ قال ابن عبد البر : السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي ( ٤ ) السؤال ؛ ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره ( ٥ ).
﴿ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ﴾ قال الجرجاني : الكناية في ﴿ عنها ﴾ ترجع إلى أشياء أخر ؛ كقوله تعالى :( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) ( ٦ يعني آدم، ثم قال :( ثم جعلناه نطفة.. ) ( ٧ ) أي : ابن آدم، لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال ؛ فالمعنى : وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم ؛ فقد أباح هذا النوع من السؤال، ومثله : أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل، ولم يجر ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل، فسألوا عنها فنزل :( واللائي يئسن من المحيض.. ) ( ٨ ) فالنهي إذا في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه ؛ فأما ما مست الحاجة إليه فلا. ا ه.
﴿ عفا الله عنها والله غفور حليم ﴾ تجاوز سبحانه عنها فلم يحرمها ولم يبين حلها فهي معفو عنها، أو تجاوز عز شأنه عما سلف من أمور قد خلت، كالذي كانوا يسألون عنه من أمور الجاهلية وما جرى مجراه ؛ ﴿ والله غفور حليم ﴾- والله ساتر ذنوب من تاب منها فتارك أن يفضحه في الآخرة ﴿ حليم ﴾ أن يعاقبه بها لتغمده التائب منها برحمته وعفوه عن عقوبته عليها ؛..
وروى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية:(.. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا..) قالوا يا رسول الله، أفي كل عام ؟ فسكت فقالوا: أفي كل عام ؟ قال:" لو قلت نعم لوجبت" فأنزل الله تعالى:﴿ يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم..﴾ إلى آخر الآية وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يأيها الناس كتب عليكم الحج" فقام رجل فقال: في كل عام يا رسول الله ؟ فقال:" ومن القائل"؟ قالوا: فلان. قال:" والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم تطيقوها لكفرتم"* فأنزل الله تعالى:﴿يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم..﴾.
ذلك أن القرآن الحكيم قد بين أن المولى تقدست أسماؤه قد شرع أن يحج المستطيع، فإن تولى فقد كفر النعمة وجحدها، ﴿.. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين﴾.
* إذ قد بين القرآن الحكيم أن المولى تقدست أسماؤه قد شرِعَ أن يحج المستطيع، فأن تولى فقد جحد النعمة(.. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين. وقال الحسن البصري في هذه الآية: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا عنه؛ وقيل: المراد بكثرة المسائل: السؤال عما لا يعني من الأحوال الناس، بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم؛ قال ابن خويز منداد: قال بعض أصحابنا: متى يقدم إليه الطعام لم يسأل عنه: من أين هذا ؟ وعرض عليه شيء يشتريه، لم يسأل! من أين هو حمل أمور المسلمين على السلامة والصحة لكن صاحب الجامع لأحكام القرآن يقول ما حاصله، والأولى الحمل على العموم فيتناول جميع تلك الوجوه، ا هـ وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها..
٢ من سورة البقرة. من الآية ٢١٧..
٣ من سورة البقرة. من الآية ٢٢٢..
٤ الجهل..
٥ قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد؛ فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها ونشدت من مظانها، والله يفتح في صوابها..
٦ من سورة (المؤمنون). الآية ١٢..
٧ من سورة (المؤمنون). من الآية ١٣..
٨ من سورة الطلاق. من الآية ٤..
٢ نقل القرطبي عن أبي نصر القشيري قال: لو لم يسأل العجلاني عن الزنى لما ثبت اللعان؛ قال أبو الفرج الجوزي: هذا محمول على من سأل عن الشيء عنتا وعبثا فعوقب بسوء قصده بتحريم ما سأل عنه، والتحريم يعم. ا هـ..
