ﰡ
والنَّصَبُ : الدَّأبُ فِي العملِ، وقال عكرمةُ والسديُّ :((عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا بمَعَاصِي اللهِ، نَاصِبَةٌ فِي النَّار يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وقال سعيدُ بن جبير :((هُمُ الرُّهْبَانٌ أصْحَابُ الصَّوَامِعِ الَّذِينَ يَتْعَبُونَ وَيَنْصَبُونَ فِي الْعِبَادَةِ، ثُمَّ لاَ يَخْلصُونَ فِي الآخِرَةِ مِنْ ذلِكَ عَلَى شَيْءٍ لِوُقُوعِ ذلِكَ عَلَى غَيْرِ مُوَافَقَةِ الْعِلْمِ)). ويقالُ : همُ الخوارجُ. ويقال : المرادُ به كلُّ مَن عمِلَ عَملاً، وخلَطَ بعملهِ ما يُبطِلهُ من ربَا أو شركٍ أو عُجب.
قرأ العامَّة (تَصْلَى) بفتحِ التاء، وقرأ أبو عمرٍو ويعقوب وأبو بكر بضمِّها اعتباراً بقوله :﴿ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴾ ؛ أي من عَين متناهيةٍ في الحرِّ، قال الحسنُ :((قَدِ انْتَهَى طَبْخُهَا مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ إلَى تِلْكَ السَّاعَةِ)).
وقال الكلبيُّ :((الضَّرِيعُ لاَ تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ، إذا يَبسَ لاَ يَرْعَاهُ شَيْءٌ)). وقال عطاءُ :((هُوَ شَيْءٌ يَطْرَحُهُ الْبَحْرُ الْمَالِحُ تُسَمِّيهِ أهْلُ الْيَمَنِ الضَّرِيعُ)). وعن رسولِ الله ﷺ قالَ :" الضَّرِيعُ شَيْءٌ يَكُونُ فِي النَّار يُشْبهُ الشَّوْكَ أمَرُّ مِنَ الصَّبرِ، وَأنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، وَأشَدُّ حَرّاً مِنَ النَّار، سَمَّاهُ اللهُ ضَرِيعاً ".
وقِيْلَ : إنَّ اللهَ يرسلُ على أهلِ النار الجوعَ حتى يعدلُ ما بهم من العذاب، فيستَغيثون من الجوعِ فيُغاثون بالضَّريع، ثم يستَغيثون فيُغاثون بطعامٍ ذِي غُصَّةٍ، فيذكُرون أنَّهم كانوا يسلِكُون الغصصَ في الدُّنيا بالماءِ، فيُسقَون فَيَعطشون ألفَ سنةٍ، ثم يُسقَون من عينٍ آنية لا شربة هنيَّة ولا مريَّة، فكلَّما أدنَوهُ من وجُوهِهم سلخَ جلودَ وجُوههم وسوَّدَها، فإذا وصلَ إلى بطونِهم قطَّعَها، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾[محمد : ١٥].
فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قال المشرِكون : إنَّ إبلَنا لتسمَنُ على الضَّريع، فأنزلَ اللهُ قولَهُ تعالى :﴿ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴾ ؛ وكَذبوا، فإن الإبلَ لا ترعاهُ إلاّ ما دامَ رَطْباً، وأما إذا يبسَ فلا تقربهُ دابَّةٌ، ورَطِبُه يُسمَّى شَبْرَقاً لا ضَريعاً، والمعنى : لا يُسمَنُ مَن أكلَهُ ولا يسدُّ جوعةً.
وَقِيْلَ : في وجه اتصالِ هذه الآية بما قبلَها : أنَّ النبيَّ ﷺ لَمَّا وصفَ للمشركين سُرُرَ أهلِ الجنة مع علُوِّها وارتفاعِها، وأنَّها تنحطُّ لصاحبها إذا أرادَ صُعودَها ثم ترتفعُ، استبعَدُوا ذلك، فذكرَ الله ما يزيلُ استبعادَهم وكانوا أربابَ إبلٍ، فأرَاهم دلائلَ توحيدهِ فيما في أيديهم.
وتكلَّمَت الحكماءُ في وجه تخصيصِ الإبل من بين سائرِ الحيوانات، فقال مقاتلُ :((لأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوا بَهِيمَةً قَطُّ أعْظَمَ مِنْهَا، وَلَمْ يُشَاهِدُوا الْفِيلَ " إلاَّ " الشَّاذ مِنْهُمْ)). وقال الحسنُ :((لأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّوَى، وَتُخْرِجُ اللَّبَنَ)). وَقِيْلَ : لأنَّها مع عِظَمها تلينُ للحملِ الثقيل وتنقادُ للقائدِ الضعيف يذهبُ بها كيفَ شاءَ.
وحكى الأُستاذ أبو القاسمِ بن حبيبٍ : أنه رأى في بعض التفاسيرِ : أنَّ فأرةً أخذت بزِمام ناقةٍ، فجعلتِ الفارةُ تجرُّ الناقةَ وهي تتبَعُها حتى دخلت الجحرَ، فجَرَّت الزمامَ فبَركت، فجَرَّته فقرَّبت فمَها من جحرِ الفارةِ، فسبحان الذي قدَّرها وسخَّرها وذلَّلَها.
وقال أبو عمرٍ :((الإبلُ هِيَ السَّحَابُ، وَهِيَ ألْيَقُ بما بَعْدُ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاءِ وَالْجِبَالِ)) إلاَّ أنَّ هَذا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ، وإنما يقولون للسَّحاب : الإبلَّ بتشديدِ اللام.
قال أنسُ بن مالك :((صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أبي طَالبٍ، فَقَرَأ :(أفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبلِ كَيْفَ خَلَقَتُ، وَإلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رَفَعْتُ * وَ... نُصَبْتُ * و... سَطَحْتُ) برَفْعِ التَاءِ))، وقرأ الحسنُ بالتشديدِ.