تفسير سورة المائدة

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

العزم ان تصفى أولا سرك وسريرتك عن التوجه الى غير الحق وتجعل مطلبك ومقصدك الاستغراق والفناء في بحر الوحدة ولا يتيسر لك هذا الا بعد كسر سفينة هويتك الباطلة وتخريب اركان بدنك العاطلة ولا يتأتى لك هذا الكسر والتخريب الا بالرياضات الشاقة والمجاهدات الشديدة من الجوع والعطش والسهر المفرط والانقطاع عن اللذات الحسية والمشتهيات النفسية وكذا بالتلذذ بالموت الإرادي والفناء الاختياري وبالصبر على البلاء الاضطراري والرضا على عموم ما قد جرى عليه القضاء الإلهي ومتى تحقق هذه الأمور فيك قد وهن هويتك وضعف سفينتك وحينئذ يمكنك كسرها ان وفقت بها. اللهم زين بلطفك ظواهرنا بشريعتك وبواطننا بحقيقتك وأسرارنا بمشاهدتك وأرواحنا بمعاينتك انك على ما تشاء قدير وبإنجاح رجاء المؤملين حقيق جدير
[سورة المائدة]
فاتحة سورة المائدة
لا يخفى على المقيمين بحدود الله الموفين بعهوده المحافظين بعقوده المنعقدة بين أوصافه الذاتية بمناسبة بعضها مع بعض ومقابلة بعضها ببعض ان منشأ جميع الأوامر والنواهي الموردة في الشرع انما هي الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة الإلهية فإذا الاختلافات الواقعة بين الآثار المترتبة على تلك الأوصاف الذاتية انما تنشأ منها وتتفرع عليها والسر في ورود الأوامر والنواهي انما هو حصول الاعتدال والقسط الإلهي المعد لاستحقاق الخلافة والنيابة المقصودة من الظهور والإظهار والخلق والإيجاد لذلك كلف سبحانه خواص عباده المجبولين على هذه الفطرة بالتكليفات الشاقة والرياضات القالعة لعرق الكثرة والثنوية قطعا من قطع المألوفات وترك المشتهيات والمستلذات العائقة عن الاعتدال الفطري الإلهي وهداهم الى صراط مستقيم موصل الى توحيده بإسقاط الإضافات الطارئة من كثرة الأسماء والصفات المنتشئة من تطورات الذات وتجليات الحبية المتشعشعة ازلا وابدا بلا علل وأغراض ومالنا منها الا الحيرة والاستغراق والعجز والوله والهيمان ان وفقنا بها من عنده ولهذه المصلحة العلية قد امر سبحانه في هذه السورة عباده وأوصاهم أولا بإيفاء العهود ومحافظة العقود ليستعدوا بما لأجله جبلوا وخلقوا فقال مناديا متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المستوي على عرشه بالعدل القويم الرَّحْمنِ لعباده بهدايتهم الى الصراط المستقيم الرَّحِيمِ لهم بايصالهم الى روضة الرضا وجنة التسليم
[الآيات]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الوفاء بالعهود والعقود الموضوعة فيكم من لدنا لإصلاح حالكم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وواظبوا على اقامة الحدود ومحافظة المواثيق التي وضعها الحق بينكم المتعلقة لتدابير امور معاشكم ومعادكم من حملتها انها قد أُحِلَّتْ لَكُمْ في دينكم هذا بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وهي الأزواج الثمانية التي ستذكر في سورة الانعام وما يشبهها تقويما لأمزجتكم وتقوية لها لتتمكنوا على إتيان ما كلفتم به إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في كتاب الله تحريمه حال كونكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ مطلقا وَأَنْتُمْ في تلك الحالة حُرُمٌ محرمين للحج مأمورين بحبس القوى الشهوية والغضبية عن مقتضياتهما بل أنتم بارادتكم واختياركم معطلين لهما حتى تتمكنوا وتقدروا على الموت الإرادي الذي هو عبارة عن الحج الحقيقي عند العارف المحقق إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده يَحْكُمُ بمقتضى حكمته ومصلحته ما يُرِيدُ لهم من التحليل والتحريم بحسب الأوقات والحالات لا يسأل عن فعله بل لا بد لهم الانقياد تعبدا سيما في اعمال الحج
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله اطاعة وتعبدا مقتضى ايمانكم ان لا تُحِلُّوا ولا تبيحوا لأنفسكم شَعائِرَ اللَّهِ اى المحرمات التي قد حرمها سبحانه في اوقات
الحج تعظيما لأمره وبيته وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ اى لا تحلوا ايضا قواكم الحيوانية عن الحبس والزجر في الازمنة التي حرم سبحانه إطلاقها فيها لتعظيم بيته وَلَا تبيحوا ايضا لأنفسكم فيها الْهَدْيَ اى التعرض لما اهدى نحو البيت قبل بلوغه الى محله وَايضا لا تتعرضوا الْقَلائِدَ وهي ما يعلم ويقلد من الحيوانات المباحة بقلادة دالة على انه من هدايا بيت الله على ما هو عادة العرب وَعليكم ايضا ان لا تتعرضوا ولا تتقاتلوا مع المؤمنين الموقنين الذين توجهوا نحو الكعبة الحقيقية مريدين ان يخرجوا من بقعة الإمكان سالكين سبيل المجاهدة مجتهدين فيها طالبين الوصول الى كعبة الوحدة وفضاء الوجوب تقربا وتشوقا مع كونهم آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يعنى قاصدين التقرب والتحقق نحو كعبة الذات والوقوف بعرفات الأسماء والصفات إذ لا بد من وقوفها لمن قصد زيارة بيت الله الأعظم بل الركن الأصلي لزيارة بيت الله هو هذا الوقوف عند المنجذبين نحو الحق من طريق المجاهدة المستتبعة للكشف والمشاهدة لأهل العناية واما المنجذبون نحوه بالاستغناء والفناء والاستغراق التام الذي لا يحوم حوله شائبة الكثرة أصلا فهم متمكنون في مقعد صدق عند مليك مقتدر حال كونهم يَبْتَغُونَ ويطلبون هؤلاء الزوار المريدون التحقق بهذه المرتبة العلية والمنزلة السنية فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ بلا وسائل الأعمال والنسك ووسائط الأوامر والنواهي وان كانوا ممتثلين بهما متصفين بمقتضياتهما وَيطلبون ايضا من فضل الله رِضْواناً من جانب الحق وقبولا من قبله فيما يأتونه من الشعائر المكتوبة لهم في الحج الحقيقي والوقوف المعنوي إذ لا وثوق للعبد في سلوكه هذا سوى الرضا منك يا أكرم الأكرمين ويا ارحم الراحمين وَاعلموا انكم ايها المكلفون إِذا حَلَلْتُمْ وأطلقتم قوى حيوانيتكم عن عقال التكاليف المفروضة المقدرة لكم في الحج بخروج أيامها وأوقاتها مع متمماتها فَاصْطادُوا اى ابيحوا على انفسكم اصطياد ما أحل الله لكم واباحه عليكم من صيد البر والبحر وَبعد ما علمتم فوائد الحج ومناسكه وعرفتم عرفاته وميقاته لا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يوقعنكم في الجريمة شَنَآنُ قَوْمٍ بغضهم وحسدهم إياكم وخوفكم منهم الى أَنْ صَدُّوكُمْ وصرفوكم عَنِ التوجه نحو الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرمت عنده سجود السوى ٢ والأغيار مطلقا فعليكم ايها القاصدون زيارة الكعبة المعظمة والقبلة المكرمة التي هي عبارة عن بيت الوحدة أَنْ تَعْتَدُوا اى تتمرنوا وتعتادوا على المقاتلة والمقابلة مع الكفار المانعين عن الزيارة من القوى الشهوية والغضبية والمستلذات الوهمية والخيالية وَتَعاوَنُوا وتناصروا عَلَى جنود الْبِرِّ المورث للرجاء وحسن الظن بربكم وَكذا على جنود التَّقْوى المشعر للخوف من قهر الله وغضبه وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ اى الخصلة الذميمة عقلا وشرعا وَالْعُدْوانِ اى التجاوز عن الحدود الشرعية العياذ بالله وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ان تجرؤا عليه بنقض عهوده ومجاوزة حدوده إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على كل ما يشاء ويريد شَدِيدُ الْعِقابِ اليم العذاب على كل من ظلم نفسه بالإثم على الله والعدوان عن مقتضى حدوده. ثم لما كان الأصل في الأشياء الحل والاباحة والحرمة انما عرضت من التكاليف الشرعية بين سبحانه أولا حكم المحللات مطلقا وما يتفرع عليها
ثم عين المحرمات التي استثناها بقوله الا ما يتلى فقال حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ في دينكم الْمَيْتَةُ المائت حتف انفه بلا سبب مزيل لحياته وَالدَّمُ المسفوح السائل بالتذكية او بغيرها وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ النجس الظاهر خباثته عقلا وشرعا وَمن جملة
المحرمات ايضا ما أُهِلَّ وصوت عند ذبحه لِغَيْرِ اسم اللَّهِ من اسماء الأصنام بِهِ وَكذا الْمُنْخَنِقَةُ الزائلة حياتها بالخنق وحبس النفس بلا تذكية كما يفعله المشركون وَكذا الْمَوْقُوذَةُ المضروبة بالخشب والأحجار الى ان يزول منها الروح وَالْمُتَرَدِّيَةُ اى التي سقطت من علو او في بئر فزالت حياته وَالنَّطِيحَةُ وهي التي نطحها ووطئها الحيوان الآخر فماتت وَكذا قد حرمت عليكم ما أَكَلَ السَّبُعُ منه فزال حياته إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ اى قطعتم حلقومه مهللين حين أحسستم الرمق منه فانه يحل لكم حينئذ وَكذا قد حرمت عليكم ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ اى على الأصنام المنصوبة الموضوعة حول البيت كانوا يعظمونها ويتقربون نحوها بالذبائح والقرابين وَايضا من جملة المحرمات أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ اى الأقداح. وذلك انهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي وعلى الآخر غفل فان خرج الأمر مضوا عليه وان خرج النهى انصرفوا عنه وان خرج الغفل اجالوها ثانيا. ومعنى الاستقسام بها الاستخبار والاستفسار عن القسمة الغيبية التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها. وأمثال هذا ما هي الا كهانة وكفر صدرت عن ذوى الأحلام السخيفة الخبيثة الناشئة من عدم الرضا بالقضاء ذلِكُمْ اى استقسامكم واستخباركم من ازلامكم وأقداحكم فِسْقٌ خروج عما عليه الأمر والشرع وديدنة الجاهلية فعليكم ان تجتنبوا عن أمثالها سيما الْيَوْمَ يَئِسَ وقنط بالمرة القوم الَّذِينَ كَفَرُوا عن انصرافكم مِنْ دِينِكُمْ لظهوره وغلبته على عموم الأديان فَلا تَخْشَوْهُمْ عن غلبتهم بترك رسومهم وعاداتهم المستقبحة بل وَاخْشَوْنِ عن بطشى وانتقامي بترك ما أمرت لكم ونهيت عنكم في جميع أحوالكم وازمانكم سيما الْيَوْمَ الذي قد أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأعنت عليكم وغلبتكم على مخالفيكم مطلقا وأظهرت دينكم على الأديان كلها وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ظاهرة وباطنة بالاستيلاء والغلبة على الأعداء وقمع عموم الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة بالكلية وَمن إتمام نعمتي عليكم وتوفيرها لكم انى رَضِيتُ اى اخترت وانتخبت لَكُمُ الْإِسْلامَ اى الإطاعة والانقياد على سبيل التعبد والتسليم دِيناً اى ديدنة ومذهبا إذ لا دين أعز عند الله من دين الإسلام وبعد إكمال دينكم وإتمام النعم عليكم وتحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم فَمَنِ اضْطُرَّ منكم فِي مَخْمَصَةٍ مجاعة مفرطة ملجئة الى تناول الجيف والمحرمات حال كونه غَيْرَ مُتَجانِفٍ مائل لِإِثْمٍ وقاصد لمعصية رخص له التناول منها شرعا مقدار سد جوعة فَإِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم غَفُورٌ لما صدر عنكم حين اضطراركم ومخمصتكم رَحِيمٌ لا يؤاخذكم عليه بعد ما رخص لكم
يَسْئَلُونَكَ من آمن بك يا أكمل الرسل ماذا اى اى شيء من الأشياء المأكولة المتعارفة أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ لهم قد أُحِلَّ لَكُمُ في دينكم هذا الطَّيِّباتُ التي مضى ذكرها في أول السورة من البهائهم المذكاة وما شابهها من الوحشيات وَكذا أحل لكم صيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ الكواسب لكم الصيد من ذوات القوائم والمخالب حال كونكم مُكَلِّبِينَ معلمين مؤدبين أنتم اياهن الصيد بحيث تُعَلِّمُونَهُنَّ أنتم مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من مقتضيات العقل المفاض لكم بأنواع الحيل اياهن وبعد ما علمتموهن فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ من صيدهن حلالا طيبا وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ اى وعليكم ان تذكروا اسم الله حين إرسال الجوارح المكلبة نحو الصيد وَاتَّقُوا اللَّهَ ان لا تهلوا على الصيد والذبائح ولا تحلوها
بذكر اسم الله تعالى عليها سيما بعد ورود الأمر به إِنَّ اللَّهَ المطلع بجميع حالاتكم سَرِيعُ الْحِسابِ شديد العقاب لمن لم يمتثل بأوامره ولم يجتنب عن نواهيه
الْيَوْمَ اى حين انتشر وظهر دينكم على عموم الأديان كلها قد أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ المذكورة المحللة فيها وَايضا طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى اليهود والنصارى وذبائحهم حِلٌّ لَكُمْ في دينكم وَكذا طَعامُكُمْ واطعامكم حِلٌّ لَهُمْ لأنهم من ذوى الملل واولى الأديان وَكذا قد أحل لكم الْمُحْصَناتُ الحرائر العفائف مِنَ الْمُؤْمِناتِ اى نكاحكم اياهن وَكذا الْمُحْصَناتُ ايضا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن بلا تنقيص وتكسير حال كونكم مُحْصِنِينَ محافظين على حقوق الزواج والنكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ مجاهرين بالزنا وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مستترين به وَمَنْ يَكْفُرْ منكم وينكر بِالْإِيمانِ وبلوازمه وحدوده الدالة على صحته فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ثم لما بين سبحانه ما يتعلق بمعاش عباده من الحل والحرمة والزواج والنكاح وحسن المعاشرة ورعاية الآداب والحقوق المشروعة فيها أراد ان يرشدهم الى طريق الرجوع نحو المعاد الذي هو المبدأ بعينه ليميلوا اليه ويتوجهوا نحوه على نية التقرب الى ان وصلوا بل اتصلوا
فقال مناديا لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بوحدة ذات الحق وتنزهه عن وصمة الكثرة مطلقا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اى إذا قصدتم ان تخرجوا عن بقعة الإمكان مهاجرين وأردتم ان تميلوا نحو فضاء الوجوب متحننين متشوقين فَاغْسِلُوا أولا اى فعليكم ان تغسلوا بماء المحبة والشوق والجذب الإلهي المحبى المنبت نبات المعارف والحقائق من أراضي استعداداتكم ومزارع تعيناتكم وُجُوهَكُمْ التي تلى الحق عن رين الإمكان وشين الكثرة مطلقا وَطهروا أَيْدِيَكُمْ ثانيا اى قصروها عن ادناس الأخذ والإعطاء من حطام الدنيا ونظفوها عن اقذارها إِلَى الْمَرافِقِ اى مبالغين في تطهيرها الى أقصى الغاية وَبعد ما غسلتم الوجوه وطهرتم الأيدي امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اى امحوا وحكوا انانيتكم وهويتكم التي منها طلبكم واربكم وبسببها ومقتضاها تعبكم في الدنيا وَامحوا ايضا أَرْجُلَكُمْ واقطعوا اقدامكم التي بها سلوككم واقدامكم نحو مزخرفاتها إِلَى الْكَعْبَيْنِ مبالغين فيها الى ان ينقطع توجهكم وطلبكم عن غير الحق ويتمحض سيركم وسلوككم بالفناء في الله وَإِنْ كُنْتُمْ ايها المائلون نحو الحق جُنُباً منغمسين في خبائث الإمكان وقاذوراتها غاية الانغماس فَاطَّهَّرُوا اى فعليكم المبالغة في التطهير بالرياضات الشاقة والمجاهدات الشديدة القالعة لعروق التعلقات واصول المألوفات والمشتهيات وبالركون الى الموت الإرادي والخروج عن الأوصاف البشرية مطلقا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى اى من الأبرار الذين مرضوا بسموم الإمكان ويحموم نيرانه وصاروا محبوسين مسجونين فيه بلا قدم واقدام أَوْ عَلى سَفَرٍ من السالكين السائرين نحو الحق بلا بدرقة الجذبة أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ اى عاد ورجع عن التدلس والتلوث بغلاظ ادناس الدنيا من جاهها ومالها ورئاستها أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ التي هي كناية عن الدنيا الدنية ومزخرفاتها البهية وشهواتها الشهية واستكرهتموهن لأنهن من أقوى حبائل الشيطان وشباكها يصرف بها اهل الارادة عن جادة السلامة فَلَمْ تَجِدُوا في عموم هذه الصور المذكورة من لدن نفوسكم وقلوبكم ماءً اى محبة وشوقا الى الحق مطهرا
لخباثة نفوسكم قالعا لها مطلقا او جذبة صادقة مزيلة لدرن التعلقات عن أصلها او خطفة مفرطة بارقة من جانب الحق مزعجة ملجئة الى الفناء فيه فَتَيَمَّمُوا اى فعليكم ان تقصدوا وتتوجهوا صَعِيداً طَيِّباً اى مرشدا كاملا وهاديا مكملا طاهر عن جميع الرذائل والآثام العائقة عن الوصول الى جنة الوحدة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ اى بهوياتكم الباطلة وَأَيْدِيَكُمْ اى اوصافكم الذميمة العاطلة مِنْهُ اى من تراب اقدامه وثرى سدته السنية وعتبته العلية لعله بيمن أنفاسه المتبركة يرشدكم الى النجاة عن مضيق التعينات ويهديكم نحو فضاء الذات. واعلموا ايها المكلفون القاصدون للتحقق نحو فضاء الوحدة الذاتية والقبلة الحقيقية ما يُرِيدُ اللَّهُ المدبر لعموم مصالحكم المتعلقة لمبدئكم ومعادكم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ ويبقى فيكم مِنْ حَرَجٍ يمنعكم عن الوصول الى ما جبلتم لأجله وَلكِنْ يُرِيدُ بمقتضى فضله ولطفه لِيُطَهِّرَكُمْ ويصفيكم أولا من اقذار التعينات وادناسها وَلِيُتِمَّ ويوفر نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ثانيا مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اى رجاء ان تشكروا له حين تفوزون ما تفوزون
