هذه السورة مدنية وقيل مكية وآياتها تسع وعشرون. وقد جاءت متضمنة كثيرا من مختلف المعاني والأخبار والحجج. منها التأكيد على وحدانية الله وجلال قدره وعظيم سلطانه وجبروته، وأنه سبحانه ﴿ الأول والآخر والظاهر والباطن ﴾ لا جرم أن هذه الآية بعظيم مدلولها تذكّر بأن الله له ملكوت كل شيء وأن قدرته وعلمه وسلطانه محيط بكل شيء.
وفي السورة بيان بحال المؤمنين السعداء يوم القيامة، وحال المنافقين المذعورين المستيئسين يومئذ، وما يضربه الله بين الفريقين من سور فاصل بينهما ظاهره فيه الرحمة وباطنه يفضي إلى العذاب.
وفي السورة تحذير شديد للمؤمنين أن تقسو قلوبهم فيغشاها ركام من الزيغ والرّان والغفلة، كما قست قلوب أهل الكتاب لما طال عليهم الأمد فبدّلوا كتاب الله تبديلا.
وفيها كذلك تحذير للمؤمنين من الاغترار بالدنيا كيلا تلهيهم وتزيغ بها قلوبهم، وما الدنيا إلا سحابة غيم تمطر الزرع فينمو ويهيج ويعجب به الناس ثم يصفر ويذبل ثم يصير هشيما تدوسه الدواب والأنعام وتذروه الرياح السوافي.
وفي السورة تذكير بأهمية الحديد الذي سميت به السورة فمن الحديد تصنع آلالات الحرب ليرد بها المسلمون كيد المعتدين الظالمين بعد أن لم تفلح معهم أساليب الحكمة والموعظة والبرهان. إلى غير ذلك من جليل المعاني والمواعظ.
ﰡ
﴿ سبّح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ١ له ملك السماوات والأرض يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ٢ هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ﴾.
ذلك إخبار من الله حق بأن الوجود كله وما فيه من أجسام وأجرام ونبات وحيوان، يسبح بحمد ربه ولكن الناس لا يعلمون كيف يسبح. ذلك أن الله خالق كل شيء وأن قدرته وعلمه وسلطانه محيط بالكون كله.
فقال سبحانه :﴿ سبّح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ﴾ كل شيء يسبح بحمد الله ولا نفقه كيف يسبح الخلق من غير بني آدم. وهو سبحانه العزيز، أي القوي، المنيع الجانب الذي لا يغلبه غالب، المنتقم من المدبرين عن طاعته وعبادته. وهو سبحانه الحكيم، في تدبيره وتقديره وشرعه وأمره كله.
وقيل : الظاهر، يعني العالي على كل شيء، فهو يعلوه وغالب عليه والباطن الذي يعلم بواطن الأشياء. وقيل : الظاهر، على كل شيء علما. والباطن، على كل شيء علما. وقيل : الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس تحته شيء، فهو المحيط بقدرته وعلمه وسلطانه بكل شيء. وهذا الأظهر والأولى. وفي ذلك روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم " اللهم رب السماوات السبع رب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شركل شيء أنت آخذ بناصيته. أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن ليس دونك شيء، اقض عنا الدين، واغننا من الفقر " ١.
يبين الله في ذلك عظيم سلطانه وبالغ قدرته وعلمه فهو خالق كل شيء ولا يخفى عليه من أخبار الكون أيما شيء. فقال سبحانه :﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ خلق الله كل شيء وخلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما في ستة أيام. وقيل : هي من أيام الدنيا. وقيل غير ذلك. والله قادر أن يخلق ذلك كله في طرفة عين وذلك بقوله :﴿ كن ﴾ لكن الله له في كيفية الخلق ما يشاء من الحكمة، لا يسأل عما يفعل.
قوله :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ وهذا من متشابه القرآن، وقد قيل في تأويله عدة أقوال منها أنه استولى على العرش.
