تفسير سورة الفاتحة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة الفاتحة
مكية١. ولها عشرة أسماء٢ : الفاتحة٣ والوافية والكافية٤ والشافية٥، والسبع المثاني ؛ لأنها سبع آيات عند الشافعي منها البسملة، وأسقطها مالك وجعل السابعة :﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ [ الفاتحة : ٧ ] الآية، أو تثنى في كل صلاة، أو لاشتمالها على الثناء على الله. وأم القرآن٦ ؛ لأنها مفتتحه ومبدؤه، أو لأنها اشتملت على ما فيه إجمالا على ما يأتي، وسورة الحمد والشكر، وسورة تعليم المسألة٧، وسورة الصلاة لتكريرها فيها٨، وأساس القرآن ؛ لأنها أصله ومبدؤه ويبنى سائره عليها.
١ اختلف فيها؛ فالأكثرون على أنها مكية بل من أوائل ما نزل من القرآن على قول وهو المروي عن علي وابن عباس وقتادة وأكثر الصحابة. وعن مجاهد أنها مدنية، وقد تفرد بذلك حتى عد هفوة منه. وقيل: نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة لما حولت القبلة ليعلم أنها في الصلاة كما كانت. وقيل: بعضها مكي وبعضها مدني؛ ولا يخفى ضعفه. وقد لهج الناس بالاستدلال على مكيتها بآية ﴿ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم(٨٧)﴾ [الحجر ٨٧]، وهي مكية لنص العلماء والرواية عن ابن عباس. انظر تفسير الألوسي "روح المعاني" (١/٣٥)..
٢ ذكر الألوسي في تفسيره (١/٣٦- ٤٠) اثنين وعشرين اسما من أسمائها؛ وهي: ١- فاتحة الكتاب، ٢- فاتحة القرآن، ٣- أم الكتاب، ٤- أم القرآن، ٥- الكنز، ٦- الوافية، ٧- الكافية، ٨- الأساس، ٩- الحمد، ١٠- الشكر، ١١- الدعاء، ١٢- تعليم المسألة، ١٣- السؤال، ١٤- المناجاة، ١٥- التفويض، ١٦-الرقية، ١٧- الشفاء، ١٨- الشافية، ١٩- الصلاة، ٢٠ –النور، ٢١- القرآن العظيم، ٢٢- السبع المثاني..
٣ قال الألوسي: "لأنها مبدؤه على الترتيب المعهود، لا لأنها يفتتح بها في التعليم وفي القراءة في الصلاة كما زعمه الإمام السيوطي، ولا لأنها أول سورة نزلت كما قيل"؛ ثم ذكر حجته في ذلك. انظر روح المعاني (١/٣٦- ٣٧)..
٤ سميت الوافية والكافية لأنها تفي وتكفي، أو لأنها لا تنصف في الصلاة ولا يكفي فيها غيرها (روح المعاني: ١/٤٠)..
٥ لقوله عليه الصلاة والسلام: "هي شفاء من كل داء"..
٦ وحديث: "لا يقولن أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب" لا أصل له كما ذكر الألوسي؛ بل قد ثبت في الصحاح تسميتها به، فأخرج الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا قرأتم الحمد فأقرؤوا بسم الله الرحمان الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني"..
٧ سميت سورة تعليم المسألة لأنها بدئت بالثناء قبله..
٨ وهي واجبة في كل صلاة، والاستحباب مذهب بعض المجتهدين..
واتفقت المصاحف على افتتاحها ب ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ( ١ ) ﴾ [ الفاتحة : ١ ] واختلف الأئمة فيها، فقال مالك١ : ليست آية لا من الفاتحة ولا من غيرها إلا من النمل خاصة، وقال الشافعي٢ : هي آية من الفاتحة فقط، وقال ابن عباس٣ : هي آية من كل سورة.
فحجة مالك : ما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال :" أنزلت علي سورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها، ثم قال :﴿ الحمد لله رب العالمين ( ٢ ) ﴾ ( الفاتحة : ٢ ) " ٤ ولم يذكر البسملة. وكذلك ما ورد في الصحيح أيضا أن الله يقول :" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. يقول العبد : الحمد لله رب العالمين " ٥ فبدأ بها دون البسملة.
وحجة الشافعي : ما ورد في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ( ١ ) الحمد لله رب العالمين ( ٢ ) ﴾ [ الفاتحة : ١، ٢ ]٦. وحجة ابن عباس : ثبوت البسملة مع كل سورة في المصحف، مع تحري الصحابة ألا يدخلوا في المصحف غير كلام الله، وقالوا : ما بين الدفتين كلام الله٧.
وإذا ابتدأت أول سورة بسملت إلا براءة، وسيأتي الكلام عليها. وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير عند الجمهور. وإذا أتممت سورة وابتدأت أخرى فاختلف القراء في البسملة وتركها.
وأما حكمها في الصلاة، فقال مالك : مكروهة في الفرض دون النفل، وقال الشافعي : فرض تبطل الصلاة بتركها، فيبسمل –عنده- جهرا في الجهر وسرا في السر، عند أبي حنيفة٨ كذلك إلا أنه يسرها مطلقا، وحجة مالك أنها ليست بآية : ما في الحديث الصحيح عن أنس٩ أنه قال :( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ) لا يذكرون البسملة أصلا١٠. وحجة الشافعي أنها عنده آية : ما ورد في الحديث من قراءتها كما تقدم.
ولم تكن البسملة قبل الإسلام، فكانوا يكتبون : باسمك اللهم، حتى نزلت ﴿ بسم الله مجراها ﴾ [ هود : ٤١ ] فكتبوا ﴿ بسم الله ﴾ حتى نزل :﴿. . . أو ادعوا الرحمان ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ] فكتبوا :﴿ بسم الله الرحمان ﴾ حتى نزل :﴿. . . وإنه بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ [ النمل : ٣٠ ] فكتبوها.
وحذفت الألف لكثرة الاستعمال، والباء متعلقة بمحذوف، اسم عند البصريين، أي ابتدائي كائن بسم الله، فموضعها رفع. وفعل عند الكوفيين، أي : أبدأ أو أتلو. فيقدر كل واحد ما جعلت البسملة مبدأ له، فموضعها نصب، ويقدر مؤخرا لإفادة الحصر والاختصاص. وهو مشتق من السمو١١ عند البصريين، فلامه محذوفة، وعند الكوفيين من السمة١٢، أي : العلامة، ففاؤه محذوفة، ودليل البصريين : التصغير والتكسير، فقالوا : أسماء، ولم يقولوا أوسام، وقالوا : سمى، ولم يقولوا : وسيم١٣.
و﴿ لله ﴾ علم على الذات الواجبة الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهل هو مشتق أو مرتجل ؟ قولان يأتي الكلام عليهما في ﴿ الحمد لله ﴾ ؛، وكذلك ﴿ الرحمان الرحيم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ الإشارة ﴾٦ لما تلجَّى الحق سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول : من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، ومجَّد نفسه بنفسه، ووحَّد نفسه بنفسه، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ، حيث قال٧ :
ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ
توحيدُه إياه توحيدُه ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ
فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه : أنا الحامد والمحمود، وأنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات والأرَضين، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي.
قال رجل بين يدي الجنيد٨ :﴿ الحمد لله ﴾ ولم يقل :﴿ رب العالمين ﴾، فقال له الجنيد : كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل : وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه ؟ ! فقال الجنيد : قُلها يا أخي ؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم.
يقول سبحانه : يا مَن هو مني قريب، تَدبر سِرِّي فإنه غريب، أنا المحبُ، وأنا الحبيب، وأنا القريب، وأنا المجيب، أنا الرحيم الرحمان، وأنا الملك الديّان، أنا الرحمان بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بتوالي الإمداد. منِّي كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، وأنا رب العباد، أنا الملك الديَّان، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لولا جهالة أهل العناد والشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام ".
قال في الرسائل الكبرى٩ : لا عبرة بظواهر الأشياء، وإنما العبرة بالسر المكنون، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور، وانقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عينُ ويَحِقُّ الحق المبين، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين، حين يكون الملك لله رب العالمين، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الحَجّ : ٥٦ ]، وقوله :﴿ وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الانفِطار : ١٩ ] ؟ ! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة. هـ.


١ الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه تنسب المالكية. ولد سنة ٩٣ هـ، وتوفي سنة ١٧٩ هـ..
٢ الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد سنة ١٥٠ هـ، وتوفي سنة ٢٠٤ هـ..
٣ هو حبر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي. ولد سنة ٣ قبل الهجرة، وتوفي سنة ٦٨ هـ..
٤ نص الحديث كما رواه مالك في الموطأ (كتاب الصلاة، باب ما جاء في أم القرآن، حديث رقم (٣٧) عن العلاء بن عبد الرحمان بن يعقوب، أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته لحقه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وهو يريد أن يخرج من باب المسجد، فقال: "إني لأرجو أن لا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها"، قال أبي: فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك، ثم قلت: يا رسول الله، السورة التي وعدتني؛ قال: "كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟" قال: فقرأت –الحمد لله رب العالمين- حتى أتيت على آخرها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي هذه السورة، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت". وقد أخرج البخاري مثل هذه القصة عن أبي سعيد بن المعلي في كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، حديث رقم (٤٤٧٤)..
٥ تمام الحديث كما رواه مسلم في الصلاة (حديث رقم ٣٨) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" ثلاثا "غير تمام"، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي..." إلى آخر الحديث. وروى الحديث أيضا أبو داود في الصلاة باب ١٣٢، والترمذي في تفسير سورة الفاتحة باب ١، والنسائي في الافتتاح باب ٢٣، وابن ماجه في الأدب باب ٥٢، وأحمد في المسند (٢/٢٤١، ٢٨٥، ٤٦٠)..