وَبعد ما سمعتم من الحق ما سمعتم ووعدتم من عنده ما وعدتم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ التي أنعمها عَلَيْكُمْ وقوموا بمواظبة شكرها وَتذكروا مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ في أزل استعدادكم بالسنة قابلياتكم حين سمعتم قوله سبحانه الست بربكم سَمِعْنا قولك يا ربنا أنت أظهرتنا بفضلك وجودك من كتم العدم وربيتنا في كنف حفظك وجوارك بأنواع اللطف والكرم وَأَطَعْنا ما امرتنا به طوعا وَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور من نقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ المطلع بالسرائر والخفايا عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بمكنونات صدوركم يجازيكم على مقتضى علمه وخبرته
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ مستقيمين في عموم ما أمركم به في طريق توحيده شُهَداءَ حضراء مستحضرين بِالْقِسْطِ والعدل بحقوق آلائه ونعمائه الفائضة عليكم من عنده تفضلا وامتنانا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ اى لا يحملنكم ولا يبعثنكم شَنَآنُ قَوْمٍ اى شدة عداوة قوم وبعضهم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ولا تقسطوا فيما أنعم الله تعالى عليكم بان تتجاوزوا عن حدود الله حين القدرة والاقتدار على الانتقام تشفيا لصدوركم بل عليكم ان تقسطوا في كل الأحوال سيما عند المكنة والقدرة والاقتدار وبالجملة اعْدِلُوا ايها المنعمون بالقدرة والظفر هُوَ اى عدلكم أَقْرَبُ لِلتَّقْوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته وَاتَّقُوا اللَّهَ المراقب لكم في عموم أحوالكم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من مقتضيات نفوسكم وتسويلاتها
وَعَدَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيده وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة نحوه المأمورة من عنده ان قد حصل لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم تفضلا منه وامتنانا وَمع ذلك لهم عند ربهم أَجْرٌ عَظِيمٌ الا وهو الفوز بشرف اللقاء ان أخلصوا واعتدلوا في عموم ما جاءوا.
وبعد ما قد وعد سبحانه للمؤمنين ما وعد اردفه بوعيد الكفار جريا على مقتضى سنته المستمرة في دعوة عباده فقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيدنا واثبتوا الوجود لغيرنا مكابرة وعنادا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا اى دلائلنا الدالة على وحدة ذاتنا المنزلة على رسلنا أُولئِكَ البعداء المنهمكون الكفر والضلال أَصْحابُ الْجَحِيمِ اى مصاحبوها وملازموها لا نجاة لهم منها أصلا لكمال توغلهم وانهماكهم في اسبابها
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ كيف ينجيكم من يد العدو وقت إِذْ هَمَّ وقصد قَوْمٌ من عدوكم أَنْ يَبْسُطُوا ويمدوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ حين كنتم مشغولين في الصلاة ويفاجئوا عليكم بغتة ويستأصلوكم مرة فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ بالوحي على نبيكم امتنانا وتفضلا عليكم وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ الحفيظ الرقيب عليكم من ان تخالفوا امره وَعَلَى اللَّهِ في كل الأمور فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الموقنون بوحدانيته بحفظه وحمايته. ثم لما أراد سبحانه تقرير المؤمنين على الايمان وتثبيت قدمهم على جادة التوحيد والعرفان استشهد عليهم تزلزل بنى إسرائيل وعدم رسوخ قدمهم في الايمان والإطاعة مع أخذ المواثيق الوثيقة والايمان الغلاظ منهم على لسان نبيهم صلوات الرّحمن على نبينا وعليه
فقال وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ العليم الحكيم بلسان موسى الكليم مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ اى العهد الوثيق منهم بعد ما خلصوا من فرعون وورثوا منه ما ورثوا واستقروا على ملك مصر وَذلك انا قد بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً من نجبائهم ونخبائهم من كل فرقة نقيب مسلم بينهم رئاسة ووجاهة وجاها وثروة وبالجملة كل من النقباء يولى امر فرقته عند نبينا موسى عليه السّلام فعهدوا بأجمعهم ان يسيروا مع موسى الى اريحاء في الشام حين أوحينا اليه بالسير والسفر نحوه فساروا الى ان وصلوا اليه وكان فيه الجبابرة الكنعانيون فلما أراد موسى عليه السّلام ان يفتش عن أحوالهم ويفحص عن اخبارهم أرسل النقباء جواسيس وعيونا يتجسسون العدو ولا يظهرون ما اطلعوا عليه من حال العدو على فرقهم فذهبوا وتجسسوا فلما رأوا العدو ذوى قوة واولى بئس شديد هابوا منهم وترهبوا فرجعوا الى قومهم فأخبروا لهم ما ظهر عليهم من شوكة العدو وبالجملة نقضوا العهود والمواثيق الا قليلا منهم فانصرفوا ورجعوا جميعا وَمع ذلك قالَ اللَّهُ الرقيب الحفيظ عليهم حين أمرهم إِنِّي مَعَكُمْ أنصركم على عدوكم وأخرجهم منها صاغرين فو عزتي وجلالي لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ على الوجه الذي وصل إليكم من نبيكم وامر في كتابكم وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ على الوجه المشروع وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي بلا تفريق بينهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ عظمتموهم ونصرتموهم في إعلاء كلمة الحق واشاعة احكام الدين القويم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ الحكيم العليم مما في أيديكم من مزخرفة الدنيا قَرْضاً حَسَناً اى إنفاقا للفقراء والمساكين بلا شوب المن والأذى لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ ولأمحون عن ديوان أعمالكم سَيِّئاتِكُمْ بأسرها البتة وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جزاء إخلاصكم وانفاقكم جَنَّاتٍ منتزهات ثلثة العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة بمياه الحقائق والمعارف فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ اى بعد ما سمع التذكير والعظة من الله فَقَدْ ضَلَّ وفقد سَواءَ السَّبِيلِ لا دواء لدائه ولا رجاء لإنجائه. اللهم اهدنا بجودك الى سواء السبيل
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وبعدم وفائهم للعهود الوثيقة المؤكدة قد لَعَنَّاهُمْ وطردناهم عن ساحة فضاء التوحيد وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً مظلمة مكدرة بظلمة الإمكان الى حيث يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ المثبتة في كتاب الله لإعلاء كلمة توحيده عَنْ مَواضِعِهِ التي وضعها الحق فيها وَنَسُوا حَظًّا ونصيبا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اى بالتورية ووعظوا عنه واستفادوا منه مع انهم مجبولون على فطرة العظة والتذكير وَصاروا من غاية القساوة والنسيان بحيث لا تَزالُ تَطَّلِعُ دائما مستمرا عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ متبالغ في الخيانة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا بك وأنصفوا حيث أظهروا جميع ما في التورية ولم يحرفوها فَاعْفُ عَنْهُمْ يا أكمل الرسل بعد ما أنصفوا ورجعوا عن التحريف وان حرفوها زمانا وَاصْفَحْ وانصرف عن انتقامهم الى الإحسان
معهم إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على الانعام والانتقام يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المتجاوزين عن الانتقام سيما بعد الاقتدار عليه
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى مدعين نصرة الدين وإعلاء كلمة الحق المبين قد أَخَذْنا ايضا كما أخذنا من اليهود مِيثاقَهُمْ فنقضوا ايضا كما نقضوا فَنَسُوا كما نسوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اى بالإنجيل المنزل على عيسى عليه السّلام فَأَغْرَيْنا اى قد ألقينا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ المستمرة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بحيث لا يصفو نفاقهم وشقاقهم أصلا بان جعلناهم فرقا متخالفين متخاصمين وهم اليعقوبية والمسطورية والملكائية وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ المنتقم العليم كلا الفريقين اى اليهود والنصارى بِما كانُوا يَصْنَعُونَ في الدنيا من البغض والنفاق وبما يكسبون به في الآخرة من العذاب والعقاب
يا أَهْلَ الْكِتابِ اى اليهود والنصارى المجبولين على الكفر والعناد قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا اضافه الى نفسه تعظيما وتوقيرا يُبَيِّنُ ويظهر لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ من أوامره ونواهيه واخباره المتعلقة بالزمان الماضي والآتي سيما نعت خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله عليه وسلامه وانما يبين لكم المذكورات لئلا يفوت منكم شيء من امور الدين ولا تؤاخذوا به وَمع ذلك يَعْفُوا ويصفح عَنْ تبيين كَثِيرٍ من مخفياتكم من الكتب مما لا يترتب عليه العذاب والنكال فعليكم ان تؤمنوا به وبما جاء به لهدايتكم الى طريق التوحيد إذ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ معه نُورٌ واضح الا وَهو كِتابٌ مُبِينٌ ظاهر لائح هدايته وإرشاده
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ الهادي لعباده مَنِ اتَّبَعَ منهم رِضْوانَهُ اى ما يرضى به سبحانه سُبُلَ السَّلامِ اى طرق التوحيد الموصولة الى سلامة الوحدة المسماة عنده سبحانه بدار السّلام وَيُخْرِجُهُمْ اى المتبعين رضوانه مِنَ الظُّلُماتِ المتراكمة ظلمة العدم وظلمة الإمكان وظلمة التعينات إِلَى النُّورِ اى الوجود البحت الخالص عن شوب الظلمة إذ هو نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء من اهل العناية بِإِذْنِهِ وتوفيقه وجذب من جانبه وَبالجملة يَهْدِيهِمْ به ان سبق لهم العناية منه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده
ثم قال سبحانه والله لَقَدْ كَفَرَ واعرض عن الحق ولم يعرف حق قدره وقدر حقيته الغلاة الَّذِينَ بالغوا في وصف عيسى عليه السّلام وغلوا في شأنه مبالغين الى ان قالُوا عن سبيل الحصر والتخصيص إِنَّ اللَّهَ المتجلى في الآفاق بكمال الإطلاق والاستحقاق هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما فَمَنْ يَمْلِكُ اى يدفع ويمنع مِنَ اللَّهِ القادر المقتدر العالم بالسرائر والخفايا شَيْئاً من مراداته ومقدوراته إِنْ أَرادَ وشاء أَنْ يُهْلِكَ اى يبقى على الهلاك الأصلي والفناء الجبلي بلا مد من ظله ورش من نوره الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ايضا بل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَبالجملة لا يبالى الله الغنى المستغنى بذاته عن مطلق المظاهر والأكوان لا به ولا بها ولا بهم جميعا إذ لِلَّهِ المنزه عن مطلق الكوائن والفواسد الكائنة الثابتة مطلقا مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يتصرف فيها حسب ارادته واختياره كيف يشاء إيجادا واعداما احياء وافناء بحيث يَخْلُقُ ويظهر ما يَشاءُ بلطفه ويعدم ويخفى ما يشاء بقهره وَبالجملة اللَّهَ المتصف بعموم أوصاف الكمال عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيرٌ لا تفتر قدرته عند مقدور ولا ينتهى ارادته ومشيئته دون مراد
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى من غاية مبالغتهم وغلوهم في حق عزير وعيسى عليهما السّلام نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ
إذ نعبد ابنيه عزيرا وعيسى عليهما السّلام وَأَحِبَّاؤُهُ إذ نحن نحبهما وهما محبوباه سبحانه قُلْ لهم يا أكمل الرسل فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ الله المنتقم الغيور بِذُنُوبِكُمْ ان كنتم صادقين في هذه الدعوى وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والسبي والاجلاء وضرب الذلة والمسكنة وفي الآخرة بأضعاف ما في الدنيا وآلافها فعليكم ان لا تغلوا في دينكم ونبيكم ولا تفتروا على الله الكذب بَلْ أَنْتُمْ ونبيكم ايضا بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ اى من جنس ما خلق الله بقدرته وأظهره حسب ارادته فله التصرف فيكم وفيهم بحيث يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ تفضلا وامتنانا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا وانتقاما وَاعلموا انه لِلَّهِ المتصرف المطلق مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يتصرف فيها كيف يشاء ارادة واختيارا وَإِلَيْهِ لا الى غيره الْمَصِيرُ والمرجع إذ الكل منه بدأ واليه يعود
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تفتروا في امور دينكم ولا تضعفوا فيها إذ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا الموعود في كتابكم يُبَيِّنُ لَكُمْ امور دينكم مع كونه عَلى فَتْرَةٍ انقطاع وحى مِنَ الرُّسُلِ وانما أرسلناه كراهة أَنْ تَقُولُوا وتعتذروا حين وهن دينكم وضعف يقينكم ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ حتى يصلح امور ديننا فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ اى يبشر وينذر لئلا تعتذروا على ما تقتصروا فيه فكذبتموه ولم تقبلوا منه عموم ما جاء به من اسرار الدين والايمان وَاللَّهُ المقتدر المجازى عَلى كُلِّ شَيْءٍ من انواع الجزاء قَدِيرٌ يجازيكم على مقتضى قدرته وخبرته
وَاذكروا إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وهم اسلافكم وآباءكم حين أراد أن يذكرهم نعم الله التي أنعمها عليهم ليقوموا بشكرها يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تفضلا وامتنانا إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ منكم أَنْبِياءَ كانوا يرشدونكم ويهدونكم الى طريق التوحيد وَجَعَلَكُمْ ايضا مُلُوكاً متصرفين في اقطار الأرض وَآتاكُمْ من الخوارق والارهاصات من فلق البحر وظل الغمام وسقى الحجر ونزول المن والسلوى وغير ذلك ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ حين ظهوركم واستيلائكم
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ المطهرة عن شوائب الفتن الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ اى قدرها في حضرة علمه القديم لمقركم ومسكنكم إذ هي منازل الأنبياء ومقر الأولياء والأصفياء فعليكم ان تقبلوا إليها تاركين ديار العمالقة والفراعنة التي هي محل انواع الجور والعناد ومجمع اصناف البغي والفساد وَعليكم ان لا تَرْتَدُّوا بعد ما سمعتم الوحى عَلى أَدْبارِكُمْ خوفا من الجبابرة قيل لما سمعوا أوصاف جبابرة الكنعان من نقبائهم خافوا واستوحشوا وفزعوا وقالوا ليتنا نرد على أعقابنا تعالوا ننصب رأسا ينصرف بنا الى مصر إذ موتنا فيها خير من الحيوة في موضع آخر وان ترتدوا وترجعوا فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ خسرانا عظيما لذلك صاروا بعد انقلابهم في الدنيا تائهين حائرين وفي الآخرة خاسرين خائبين وبعد ما سمعوا من موسى ما سمعوا
قالُوا على صورة الاعتذار واظهار العجز وعدم الاقتدار وما هي الا من عدم تثبتهم على الايمان وعدم رسوخهم في مقتضياته وعدم وثوقهم بنصر الله واعانته سيما بعد ما أمرهم بالنقل والترحال ووعدهم ما وعدهم من النصر والظفر يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ لا يتأتى منا مقاومتهم ومقاتلتهم وَبالجملة إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها بقتال او غيره فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها على اى وجه فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة ولا قدرة لنا معهم
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ من قهر الله وغضبه سيما بعد ورود امره إذ هما من اهل الوثوق بنصر الله وانجاز وعده إذ قد أَنْعَمَ اللَّهُ المنعم المفضل عَلَيْهِمَا بالإيمان والإذعان وبإعطاء الحكمة والمعرفة
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ اى ضيقوا على عدوكم باب بلدهم وقربوهم الى حيث يضطرون ويخافون من جسامتهم وضيق أمكنتهم فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ على هذا الوجه فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ غانمون البتة وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بما وعدتم
قالُوا مستهزئين مصرحين بما تكن صدورهم من الكفر وعدم الوثوق والإخلاص ومناقضة العهود والمواثيق الإلهية يا مُوسى لا تحملنا ما لا طاقة لنا به إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها وان شئت فَاذْهَبْ أَنْتَ ايها الداعي وَرَبُّكَ الذي دعوتنا اليه وادعيت الإعانة والانتصار منه فَقاتِلا مع العدو إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ منتظرون الى ان يظهر الأمر
قالَ موسى بعد ما سمع منهم ما سمع يؤسا قنوطا باثا الشكوى مع ربه رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ ولا أثق لامتثال أمرك إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى أمرك التاركين الامتثال به من عدم وثوقهم بإعانتك وتأييدك.