قوله :﴿ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ﴾ الله يعلم ما يلج في الأرض من الماء والبذر والمعادن والكنوز والموتى. وهو سبحانه يعلم كذلك ما يخرج من الأرض من زروع وثمار وغير ذلك من الهوام ونحوها.
قوله :﴿ وما ينزل من السماء ﴾ أي من الأمطار والأقدار والملائكة والأحكام وغير ذلك.
قوله :﴿ وما يعرج فيها ﴾ الله يعلم ما يصعد في السماء من الأعمال والدعوات والملائكة.
قوله :﴿ وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير ﴾ الله رقيب على العباد، وهو سبحانه شهيد على أقوالهم وأعمالهم، عليم بما تكنه صدورهم من الأسراروالخفايا، ولا يعزب عن علمه من أخبارهم شيء. وهو سبحانه معهم بعلمه وقدرته حيثما كانوا : في البر أو البحر أو القفر، في السماء أو الأرض أو تحت الأرض، في الليل أو النهار، يستوي ذلك كله في علم الله.
يأمر الله عباده أن يؤمنوا بالله وبرسوله إيمانا صحيحا صادقا مستديما، وأن ينفقوا مما خولهم من الأموال التي استخلفهم فيها استخلافا. فقال سبحانه :﴿ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ يعني أنفقوا من الأموال التي في أيديكم فإنما هي أموال الله، إذ خلقها وجعلها في حوزتكم لتنتفعوا منها وتستمتعوا بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فهي في الحقيقة ليست بأموالكم وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب. وبعبارة أخرى فإن الأموال مملوكة لله على الحقيقة، ومليكة الناس لها إنما هي على المجاز لا الحقيقة، فالمالك الحقيقي للمال هو الله، والناس من بعده وكلاء فيه، ولذلك لزمهم أن ينفقوا مما في أيديهم من المال في حقوق الله وفي مختلف وجوه الإنفاق من زكاة وصدقة ونحوهما من وجوه البذل، وذلك دون إبطاء ولا تردد ولا انثناء. قوله :﴿ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ﴾ أولئك يجزيهم الله جزاءهم من الجنة بنعيمها الكريم الدائم.
قوله :﴿ وإن الله بكم لرؤوف رحيم ﴾ رؤوف من الرأفة وهي أشد الرحمة أو أرقّها١ والله جل جلاله أرحم الراحمين بعباده. وهو بعظيم رحمته بهم أنزل إليهم آياته الظاهرات الباهرات بما تضمنته من عظيم الأحكام والعبر التي تفضي بالإنسان إلى السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ﴾ أي لا يستوي هذا المؤمن الذي أنفق ماله في سبيل الله وقاتل المشركين من قبل فتح مكة وعزة الإسلام ﴿ أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ﴾ يعني أولئك الذين أنفقوا أموالهم قبل فتح مكة وهم السابقون من المهاجرين والأنصار أعظم درجة من المؤمنين الذين أنفقوا وقاتلوا المشركين بعد فتح مكة، فثمة تفاوت بين الفريقين المنفقين المجاهدين من قبل الفتح ومن بعده. وذلك أن أمر المسلمين من قبل الفتح كان شديدا عسيرا. وكانت حالهم يظلها الخوف والإرهاب وطغيان المشركين الظالمين عليهم. لا جرم أن التمسك بالعقيدة الصحيحة والتزام شرع الله وأحكام دينه في مثل تلك الظروف القاسية أعظم قدرا من مثله بعد الفتح حيث الأمن والقوة والمنعة للمسلمين.
قوله :﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ كلا، مفعول أول لوعد. والحسنى، مفعوله الثاني. يعني كل واحد من الفريقين ﴿ وعد الله الحسنى ﴾ وهي دخولهم الجنة مع تفاوت الدرجات بين المؤمنين الداخلين.