٦ ومن هذه الأحاديث ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، إنه عليه الصلاة والسلام قال: "فاتحة الكتاب سبع آيات، أولاهن بسم الله الرحمان الرحيم"، وقالت أم سلمة رضي الله عنها: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب العالمين آية". انظر تفسير البيضاوي (١/٥)..
٧ انظر تفصيل الكلام في البسملة هل هي آية أم لا، في تفسير الألوسي (١/٤١ وما بعدها)..
٨ هو النعمان بن ثابت التيمي بالولاء الكوفي، إمام الحنفية، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. ولد سنة ٨٠ هـ، وتوفي سنة ١٥٠ هـ..
٩ هو الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم النجاري الخزرجي الأنصاري. ولد سنة ١٠ قبل الهجرة، وتوفي سنة ٩٣ هـ..
١٠ رواه مسلم في الصلاة (حديث ٥٢) ولفظه في آخره: "... لا يذكرون بسم الله الرحمان الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها"..
١١ أي أن مادته سين وميم وواو (س م و)..
١٢ أي أن مادته واو وسين وميم (و س م)..
١٣ اشتقاق الاسم عند المحققين من النحويين من السمو وهو الارتفاع، ومحل مرتفع فهو ظاهر. والاسم يظهر المسمى عند السامع، فاشتق من السمو لذلك. وقد قيل: إنما اشتق الاسم من السمو لكون الكلام على ثلاثة أقسام وضع لكل قسم عبارة، وكان الاسم المقدم فأعطي أرفع العبارات، وكان الحرف المتأخر إذ لا معنى له في ذاته فأعطي أحط العبارات، وكان الفعل واسطة بينهما فتوسط اسمه. وذهب قوم إلى أن اشتقاق الاسم من السمة وهي العلامة، والاسم جعل دلالة على المسمى. وهذا تبطله صناعة العربية؛ إذ لو كان مشتقا من السمة لقيل في تصغيره: وسيم، ولا يقال ذلك إنما يقل سمي، وكذلك في جمعه أسماء برد لام الفعل، والتكبير والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها. فصح أن اشتقاقه من السمو. انظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (١/١٢٣- الحاشية)..
قال الحق جل جلاله :﴿ الحمد لله رب العالمين ( ٢ ) الرحمان الرحيم ( ٣ ) مالك يوم الدين ( ٤ ) ﴾
قلت :﴿ الحمد ﴾ مبتدأ، و﴿ الله ﴾ خبر، وأصله النصب، وقرئ به، والأصل : أحمد الله حمداً، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته، دون تجدده وحدوثه، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي : الحمد لله وإن لم تحمدوه. ولو قال ( أحمد الله ) لما أفاد هذا المعنى، وهو من المصادر التي تُنْصَب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها. والتعريف للجنس ؛ أي : للحقيقة من حيث هي، من غير قيد شيوعها، ومعناه : الإشارة إلى ما يَعْرِفه كل أحد أن الحمد ما هو. أو للاستغراق ؛ إذ الحمد في الحقيقة كُلُّه لله ؛ إذ ما من خير إلا وهو مُولِيهِ بواسطة وبغير واسطة. كما قال :﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [ النّحل : ٥٣ ]، وقيل : للعهد، والمعهودُ حمدُه تعالى نَفْسَه في أزله.
وقُرِئ ﴿ الحمد لله ﴾ بإتباع الدال للام١، وبالعكس٢، تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة.
ومعناه في اللغة : الثناءُ بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل، وفي العُرف : فعل يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً. والشكر في اللغة : فعل يُشعر بتعظيم المنعم، فهو مرادف للحمد العرفي، وفي العرف : صرفُ العبد جميعَ ما أنعم الله عليه من السمع والبصر إلى ما خُلِقَ لأجله وأعطاه إياه. وانظر شرحنا الكبير للفاتحة في النَّسَبِ التي بيناها نظماً ونثراً.
و﴿ الله ﴾ اسم مُرْتَجَلٌ جامد، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف، قال الواحدي٣ : اسم تفرِّد به الباري - سبحانه - يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام، لا يُعرف له اشتقاق٤، وقال الأقْلِيشي٥ : إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقّاً كان دليلاً على عين الذات، دون أن يُنظر فيها إلى صفة من الصفات، وليس باسمٍ مشتق من صفة، كالعالِم والحق والخالق والرازق، فالألف واللام على هذا في ( الله ) من نفس الكلمة، كالزاي من زيد، وذهب إلى هذا جماعة، واختاره الغزالي٦، وقال : كل ما قيل في اشتقاقه فهو تعسُّف.
وقيل : مشتق من التَّأَلُّهِ وهو التعبد، وقيل : من الوَلَهَان، وهو الحيرة ؛ لتحيُّر العقول في شأنه. وقيل : أصله : الإلهُ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام، ثم وقع الإدغام وفُخمت للتعظيم، إلا إذا كان قبلها كسر.
و﴿ رب ﴾ نعت ﴿ لله ﴾، وهو في الأصل : مصدر بمعنى التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثم وُصف به للمبالغة كالصوم والعدل.
وقيل : هو وصفٌ من رَبِّه يَرُبُّهُ، وأصله : رَبَبَ ثم أُدغم، سُمي به المالكُ ؛ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه٧، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى :﴿ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ﴾ [ يُوسُف : ٥٠ ]. قال ابن جُزَيّ٨ : ومعانيه أربعة : الإله والسيد والمالك والمصلح، وكلها تصلح في رب العالمين، إلا أن الأرجح في معناه، الإله ؛ لاختصاصه بالله تعالى٩.
و﴿ العالمين ﴾ جمع عالَم، والعالَمُ : اسم لما يُعْلَمُ به، كالخاتم لما يُختم به، والطابع لما يطبع به. غلب فيما يُعلم به الصانع. وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مُؤثِرٍ واجبٍ لذاته، تدل على وجوده، وإنما جُمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة١٠، وغلب العقلاء منهم فجُمِعَ بالياء والنون كسائر أوصافهم، فهو جمع١١، لا اسم جمع، خلافاً لابن مالك١٢.
وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناولُه لغيرهم على سبيل الاستتباع، وقيل : عني به هنا الناس، فإن كل واحد منهم عالَمٌ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال :﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الذّاريَات : ٢١ ].
﴿ قلت ﴾ : وإليه يشير قول الشاعر :
يا تَائهاً في مَهْمَهٍ عَنْ سِرِّه انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوُجُودُ بأَسْره
أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بِأَسْرِه
يقول الحقّ جلّ جلاله : مُعلَّماً لعباده كيف يُثْنُونَ عليه ويعظمونه ثم يسألونه : يا عبادي قولوا ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ أي : الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل، فلا يستحق الحمدَ سواه، إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله، ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾
[ النّحل : ٥٣ ]. أو جميعُ المحامدِ كلُّها لله، أو الحمدُ المعهودُ في الأذهان هو حمدُ الله تعالى نفسَه في أزله، قبل أن يُوجِدَ خلقّه، فلما أوجد خلقه قال لهم : الحمد لله، أي : احْمَدُوني بذلك المعهود في الأزل.
وإنما استحق الحمد وحده لأنه ﴿ ربّ العالمين ﴾، وكأن سائلاً سأله : لم اختصصت بالحمد ؟ فقال : لأني ربُّ العالمين، أنا أوجدتُهم برحمتي، وأمددتهم بنعمتي، فلا منعم غيري، فاستحققت الحمد وحدي، مِنِّي كان الإيجاد وعليَّ توالي الإِمْدَاد، فأنا ربُّ العباد، فالعوالم كلها - على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها - في قبضتي وتحت تربيتي١٣ ورعايتي.
قال بعضهم : خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم، نصفها في البر ونصفها في البحر. وقال الفخرُ الرازي١٤ : رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق١٥ الواحد من سُرادقات العرش، التي عددُها : مائةُ ألف، طول كل سرادق وعرضُه - إذا قُوبلتْ به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما - يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً. وما من موضع شِبْرٍ، إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم، وله زَجَل١٦ بالتسبيح والتهليل. ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر، ولا يَعلم عددّهم إلا الله تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ المدَّثِّر : ٣١ ]. ه.
وقال وَهْبُ بن مُنّبِّه١٧ :( قائمُ العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء، وفي كل صحراء ستون ألف عالم، وكل عالم قَدْرُ الثقلين ).
فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح، من العرش١٨ إلى الفرش١٩، كلها مقدَّرة أرزاقها محصورة آجالُها، محفوظة أشباحُها، معلومات أماكنها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ الإشارة ﴾٦ لما تلجَّى الحق سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول : من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، ومجَّد نفسه بنفسه، ووحَّد نفسه بنفسه، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ، حيث قال٧ :
ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ
توحيدُه إياه توحيدُه ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ
فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه : أنا الحامد والمحمود، وأنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات والأرَضين، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي.
قال رجل بين يدي الجنيد٨ :﴿ الحمد لله ﴾ ولم يقل :﴿ رب العالمين ﴾، فقال له الجنيد : كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل : وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه ؟ ! فقال الجنيد : قُلها يا أخي ؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم.
يقول سبحانه : يا مَن هو مني قريب، تَدبر سِرِّي فإنه غريب، أنا المحبُ، وأنا الحبيب، وأنا القريب، وأنا المجيب، أنا الرحيم الرحمان، وأنا الملك الديّان، أنا الرحمان بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بتوالي الإمداد. منِّي كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، وأنا رب العباد، أنا الملك الديَّان، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لولا جهالة أهل العناد والشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام ".
قال في الرسائل الكبرى٩ : لا عبرة بظواهر الأشياء، وإنما العبرة بالسر المكنون، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور، وانقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عينُ ويَحِقُّ الحق المبين، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين، حين يكون الملك لله رب العالمين، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الحَجّ : ٥٦ ]، وقوله :﴿ وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الانفِطار : ١٩ ] ؟ ! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة. هـ.


