تفسير سورة الشمس

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الشمس من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الشَّمْسِ
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١)
هذا قسم وجوابه: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا).
ومعناه لَقَدْ أَفْلَحَ ولكن اللام حذفت لأن الكلامَ طَالَ فصار طوله عوضا منها ومعنى (وضحاها) وَضِيائِها.
وقيل ضحاها النهار، وقرأ الأعمش وأصْحَابُهُ ضحاها وتلاها وطحاها بالفتح، وقرأوا باقي السُّورة بالكسر.
وقرأ الكسائي السورة كلها بالإمالة.
وقرأها أبو عمرو بن العلاء بين اللفظين.
وهذا الذي يسميه الناس الكسر ليس بكسر صحيح، يسميه الخليل
وأبو عمرو الِإمَالَةَ، وإنما كسر من هذه الحروف ما كان منها من ذوات الياء ليدلوا على أن الشيء من ذوات الياء.
ومن فتح ضحاها وَتَلَاهَا وطحاها فلأنه من ذوات الواو، ومن كسر فلأن ذوات الواو كلها إذا رد الشيء إلى ما لم يسم
فاعله انتقل إلى الياء، تقول قد تُلِيَ وَدُحِيَ وَطُحِيَ.
* * *
وقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢)
معناه حين تلاها، وقيل حين - استدار فكان يتلو الشمس في الضياء
والنور.
* * *
وقوله: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣)
قالوا معناه إذَا جَلَّى الظلمة، وإن لم يكن في الكلام ذكر الظلمة فالمعنى
يدل عليها كما تقول: أصبحت باردة، تريد أصبحت غُداتنا بَارِدة
وقيل: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) إذا بين الشمس لأنها تبين إذا انبسط النهار.
* * *
وقوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥)
معناه والسماء وبنائها، وكذلك (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) معناه والأرض
وطحوها.
وكذلك: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧)
وقيل معنى " ما " ههنا معنى (مَنْ)
المعنى والسماء والذي بناها.
ويحكى عن أهل الحجاز " سُبْحَانَ مَا سَبَّحْتُ لَهُ " أي سبحان الذي سبحت، وَمَنْ سَبَّحْتُ له.
فأقسم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بهذه الأشياء العظام من خلقه لأنها تدل
على أَنه واحِدٌ والذي ليس كمثله شيء (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨)
قيل علمها طريق الفجور وطَرِيقَ الهدى.
والكلام على أن أَلهَمَها التقوى، وفقَهَا للتقوى، وألْهَمَها فُجورَهَا خذلها، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)
أي قد أفلحت نفسٌ زَكاهَا اللَّهُ.
* * *
(وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)
خابت نَفْسٌ دَسَّاهَا اللَّه.
ومعنى (دَسَّاهَا) جعلها قليلة خَسِيسَةً.
والأصل دَسَّسَهَا، ولكن الحروف إذا اجتمعت من لفظٍ واحِدٍ أُبدَل من أحدها ياء.
قال الشاعر:
تَقَضِّيَ البَازِي إِذا البَازِي كَسَرْ
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَمَا بَنَاهَا﴾: وما بعدَه، فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ، واختاره ابن جرير. والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: وبناءِ السماء، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ، واعْتُرِضَ على هذا القولِ: بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر: بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى. وأُجِيب عنه بوجهَيْن، أحدُهما: يكونُ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وربِّ - أو باني - بناءِ السماء ونحوه. والثاني: أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمخشري: «جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولِه» فأَلْهمها «وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم. والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً، وإنما أُوْثِرَتْ على» مَنْ «لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها. وفي كلامهم:» سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا «انتهى. يعني أنَّ الفاعلَ في» فألهمها «عائدٌ على اللَّهِ تعالى فليكُنْ في» بناها «كذلك، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ» ما «فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً.
وقال الشيخ:»
أمَّا قولُه: «وليس بالوجهِ لقولِه» فَأَلْهمها «يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في» فَأَلْهمها «على الله تعالى، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو» ما «المرادُ به الذي. قال:» ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ، ففي «بناها» ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيتَ زيداً قد ضرب عَمْراً فتقول: «عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً» تقديره: مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ وقوله: «وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم» ليس كذلك، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ، وقوله: «وإنما أُوْثِرَتْ» إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف «الذي» فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به «ما» دون «مَنْ» وقوله:: وفي كلامِهم «إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ» سبحان «عَلَم و» ما «مصدريةٌ ظرفيةٌ» انتهى.
أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ. وأمَّا قولُه: فلا تنفرد به «ما» دونَ «مَنْ» فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل، وعلى صفتِه، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك بقوله: ﴿فانكحوا مَا طَابَ﴾ [النساء: ٣]، وقالوا: تقديره: فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به «ما» دون مَنْ. والتنكيرُ في «نفس»: إمَّا لتعظيمِها، أي، نفس عظيمة، وهي نفسُ آدمَ، وإمَّا للتكثيرِ كقولِه: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ [الانفطار: ٥].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
قالوا معناه تقضض.
وقيل: قد أفلح مَنْ زَكَّى نفْسَه بالعمل الصالح.
* * *
وقوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١)
أي بطغيانها، وأصل (طَغْواها) طَغْيَهَا وَفَعْلَى إذا كانت من ذوات الياء
أبدلت في الاسم وَاواً ليفصُل بين الاسم والصفة، تقول: هي التقوى، وإنما
هي مِنْ أيقنتُ، وهي التقوى وإنما هي من يقنت، وقالوا: امرأةٌ خَزْياً لأنها
صفةٌ.
* * *
وقوله تعالى: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣)
(ناقةَ) مَنْصُوبٌ على معنى ذروا ناقة اللَّه، كما قال سبحانه:
(هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ)، أي ذروا سقياها، وكان للناقَةِ يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ في الشِّرْبِ.
* * *
(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤)
(فَكَذَّبُوهُ)
أي فلم يوقنوا أنهم يُعَذبُونَ حين قال لهم (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
* * *
(فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا).
معناه دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أطبق عليهم العَذَابَ، يقال: دَمْدَمْتُ على الشيء إذا
أطبقت عليه، وكذلك [دَمَمْتُ] عليه القبرَ وما أشبهه، وكذلِكَ ناقة مَدْمُومَةٌ، أي قد ألْبَسَها الشحم، فإذا كررت الإطباق قُلْتَ دَمْدَمُتْ عليه (١).
* * *
وقوله: (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)
أكثر ما جاء في التفسير لا يخاف الله تعالى تبعةَ ما أَنزل بِهِمْ، وقيل لا
يخاف رَسُولُ اللَّهِ صَالِحٌ عليه السلام الذي أرسل إليهم عُقْبَاهَا.
وقيل إذا انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿فَدَمْدَمَ﴾: الدَّمْدَمَةُ. قيل: الإِطباقُ يُقال: دَمْدَمْتُ عليه القبرَ، أي: أَطْبَقْتُه عليه. وقيل: الإِلزاقُ بالأرض. وقيل: الإِهلاكُ باستئصالٍ. وقيل: الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه: دَمْدَمَ في كلامه. ودَمْدَمْتُ الثوبَ: طَلَيْتُه بالصَّبْغ. والباءُ في «بذَنْبهم» للسببية.
قوله: ﴿فَسَوَّاهَا﴾ الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قولِه «بَطَغْواها» ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ، أي: سَوَّاها بينهم، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ. وقرأ ابن الزبير «فَدَهْدَمَ» بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم، وهي بمعنى القراءةِ المشهورةِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
Icon