تفسير سورة الحديد

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة الحديد
مدنية١
١ هي كذلك في تفسير القرطبي ١٧/٢٣٥، والبرهان ١/١٩٤، وابن كثير ٤/٣٠٥، والدر المنثور ٨/٤٥. وجاء في زاد المسير ٨/١٦٠ "وفيها قولان: أحدهما أنها مدنية رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة ومقاتل. والثاني أنها مكية، قالة السائب"..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحديد
مدنية
قوله: ﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ إلى قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الآيات [١ - ١٠].
أي: كل ما دون الله من خلقه يسبح تعظيماً له وإقراراً بربوبيته وقيل التسبيح فيما لا ينطق هو ظهور أثر الصنعة فيه.
وقيل: بل كل ما لا ينطق والله أعلم بتسبيحه، ودل على ذلك قوله: ﴿ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤] ولو كان تسبيح ما لا ينطق أثر الصنعة عليه لكان ذلك [شيئاً] يفقه (ويعلم ظاهرا عندنا).
وقيل: ﴿سَبَّحَ﴾ في هذا وما بعده من السور معناه " صلى ".
وقوله: ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي: العزيز في انتقامه ممن عصاه الحكيم في تدبيره خلقه، لا يدخل في تدبيره خلل.
قال: ﴿لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾. الآية.
أي له سلطان ذلك كله، فلا شيء فيهن يقدر على الامتناع منه، يحيي ما يشاء من الخلق بأن يوجده كيف يشاء، ويميت من يشاء من الأحياء بعد الحياة عند بلوغ الأجل الذي قدره الله له قبل أن يخلقه.
﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: ذو قدرة لا يمتنع عليه ما يريده من إحياء ميت وموت حي.
أي: هو الأول قبل كل شيء بغير حد، والآخر بعد كل شيء بغير نهاية، وهو الظاهر على كل شيء، فكل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلا منه، والباطن في جميع الأشياء، فلا
7304
شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦] يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فرق عرشه.
قال قتادة: " ذكر لنا أن النبي ﷺ بينما هو جالس في أصحابه إذ ثار عليهم سحاب، فقال النبي ﷺ هل تدرون ما هذا، قالوا الله ورسوله أعلم، قال: هذا العنان، هذا / راوي الأرض (يسوقه) الله إلى قوم لا يشمونه ولا يرجونه: ثم قال: هل تدرون ما التي فوقكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ، قال فهل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال مسيرة خمس مائة عام قال هل تدرون ما فوق ذلك، (قالوا مثل ذلك) قال فوقها سماء أخرى (وبينها خمس مائة عام) ثم قال مثل ذلك حتى ذكر سبع سماوات، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك، قالوا مثل ذلك، قال فإن فوق ذلك العرش وبين السماء السابعة وبينه مثل ما بين السمائين، ثم قال هل تدرون ما التي تحتكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنما الأرض ثم قال مثل ذلك إلى سبع أرضين، وذكر أن بين كل أرض وأرض مسيرة خمس مائة عام، ثم قال والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم
7305
بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله تعالى، ثم قرأ ﴿هُوَ الأول والآخر﴾ الآية ".
وقال ابن عباس ظهر فوق الظاهرين بقهره المتكبرين.
وقيل معنى " الظاهر والباطن " /: يعلم ما ظهر وما بطن، ومنه ظهر الإنسان وبطنه، لأن الظهر غير ساتر، والبطن ساتر، ومنه الظهير وهو العوين على الأشياء حق (يستعلي) عليها، ويعين " وظهير " أي: قوي.
ومنه صلاة الظهر لأنها أول ما ظهرت من الصلوات.
وقيل الظهر والظهيرة: شدة الحر، فسميت الصلاة بالظهر لأنها اسم الوقت الذي تكون فيه، ومنه: ظهرت على فلان: أي قهرته.
وقوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي: لا يخفى عليه شيء ظهر ولا بطن في السماء ولا في الأرض كبر أو صغر.
قال: ﴿هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾.
أي: ابتدع ذلك وأنشأه في ستة أيام، مقدار كل يوم ألف عام.
﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ أي: ارتفع وعلا ارتفاع قدرة وتعظيم وجلالة، لا ارتفاع نقلة.
ثم قال: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾: أي: ما يدخل فيها من الماء وغيره.
﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ أي: من النبات وغيره.
﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء﴾ أي ينزل منها إلى الأرض من القطر وغير ذلك.
﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ أي: ما يصعد إليها من الأعمال والملائكة وغير ذلك، لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض.
﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي: بصير بأعمالكم يحصيها عليكم حتى يجازيكم بها يوم القيامة.
ثم قال: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ قال سفيان الثوري: علمه.
قال: ﴿لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي: له سلطان ذلك وملكه.
﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي: إليه ترد الأمور يوم القيامة فيقضي بين خلقه بحكمه وعدله.
قال: ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ أي: يدخل هذا في هذا وإذا في ذا أي ما نقص من هذا زاد في ذا.
ثم قال: ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي: هو ذو علم بضمائر صدور عباده، وما عزمت عليه نفوسهم من خير وشر، وفي الحديث " أن الدعاء يستجاب بعد هذه (الآيات البينات) ".
قال: ﴿آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾.
أي صدقوا بتوحيد الله وكتبه ورسله، وأنفقوا في سبيل الله مما خولكم وأورثكم عن من كان قبلكم، فجعلكم خلفاً فيه، (أي فالذين آمنوا). صدقوا وأنفقوا في سبيل الله لهم أجر كبير، أي: الجنة.
قال: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ﴾ الآية.
أي وأي شيء لكم في ترك الإيمان بالله، والرسول يدعوكم بالحجج والبراهين لتؤمنوا بربكم، لتصدقوا محمداً ﷺ فيما جاءكم به.
ثم قال: ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾.
أي أخذ الله تعالى ميثاقكم في صلب آدم عليه السلام إذا قال لكم ألست بربكم، فقلتم بلى.
وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾.
أي إن كنتم تريدون أن تؤمنوا يوماً من الأيام بالله، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لتتابع الحجج عليكم.
وقيل معناه: إن كنتم عازمين على الإيمان فهذا أوانه لما خطر لكم من البراهين والدلائل.
قال: ﴿هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾.
يعني القرآن.
﴿لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾.
أي من الكفر إلى الإيمان.
وقيل معناه: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ /.
أي لذو رأفة ورحمة بكم، ومن رأفته ورحمته أنزل الله عليكم آيات بينات
يخرجكم بها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
قال: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ الآية.
أي: أي عذر لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله وأنتم خلف الموت فتخلفون ما تبخلون به ويورث بعدكم، ثم يخلفه من ورثه عنكم فيعود الميراث إلى الله تعالى.
وحضهم على الإنفاق في سبيل الله ليكون ذلك ذخراً لهم عنده من قبل أن يموتوا فلا يقدرون، وتصير الأموال ميراثاً لمن له ميراث السماوات والأرض وهو الله جل ذكره.
ثم قال: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ﴾.
أي من قبل فتح مكة، وهاجر وقاتل في سبيل الله تعالى قاله مجاهد وقتادة، أي: لا يستوي في الأجر والفضل من هاجر قبل الفتح وأنفق وقاتل مع من هاجر من بعد ذلك وقاتل وأنفق.
قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كانت النفقة والقتال من قبل فتح مكة أفضل منهما بعد الفتح،
7310
وكذلك قال زيد بن أسلم.
وقال الشعبي الفتح هنا فتح الحديبية، فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل فتح الحديبية أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد ذلك.
وهذا القول اختاره بعض العلماء، لأن الخدري روى أن النبي ﷺ قال: " يوم فتح الحديبية يأتي أقوام يحقرون أعمالكم من أعمالهم قالوا يا رسول الله أمن قريش هم؟ قال لا، هم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً، قلنا يا رسول الله أهم خير منا. قال لو أن لأحدهم جبل / ذهباً ثم أفقه ما بلغ (مد أحدكم ولا نصيفه) هذا فضل ما بيننا وبين الناس، لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل إلى قوله ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ".
ثم قال: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ أي: والذين أنفقوا من قبل ومن بعد وقاتلوا كلهم وعدهم الله الجنة.
ثم قال: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي: بما تعملون من النفقة في سبيل الله وقتل
7311
أعدائه وغير ذلك من أعمالكم، ذو خبر وعلم، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
قال: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾.
أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله محتسباً في نفقته، فيضاعف له ربه (بالحسنة عشرة أمثالها) إلى سبع مائة ضعف.
﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ (وهو الجنة).
" ومن " مبتدأ و " ذا " خبره، " والذي " نعت ل " ذا ".
وقيل " من " مبتدأ و " ذا " زائدة مع " الذي "، و " الذي " خبر الابتداء.
وأجاز الفراء أن تكون " ذا " زائدة مع " من " كما جاءت زائدة مع " ما "، ولا يجوز هذا عند البصريين لأن " ما " مبهمة، فجاز ذلك فيها، وليست من كذلك.
