تفسير سورة الفجر

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (أي فجر كل يوم) هذا أحد أقوال كثيرة في تفسير الفجر، وهو قول علي وابن الزبير وابن عباس، أو فجر أول يوم من المحرم، منه تنفجر السنة، أو فجر يوم النحر، لأن فيه أكثر مناسك الحج، وفيه القربات، أو فجر ذي الحجة لأنه قرن به الليالي العشر. قوله: (أي عشر ذي الحجة) أي وإنما ذكرت لأنها أفضل ليالي السنة، وما ذكره المفسر أحد أقوال، وقيل: هي العشر الأواخر من رمضان، وقيل: العشر الأول من المحرم. قوله: ﴿ وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ ﴾ قال مجاهد ومسروق: الشفع الخلق كله، قال تعالى:﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ﴾[الذاريات: ٤٩] الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والسعادة والشقاوة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجن والإنس. والوتر هو الله تعالى:﴿ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ﴾[الإخلاص: ١] وقيل: ﴿ ٱلشَّفْعِ ﴾ تضاد صفات المخلوقين: من العز والذل، والقدرة والعجز، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والبصر والعمى، والوتر انفراد صفات الله تعالى: عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت. وقيل: الوتر يوم عرفة لأنه تاسع، والشفع يوم النحر لأنه عاشر، وقيل غير ذلك. قوله: (بفتح الواو وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان، ولغتان جيدتان. قوله: ﴿ وَٱلَّيلِ ﴾ قسم خامس، بعدما أقسم بالليالي العشر على الخصوص، أقسم بالليل على العموم، وقيل: ليلة المزدلفة خاصة، وقيل: ليلة القدر لسريان البركة فيهما. قوله: ﴿ إِذَا يَسْرِ ﴾ ﴿ إِذَا ﴾ معمول لمحذوف هو فعل القسم، والمعنى: أقسم بالليالي وقت سراه. قوله: (مقبلاً) أي بإدبار النهار، وقوله: (ومدبراً) أي بإقبال النهار، وفيه إشارة إلى أن إسناد السرى لليل حقيقة، وقال غيره، إسناد السرى له مجاز عقلي من الإسناد للزمان، والمعنى يسرى فيه وكل صحيح. قوله: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ ﴾ إلخ، استفهام تقريري لفخامة شأن الأمور المقسم بها، واسم الإشارة عائد على الأمور المقسم بها. قوله: (القسم) أي الحلف، وأل جنسية صادقة بالمذكور من الأقسام وهي خمسة، وكذا يقال في قوله: (وجواب القسم) الخ. قوله: (عقل) سمي حجراً لأنه يحجر صاحبه ويمنعه من القبائح. قوله: (وجواب القسم محذوف) وقيل هو قوله تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾[الفجر: ١٤] وقيل غير ذلك.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الخ، شروع في بيان أحوال الأمة الماضية، وذكر منهم عاداً وثمود وفرعون، لأن أخبارهم كانت معلومة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكنه عام لكل أحد. قوله: ﴿ إِرَمَ ﴾ هو في الأصل اسم جد عاد، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بنوح عليه السلام، سميت القبيلة باسم جدهم عاد، وعاش ألف سنة ومائتي سنة، ورزق من صلبه أربعة آلاف ولد، وتزوج ألف امرأة، ومات كافراً. قوله: (أي الطول) هذا أحد أقوال، وقيل: إن المراد به الأبنية المرتفعة على العمد، فكانوا ينصبون الأعمدة فيبنون عليها القصور، وقيل: ﴿ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ﴾ ذات القوة والشدة، قال تعالى:﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾[فصلت: ١٥] وقيل: غير ذلك. قوله: (كان طول الطويل) الخ، نحوه قول الكازروني: طول الطويل منهم خمسمائة ذراع، والقصير ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه، ورد ذلك أن ابن العربي بقوله: هو باطل، لأن في الصحيح:" إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعاً في الهواء فلم يزل الخلق ينقصون إلى الآن "اهـ. وقال قتادة: إن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعاً. قوله: ﴿ ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ ﴾ أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة، وهم الذين قالوا: من أشد منا قوة؟ وقيل: هي مدينة بناها شداد بن عاد، وحاصل قصتها: أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد، فملكا بعده وقهرا العباد والبلاد، فمات شديد وخلص الملك لشداد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، وكان يحب قراءة الكتب القديمة، فسمع بذكر الجنة وصفتها، ودعته نفسه إلى بناء مثلها عتواً على الله وتجبراً، فروى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة، أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو يسير في صحارى عدن، إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة، فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله، فلم ير خارجاً ولا داخلاً، فنزل عن دابته وعقلها، وسل سيفه ودخل من باب المدينة، فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر، فلما رأى ذلك دهش، ففتح الباب ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير أحداً مثلها، فإذا فيها قصور، في كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة وأحجار اللؤلؤ والياقوت وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة، يقابل بعضها بعضاً، وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فلما عاين ذلك ولم ير أحداً هاله ذلك، ثم نظر إلى الأزفة، فإذا في تلك الأزفة أشجار مثمرة، وتحت تلك الأشجار أنهار يجري ماؤها في قنوات من فضة، فقال الرجل في نفسه: هذه الجنة، وحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق مسكها وزعفرانها، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدث بما رأى، فبلغ ذلك معاوية فأرسل إليهم فقدم عليه، فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال: يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم، هي إرم ذات العماد، بناها شداد بن عاد، قال: فحدثني حديثها، فقال: لما أراد شداد بن عاد عملها، أقر عليها مائة قهرمان، مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوهم بما في بلادهم من الجواهر، فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضاً موافقة، فوقفوا على صحراء نقية من التلال، وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا: هذه الأرض التي أمر الملك أن نبني فيها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا فاجعلوا حصنا يعين سوراً، واجعلوا حوله ألف قصر، وعند كل قصر ألف علم، ليكون في كل قصر وزير من وزرائي، ففعلوا؛ وأمر الملك وزارءه وهو ألف وزير، أن يتهيؤا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يبق منهم أحد. ثم قال كعب: وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير على حاجبيه خال، وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة، فقال: هذا والله ذاك الرجل، وهذه المدينة تزعم العامة أنها دائرة في الدنيا، وهو من الخرافات، بل هي في مكانها، غير أن الله تعالى يعمي الخلق عنها، فلم يهد لها إلا من وعده بها. قوله: (في بطشهم) متعلق بمثلها، والضمير عائد على القبيلة باعتبار أهلها. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ ﴾ صفة لثمود، والباء في بالوادي بمعنى في و ﴿ ثَمُودَ ﴾ عطف على ﴿ عَادٍ ﴾ وهي قبيلة مشهورة. قوله: (واتخذوها بيوتاً) قيل: أول من نحت من الجبال والصخور والرخام ثمود، وروي أنهم بنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة، وقيل: سبعة آلاف كلها من الحجارة. قوله: (وادي القرى) موضع بقرب المدينة من جهة الشام. قوله: (كان يتد أربعة أوتاد) الخ، أي يدقها للمعذب، ويشهد بها مطروحاً على الأرض، ثم يعذبه بما يريد من ضرب وإحراق وغيرهما. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ ﴾ إما مجرور صفة للمذكورين، أو منصوب أو مرفوع على الذم. قوله: (نوع) ﴿ عَذَابٍ ﴾ فسره بذلك لقول الفراء: سوط العذاب كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب. والمعنى: أنزل على كل نوعاً من العذاب، فأهلكت عاد بالربح، وثمود بالصيحة، وفرعون بالغرق. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾ تعليل لما قبله، إعلاماً بأن كفار قومه عليه السلام سيصيبهم مثل ما أصاب المذكورين من العذاب. قوله: (يرصد أعمال العباد) أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة تمثيلية، شبه حفظة تعالى لأعمال عباده ومجازاته عليها، بحال من قعد على الطريق مترصداً لمن يسلكها ليأخذه فوقع به ما يريد، واستعير اسم المشبه به للمشبه.