ثم لما سمع سبحانه من موسى ما سمع من بث الشكوى وكان حالهم وصلاحهم معلومة عنده سبحانه قالَ مهددا إياهم فَإِنَّها اى الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ مدة أَرْبَعِينَ سَنَةً خص هذا العدد لأنهم لما أعادوا نفوسهم بعدم امتثال امر الله والاستهزاء به وبرسوله الى ما هم عليه قبل ايمانهم والايمان ما يكمل غالبا الا بعد الأربعين لذلك خص هذه المدة لمجازاتهم ومجاهداتهم ليكمل الايمان فيها وبعد ما ارتدوا من الشأم وتوجهوا نحو المصر يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ المقدرة بستة فراسخ تائهين حائرين مذبذبين لا الى مصر ولا الى الشأم في تلك المدة وموسى سار معهم فيها ليرشدهم الى ان يخرجهم من الحيرة والضلال الصوري والمعنوي ثم لما رأى موسى اضطرار قومه وحزنهم وقلقهم واضطرابهم رحمهم وندم عما دعا عليهم فدعا لهم بمقتضى شفقة النبوة ومرحمتها لذلك رد الله سبحانه عليه بقوله فَلا تَأْسَ اى لا تحزن ايها النبي الشاكي عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى التصديق والايمان التاركين سبيل اليقين والعرفان
وَاتْلُ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ اى على من تبعك من المؤمنين نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ اى قصة قابيل وهابيل واختلافهما وقربانهما وقتل قابيل هابيل ليعتبروا ويتنبهوا من قصتهما على ما هو الأقوم من السبل والأليق بحال المؤمن من حسن المعاشرة مع الخلان وآداب المصاحبة مع الاخوان ورعاية الغبطة والتصبر على البلية والمحنة وان ادى الى بذل المهجة والإخلاص مع الله في عموم الأحوال تلاوة ملتبسة بِالْحَقِّ مطابقة للواقع موافقة لما في الكتب السالفة وذلك انهما تنازعا في تزوج كل منهما توأمة الآخر على ما هو شرع أبيهم فقال قابيل توأمتى احسن صورة من توأمتك انا أحق بتزوجها منك فترافعا الى أبيهما فامرهما بالقربان المقرب الى الله اذكروا وقت إِذْ قَرَّبا باذن أبيهما كل واحد منهما بمقتضى اخلاصهما مع الله قُرْباناً كان قابيل صاحب زرع قرب مقدارا من أردإ قمحه وهابيل صاحب ضرع قرب شاة سمينة حسناء فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وقد كان علامة القبول حينئذ انه تنزل نار من جانب السماء وتأكل جميع ما يتقربوا به فأخذا قرباناهما وذهبا الى جبل فطرحا عليه وانتظرا القبول فنزلت نار فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان أخيه فاشتد غضبه وسخطه على أخيه وزاد حسده بقبول الله قربانه الى حيث قالَ من شدة غضبه والله لَأَقْتُلَنَّكَ البتة إذ قد ظهر مزيتك على وفضلك عند الله منى وبذلك تفتخر وتتفوق على بين الناس قالَ هابيل يا أخي مالي في هذا التقرب الا الإخلاص والرجوع الى الله والإطاعة والانقياد لأمره والاجتناب
والتحرز عن سخطه وغضبه بلا غرض نفسانى وميل شهوانى فتقبل منى بمقتضى فضله ولطفه إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ اى ما يتقبل الله المطلع لسرائر عباده أعمالهم التي يتقربون بها الى الله الا مِنَ الْمُتَّقِينَ المتقربين اليه بين طرفي الخوف والرجاء المخلصين فيما جاءوا به خالصا لوجهه الكريم بلا ميل منهم الى ما تهوى نفوسهم
ثم اقسم هابيل بعد ما أوعده اخوه بالقتل والله يا أخي لَئِنْ بَسَطْتَ أنت إِلَيَّ يَدَكَ من افراط غيظك وغضبك وشؤم امارة نفسك وطغيان طبعك لِتَقْتُلَنِي ظلما بلا رخصة شرعية بل عن محض عناد ومكابرة ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لدفع ضررك وصولتك عن نفسي او لِأَقْتُلَكَ على مقتضى امارتى وكيف اقعل كذا إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ من تخريب بنيته لمجرد دفع الصائل وان رخص شرعا ولا أخاف على نفسي من القتل إذ الشهداء المقتولون ظلما احياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله
بل إِنِّي من غاية اشفاقى واعطافى معك يا أخي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ اى لان تذهب ولان ترجع أنت الى الله بِإِثْمِي اى بإثمك المنسوب الى قتلى وَإِثْمِكَ الذي كنت فيه فَتَكُونَ حينئذ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ عند الله بهذا الظلم الصريح وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ عنده سبحانه
فَطَوَّعَتْ لَهُ اى لقابيل نَفْسُهُ اى هيجت نفسه حسده الى حيث رضى طوعا وحسن له الشيطان قَتْلَ أَخِيهِ رغبة فَقَتَلَهُ ظلما بلا مدافعة منه كما شرط فندم دفعة فَأَصْبَحَ وصار مِنَ جملة الْخاسِرِينَ خسرانا عظيما مبينا في الدنيا والآخرة وبعد ما وقع ما وقع تحير في دفعه واخفائه إذ لم يمت احد من بنى آدم الى تلك المدة فحمله على عاتقه ضرورة وسار معه الى حيث انتفخ وأنتن
فَبَعَثَ اللَّهُ تعالى المدبر الحكيم حينئذ أعلا ماله غُراباً فقتل غرابا آخر من جنسه عنده فأراد ان يدفنه لذلك يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ اى يضرب بمنقاره ورجله عليها ليحفرها لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي يدفع ويستر سَوْأَةَ أَخِيهِ اى جسده وجثته التي يسوءه بنتنه ونفخه فتفرس قابيل منه الأعلام قالَ حينئذ متحسرا متحزنا قلقا حائرا يا وَيْلَتى ويا هلكتا احضرى أَعَجَزْتُ وعزلت عن مقتضى العقل وعن الاهتداء به الى حيث أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ المنعزل عن مقتضى العقل والإدراك بل صرت انا متابعا له متلمذا منه فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي بتعليمه فواراه ودفعه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ندامة مؤبدة بحيث لا يضحك مدة حياته أصلا وعاش مائة سنة واسود لونه الى حيث لم يعرف اهوام غيره
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وبسبب وقوع هذا بين بنى آدم كَتَبْنا اى قد قضينا والزمنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ اى بلا قصاص شرعي أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ مرخص موجب لقتله من شرك وبغى وقطع طريق وغير ذلك من الفسادات العامة السارى شرها وضرها فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً إذ كل فرد من افراد الإنسان مستجمع لكمالات الجميع بسعة قلبه وعلو رتبته وفسحة استعداده وقابليته لمظهرية الحق وخلافته فكان قتله قتل الجميع وَكذا مَنْ أَحْياها اى خلصها وأنجاها من المهلكة والمتلفة فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً على الوجه المذكور وَبعد ما قضينا على بنى إسرائيل ما قضينا لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا تأكيدا له وتشديدا إياه بِالْبَيِّناتِ الدالة على عظم جريمة القتل عند الله وعظم الجزاء والنكال المترتب عليها في الآخرة ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل سيما بَعْدَ ذلِكَ التأكيد والتشديد فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ على أنفسهم بالقتل بلا رخصة شرعية من غير مبالاة بالآيات البينات
ثم قال سبحانه إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ
يُحارِبُونَ اللَّهَ العليم الحكيم ويقاتلون له بعدم امتثال امره وحكمه وانقياد شرعه وَرَسُولَهُ بتكذيبه وتكذيب ما جاء به من عند ربه والقتال معه ومع من تابعه وَمع ذلك يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعنى يترددون في أقطارها مفسدين بأنواع الفسادات السارى ضررها في الآفاق أَنْ يُقَتَّلُوا حيث وجدوا دفعة أَوْ يُصَلَّبُوا حيا ليعتبر منهم من في قلبه مرض مثل مرضهم ثم يقتلوا على أفظع وجه واقبحه أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ متبادلتين ليعيشوا بين الناس كذلك لينزجر منهم نفوس اهل الاهوية الفاسدة أَوْ يُنْفَوْا ويخرجوا مِنَ الْأَرْضِ الى حيث يؤمن من شرورهم ذلِكَ المذكور من البغاة الطغاة المترددين بين الناس بالفساد لَهُمْ خِزْيٌ تدليل وتفضيح فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ اى طرد وتبعيد عن مرتبة اهل التوحيد
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ورجعوا الى الله عما كانوا عليه مخلصين نادمين خائفين من بطشه راجين من عفوه وجوده مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ اى غرماؤهم وتأخذوهم مطالبين القصاص عنهم فحينئذ يسقط عنهم حق الله بالتوبة ان أخلصوا فيها فَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ الموفق لهم على التوبة غَفُورٌ لهم يغفر ذنوبهم رَحِيمٌ لهم يقبل توبتهم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم التقوى عن محارم الله اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور عن ارتكاب ما حرم عليكم ونهاكم عنه وَابْتَغُوا واطلبوا منه سبحانه إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ المقربة لكم الى ذاته لتتوسلوا به الى توحيده وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لقطع العلائق ورفع الموانع مع القوى البشرية الشاغلة عن التوجه نحوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بفضاء توحيده وصفاء تجريده وتفريده. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعد بالوعيد
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة الله وأصروا على ما هم عليه من الكفر والشقاق لَوْ أَنَّ لَهُمْ اى لو تحقق وثبت ان لهم وفي تصرفهم ملك ما فِي الْأَرْضِ من الزخارف والكنوز جَمِيعاً بل وَمِثْلَهُ مَعَهُ بل أضعاف أمثاله كل ذلك لِيَفْتَدُوا بِهِ ويخلصوا مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ونكاله المترتب على كفرهم المعد لهم بشركهم ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ لعظم جرمهم وإصرارهم عليه وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مؤبد مخلد بحيث لا يرجى نجاتهم منه أصلا
يُرِيدُونَ متمنين أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَالحال انه ما هُمْ بِخارِجِينَ مخرجين مِنْها لاستحالة الخروج عن مقتضى الحكم المبرم الإلهي بل وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم متجدد متلون لئلا يعتادوا بنوع منه
ثم قال سبحانه وَالسَّارِقُ المتجاوز عن حدود الله وَكذا السَّارِقَةُ المتجاوزة عنها فَاقْطَعُوا ايها الحكام أَيْدِيَهُما اى اليمين منهما ان اخرجا المسروق من الحزر المتعارف جَزاءً بِما كَسَبا معهما نَكالًا عقوبة وتعذيبا صادرا مِنَ اللَّهِ المنتقم الغيور لتصرفهم في ملك الغير بلا رخصة شرعية وَاللَّهُ المتصرف في ملكه وملكوته بكمال الاستيلاء والاستقلال عَزِيزٌ غالب قادر على انواع الانتقام حَكِيمٌ متقن في تقديره وتعيينه
فَمَنْ تابَ ورجع الى الله مخلصا خائفا مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وخروجه عن حدود الله وَأَصْلَحَ بالتوبة ما أفسد على نفسه من مجاوزة حكم الله فَإِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده يَتُوبُ عَلَيْهِ ويقبل منه توبته بعد ما وفقه عليها إِنَّ اللَّهَ الميسر لأمور عباده غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ لهم بعد ما رجعوا اليه راجين عفوه
أَلَمْ تَعْلَمْ ايها الداعي للخلق الى الحق أَنَّ اللَّهَ المتوحد المستقل بالالوهية والتصرف لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ من الكائنات والفاسدات فيها وَالْأَرْضِ وما يتكون عليها وكذا ملك ما بينهما من بدائع الكوائن والفواسد الكائنة في الجو يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ من اهل التكاليف على ما صدر عنهم من الجرائم عدلا منه سبحانه وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ فضلا ولطفا وَاللَّهُ المتصرف المطلق بكمال الاستقلال والاستحقاق في ملكه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الانعام والانتقام قَدِيرٌ له الارادة والاختيار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ المبعوث بالحق على كافة الخلق بشيرا ونذيرا لا يَحْزُنْكَ ولا يشوشك صنيع الفرق الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ اى يسرعون اليه عند الفرصة لكون جبلتهم عليه وميلهم بالطبع نحوه وهم اى المسارعون المسرعون مِنَ المداهنين المنافقين الَّذِينَ قالُوا حفظا لدمائهم وأموالهم آمَنَّا قولا مجردا بِأَفْواهِهِمْ وَالحال انه لَمْ تُؤْمِنْ ولم تذعن قُلُوبُهُمْ بل قد ختم عليها بالكفر وَكذا المسارعون المجاهرون بالكفر مِنَ الَّذِينَ هادُوا ونسبوا الى اليهود صريحا إذ كلا الفريقين سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ اى للكذب المعهود المفترى بالتورية بانك يا أكمل الرسل ليس النبي الموعود فيها وهم يصدقون هذا القول الكاذب الصادر من احبار اليهود وهم من أعدى عدوك يا أكمل الرسل وأشدهم بغضا وغيظا ومع ذلك ايضا سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ممن آمن بك من أقاربهم وعشائرهم ليضلوهم عن طريق الحق وكذا ممن لم يؤمن بك لكن يميلون بقلوبهم الى الايمان ليقعدوهم ويصرفوهم عما نووا في نفوسهم وكيف لا يكون احبار اليهود من أعدى عدوك يا أكمل الرسل وهم من غاية بغضهم معك لَمْ يَأْتُوكَ ولم يحضروا عندك ومع إتيانهم بك يُحَرِّفُونَ ويغيرون الْكَلِمَ المنزلة في التورية لبيان بعثتك ووصفك وحليتك ومنشأك وحسبك ونسبك وعلو شانك وسمو برهانك وتكميلك امر النبوة والرسالة ونسخك جميع الأديان مِنْ بَعْدِ كون كل منها مثبتا في مَواضِعِهِ في كتاب الهى بوضع الهى وايضا هم من غاية بغضهم معك يَقُولُونَ لإخوانهم حين حكموك في امر لشهرة أمانتك ووثوقهم برأيك وعزيمتك سيما في قطع الخصومات وفصل الوقائع والخطوب إِنْ أُوتِيتُمْ وحكمتم طبق هذا اى المحرف المسموع لكم فَخُذُوهُ واقبلوه وامضوا عليه وارضوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ موافقا له بل افتى بخلافه فَاحْذَرُوا منه واعرضوا عنه. ثم قال سبحانه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ اى كفره وفساده فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ ولن تدفع أنت يا أكمل الرسل عنه مِنَ غضب اللَّهُ المنتقم الغيور شَيْئاً أصلا لأنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ويضل من يشاء وبالجملة أُولئِكَ البعداء عن منهج الرشد من زمرة الكافرين الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ المدبر الحكيم ولم يتعلق مشيته أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من خباثة الكفر والشرك بل لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان وصغار وجزية ومذلة ومسكنة اضطرارية وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ الا وهو الخلود في نيران الحرمان عن مرتبة الإنسان
