ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) ﴾قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: (سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا) وهذه السورة أنزلناها. وإنما قلنا معنى ذلك كذلك؛ لأن العرب لا تكاد تبتدئ بالنكرات قبل أخبارها إذا لم تكن جوابا، لأنها توصل كما يوصل الذي، ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة، فيستقبح الابتداء بها قبل الخبر إذا لم تكن موصولة، إذ كان يصير خبرها إذا ابتدئ بها كالصلة لها، ويصير السامع خبرها كالمتوقع خبرها، بعد إذ كان الخبر عنها بعدها، كالصلة لها، وإذا ابتدئ بالخبر عنها قبلها، لم يدخل الشك على سامع الكلام في مراد المتكلم. وقد بيَّنا فيما مضى قبل، أن السورة وصف لما ارتفع بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: (وَفَرَضْنَاهَا) فإن القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأه بعض قرّاء الحجاز والبصرة: "وفَرَضْناهَا" ويتأولونه: وفصَّلناها ونزلنا فيها فرائض مختلفة. وكذلك كان مجاهد يقرؤه ويتأوّله.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا ابن مهدي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن حميد، عن مجاهد، أنه كان يقرؤها: "وَفَرَّضْناهَا" يعني بالتشديد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: "وَفَرَّضْنَاها" قال: الأمر بالحلال، والنهي عن الحرام.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. وقد يحتمل ذلك إذا قرئ بالتشديد وجها غير الذي ذكرنا عن مجاهد،
والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أن الله قد فصلها، وأنزل فيها ضروبًا من الأحكام، وأمر فيها ونهى، وفرض على عباده فيها فرائض، ففيها المعنيان كلاهما: التفريض، والفرض، فلذلك قلنا بأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب الصواب.
*ذكر من تأوّل ذلك بمعنى الفرض، والبيان من أهل التأويل.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَفَرَضْنَاهَا) يقول: بيَّناها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) قال: فرضناها لهذا الذي يتلوها مما فرض فيها، وقرأ فيها: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
وقوله: (وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) يقول تعالى ذكره: وأنزلنا في هذه السورة علامات ودلالات على الحقّ بينات، يعني واضحات لمن تأمَّلَها وفكَّر فيها بعقل أنها من عند الله، فإنها الحقّ المبين، وإنها تهدي إلى الصراط المستقيم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: (وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قال: الحلال والحرام والحدود (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يقول: لتتذكروا بهذه الآيات البينات التي أنزلناها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: من زنى من الرجال أو زنت من النساء، وهو حرّ بكر غير محصن بزوج، فاجلدوه ضربا مئة جلدة، عقوبة لما صنع وأتى من معصية الله. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: لا تأخذكم بالزاني والزانية أيها المؤمنون رأفة،
واختلف أهل التأويل في المنهيّ عنه المؤمنون من أخذ الرأفة بهما، فقال بعضهم: هو ترك إقامة حدّ الله عليهما، فأما إذا أقيم عليهما الحد فلم تأخذهم بهما رأفة في دين الله.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: جلد ابنُ عمر جاريةً له أحدثت، فجلد رجليها، قال نافع: وحسبت أنه قال: وظهرها، فقلت: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) فقال: وأخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول: ثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر، أن عبد الله بن عمر حدّ جارية له، فقال للجالد، وأشار إلى رجلها، وإلى أسفلها، قلت: فأين قول الله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) قال: أفأقتلها؟.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) فقال: أن تقيم الحدّ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) قال: لا تضيعوا حدود الله.
قال ابن جُرَيج: وقال مجاهد: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ) : لا تضيعوا الحدود في أن تقيموها، وقالها عطاء بن أبي رباح.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبد الملك وحجاج، عن عطاء (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) قال: يقام حد الله ولا يعطل، وليس بالقتل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني محمد بن فضيل، عن داود، عن سعيد بن جبير، قال: الجلد.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن المغيرة، عن إبراهيم، في قوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) قال: الضرب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت عمران، قال: قلت
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) قال: لا تقام الحدود.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ) فتدعوهما من حدود الله التي أمر بها وافترضها عليهما.
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، أنه سأل سليمان بن يسار، عن قول الله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) أي في الحدود أو في العقوبة؟ قال: ذلك فيهما جميعا.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) قال: أن يقام حد الله ولا يعطَّل، وليس بالقتل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن عامر في قوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) قال: الضرب الشديد.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ) فتخفِّفوا الضرب عنهما، ولكن أوجعوهما ضربا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن أبي بكر، قال: ثنا أبو جعفر، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) قال: الجلد الشديد.
قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، قال: يحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما. وأما الزاني فتخلع ثيابه. وتلا هذه الآية: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) فقلت لحماد: أهذا في الحكم؟ قال: في الحكم والجلد.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: يجتهد في حدّ الزاني والفرية، ويخفف في حدّ الشرب. وقال قَتادة: يخفف في
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا تأخذكم بهما رأفة في إقامة حدّ الله عليهما الذي افترض عليكم إقامته عليهما.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لدلالة قول الله بعده: "في دين الله"، يعني في طاعة الله التي أمركم بها. ومعلوم أن دين الله الذي أمر به في الزانيين: إقامة الحد عليهما، على ما أمر من جلد كل واحد منهما مئة جلدة، مع أن الشدّة في الضرب لا حدّ لها يوقف عليه، وكل ضرب أوجع فهو شديد، وليس للذي يوجع في الشدة حدّ لا زيادة فيه فيؤمر به. وغير جائز وصفه جلّ ثناؤه بأنه أمر بما لا سبيل للمأمور به إلى معرفته، وإذا كان ذلك كذلك، فالذي للمأمورين إلى معرفته السبيل، هو عدد الجلد على ما أمر به، وذلك هو إقامة الحد على ما قلنا. وللعرب في الرأفة لغتان: الرأفة بتسكين الهمزة، والرآفة بمدها، كالسأمة والسآمة، والكأبة والكآبة. وكأن الرأفة المرّة الواحدة، والرآفة المصدر، كما قيل: ضؤل ضآلة مثل فعل فعالة، وقبح قباحة.
وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) يقول: إن كنتم تصدّقون بالله ربكم وباليوم الآخر، وأنكم فيه مبعوثون لحشر القيامة، وللثواب والعقاب، فإن من كان بذلك مصدّقا، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه؛ خوف عقابه على معاصيه. وقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره: وليحضر جلد الزانيين البكرين وحدّهما إذا أقيم عليهما طائفة من المؤمنين. والعرب تسمي الواحد فما زاد: طائفة. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يقول: من أهل الإيمان بالله ورسوله.
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ عدد الطائفة الذي أمر الله بشهود عذاب الزانيين البكرين، فقال بعضهم: أقله واحد.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الطائفة: رجل.
حدثنا علي بن سهل بن موسى بن إسحاق الكنانيّ وابن القوّاس، قالا ثنا يحيى بن عيسى، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: الطائفة رجل. قال عليّ: فما فوق ذلك; وقال ابن القواس:
حدثنا عليّ، قال: ثنا زيد، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الطائفة: رجل.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: قال ابن أبي نجيح: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال مجاهد: أقله رجل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد، في قوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: الطائفة: الواحد إلى الألف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد في هذه الآية: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: الطائفة واحد إلى الألف. (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، قال: الطائفة: الرجل الواحد إلى الألف، قال: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) إنما كانا رجلين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: سمعت عيسى بن يونس، يقول: ثنا النعمان بن ثابت، عن حماد وإبراهيم قالا الطائفة: رجل.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: الطائفة: رجل واحد فما فوقه.
وقال آخرون: أقله في هذا الموضع رجلان.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، في قوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: قال عطاء: أقله رجلان.
حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة قال: ليحضر رجلان فصاعدا.
وقال آخرون: أقلّ ذلك ثلاثة فصاعدا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: الطائفة: الثلاثة فصاعدا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة، في قوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: نفر من المسلمين.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، مثله.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا أشعث، عن أبيه، قال: أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة، وقد أخرج جارية إلى باب الدار، وقد زنت، فدعا رجلا فقال: اضربها خمسين! فدعا جماعة، ثم قرأ: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى، عن أشعث، عن أبيه، أن أبا برزة أمر ابنه أن يضرب جارية له ولدت من الزنا ضربا غير مبرح، قال: فألقى عليها ثوبا وعنده قوم، وقرأ: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا)... الآية.
وقال آخرون: بل أقلّ ذلك أربعة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: فقال: الطائفة التي يجب بها الحدّ أربعة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين: الواحد فصاعدًا؛ وذلك أن الله عمّ بقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ) والطائفة: قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا.
فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن الله تعالى ذكره وضع دلالة على أن مراده من ذلك خاص من العدد، كان معلوما أن حضور ما وقع عليه أدنى اسم الطائفة ذلك المحضر مخرج مقيم الحدّ مما، أمره الله به بقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) غير أني وإن كان الأمر على ما وصفت، أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس عدد من تقبل شهادته على الزنا; لأن ذلك إذا كان كذلك، فلا خلاف بين الجمع أنه قد أدّى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك، وهم فيما دون ذلك مختلفون.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في بعض من استأذن رسول الله ﷺ في نكاح نسوة كنّ معروفات بالزنا من أهل الشرك، وكن أصحاب رايات، يكرين أنفسهنّ، فأنزل الله تحريمهن على المؤمنين، فقال: الزاني من المؤمنين لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، لأنهن كذلك; والزانية من أولئك البغايا لا ينكحها إلا زان من المؤمنين أو المشركين أو مشرك مثلها، لأنهن كن مشركات.
(وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فحرم الله نكاحهن في قول أهل هذه المقالة بهذه الآية.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثني الحضرمي، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين استأذن نبي الله في امرأة يقال لها أم مهزول، كانت تسافح الرجل وتشترط له أن تنفق عليه، وأنه استأذن فيها نبي الله ﷺ وذكر له أمرها، قال: فقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم: (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أو قال: فأنزلت (الزَّانِيَةُ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثني هشيم، عن التيمي، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمرو في قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) قال: كنّ نساء معلومات، قال: فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك.
قال: أخبرنا سليمان التيمي، عن سعيد بن المسيب، قال: كنّ نساء موارد بالمدينة.
حدثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي، قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية: (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) قال: نزلت في نساء موارد كنّ بالمدينة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: ثنا معتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن سعيد، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، قال: سمعت مجاهدا يقول في هذه الآية: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) قال: كن بغايا في الجاهلية.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن عبد الملك، عمن أخبره، عن مجاهد، نحوا من حديث ابن المثنى، إلا أنه قال: كانت امرأة منهنّ يقال لها: أمّ مهزول; يعني في قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) قال: فكنّ نساء معلومات، قال: فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج المرأة منهن لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك. هذا في حديث التيمي.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً) قال: رجال كانوا يريدون الزنا بنساء زوانٍ بغايا متعالمات، كنّ في الجاهلية، فقيل لهم هذا حرام، فأرادوا نكاحهن، فحرّم الله عليهم نكاحهن.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: بغايا معلنات، كنّ كذلك في الجاهلية.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه وإسماعيل بن
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: نساء بغايا متعالمات، حرّم الله نكاحهن، لا ينكحهنّ إلا زان من المؤمنين، أو مشرك من المشركين.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قال: كانت بيوت تسمى المَواخير في الجاهلية، وكانوا يؤاجرون فيها فتياتهن، وكانت بيوتا معلومة للزنا، لا يدخل عليهنّ ولا يأتيهنّ إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان، فحرّم الله ذلك على المؤمنين.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، في قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) قال: بغايا متعالمات كن في الجاهلية، بغيّ آل فلان وبغيّ آل فلان، فأنزل الله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فحكم الله بذلك من أمر الجاهلية على الإسلام. فقال له سليمان بن موسى: أبلغك ذلك عن ابن عباس؟ فقال: نعم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في ذلك: كن بغايا متعالمات، بغيّ آل فلان وبغيّ آل فلان، وكنّ زواني مشركات، فقال: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قال: أحكم الله من أمر الجاهلية بهذا. قيل له: أبلغك هذا عن ابن عباس؟ قال: نعم.
قال ابن جريج: وقال عكرمة: إنه كان يسمِّي تسعا بعد صواحب الرايات، وكنّ أكثر من ذلك، ولكن هؤلاء أصحاب الرايات: أمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وأم عُلِيط جارية صفوان بن أمية، وحنة القبطية جارية العاصي بن وائل، ومَرِية جارية مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار، وحلالة جارية سهيل بن عمرو، وأمّ سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي، وسريفة جارية زمعة بن الأسود، وفرسة
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وقال الزهري وقتادة، قالوا: كان في الجاهلية بغايا معلوم ذلك منهنّ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهنّ، فأنزل الله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)... الآية.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وقاله الزهريّ وقَتادة، قالوا: كانوا في الجاهلية بغايا، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن القاسم بن أبي بَزّة: كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهنّ على تلك الجهة، فنهوا عن ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، قال: قال القاسم بن أبي بزّة، فذكر نحوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا سليمان التيميّ، عن سعيد بن المسيب، قال: كنّ نساء مَواردَ بالمدينة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جُبير: أن نساء في الجاهلية كنّ يؤاجرن أنفسهنّ، وكان الرجل إنما ينكح إحداهنّ يريد أن يصيب منها عَرَضا، فنهوا عن ذلك، ونزل: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ومنهنّ امرأة يقال لها: أمّ مهزول.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن الشعبيّ، في قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) قال: كنّ نساء يكْرِين أنفسهن في الجاهلية.