١ أي "الحمد لله" وهي قراءة الحسن وزيد بن علي. قال أبو حيان: "وهي أغرب – أي من ضم لام لله- لأن فيه إتباع حركة معرب لحركة غير إعراب، والأول بالعكس (البحر المحيط: ١/١٣١)..
٢ أي "الحمد لله" بإتباع لام "لله" لدال "الحمد" في الضم؛ وهي قراءة إبراهيم بن أبي عبلة كما ذكر أبو حيان في البحر المحيط..
٣ هو أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متوية الواحدي النيسابوري. مفسر، عالم بالأدب، نعته الذهبي بإمام علماء التأويل. كان من أولاد التجار، أصله من ساوة (بين الري وهمذان). ولد بنيسابور، وتوفي بها سنة ٤٦٨ هـ. من مؤلفاته: "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" كلها في التفسير؛ وقد أخذ الغزالي هذه الأسماء وسمى بها تصانيفه. وله "شرح ديوان المتنبي" و"أسباب النزول" و"شرح أسماء الله الحسنى" وغير ذلك وهو كثير. والواحدي نسبة إلى الواحد بن الديل بن مهرة. انظر الأعلام للزركلي (٤/٢٥٥)..
٤ انظر الوسيط للواحدي (١/٦٣). وقد ذهب كثير من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وسيبويه والخليل إلى أن هذا الاسم ليس بمشتق؛ ذكره ابن كثير في تفسيره (١/١٩).
وانظر أيضا بحث أبي حيان الأندلسي لهذه المسألة في تفسيره البحر المحيط (١/١٢٤) حيث ذكر مختلف الأقوال في اشتقاقه..

٥ هو أبو العباس أحمد بن قاسم بن عيسى اللخمي الأقليشي الأندلسي. عالم بالقراءات. ولد سنة ٣٦٣ هـ، وسكن قرطبة، ورحل إلى الشرق واستقر، وتوفي بطليطلة سنة ٤١٠ هـ. له كتاب في معاني القراءات لعله المسمى "تفسير العلوم والمعاني المستودعة في السبع المثاني". نسبته إلى إقليس « Uclés » بالأندلس (الأعلام ١/١٩٧)..
٦ هو الإمام حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي. فيلسوف، متصوف، له نحو مائتي مصنف. ولد سنة ٤٥٠ هـ في الطابران (قصبة طوس بخراسان) وتوفي بها سنة ٥٠٥ هـ، انظر الأعلام (٧/٢٢)..
٧ انظر الوسيط للواحدي النيسابوري (١/٦٦). وانظر أيضا البحر المحيط (١/١٣٢) وقال فيه: "ورب مصدر وصف به على أحد وجوه الوصف بالمصدر، أو سام فاعل حذفت ألفه فصار راب، كما قالوا رجل بار وبر"..
٨ هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي. ففيه من العلماء بالأصول واللغة. من أهل غرناطة. ولد سنة ٦٩٣، وتوفي سنة ٧٤١ هـ. من كتبه: "القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية" و"تقريب الوصول إلى علم الأصول" "والفوائد العامة في لحن العامة" "والتسهيل لعلوم التنزيل" في التفسير، و"الأنوار السنية في الألفاظ السنية" و"وسيلة المسلم" في تهذيب صحيح مسلم، و"البارع في قراءة نافع" و"فهرست" كبير اشتمل على ذكر كثيرين من علماء المشرق والمغرب. وهو من شيوخ لسان الدين بن الخطيب. قال المقريزي: فقد وهو يحرض الناس يوم معركة طريق (الأعلام ٥/٣٢٥)..
٩ انظر التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي (١/٤٥) وزاد: "... كما أن الأرجح في العالمين أن يراد به كل موجود سوى الله تعالى، فيعم جميع المخلوقات"..
١٠ وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة أنه يشمل جميع المخلوقات (الوسيط للواحدي: ١/٦٧). وقال أبو حيان في البحر المحيط (١/١٣٢): "والذي اختاره أنه ينطلق على المكلفين، لقوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآيات للعالمين﴾ [الروم: ٢٢]"..
١١ واختار أبو حيان أنه اسم جمع، قال: "وجمع العالم شاذ لأنه اسم جمع، وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع" (البحر المحيط ١/١٣٢)..
١٢ هو أبو عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله، ابن مالك الطائي الجياني، أحد الأئمة في علوم العربية. ولد في جيان بالأندلس سنة ٦٠٠، وانتقل إلى دمشق فتوفي فيها سنة ٦٧٢ هـ. أشهر كتبه "الألفية" في النحو، وله كتب أخرى كثيرة (الأعلام: ٦/٢٣٣)..
١٣ الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية، وقيل: أصله رباه تربية، فجعلت الباء الثانية ياء..
١٤ هو الإمام أبو عبد الله فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين الرازي. أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل. وهو قرشي النسب، من طبرستان، ومولده في الري ونسبته إليها، ويقال له "ابن خطيب الري". ولد سنة ٥٤٤ هـ ورحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان، وتوفي في هراة نسبة ٦٠٦ هـ. له تصانيف كثيرة، منها: "مفاتيح الغيب" في تفسير القرآن الكريم. انظر الأعلام (٦/٣١٣)..
١٥ السرادق: كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (٢/٣٢٣)..
١٦ قال ابن الأثير في النهاية (٢/٢٦٩): "وفي حديث الملائكة: لهم زجل بالتسبيح، أي صوت رفيع عال"..
١٧ هو أبو عبد الله وهب بن منبه الأبناوي الصنعاني الذماري. مؤرخ، كثير الإخبار عن الكتب القديمة، عالم بأساطير الأولين ولاسيما الإسرائيليات؛ يعد في التابعين. أصله من أبناء الفرس الذين بعث بهم كسرى إلى اليمن، وأمه من حمير. ولد في صنعاء سنة ٣٤ هـ، ومات بها سنة ١١٤ هـ. من كتبه: "ذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم" و"قصص الأنبياء" و"قصص الأخيار" انظر الأعلام (٨/١٢٥- ١٢٦)..
١٨ العرش في لسان أهل الشرع: هو الذي سماه الحكماء فلك الأفلاك، والعرش الأكبر عند الصوفية: قلب الإنسان الكامل (كشاف اصطلاحات الفنون: ٣/٢٤٣)..
١٩ الفرش: الفضاء الواسع من الأرض، وقيل: هي أرض تستوي وتلين وتنفسخ عنها الجبال (لسان العرب: مادة فرش)..
و﴿ الرحمن الرحيم ﴾ اسمان بُنيا للمبالغة، من رَحِمَ، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة، رَقَّةُ القلب١، وانعطافٌ يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم٢ ؛ لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تُؤخذ باعتبار الغايات، التي هي أفعال٣، دون المبادئ التي هي انفعالات، و﴿ الرحمان ﴾ أبلغ من ﴿ الرحيم ﴾ ؛ لأن زيادةَ المبنى تدل على زيادة المعنى٤، كقَطَّعَ وقَطَعَ، وذلك إنما يُؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتباره الكيفية.
فعلى الأول : قيل : يا رحمانَ الدنيا ؛ لأنه يَعُمُّ المؤمنَ والكافر، ورحيمَ الآخرة ؛ لأنه يختص بالمؤمن، وعلى الثاني قيل : يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ؛ لأن النعم الأخروية كلها جِسَام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة.
وإنما قدّم ﴿ الرحمان ﴾ - والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى - لتقدُّم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعَلَم من حيث إنه لا يوصف به غيره، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغُ في الرحمة غايتَها، وذلك لا يصدُق على غيره تعالى. انظر البيضاوي٥. وسيأتي الكلام عليهما في المعنى.
ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هي رحمة منه وإحسان، لا لزوم عليه وإيجاب، ولذلك وصلَه بقوله :﴿ الرحمان الرحيم ﴾، أي : الرحمان بنعمة الإيجاد، الرحيم بنعمة الإمداد. " نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل مُكَوَّنَ منهما : نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثنى بتوالي الإمداد ". كما في ( الحِكَم ) ٦. فاسمُه ﴿ الرحمان ﴾ يقتضي إيجادَ الأشياء وإبرازها، واسمه ﴿ الرحيم ﴾ يقتضي تربيتَها وإمدادها. ولذلك لا يجوز إطلاق اسم ﴿ الرحمان ﴾ على أحد، ولم يَتَسَمَّ أحد به٧ ؛ إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى، بخلاف اسمه ﴿ الرحيم ﴾ فيجوز إطلاقه على غيره تعالى ؛ لمشاركة صدور الإمداد في الظاهر من بعض المخلوقات مجازاً وعاريةً٨.
أو : الرحمان في الدنيا والآخرة، والرحيم في الآخرة : لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين. أو الرحمان بجلائل النعم والرحيم بدقائقها، فجلائل النعم مثل : نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، والمعرفة والهداية، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب، ودقائقُ النعم مثل : الصحة والعافية والمال الحلال، وغير ذلك مما يأتي ذكره في المُنْعَم عليهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ الإشارة ﴾٦ لما تلجَّى الحق سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول : من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، ومجَّد نفسه بنفسه، ووحَّد نفسه بنفسه، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ، حيث قال٧ :
ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ
توحيدُه إياه توحيدُه ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ
فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه : أنا الحامد والمحمود، وأنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات والأرَضين، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي.
قال رجل بين يدي الجنيد٨ :﴿ الحمد لله ﴾ ولم يقل :﴿ رب العالمين ﴾، فقال له الجنيد : كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل : وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه ؟ ! فقال الجنيد : قُلها يا أخي ؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم.
