تفسير سورة الحديد

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها تسع وعشرون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ سبح لله ما في السموات والأرض ﴾ نزه الله تعالى عما لا يليق به جميع العوالم. فتنزيه الملائكة والمؤمنين من الثقلين بلسان المقال، وتنزيه باقي الخلق بلسان الحال ؛ بمعنى دلالتها على وجوده وتنزيهه. فإن كل الموجودان دالة بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم، المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص. خاضعة لسلطانه وتصرفه ؛ وهو المراد من قوله تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " ١ ؛ من سبح في الأرض والماء يسبح : ذهب وأبعد فيهما، واللام للتأكيد ؛ كما في شكرت له. وعبر هنا وفي الحشر والصف بالماضي، وفي الجمعة والتغابن بالمضارع، وفي الأعلى بالأمر، وفي الإسراء بالمصدر ؛ استيفاء للجهات المشهورة لهذه المادة، وإعلاما بتحقق تسبيح الكائنات لخالقها في جميع الأوقات.
١ آية ٤٤ الإسراء..
﴿ هو الأول ﴾ أي السابق على جميع الموجودات، من حيث إنه موجدها ومحدثها ؛ فهو موجود قبل كل شيء بغير حد ولا بداية. ﴿ والآخر ﴾ أي الباقي بعد فنائها. جمع الموجودات الممكنة إذا نظر إليها في ذاتها، وقطع النظر عن مبيقها – فانية ؛ والله تعالى هو الباقي بعد كل شيء بغير نهاية.
﴿ والظاهر ﴾ أي الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة. أو الغالب العالي على كل شيء. ﴿ والباطن ﴾ أي
المحتجب بكنه ذاته عن إدراك الأبصار والحواس والعقول. أو العالم بما بطن – خفي – من الأمور. يقال : أنت أبطن بهذا الأمر، أي أحبر به وأعلم.
﴿ خلق السموات... ﴾ [ آية ٥٤ الأعراف ص ٢٦٢ ]. ﴿ ثم استوى على العرش ﴾ استواء يليق به سبحانه ! بلا كيف ولا تمثيل ولا تشبيه [ آية ٥٤ الأعراف ]. ﴿ يعلم ما يلج في الأرض... ﴾ [ آية ٢ سبأ ص ١٩٣ ]. ﴿ وهو معكم ﴾ أي عالم بكم أينما كنتم. فالمعية مجاز عن العلم بعلاقة السببية ؛ والقرينة السباق واللحاق مع استحالة الحقيقة. وقد أول السلف هذه الآية بذلك ؛ كما أخرجه البيهقي عن ابن عباس والثوري. وفي البحر : أن الأمة مجمعة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات لاستحالتها.
﴿ يولج الليل في النهار... ﴾ [ آية ٢٧ آل عمران ص ١٠٢ ].
﴿ وهو عليم بذات الصدور ﴾ أي بمكنوناتها من نيات ومعتقدات وخير وشر.
﴿ ولله ميراث السموات والأرض ﴾ أي يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد مال ولا ملك. والجملة حال من فاعل " لا تنفقوا ". أو من مفعوله المعلوم مما تقدم.
﴿ لا يستوي منكم من أنفق... ﴾ هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
﴿ يقرض الله قرضا حسنا ﴾ حث من الله تعالى على الإنفاق في سبيله، مؤكد للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه. والقرض الحسن : الإنفاق من المال الحلال، مع صدق النية وطيب النفس، وابتغاء وجه الله تعالى به ؛ دون رياء أو سمعة، أو من أو أذى، ومع تحرى أكرم الأموال وأفضل الجهات. والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا : قد أقرض ؛ وسمى قرضا لأن القرض إخراج المال لاسترداد البدل. والله تعالى يبدله أضعافا.
﴿ بين أيديهم ﴾ أي أمامهم. ﴿ وبأيمانهم ﴾ أي عنها. والمراد في جميع جهاتهم ؛ وذكرت الأيمان لشرفها.
﴿ انظرونا نقتبس من نوركم ﴾ أي انتظرونا لنلحق بكم نصب شيئا من نوركم نستضئ به. وذلك أنه يسرع بالخلص إلى الجنة على نجب فيقول المنافقون : انتظرونا لأننا مشاة لا نستطيع لحوقكم. وقرئ " أنظرونا " بفتح الهمزة وكسر الظاء ؛ من الإنظار بمعنى الانتظار ؛ أي انتظرونا. والاقتباس في الأصل : طلب القبس، أي الجذوة من النار ؛ وتجوز به عما ذكر. ﴿ فضرب بينهم بسور ﴾ أي
فضرب بين المؤمنين والمنافقين سور حاجز. قيل : هو الحجاب المذكور في سورة الأعراف.