قوله: ﴿ فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ ﴾ أما هنا لمجرد التأكيد، لا للتأكيد مع التفصيل، لعدم تقدم مقتضيه، وهو مرتبط بقوله:﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾[الفجر: ١٤] فكأنه قيل: إن الله لا يرضى من عباده إلا الطاعة والإخلاص، لما في الحديث:" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "فأما الإنسان فلا يلتفت لذلك، لكونه مطبوعاً علىخلافه، وإنما يلتفت للعاجل، وما قررناه سالم من الدسيسة الاعتزالية الواقعة في كلام الزمخشري حيث نفى عن الله إرادة المعاصي والقبائح ونص عبارته، فإن قلت: بم اتصل قوله: ﴿ فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ ﴾؟ قلت: بقوله:﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾[الفجر: ١٤] فكأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة، فأما الإنسان فلا يريد ذلك، ولا يهمه إلا العاجلة اهـ. فتدبر. قوله: ﴿ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ ﴾ الخ، إنما سمى كلاً من بسط الرزق، وتقديره ابتلاء، لأنه يختبر حال العبد في الحالين، فإذا بسط له الرزق فقد اختبر حاله، أيشكر أم يكفر؟ وإذا قدر عليه، فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع؟ فالحكمة فيهما واحدة. قوله: (اختبره) أي عامله معاملة المختبر. قوله: (بالمال وغيره) أي كالجاه والولد. قوله: ﴿ وَنَعَّمَهُ ﴾ أي جعله متلذذاً بتلك النعم. قوله: ﴿ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ ﴾ أي فضلني وأحسن إلي. قوله: ﴿ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ ﴾ ﴿ مَا ﴾ زائدة لوقوعها بعد ﴿ إِذَا ﴾ وكذا يقال في الأولى. قوله: ﴿ فَقَدَرَ ﴾ بالتخفيف والتشديد قراءتان سبعيتان، إن قلت: مقتضى المقابلة أن يقول: فأهانه وقدر عليه زرقه، كما قال: فأكرمه ونعمه. أجيب: بأن البسط إكرام من الله لعبده، وليس ضده إهانة، بل ترك للكرامة، فإذا أهدى لك إنسان هدية فقد أكرمك بها، وإذا لم يهد إليك فلم يحصل منه إكرام ولا إهانة، وأيضاً فيه إشارة إلى أن تقتير الرزق، لا يلزم منه أن يكون دليلاً على إهانة، بل قد يكون دليلاً على المحبة والتكريم، لما ورد:" أشدكم بلا: الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل "فقول العبد: ربي أهانني من قصورة وغفلته، وإلا فالمطلوب منه أن يرضى ويسلم. قوله: ﴿ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ ﴾ أي لم يحسن إلي ولم يفضلني، في ياء أهانني وأكرمني خلاف بين القراء، فبعضهم يثبتهما وصلاً ووقفاً، وبعضهم يحذفهما في الحالين، وبعضهم يثبتهما وصلاً ويحذفهما وقفاً. قوله: (ردع) أي عن الشقين بدليل قوله: (أي ليس الإكرام) الخ. قوله: (وكفار مكة) الخ، توطئة للدخول على قوله: ﴿ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ﴾ الخ، وقوله: (لذلك) أي لكون الإكرام بالطاعة، والإهانة بالكفر والمعاصي، وكثير من جهلة المؤمنين يعتقدون هذا الاعتقاد، وهو غلط وغرور. قوله: ﴿ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ ﴾ إضراب من قبيح إلى أقبح منه ترقياً في ذمهم. قوله: ﴿ وَلاَ تَحَآضُّونَ ﴾ أي يحثون ومفعوله محذوف قدره. بقوله: (أنفسهم ولا غيرهم). قوله: (أي إطعام) أشار بذلك إلى الطعام مصدر بمعنى الإطعام، وفيه إيماء إلى أن إكرام اليتيم، والحث على إطعام المساكين، من أعظم الخصال فضيلة. قوله: ﴿ وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ ﴾ التاء فيه مبدلة من الواو، لأنه من الوراثة، كما في تجاءة وتكاءة. قوله: ﴿ أَكْلاً لَّمّاً ﴾ أي جمعاً، فاللم الجمع، يقال: لممت الشيء جمعته، ومنه لم الله شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره. قوله: (أي شديداً) صفة لموصوف محذوف، أي جمعاً شديداً. قوله: (اللم نصيب النساء) الخ، أي فإنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان، ويأكلون أنصباءهم، أو يأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام، عالمين بذلك، إن قلت: إن السورة مكية، وآية المواريث مدنية، ولا يعلم الحل والحرمة إلا من الشرع، أجيب: بأن حكم الإرث، كان معلوماً لهم من بقايا شريعة إسماعيل، فهو ثابت عندهم بطريق عادتهم. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً، وقرئ في السبع أيضاً تحاضون، وأصله تتحاضون، حذفت إحدى التاءين، أي لا يحض بعضكم بعضاً. قوله: (ردع لهم عن ذلك) أي عن جمع المال وحبه، وعدم إكرام اليتيم.