وما هو الا انهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ المذكور معتقدون صدقه ومطابقته للواقع وهم ايضا يريدون ان يسمعوه لضعفاء الأنام إغراء وتغريرا ألا وهم الأحبار المحرفون المبغضون أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ اى الحرام الذي يرتشون منهم بسبب تحريفهم نعتك يا أكمل الرسل من كتابهم ليبقى ويدوم رئاستهم وجاههم وبالجملة اعرض أنت عنهم وعن ايمانهم فَإِنْ جاؤُكَ ليحكموك في الوقائع ان شئت فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالعدل أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وعن حكمهم بالمرة فلك الخيار وَلا
تبال بهم وبعداوتهم إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فإنهم وان عادوك أشد عداوة وبغض فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً من المكروه فان الله يعصمك ويكفيك مؤنة شرهم وضرهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ على الوجه الذي امره الحق ونطق به الفرقان إِنَّ اللَّهَ المستوي باسم الرّحمن على عروش مطلق الذرائر الكائنة معتدلا بلا تفاوت يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ المعتدلين من عباده المائلين عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المنتهيين الى قعر الجحيم وبالجملة ليس غرضهم من تحكيمك يا أكمل الرسل الإطاعة بك وبحكمك والوثوق لأمانتك ووقوفك بل ليس غرضهم الا التسهيل والتيسير والاعراض عن بعض الاحكام مداهنة
وَالا كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ مع عدم ايمانهم بك وبكتابك وَالحال انه عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ وقد ثبت فِيها حُكْمُ اللَّهِ على التفصيل وهم يدعون العلم والايمان به ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ وينصرفون عن حكمك مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد ما حكمت فيما حكموك فيه مع انه مطابق لكتابهم وَبالجملة ما أُولئِكَ المعرضون المنصرفون عن حكمك هذا بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم ايضا والا فلا وجه لاعراضهم وانصرافهم عن الحكم المطابق له
إِنَّا من مقام جودنا قد أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ على موسى وادرجنا فِيها هُدىً يهدى به الى الحق من ضل عن طريقه وَنُورٌ يكشف طريق التوحيد لمن استكشف منه يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ من أنبياء بنى إسرائيل الَّذِينَ أَسْلَمُوا لله وفوضوا أمورهم كلها اليه بعد ما تحققوا بتوحيده لِلَّذِينَ هادُوا ونسبوا الى اليهود وَكذا يحكم بها الرَّبَّانِيُّونَ اى المؤمنون المخلصون المنسوبون الى الرب بمتابعة الأنبياء ألا وهم الأولياء منهم وَكذا الْأَحْبارُ المتفقهة منهم يحكمون بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ واستنبطوه منه وَقد كانُوا عَلَيْهِ اى على ما استحفظوا واستنبطوا من التورية شُهَداءَ مستحضرين يراقبون ويداومون على حفظه فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ اى عليكم ايها الحكام ان لا تميلوا في الاحكام عن طريق الحق من أجل الناس المتعظمين بجاههم ورئاستهم ولا تداهنوا فيها رعاية لجانبهم بل وَاخْشَوْنِ عن حلول غضبى عليكم حين مخالفتكم امرى وحكمى مداهنة وَعليكم ايضا انه لا تَشْتَرُوا بِآياتِي واحكامى المنسوبة الى الشريعة ثَمَناً قَلِيلًا من الرشى وَاعلموا ان مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اىّ بمقتضاه موافقا له فَأُولئِكَ البعداء المداهنون المرتشون هُمُ الْكافِرُونَ الساترون مقتضى الحكمة البالغة الإلهية باهويتهم الباطلة الخارجون عن ربقة العبودية بمخالفة حكم الله وامره
وَمن جملة الاحكام التي قد كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها القصاص فاعلموا ايها الحكام أَنَّ النَّفْسَ القاتلة تقتص بِالنَّفْسِ المقتولة عدوانا وَالْعَيْنَ الصحيحة تفقؤ بِالْعَيْنِ المفقوءة ظلما وَالْأَنْفَ يقطع بِالْأَنْفِ المقطوع وَالْأُذُنَ تصلم بِالْأُذُنِ المصلومة وَالسِّنَّ تقلع بِالسِّنِّ المقلوعة وَاعلموا ايضا ان الْجُرُوحَ مطلقا تجرى فيها قِصاصٌ مثلا بمثل على قياس ما ذكر في المذكورات فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ اى بالقصاص وعفا عنه طوعا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ اى عفوه وتصدقه عن القصاص ما هو الا كفارة لذنوبه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ العليم الحكيم في حكم من الاحكام ميلا وارتشاء مداهنة ومراء فَأُولئِكَ الحاكمون المتجازون عن مقتضى احكام الله هُمُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضيات الايمان والإطاعة والانقياد
وَبعد ما انقرض أولئك الأنبياء الحاكمون قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ واتبعناهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خلفا لهم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ حاكما باحكامه ممتثلا بأوامره ونواهيه وَآتَيْناهُ تأييدا له وامتنانا عليه الْإِنْجِيلَ فِيهِ ايضا هُدىً وَنُورٌ للمستهدين المستكشفين منه وَمع كونه مشتملا على الهداية والإنارة مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً هاديا لأهل العناية وَمَوْعِظَةً وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ المتوجهين نحو الحق بين الخوف والرجاء
وَلْيَحْكُمْ ايضا أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ المطلع لمقتضيات كل زمان من الازمنة بمقتضى ما فِيهِ من الاحكام وَبالجملة مَنْ لَمْ يَحْكُمْ منهم ايضا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فيه لغرض من الأغراض الفاسدة المذكورة فَأُولئِكَ البعداء المنصرفون عن منهج الرشد هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن ربقة الايمان المنهمكون في بحر الضلال والطغيان ومآل هذه الصفات الثلث لهؤلاء الحاكمين المتجاوزين عما حكم الله في كتبه واحد إذ الكفر هو ستر حكم الله. والظلم عبارة عن التجاوز عنه الى غيره من الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة. والفسق كناية عن الخروج عن حكمه سبحانه عنادا ومكابرة فمآل الكل الى الشرك بالله والإلحاد عن توحيده أعاذنا الله وعموم عباده منه
وَبعد ما انقرض زمان نبوة عيسى صلوات الرّحمن عليه وسلامه قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل وخاتم النبيين الْكِتابَ الجامع لجميع فوائد الكتب السالفة ملتبسا بِالْحَقِّ متصفا بالصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ جنس الْكِتابَ الإلهي المنزل على الرسل الماضين وَمع كونه مصدقا قد صار مُهَيْمِناً عَلَيْهِ مستحضرا لما فيه يحفظه عن التحريف والتغيير إذ من خواص الكتب الإلهية ان كل لاحق منها يحفظه حكم سابقه ويصونه عن تطرق التحريف وان كان مشتملا على نسخ وتغيير الهى بحسب الزمان ومقتضيات المراتب والشان فَاحْكُمْ أنت ايضا يا أكمل الرسل بَيْنَهُمْ مطابقا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الحكيم المفضل إليك في كتابه هذا وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة ميلا ومداهنة ولا تنحرف عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الصريح المطابق للحكمة المتقنة الإلهية المقتضية للاحكام. واعلموا ايها الأمم المتوجهون نحو توحيد الذات المسقط لعموم الإضافات لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً موردا وشرعا تردون أنتم منها الى بحر الوحدة وَمِنْهاجاً اى طريقا واضحا واسعا وجادة مستقيمة قد بينها الحق لأنبيائه ورسله بانزال الكتب عليهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده لَجَعَلَكُمْ وصيركم أُمَّةً واحِدَةً متحدة في المنهج والمقصد بحسب الظاهر ايضا وَلكِنْ كثركم وعدد طرقكم لِيَبْلُوَكُمْ ويجربكم فِي رعاية مقتضيات ما آتاكُمْ من المواهب والعطايا الفائضة من تجلياته الحبية فَاسْتَبِقُوا ايها المتعرضون لنفحات الحق المستنشقون من نسمات روحه ورحمته الْخَيْراتِ وبادروا الى الحسنات الفائضة عليكم من محض جوده وسارعوا نحوها وتعرضوا بها واعلموا ايها التائهون في سراب الإمكان إِلَى اللَّهِ المتوحد المتفرد بالجود والوجود مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ايها الاظلال الباطلة والتماثيل العاطلة المنعدمة في أنفسها وحدود ذواتها فَيُنَبِّئُكُمْ سبحانه بعد رفع تعيناتكم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الإضافات المترتبة على الهويات الباطلة. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا
وَامرناك ايضا فيما أنزلنا إليك يا أكمل الرسل أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ مطابقا موافقا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الرقيب عليكم في كتابه الذي أنزله إليك على الوجه المنزل فيه بلا ميل وانحراف عنه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المضلة وَاحْذَرْهُمْ عن أَنْ يَفْتِنُوكَ ويلبسوا عليك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ بمواساتك
واظهار محبتك ومودتك قاصدين انحرافك وميلك الى ما تهواه أنفسهم فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عنك وعن حكمك بواسطة ثبات قدمك على جادة العدالة فَاعْلَمْ ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المدبر الحكيم ويتعلق مشيته أَنْ يُصِيبَهُمْ ويأخذهم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو التولي والاعراض عنك وعن حكمك لأنهم قد خرجوا بالإعراض عن حكمك عن جميع احكام الله وحدوده وَلا تتعجب من خروجهم هذا بل إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الناسين للعهود الاصلية الناقضين للمواثيق الفطرية لَفاسِقُونَ خارجون عن مقتضى الاحكام الإلهية وحكمه المكنونة فيها بمتابعة الاهوية الباطلة
أَتعرضون وتنصرفون عن حكمك فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ الناشئة من الآراء الفاسدة والأهواء الكاسدة الزائغة الحاصلة من تمويهات عقولهم القاصرة واوهامهم الباطلة كاحكام متفقهة هذا العصر خذلهم الله يَبْغُونَ ويطلبون منك يا أكمل الرسل ويعتقدون ان الحسن والحق هو ما هم عليه من تلقاء أنفسهم وَبالجملة مَنْ أَحْسَنُ واسد واحكم مِنَ اللَّهِ المتفرد بذاته المطلع على سرائر عموم الأمور وحكمها حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ توحيده وتفريده حتى يعاد اليه ويرجع نحوه في الوقائع والخطوب
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم انه لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ توالونهم وتصاحبونهم مثل موالاة المؤمنين ولا تعتمدوا ولا تثقوا بمحبتهم ومودتهم إذ هم في أنفسهم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ متظاهرون متعاونون ينتهزون الفرصة لمقتكم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ ويعتمد عليهم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ومن زمرتهم وعدادهم عند الله إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة من لدنه فكيف لا يكون المتوالون معهم منهم ومن زمرتهم
فَتَرَى ايها الرائي القوم الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى كفر ونفاق يُسارِعُونَ ويبادرون فِيهِمْ في مودتهم ومواخاتهم بحيث يَقُولُونَ معتذرين لكم نفاقا ومداهنة نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ من دوائر الزمان كان الأمر منها لهم والدولة تتوجه نحوهم فنداريهم ونواليهم مداراة معهم خوفا منها فَعَسَى اللَّهُ المنعم المتفضل أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ والظفر على رسوله ليظهر دينه على الأديان كلها أَوْ أَمْرٍ عظيم نازل فيه مِنْ عِنْدِهِ يكفى مؤنة كفرهم ونفاقهم فَيُصْبِحُوا ويصيروا سيما أولئك المنافقون الموالون عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من بغض رسول الله وانكار رسالته وتكذيب كتابه نادِمِينَ خائبين خاسرين
وَحينئذ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا وأخلصوا في ايمانهم بعضهم لبعض مستهزئين لأولئك المنافقين أَهؤُلاءِ المفسدون المنافقون الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ المنزه عن سمات النقص مطلقا جَهْدَ أَيْمانِهِمْ اى أغلظها وأوكدها إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ مؤمنين بنبيكم مظاهرين لكم في إعلاء كلمة الحق وانتشار الدين القويم كيف حَبِطَتْ واضمحلت أَعْمالُهُمْ وضاعت الى حيث لا تفيدهم أصلا فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ خسرانا عظيما مبينا في الدنيا والآخرة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تحزنوا بصنيع مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بعد عرض الايمان وقبول الإسلام ولا تبالوا بشأنهم هذا فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ المولى لأمور عباده المؤيد إياهم بنصره حسب لطفه وفضله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ الله في حضرة علمه ويوفقهم على الايمان حسب ما كتب لهم في لوح قضائه ويوصلهم الى مرتبة اليقين والعرفان وَيُحِبُّونَهُ ايضا حسب استعداداتهم وقابلياتهم الفطرية الجبلية الى حيث قد بذلوا مهجهم في سبيله طوعا ورضا إعلاء لكلمة توحيده ونصرا لدينه القويم
ومع ذلك أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تواضعا وإخاء أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ غلبة واستيلاء يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق توحيده باذلين نفوسهم فيه طالبين رضاه وَمع ذلك لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وملامة مفرط مليم كهؤلاء المنافقين الذين يخافون من الملامة حفظا لجاههم ورئاستهم وحماية لما في نفوسهم من الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة ذلِكَ الأوصاف المذكورة والنعوت المستحسنة فَضْلُ اللَّهِ الهادي لعباده الى قضاء توحيده يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من اهل العناية وَبالجملة اللَّهُ المتفضل المحسن لأرباب المحبة والولاء واسِعٌ في فضله وطوله عَلِيمٌ بمن يستحق الانعام والإفضال.