قال: ﴿يَوْمَ تَرَى المؤمنين [والمؤمنات] يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾.
7312
أي لهم أجر كريم في يوم ترى المؤمنين، فالعامل في " يوم " معنى الملك في " لهم ".
وقيل العامل فيه ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ ﴿يَوْمَ تَرَى﴾ فوعد هو العامل فيه.
ومعنى الآية: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يضيء نورهم بين أيديهم وبأيمانهم. قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول: " من المؤمنين ما يضيء نوره [من المدينة إلى عدن وصنعاء فدون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره] إلا من موضع قدميه ".
قال ابن مسعود يعطى المؤمنون نوراً على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى [نوراً كالنخلة السحوق ومنهم من يعطى نوراً كالرجل القائم وأدناهم من يعطى نوراً] على ابهامه يضيء مرة ويُطفى مرة.
وقال الضحاك معنى " وبإيمانهم " أي: وبأيمانهم كتبهم.
وقيل النور هنا: الكتاب لأنهم يعطون كتبهم من بين أيديهم بأيمانهم فلهذا وقع الخصوص.
7313
وقيل المعنى يسعى ثواب إيمانهم وعملهم [الصالح] بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم نظائر، هذا اختيار الطبري، وهو قول الضحاك المتقدم.
والباء في " وبأيمانهم " بمعنى " في " على هذا التأويل، وعلى القول الأول بمعنى " عن ".
ثم قال: ﴿بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾.
أي يقال لهم بشراكم اليوم جنات، أي: الذي تبشرون به اليوم هو جنات، فأبشروا بها وأجاز الفراء " جنات " بالنصب على القطع، ويكون " اليوم " خبر الابتداء.
وأجاز رفع " اليوم " على أنه خبر " بشراكم " /، وأجاز أن يكون " بشراكم " في موضع نصب بمعنى يبشرهم ربهم بالبشرى، وأن ينصب جنات بالبشرى، وفي هذه التأويلات بعد وتعسف وغلط ظاهر.
7314
قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: ماكثين فيها لا يتحولون عنها.
﴿ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ أي: خلودهم في الجنة التي وصفت هو النجاح العظيم.
قوله: ﴿يَوْمَ يَقُولُ المنافقون﴾.
أي ذلك هو الفوز العظيم في يوم يقول هؤلاء المنافقون.
﴿لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا﴾ أي: تمهلوا علينا.
﴿نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ أي: نستصبح من نوركم.
و ﴿انظرونا﴾ في قراءة من وصل الألف من نظر ينظر: إذا انتظر.
وقرأ حمزة بقطع الألف، جعله من أنظره: إذا أخره، وهو بعيد في المعنى إذا حملته على التأخير، وإنما يجوز على مهنى تمهلوا علينا.
يقال أنظرني: بمعنى تمهل عليّ وترفق، حكاه علي بن سليمان فعلى هذا تجوز قراءة حمزة.
7315
وحكى غيره أنظرني: بمعنى اصبر علي، كما قال (عمرو بن كلثوم): (وانظرنا نخبرك اليقينا) [أي اصبر علينا]، فعلى هذا أيضاً تصح قراءة حمزة.
ثم قال: ﴿قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً﴾.
يقال لهم ارجعوا من حيث [جئتم] فاطلبوا لأنفسكم هنالك نوراً [فإنه] لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا.
قال ابن عباس بينما الناس في ظلمة إذا بعث الله جل ثناؤه نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور لهم دليلاً من الله جل وعز إلى الجنة، فلما رآى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ: انظرونا نقتبس من نوركم فإنا [كنا] معكم في الدنيا قال المؤمنون ارجعوا من حيث جئتم من الظلمة
7316
التمسوا هنالك النور.
ثم قال: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ﴾ أي: فضرب الله بين المؤمنين والمنافقين بسور وهو حاجز بين أهل الجنة [وأهل] النار.
قال ابن زيد هذا السور هو الذي قال جل وعز ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾ [الأعراف: ٤٦].
ويقال أن ذلك السور ببيت المقدس عن موضع يعرف بوادي جهنم.
وروي ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن ابن عباس.
وكان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة: في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله تعالى ﴿ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة﴾ والرحمة هنا الجنة، والعذاب: النار. /
قال: ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾.
أي ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور فبقوا في الظلمة والعذاب، ألم نكن معكم في الدنيا نصلي ونصوم ونناكحكم ونوارثكم، قال لهم
7317
المؤمنون، بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم فنافقتم والفتنة هنا: النفاق، قاله مجاهد.