وقال آخرون: معنى ذلك: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك. قالوا: ومعنى النكاح في هذا الموضع: الجماع.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس،
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن يَعْلَى بن مسلم، عن سعيد بن جُبير أنه قال في هذه الآية: (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) قال: لا يزني الزاني إلا بزانية مثله أو مشركة.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن شُبْرُمة، عن سعيد بن جُبير وعكرمة في قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) قالا هو الوطء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد، عن معمر، قال: قال سعيد بن جُبير ومجاهد: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) قالا هو الوطء.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم وشعبة، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) قالا لا يزني الزاني حين يزني إلا بزانية مثله أو مشركة، ولا تزني مشركة إلا بمثلها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) قال: هؤلاء بغايا كنّ في الجاهلية، والنكاح في كتاب الله الإصابة، لا يصيبها إلا زان أو مشرك، لا يحرم الزنا، ولا تصيب هي إلا مثلها.
قال: وكان ابن عباس يقول: بغايا كنّ في الجاهلية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير، قال: إذا زنى بها فهو زان.
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) قال: الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله أو مشركة، قال: والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة. ثم قال: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
وقال آخرون: كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية، حتى نسخه بقوله: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ)، فأحل نكاح كلّ مسلمة وإنكاح كل مسلم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، في قوله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قال: يرون الآية التي بعدها نسختها: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) قال: فهن من أيامى المسلمين.
حدثنا القاسم، قال ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) قال: نسختها التي بعدها: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) وقال: إنهن من أيامى المسلمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: وذكر عن يحيى، عن ابن المسيب، قال: نسختها: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ).
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: نسختها قوله: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى).
حدثني يونس، قال: أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيى، قال: ذكر عند سعيد بن المسيب: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) قال: فسمعته يقول: إنها قد نسختها التي بعدها، ثم قرأها سعيد، قال: يقول الله: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ثم يقول الله: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) فهنّ من أيامى المسلمين.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عنى بالنكاح في هذا الموضع الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات; وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك، أنه لم يُعْن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، ولا ينكح إلا بزانية أو مشركة، وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحلّ الزنا أو بمشركة تستحله.
وقوله: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يقول: وحرّم الزنا على المؤمنين بالله ورسوله، وذلك هو النكاح الذي قال جلّ ثناؤه: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً)
يقول تعالى ذكره: والذين يَشْتمون العفائف من حرائر المسلمين، فيرمونهنّ بالزنا، ثم لم يأتوا على ما رمَوْهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون، عليهنّ أنهنّ رأوهن يفعلن ذلك، فاجلدوا الذين رموهن بذلك ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الذين خالفوا أمر الله وخرجوا من طاعته ففسقوا عنها.
وذُكر أن هذه الآية إنما نزلت في الذين رموا عائشة، زوج النبيّ ﷺ بما رموها به من الإفك.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب وإبراهيم بن سعيد، قالا ثنا ابن فضيل، عن خصيف، قال: قلت لسعيد بن جُبير: الزنا أشدّ، أو قذف المحصنة؟ قال: لا بل الزنا. قلت: إن الله يقول: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) قال: إنما هذا في حديث عائشة خاصة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)... الآية في نساء المسلمين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) قال: الكاذبون.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) ﴾
اختلف أهل التأويل في الذي استثني منه قوله: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) فقال بعضهم: استثني من قوله: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وقالوا: إذا تاب القاذف قُبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق، حُدّ فيه أو لم يحدّ.
حدثنا أحمد بن حماد الدّولابي، قال: ثني سفيان، عن الزهري، عن سعيد إن شاء الله، أن عمر قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك، أو رَدَّيْت شهادتك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب ضرب أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كَلَدة حَدّهم. وقال لهم: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب شبل نفسه ونافع، وأبَى أبو بكرة أن يفعل. قال الزهريّ: هو والله سنة، فاحفظوه.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زُرَيع، قال: ثنا داود، عن الشعبيّ، قال: إذا تاب، يعني: القاذف، ولم يعلم منه إلا خير، جازت شهادته.