ثم لما نهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكفار ومواخاتهم وبالغ فيه أراد أن ينبه على من يستحق الولاية والودادة حقيقة فقال إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ المتولى لأموركم بالولاية العامة وَرَسُولُهُ النائب عنه المستخلف منه وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله بالولاية الخاصة بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم الا وهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ ويديمون الصَّلاةَ اى الميل المقرب نحو الحق وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المصفية لبواطنهم عن التوجه نحو الغير وَالحال انه هُمْ حينئذ راكِعُونَ خاضعون خاشعون في صلاتهم متذللون فيها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فرمى له خاتمه
وَبالجملة مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ الحفيظ المراقب عليه ويفوض امره كله اليه ويتخذه وكيلا وَيتول ايضا رَسُولَهُ الذي قد استخلف منه سبحانه وأظهره على صورته حيث انزل في شأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله وَيتول ايضا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأخلصوا في ايمانهم طلبا لمرضاته فهم من حزب الله وجنوده يحفظهم في كنف حفظه وحمائه ويغلبهم مطلقا على من يصول إليهم فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ القادر المقتدر على عموم الانعام والانتقام هُمُ الْغالِبُونَ الفائزون الواصلون الى عموم مقاصدهم ومراداتهم بفضل الله وسعة جوده
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم ان لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا من غاية بغضهم ونفاقهم معكم دِينَكُمْ الذي هو أقوم الأديان وأقسطها هُزُواً وَلَعِباً اى محل استهزاء وملاعبة يستهزؤن ويستسخرون به استخفافا له واستهانة لأهله سيما مِنَ القوم الَّذِينَ يدعون الدين والايمان والإطاعة والانقياد مراء وافتراء لأنهم وان أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ملتبسا بالحق الا انهم من خباثة طينتهم وركاكة فطنتهم لم يمتثلوا به ولم يعملوا بمقتضاه ولم يصدقوا الرسل الذين انزل إليهم الكتاب بل هم كانوا يكذبونهم ويقتلونهم ظلما وعنادا من كفرهم الأصلي وشركهم الجبلي وَلا سيما الْكُفَّارَ الذين أشركوا بالله المتوحد بذاته المنزه عن عموم ما ينسبونه اليه افتراء ومراء أَوْلِياءَ توالونهم وتحبونهم كموالاة بعضكم بعضا إذ هم اعداء لله المتوحد ولرسوله ولعموم المؤمنين وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المقتدر الغيور واحذروا عن موالاة أعدائه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بوحدة الله مصدقين لرسله
وَكيف تتخذون منهم اولياء وهم قوم من غاية بغضهم وغيظهم معكم إِذا نادَيْتُمْ واذنتم إِلَى الصَّلاةِ المقربة نحو الحق اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ الملاعبة والاستهزاء والمجادلة والمراء مع الأمناء العرفاء بالله بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ جهلاء بمقتضى الربوبية غفلاء عن لوازم المرتبة الألوهية وبالجملة هم سفهاء في أنفسهم لا يَعْقِلُونَ ولا يصرفون العقل الجزئى المفاض لهم من الحق لمعرفة المبدأ والمعاد الى ما خلق لأجله ومع ذلك ينكرون العقلاء الشاكرين الصارفين عقولهم وعموم جوارحهم وأعضائهم الى ما جبلت لأجله
من الأعمال والأحوال المقربة نحو التوحيد الإلهي
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا وما تنكرون علينا وما تستهزؤن بنا وما حواكم وحملكم على الانتقام والاستهزاء إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ المتوحد المتفرد بذاته المتجلى على عموم الآفاق والأنفس بكمال الإطلاق والاستحقاق وَآمنا ايضا بجميع ما أُنْزِلَ إِلَيْنا لتبيين توحيده وَكذا قد آمنا بجميع ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ من الكتب الإلهية على الرسل الماضين لهداية طريق الحق وَايضا من جملة ما بعثكم على الانتقام علمنا بكم أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ خارجون عن منهج الايمان وجادة التوحيد والعرفان حقيقة ولا تظهرونه خشية وخوفا ولهذا تستهزؤن مع اهل الحق خفية تجاهلا وتغافلا وحفظا لجاهكم ورئاستكم
قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما هَلْ أُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ الذي أنتم تنقمون منه وتنكرون له مكابرة مَثُوبَةً عائدة وجزاء مرتبا عليه ثابتا عِنْدَ اللَّهِ العليم الحكيم قبحه وشرارته ديدنة مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ المنتقم الغيور وطرده من ساحة عزه وقبوله وَغَضِبَ عَلَيْهِ حيث أخرجه عن مرتبة خلافته ونيابته وَكيف لا قد جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ المنعزلة عن درك الحق ومعرفته وَجعل ايضا منهم من عَبَدَ الطَّاغُوتَ اى الاهوية الباطلة المصلة عن الاهتداء الى طريق الحق وبالجملة أُولئِكَ المطرودون المغضوبون الممسوخون عن مقتضى الانسانية شَرٌّ مَكاناً منزلة ومكانة عند الله وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ الذي هو الاعتدال الإنساني المنعكس عن الاعتدال الإلهي
وَبالجملة إِذا جاؤُكُمْ ايها المؤمنون أولئك المراؤون المعاندون مدعين محبة لكم ولدينكم مداهنة ونفاقا حيث قالُوا آمَنَّا بنبيكم وبجميع ما جاء به من عند ربه لا نبالوا بهم وبايمانهم ولا تصاحبوا معهم وَالحال انه قَدْ دَخَلُوا حين دخلوا عليكم ملتبسين بِالْكُفْرِ والإصرار وَهُمْ ايضا قَدْ خَرَجُوا بِهِ كما كانوا بل ما زادوا الا إصرارا بعد صرار وعنادا فوق عناد وان أظهروا خلافه وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر والنفاق وبغض رسول الله والذين آمنوا معه
وَتَرى ايها الرائي كَثِيراً مِنْهُمْ اى من اليهود والنصارى يُسارِعُونَ ويبادرون فِي الْإِثْمِ اى الخصلة الذميمة عقلا وشرعا وَالْعُدْوانِ اى الظلم المتجاوز عن الحدود الشرعية وَلا سيما أَكْلِهِمُ السُّحْتَ اى الحرام والله لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى بئس شيأ ما يكسبونه لأنفسهم من الأمور المستجلبة لأنواع العذاب والنكال
ثم قال سبحانه لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ اى هلا يمنعهم المنسوبون الى الرب العائدون له وَالْأَحْبارُ العالمون بسرائر الأمور وحكمها على زعمهم عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ افتراء على الله وعلى كتابه وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ زاعمين اباحته والله لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ اى لبئس شيأ صنيعهم هذا برأيهم الفاسد وعقلهم القاصر الكاسد
وَمن غاية جهلهم بالله ونهاية غفلتهم من مقتضيات أوصافه قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ مقبوضة يقتر بالزرق وانما قالوا ذلك حين فقدوا البسطة والرخاء الذي كانوا فيه قبل تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال سبحانه في جوابهم دعاء عليهم قد غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ عن عموم الخيرات والمبرات بضرب الذلة والمسكنة عليهم في الدنيا وفي الآخرة بالاغلال والسلاسل يسبحون نحو النار وَأعظم منها انهم قد لُعِنُوا وطردوا عن المرتبة الانسانية بِما قالُوا اى بقولهم هذا على الله الكريم مع انه لا يليق بجنابه العظيم وبشأنه الأعلى بَلْ يَداهُ اى أوصافه اللطفية والقهرية
مَبْسُوطَتانِ ازلا وابدا دائما يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ويتعلق ارادته لمن يشاء فضلا وجودا ويمنع عن من يشاء عدلا وقهرا وَالله لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ حقدا وحسدا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل انعاما وإكراما لك مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً اجتراء على الله ظلما ومراء بما لا يليق بشأنه وَكُفْراً اى إصرارا وتشددا على ما هم عليه من الشرك والعناد وَبسبب طغيانهم وكفرهم أَلْقَيْنا واوقعنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بحيث لا يتفقون ولا يوافقون أصلا بل كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ مع المؤمنين وصمموا العزم والجزم أَطْفَأَهَا اللَّهُ المدبر الحكيم بإيقاع المخالفة والعدوان بينهم وَبالجملة هم في أنفسهم يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ دائما مستمرا فَساداً اى لأجل الفساد واثارة الفتن والعناد وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ المعاندين منهم المجترئين على الله وعلى رسوله مكابرة وعنادا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بك وبكتابك وَاتَّقَوْا عما اجترءوا عليه في حق الله وحقك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ اى محونا عن ديوان أعمالهم عموم سيئاتهم التي كانوا عليها وَلَأَدْخَلْناهُمْ تفضلا منا إياهم وامتنانا لهم جَنَّاتِ النَّعِيمِ منتزهات العلم والعين والحق ان أخلصوا في ايمانهم
وَلَوْ أَنَّهُمْ اى اهل الكتاب أَقامُوا التَّوْراةَ وامتثلوا باوامرها وأظهروا ما فيها من الاحكام والعبر والتذكيرات سيما بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وَأقاموا ايضا الْإِنْجِيلَ وأحكامه على وجهها وعملوا بمقتضاها وَكذا جميع ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لوسع عليهم سبحانه الرزق الصوري والمعنوي الى حيث لَأَكَلُوا الرزق مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ذكر الجهتين الحقيقيتين يغنى عن الجهات كلها اى كوشفوا بوحدة الله من جميع الجوانب والجهات ولا يرون غير الله في مظاهره ومجاليه مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ معتدلة لا من اهل الإفراط ولا من اهل التفريط يرجى ايمانهم وكشفهم وَان وجد كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ اى ساء عملهم في الإفراط والتفريط عن جادة الاعتدال والتوحيد
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ المبعوث لي كافة الخلق بالعدالة والرسالة العامة والدعوة الى توحيد الذات بَلِّغْ وأوصل عموم ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لتبيين طريق توحيده الذاتي على جميع من كلف به وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم تبلغ امهالا وخوفا فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ التي كلفك سبحانه بتبليغها وبالجملة اعتصم بالله وتوكل عليه في أدائها وَاللَّهُ المراقب لعموم احوالك يَعْصِمُكَ ويحفظك مِنْ شرور النَّاسِ القاصدين مقتك ومساءتك يكفى مؤنة شرورهم ويكف عنك إذا هم بحوله وقوته إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده ومخايلهم لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ القاصدين مقتك ولا يوصلهم الى ما يدومون بك من المضرة والمساءة
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على رؤس الاشهاد بلا مبالاة لهم ولعداوتهم يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من امر الدين والايمان والإطاعة والانقياد حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَجميع ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وتمتثلوا باحكامها وتتصفوا بما فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المرضية عند الله وتحققوا بحقائقها ومعارفها المودعة فيها وَالله لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ حين سمعوا منك أمثال هذا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لتأييدك ونصرك طُغْياناً وَكُفْراً من غاية غيظهم وبغضهم معك ومع من تبعك من المؤمنين وبالجملة فَلا تَأْسَ ولا تحزن أنت يا أكمل الرسل عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين طريق الحق باهويتهم الباطلة وآراءهم الزائغة الفاسدة.