على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون( ١٠٣ )
( ﴿ جعل ﴾ هما بمعنى : سمى، كما قال تعالى :( إنا جعلناه قرآنا عربيا.. ) ( ١ ). أي : سميناه، والمعنى في هذه الآية : ما سمى الله، ولا سن ذلك حكما، ولا تعبد به شرعا، بيد أنه قضى به علما، وأوجده بقدرته وإرادته خلقا ؛ فإن الله خالق كل شيء من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية ) ( ٢ ) ؛ عن سعيد بن المسيب : البحيرة هي التي يمنع درها إلا للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس ؛ وأما السائبة فهي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم ؛ وكان البحر- شق الأذن- علامة التخلية ؛ وقال الشافعي : إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت ؛ قال :
محرمة لا يطعم الناس لحمها | ولا نحن في شيء كذاك البحائر |
٢ من الجامع لأحكام القرآن..
٣ في إحدى الروايتين عنه..
٤ أمعاءه..
يقول ابن عباس في تفسير هذه الآية : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال، ونهيته عنه من الحرام، فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به ؛ قال بعض العلماء : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها : التحذير مما يجب أن يحذر منه، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه ؛ ﴿ عليكم أنفسكم ﴾ ألزموا أنفسكم بحفظها عما يسخط الله تعالى ؛ -( وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد ؛ وقد قال الله سبحانه :﴿ إذا اهتديتم ﴾ وقد دلت الآيات القرآنية، والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا وضيقا متحتما ) ( ١ ) ؛ صح ( ٢ ) أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قام فحمد الله وأثنى عليه وقال : يأيها الناس ! إنكم تقرءون هذه الآية ﴿ يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الناس رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب " ( ٣ ) ؛ ﴿ إلى الله مرجعكم جميعا ﴾ إلى المولى الواحد القهار لا إلى غيره يوم القيامة تردون، وبين يديه توقفون، ﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ فيخبركم بالذي علمتموه في دنياكم، ثم يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
٢ عند الترمذي وغيره عن قيس بن أبي حازم..
٣ أخرج أحمد وغيره عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى، فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه، فقال: ما حبسك ؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"..
روى البخاري ( ١ )عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما ؛ فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما ( ٢ ) من فضة مخوصا ( ٣ ) بالذهب، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما كتمتما ولا اطلعتما " ثم وجد الجام بمكة، فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ؛ قال : فأخذوا الجام ؛ وفيهم نزلت هذه الآية ؛ ﴿ يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ﴾ شرع الله تعالى للمؤمنين أن يوصوا عند ظهور أمارات الموت، ويشهد على الوصية شاهدان من الأقارب، أو أجنبيان إن وقع الموت في السفر ؛ ﴿ شهادة بينكم ﴾ أي شهادة ما بينكم ﴿ اثنان ذوا عدل منكم ﴾ أي أن يشهد اثنان عدلان قريبان ؛ فعن الحسن والزهري- وعليه جمهور الفقهاء- أن ﴿ منكم ﴾ أي من أقاربكم، و ﴿ من غيركم ﴾ أي من الأجانب ؛ وعن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وسعيد