ويستفاد من هذه الآية أن الفريقين من الصحابة أبرار كرماء عند الله، فما ينبغي الغضّ من قدر فريق منهم، وإنما هم جميعهم طيبون عظماء يفضلون من بعدهم من المؤمنين على مرّ الزمن بفضل شرف الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي قدّر لهم أن يحظوا بها، مع التذكير بأنهم من مراتب الإيمان وحسن الجزاء يوم القيامة متفاوتون. وذلك هو شأن المؤمنين في كل زمان ومكان. وذلك من حيث التفاوت في درجات إيمانهم وعزائمهم وما يؤدونه من إنفاق وتضحيات وجهاد، فإن فيهم العظيم وفيهم الوسط وفيهم دون ذلك. وفي الحديث الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ".
قوله :﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ الله يعلم ما أنتم عليه من تفاوت في الإيمان والإخلاص والعمل، فجازى كلا بما يستحق من الثواب.
وفي الآية تحضيض مؤثر وكريم على إنفاق المال في وجوه الخير كبذله في سبيل الله وإنفاقه على الأهل والأولاد والعيال والأرحام وغيرهم من المحاويج ومن ينفقه يكن له أجر عظيم وهو قوله :﴿ فيضاعفه له ﴾ أي يعطيه من الأجر أضعافا مضاعفة ﴿ وله أجر كريم ﴾ أي وله فوق تلك الأضعاف المضاعفة أجر عظيم وكريم في نفسه وهي الجنة. وقد روي عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ﴾ قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح " قال : أرني يدك يا رسول الله. قال : فناوله يده. قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي. وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها. فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح. قالت : لبيك. قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل. وفيه رواية أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منه متاعها وصبيانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كم من عذق رداح في الجنة ودار فياح لأبي الدحداح " ١.
ذلك إخبار من الله عن أحوال الناس يوم القيامة وما يكابدونه حينئذ من صنوف الأهوال والأفزاع والبلايا. ويكتب الله النجاة والسلامة يومئذ للمؤمنين ليسلكوا سبيلهم إلى الجنة آمنين سعداء. ثم يبقى المنافقون الخاسرون في ظلمات الحشر يكابدون الشدة والخوف والحر والظمأ واليأس – نجّانا الله من ذلك.
وفي هذا يقول سبحانه :﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ يوم، منصوب على أنه ظرف. أو منصوب بإضمار الفعل ( اذكر ) تعظيما لذلك اليوم. وفي هذه الآية يخبر الله عن المؤمنين الصادقين أنهم يوم القيامة ﴿ يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ أي يمضي نورهم أمامهم وبأيمانهم.
وذلك على قدر أعمالهم فيمرون به على الصراط. وقيل : ليس من أحد إلا ويعطي نورا يوم القيامة فإذا انتهوا إلى الصراط انطفأ نور المنافقين فأشفق المؤمنون أن ينطفئ نورهم كما انطفأ نور المنافقين فقالوا : ربنا أتمم لنا نورنا. وقوله :﴿ بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم فجعل النور في الجهتين شعارا لهم وعلامة.
قوله :﴿ بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ﴾ يقال يومئذ ﴿ بشراكم ﴾ أي لكم البشارة بجنات ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ لابثين ما كثين فيها أبدا لا تبرحون ولا تتحولون ﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾ إنه الفوز الأكبر والسعادة الكبرى التي لا يعدلها فوز ولا سعادة.
قوله :﴿ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ﴾ والمراد بالسور، حائط يحول بين شق الجنة وشق النار، قيل هو الأعراف. ولهذا السور باب لأهل الجنة يدخلون منه، وباطن السور وهو الشق الذي يلي الجنة ﴿ فيه الرحمة ﴾ أي الجنة. ﴿ وظاهره ﴾ يعني ما ظهر لأهل النار منه، من جهته ﴿ العذاب ﴾ أي النار.
فالمراد بذلك سور يضرب يوم القيامة ليفصل بين المؤمنين والمنافقين ويكون بينهم حاجزا. فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلام والعذاب، وقد كانوا في الدنيا في جهالة وكفران وباطل.