ثم قال سبحانه
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اى اسلموا وانقادوا وامتثلوا بعموم أوامر كتابك واجتنبوا عن نواهيه وآمنوا ايضا بجميع الكتب والرسل وجميع الأنبياء ذوى الأديان وغيرهم لتمكنهم في مقر التوحيد البحت الخالص عن شوب الكثرة وَالَّذِينَ هادُوا اى الممتثلون بجميع ما امر في التورية ونهى عنه الى ان وصلوا الى مرتبة التوحيد المسقط للاختلافات الصورية والمعنوية وَالصَّابِئُونَ الذين يتوسلون بالملائكة في عموم عباداتهم لا الصابئون الطبيعيون الذين هم يعبدون الكواكب من قصور نظرهم وكثافة حجبهم وَالنَّصارى الذين يعملون على مقتضى الإنجيل بلا فوت شيء من أوامره ونواهيه مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ المتوحد بذاته المستغنى عن الأشباه والأنداد مطلقا ووصل بمتابعة كتبه المنزلة ورسله المبينين لكتبه الى توحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد للكشف والوصول وَعَمِلَ عملا صالِحاً بطريق توحيده فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في سلوكهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بعد ما وصلوا إذ كل ما جاء من عند الله انما هو بمقتضى توحيده مبين له وان كانت الطرق متعددة بتعدد الأوصاف والأسماء الإلهية لكن كل منها موصلة اليه سبحانه إذ ليس وراء الله مرمى ومنتهى لذلك قيل التوحيد إسقاط الإضافات رأسا حتى يتحقق الفناء فيه والبقاء به بل لا فناء ولا بقاء في مرتبة العماء أصلا حارت في ملكوتك عميقات مذاهب التفكر
والله لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ على لسان أنبياءهم ان لا تشركوا بالله ولا تخاصموا مع أنبيائه ورسله وَبعد ما أخذنا منهم الميثاق أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا مبشرين ومنذرين وصاروا من خبث بواطنهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ الله بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ وبما لا ترضى به عقولهم فَرِيقاً منهم كَذَّبُوا الرسل وعموم ما جاءوا به من عندنا عنادا ومكابرة وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ الأنبياء ظلما وعدوانا
وَهم من غاية عمههم واعراضهم عن الحق حَسِبُوا وظنوا بل تيقنوا أَلَّا تَكُونَ ولا تدور عليهم فِتْنَةٌ مصيبة وبلاء بواسطة التكذيب والقتل فَعَمُوا لذلك عن امارات الدين وعلامات التوحيد واليقين وَصَمُّوا عن استماع دلائل التوحيد والعرفان ثُمَّ بعد ما تنبهوا وتابوا مخلصين تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اى قد عفا عنهم وقبل توبتهم ثُمَّ بعد ما تابوا عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ مرة اخرى لخباثتهم الجبلية وَبالجملة اللَّهُ المطلع بعموم حالاتهم بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ اى بعموم أعمالهم التي عملوها بمقتضى اهويتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة يجازيهم عليها بمقتضى علمه وخبرته
والله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا من غاية جهلهم بالله وبما لا يليق بشأنه إِنَّ اللَّهَ المتجلى على عروش عموم ما كان ويكون شهادة وغيبا هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ اى متحد به محصور عليه افراطا وغلوا وَقالَ الْمَسِيحُ لهم حين سمع منهم ما قالوا في حقه وغلوا يا بَنِي إِسْرائِيلَ التائهين في تيه الجهل والضلال اعْبُدُوا اللَّهَ المنزه عن الحصر والحلول والاتحاد وعن مطلق التعينات والفضول ولا تحصروه لا في ولا في غيرى بل انقادوا رَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم وَرَبَّكُمْ ايضا بافاضة العقل الموصل لكم الى معرفته وتوحيده واعلموا انه لا فرق بيني وبينكم في العبودية والمربوبية ولا تشركونى معه إذ انا ايضا من جملة عبيده إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ المنزه عن الشريك مطلقا غيره من مخلوقاته فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الغنى بذاته عن مطلق الشرك والايمان عَلَيْهِ الْجَنَّةَ المعدة للسعداء الموحدين بل وَمَأْواهُ وما يأوى اليه النَّارُ المعدة للأشقياء المردودين المشركين وَاعلموا ان ما لِلظَّالِمِينَ المفترين على الله ما هو بريء
عنه بذاته مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم ويشفعون لهم عند أخذ الله إياهم وبطشه
والله ايضا لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا من عدم تحققهم بمقام التوحيد وعدم تنبههم بمرتبة الفناء في الله إِنَّ اللَّهَ المنزه عن التعدد بل عن العدد مطلقا ثالِثُ ثَلاثَةٍ اى واحد منها وأرادوا بالثلثة إياه سبحانه ومريم وعيسى وَالحال انه ما مِنْ إِلهٍ في الوجود والتحقق إِلَّا إِلهٌ اى وجود وموجود واحِدٌ احد صمد فرد وتر محير للعقول والأبصار ماح لظلال السوى والأغيار وَبالجملة إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا اى هؤلاء الظلمة الغالون عَمَّا يَقُولُونَ من التثليث والتعدد في الألوهية لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ اى بقوا على كفرهم بلا ايمان الى ان ماتوا عليه عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد منه الا وهو حرمانهم عن مرتبة التوحيد التي هي مرتبة الخلافة والنيابة
أَيصرون على هذا الكفر والضلال فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ المنتقم الغيور ولا يؤمنون له وَلا يَسْتَغْفِرُونَهُ عما صدر عنهم من الجرائم العظام حتى يقبل توبتهم وايمانهم وَبالجملة اللَّهِ المنزه في ذاته عن كفرهم وايمانهم غَفُورٌ لهم ان أخلصوا في توبتهم وايمانهم رَحِيمٌ لهم يقبل توبتهم ولا يأخذهم على ما صدر عنهم بعد ما تابوا ورجعوا نادمين
ثم قال سبحانه مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ من الرسل العظام قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أمثاله في العظمة والكرامة ولم ينسبهم احد الى ما نسبوه وَأُمُّهُ ايضا صِدِّيقَةٌ مقبولة عند الله قد مضت كثيرة مثلها من الصديقات ومن الصادقات المقبولات ولم ينسبها احد ما نسبوها وبالجملة كيف ينسبونهما الى الألوهية مع انهما قد كانا بشرين مركبين يَأْكُلانِ الطَّعامَ ليكون بدلا بما يتحلل والا له مطلقا منزه عن التركيب والتحليل والاكل والشرب والبنوة والأبوة والأمومة وغيرها من أوصاف البشر انْظُرْ ايها الناظر المتعجب كَيْفَ نُبَيِّنُ ونوضح لَهُمُ الْآياتِ اى الدلائل القاطعة الدالة على عدم لياقتهما بمرتبة الألوهية مع انه لكمال ظهور هذه الدعوى ووضوحها لا حاجة الى الدليل أصلا عند من له ادنى مسكة ثُمَّ انْظُرْ وازدد في تعجبك أَنَّى يُؤْفَكُونَ والى اين يصرفون وجوه عقولهم عن طريق الحق وعن سماع كلمة التوحيد
قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا أَتَعْبُدُونَ وتؤمنون مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد المتفرد بالالوهية والوجود ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ اى اظلالا وتماثيل لا تملك لكم ولأنفسهم لا ضَرًّا وَلا نَفْعاً ولا وجودا ولا حيوة بل ما هي الا تماثيل موهومة وعكوس معدومة تنعكس من اشعة التجليات الإلهية ليس لها في أنفسها ذوات ولا أوصاف ولا آثار وَاللَّهُ المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق هُوَ السَّمِيعُ في مظاهره لا غير إذ لا غير في الوجود الْعَلِيمُ هو ايضا فيها ولا عالم سواه فله الاستقلال والتصرف التام في ملكه وملكوته بلا مشاركة احد ومظاهرته
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعنى النصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ونبيكم غَيْرَ الْحَقِّ افتراء ومراء سيما بعد ظهور المبين المؤيد المصدق وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ من اسلافكم إذ هم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ عن طريق الحق وَمع ذلك ما اقتصروا على الضلال بل أَضَلُّوا كَثِيراً من ضعفاء العوام ايضا وَبالجملة هم قوم قد ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ بلا هداية هاد مهتد وتنبيه منبه نبيه يهديهم اليه وينبههم عليه وما لكم تضلون أنتم مع وجود المنبه النبيه والهادي المؤيد من عند الله بالهداية العامة الى صراط مستقيم موصل الى مقر التوحيد.
ثم قال سبحانه لُعِنَ اى طرد
ورد عن مقر العز ومرتبة النيابة الانسانية القوم الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ايضا ذلِكَ الطرد واللعن عليهم بِما عَصَوْا على الله بعدم امتثال أوامره واجتناب نواهيه وَهم في أنفسهم قوم قد كانُوا يَعْتَدُونَ ويتجاوزون عن المرتبة الانسانية بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الى ما تهوى أنفسهم وترضى به عقولهم
ومن جملة خصالهم المذمومة انهم كانُوا من غاية غفلتهم وانهماكهم في الضلال لا يَتَناهَوْنَ ولا يمنعون أنفسهم عَنْ مُنكَرٍ مخالف للشرع فَعَلُوهُ مرة او مرارا بعد تنبههم بمخالفته بل يصرون عليه عنادا واستكبارا والله لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ لأنفسهم ذلك المنكر والإصرار الجالب لانواع العذاب والنكال
ولذلك تَرى ايها المعتبر الرائي كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اى يوادون ويوالون الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأشركوا له ويصاحبون معهم على طريق المحبة والمودة لذلك يسرى شرور شركهم وكفرهم عليهم والله لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعنى بئس شيأ ما كسبت لهم أنفسهم أَنْ سَخِطَ اللَّهُ المنتقم الغيور عَلَيْهِمْ بسببه وَبالجملة فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ دائمون بشؤم ما كسبوا
وَلَوْ كانُوا يعنى أولئك المنافقين يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ المتوحد في ذاته وَالنَّبِيِّ المؤيد من عنده المبعوث الى كافة الأنام وَيؤمنون ايضا بعموم ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من الفرقان الفارق بين الحق والباطل مَا اتَّخَذُوهُمْ يعنى المشركين أَوْلِياءَ أحباء أصدقاء وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عما فيه صلاحهم وسدادهم من الحكم والاحكام المنزلة في القرآن
لَتَجِدَنَّ ايها الداعي للخلق الى الحق أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا بك وبكتابك الْيَهُودَ وهم الذين قد جبلوا على النفاق والشقاق سيما معك ومع من تبعك وَكذا الَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله بإثبات الوجود لغيره لبغضهم مع الموحدين الموقنين بتوحيد الله ووحدة ذاته القاطعين عرق الشركة عن أصله وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً واوكدهم محبة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا للمؤمنين من محض ودادهم وصميم فؤادهم بعد ما تنبهوا لحقية الدين المصطفوى والشرع المحمدي الموصل الى التوحيد الذاتي إِنَّا نَصارى ننصركم ونقوى عضدكم ذلِكَ اى سبب ودادتكم ومحبتكم في قلوبهم بِأَنَّ مِنْهُمْ جمعا قِسِّيسِينَ اى طالبين للعلم اللدني الذي هو ثمرة عموم الشرائع والأديان المنزلة وَان منهم جمعا آخر رُهْباناً متحققين بمرتبة العين لذلك صاروا متصرفين في الأمور الدنيوية بلا تصرف منتظرين لظهور مرتبة الحق اليقين التي أنت تظهر بها يا أكمل الرسل وَأَنَّهُمْ بعد ما وجدوا في وجدانهم ما وجدوا لا يَسْتَكْبِرُونَ ولا يستنكفون عن نصرك وودادتك ايها الجامع لجميع مراتب الحق
وَمن غاية تشوقهم ونهاية تعطشهم الى زلال مشرب اليقين الحقي إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ من الحكم والاحكام والتذكيرات والرموز والإشارات والعبر والأمثال المنبئ كل منها عن مرتبة اليقين الحقي تَرى ايها الرائي أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ وتسيل مِنَ الدَّمْعِ من غاية تلذذهم ونهاية تشوقهم بتلك المرتبة وذلك التلذذ والتشوق ناشئة مِمَّا عَرَفُوا بقدر وسعهم وطاقتهم مِنَ امارات مرتبة الْحَقِّ اليقين فكيف إذا تحققوا بها وتمكنوا في مقعد الصدق ولهذا يَقُولُونَ من غاية تحننهم وتشوقهم منادين مناجين قلقين حائرين خائفين راجين رَبَّنا آمَنَّا اى صدقنا وتحققنا بما وهبت لنا من مرتبتي العلم والعين وبعد ما تحققنا بتوفيقك بهما فَاكْتُبْنا بفضلك ولطفك مَعَ الشَّاهِدِينَ المتمكنين في مرتبة
اليقين الا وهم الذين قد حضروا ووصلوا بل اتصلوا وانقطع سيرهم وحاروا الى ان تاهوا وفنوا لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهة
وَيقولون ايضا من غاية تحسرهم وتعطشهم ما لَنا لا نُؤْمِنُ اى اى شيء عرض لنا ولحق بنا ان لا نصدق ولا نذعن بِاللَّهِ المتوحد المتجلى في الأكوان المستغنى عن مطلق الدلائل والبرهان وَلا نتبع ولا نمتثل لعموم ما جاءَنا مِنَ دلائل الْحَقِّ وبيناته وَمع ذلك قالوا راجين ذلك نَطْمَعُ ونرجو أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا بلطفه في مقعد صدق عنده مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ لتلك المرتبة العليا وبعد ما توجهوا الى الله وأخلصوا فيما أظهروا
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ العليم الحكيم الجواد الكريم وأورثهم بِما قالُوا راجين مناجين متمنين متحسرين جَنَّاتٍ منتزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعنى انهار المعارف والحقائق المنتشئة من جداول السنة ارباب الكشف واليقين ليحيى بها بلدة ميتا من قلوب المحجوبين المسجونين بسلاسل التقليدات وأغلال الدلائل الواهية والتخمينات الغير الكافية خالِدِينَ فِيها دائمين مستمرين ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله وَبالجملة ذلِكَ الفوز العظيم والفضل الكريم جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الواصلين الى مرتبة حق اليقين
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة ذاتنا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة عليها المبينة لطريقها أُولئِكَ البعداء المحبوسون في مضيق الإمكان أَصْحابُ الْجَحِيمِ وملازموها لا نجاة لهم منها ولا خلاص لهم من غوائلها ثم لما بالغ النصارى في الاعراض والترهب عن حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها الى حيث يحرمون لأنفسهم ما أحل الله لهم وافرطوا فيه الى حيث لم يبق مزاجهم على الاعتدال الذي جبلوا عليه أراد سبحانه ان ينبه على المؤمنين طريقا مستقيما وسبيلا واضحا متوسطا بين طرفي الإفراط والتفريط ليلا يؤدى الى تخريب المزاج وتحريفه إذ للحق سبحانه في إيجاد الأمزجة وإظهارها حكم وصنائع عجيبة وبدائع غريبة منتشئة من محض الحكمة المتقنة الجامعة لجميع الأوصاف الذاتية الإلهية من العلم والقدرة والارادة وغيرها من أمهات الأوصاف والأسماء
فقال مناديا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وصدقوا دين الإسلام وامتثلوا بجميع ما أمروا ونهوا عنه عليكم ان لا تُحَرِّمُوا لأنفسكم طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ العليم الحكيم لَكُمْ وأباحها عليكم في دينكم وَعليكم ان لا تَعْتَدُوا ولا تجاوزوا عن حدوده سبحانه ترهبا وتزهدا مفضيا الى الرياء والسمعة إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن مقتضى تدبيره وإصلاحه
وَبعد ما سمعتم ايها المؤمنون المكلفون ما سمعتم كُلُوا من طيبات مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ المتكفل لأرزاقكم حَلالًا غير مسرفين في أكلها طَيِّباً من كد يمينكم مقدار ما يقوم مزاجكم ويقويكم على اقامة أوامر الله وأحكامه وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ موقنون بوحدته مخلصون في توحيده واحذروا منه سبحانه عن مجاوزة حدوده وارتكاب محظوراته واعلموا ان خير قرينكم في دنياكم واخراكم تقواكم ورضاكم لذلك أوصاكم سبحانه ومن جملة الأمور التي تجب محافظتها عليكم في معاشكم لتكونوا من المتقين المبرورين عند الله ان لا تجترؤا على اليمين والحلف بالله في الوقائع والعقود سيما على الوجه الكذب وترويج الشيء قصدا واختيارا حتى لا تنحطوا عن مرتبة العدالة الفطرية الخلقية ولا تلحقوا بالأخسرين الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا الا ان يصدر الحلف عنكم هفوة بغتة بلا قصد على ما هو المتعارف عند العرب في أثناء اكثر الكلام لا والله بلا إغراء وتمويه فانه معفو عنكم