يقول سبحانه : يا مَن هو مني قريب، تَدبر سِرِّي فإنه غريب، أنا المحبُ، وأنا الحبيب، وأنا القريب، وأنا المجيب، أنا الرحيم الرحمان، وأنا الملك الديّان، أنا الرحمان بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بتوالي الإمداد. منِّي كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، وأنا رب العباد، أنا الملك الديَّان، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لولا جهالة أهل العناد والشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام ".
قال في الرسائل الكبرى٩ : لا عبرة بظواهر الأشياء، وإنما العبرة بالسر المكنون، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور، وانقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عينُ ويَحِقُّ الحق المبين، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين، حين يكون الملك لله رب العالمين، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الحَجّ : ٥٦ ]، وقوله :﴿ وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الانفِطار : ١٩ ] ؟ ! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة. هـ.


١ انظر لسان العرب (مادة رحم)..
٢ الرحم والرحم: بيت منبت الولد ووعاؤه في البطن: والرحم أيضا: أسباب القرابة، وأصلها الرحم التي هي منبت الولد (اللسان: مادة رحم)..
٣ قال أبو حيان: "وصف الله تعالى بالرحمة مجاز عن إنعامه على عباده، ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم إحسانه؟ فتكون الرحمة إذ ذاك صفة فعل (البحر المحيط: ١/١٢٩)..
٤ هذا عند قوم أن "الرحمان" أبلغ من "الرحيم"؛ لكن قال آخرون: إنهما بمعنى واحد، كندمان ونديم، ولهفان ولهيف، وجمع بينهما للتأكيد، كقولهم: فلان جاد مجد. انظر الوسيط للواحدي (١/٦٥). ونقل أبو حيان في البحر المحيط (١/١٢٨) أن قوما قالوا إن "الرحيم" أكثر مبالغة من الرحمان"..
٥ تفسير البيضاوي (١/٧). والنص المنقول من تفسير البيضاوي هو من قوله: "والرحمان الرحيم اسمان بنيا للمبالغة..." إلى قوله: "وذلك لا يصدق على غيره تعالى"؛ وزاد البيضاوي: "... لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب"..
٦ هو كتاب: الحكم العطائية على لسان أهل الطريقة" لأحمد بن محمد بن عبد الكريم، المعروف بابن عطاء الإسكندراني، تاج الدين الشاذلي الصوفي، توفي بمصر ٧٩ هـ. (كشف الظنون ٥/١٠٣)..
٧ باستثناء ما روي عن مسيلمة الكذاب أنه كان يطلق عليه "رحمان اليمامة"..
٨ عارية: أي استعارة..
و﴿ مَلِك ﴾ نِعت لما قبله، قراءةُ الجماعة بغير ألف من ( المُلك ) بالضم، وقرأ عاصم١ والكسائي٢ بالألف، من ( المِلك ) بالكسر، والتقدير على هذا : مالك مجيء يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين. وقراءةُ الجماعة أرجح٣، لثلاثة أوجه : الأول : أن الملك أعظم من مالك، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، وأما المَلِكُ فهو سيد الناس، والثاني : قوله :﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ [ الأنعَام : ٧٣ ]، والثالث : أنها لا تقتضي حذفاً، والحذف خلاف الأصل٤.
و﴿ يوم الدين ﴾ ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع، وأُجري الظرف مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية، أي : الملك في يوم الدين، أو ملك الأمر يوم الدين، فيكون فيه حذف. وقد رُويت القراءتان - أي : القصر والمد - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد قرئ ﴿ ملك ﴾ بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها. فإن قيل : ملك ومالك نكرة ؛ لأن إضافة اسم الفاعل لا تُخصص، وكيف يُنعت به ﴿ الرحمان الرحيم ﴾ وهما معرفتان ؟ قلت : إنما تكون إضافةُ اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ؛ لأنها حينئذٍ غيرُ مَحْضَةٍ، وأما هذا فهو مستمر دائماً، فإضافته محضة. قاله ابن جُزَيّ.
ثم من تحقق منه الإيجادُ والإمداد استحق أن يكون ملكاً لجميع العباد، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره فقال :﴿ ملك يوم الدين ﴾ أي : المتصرف في عباده كيف شاء، لا رادّ لما قضى ولا مانع لما أعطى، فهو ملكُ الملوك رب الأرباب في هذه الدار وفي تلك الدار.
وإنما خصّ يوم الدين - وهو يوم الجزاء - بالملكية ؛ لأن ذلك اليوم يظهرُ فيه المُلْكُ لله عيَاناً لجميع الخلق، فإن الله تعالى يتجلّى لفصل عباده٥، حتى يراه المؤمنون عياناً، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكَمَلَةُ من المؤمنين، ولذلك ادَّعى كثير من الجهلة الملكَ ونسبوه لأنفسهم. ويوم القيامة ينفرد الملك لله عند الخاص والعام، قال تعالى :﴿ لِّمَنِ الْمَلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غَافر : ١٦ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ الإشارة ﴾٦ لما تلجَّى الحق سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول : من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، ومجَّد نفسه بنفسه، ووحَّد نفسه بنفسه، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ، حيث قال٧ :
ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ
توحيدُه إياه توحيدُه ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ
فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه : أنا الحامد والمحمود، وأنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات والأرَضين، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي.
قال رجل بين يدي الجنيد٨ :﴿ الحمد لله ﴾ ولم يقل :﴿ رب العالمين ﴾، فقال له الجنيد : كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل : وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه ؟ ! فقال الجنيد : قُلها يا أخي ؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم.
يقول سبحانه : يا مَن هو مني قريب، تَدبر سِرِّي فإنه غريب، أنا المحبُ، وأنا الحبيب، وأنا القريب، وأنا المجيب، أنا الرحيم الرحمان، وأنا الملك الديّان، أنا الرحمان بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بتوالي الإمداد. منِّي كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، وأنا رب العباد، أنا الملك الديَّان، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لولا جهالة أهل العناد والشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام ".
قال في الرسائل الكبرى٩ : لا عبرة بظواهر الأشياء، وإنما العبرة بالسر المكنون، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور، وانقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عينُ ويَحِقُّ الحق المبين، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين، حين يكون الملك لله رب العالمين، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الحَجّ : ٥٦ ]، وقوله :﴿ وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الانفِطار : ١٩ ] ؟ ! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة. هـ.


١ هو أبو بكر عاصم بن أبي النجود الأسدي أحد القراء السبعة. توفي بالكوفة أو بالسماوة سنة ١٢٧ هـ..
٢ هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي النحوي، أحد القراء السبعة. لقب بالكسائي لأنه كان في الإحرام لابسا كساء. توفي سنة ١٨٩ هـ..
٣ كلا القراءتين متواترة فلا ينبغي الترجيح هنا؛ وقد قال الألوسي في روح المعاني (١/٨٦) بعد أن نقل آراء العلماء في أرجحية إحدى القراءتين على الأخرى: "وعندي لا ثمرة للخلاف، والقراءتان فرسا رهان، ولا فرق بين المالك والملك صفتين لله تعالى"..
٤ من قوله: "وملك" إلى قوله: "الأصل" منقول عن التسهيل لابن جزي(١/٤٦)، وما بين حاصرتين زيادة منه..
٥ حديث تجلي الله تعالى لعباده يوم القيامة أورده الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (١٢/ ٢٠) وابن كثير في تفسيره (١/٣٠٥) والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٩/٦٤٨) والفتني في تذكرة الموضوعات (٢٢٦) والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (٤/٣٣٤). وأورده جماعة بلفظ: "إن الله يتجلى لعباده المؤمنين عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة"..
ثم تنزل لبيان العبودية :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين( ٥ ) ﴾
قلت :﴿ إياك ﴾ مفعول ﴿ نعبد ﴾، وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به، والدلالِ على الحصر، ولذلك قال ابن عباس :( نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك )، ولتقديم ما هو مقدَّمٌ في الوجود وهو الملك المعبود، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال :﴿ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [ التّوبَة : ٤٠ ]، على ما حكاه عن كليمه حيث قال :﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّى سَيَهْدِينِ ﴾ [ الشُّعَرَاء : ٦٢ ]، أي : حيث صرّح بمطلوبه، و﴿ إياك ﴾ مفعول ﴿ نستعين ﴾ وقدّم أيضاً للاختصاص والاهتمام، كما تقدم في ﴿ إياك نعبد ﴾. وكرّر الضمير ولم يقل : إياك نعبد ونستعين ؛ لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ، ألا ترى أن قولك : بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي - أبلغ وأمدح من قولك : بك أنتصر وأحتمي. . . الخ ؟
وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافقَ رؤوسُ الآي، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته، فقال : أعطني ما يعينُني عليها، فهو سوء أدب، وأيضاً : من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة، وأيضاً : لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله :﴿ وإياك نستعين ﴾، دفعاً لذلك التوهم.
والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق مُعَبَّدٌ، أي : مُذَلل، والاستعانة، طلب المعونة، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها، أو في أداء العبادات١.
والضمير المستتر في الفعلين٢ للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له ولسائر الموجودين. أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها، ولهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي٣.
يقول الحقّ جلّ جلاله، تتميماً لتعليم عباده : فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية، وأظهروا من أنفسكم العبودية، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾، وكأنه - جلّ جلاله - لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها ؛ لأنه رب العوالِم وقيومها، أصل الأصول وفروعها، أنعم عليها أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، فهو مالكها على الإطلاق، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه ؛ إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله، فهو أحقُّ أن يُعبد، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد، لأنه مُسْتَبِدٌ وغير مُسْتَمدّ، والمادة من عَيْنِ الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.