﴿ فتنتم أنفسكم ﴾ محنتموها وأهلكتموها بالنفاق. ﴿ وتربصتم ﴾ أي انتظرتم بالمؤمنين الحوادث المهلكة. يقال : تربص بفلان، انتظر به خيرا أو شرا يحل به. والمراد هنا الثاني. ﴿ وغرتكم الأماني ﴾ خدعتكم أطماعكم الفارغة، وآمالكم الكاذبة ؛ فصدتكم عن سبيل الله وأضلتكم. ﴿ وغركم بالله الغرور ﴾ خدعكم الشيطان بسبب سعة رحمة الله تعالى ؛ فأطمعكم في النجاة من العقوبة بنحو قوله : إن الله عفو كريم لا يعذبكم، وإن الله محسن وحليم. ولا يزال الشيطان بالإنسان يغره حتى يوقعه في الهلكة.
﴿ هي مولاكم ﴾ أي النار أولى بكم. والأصل : هي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ؛ كما يقال : هو مئنة المكرم، أي مكان لقول القائل : إنه لكريم. أو ناصركم، من باب قولهم :* تحية بينهم ضرب وجيع * أي لا ناصر لكم إلا النار. والمراد : نفى الناصر قطعا بعد نفي أخذ الفدية وخلاصهم بها من العذاب. ونظيره قوله تعالى : " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل " ١.
١ آية ٢٩ الكهف..
﴿ ألم يأن للذين آمنوا... ﴾ عتاب لطائفة من المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه، بعد أن أصابوا من لين العيش ما أصابوا. أي ألم يأت الوقت الذي تلين فيه قلوبهم فتخضع وتذل لذكر الله والقرآن ! ؟ مضارع أنى الشيء – كرمى – أنيا وأناء – بالفتح – وإني – بالكسر -، حان أناه أي وقته ؛ فهو معتل حذفت منه الياء للجازم. وقرئ " يئن " كيبع، بمعنى يحن ويقرب ؛ مضارع آن أينا – من باب باع – أي حان.
﴿ اعلموا أن الله يحيي الأرض... ﴾ تمثيل لإحياء القلوب القاسية بذكر الله وآياته وتلاوة كتابه – بإحياء الأرض الموات بالغيث ؛ للترغيب في الخشوع، والتحذير من القساوة والغلظة.
﴿ وأقرضوا الله... ﴾ أي والذين أقرضوا ؛ وحذف الموصول لدلالة ما قبله عليه.
﴿ أولئك هم الصديقون.. ﴾ أي هم في حكمه تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة، ورفعه الدرجة. ﴿ ولهم أجرهم ونورهم ﴾ أي لهم مثل أجرهم ونورهم يوم القيامة. وناهيك بما للصديقين والشهداء من الأجر والنور في ذلك اليوم !. وحذف ما يفيد التشبيه في الجملتين ؛ للتنبيه على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد.
﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو... ﴾ بيان لحال الحياة الدنيا التي ركن إليها الكفار المكذبون، واطمأنوا بها، وقصروا همهم عليها، ولم يبالوا بأنها من المحقرات التي لا يركن إليها العقلاء. إذ هي لعب لا ثمرة له سوى التعب، ولهو شاغل عما يعنى ويهم، وزينة لا يحصل منها شرف ذاتي ؛ كالملابس الجميلة والمراكب البهية. وتفاخر بالأنساب والعظام البالية، وتكاثر بالعدد والعدد. ﴿ كمثل غيث أعجب الكفار نباته... ﴾ تقرير لما وصفت به الدنيا، وتمثيل لها في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها وقلة جدواها ؛ للتنفير عن العكوف عليها، وجعلها الغاية والمقصد الأعلى – بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث، ثم هاج – أي – يبس – بعاهة بعد نضارته. أو ثار ونما إلى أقصى ما يتأتى له ؛ فاصفر بعد الخضرة ؛ ثم صار حطاما هشيما من اليبس. و " كمثل " خبر مبتدأ محذوف ؛ أي مثلها كمثل. و " الكفار " الزراع الذين يحرثون الأرض ويبذرون فيها البذر.
وسموا كفارا من الكفر وهو الستر ؛ لسترهم البذر في الأرض للإنبات. وقيل : هم الكافرون بالله سبحانه. وخصوا بالذكر لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا واغترارا بها. و " يهيج " [ آية ٢١ الزمر ص ٢٥٣ ].
﴿ عرضها كعرض السماء والأرض ﴾ [ آية ١٣٣ آل عمران ص آية ١٢٥ ].
﴿ ما أصاب من مصيبة... ﴾ أي نائبة من نوائب الدنيا التي تعرض للأرض ؛ كالجدب والعاهة والزلزال والطوفان. وللناس ؛ كالمرض والآفات والآلام. ﴿ إلا في كتاب ﴾ أي إلا مكتوبة في اللوح المحفوظ﴿ من قبل أن نبرأها ﴾ أي نخلقها. وقيل في علم الله تعالى ؛ وأطلق عليه كتاب للتنبيه إلى أنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأثبتها ؛ كما يثبت الشيء في الكتاب.