كما قال سبحانه لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ
المجازى على أعمالكم بِاللَّغْوِ الصادر منكم فِي أَيْمانِكُمْ بلا قصد وتغرير وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ ويعذبكم بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ اى بالعقود التي أوثقتموها بالإيمان الكاذبة وحنثتم فيها فعليكم بعد ما حنثتم ان تجبروها بالكفارة فَكَفَّارَتُهُ المسقطة لنكاله إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ يعنى لزمكم اطعام هؤلاء مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ على أَهْلِيكُمْ أَوْ لزمكم كِسْوَتُهُمْ اى كسوة هؤلاء على الوجه المذكور ايضا أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ على تفاوت رتبكم ودرجاتكم عسرا ويسرا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ منكم شيأ منها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ اى لزم عليه ان يصوم ثلثة ايام متتالية زجرا للنفس وجبرا لما انكسر من المروءة الفطرية تعمدا وقصدا ذلِكَ المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ جازمين حقيته وحنثتم فيها واما إذا حلفتم كذبا وزورا تعمدا وقصدا العياذ بالله فنكاله لا يسقط عنكم الا بخلوص التوبة والندامة المؤكدة وَبالجملة احْفَظُوا ايها المؤمنون أَيْمانِكُمْ التي حلفتم بها في مواقعها عن شوب الكذب والريب بل عن شوب الظن ايضا ان أردتم ان تبروا فيها وتقسطوا عند الله كَذلِكَ اى مثل ذلك الذي قد وعظتم به يُبَيِّنُ اللَّهُ المصلح لَكُمْ ولأحوالكم آياتِهِ الدالة على توحيده لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تتحققوا في مقام الشكر وتصرفوا عموم ما وهب لكم من العطايا الى ما اقتضته حكمته
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم محافظة حدود الله الموضوعة فيكم لإصلاحكم امرا ونهيا كراهة وندبا حلا وحرمة إِنَّمَا الْخَمْرُ اى مطلق ما يترتب عليه السكر وازالة العقل من اى شيء أخذتم وَالْمَيْسِرُ القمار مع اى شيء لعبتم وَالْأَنْصابُ اى الأصنام الموضوعة لتضليل العباد وَالْأَزْلامُ الموضوعة للاستعلام مما استأثر الله به من غيبه كل من المذكورات رِجْسٌ قذر نجس بواسطة وبلا واسطة إذ الكل مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ حاصل من تغريراته وتسويلاته فَاجْتَنِبُوهُ وابعدوا انفسكم عن كل منها واحفظوها منه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بما يرضى الله به عنكم ثم أشار سبحانه الى علل تحريمها ودلائلها
فقال إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ المضل المغوى أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الى حيث يفضى الى المقاتلة والمشاجرة وَيريد ايضا ان يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلا سيما عَنِ الصَّلاةِ التي هي معراج المؤمن نحو الحق فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ منها ايها المؤمنون أم مهلكون بارتكابها إذ لا واسطة بينهما ولا عذر
وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ المدبر لأموركم في عموم ما أمركم به ونهاكم عنه وَأَطِيعُوا ايضا الرَّسُولَ المبين لكم امر الله ونهيه وَاحْذَرُوا عن جميع ما حذركم الله ورسوله ان كنتم مؤمنين موقنين فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم بعد وضوح البرهان فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الظاهر والواضح وعلينا الحساب والأخذ والانتقام والعذاب والنكال. نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين
ثم قال سبحانه مرخصا لَيْسَ عَلَى المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم جُناحٌ حرج وضيق فِيما طَعِمُوا من المحرمات المذكورة قبل ورود تحريمها إِذا مَا اتَّقَوْا بعد الورود عن غضب الله وَآمَنُوا اى صدقوا تحريمها وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المرخصة المأمورة على وجهها بلا إخلال ثُمَّ اتَّقَوْا عن رخصها ايضا وَآمَنُوا اى أخلصوا بعزائمها ثُمَّ اتَّقَوْا عن عزائمها ايضا طالبين رضا الله وَأَحْسَنُوا في هذه التقوى ويعبدون الله كأنهم يرونه وَاللَّهُ المحسن المفضل لعباده يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ منهم الطالبين رضاه المتشوقين لقاءه ومن جملة الأمور المحرمة
عليكم في دينكم الاصطياد حال كونكم محرمين للحج
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ وليختبرنكم ويجربنكم اللَّهُ المصلح لأحوالكم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ وقت إحرامكم والصيد يغشاكم بحيث تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ من غاية قربه لكم هل تأخذونه وتشوشونه أم تحفظون امر التحريم وتراعون حقه وما ذلك الابتلاء والاختبار الا لِيَعْلَمَ اللَّهُ العليم الحكيم وليميز ويفصل منكم مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ اى عن انتقامه واخذه في يوم الجزاء عن من لا يخافه ولا يبالى بامره وشأنه وان كان الكل عنده معلوما مميزا فَمَنِ اعْتَدى وتجاوز بَعْدَ ذلِكَ اى بعد ما سمع من الحق ما سمع فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وعقاب مؤلم عظيم باعتدائه واجترائه
ثم اردفه سبحانه بما يدل على جبره بعد انكساره رفعا للحرج عن عباده مصرحا بتحريمه ونهيه أولا فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَالحال انه أَنْتُمْ حُرُمٌ محرمون للحج وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ في اوقات إحرامه مُتَعَمِّداً قاصدا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يعنى قد لزمه جبرا لما انكسر ذبح مثل ما قتل من النعم الأهلي في النفع والفائدة لسد جوعة الفقراء والمساكين يَحْكُمُ بِهِ اى بمماثلته ومقابلته ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ حال كون ذلك المجازى ناويا به هَدْياً اى مهدى به يذبح لله وفي سبيله طلبا لرضاه بالِغَ الْكَعْبَةِ اى عندها ويتصدق به للفقراء والمساكين أَوْ لزم عليه كَفَّارَةٌ وهي طَعامُ مَساكِينَ يعنى يشترى بثمن ذلك المثل الذي يحكم به ذوا عدل طعاما ويتصدق به للفقراء ويعطى كل واحد منهم مدا من الطعام أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً يعنى او لزمه صيام مدة مساوية لعدد الفقراء إذا اطعمتم بثمنه عليهم سر كل تلك التكاليف لِيَذُوقَ المسرف الجاني وَبالَ أَمْرِهِ اى ثقله وشدته وفظاعته ووخامة عاقبته إذ هو ابطال لصنع الحق سيما حين حماه الحق ونهى عن التعرض له وعليكم ان تحافظوا على النهى بعد الورود ولا تخافوا عما قبله إذ عَفَا اللَّهُ عنكم عَمَّا سَلَفَ منكم من الجرائم ومحا عن ديوان أعمالكم وأسقط عن الحساب ما اكتسبتم من الآثام حين كونكم تائهين في بيداء الغفلة قبل ورود النهى وَمَنْ عادَ عليها بعد ما نبه ونهى فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ العزيز المقتدر مِنْهُ ويؤاخذه عليه ويحاسبه عنه ويجازيه على مقتضى حسابه وَلا تغتروا بحلمه سبحانه وامهاله ومجاملته إذ اللَّهُ المستغنى في ذاته عن آثار جميع الشئون والنشأة عَزِيزٌ غالب غيور متكبر قهور ذُو انْتِقامٍ عظيم وبطش شديد على من تخلف عن حكمه وأصر عليه. نعوذ بفضلك من عدلك يا ذا القوة المتين
أُحِلَّ لَكُمْ ايها المحرمون صَيْدُ الْبَحْرِ يعنى مائي المتولد مطلقا الا ما تستكرهه طباعكم وَطَعامُهُ اى اكله قد صار مَتاعاً لَكُمْ تتمتعون به مجانا وَكذا لِلسَّيَّارَةِ مطلقا للتجارة او الزيارة او غيرها يتزودون منه متى شاءوا وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً اى من أول مدة إحرامكم من الميقات الى أول الحل وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وتساقون ايها المؤمنون للعرض والحساب وعليكم الحذر والاتقاء عن التعرض بمصنوعاته بقهر وغلبة في عموم أحوالكم سيما في أوان الحج عند لبس الإحرام الذي هو كفن الفناء المعنوي والموت الإرادي الحقيقي عند ذوى الألباب الناظرين الى لب الاحكام وزبدتها فكما لا يبقى عند عروض الموت الصوري للقوى والأوصاف والآلات الظاهرة آثار وافعال بل قد تعطلت وانمحت وتلاشت بحيث لا يتوقع منها ذلك أصلا كذلك في الموت الإرادي الذي هو عبارة عن حج العارف بالله لا بد من إحرامه
وتعطيل أعضائه وجوارحه عن مقتضيات الأوصاف البشرية والقوى الحيوانية وعن جميع لوازم التعينات الجسمانية والروحانية والغيبية والشهادية والظاهرية والباطنية مطلقا وبالجملة عن عموم الإضافات والكثرات الحاجبة لصرافة الوحدة الذاتية المستهلك دونها جميع ما يتوهم من أشباح الاظلال والعكوس والأمثال لذلك صار الموت الإرادي أشد في الانمحاء وأغرق في الفناء من الموت الصوري عند العارف المكاشف المشاهد إذ منتهى الأمر في الموت الإرادي والفناء الاختياري الى العدم الصرف والفناء المحض المطلق الذي ما شم رائحة الوجود أصلا فكيف تخلل الموت والحيوة والوجود والعدم للوجود الأزلي الأبدي والبقاء السرمدي الذي لا يعرضه الموت والفوت مطلقا تاهت في بيداء صمديتك انظار العقل واراؤه
واعلموا ايها الأحرار المكلفون بشعائر الحج وأركانه انما جَعَلَ وصير اللَّهِ الحكيم المستغنى بذاته عن عموم الأمكنة والجهات وعن الحلول فيها مطلقا الْكَعْبَةَ المكعبة المعينة في ارض الحجاز الْبَيْتَ الْحَرامَ اى المكان الذي يحرم فيه اكثر ما يحل في غيرها من الأمكنة بل جميعها عند العارف ليكون قِياماً لِلنَّاسِ اى محلا يقومون بها ويتيقظون بأركانها ومناسكها ويتنبهون بآدابها ومشاعرها عن منام الغفلة ورقود النسيان وَكذا قد صير سبحانه الشَّهْرَ الْحَرامَ ميقاتا واوانا لزيارتها وطوافها ليقوموا فيها بتهيئة اسباب الفناء وتخلية الضمير عن الميل الى الغير والسوى مطلقا وَايضا قد عين سبحانه فيها الْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ يعنى الذبائح والقرابين جبرا لما انكسر من رعاية نسكه وآدابه لئلا يتقاعدوا عن إتمامها ذلِكَ اى جعلها وتصييرها مرجعا لقاطبة الأنام وقبلة لهم بحيث يجب عليهم التوجه نحوها من كل مكان سحيق وفج عميق انما هو لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المحيط بذرائر الأكوان يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما فِي السَّماواتِ اى علويات الأعيان الثابتة وَما فِي الْأَرْضِ اى سفليات عالم الطبائع والأكوان وَلتعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المنزه المتعالي عن ان يحاط بتجلياته ومجاليه بِكُلِّ شَيْءٍ مما استأثر الله باطلاعه إذ ما يعلم جنوده الا هو عَلِيمٌ بحيث لا يعزب عن علمه وحضوره شيء. كلت الألسن عن تفسير صفتك وانحسرت العقول عن كنه معرفتك فكيف يوصف كنه صفتك يا رب سيما بلسان عبادك
وبالجملة اعْلَمُوا ايها المكلفون المتوجهون نحو الحق وزيارة بيته أَنَّ اللَّهَ المطلع باعمال عموم عباده وبنياتهم فيها شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام اليم العذاب على من تساهل وتكاسل فيها فعليكم ان لا تغتروا بامهاله بمقتضى لطفه وجماله بل احذروا عن سطوة سلطنة قهره وجلاله وَاعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ ستار لذنوبهم رَحِيمٌ لهم يرحمهم بمقتضى جماله ونواله يعنى عليكم ان تكونوا مقتصدين معتدلين بين طرفي الخوف والرجا لتكونوا من زمرة عباده الشاكرين وان جادلوا معك يا أكمل الرسل وعاندوك يعنى اهل البدع والأهواء الفاسدة في هذه الإلهامات والاخبارات الإلهية المترشحة من بحر الحكمة لا تبال بهم ولا بمعاندتهم ومعاداتهم بل قل لهم قولا صادرا عن محض الحكمة
ما عَلَى الرَّسُولِ الهادي للخلق الى الحق باذنه إِلَّا الْبَلاغُ والتبليغ على الوجه المأمور والأسماع والقبول مفوض الى الله والتوفيق من لدنه وَاللَّهُ المطلع لضمائركم يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ تظهرون وتعلنون من الايمان والإطاعة وَما تَكْتُمُونَ وتخفون من الكفر والبدعة
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ عند الله وَلَوْ أَعْجَبَكَ ايها المعتبر المتعجب كَثْرَةُ الْخَبِيثِ إذ لا عبرة بالقلة والكثرة
بل العبرة انما هي بالجودة والردائة في الأعمال والأفعال والمواجيد والأحوال فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور حق تقاته يا أُولِي الْأَلْبابِ الناظرين في لب الأمور المعرضين عن قشورها لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون من عنده فوزا عظيما بعد ما تجودون أعمالكم بالإخلاص والتقوى
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَسْئَلُوا ولا تقترحوا عن رسولكم سيما عَنْ أَشْياءَ قبل ورود الوحى إِنْ تُبْدَ وتظهر لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وتغمكم وتورث فيكم حزنا وكآبة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ وفي زمان نزول الوحى والإلهام تُبْدَ لَكُمْ وتظهر عندكم بلا سوء وحزن وبالجملة عَفَا اللَّهُ عنكم بمقتضى لطفه عما سلف عَنْها وعن أمثالها قبل ورود النهى فعليكم ان تحافظوا عليها بعد ورود النهى وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده غَفُورٌ لهم عما سبق من ذنوبهم قبل ورود الزاجر حَلِيمٌ ايضا لا يعجل العقوبة لما اكتسبوا بعدها الى ان يتوبوا
واعلموا انه قَدْ سَأَلَها عنها وعن أمثالها قَوْمٌ مثلكم من الذين مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ عن أنبيائهم ثُمَّ بعد ما ظهر ما اقترحوا عنه أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ جاحدين مكذبين لأنبيائهم بعد ظهورها لعدم امتثالهم وانقيادهم بما ظهر وعدم أعمالهم بمقتضاه
واعلموا ايها المؤمنون ما جَعَلَ اللَّهُ العليم الحكيم وما وضع وشرع لكم في دينكم هذا ما في الجاهلية الاولى مِنْ بَحِيرَةٍ وهي انهم إذ أنتجت ناقتهم خمسة ابطن خامسها ذكر بحروا اذنها وشقوها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحمل ولا تحلب ابدا فسموها بحيرة وَلا سائِبَةٍ وهي انهم قالوا ان شفيت فناقتى سائبة اى ممنوعة عن الانتفاع بها كالبحيرة وَلا وَصِيلَةٍ وهي انهم إذا ولدت شاتهم اثنى كان لهم وإذا ولدت ذكرا كان لآلتهم وإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد يتبعون الأنثى بالذكر ويتقربون بهما وسموها وصيلة وَلا حامٍ وهو انهم إذ أنتجت من صلب فحل عشرة ابطن حرموا انتفاعه بالكلية ولم يمنعوه من الماء والمرعى وقالوا قد حمى ظهره ويسمونه حاميا وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اعرضوا عن الايمان والإطاعة يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ المنزه عن عموم النقائص الْكَذِبَ يعنى ينسبون اليه أمثال هذه المزخرفات الباطلة افتراء ومراء وَبالجملة أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الله ولا يعرفونه ولا يفهمونه أصلا ولا يعلمون حق قدره وقدر حقيته ومقتضى حكمته مطلقا
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح تَعالَوْا هلموا إِلى امتثال ما أَنْزَلَ اللَّهُ المصلح لأحوالكم وَإِلَى متابعة الرَّسُولِ الهادي لكم المنقذ عن ورطة الضلال قالُوا من غاية انهماكهم في الغفلة حَسْبُنا ويكفينا ما قد وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وأسلافنا قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا في شأنهم إلزاما وتبكيتا أَيقلدون آباءهم ويقتفون أثرهم وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من أنفسهم وَلا يَهْتَدُونَ ايضا طريقا واسعا مستقيما بهدى هاد نبيه وارشاد مرشد منبه مع انهم عقلاء من اهل التمييز والاختبار فالعار كل العار فاعتبروا يا اولى الأبصار