قال البيضاوي : ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميَّز بها عن سائر الذوات، تعلَّق العلمُ بمعلوم معين، خوطب بذلك، أي : يا من هذا شأنه نخصُّك بالعبادة والاستعانة، لكون أدلّ على الاختصاص، وللترقي من الغَيْبة إلى الشهود، وكأن المعلومَ صار عياناً، والمعقولَ مُشاهَداً، والغيبة حضوراً، بَنَى أول الكلام على ما هو مبادئ حالِ العارفِ ؛ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول، ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عياناً ويناجيه شِفاها، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر، تَطْريَةً وتنشيطاً للسامع، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله :﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ. . . ﴾ [ يُونس : ٢٢ ]، ولم يقل ( بكم ) وقوله :﴿ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ. . . ﴾ [ فَاطِر : ٩ ]، أي : ولم يقل : فساقه. . . انظر تمام كلامه٤.
والالتفات هذا في قوله :﴿ إياك نعبد ﴾ ولم يقل : إياه نعبد ؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضراً.
قال الأقليشي٥ : فهذه الآية هي التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم :" فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله تعالى : هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ٦ ". معناه : أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها، فالعبادة وصف العبد، والعون من الله تعالى للعبد، فلهذا قال :" فهذه بيني وبين عبدي ".
قال ابن جُزَي٧ : أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك.
﴿ الإشارة ﴾ : لمّا تجلّى الحقّ جلّ جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته ؛ لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة، ويخضع له، ويتعبّد ويستمد، منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية.
فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف، وعالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، وعالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة، ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي٨ رضي الله عنه :﴿ إياك نعبد ﴾ شريعة، و﴿ إياك نستعين ﴾ حقيقة، و﴿ إياك نعبد ﴾ إسلاماً، و﴿ إياك نستعين ﴾ إحساناً، ﴿ إياك نعبد ﴾ عبادة، و﴿ إياك نستعين ﴾ عبودية، ﴿ إياك نعبد ﴾ فَرْقٌ، ﴿ إياك نستعين ﴾ جَمْعٌ٩.
وإن شئت قلت :﴿ إياك نعبد ﴾ لأهل العمل لله وهم المخلصون، و﴿ إياك نستعين ﴾ لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون، العمل لله يوجب المثوبة، والعمل بالله يوجب القُرْبَة، العمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد، والعمل بالله نعت كل قاصد، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر، والعمل بالله قيام بإصلاح الضمائر، قاله القشيري١٠.
ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام : قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة، وقفوا مع قوله :﴿ إياك نعبد ﴾، وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، وهم أهل الفناء، وقفوا مع قوله :﴿ إياك نستعين ﴾، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه، وهم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾، وبالله التوفيق.
١ قال القشيري في تفسيره لطائف الإشارات (١/١٢، ١٣): "والعبادة الإتيان بغاية ما في بابها من الخضوع؛ يكون ذلك بموافقة الأمر والوقوف حيثما وقف الشرع. والاستعانة طلب الإعانة من الحق والعبادة تشير إلى بذل الجهد والمنة، والاستعانة تخبر عن استجلاب الطول والمنة. فبالعبادة يظهر شرف العبد، وبالاستعانة يحصل اللطف للعبد. في العبادة وجود شرفه، وبالاستعانة أمان تلفه"..
٢ أي "نعبد" (ونستعين)..
٣ انظر تفسير البيضاوي المسمى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" (١/ ١٠). والبيضاوي هو الإمام القاضي ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي المتوفى سنة ٧٩١ هـ..
٤ انظر تفسير البيضاوي (١/٩) وليس فيه: "أي ولم يقل فساقه"؛ ولكنه أورد ثلاثة أبيات لامرئ القيس؛ أولها: "تطاول ليلك بالإثمد.. "..
٥ تقدم التعريف به..
٦ تمام الحديث كما رواه مسلم في الصلاة (حديث ٣٨) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" ثلاثا غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمان الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي (وقال مرة: فوض إلي عبدي) فإذا قال: أياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". ورواه أيضا ابن ماجه في الأدب باب ٥٢، والنسائي في الافتتاح باب ٢٣، ومالك في النداء حديث ٣٩..
٧ انظر التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي (١/٤٦)..
٨ هو أبو العباس شهاب الدين أحمد بن عمر المرسي. فقيه متصوف من أهل الإسكندرية، لأهلها فيه اعتقاد كبير إلى اليوم. أصله من مرسية في الأندلس. توفي سنة ٦٨٦ هـ. (الأعلام: ١/١٨٦)..
٩ قال أبو القاسم القشيري في الرسالة ( ص ١٠٠): "لفظ الجمع والتفرقة يجري في كلامهم كثيرا. وكان الأستاذ أبو علي الدقاق يقول: الفرق: ما نسب إليك، والجمع: ما سلب عنك ومعناه أن ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو رفق، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع. هذا أدنى أحوالهم في الجمع والفرق؛ لأنه من شهود الأفعال، فمن أشهده الحق سبحاه أفعاله عن طاعاته ومخالفاته فهو عبد يوصف التفرقة، ومن أشهده الحق سبحانه ما يوليه من أفعال نفسه سبحانه فهو عبد بشاهد الجمع. فإثبات الخلق من باب التفرقة، وإثبات الحق من نعت الجمع. ولا بد للعبد من الجمع والفرق، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له، فقوله: إياك نعبد، إشارة إلى الفرق، وقوله: وإياك نستعين، إشارة إلى الجمع. وإذا ما خاطب العبد الحق سبحانه بلسانه نجواه إما سائلا أو داعيا أو مثنيا أو شاكرا أو متنصلا أو مبتهلا قام في محل التفرقة، وإذا أصغى بسره إلى ما يناجيه به مولاه واستمع بقلبه ما يخاطبه فيه فيما ناداه أو ناجاه أو عرفه أو لوح لقلبه وأراده فهو بشاهد الجمع"..
١٠ هو الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد الاستوائي القشيري النيسابوري الشافعي، المحدث الصوفي. ولد سنة ٣٧٦ هـ في شهر ربيع الأول في بدله "إستوا" ونسبته "القشيري" إلى بني قشير بن كعب. توفي أبوه وهو صغير، فربي يتيما؛ ولكن النجابة ظهرت فيه من صغره؛ فتثقف بالأدب والعربية، ولكنه لم يكن يعلم الحساب فذهب إلى "نيسابور" ليتعلم طرفا من الحساب، حتى يتمكن من إرادة قرية له بإستوا. وأرادت المقادير، أن يحضر درس أبي علي الدقاق، فيرى إخلاصا ويرى تقوى، ويرى نورا يرتسم على وجهه ويشرق من كلماته فينير قلوب السامعين ويجذبهم إلى الله. وكانت فطرة القشيري النقية على استعداد تام لسلوك الطريق، ورأي الإمام أبو علي الدقاق فيه النجابة، فقبله في زمرة مريديه، ثم اصطفاه في زمرة أخصائه، وزوجه ابنته، مع كثرة أقاربها. وانتهى الأمر بالقشيري إلى أن أصبح كما تقول عنه الإمام عبد الغافر النيسابوري – "الإمام مطلقا، الفقيه، المتكلم، الأصولي، المفسر، الأديب، النحوي، الكاتب الشاعر، لسان عصره وسيد وقته، وسر الله بين خلقه، مدار الحقيقة، وعين السعادة، وقطب السيادة، من جمع الشريعة والحقيقةّ، كان يعرف الأصول على مذهب الأشعري والفروع على مذهب الشافعي...". وقد توفي الإمام القشيري صبيحة يوم الأحد في السادس عشر من شهر ربيع الأول عام ٤٦٥ هـ، بمدينة نيسابور، ودفن بجوار شيخه أبي علي الدقاق. ومن تصانيفه التي ذكرها إسماعيل باشا البغدادي في هدية العارفين: أربعون في الحديث. استفاضة المرادات. بلغة المقاصد. التخيير في علم التذكير في معاني اسم الله تعالى. التيسير في علم التفسير. عيون الأجوبة في فنون الأسئلة. الفصول في الأصول. كتاب المعراج. لطائف الإشارات في تفسير القرآن. المنتهى في نكت أولي النهى. ناسخ الحديث ومنسوخه. نحو القلوب. حياة الأرواح والدليل إلى طريق الصلاح. شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة. منثور الخطاب في شهود الألباب. الرسالة القشيرية. انظر مقدمة الرسالة القشيرية (ص ٥ و٦)..
ثم بين المقصود الأعظم وما هو المطلوب الأهم، وهو طلب الهداية والتوفيق إلى عين التحقيق، فقال :﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ( ٦ ) ﴾
قلت : الهدايةُ في الأصل : الدلالة بلطف، ولذلك تُستعمل في الخير، وقوله :﴿ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ [ الصَّافات : ٢٣ ] على التهكم، والفعل منه ( هَدَى ) بالفتح، وأصله أن يُعدى باللام١، أو " إلى٢ "، فَعومل هنا معاملة :﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ﴾ [ الأعرَاف : ١٥٥ ]. والصراط لغة : الطريق٣، مشتق من سَرَط الطعامَ إذا ابتلعه، فكأنها تبتلع السابلةَ ؛ أي المارَّة به، وَقُلِبَتْ السين صاداً لتطابق الطاء في الإطباق، وقد تُشَمُّ زاياً لقرب المَخرج٤، و ﴿ المستقيم ﴾ : الذي لا عوج فيه، والمراد به طريق الحق المُوصَّلة إلى الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله : مُعلماً لعباده كيف يطلبونه، وما ينبغي لهم أن يطلبوا، أي : قُولوا ﴿ اهدنا ﴾ أي : أَرشِدْنا إلى الطريق المستقيم، الموصلة إلى حضرة النعيم، والطريقُ المستقيم هو السيرُ على الشريعة المحمدية في الظاهر، والتبرِّي من الحول والقوة في الباطن، أو تقول : هو أن يكون ظاهرُك شريعةً وباطنك حقيقة، ظاهرك عبودية وباطنك حرية، الفرق على ظاهرك موجود والجمع في باطنك مشهود، وفي الحكم٥ :" متى جَعَلَك في الظاهر ممتثلاً لأمره وفي الباطن مستسلماً لقهره٦، فقد أعظم المِنَّة عليك٧ ".