والمعنى المراد للآية، أنه قد خدعكم الشيطان، إذ فتنكم عن دين الله وسول لكم النفاق وفعل المنكرات والمعاصي وأوهمكم بأنه لا بعث ولا حساب.
كان المسلمون في مكة مجدبين فقراء فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه من الخشوع فنزلت الآية : وقال ابن مسعود ( رضي الله عنه ) : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. وروي عن ابن عباس أنه قال : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال :﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ﴾ ألم يأن، من أنى الأمر يأنى، إذا جاء إناه، أي وقته. والمعنى : أما آن للمؤمنين أن تلين قلوبهم لذكر الله وهو سماع القرآن وما فيه من المواعظة وضروب التذكير والآيات ﴿ وما نزل من الحق ﴾ أي القرآن. وهو معطوف على الذكر. فقد عطف أحد الوصفين على الآخر. ويجوز أن يراد بالذكر الموعظة والعبرة.
قوله :﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ﴾ ولا يكونوا معطوف على ﴿ تخشع ﴾ ويجوز أن يكون نهيا للمؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب. وذلك أن اليهود والنصارى لما تطاول علهم الأمد بدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم، لأنه يحول بينهم وبين شهواتهم وأهوائهم وأقبلوا على ما اصطنعه لهم أحبارهم ورهبانهم من ضلالات الأفكار والقناعات ﴿ فطال عليهم الأمد ﴾ أي طال عليهم الأجل والزمان وهم على حالهم هذه ﴿ فقست قلوبهم ﴾ صارت قلوبهم غليظة كزّة لا يعطفها التذكير والتحذير ولا تنفذ إليها المواعظ ولا تلين لوعد أو وعيد. فيحذر الله المسلمين أن يكونوا أمثال هؤلاء الغلاظ البور.
قوله :﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ كثير من أهل الكتاب خارجون عن حقيقة دينهم، رافضون لما في التوراة والإنجيل الأصليين من توحيد كامل لله ودعوة حقيقية لمكارم الأخلاق وتحذير شديد من الاستسلام للشيطان والشهوات.
ذلك إطراء من الله كريم على عباده المؤمنين، المصدقين والمصدقات والصديقين والشهداء. أولئك أصناف أبرار من عباد الله بما أنفقوا من أموالهم وبما أقرضوا الله قرضا حسنا وبما جاهدوا في سبيله حتى قتلوا. وهو قوله :﴿ إن المصّدّقين والمصّدّقات ﴾ بتشديد الصاد والدال، من التصدق وهو بذل المال للفقراء والمحاويج طلبا لمرضاة الله ﴿ وأقرضوا الله قرضا حسنا ﴾ أي تصدقوا من المال الطيب عن طيب نفس وصدق نية ﴿ يضاعف لهم ﴾ أولئك يجزون الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر حتى السبعمائة ضعف ﴿ ولهم أجر كريم ﴾ يعني الجنة حيث النعيم المقيم والرحمة المستفيضة.
يبين الله للناس حقيقة الحياة الدنيا على أنها حطام زائل داثر وأنها سراب خادع ما يلبث أن ينقشع ويتبدد. وكذا الدنيا ما تلبث أن تفنى وتزول حتى لا يبقى منها عين ولا أثر. فما ينبغي للناس- وهم يعلمون هذه الحقيقة - أن تخدعهم الدنيا وأن يغرهم الشيطان غرورا. وذلك هو قوله سبحانه :﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ﴾ ذلك تزهيد في الحياة الدنيا، إذ شبهها في سرعة زوالها وهوان شأنها وحقارة متاعها، بلعب الصبيان في الملاعب، إذ يتبعون أنفسهم، فيركضون ويكدون لا هثين لا يجنون غير العبث والنصب وضياع الوقت. وهي كذلك لهو، فإنها تلهي الناس عن ذكرى الآخرة وتثنيهم عن فعل الفرائض والواجبات من خشوع لله وأمر بمعروف ونهي عن منكر وجهاد في سبيل الله وإصلاح بين الناس.