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ ان تحفظوا أَنْفُسَكُمْ وتلازموها على الطاعات وتداوموها على التوجه نحو الحق في عموم الأوقات والحالات ومالكم الاحفظ انفسكم عن ورطة الهلاك والضلال وبعد ما حفظتم أنتم انفسكم لا يَضُرُّكُمْ ضلال مَنْ ضَلَّ عن طريق الحق إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أنتم اليه سبحانه واعلموا ايها المؤمنون إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الوجود والتحقق مَرْجِعُكُمْ ومرجعهم ايضا جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ وإياهم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دنياكم من شر وخير ومعصية وطاعة ويجازيكم
عليها ان خيرا فخير وان شرا فشر
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من جملة الأمور التي تجب محافظتها عليكم شَهادَةُ بَيْنِكُمْ اى شهادتكم واشهادكم بين بنى نوعكم سيما إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ عليكم ان تشهدوا حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ اى من رجالكم أقاربكم وعشائركم أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ اى من أجانب المسلمين او من اهل الذمة إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ وسافرتم فِي الْأَرْضِ متباعدين عن الأقارب والعشائر فَأَصابَتْكُمْ فيها مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما اى الشاهدين من الأجانب وتقفونهما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ عند الجماعة فَيُقْسِمانِ اى الشاهدان بِاللَّهِ على رؤس الاشهاد إِنِ ارْتَبْتُمْ وشككتم ايها الوارثون في شهادتهما بانا لا نَشْتَرِي بِهِ ولا نرتشى بشهادتنا هذه ثَمَناً ولا نشهد بالزور وَلا سيما لَوْ كانَ المقسم له ذا قُرْبى اى صاحب قرابه وَايضا يقسمان تغليظا وتوكيدا بانا لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ العالم بالسرائر والخفايا التي هي وديعة الله عندنا بل يؤديها على وجهها بلا تحريف وكتمان وبلا زيادة ونقصان وان كتماها وحرفناها ظلما وزورا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ المعترفين لأنفسنا إثما عظيما
فَإِنْ عُثِرَ اى أشعر واطلع عَلى أَنَّهُمَا اى الشاهدين قد اسْتَحَقَّا إِثْماً بواسطة تحريفهما او كتمانهما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما اى يقسم آخران بدل الشاهدين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ يعنى من الورثة اى المشهورين لهم بل هما الْأَوْلَيانِ الأحقان بالتحليف من الشاهدين فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ واصدق مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا وما تجاوزنا في هذه الشهادة عن الحق أصلا وان اعتدينا فيها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العدالة الإلهية التي وضعها الحق بين عباده
وبالجملة ذلِكَ التخفيف والتغليظ أَدْنى واقرب الى الاحتياط من أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ ويؤدوها عَلى وَجْهِها اى على وجه يحملونها من غير تحريف وخيانة فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ على المدعين بَعْدَ أَيْمانِهِمْ الكاذبة فيفتضحوا بظهور الخيانة على رؤس الملأ وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ايها الشهود واحذروا عن الكتمان والتحريف وَاسْمَعُوا عموم ما يقول المحتضر سمع تحفظ وتيقن وادوه على وجهه وَاللَّهُ المطلع بضمائر عباده لا يَهْدِي الى قضاء وحدته الذاتية الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى او امره ومنهياته واذكروا وتذكروا واعتبروا من خطاب الله وعتابه لرسله لاجلكم ايها المسرفون المفرطون
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ المستوي على عروش عموم المظاهر بالاستيلاء التام والعدالة الكاملة الرُّسُلَ في يوم العرض الأكبر فَيَقُولُ لهم على سبيل التوبيخ ماذا أُجِبْتُمْ اى باى شيء أجبتم أنتم ايها الرسل من قبل هؤلاء العصاة المتجاوزين عن حدودنا الموضوعة فيهم قالُوا اى الرسل معتذرين متذللين لا عِلْمَ لَنا يا ربنا بحالهم ولا عذر لنا نعتذر عنهم إِنَّكَ بذاتك وأسمائك واوصافك بل أَنْتَ بخصوصيتك واستقلالك إذ لا غير في الوجود معك عَلَّامُ الْغُيُوبِ التي غابت عن عقولنا وأبصارنا واسماعنا فلك الحكم والأمر في ملكك وملكوتك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد
اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك وقت إِذْ قالَ اللَّهُ المتردي برداء العظمة والكبرياء يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ امتنانا عليه اذْكُرْ نِعْمَتِي التي أنعمت عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ وأقم بشكرها وأد حقها سيما إِذْ أَيَّدْتُكَ اى قويت عضدك وخصصتك بِرُوحِ الْقُدُسِ اى بالنفس الزكية القدسية اللاهوتية المطهرة عن شوب القوى الناسوتية مطلقا لذلك أنت
تُكَلِّمُ النَّاسَ حال كونك صبيا محبوسا فِي الْمَهْدِ وَايضا حال كونك كَهْلًا على السوية بلا تفاوت يعنى قد جعلت لك جميع كمالاتك بالفعل في عموم اوقات وجودك بلا تفاوت بين طفولتك وكهولتك وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ اى التدابير المتعلقة لظواهر الشرع وَالْحِكْمَةَ المتعلقة لبواطنها واسرارها وَالتَّوْراةَ الجامعة بين الظاهر والباطن والحكم والاحكام وَالْإِنْجِيلَ الغالب فيه ما يتعلق بالباطن وَإِذْ تَخْلُقُ اى تصور وتقدر أنت مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي اى بمقتضى امرى وتعليمي إياك فَتَنْفُخُ فِيها من روحي الذي قد أيدتك به ونفخته فيك فَتَكُونُ طَيْراً طائرا قد طارت بِإِذْنِي وَإذ تُبْرِئُ وتبصر أنت الْأَكْمَهَ المكفوف العينين بإلقاء ريقك في عينيه وَإذ تشفى الْأَبْرَصَ ايضا بدعائك له بِإِذْنِي وَأعظم من الكل إِذْ تُخْرِجُ أنت بإعانة منا لك الْمَوْتى القديمة من قبورهم وتحييهم بتعويذك عليهم ونداءك إياهم بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ ومنعت شر بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ وقت إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحات والمعجزات الباهرات فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من خبث باطنهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وما هو الا ساحر عليم
وَإِذْ أَوْحَيْتُ وألهمت إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي عيسى بن مريم قالُوا عن صميم فؤادهم آمَنَّا بك وبرسولك وَاشْهَدْ أنت يا ربنا بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ منقادون بدينك ونبيك نستودع عندك يا ربنا هذه الشهادة الى وقت الحاجة
اذكر إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ لك حين أرادوا الترقي من مرتبة العلم الى العين يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أضافوه اليه لتحققه في مرتبة العين والحق أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً رزقا معنويا حقيقيا مِنَ السَّماءِ اى من جانب العلو الذي هو مرتبة العين والحق فلما سمع عيسى منهم ما سمع ايس منهم فقطع أمرهم واوجس في نفسه خيفة من الله العزيز الغيور لأنهم ليسوا في تلك الحالة مستعدين للكشف والشهود لذلك قالَ عيسى اتَّقُوا اللَّهَ المتعزز بكمال العظمة والكبرياء عن أمثال هذه الأسئلة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بكمال قدرته وارادته واختياره واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته
قالُوا معتذرين ملتجئين نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ اى نذوق ونستغذي مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وتتمكن أقدامنا في جادة توحيد ربنا وَنَعْلَمَ يقينا عينيا أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في جميع ما أرشدتنا وهديتنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ اى من اهل الشهود والحضور بلا حجاب العلم في البين فلما أحس عيسى ابتلاء الله وافتتانه إياهم بادر الى المناجاة مع الله
حيث قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً فرحا وسرورا لِأَوَّلِنا اى متقدمينا وَآخِرِنا اى متأخرينا وَتكون آيَةً نازلة مِنْكَ ننكشف بها بتوحيدك زيادة انكشاف وَارْزُقْنا من لدنك حظا يخلصنا من ظلام اظلالنا وغيوم هوياتنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ على من سبقت عنايتك من عبادك
قالَ اللَّهُ المطلع لاستعداداتهم إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وان لم تكونوا قابلين لها فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ اى بعد نزولها مِنْكُمْ فَإِنِّي بعزتي وجلالي وبكمال حولي وقوتي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ اى لا أعذب مثله أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فكفروا بعد ذلك فمسخوا عن لوازم الانسانية بالمرة وردوا الى مرتبة أرذل الحيوانات واخبثها العياذ بالله من غضب الله
وَاذكر إِذْ قالَ اللَّهُ المتعزز بكمال العظمة والكبرياء حين فشا غلو النصارى في حق عيسى وامه ونسبتهما الى الألوهية وقولهم بالتثليث والأقانيم والحلول والاتحاد معاتبا مخاطبا
يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد واعبدوني مثل عبادته أم اتخذوك أولئك المسرفون المفرطون الها من تلقاء أنفسهم قالَ عيسى منزها لله مبعدا نفسه عن أمثاله سُبْحانَكَ اى انزهك تنزيها بليغا عن ان يكون لك شريك ما يَكُونُ وكيف يصح ويليق لِي أَنْ أَقُولَ ما اى قولا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ لائق جائز ان أقول به بل ادوره في خلدي سيما بعد كمال لطفك وإحسانك الى ونهاية فضلك وامتنانك على يا رب وبالجملة إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ اى هذا القول او عزمت عليه حلية او اجلته في صدري فَقَدْ عَلِمْتَهُ البتة يا ربي إذ تَعْلَمُ أنت بعلمك الحضوري عموم ما فِي نَفْسِي وَانا لا أَعْلَمُ شيأ من ما فِي نَفْسِكَ من مقتضيات ذاتك وصفاتك وأسمائك وكمالات شئونك وتجلياتك الا ما علمتني إِنَّكَ أَنْتَ وحدك بخصوصيتك عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا احد غيرك يعلم غيبك وانما خاطبه سبحانه بما خاطبه وعاتبه بما عاتبه مع ان الأمر كله معلوم عنده مكشوف لديه حاضر دونه ليوبخ ويقرع على الغالين المتخذين لعلهم يتنبهون بسوء صنيعهم وقبح معاملتهم مع الله المتوحد المتفرد المنزه بذاته عن الأهل والولد الصمد المقدس الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد
ثم بسط عيسى عليه السّلام الكلام مع ربه تشفيا وتشوقا فقال ما قُلْتُ لَهُمْ يا ربي قولا إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وبتبليغه وإيصاله إليهم وهو أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي هو رَبِّي قد أوجدني من كتم العدم ورباني بأنواع اللطف والكرم وَرَبَّكُمْ ايضا أوجدكم من العدم مثلي ورباكم كذلك فيكون نسبة إيجاده سبحانه وتربيته على وعليكم على السواء إذ ما ترى من تفاوت في خلقه وَقد كُنْتُ يا ربي بمقتضى أمرك ووحيك وارسالك عَلَيْهِمْ شَهِيداً حاضرا حافظا احفظهم بتوفيقك عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ورفعتني بجودك من حضيض عالم الناسوت الى ما رفعتني من حظائر عالم لاهوتك كُنْتُ بذاتك وأسمائك واوصافك كما كنت قبل ذلك أَنْتَ الرَّقِيبَ المحافظ عَلَيْهِمْ المتولى لأمورهم اصالة وتضلهم وتهديهم وترشدهم وتغويهم وَبالجملة أَنْتَ وان تنزهت وتقدست في ذاتك عن عموم الأمكنة والأكوان عَلى كُلِّ شَيْءٍ قدير من الأمور الكائنة فيها شَهِيدٌ حاضر غير مغيب إذ لا يجرى في ملكك وملكوتك الا ما تشاء حسب شئونك وتجلياتك المترتبة على أسمائك وصفاتك
وبالجملة إِنْ تُعَذِّبْهُمْ عدلا منك فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ فلك ان تتصرف فيهم على اى وجه تتعلق ارادتك ومشيتك به وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فضلا وطولا فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ومنعه عنه بلا مشاركة ولا مظاهرة. ثم لما بث وبسط عيسى عليه السّلام مع الله الكلام وبالغ في التفويض والتسليم والرجوع اليه سبحانه في عموم الأمور سيما في امر قومه
قالَ اللَّهُ المطلع لعموم ما في استعدادات عباده ولجميع ما يئول اليه عواقب أمورهم مناديا يا عيسى هذا اى يوم الجزاء المعد للعرض والحساب وتنقيد الأعمال يوم لا يكتسب فيه الخير ولا يستجلب النفع ولا يدفع الضر بل يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ اى الذين صدقوا في النشأة الاولى صِدْقُهُمْ السابق فيها لَهُمْ اى لأولئك الصادقين السابقين في هذه النشأة الاخرى التي هي نشأة الجزاء جَنَّاتٌ اى منتزهات المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة بمياه العلوم اللدنية التي هي عبارة عن المكاشفات والمشاهدات المثمرة للحياة الازلية الابدية والبقاء
السرمدي خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون عنها أصلا وبالجملة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لتحققهم بمقام الصدق والإخلاص فيما مضى وَرَضُوا ايضا عَنْهُ سبحانه لإيصالهم الى غاية ما جبلوا لأجله بلا ترقب وانتظار ذلِكَ الوصول والتحقق هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل العميم لأهل العناية الفائزين من عنده بهذه المرتبة العلية ولا تستبعد عن الله أمثال هذه الكرامات سيما مع ارباب المحبة والولاء الباذلين مهجهم في سلوك طريق الفناء فيه
إذ لِلَّهِ المستغنى عن عموم الأماكن والأكوان مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إيجادا واعداما وَما فِيهِنَّ من الكوائن والفاسدات فله التصرف فيها بالاستقلال كيف يشاء حسب ارادته واختياره وَهُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من عموم مراداته ومقدوراته قَدِيرٌ فله ان يوصل خلص عباده الى فضاء فنائه بافنائهم عن هوياتهم الباطلة وابقائهم بهوية الحق الحقيقية السارية في عموم الأكوان في كل يوم وآن وشأن
خاتمة سورة المائدة
عليك ايها المحمدي المتوجه لمرتبة الفناء المثمرة للبقاء الأبدي شكر الله سعيك وأوصلك الى غاية مبتغاك ان تجعل قرينك الرضا في جميع ما جرى عليك من مقتضيات القضاء إذ كل ما يجرى في عالم الكون والفساد انما هو على مراد الله وبمقتضى مشيئته وارادته حسب تجلياته الجمالية والجلالية واللطفية والقهرية. والعارف إذا تحقق بمقام الرضا الذي هو نهاية مراتب العبودية فقد خلص عن قيود الإضافات مطلقا ومتى ارتفعت الإضافات لا يشوشه لا السراء ولا الضراء ولا اللذة ولا العناء ولا الفقر ولا الغناء إذ كل ذلك من لوازم الإمكان وامارات البعد والخذلان. فعليك ان تصفى نفسك من جميع الأمراض الباطنة من العجب والرياء والرعونة والهوى وتلازم العزلة والاعراض عن أبناء الدنيا وعن الالتجاء إليهم والمخالطة معهم وتقلل عن حوائجك وحظوظك سوى سد جوعة وكن ولباس خشن كيف اتفق ولك ان تروض نفسك في زاوية الخمول وكهف القناعة ومنزل الفراغة وإياك إياك ان تصاحب مع اهل البدع والأهواء وتراجعهم سيما في الأمور التي تتعلق بالمعاش المستعار وبالجملة كن في ورطة الدنيا كانت غريب ليس لك ألف وموانسة مع من فيها وما فيها او كعابر سبيل يروح فيها ويغدو بلا تمكن وقرار وبالجملة عد نفسك من اصحاب القبور وافعل فيها مثل ما تشاهد منهم بالنسبة إليها بل موتك الإرادي لا بد ان يكون أعرق في قطع التعلق وترك المألوف عن الموت الصوري لان اكثر الأموات بالموت الصوري يخرجون من الدنيا متحسرين بحسرة عظيمة والعارف المتحقق بمرتبة الموت الإرادي له مسرة عظيمة ولذة دائمة بحيث لو عاد على ما عليه كان يغم غما شديدا بل قد هلك حزنا وكآبة. فلك ان تشمر ذيلك عنها وعن لذاتها بالمرة وتداوم الاستفادة والاسترشاد من كتاب الله وأحاديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكذا من ملتقطات المشايخ العظام التي استنبطوها منهما بسعي بليغ وجد تام شكر الله مساعيهم وتصرف عنان عزمك عما سواها من الأباطيل الزائغة المنسوبة الى اصحاب الحجج والاستدلالات الضالين بتغريرات عقولهم القاصرة وتزويرات اوهامهم الخاسرة وخيالاتهم الباطلة عن منهج الحق ومحجة اليقين جعلنا الله ممن أيد من عنده فتأيد واطلق عنان عزمه نحو الحق ولم يتقيد بمنه وجوده
Icon