بن جبير، وغيرهم أن ﴿ منكم ﴾ أي من أهل ملتكم، و ﴿ من غيركم ﴾ أي من كافر كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو عابد وثن ؛ - ورد :( شهد ) في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة : منها قوله تعالى :(.. واستشهدوا شهيدين من رجالكم.. ) ( ٤ )، قيل : معناه : أحضروا ؛ ومنها :( شهد ) بمعنى قضى أي أعلم ؛ قاله أبو عبيدة ؛ كقوله تعالى :( شهد الله أنه لا إله إلا هو.. ) ( ٥ ) ؛ ومنها ( شهد ) بمعنى أقر، كقوله تعلى :(.. والملائكة يشهدون.. ) ( ٦ ) ؛ ومنها ( شهد ) بمعنى الحكم ؛ قال الله تعالى :(.. وشهد شاهد من أهلها.. ) ( ٧ ) ؛ ومنها ( شهد ) بمعنى حلف ؛ كما في اللعان ؛ و( شهد ) بمعنى وصى ؛ كقوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم.. ﴾ وقيل : معناها هنا الحضور للوصية- ( ٨ ) ﴿ إذا حضر أحدكم الموت ﴾ أي : إذا قارب المجيء، كما في قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم.. ﴾ أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة وقربت إقامتها، وكقوله سبحانه :( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان.. ) ( ٩ ) ؛ أي إذا قاربتم القراءة ؛ ﴿ حين وصية ﴾ بدل من ﴿ إذا حضر ﴾ فوقتهما واحد وهما متلازمان ؛ قال أبو علي :﴿ شهادة ﴾ رفع بالابتداء، والخبر في قوله ﴿ اثنان ﴾ التقدير : شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ؛ كما قال تعالى :(.. وأزواجه أمهاتهم.. ) ( ١٠ ) أي : مثل أمهاتهم ؛ ﴿ ذوا عدل منكم ﴾ أي صاحبا عدالة منكم معاشر المسلمين، ﴿ أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ﴾ فإن ضربتم في الأرض أي سافرتم فحضر أحدكم الموت ولم يجد مسلمين يشهدان على وصيته قبل موته فشرع الله تعالى له أن يشهد على وصيته اثنين ممن حضره من الكفار، ﴿ تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله ﴾ فإن أشهد الموصي كافرين- إذ كان حين حضرته الوفاة وعزم على الوصية مسافرا ولم يجد مؤمنَيْن- وشك الموصَى لهما، فنستحلفهما فيحلفان، قائلين : ما كذبنا، وما خنا ولا بدلنا وقد شهدنا بالحق وما بدلنا : ولا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه، أو ندفعه إلى أحد، نحصله لغيرنا أو لأنفسنا، ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا، ولا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض ؛ أو يقولان في شهادتهما ما في هذا المعنى ؛ و ﴿ من بعد الصلاة ﴾ قد يكون المراد بها من بعد صلاة العصر، إذ صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذ لاعنَ بين العجلانين لاعن بينهما بعد صلاة العصر- ومعلوم أن المطلق يحمل على المقيد- ؛ ويستشهد لهذا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث :" من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان " ؛ ﴿ إنا إذا لمن الآثمين ﴾ يقولان ما في معنى : نحن إذا كتمنا شهادة الحق وقعنا في إثم وذنب وكذا إن حرفناها وغيرناها ؛ وأضاف الشهادة إلى مولانا سبحانه في قوله :﴿ ولا نكتم شهادة الله ﴾ تشريفا للكلمة الحق وإعظاما لشأنها.
٢ جاما: إناء..
٣ مخوصا: عليه صفائح الذهب مثل خوص النخيل..
٤ سورة البقرة. من الآية ٢٨٢..
٥ سورة آل عمران. من الآية ١٨..
٦ سورة النساء. من الآية ١٦٦..
٧ سورة يوسف. من الآية ٢٦..
٨ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي..
٩ سورة النحل. من الآية ٩٨..
١٠ سورة الأحزاب. من الآية ٦..