وهي كذلك زينة. وهي ما يتزين به الغافلون اللاهون، من فاخر الملابس والمراكب والبيوت والأثاث والرياش وغير ذلك من وجوه الزينة ﴿ وتفاخر بينكم ﴾ يفاخر الناس بعضهم بعضا بما أوتوه من مال وكراع وزينة أو جاه وغير ذلك من ضروب التفاخر والتباهي بلعاعات الدنيا ومباهجها الواهية الزائلة ﴿ وتكاثر في الأموال والأولاد ﴾ أي يتباهون بكثرة المال والولد ولا يغنيهم ذلك من الله شيئا ولا يستنقذهم من عذابه إذا أحاط بهم. وإنما يجديهم الإيمان والإخلاص لله في الطاعة والعبادة.
قوله :﴿ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ﴾ الكاف في قوله :﴿ كمثل ﴾ في موضع رفع من وجهين. أحدهما : أن يكون وصفا لقوله :﴿ وتفاخر بينكم ﴾ وثانيهما : أن يكون في موضع رفع، لأنه خبر بعد خبر وهي ﴿ الحياة ﴾ في قوله :﴿ أنما الحياة الدنيا ﴾ ١.
والمراد بالكفار ههنا الزراع الذين يغطون البذر بالتراب عقب حراثته. قوله :﴿ ثم يهيج ﴾ أي يجف بعد خضرته وييبس ﴿ فتراه مصفرا ﴾ أي يأخذ في الاصفرار والذبول بعد الاخضرار والنّضرة ﴿ ثم يكون حطاما ﴾ أي هشيما متكسرا متفتتا. وهكذا الحياة الدنيا في متاعها وغرورها وسرعة زوالها كالزرع، إذ يكون مخضرا نضرا فيعجب الزراع والناظرين ثم ما يلبث أن ييبس ويتكسر ويصير هشيما فيدوسه الناس والدواب ثم يتبدد ويزول ليصبح أثرا بعد عين.
قوله :﴿ وفي الأخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ﴾ يبعث الناس من قبورهم يوم القيامة ثم يصيرون إلى الوقوف بين يدي الله فإما العذاب الشديد وهي النار، يصلونها ويذوقون فيها الوبال والنكال وإما أن يغفر الله لهم ثم يدخلهم الجنة رحمة منه بهم وفضلا.
قوله :﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ يعني ليست الحياة الدنيا بزينتها ولذاتها إلا المتاع الخادع الذي يغتر به الخاسرون الغافلون فيذهلون عن منهج الله ثم ينقلبون إلى الهوان والخسران.
قوله :﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ﴾ الإشارة عائدة إلى الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض فإنها فضل من الله تفضل به على المؤمنين والله يؤتي فضله من يشاء من عباده وهو المتفضّل العظيم١.
ذلك إخبار من الله عما قدّره لعباده من المقادير المسطورة في علمه القديم. ليبين لهم أن كل شيء بقدر وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم. وهو قوله :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ﴾ يعني ما يصيبكم من مصيبة في الأرض كالقحط والجدب وجوائح الزروع والثمرات ﴿ ولا في أنفسكم ﴾ من الأسقام والأوجاع وضيق المعاش وغير ذلك من أوجه الكروب والهموم.
قوله :﴿ إلا في كتاب ﴾ كل ما يصيب الناس من ضروب البلاء مكتوب في علم الله القديم، في اللوح المحفوظ ﴿ من قبل أن نبرأها ﴾ أي من قبل أن يخلق الأنفس أو المصيبة. فما يصيب الإنسان من فقر ولا نصب ولا وصب ولا وجع ولا غم ولا كرب ولا خدش إلا هو مسطور في علم الله من قبل أن يخلق الإنسان والمصيبة.