قال شريك بن عبد الله فتنتم أنفسكم بالشهوات واللذات وتربصتم قال بالتوبة.
﴿وارتبتم﴾ أي: شككتم.
﴿حتى جَآءَ أَمْرُ الله﴾ يعني الموت.
﴿وَغَرَّكُم بالله الغرور﴾ أي الشيطان.
وقال غيره وتربصتم وتثبطتم بالإيمان، والإقرار بالله ورسوله قال قتادة: وتربصتم: أي: بالحق وأهله.
وقيل معناه: وتربصتم بالنبي ﷺ وبالمؤمنين الدوائر. وقيل تربصتم بالتوبة.
7318
وقوله: ﴿وارتبتم﴾ أي: شككتم في توحيد الله سبحانه وفي نبوة محمد ﷺ.
قال قتادة: كانوا في شك من الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: ﴿وَغرَّتْكُمُ الأماني﴾.
أي وخدعتكم أماني أنفسكم فصدتكم عن سبيل الله. وأضلتكم.
وقيل معناه: تمنيتم أن تنزل بالنبي ﷺ الدوائر.
﴿حتى جَآءَ أَمْرُ الله﴾.
﴿حتى جَآءَ﴾ نصر الله نبيه ودينه.
وقيل حتى جاء أمر الله يقبض أرواحكم عند تمام آجالكم.
قال قتادة وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله، قال: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
7319
وقوله: ﴿وَغَرَّكُم بالله الغرور﴾.
أي وخدعكم بالله الشيطان فأطمعكم في النجاة من عقوبته والسلامة من عذابه.
قال: ﴿فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ﴾.
(قال ابن سلام وذلك أنهم يعطون الإيمان يوم القيامة فلا يقبل منهم).
هذا قول المؤمنين لأهل النفاق، فاليوم لا يقبل منكم فداء ولا عوض بدلا من عقابكم وعذابكم، ولا يؤخذ من الذين كفروا.
﴿مَأْوَاكُمُ النار﴾.
أي مثواكم ومسكنكم.
﴿هِيَ مَوْلاَكُمْ﴾ أي: النار أولى بكم. /
﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي: المرجع، بئس المصير من صار إلى النار.
قوله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله﴾.
أي ألم يحن للذين صدقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله (وتذل من
خشية الله).
﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق﴾ وهو القرآن.
قال ابن عباس ﴿أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله﴾، قال: تطيع قلوبهم.
روي عن ابن مسعود أنه قال: عاتبنا الله بهذه الآية بعد إسلامنا بسبع سنين. وقال غيره بأربع سنين.
وقال قتادة: ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن النبي ﷺ أنه قال: " أول ما يرفع الله من الناس الخشوع ".
ثم قال: ﴿وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ﴾ يعني: بني إسرائيل، والكتاب: التوراة والإنجيل.
﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.
والأمد الدهر الذي بينهم وبين موسى عليه السلام.
ثم قال: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي: من أهل الكتاب.
قال: ﴿اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾.
أي بالمطر فتنبت بعد يبسها وموتها، فكما قدر على ذلك، فهو قادر على أن يحيي الموتى بعد إفنائهم.
وقال صالح المري يحيي الأرض بعد موتها: يلين بكم، القلوب بعد قسوتها.
ثم قال: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات﴾ (أي الحجج والأدلة).
﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
قال: ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً﴾.
أي انفقوا في سبيل الله وفيما ندبهم إليه.
﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ﴾ (أي فيضاعف لهم) الثواب يوم القيامة.
﴿وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾.
أي ثواب كريم وهو الجنة، ومن خفف " المصدقين " فمعناه إن الذين صدقوا محمداً ﷺ وآمنوا ثم تصدقوا من أموالهم وأنفقوا في طاعة الله تعالى يضاعف لهم.
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ﴾.
أي والذين أقروا بوحدانية الله وإرساله رسله، وصدقوا الرسل ﴿أولئك هُمُ الصديقون﴾ أي: الذين كثر صدقهم وتصديقهم.
ثم قال: ﴿والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ أي: لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم.
ومذهب ابن عباس ومسروق والضحاك أن " الشهداء " منفصل من " الصديقين " منقطع منه.
7323
وروى البراء بن عازب قال سمعت النبي ﷺ يقول: " مؤمنو أمتي شهداء، ثم تلا النبي ﷺ هذه الآية ".