قوله: ﴿ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ ﴾ أي حصل رجهاً وزلزلتها لتسويتها. قوله: ﴿ دَكّاً دَكّاً ﴾ ليس تأكيداً، بل التكرار للدلالة على الاستيعاب كقولك: رتبته باباً باباً، أي باباً بعد باب، وكذا يقال هنا: دكاً بعد دك حتى تزول الجبال وتستوي الأرض. قوله: (أي أمره) دفع بذلك ما يقال: إن المجيء يقتضي الانتقال، وهو على الله محال. فأجاب: بأن الكلام على حذف مضاف، أي حصل أمره وظهر سلطانه وقهره وتجليه على عباده. قوله: ﴿ صَفّاً صَفّاً ﴾ أي صفاً بعد صف. لما ورد ع ابن عباس رضي الله عنهما: أن الخلائق إذا جمعوا في صعيد واحد، الأولين والآخرين، أمر الجليل جل جلاله بملائكة سماء الدنيا أن يتولوهم فيأخذ كل واحد منهم إنساناً وشخصاً من المبعوثين، انساً وجناً ووحشاً وطيراً، وحولوهم إلى الأرض الثانية، أي التي تبدل، وهي أرض بيضاء من فضة نورانية، وصارت الملائكة من وراء الخلق حلقة واحدة، فإذا هم أكثر من أهل الأرض بعشر مرات، ثم إن الله تعالى يأمر ملائكة السماء الثانية، فيحدقون بهم حلقة واحدة، وإذا هم مثلهم عشرين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء الثالثة، فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة فإذا هم مثلهم ثلاثين ضعفاً، ثم تنزل ملائكة السماء الرابعة، فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة، فيكونون أكثر منهم بأربعين ضعفاً، ثم تنزل ملائكة السماء الخامسة، فيحدقون من ورائهم حلقة واحدة، فيكونون مثلهم خمسين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء السادسة، فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة، وهم مثلهم ستين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء السابعة، فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة، وهم مثلهم سبعين مرة، والخلق تتداخل وتندمج، حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام، ويخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة، إلى الأذقان وإلى الصدور وإلى الحقوين وإلى الركبتين، ومنهم من يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في الحمام، ومنهم من تصيبه البلة، بكسر الموحدة وتشديد اللام، كالعاطش إذا شرب الماء، وكيف لا يكون القلق والعرق والأرق، وقد قربت الشمس من رؤوسهم، حتى لو مد أحدهم يده لنالها، وتضاعف حرها سبعين مرة، وقال بعض السلف: لو طلعت الشمس على الأرض كهيئتها يوم القيامة، لا حترقت الأرض وذاب الصخر وانشقت الأنهار، فبينما الخلائق يمرجون في تلك الأرض البيضاء التي ذكرها الله حيث يقول:﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ ﴾[إبراهيم: ٤٨] إذ جيء بجهنم الخ. قوله: ﴿ وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ منصوب بـ ﴿ جِيۤءَ ﴾ و ﴿ بِجَهَنَّمَ ﴾ قائم مقام الفاعل قوله: (كل زمام بأيدي سبعين ألف ملك) أي يجرونها حتى تقف عن يسار العرش، قال أبو سعيد الخدري:" لما نزل ﴿ وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ تغير لون رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه، حتى اشتد على أصحابه ثم قال: أقرأني جبريل ﴿ كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً ﴾ الآية.
﴿ وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ قال علي رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، كيف يجاء بها؟ قال: يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، يقول بكل زمام سبعون ألف ملك، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم تعرض لي جهنم فتقول: ما لى ولك يا محمد، إن الله قد حرم لحمك علي، فلا يبقى أحد إلا قال نفسي نفسي، إلا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يقول: يا رب أمتي أمتي ". قوله: (لها زفير) أي صوت شديد. قوله: (وتغيظ) أي غليان كغليان صدر الغضبان. قوله: (بدل من إذا) أي والعامل فيها يتذكر الذي هو الجواب، وهذا مذهب سيبويه، وقال غيره البدل على نية تكرار العامل، فالعامل في البدل محذوف، نظير عامل المبدل منه. قوله: ﴿ وَأَنَّىٰ ﴾ اسم استفهام خبر مقدم، و ﴿ ٱلذِّكْرَىٰ ﴾ مبتدأ مؤخر، و ﴿ لَهُ ﴾ متعلق بما تعلق به الظرف. قوله: (استفهام بمعنى النفي) أي فهو انكاري. قوله: (للتنبيه) أي والتحسر قوله: (الخير والإيمان) أشار بذلك إلى أن مفعول ﴿ قَدَّمْتُ ﴾ محذوف. قوله: ﴿ لِحَيَاتِي ﴾ اللام إما للتعليل أي لأجل حياتي هذه الكائنة في الآخرة، أو بمعنى وقت، والمراد بالحياة الحيا الدنيوية، وقد أشار لها المفسر. قوله: (بكسر الذال) وقوله: (بكسر الثاء)، أي فأحد فاعل فيهما. قوله: (أي لا يكله إلى غيره) أي لا يأمر غيره بمباشرته، والمراد بالغيرة غير الملائكة، فلا ينافي أنه تعالى يكله إلى ملائكة العذاب، لأنهم يباشرونه بإذن الله وأمره لهم، ويحتمل أن المعنى: لا يعذب أحد من خلق الله تعذيباً، مثل تعذيب الله هذا الكافر، ولا يوثق أحد من خلق الله إيثاقاً مثل إيثاق الله لهذا الكافر، وكل صحيح. قوله: ﴿ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ أي لا يشد ولا يربط بالسلاسل الأغلال أحد مثل ربطه وشده. قوله: (وفي قراءة بفتح الذال والثاء) أي وهما سبعيتان، و ﴿ أَحَدٌ ﴾ على هذه القراءة نائب الفاعل بهما الذي هو الله تعالى، أو الزبانية المتولون العذاب بأمره تعالى. قوله: (مثل تعذيبه) مصدر مضاف للمفعول وهو الكافر.