﴿ لكي لا تأسوا ﴾ أي أخبرناكم بذلك لكي لا تحزنوا ؛ من الأسى وهو الحزن. يقال : أسى على كذا – بالكسر – يأسى أسى، حزن فهو أسي. وأسيت عليه – كرضيت – أسى : حزنت. ﴿ على ما فاتكم ﴾ من نعم الدنيا حزن قنوط﴿ ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾ منها فرح بطر وأشر ؛ فإن من علم أن ذلك مقدر أزلا من الله تعالى رضي واطمأن، وصبر أو شكر. ﴿ مختال ﴾ متكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه. ﴿ فخور ﴾ على الناس يباهيهم بنحو المال والجاه.
﴿ والميزان ﴾ أي وأنزلنا معهم الميزان ؛ أي العدل في كل الأمور بإنزال الكتب الإلهية المتضمنة له. أو هو ما يوزن به ويتعامل. وأنزاله : أمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته. ﴿ ليقوم الناس بالقسط ﴾ أي بالعدل في كل شئونهم. أو في معاملاتهم. ﴿ وأنزلنا الحديد ﴾ أي خلقناه لكم ؛ كقوله تعالى " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج " ١. أو هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم ؛ وعلمناكم استخراجه من الأرض وصنعته بإلهامنا. ﴿ فيه بأس شديد ﴾ أي فيه قوة وشدة، فمنه جنة وسلاح، وآلات للحرب وغيره. وفي الآية إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ؛ ليحصل القيام بالقسط. ﴿ ومنافع للناس ﴾ في معاشهم ومصالحهم. وما من صنعة إلا والحديد آلهتها ؛ كما هو مشاهد، فالمنة به عظمى. ﴿ إن الله قوي عزيز ﴾ قوي في أخذه، عزيز في انتقامه، منيع غالب.
١ آية ٦ الزمر..
﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا.. ﴾ ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول، حتى انتهينا إلى عيسى عليه السلام [ آية ٨٧ البقرة ص ٢٦ ]. ﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ﴾ وهم الحواريون وأتباعهم الذين آمنوا بأنه عبد لله ورسوله، وبالكتاب الذي جاءهم به ؛ ولم يغيروا ولم يبدلوا شريعته وكتابه. ﴿ رأفة ﴾ لينا وخفض جناح. ﴿ ورحمة ﴾ شفقة. أما الذين جاءوا بعدهم فغيروا وبدلوا، وغلوا في عيسى حتى جعلوه إلها، أو جزء إله، فهم بمعزل عن الحق، وعن الرأفة والرحمة اللتين أودعهما الله في قلوب الذين اتبعوه. وقد تغالى أولئك الذين اتبعوا عيسى عليه السلام في العبادة، وحملوا أنفسهم المشاق الزائدة فيها وفي ترك النكاح، واستعمال في الخشن في المطعم والمشرب والملبس، مع التقلل منها ؛ وحبسوا أنفسهم في الصوامع والأديرة والكهوف والغيران ! ! وكان ذلك ابتداعا من تلقاء أنفسهم ؛ لم يؤمروا به،
ولم تجئ به شريعتهم، ولكنهم التزموه ابتغاء مرضاة الله تعالى ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ ثم جاء أخلافهم فغيروا وبدلوا في دين الله، وزعموا في عيسى مالا يرضاه ولا يرضى الله، وسلكوا في العبادة الباطلة مسلك الرهبنة الأولى ؛ فجمعوا إلى الكفر بالله المبالغة في التعبد الباطل ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ فما رعوها حق رعايتها ﴾ فما رعاها أخلافهم الذين أتوا بعدهم. ﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ وهم أسلافهم الذين كانوا على الحق﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ وهم أخلافهم لخروجهم عن طاعة الله، وكفرهم به بزعم التثليث، أو ألوهية عيسى، أو أنه ابن الله ؛ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ! وهم في الواقع على دين غير دين عيسى عليه السلام.
﴿ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله... ﴾ أي اثبتوا على التقوى والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، يؤتيكم نصيبين من الأجر : نصيبا على الإيمان به ونصيبا على الإيمان بالرسل السابقين. كما أعطى الله مؤمني أهل الكتاب نصيبين من الأجر : أحدهما للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر للإيمان بالرسول السابق الذي نسخت شريعته بالشريعة المحمدية. نزلت حين افتخر مؤمنا أهل الكتاب على الصحابة بأن لهم أجرين ؛ كما قال تعالى في حقهم : " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " ١ وأن المؤمنين من غيرهم لهم أجر واحد. فجعل الله لهؤلاء أجرين مثلهم، وزادهم النور يمشون به يوم القيامة. والكفل : النصيب [ آية ٨٥ النساء ص ١٦١ ].
١ آية ٥٤ القصص..
﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب... ﴾ أي أعلمناكم بذلك ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله سبحانه ! فيزووه عن المؤمنين، ويستبدوا به دونهم. ﴿ وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾ وقد أعطى الله المؤمنين من غيرهم أجرين كما أعطاهم أجرين. والله أعلم.
Icon