فهذا يدل على أنه متصل بالصديقين، أي: أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، أي: لهم أجر الشهداء، ونورهم: أي: للمؤمنين أي: من أمة محمد ﷺ أجر الشهداء ونورهم.
وروى سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال: كلكم صديق وشهيد فقيل له انظر ماذا تقول يا أبا هريرة، فقال اقررأوا هذه الآية فذكرها.
وروي " أن رجلاً من قضاعة جاء رسول الله ﷺ فقال: إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس وصمت شهر رمضان، وآتيت الزكاة، فقال له النبي ﷺ من كان على هذا كان من الصديقين والشهداء ".
7324
وعن ابن عباس أنه قال يرفعه إلى النبي ﷺ " أنه قال كل مؤمن صديق، ويزكي الله بالقتل من يشاء ثم تلا هذه الآية ".
قال مجاهد: هو متصل، وكل مؤمن شهيد.
وروي ذلك عن ابن عمر، روي عنه أنه، قال في حديث له. والرجل يموت على فراشه هو شهيد، وقرأ هذه الآية.
وقيل " الشهداء " في هذا الموضع: النبيون الذين يشهدون على أممهم وهو قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء: ٤١].
هذا قول الفراء، والقول الأول هو اختيار الطبري، ويكون تمام الكلام: " الصديقون ".
7325
ثم يبتدئ الإخبار عن الشهداء، وإنما سمي المقتول في سبيل الله تعالى شهيداً، لأنه يشهد له بالجنة.
وقيل سمي شهيداً لأنه يشهد عند الله على الأمم. قال تعالى ﴿وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ [الحج: ٧٦].
وقال مجاهد: سمي المؤمن شهيداً، لأنه يشهد عند الله على نفسه بالإيمان.
ثم قال: ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾.
أي جحدوا ما أنزل الله تعالى وكذبوا بالقرآن هم أصحاب النار.
قال: ﴿اعلموا أَنَّمَا الحياوة الدنيا لَعِبٌ [وَلَهْوٌ]﴾ أي /: اعلموا أيها الناس أن ما عجل لكم في الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة زائلة مضمحلة، فأنتم تفاخرون بها وتتكثرون بها فمثلكم كمثل مطر أعجب الكفار نباته، أي: أعجبه الزراع نباته فهو على نهاية الحسن.
وقيل الكفار هنا هم المكذبون، لأنهم بالدنيا أشد إعجاباً، أي لا يؤمنون
بالبعث.
وقوله: ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ أي: يبتدئ في الصفرة.
﴿فتراه مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حطاما﴾ أي: متحطماً لا نفع فيه لأحد، فضرب الله تعالى مثلا للدنيا وزينتها وزوالها بعد الإعجاب بها.
(ثم أخبر تعالى بما في الآخرة من العذاب لمن ركن إلى الدنيا واختارها على الآخرة بالبعث فقال:
﴿وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله ورضوان﴾ لأهل الإيمان بالله ورسوله.
قال: ﴿سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض﴾.
أي: سابقوا أيها الناس وسارعوا إلى الأعمال الصالحة التي توجب [لكم] دخول الجنة سعتها كسعة السماوات [والأرض خالدين فيها أعدت للذين آمنوا بالله ورسله.
وقيل عرضها الذي هو خلاف الطول مثل عرض السماوات] والأرضين إذا وصل كل سماء بسماء وكل أرض بأرض، فإن قيل فأين السماوات والأرضون إذاً، فالجواب أن الليل إذا أقبل ذهب النهار في علم الله، وإذا أقبل النهار ذهب الليل في علم الله.
قال مكحول في قوله: ﴿سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ الآية، هو المسارعة إلى التكبيرة الأولى من الصلاة.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾.
أي: هذه الجنة التي تقدمت صفتها فضل من الله تفضل به على المؤمنين، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه، وهو ذو الفضل [العظيم] عليهم بما وفقهم له من الإيمان به والعمل الصالح وبسط لهم من الرزق، وعرفهم موضع الشكر.
قال: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كتاب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ﴾.
أي: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في جدب الأرض وقحطها وفساد ثمارها ولا في أنفسكم بالأوصاب والأوجاع إلا هو في كتاب، يعني أم الكتاب.
" من قبل أن نبرأ الأنفس " أي: نخلقها.
قال ابن عباس هو شيء قد فرغ عنه من قبل أن تخلق الأنفس، قال: وبلغنا أنه
7328
ليس أحد يصيب خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلجان عرق، إلا بذنب وما يعفو الله أكثر.