قوله :﴿ إن ذلك على الله يسير ﴾ يعني علمه بذلك من قبل أن يخلقه ويكتبه وفق حصوله في حينه أمر هين على الله.
قوله :﴿ ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾ أي لا تفرحوا بما أعطاكم الله في الدنيا من الرزق والعافية والخصب فتفاخروا به على الناس وانتم بطرون أشرون ﴿ والله لا يحب كل مختال فخور ﴾ مختال، من الاختيال والخيلاء وهو التكبر والتفاخر١ يعني : إن الله لا يحب كل متكبر مباه بنفسه وماله وما أوتيه من أوجه النعم، مفاخر بذلك على الناس.
قوله :﴿ ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ﴾ من يعرض عن الإيمان بالله وطاعته فإن الله غني عنه. وهو سبحانه الغني في ملكوته، المحمود في خلقه من الملائكة والمؤمنين من الثّقلين١.
قوله :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ﴾ خلق الله الحديد ليصنع منه المسلمون ما يتقوون به ويعظم به بأسهم وشوكتهم وهو السلاح فيكفّون عن أنفسهم الشر والضّرّ والعدوان. وذلك عقب البيان للمشركين والتوضيح لهم بالحكمة والأسلوب الحسن أن منهج الله لهو الحق وأن ما دونه من مناهج لهي الضلال والباطل، كيما يصدقوا ويوقنوا وتستقيم أحوالهم وأوضاعهم وتصلح حياتهم ومعايشهم، فإذا لم تجد أسباب الحجة والبرهان في إقناعهم ودفع عدوانهم وكيدهم عن الإسلام والمسلمين فما حيلة المسلمين بعد ذلك إلا أن يزجروا المعتدين الأشرار بالحديد وما يستفاد منه من مختلف أصناف السلاح وفقا للأحوال والأعراف والظروف التي تتغير وتتطور. فقد كانت السيوف والأسنّة عماد الآلات للحرب في الأزمنة السالفة. أما في العصر الراهن فليس من بد من الاستفادة من الحديد في المخترعات الحديثة ومنها آلالات الحرب المستعملة في البر والبحر والجو. وإذا تخلف المسلمون في الاستفادة من الحديد وتطويره لأحدث الأسلحة النافعة الرادعة حتى فاتهم المشركون الظالمون، واستغفلهم الطغاة والمعتدون، فليس للمسلمين بعد ذلك إلا أن يلوموا أنفسهم، ثم يعاودوا محاسبة أنفسهم في تخلّفهم وتقصيرهم وتفريطهم حتى إذا استحرّت فيهم حرارة العقيدة، وهاجت في ضمائرهم جذوة العزم والجد والغيرة والحماسة انتقلوا بأنفسهم أعظم نقلة كيما يزهقوا الباطل ويدمروا الطغيان والشر تدميرا ويعرضوا ما فاتهم من تقصير وتفريط.
قوله :﴿ ومنافع للناس ﴾ منافع الحديد المستفادة كثيرة وهي مما يستعمله الناس في بيوتهم من الأواني، وفي مصانعهم ومزارعهم من آلالات والمعدات على اختلاف أشكالها ومنافعها ومسمياتهم.
قوله :﴿ وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ﴾ معطوف على قوله :﴿ ليقوم الناس بالقسط ﴾ أي أرسل الله رسله للناس وأنزل معهم الكتب والحق والعدل وجعل لهم من الحديد ما فيه سلاح وبأس ليستبين المؤمنون الذين ينصرون الله ورسله بالغيب عنهم. أي وهم لا يرونهم. قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه ﴿ إن الله قوي عزيز ﴾ الله قوي على أخذ من خالفه وبارزه بالمعصية والظلم وشاقّه بالجحود والعتو والفسق عن دينه وشرعه ﴿ عزيز ﴾ أي منيع الجانب لا يغلبه غالب١.