يوم يحشر الله تعالى الخلائق إنسا وجنا بأرواحهم وأجسادهم، ويجاء بكل أناس بإمامهم، ويطلب إلى الرسل أن يشهدوا على أممهم، يفوضون العلم إلى مولاهم وربهم، الذي لا يغيب عن علمه ما ظهر أو بطن من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ؛ وإنه لوعد ربنا الذي لا يخلف :( فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون ) ( ١ ) ؛ ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) ( ٢ ) ؛ قال السدي : نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا :﴿ لا علم لنا ﴾ ثم نزلوا منزلا آخر فشهدوا على قومهم. ا ه، تحقيقا للوعد المفعول :( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) ( ٣ ) ! ؟ ﴿ يوم ﴾ ظرف زمان- والعامل فيه مقدر- أي : واتقوا يوم يجمع الله الرسل ؛ وجائز أن يكون التقدير يوم يجمع الله الرسل يكون من الأهوال ما يكون ؛ قال النحاس : والصحيح في هذا المعنى : ماذا أجبتم في السر والعلانية، ليكون هذا توبيخا للكفار ؛... فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها ؛ وقال ابن جريج : معنى قوله :﴿ ماذا أجبتم ﴾ ؟ ماذا عملوا بعدكم ؟ ؛ قال أبو عبيد : ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يرد علي أقوام الحوض فيُختلَجون ( ٤ ) فأقول أمتي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " قال الماوردي : فإن قيل : فلم سألهم عما هو أعلم به منهم ؟ فعنه جوابان : أحدهما- أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم، وكذبهم عليهم من بعدهم ؛ الثاني- أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رءوس الأشهاد ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم. ا ه.
٢ من سورة الأعراف. الآية ٦..
٣ من سورة النساء. الآية ٤١..
٤ أي: يجتذبون ويقتطعون..
﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم ﴾- بدل من ﴿ يوم يجمع الله الرسل ﴾ وقد نصب بإضمار اذكر، ... وصيغة الماضي لما مر آنفا من الدلالة على تحقيق الوقوع، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز وجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفصيل أحوال الباقين، وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفَرطين الذي نعَتْ هذه السورة الكريمة جناياتهم، فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم- ( ١ ) ؛ ﴿ اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ﴾ يذكره العزيز الغفار بإنعامه عليه توبيخا للكفرة الغالين والمتجافين عن الرشد، وتحسيرا للذين قالوا في عيسى غير الحق ؛ والإنعام على الوالدة كأنما هو إنعام على الوالد، ولأن مكارم الأخلاق عنوان على طيب الأصول والأعراق ؛ و ﴿ أيدتك ﴾ ( ٢ ) أمددتك بالعون والنصر والقوة ؛ و﴿ روح القدس ﴾ هو جبريل عليه السلام- وكون هذا التأييد نعمة عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها- وحاشاها- وغير ذلك- ( ٣ )﴿ تكلم الناس في المهد ﴾ خرقت لك العادات، فأنطقتك صبيا صغيرا في فراش الطفولة، وذلك مما فصله الكتاب المجيد في آيات محكمات أخر :( فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا. يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا. فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا. ذلك عيسى ابن مريم.. ) ( ٤ ) ؛ ﴿ وكهلا ﴾ تكلمهم في طفولتك كما تتكلم حال اكتمال قوتك وعقلك ؛ في الصحاح : الكهل من الرجال الذي جاوز الثلاثين، وقال ابن الأثير : من زاد على الثلاثين سنة إلى الأربعين، وقيل : الكهل : الحليم العاقل ؛ وجاء في تفسير القرآن العظيم : وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيرا فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، وأخبرت عن رسالتي إياك، ودعوت إلى عبادتي، ... تدعوا إلى الله الناس في صغرك وكبرك، وضمن ﴿ تكلم ﴾ ( ٥ ) تدعو، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب. ا ه.
﴿ وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾ يمتن المولى الوهاب على عبده ونبيه عيسى عليه السلام وعلى أمه مريم، ويذكره بوقت إنعامه عليه ومنحه إياه العلوم النظرية والحكم العملية، وإيتائه الكتب السماوية : التوراة وقد أنزلت من قبله على نبي الله وكليمه موسى، فيها الضياء والبرهان، كما أنزل على المسيح-صلوات الله عليه- الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين، وقد كان المسيح عليه سلام الله يحتج بالتوراة على اليهود حين يجادلونه، ويبين لهم ما أخفوه منها، ويحل لهم بعض ما حُرم عليهم فيها، كما علمتنا الآية الكريمة :( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ) ( ٦ ).