وقال الحسن في معنى الآية: كل مصيبة (من السماء) هي في كتاب الله جل ثناؤه من قبل أن نتبرأ القسمة، وهو قول الضحاك وابن زيد.
وعن ابن عباس أيضاً هو ما أصاب من مصيبة في الدين والدنيا هي في كتاب عند الله من قبل أن تخلق الأنفس.
وقيل الضمير في " نبرأها " بالمصائب، وقيل للأرض. ورجوعها إلى الأنفس أولى لأنه أقرب إليها.
وقوله: ﴿إِلاَّ فِي كتاب﴾ معناه: إلا هي في كتاب، ثم حذف الضمير.
قال ابن عباس أمر الله تعالى القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
ثم قال: ﴿إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي: إن خلق الله تعالى الأنفس وإحصاء ما هي
7329
ملاقيته من المصائب على الله سهل، لأنه إنما يقول لشيء كن فيكون.
قال: ﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ﴾.
أي: أعلمكم الله تعالى أن الأمور كلها قد فرغ منها، لكيلا تأسوا على ما فاتكم من أمر دنياكم، ولا تفرحوا بما جاءكم منها، وذلك الفرح الذي يؤدي إلى المعصية والحزن الذي يؤدي إلى المعصية.
قال عكرمة: هو الصبر عند المصيبة، والشكر عند النعمة، قال وليس (أحد إلا وهو) يحزن ويفرح، لكن من أصابته مصيبة فجعل / حزنه صبراً ومن أصابه خير فجعل فرحه شكراً، فهو ممدوح لا مذموم.
فالمعنى: أعلمكم بفراغه مما يكون وتقدم علمه به قبل خلقكم / كيلا تحزنوا حزناً تتعدون فيه على ما [لا] ينبغي، ولا تفرحوا فرحاً تتجاوزون فيه ما (ينبغي).
ثم قال: ﴿والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ أي: لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس.
وقيل: معناه: لا يحب كل مختال في مشيته تكبراً وتعظماً فخور على الناس بماله ودنياه.
قال: ﴿الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل﴾.
أي: يبخلون أن يؤمنوا بمحمد ﷺ، ويأمرون الناس ألا يؤمنوا به.
وقيل معناه: يبخلون بإخراج حق الله تعالى من أموالهم ويأمرون الناس بذلك، وهذه الآية نزلت في اليهود، عرفوا أن محمداً ﷺ حق وما جاء به حق، وكانوا قبل مبعث النبي ﷺ يحدثون الناس ويبشرونهم بقرب مبعثه، وينتصرون على أعدائهم به، ويقولون: اللهم بحق النبي المبعوث أنصرنا فينتصرون فلما بعث كتموا أمره وكفروا به وبخلوا أن يصدقوه، وأمروا الناس بتكذيبه.
قوله: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ أي: يعرض عن قبول ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في سبيل الله، وإخراج الزكاة، والإيمان بالله وبرسوله.
﴿فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد﴾ أي: الغني عن ماله ونفقته وغير ذلك، الحميد إلى خلقه بما أنعم عليهم من نعمة.
قوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات﴾ إلى قوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآيات [٢٤ - ٢٧].
أي لقد أرسلنا إلى أمم بالآيات المفصلات وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، والميزان بالعدل.
قال ابن زيداً (الميزان) ما يعمل به، ويتعاطون عليه في الدنيا من معائشهم في أخذهم وإعطائهم، فالكتاب فيه شرائع دينهم وأمر أخراهم، والميزان فيه تناصفهم في دنياهم.
﴿لِيَقُومَ الناس بالقسط﴾ أي: ليعمل الناس بينهم بالعدل.
ثم قال: ﴿وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ أي: قوة شديدة.
﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أي: وفيه منافع للناس، وذلك ما ينتفعون به عند لقائهم العدو وغير ذلك من المنافع مثل السكين والقدوم.
قال ابن زيد البأس الشديد: السيوف والسلاح التي يقاتل بها الناس والمنافع
هو حفرهم وحرثهم بها وغير ذلك.
قال مجاهد: أنزله ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، وأرسلنا الرسل وأنزلنا الكتاب والميزان ليعدلوا بينهم وليعلم حزب الله من ينصر دينه ورسله بالغيب منهم.
﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ﴾ أي: على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة، وخالف أمره عزيز في انتقامه منهم.
قال مجاهد: أنزل الحديد ليعلم من ينصره.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ﴾ الآية.
أي أرسلهما تعالى إلى قومهما، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب، ولذلك كانت النبوة في ذريتهما، وعليهم أنزل الله كتبه التوراة والزبور والإنجيل وأكثر الكتب.