فالصراط المستقيم الذي أمرَنَا الحقُّ بطلبه هو : الجمع بين الشريعة والحقيقة٨، والمفهوم من قوله :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفَاتِحَة : ٥ ]، ولذلك وصلَه به، فكأن الحق - سبحانه - يقول : يا عبادي احمدوني ومجدوني وأفردوني بالقصد وخُصُّوني بالعبادة، وكونوا في ظاهركم مشتغلين بعبادتي، وفي باطنكم مستعينين بحولي وقوتي، أو كونوا في ظاهركم متأدبين بخدمتي، وفي باطنكم مشاهدين لقدرتي وعظمة ربوبيتي.
وقال سيّدنا عليّ٩ - كَرَّمَ الله وجهه - :( الصراط المستقيم هنا القرآن ) ١٠. وقال جابر رضي الله عنه١١ :( هو الإسلام ) ١٢ يعني الحنيفية السمحاء وقال سهل بن عبد الله١٣ :( هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم ). يعني اتباعَ ما جاء به. وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلطه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدِّيقين.
فإن قلت : إذا كان العبدُ ذاهباً على هذا المنهاج المستقيم، فكيف يطلب ما هو حاصل ؟ فالجواب : أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام، الذي هو حاصل، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل، على طريق الصوفية، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام، والعمل الباطن بمقام الإيمان، وأهلُ الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان، والترقي إلى ما لا نهاية له من كشوفات العرفان
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ ﴾ [ يُوسُف : ٧٦ ].
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد فيما ليس بحاصل، ثم قال : عمومُ المؤمنين يقولون :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ أي : بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتَهُم درجات الصالحين، والصالحون يقولون :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ معناه : نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء، والشهداءُ يقولون :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين، والصديقون يقولون :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ أي : بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حَصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب١٤، والقطبُ يقول :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنه حصل له رتبة القطبانية، وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه. ه.
وقال بعضهم : الهدايةُ إما للعين وإما للأثرِ الدالَّ على العين، ولا نهاية للأولى، قلت : فالأولى لأهل الشهود والعِيان، والثانية لأهل الدليل والبرهان، فالهداية للعين هي الدلالةُ على الله. والهداية للأثر هي الدلالة على العمل، " مَنْ دَلَّكَ على الله فقد نصحك، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك ". وإنما كانت الأولى لا نهاية لها ؛ لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له. بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين، إن كان الدالُّ عارفاً بالطريق.
قال البيضاوي : وهداية الله تتنوَّعُ أنواعاً لا يحصيها عد ﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحصُوهَآ ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] لكنها تنحصر في أجناس مترتبة :
الأول : إِفاضَةُ القُوَى التي بها يتمكنُ المرء من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.
الثاني : نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، وإليه الإشارة بقوله :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [ البَلَد : ١٠ ]، وقال :﴿ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾
[ فُصّلَت : ١٧ ].
الثالث : الهدايةُ بإرسال الرسل وإنزال الكُتُب، وإياها عني بقوله :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ﴾ [ الأنبيَاء : ٧٣ ]، وقوله :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
[ الإسرَاء : ٩ ].
الرابع : أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويُرِيَهُمْ الأشياءَ كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة. وهذا يختص بِنَيْله الأنبياءُ والأولياءُ، وإياه عني بقوله :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ]، ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العَنكبوت : ٦٩ ].
فالمطلوب : إما زيادةُ ما مُنحوه من الهدى والثباتُ عليه، أو حصولُ المراتب المترتبة عليه، فإذا قال العارفُ الواصل عَنَى بقوله : أرشدنا طريق السير فيك، لتمحُوَ عنا ظلماتِ أحوالنا، وتُمِيطَ غواشِيَ أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراكَ بنورك. ه.
قلت : قوله الرابع. . . الخ، في عبارته قَلَقٌ واختصار، والصواب أن يقول : الرابعُ - أن يكشف عن قلوبهم الظُّلَمَ والأغيار، ويُشرق عليها الأنوار والأسرار، ويُريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام، وباستعمال الفكرة في عظمةِ الملك العلاَّم، حتى تستولي أنوارُ المعاني على حِسِّ الأواني، ثم يقول : وهذا قسم يختصّ بنيله الأنبياء والأولياء.
وقوله : فإذا قال العارف. . . الخ، الصواب أن يقول : فإذا قاله المريد السائر ؛ لأن الواصل انمحت عنه الظلماتُ كلها والغواشي وسائرُ الأكدار ؛ لأن الله تعالى غطَّى وصفه بوصفه ونعته بنعته، فلم يَبْقَ له وصفٌ ظُلماني. وأيضاً قوله :[ أرشدنا إلى طريق السير ] إنما يناسب السائر دون الواصل ؛ لأن الواصل ما بَقِيَ له إلا الترقي، ولا يُسمى في اصطلاح الصوفية [ السير ] إلا قبلَ الوصول. والله تعالى أعلم.
١ كقوله تعالى: ﴿يهدي للتي هي أقوم﴾ [الإسراء: ٩]..
٢ كقوله تعالى: ﴿لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ [الشورى: ٥٢]..
٣ قال الجوهري في الصحاح (٣/٣٧٩) الصراط والسراط والزراط: الطريق..
٤ قال الواحدي النيسابوري في الوسيط (١/٦٨): "من قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة. ومن قرأ بالصاد فلأنها أخف على اللسان؛ لأن الصاد حرف مطبق كالطاء، فيتقاربان ويحسنان في السمع. ومن قرأ بالزاي أبدل من السين حرفا مجهورا حتى يشبه الطاء في الجهر، ويحتج بقول العرب: زقر، في صقر. ومن قرأ بإشمام الزاي، فإنه لم يجعلها زايا خالصة ولا صادا خالصة لئلا يلتبس أصل الكلمة بأحدهما. وكلها لغات"..
٥ هي الحكم العطائية..
٦ كذا أيضا في إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة (ص ١٧٤). وفي غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية لابن عباد النفزي (ص ١٥٠): "ورزقك في الباطن الاستسلام لقهره"..
٧ قال ابن عجيبة في إيقاظ الهمم (ص ١٧٤، ١٧٥) في شرح الحكمة: "إنما من كان من أعظم المنة لأنه شاهد المعرفة التي هي منتهى الهمم، وأقصى غاية النعم، فامتثال الأمر في الظاهر يدل على كمال الشريعة، وتحقيق العبودية، والاستسلام للقهر في الباطن يدل على كمال الطريقة ونهاية الحقيقة، والجمع بينهما هو غاية الكمال إذ منتهى الكمالات الشرائع، فمتى جعلك أيها الإنسان في الظاهر ممتثلا لأمره ومجتنبا لنهيه، وفي الباطن مستسلما لقهره، فقد أعظم المنة عليك حيث أراح ظاهرك من عنت المخالفة، وأراح باطنك من تعب المنازعة. أو تقول: حيث زين ظاهرك بالطاعة، وزين باطنك بالمعرفة، فالواجب عليك أن تشكر هذه النعمة وتعرف قدرها حتى تعظم محبة الله في قلبك، وذلك أقصى مرادك وقصدك والله ذو الفضل العظيم، ومتى أثبت لك هذا الأمر فقد خلصك من نفسك وحررك من رق حظك، فلا تبال معها ما فاتك من تخصيص الكرامات الحسية لأنها أمور وهمية" اهـ. وقال ابن عباد النفزي في غيث المواهب العلية (ص ١٥٠) في شرحه لهذه الحكمة: "هذان الأمران اللذان يلزمانك في إقامة العبودية لربك لا غير، فمتى يسرهما الله تعالى لك، وأقامك في مراعاة أحكامهما ووفقك لذلك فقد أعظم المنة عليك، فلماذا تتشوف؟ وما الذي تلتمس بعدهما إن كنت عبدا حقيقيا؟.
٨ قال في الرسالة القشيرية (ص ١١٨، ١١٩): "الشريعة: أمر بالتزام العبودية، والحقيقة: مشاهدة الربوبية. فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير مقبول. فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق. فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده... واعلم أن الشريعة حقيقة من حيث إنها وجبت بأمره، والحقيقة أيضا شريعة من حيث إن المعارف به سبحانه أيضا وجبت بأمره"..
٩ الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي أبو الحسن، رابع الخلفاء الراشدين. ولد سنة ٢٣ قبل الهجرة، وتوفي سنة ٤٠ هـ..
١٠ روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن علي وابن مسعود وأبي العالية. انظر المستدرك، كتاب التفسير، سورة الفاتحة، عن عبد الله بن مسعود، وصححه (٢/٢٥٨)، والدر المنثور (١/١٥) عن ابن مسعود وأبي العالية، والطبري (١/١٧١) عن علي، و(١/١٧٣) عن ابن مسعود وأبي العالية، وتفسير ابن كثير (١/٢٧) عن علي، وفتح القدير (١/٢٤) عن ابن مسعود وأبي العالية..
١١ جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري السلمي. صاحبي أكثر من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولد سنة ١٦ قبل الهجرة، وتوفي سنة ٧٨ هـ..
١٢ روي ذلك عن جابر وابن عباس وزيد بن أسلم ومقاتل. انظر تفسير ابن عباس (ص ٢)، والدر المنثور (١/٩) عن ابن عباس، والطبري (١/١٧٤) عن ابن عباس، و(١/١٧٦) عن زيد بن أسلم، وتفسير ابن كثير (١/٢٧) عن زيد، وتفسير البغوي (١/٢٣) عن ابن عباس وجابر ومقاتل، والدر المنثور (١/١٥) والطبري (١/٢٧٣) عن جابر..