﴿ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني ﴾ واذكر إذ تصور من الطين وتعمل شيئا على مثل صورة الطير فتنفخ في هذه الصورة فتصير طائرا بتيسيري وتسهيلي وإقداري لك على هذا الفعل ؛ ﴿ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني ﴾ تشفي الأعمى المطموس البصر، والذي أصابه سقم الجلد وعلة البرص، وذلك الشفاء قد سهلته لك ومكنتك منه ؛ ﴿ وإذ تخرج الموتى بإذني ﴾ واذكر وقت أن أقدرتك على أن ترد الروح إلى بعض الموتى الذين أردتُ أن أحييهم إظهارا لأمر معجز أجريه على يديك ؛ ﴿ وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ﴾ واذكر إذ دفعت وصرفت عنك كيد الكافرين الإسرائيليين، الذين كرهوا ما أنزل الله عليك من الحق والهدى والآيات التنزيلية والتكوينية، فهموا بقتلك لكني عصمتك، ورفعتك إلي ونجيتك ؛ ومع نهيهم عما جئت به وإعراضهم عنه، ووصفهم له بالسحر الظاهر، فإني جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
٢ لعل اشتقاقه من الأيد، وهو القوة..
٣ من روح المعاني، للألوسي..
٤ من سورة مريم. الآيات: ٢٧ إلى ٣٣، ومن الآية ٣٤..
٥ الفعل هنا ليس يدل على الحال والاستقبال، إنما حكاية حال مضت وانقضت..
٦ سورة آل عمران. الآية ٥٠..
الحمد لله الذي استقلت | بإذنه السماء واطمأنت |
أي : أمرها أن تقر فامتثلت ؛ وقد يراد بالوحي : الإلهام، كما في قوله تعالى :( وأوحينا إلى موسى.. ) ( ١ )، ( وأوحى ربك إلى النحل.. ) ( ٢ )، ﴿ أن آمنوا بي وبرسولي ﴾ إيحائي إليهم مفسر بأن يصدقوا ويستيقنوا بي، ويصدقوا ويستجيبوا لرسولي إليهم عيسى ابن مريم ؛ ﴿ قالوا آمنا ﴾ قال الحواريون : استجبنا لأمر ربنا، واستيقنا بأنه الحق ونبيه حق وكلامه حق ؛ ﴿ واشهد بأننا مسلمون ﴾ سألوا الله تعالى أن يكتبهم مسلمين، ويقبلهم مؤمنين، ويثبتهم على الرشد مخلصين، أو طلبوا إلى عيسى عليه السلام أن يشهد لهم بالإسلام والانقياد.
٢ سورة النحل. من الآية ٦٨..
﴿ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم ﴾- منصوب باذْكر على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه، منقطع عما قبله، كما يشير إليه الإظهار ( ١ ) في مقام الإضمار- ( ٢ ) ؛ ﴿ هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ﴾ المائدة : الخوان الذي عليه الطعام، وتطلق على نفس الطعام كذلك ؛ واختار بعضهم أن المائدة كل ما يٌمد ويٌبسط. المراد بها : السفرة ؛ وهل قالوا هذا القول ليزدادوا بالآية ونزول المائدة إيمانا، ويعلموا علم مشاهدة وعيان بعد علم الإيمان والاستيقان ؟ أم قالوه لأن قلوبهم لم تكن مطمئنة بالإيمان ؟ ذهب ابن عطية إلى أنهم كانوا مؤمنين، وأيد ذلك بقوله تعالى :﴿ فمن يكفر بعد منكم ﴾، وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا أهل الباطل، وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسننهم في قوله عز مِن قائل :(.. كونوا أنصار الله.. ) ( ٣ )، وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح الزبير، فقال :" إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير " ؛ لكن ابن جرير خالفه في ذلك وقال : خبر الله تعالى عن القوم ينبئ بخلاف ذلك، وذلك أنهم قالوا لعيسى إذ قال لهم :﴿ اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ﴾.
