تفسير سورة التغابن

مراح لبيد
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة التغابن
مدنية. أو مكية، ثماني عشرة آية، مائتان وإحدى وأربعون كلمة، ألف وسبعون حرفا
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ينزهه تعالى جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه تنزيها مستمرا، لَهُ الْمُلْكُ فهو متصرف في ملكه، وَلَهُ الْحَمْدُ على أهل السموات والأرض، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أمر الدنيا والآخرة قَدِيرٌ (١)، لأن نسبة الكل إلى قدرته تعالى سواء، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ، أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، أي وبعض منكم مختار للإيمان كاسب له.
وقال عطاء والزجاج: أي فمنكم جاحد بأنه تعالى خلقه وهو من أهل الطبائع والدهرية، ومنكم مصدق بأنه تعالى خلقه، والمعنى: أنه تعالى تفضل عليكم بأصل النعم التي هي الخلق فانظروا النظر الصحيح، وكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين فما فعلتم ذلك بل تفرقتم فرقا، فمنكم كافر ومنكم مؤمن، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) من الكفر والإيمان فيجازيكم على ذلك، خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالإرادة القديمة على وفق الحكمة وَصَوَّرَكُمْ في الأرحام فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فمن نظر في قد الإنسان ومناسبته بين أعضائه فقد علم أن صورته أحسن صورة، وقد وجد فيه القوى الدالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته دلالة مخصوصة لحسن هذه الصورة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) أي المرجع يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية، وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أي بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس. أَلَمْ يَأْتِكُمْ أيها الكفرة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبلكم، كقوم نوح ومن بعدهم فَذاقُوا من غير مهلة وَبالَ أَمْرِهِمْ أي شدة أمرهم في الدنيا، وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ أي العذاب في الدنيا والآخرة بِأَنَّهُ أي الشأن كانَتْ أي القصة تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الظاهرات، فأنكروا أن يكون الرسول بشرا ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا بالرسل، وَتَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي أظهر الله
تعالى غناه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم ولم يلجئهم إلى ذلك وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن عبادتهم من الأزل حَمِيدٌ (٦)، أي مستحق للحمد بذاته وإن لم يحمده أحد زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا أي أنهم لن يبعثوا بعد موتهم أبدا، قُلْ يا أشرف الخلق لهم: بَلى تبعثون وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي لتحاسبن ولتجزون على أعمالكم، وَذلِكَ أي البعث والجزاء عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) لثبوت قدرته التامة فلا يصرفه صارف، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إذا كان الأمر كذلك، فآمنوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وهو القرآن، فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات، وذلك لئلا ينزل بك ما نزل بالكفار الماضية من العقوبة، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) فمجاز لكم عليه يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ أي لأجل ما في يوم القيامة من الحساب والجزاء. وسمي بالجمع لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين من أهل السموات وأهل الأرض، و «يوم» ظرف ل «لتنبؤن». وقرئ «نجمعكم» بنون العظمة ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أي يوم ظهور غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان، وفي الحديث «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكر، أو ما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة». وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ مع ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة وغير ذلك. وَيَعْمَلْ صالِحاً إلى أن يموت في إيمانه يُكَفِّرْ، أي الله عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ أي تكفير السيئات وإدخال الجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) الذي لا فوز وراءه.
وقرأ نافع وابن عامر «نكفر عنه» و «ندخله» بالنون فيهما. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بوحدانية الله وبقدرته وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بالقرآن، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) النار
ما أَصابَ أحدا مِنْ مُصِيبَةٍ دينية أو دنيوية في بدن وأهل ومال، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتقديره وإرادته و «من مصيبة» فاعل بزيادة من قيل: وسبب نزول هذه الآية أن الكتاب قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بأن يرى المصيبة من الله يَهْدِ قَلْبَهُ عند المصيبة للتسليم لأمر الله فيسترجع.
وقرئ «يهد قلبه» على البناء للمفعول ورفع «قلبه». وقرئ بنصبه على نهج سفه نفسه وقرئ «يهدأ» بالهمزة على وزن يقطع ويخضع، أي يسكن فيسلم لقضاء الله تعالى ويصبر على المصيبة، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) فيعلم اطمئنان القلب عند المصيبة، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي هونوا المصائب على أنفسكم، واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى ومن الرسول فيما دعاكم إليه، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) أي فإن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ الظاهر، وقد فعل ذلك. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي الله المستحق للمعبودية لا مستحقا للمعبودية يصح أن يوجد إلا هو وجملة «لا إله إلا
533
هو» خبر لاسم الجلالة، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) في كل باب لأنه لا مقصود إلا هو، فإن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ولا يتقوى إلا به. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤).
قال عطاء بن يسار: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فأراد أن يغزو، فبكوا إليه، ورققوه وقالوا له: إلى من تدعنا؟ فرق عليهم وأقام في البلد وترك الغزو، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة، فمنعهم أزواجهم وأولادهم وقالوا لهم: صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم، فأطاعوهم، وتركوا الهجرة، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا المهاجرين الأولين قد تفقهوا في الدين هموا أن يعاقبوا
أزواجهم وأولادهم وإن لحقوا بهم في دار الهجرة لم ينفقوا عليهم ولم يصيبوهم بخير، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم وَتَصْفَحُوا بترك التثريب والتعيير وَتَغْفِرُوا بإخفائها بعد ما هاجروا من مكة إلى المدينة فإن الله يعاملكم بمثل ما عملتم، وهذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإسلام فإنهم من الكفار، أما أزواجهم وأولادهم المؤمنون فلا يكونون عدوا لهم نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي بلاء وشغل عن الآخرة إذ منعوكم عن الهجرة والجهاد فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى، اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
(١٥) لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في تقوى الله غاية طاقتكم. وهذا مثل قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢] فإنه لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعونه فوق الطاقة، وَاسْمَعُوا مواعظه وَأَطِيعُوا أوامره، وَأَنْفِقُوا مما رزقكم في الوجوه التي أمركم خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ، أي وأتوا خيرا لأنفسكم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) أي من يكفه الله بخل نفسه فيفعل في ماله جميع ما أمر به مطمئنا إليه حتى ترتفع عن قلبه الأخطار، فأولئك هم الفائزون بكل مرام إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي إن تنفقوا في طاعة الله تعالى من حلال بطيب نفس متقربين إليه يجزكم بالضعف إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرئ «يضعفه» بتشديد العين. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما فرط منكم من بعض الذنوب ببركة الإنفاق وَاللَّهُ شَكُورٌ يشكر اليسير ويجزي الجزيل من صدقاتكم، حَلِيمٌ (١٧) لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته، أو يمتنع من التصدق عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لا يخفى عليه شيء من الخشية والمن الْعَزِيزُ، أي الذي لا يعجزه شيء، الْحَكِيمُ (١٨) أي الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، فالعزيز يدل على القدرة، والحكيم يدل على الحكمة.
534
Icon