١٣ هو أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس التستري. أحد أئمة الصوفية وعلمائهم والمتكلمين في علوم الإخلاص والرياضيات وعيوب الأفعال. ولد سنة ٢٠٠ هـ، وتوفي سنة ٢٨٣ هـ. له كتاب في تفسير القرآن، وكتاب "رقائق المحبين" وغير ذلك (الأعلام ٣/١٤٣)..
١٤ القطب عند أهل السلوك عبارة عن رجل واحد هو موضع نظر الله تعالى من العالم في كل زمان، ويسمى بالغوث أيضا، وهو خلق على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. انظر كشاف اصطلاحات الفنون (٣/٤٩٣).
وفي التعريفات للشريف الجرجاني (ص ١٧٨): "القطب: وقد يسمى غوثا باعتبار التجاء الملهوف إليه، وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد بيده قسطاس الفيض الأعم، وزنه يتبع علمه، وعلمه يتبع علم الحق، وعلم الحق يتبع الماهيات الغير المجعولة، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس لا من حيث إنسانيته، وحكم جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية، وحكم ميكائيل فيه كحكم الذقوة الجاذبة فيها، وحكم عزرائيل فيه القوة الدافعة فيها"..

ثم فسر الطريق المستقيم، فقال :﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ ﴾
قلت :﴿ صراط ﴾ بدل من الأول - بدل الكل من الكل - وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، وفائدته : التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، على آكد وجه وأبلغه ؛ لأنه جعله كالتفسير والبيان له، فكأنه من البيِّن الذي لا خفاء فيه، وأن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين، و﴿ غير المغضوب عليهم ﴾ بدل من ﴿ الذين ﴾ على معنى أن المُنْعَمَ عليهم هم الذي سَلِمُوا من الغضب والضلال. أو صفة له مُبيَّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال، وذلك إنما يصح بأحد تأويلين : إجراء الموصول مجرى النكرة، إذ لم يُقصد به معهود كالمعرَّف في قوله :
ولَقَد أَمُرُ علُى اللئيم يَسُبنّي١ ***. . .
أو يُجعل ﴿ غير ﴾ مَعْرِفةً ؛ لأنه أُضيف إلى مآلَهُ ضدٍّ واحد، وهو المنعمُ عليه، فيتعينُ تَعيُّن الحركة غير السكون، وإلا لزِم عليه نعت المعرفة بالنكرة. فتأملْهُ.
والغضبُ : ثَوَرانُ النفس إرادةَ الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد غايته وهو العقوبة، و﴿ عليهم ﴾ نائب فاعل : و﴿ لا ﴾ مَزيدة لتأكيد ما في ﴿ غير ﴾ من معنى النفي، فكأنه قال : ولا المغضوب عليهم ولا الضالين، وقرأ عمرُ رضي الله عنه٢ :﴿ وغير الضالين ﴾٣، والضلال : والعدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأً٤، وله عرض عَريضٌ والتفاوت بين أدناه وأقصاه كبير. قاله البيضاوي٥.
وإنما أَسند النعمة إلى الله والغضبَ إلى المجهول تعليماً للأدب، ﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. . . ﴾ [ النِّساء : ٧٩ ] الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في تفسير الطريق المستقيم : هو طريق الذين أنعمتُ عليهم بالهداية والاستقامة، والمعرفة العامة والخاصة، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والمُنعَم عليهم في الآية مطلق، يصدق كل منعَم عليه بالمعرفة والاستقامة في دينه، كالصحابة وأضرابِهِمْ، وقيل : المراد بهم أصحاب سيدنا موسى عليه السلام قبل التحريف. وقيل : أصحاب سيدنا عيسى قبل التغيير. والتحقيق أنه عام.
قال البيضاوي٦ : ونِعَمُ الله وإن كانت لا تُحصى كما قال الله :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي.
فالأول : وهو الدنيوي - قسمان : موهبي وكَسْبِي، والموهبي قسمان : رُوحاني، كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوي، كالفهم والفكر والنطق، وجسماني : كتخليق البدن بالقوة الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء. والكسبي : كتزكية النفس عن الرذائل، وتحليتها بالأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحُلي المستحسنة، وحصول الجاه والمال.
والثاني : وهو الأُخروي : أن يغفر له ما فَرَطَ منه ويرضى عنه ويُبوأهُ في أعلى علِّيين، مع الملائكة المقربين أبد الآبدين، والمراد القسمُ الأخير، وما يكون وُصْلة إلى نيله من القسم الأول، وأما ما عدا ذلك فيشترك فيه المؤمن والكافر. ه.
قال ابن جُزَيّ : النعم التي يقع عليها الشكر ثلاثة أقسام، دنيوية : كالصحة والعافية والمال الحلال. ودينية : كالعلم والتقوى والمعرفة. وأخرويةٌ : كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل : وقال أيضاً : والناس في الشكر على مقامين : منهم مَن يشكر على النعم الواصلة إليه، الخاصة به، ومنهم مَن يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم. والشكر على ثلاث درجات : فدرجة العوام، الشكر على النعم، ودرجة الخواص : الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص : أن يغيب عن رؤية النعمة بمشاهدة المُنعم. قال رجل لإبراهيم بن أدهَمَ رضي الله عنه٧ : الفقراء إذا أُعْطُوا شَكَرُوا وإذا مُنعوا صَبَروا، فقال إبراهيم : هذه أخلاقُ الكلاب، ولكن القومَ إذا مُنِعوا شكروا وإذا أُعْطُوا آثروا. ه. ٨
ثم احترس من الطريق غير المستقيمة، فقال :﴿ غير المغضوب عليهم ﴾ أي : غير طريق الذين غضبت عليهم، فلا تهدنا إليها ولا تسلك بنا سبيلها، بل سلَّمنَا من مواردها. والمراد بهم : اليهود، كذا فسرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَصْدُقُ بحسب العموم على كل من غضب الله عليهم، ﴿ ولا الضالين ﴾ أي : ولا طريق الضالين، أي : التالفين عن الحق، وهم النصارى كما قال صلى الله عليه وسلم٩. والتفسيران مأخوذان من كتاب الله تعالى. قال تعالى في شأن اليهود :
﴿ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾
[ البَقَرَة : ٩٠ ] ١٠، وقال في حق النصارى :
﴿ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ ﴾
[ المَائدة : ٧٧ }.
واعلم أن الحق - سبحانه - قسم خلقه على ثلاثة أقسام : قسم أعدَّهم للكرم والإحسان، ليُظْهِرَ فيهم اسم الكريم أو الرحيم، وهو المنعم عليه بالإيمان والاستقامة. وقسم أعدَّهم للانتقام والغضب، ليُظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار، وهم المغضوب وعليهم والضالون عن طريق الحق عقلاً أو عملاً، وهم الكفار، وقسم أعدَّهم الله للحِلْم والعفو، ليُظهر فيهم اسمه تعالى الحليم والعفو، وهم أهل العصيان من المؤمنين.
فمن رَامَ أن يكونَ الوجودُ خالياً من هذه الأقسام الثلاثة، وأن يكون الناس كلهم سواء في الهداية أو ضدها، فهو جاهل بالله وبأسمائه ؛ إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه في هذا الآدمي، من كرم وقهرية وحِلْم وغير ذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هي : طريق الوصول إلى الحضرة، التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وهو مقام التوحيد الخاص١١، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد، وليس فوقه إلا مقامُ توحيد الأنبياء والرسل١٢، ولا بد فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير، قد سلك المقامات ذوقاً وكشفاً، وحاز مقام الفناء والبقاء١٣، وجمع بين الجذب١٤ والسلوك ؛ لأن الطريق عويص، قليلٌ خُطَّارُهُ، كثيرٌ قُطَّاعُه، وشيطانُ هذا الطريق فَقِيهٌ بمقاماته ونوازِله، فلا بد فيه من دليل، وإلا ضلّ سالكها عن سواء السبيل، وإلا هذا المعنى أشار ابن البنا١٥، حيث قال :
وَإِنَّمَا القَوْمُ مُسَافِرُونَ *** لِحَضْرَةِ الْحَقِّ وَظَاعِنُونَ
فَافْتَقَرُوا فِيهِ إلَى دَلِيل *** ذِي بَصَرٍ بالسَّيْرِ وَالْمَقِيلِ
قَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ ثُمَّ عَادَ *** لِيُخْبِرَ الْقَوْمَ بِمَا اسْتَفَادَ
وقال في لطائف المنن١٦ :( من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع، ويكشف له عن قلبه القناع، فهو في هذا الشأن لَقيطٌ لا أب له، دَعِيٍّ لا نَسَبَ له، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه، والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من الله إليه، لم تَرْضْهُ سياسةُ التأديب والتهذيب، ولم يَقُدْهُ زمَامُ التربية والتدريب )، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ مع الترقي الذي ذكره الشيخ أو العباس المرسي رضي الله عنه المتقدم، وإذا قرأ ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ استشعر، أَيْ : أنعمتَ عليهم بالوصول والتمكين في معرفتك.
وقال الورتجبي١٧ : اهدنا مُرَادَك مِنَّا ؛ لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق، من الصدق والإخلاص في عبوديته وخدمته. ثم قال : وقيل : اهدنا هُدَى العِيَانِ بعد البيان، لتستقيم لك حسب إرادتِك. وقيل : اهدنا هُدَى مَنْ يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه. ثم قال : وقال بعضهم : اهدنا، أي : ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام، وهو طريق المستقيم والمنهاج القويم ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ أي : منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة. ثم قال :﴿ غير المغضوب عليهم ﴾ يعني : المطرودين عن باب العبودية، ﴿ ولا الضالين ﴾ يعني المُفْلِسين عن نفائس المعرفة. ه.