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني..
٣ سورة الصف. من الآية ١٤..
واذكر إذ يقول الله لعبده ونبيه عيسى يوم الجمع : أأنت دعوت الناس إلى اتخاذك وأمك مريم إلهين من دوني ؟ ! وإنما جاء الفعل ﴿ قال ﴾ بصيغة المضي ليدل على الثبوت وتحقق الوقوع، كما في قول مولانا تباركت آلاؤه وتقدست أسماؤه :( أتى أمر الله فلا تستعجلوه.. ) ( ١ )، ﴿ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ فيجيب عيسى عليه السلام مولانا الملك العلام منزها له جل شأنه عما يقول المفترون، ما ينبغي ولا يحق لي أن أقول زورا، وأزعم لنفسي ما ليس من حقها، فإنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود ؛ وبهذا قضى النقل والعقل، جاء في محكم التنزيل :( ما كان لبشر أن يؤتيه الله... ولكن كونوا ربانيين.. ) ( ٢ )، (.. وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة.. ) ( ٣ )، ( إن الله ربي وربكم فاعبدوه.. ) ( ٤ )، ( وإن الله ربي وربكم فاعبدوه.. ) ( ٥ ) ؛ ﴿ إن كنت قلته فقد علمته ﴾ يرد عيسى الأمر إلى علم الخبير الرقيب الحسيب، وهو جل علاه يعلم أنه لم يقله، لكن لعل من حكمته في ذلك أن يكذب المبطلين ؛ ﴿ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾- إنك يا رب لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطق به ولم أظهره بجوارحي، .. لأنك تعلم ضمائر النفوس... فكيف بما قد نطقت به ؟ !.. ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، ﴿ إنك أنت علام الغيوب ﴾.. ؟ إنك أنت العالم بخفيات الأمور- ( ٦ ).
٢ من سورة آل عمران. من الآية ٧٩..
٣ من سورة المائدة. من الآية ٧٢..
٤ من سورة آل عمران. من الآية ٥١..
٥ من سورة مريم. من الآية ٣٦..
٦ ما بين العارضتين من جامع البيان..
روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال : " يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) ( ٤ ) ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام- ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح ( ٥ )﴿ .. وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ قال فيقال لي إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ".
أخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم :( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) ( ٦ ).
٢ من سورة الزمر. من الآية ٤٢..
٣ من سورة الأنعام. من الآية ٦٠..
٤ ممن سورة الأنبياء. من الآية ١٠٤..
٥ يعني عيسى عليه السلام..
٦ من سورة إبراهيم. الآية ٣٦..
﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ فرفع يديه وقال :" اللهم أمتي " وبكى، فقال الله عز وجل :" يا جبريل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك " فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال- وهو أعلم.. فقال الله :" يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك " ؛ ولعل من حكمة مولانا الخبير في ختم الآية بالقول الكريم ﴿ العزيز الحكيم ﴾ أنه مقترن بالشرطين كليهما، أولهما وآخرهما- ﴿ إن تعذبهم ﴾ و ﴿ إن تغفر لهم ﴾.
هذا الذي قصصناه يقع في يوم ينفع الصادقين فيه صدقهم- وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه- ( ١ ) ؛ يحلهم البر الرحيم بساتين في دار المقامة والنعيم، تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار، وقد رضي عنهم العزيز الغفار، رضا لا يغضب بعده أبدا، وهم في أتم الرضا عن نعيم أفاضه عليهم الحميد المجيد، ﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾ إدراك تلك السعادات، والنجاة من الأهوال والعذاب والكربات والحسرات ربح لا ربح فوقه ؛ ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) ( ٢ )، (.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) ( ٣ )، فاللهم اجعلنا ممن يرثون الفردوس هم فيها خالدون.
٢ سورة الصافات. الآية ٦١..
٣ سورة المطففين. من الآية ٢٦..