ثم قال: ﴿فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ﴾ أي: فمن ذريتهما مهتد إلى الحق.
﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي: ضلال عن الحق.
قال: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم﴾ (أي: اتبعنا آثارهم برسلنا) أي: آثار الذرية، وقيل الضمير يعود على نوح وإبراهيم وإن كانا اثنين لأن الاثنين جمع.
ثم قال: ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ أي: واتبعنا الرسل بعيسى ابن مريم.
﴿وَآتَيْنَاهُ الإنجيل﴾ روي أنه نزل جملة.
ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ أي اتبعوا عيسى رأفة وهي أشد الرأفة.
﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها﴾ وأحدثوا رهبانية أحدثوها.
﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: ما افترضنا (عليهم الرهبانية).
﴿إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله﴾ أي: لم تكتب عليهم إلا أن يبتغوا رضوان الله " فابتغاء بدل من الضمير في " كتبناها ".
وقيل هو منصوب على الاستثناء المنقطع.
وقال الحارث المحاسبي: لقد ذم الله قوماً من بني إسرائيل ابتدعوا رهبانية لم
7334
يؤمروا بها، ولم يرعوها حق رعايتها.
وحكى عن مجاهد أنه قال في الآية معناها كتبناها عليم ابتغاء رضوان الله.
(قال أبو أمامة الباهلي وغيره / معنى الآية: لم نكتبها عليهم ولم يبتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله، فعاتبهم الله بتركها.
قال الحارث: وهذا أولى التفسيرين بالحق، يريد قول أبي أمامة قال وعليه أكثر العلماء، وقال الحارث فذمهم الله عليه بترك رعاية ما ابتدعوا، فكيف بمن ضيع رعاية ما وجب الله عليه).
ثم قال: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ هذا عام يراد به الخصوص إذ ليس كلهم فرطوا في الرهبانية، وذلك أن (الله كتب) عليهم القتال قبل أن يبعث محمداً ﷺ فلما قل أهل الإيمان وكثر أهل الشرك وذهبت الرسل وقهروا اعتزلوا في الغيران، فلم يزل ذلك شأنهم حتى كفرت طائفة منهم، وتركوا أمر الله وأخذوا بالبدعة، هذا قول الضحاك.
7335
وقيل الذين لم يرعوها هم قوم جاءوا بعد الأولين الذين ابتدعوا الرهبانية.
ثم قال: ﴿فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ أي: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسوله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على فعلهم.
﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي: أهل معاص وخروج عن طاعة الله.
وقال ابن زيد هم الذين رعوا ذلك الحق.
قال قتادة: الرأفة والرحمة من الله / وهم الذين ابتدعوا الرهبانية.
وقد قيل أن الرهبانية معطوفة على رأفة. ، وأنها مما آتاهم الله فابتدعوا فيها وغيروها وبدلوها.
قال: ﴿يا أيها الذينءَامَنُواْ﴾ أي: صدقوا بما جاءهم به محمد ﷺ من أهل الكتابين.
﴿اتقوا الله﴾ أي: خافوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
7336
﴿وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ﴾ يعني محمداً ﷺ.
﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ﴾ أي: يعطيكم ضعفين من الأجر بإيمانكم بعيسى ومحمد ﷺ، وأصل الكفل: الحظ.
قال ابن عباس كفلين: أجرين بإيمانكم بعيسى ومحمد عليه السلام وبالقرآن والإنجيل.
قال: " بن جبير بعث النبي ﷺ جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به، فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلاً إئذن لنا فنأتي هذا النبي فنلم به ونركب بهؤلاء في البحر، فأنا أعلم بالبحر منهم، فقدموا مع جعفر على النبي ﷺ وقد تهيأ النبي ﷺ لوقعة أحد، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة (وشدة الحال استأذنوا النبي ﷺ
7337
فقالوا يا رسول الله إن لنا أموالاً ونحن ما نرى ما بالمسلمين من خصاصة) فأن أنت أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله تعالى فيهم ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٥٢] إلى قوله ﴿يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [القصص: ٥٤]: أي: يريد النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن بالنبي عليه السلام، هذا فخروا على المسلمين فقالوا يا معشر المسلمين أما من آمن [منا] بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجره كأجوركم فما فضلكم علينا، فأنزل الله تعالى: ﴿ يا أيها الذينءَامَنُواْ اتقوا الله وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة.
قال الضحاك ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ أي: أجرين بإيمانكم بالكتابة الأول وبالكتاب الذي جاء به محمد ﷺ.