أرسل الله للناس رسلا مبشرين ومنذرين وهم من نسل نوح وإبراهيم إذ جعل في ذرتهما الكتاب، فآمن في الناس من آمن وأعرض من أعرض وهم الأكثرون.
وهو قوله سبحانه :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ لقد أرسل الله نوحا وإبراهيم لهداية الناس ولتبصيرهم بدين الحق واستنقاذهم من الغيّ والضلال. ثم جعل النبوة والكتب المنزلة على النبيين منهم. وكذلك كانت النبوة في ذريتهما، وعليهم أنزلت الكتب : وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب المنزلة ﴿ فمنهم مهتد ﴾ أي فمن ذرية نوح وإبراهيم مهتدون إلى الحق ملتزمون عقيدة التوحيد ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ كثير من ذرية نوح وإبراهيم خارجون عن طاعة الله جامحون للضلال والمعصية.
قوله :﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ﴾ جعل الله في قلوب الذين آمنوا به واتبعوا ما جاءهم به وهم الحواريون، رأفة وهي أشد الرحمة، أو الرفق واللين. والرحمة، الشفقة ﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾ رهبانية، منصوب بفعل مقدر. وتقديره : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها١ أي أحدثوها من قبل أنفسهم ﴿ ما كتبناها عليهم ﴾ أي ما افترضنا عليهم تلك الرهبانية ﴿ إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ أي لكنهم أحدثوها من عند أنفسهم طلبا لمرضاة الله فالاستثناء منقطع. والرهبانية والترهب بمعنى التعبد. ومن مظاهرها الاختصاء واعتناق السلاسل ولبس المسوح وترك اللحم ونحو ذلك من وجوه التقشف وحرمان النفس٢.
قوله :﴿ فما رعوها حق رعايتها ﴾ أي ما قاموا بها حق القيام. أو لم يرعوا الرهبانية التي ابتدعوها حق الرعاية. ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى فتنصروا وتهودوا ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا وتركوا الترهب.
قوله :﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ أي أعطينا الذين آمنوا بالله ورسوله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ورعوها، ثوابهم لصدق إيمانهم وابتغائهم رضوان الله. قوله :﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ كثير منهم خارجون عن دين الله الحق وعن طاعته سبحانه٣.
٢ القاموس المحيط جـ ١ ص ٧٩ ومختار الصحاح ص ٥٩..
٣ تفسير الطبري جـ ٢٧ ص ١٤٠ وفتح القدير جـ ٥ ص ١٧٨..
يخاطب الله الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، يدعوهم للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليجزيهم الله بذلك مثلين من الجزاء وهو قوله سبحانه :﴿ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ﴾ فالآية محمولة على مؤمني أهل الكتاب، إذ يدعوهم ربهم أن يؤمنوا بمحمد ليؤتيهم أجرهم مرتين وهو قوله :﴿ يؤتكم كفلين من رحمته ﴾ أي مثلين من الأجر على إيمانكم بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. والكفل، معناه الحظ والنصيب. وقيل : لما نزل قوله :﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
قوله :﴿ ويجعل لكم نورا تمشون به ﴾ والمراد بالنور، القرآن، فإنه المشعل الذي يستضيئون به فلا يتعثرون ولا يضلون أو يتيهون. أو المراد به الإسلام، إذ يدعون الناس إليه فيكونون رؤساء في هذا الدين الحنيف ولا تزول عنهم رئاسة كانوا فيها. وذلك أنهم كانوا يخشون أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾ الله جل جلاله يصفح عنكم ويستر عليكم ذنوبكم وهو سبحانه موصوف بالرحمة والمغفرة للمسيئين المذنبين.
قوله :﴿ وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾ ليس الفضل بأيدي أهل الكتاب إذ كانوا يبتغون أن تكون النبوة فيهم دون غيرهم وقد اغتاظوا أشد الغيظ لما بعث الله في العرب رسولا منهم ثم جعل أمته خير أمة أخرجت للناس. وذلكم فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ الله الكريم المنان ذو الفضل على عباده١.