قلت : والأحسن أن يقال :﴿ غير المغضوب عليهم ﴾ هم الذين أَوْقَفَهُمْ عن السير اتباعُ الحظوظ والشهوات، فأوقعهم في مَهَاوِي العصيان والمخالفات، ﴿ ولا الضالين ﴾ هم الذين حبسهم الجهل والتقليد، فلم تنفُذْ بصائرهم إلى خالص التوحيد، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد والبرهان، وهو ضلال عند أهل الشهود والعِيان، ولو بلغ في الصلاح غايةَ الإمكان.
وقال في الإحياء١٨ : إذا قلت :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ فافْهَمْ أن الأمور كلها بالله، وأن المراد ها هنا المُسمَّى، وإذا كانت الأمورُ كلها بالله فلا جرَم أنَّ الحمد كله لله، ثم قال : وإذا قلت :﴿ الرحمان الرحيم ﴾ فأحضرْ في قلبك أنواعَ لطفه لتتفتحَ لك رحمتُه فينبعث به رجاؤُك، ثم استشعر من قلبك التعظيم والخوف من قولك :﴿ يوم الدين ﴾. ثم قال : ثم جَدَّد الإخلاص بقولك :﴿ إياك نعبد ﴾. وجدَّد العجز والاحتياج والتبرِّيَ من الحوْل والقوة بقولك :﴿ وإياك نستعين ﴾، ثم اطلب اسم حاجتك، وقل :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ الذي يسوقنا إلى جوارك ويُفضي بنا إلى مرضاتك، وزِدْهُ شرحاً وتفصيلاً وتأكيداً، واستشهد بالذين أفاض عليهم نعم الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين واليهود والنصارى والصابئين. ه. ملخصاً.
وقال القشيري١٩ : قوله تعالى :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ الأمر في هذه الآية مضمر، أي : قولوا : اهدنا٢٠. والصراط المستقيم : طريق الحق، وهو ما عليه أهل التوحيد، أي : أرشدْنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات، فيقعَ على وجه التوحيد غُبَارُ الظنون والحسابات لتكون دليلنا عليك، ثم قال :﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ أي : الواصلين بك إليك، ثم قال :﴿ غير المغضوب عليهم ﴾ بنسيان التوفيق والتَّعامِي عن رؤية التأييد، ﴿ ولا الضالين ﴾ عن شهودِ سابقِ الاختيار، وجريان تصاريف الأقدار٢١. ه.
١ عجز البيت:
... *** فمضيت تمت قلت لا يعنيني
والبيت لرجل من سلول في الدرر ١/٧٨، وشرح التصريح ٢/١١، وشرح شواهد المغني ١/٣١٠، والكتاب ٣/٢٤، ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات ص ١٢٦، ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ص ١٧١، وبلا نسبة في الأزهية ص ٢٦٣، والخصائص ٢/٣٣٨..

٢ أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، ثاني الخلفاء الراشدين وأول من لقب بأمير المؤمنين. ولد سنة ٤٠ قبل الهجرة، وتوفي سنة ٢٣ هـ..
٣ وهي أيضا قراءة أبي كما ذكر أبو حيان في البحر المحيط (١/١٥٠)..
٤ الضلال له معان عديدة ذكر بعضها أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (١/١٤٧) فقال: "والضلال: الهلاك والخفاء؛ ضل اللبن في الماء. أصله الغيبوبة ﴿في كتاب لا يضل ربي﴾ [طه: ٥٢] وضللت الشيء: جهلت المكان الذي وضعته فيه، وأضللت الشيء: ضيعته ﴿وأضل أعمالهم﴾ [محمد: ٨] وضل: غفل ونسي ﴿وأنا من الضالين﴾ [الشعراء: ٢٠] ﴿أن تضل إحداهما﴾ [البقرة: ٢٨٢] والضلال: سلوك غير سبيل القصد ضل عن الطريق: سلك غير جادتها. والضلال: الحيرة والتردد، ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة. وقد فسر الضلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأمور وبالمحبة"..
٥ انظر تفسير البيضاوي (١/١١، ١٢) بتقديم وتأخير في بعض الفقرات..
٦ انظر تفسير البيضاوي ١/١١..
٧ هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي. زاهد مشهور، توفي سنة ١٦١ هـ. كان أبوه من أهل الغنى في بلخ، فتفقه ورحل إلى بغداد، وجال في العراق والشام والحجاز، وأخذ عن كثير من علماء الأقطار الثلاثة. وكان يعيش من العمل بالحصاد وحفظ البساتين والحمل والطحن ويشترك مع الغزاة في قتال الروم. وجاءه إلى المصيصة (من أرض كيليكيا) عبد لأبيه يحمل إليه عشرة آلاف درهم ويخبره أن أباه قد مات في بلخ وخلف له مالا عظيما، فأعتق العبد ووهبه الدراهم ولم يعبأ بمال أبيه. وكان يلبس في الشتاء فروا لا قميص تحته ولا يتعمم في الصيف ولا يحتذي، يصوم في السفر والإقامة، وينطق بالعربية الفصحى لا يلحن. وكان إذا حضر مجلس سفيان الثوري وهو يعظ أوجز سفيان في كلامه مخافة أن يزل. أخباره كثيرة وفيها اضطراب واختلاف في نسبته ومسكنه ومتوفاه، ولعل الراجح أنه مات ودفن في سوفنن (حصن من بلاد الروم) كما في تاريخ ابن عساكر. وفي المكتبة الظاهرية بدمشق "سيرة السلطان إبراهيم بن أدهم" قصة عامية. انظر الأعلام للزركلي (١/٣١)..
٨ وردت هذه الرواية في طبقات الأولياء لابن الملقن (ص ٤١) كما يلي: "قال إبراهيم لشقيق: علام أصلتم أصولكم؟ فقال: إذا رزقنا أكلنا وإذا منعنا صبرنا. فقال إبراهيم: هكذا كلاب بلخ إذا رزقت أكلت وإذا منعت صبرت؛ إنا أصلنا أصولنا على أنا إذا رزقنا آثرنا وإذا منعنا حمدنا وشكرنا. فقام شقيق وقعد بين يديه وقال: أنت أستاذنا"..
٩ انظر الترمذي، كتاب التفسير، سورة الفاتحة، عن عدي رقم (٤٠٣٠) وانظر مسند أحمد (٤/٣٧٨، ٣٧٩) وزوائد ابن حبان (ص ٤٢٤) عن عدي، والطبري (١/١٨٥) عن عدي، والدر المنثور (١/١٦) وابن كثير (١/٢٩، ٣٠) وفتح الباري (٨/١٣٠) والفخر الرازي (١/٢٦١)..
١٠ وقال أيضا: ﴿من لعنه الله وغضب عليه﴾ (المائدة ٦٠) وهو في حق اليهود كما قال المفسرون..
١١ سئل الجنيد عن توحيد الخاص فقال: أن يكون العبد شبحا بين يدي الله سبحانه تجري عليه تصاريف تدبيره في مجاري أحكام قدرته في لجج بحار توحيده بالفناء عن نفسه وعن دعوة الخلق له وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته في حقيقة قربه بذهاب حسه وحركته لقيام الحق سبحانه له فيما أراد منه، وهو أن يرجع آخر العبد إلى أوله فيكون كما كان قبل أن يكون. وقال يوسف بن الحسين: توحيد الخاصة أن يكون بسره ووجده وقلبه كأنه قائم بين يدي الله تعالى يجري عليه تصاريف تدبيره وأحكام قدرته في بحار توحيده بالفناء عن نفسه وذهاب حسه بقيام الحق سبحانه له في مراده منه، فيكون كما هو قبل أن يكون في جريان حكمه سبحانه عليه. انظر الرسالة القشيرية (ص ٢٣١ و٢٣٣)..
١٢ التوحيد على ثلاثة أوجه: الوجه الأول توحيد العامة، والوجه الثاني توحيد الخاصة، والوجه الثالث، توحيد خاصة الخاصة. فالتوحيد الأول هو التوحيد الذي جاءت به الرسل. والتوحيد الثاني هو توحيد الخاصة، وهو إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد. والتوحيد الثالث وهو توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة، وهو توحيد الأنبياء والمرسلين. انظر مدارج السالكين (٣/٥٠١- ٥٣٤)..
١٣ أشار القوم بالفناء إلى سقوط الأوصاف المذمومة، وأشاروا بالبقاء إلى قيام الأوصاف المحمودة به (الرسالة القشرية ص ١٠٢)..
١٤ الجذب عند أرباب السلوك: هو عبارة عن جذب الله تعالى عبدا إلى حضرته (كشاف اصطلاحات الفنون ١/٢٥٥)..
١٥ لعله أبو عبد الله محمد بن يوسف البناء الأصبهاني. كان في عصر الجنيد، وكان الجنيد يقول بفضله. انظر ترجمته في طبقات الأولياء لابن الملقن (ص ٢٨٢، ٢٨٣)..
١٦ كتاب "لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" أو "المنن الكبرى" للإمام أبي المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني المتوفى سنة ٩٧٣ هـ. طبع في دار الكتب العلمية بيروت سنة ١٩٩٩م..
١٧ لم أهتد إلى ترجمة له بعد البحث..
١٨ "إحياء علوم الدين" للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الشافعي المتوفى بطوس سنة ٥٠٥ هـ. وهو من أجل كتب المواعظ وأعظمها، حتى قيل إنه لو ذهبت كتب الإسلام وبقي الإحياء لأغنى عما ذهب. نظر كشف الظنون (ص: ٢٣)..
١٩ انظر لطائف الإشارات للقشيري (١/١٣- ١٥)..
٢٠ في تفسير القشيري لطائف الإشارات: "والأمر في هذه الآية مضمر، فمعناه اهدنا به –والمؤمنون على الهداية في الحال – فمعنى السؤال الاستدامة والاستزادة"..
٢١ ينقل المؤلف عن القشيري بالمعنى وليس بالنص، وقد حذف الكثير من العبارات، وانتقى منها ما أثبته..
Icon