7338
قال ابن زيد " كفلين من رحمته " أجر الدنيا وأجر الآخرة.
وقال ابن عمر " كفلين " ثلاث مائة جزء من الرحمة وستة وثلاثون جزءاً رواه عنه نعيم بن حماد.
وقال الشعبي الناس يوم القيامة على أربع منازل: رجل كان مؤمناً بعيسى فآمن بمحمد ﷺ فله أجران، ورجل كان كافراً بعيسى فآمن بمحمد ﷺ فله أجر، ورجل كفر بعيسى وبمحمد عليهما السلام فباء بغضب على غضب، ورجل كان كافراً بعيسى من مشركي العرب فمات بكفره قبل محمد ﷺ / فباء بغضب واحد.
وسئل سعيد بن عبد العزيز عن الكفل فقال: " ثلاثمائة وخمسون حسنة
7339
وقال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ سأل حبراً من أحبار اليهود فقال له: كم أفضل ما ضعفت له الحسنة، فقال كفل ثلاث مائة وخمسون حسنة. قال: فحمد الله عمر على أنه تعالى أعطانا كفلين فضاعفه لنا الحسنة إلى سبع مائة ضعف.
وعن النبي ﷺ أنه قال: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل آمن بالكتاب الأول والكتاب الآخر، ورجل كانت له أمة، فأدبها، فأحسن تأديبها ثم أعقتها وتزوجها، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه تعالى ونصح لسيده ".
وقال عمر سمعت النبي ﷺ يقول: " وإنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استأجر عمالاً فقال من يعمل [من] بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط
7340
فعملت اليهود ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فعملتم ".
ثم قال: ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾.
قال ابن عباس النور: القرآن واتباعهم النبي عليه السلام، وقاله ابن جبير.
وقال مجاهد: ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ﴾ أي: هى.
وقيل معناه: ويجعل لكم نوراً تمشون به يوم القيامة، وهو النور الذي يكون للمؤمنين يوم القيامة.
وقوله: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ أي: يصفح عنكم ويستر ذنوبكم.
﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: ذو مغفرة ورحمة.
قوله: ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾. إلى اخر السورة.
7341
قيل معناه ليعلم أهل الكتب، و " لا " زائدة صلة، دل على ذلك أن بعده: / ﴿وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله﴾.
وقد قرأ ابن عباس ليعلم. وهي قراءة الجحدري.
وقرأ ابن مسعود وابن جبير " لكي يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ "، وذلك على التفسير، والمعنى فعل ذلك، لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصكم به لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع خلقه، فأعلمهم تعالى ذكره أنه قد أتى أمة محمد ﷺ من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم من زيادة النور والمغفرة والأجر.
قال قتادة: لما نزلت [هذه الآية يعني: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ حسد أهل الكتاب المسلمين عليها] فأنزل الله " لئلا يعلم أهل الكتاب.. [إلى آخرها، أي: فعلت ذلك لكي يعلم أهل الكتاب أنهم
7342
لا يقدرون] على شيء من فضل الله، يؤتي فضله من يشاء ويخص به من يشاء من خلقه.
قال قتادة: ذكر أن نبي الله ﷺ كان يقول: " إنما مثلنا ومثل أهل الكتاب من قبلنا كمثل رجل استأجر أجراء يعملون إلى الليل على قيراط، فلما انتصف النهار سئموا عمله وملوا فحاسبهم وأعطاهم نصف قيراط، (ثم استأجر أجراء يعملون إلى الليل على قيراط فعملوا إلى العصر ثم سئموا وملوا عمله، فاعطاهم على قدر ذلك ثم استأجر أجراء إلى الليل على قيراطين يعملون بقية عمله فقيل له ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأكثر أجراً؟ قال هو مالي أعطي من شئت ".
وقوله: ﴿وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله﴾ أي: بيده دونهم ودون غيرهم، يؤتيه من يشاء من
7343
خلقه، فلذلك أعطى أمة محمد ﷺ من الأجر على مدتهم القريبة ما لم يعط غيرهم.
﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾.
أي ذو الفضل على خلقه، العظيم فضله.
وقيل أنهم قالوا: الأنبياء منا، كفروا بعيسى وبمحمد ﷺ فأعلم الله خلقه أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، وليس فضله بموقوف على بني إسرائيل دون غيرهم فلا يرسل رسولاً إلا منها يرسل الرسول ممن يشاء على من يشاء، وإلى من يشاء، يفعل ما يشاء ويتفضل على من يشاء لا إله إلا هو.
7344
Icon