قوله: ﴿ يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ﴾ لما ذكر حال من كانت همته الدنيا، ذكر حال من اطمأنت نفسه بالله، فسلم إليه أمره واتكل عليه. قوله: (الآمنة) أي التي لا يستفزها خوف ولا حزن قوله: (وهي المؤمنة) هذا قول ابن عباس، وقال الحسن (المؤمنة) الموقنة، وعن مجاهد أيضاً: الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال ابن عطاء: العارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين، وقيل: المطمئنة بذكر الله، وقيل غير ذلك، وفي الحقيقة كل من تلك المعاني صحيح، لأنه متى ثبت لها الإيمان عند الموت، تحققت بذلك الخطاب، فكلام المفسر من جوامع الكلم. قوله: ﴿ ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ ﴾ هو خبر في المعنى، وإن كان أمراً في الظاهر. قوله: (عند الموت) قال عبد الله بن عمر: إذا توفي العبد المؤمن، أرسل الله عز وجل إليه ملكين، وأرسل اليه بتحفة من الجنة، فقال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح وريحان، وربك عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملائكة على أرجاء السماء يقولون: قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة، فلا تمر بباب إلا فتح لها، ولا بملك إلا صلى عليها، حتى يؤتى بها الرحمن جل جلاله فتسجد له، ثم يقال لميكائيل: اذهب بهذه النفس، فاجعلها مع أنفس المؤمنين، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعاً عرضه، وسبعون ذراعاً طوله، وينبذ فيه الروح والريحان، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن جعل له نور مثل نور الشمس في قبره، ويكون مثله مثل العروس، ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه. وإذا توفي الكافر، أرسل الله إليه ملكين، أرسل قطعة من سكاء، أنتن من كل نتن، وأخشن من كل خشن، فيقال: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم، وركب عليك غضبان اهـ. وما ذكره المفسر من أن النداء عند الموت أحد قولين، والآخر أنه عند البعث، ومعنى قوله: ﴿ ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ ﴾ إي صاحبك وهو الجسد، فيأمر الله تعالى الأرواح أن ترجع إلى الأجساد، وبه قال عكرمة وعطاء والضحاك. قوله: ﴿ فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾ الإضافة للتشريف، وإلا فالكل عباده. قوله: ﴿ وَٱدْخُلِي جَنَّتِي ﴾ (معهم) أي الصالحين، لتفوزي بالنعيم المقيم، ولأهل الإشارات تفاسير، منها: أن الله يناديها في الدنيا بهذا النداء، حيث اتصفت بتلك الصفات، يقول لها ﴿ يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ ﴾ بفنائك عما سواه.
﴿ رَاضِيَةً ﴾ بأحكامه.
﴿ مَّرْضِيَّةً ﴾ له بأوصافك ﴿ فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾ (الصالحين) أي فكوني معدودة فيهم ومحسوبة منهم ﴿ وَٱدْخُلِي ﴾ جنة شهودي في الدنيا ما دامت فيها، وهي الجنة المعجلة، ويقال لها ذلك أيضاً عند البعث على التفسير المتقدم، ويراد حينئذ بالجنة جنة الخلود وفسروا بذلك قوله تعالى:﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾[الرحمن: ٤٦] أي جنة الشهود في الدنيا، التي قال فيها العارف بن الفارض: أنلنا مع الأحباب رؤيتك التي   إليها قلوب الأولياء تسارعوجنة الخلود في العقبى، وهذا النداء الواقع في الدنيا يسمعه العارفون، إما في المنام أو بالإلهام، وتقدم تقسيم النفس، ومأخوذ كل قسم في سورة القيامة.
Icon