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا داود، عن الشعبي، قال: على الإمام أن يستتيب القاذف بعد الجَلْد، فإن تاب وأونس منه خير جازت شهادته، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا داود، عن عامر، أنه قال في القاذف: إذا تاب وعلم منه خير، إن شهادته جائزة، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته، وتوبته إكذابه نفسه.
قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن الشعبيّ، نحوه.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، قال في القاذف: إذا تاب وأكذب نفسه، قُبلت شهادته، وإلا كان خليعا لا شهادة له; لأن الله يقول: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)... إلى آخر الآية.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبيّ أنه كان يقول في شهادة القاذف: إذا رجع عن قوله حين يُضرب، أو أكذب نفسه، قُبلت شهادته.
قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أنه كان يقول: يقبل الله توبته، وتردّون شهادته؛ وكان يقبل شهادته إذا تاب.
قال: أخبرنا إسماعيل عن الشعبيّ أنه كان يقول في القاذف: إذا شهد قبل أن يُضرب
قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيدة، عن إبراهيم وإسماعيل بن سالم، عن الشعبي، أنهما قالا في القاذف: إذا شهد قبل أن يُجلد فشهادته جائزة.
حدثني يعقوب، قال: قال أبو بشر، يعني ابن عُلَية، سمعت ابن أبي نجيح يقول: القاذف إذا تاب تجوز شهادته، وقال: كنا نقوله. فقيل له: من؟ قال: قال عطاء وطاووس ومجاهد.
حدثنا ابن بشار، وابن المثنى، قالا ثنا محمد بن خالد بن عثمة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قَتادة، عن عمر بن طلحة، عن عبد الله، قال: إذا تاب القاذف جلد، وجازت شهادته. قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبي عَثْمة.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا ابن أبي عَثْمة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قَتَادة، عن سليمان بن يسار والشعبي قالا إذا تاب القاذف عند الجلد جازت شهادته.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة أن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة جلد رجلا في قذف، فقال: أكذب نفسك حتى تجوز شهادتك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، قال: سمعت إبراهيم والشعبيّ يتذاكران شهادة القاذف، فقال الشعبيّ لإبراهيم: لم لا تقبل شهادته؟ فقال: لأني لا أدري تاب أم لا.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن مجالد، عن الشعبيّ، عن مسروق، قال: تُقبل شهادته إذا تاب.
قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن يعقوب بن القعقاع، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن جبير، مثله.
قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن جُرَيج، عن عمران بن موسى، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: قال الشعبيّ: إذا تاب جازت شهادته، قال ابن المثنى. قال: عندي، يعني في القذف.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا مسعر، عن عمران بن عمير: أن عبد الله بن عتبة كان يجيز شهادة القاذف إذا تاب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة، عن ابن المسيب، قال: تقبل شهادة القاذف إذا تاب.
حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن المسيب، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد، عن معمر، قال: قال الزُّهريّ: إذا حدّ القاذف، فإنه ينبغي للإمام أن يستتيبه، فإن تاب قبلت شهادته، وإلا لم تقبل، قال: كذلك فعل عمر بن الخطاب بالذين شهدوا على المغيرة بن شعبة، فتابوا إلا أبا بكرة، فكان لا تقبل شهادته.
وقال آخرون: الاستثناء في ذلك من قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
وأما قوله: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبدا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا أشعث بن سوّار، قال: ثني الشعبي، قال: كان شريح يجيز شهادة صاحب كلّ عمل إذا تاب إلا القاذف، فإن توبته فيما بينه وبين ربه، ولا نجيز شهادته.
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا أشعث بن سوار، قال: ثنا الشعبيّ، عن شريح بنحوه، غير أنه قال: صاحب كلّ حدّ إذا كان عدلا يوم شهد.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية عن الأعمش. عن إبراهيم، عن شريح، قال: كان لا يجيز شهادة القاذف، ويقول: توبته فيما بينه وبين ربه.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، عن مُطَرّف، عن أبي عثمان، عن شريح في القاذف: يقبل الله توبته، ولا أقبل شهادته.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعث، عن الشعبيّ، قال: أتاه خصمان، فجاء أحدهما بشاهد أقطع، فقال الخصم: ألا ترى ما به؟ قال: قد أراه. قال: فسأل القوم، فأثنوا عليه خيرا، فقال شريح: نجيز شهادة كل صاحب حدّ، إذا كان يوم شهد عدلا إلا القاذف، فإن توبته فيما بينه وبين ربه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا الشيبانيّ، عن الشعبيّ، عن شريح أنه كان يقول: لا تُقبل له شهادة أبدا، توبته فيما بينه وبين ربه، يعني القاذف.
قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا الأشعث، عن الشعبيّ، بأن ربابا قطع رجلا في قطع الطريق، قال: فقطع يده ورجله. قال: ثم تاب وأصلح، فشهد عند شريح، فأجاز شهادته، قال: فقال المشهود عليه: أتجيز شهادته عليّ وهو أقطع؟ قال: فقال شريح: كل صاحب حدّ إذا أقيم عليه ثم تاب وأصلح؛ فشهادته جائزة إلا القاذف.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني المغيرة: ، قال: سمعت إبراهيم يحدّث عن شريح، قال: قضاء من الله لا تقبل شهادته أبدا، توبته فيما بينه وبين ربه، قال أبو موسى: يعني القاذف.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: قال شريح: لا يقبل الله شهادته أبدا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد، عن قَتادة، عن سعيد ابن المسيب، قال: لا تجوز شهادة القاذف، توبته فيما بينه وبين الله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قَتَادة، عن الحسن، أنه قال: القاذف توبته فيما بينه وبين الله، وشهادته لا تُقبل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: لا تجوز شهادة القاذف، توبته فيما بينه وبين الله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، عن الحسن، أنه قال: القاذف توبته فيما بينه وبين الله، وشهادته لا تُقبل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه قال في الرجل يجلد الحدّ، قال: لا تجوز شهادته أبدا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان لا يقبل
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ ﷺ قال: "لا تجُوزُ شَهادَةُ مَحْدُودٍ فِي الإسْلامِ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) قال: كان يقول: لا تقبل شهادة القاذف أبدا، إنما توبته فيما بينه وبين الله. وكان شريح يقول: لا تقبل شهادته.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) ثم قال: فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الاستثناء من المعنيين جميعا، أعني من قوله: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) ومن قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن ذلك كذلك، إذا لم يحدّ في القذف حتى تاب، إما بأن يرفع إلى السلطان بعفو المقذوفة عنه، وإما بأن ماتت قبل المطالبة بحدّها، ولم يكن لها طالب يطلب بحدّها، فإذ كان ذلك كذلك وحدثت منه توبة صحت له بها العدالة.
فإذ كان من الجميع إجماعا، ولم يكن الله تعالى ذكره شرط في كتابه أن لا تقبل شهادته أبدا بعد الحدّ في رميه، بل نهى عن قبول شهادته في الحال التي أوجب عليه فيها الحدّ، وسماه فيها فاسقا، كان معلوما بذلك أنّ إقامة الحدّ عليه في رميه، لا تحدث في شهادته مع التوبة من ذنبه، ما لم يكن حادثا فيها قبل إقامته عليه، بل توبته بعد إقامة الحدّ عليه من ذنبه أحرى أن تكون شهادته معها أجوز منها قبل إقامته عليه; لأن الحدّ يزيد المحدود عليه تطهيرًا من جرمه الذي استحقّ عليه الحدّ.
فإن قال قائل: فهل يجوز أن يكون الاستثناء من قوله: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) فتكون التوبة مسقطة عنه الحد، كما كانت لشهادته عندك قبل الحد وبعده مجيزة، ولاسم الفسق عنه مزيلة؟ قيل: ذلك غير جائز عندنا، وذلك أن الحدّ حقّ عندنا للمقذوفة، كالقصاص الذي يجب لها من جناية يجنيها عليها مما فيه القصاص، ولا خلاف بين الجميع أن توبته من ذلك لا تضع عنه الواجب لها من القصاص منه، فكذلك توبته من القذف لا تضع عنه الواجب لها من الحدّ، لأن ذلك حقّ لها، إن شاءت عفته،
واختلف أهل العلم في صفة توبة القاذف التي تقبل معها شهادته، فقال بعضهم: هو إكذابه نفسه فيه. وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى قبل، ونحن نذكر بعض ما حضرنا ذكره مما لم نذكره قبل.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن ليث، عن طاووس، قال: توبة القاذف أن يكذّب نفسه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، قال: رأيت رجلا ضُرب حدّا في قذف بالمدينة، فلما فُرغ من ضربه تناول ثوبه، ثم قال: أستغفر الله وأتوب إليه من قذف المحصنات، قال: فلقيت أبا الزناد، فذكرت ذلك له، قال: فقال: إن الأمر عندنا هاهنا أنه إذا قال ذلك حين يفرغ من ضربه، ولم نعلم منه إلا خيرا قُبلت شهادته.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا)... الآية، قال: من اعترف وأقرّ على نفسه علانية أنه قال البهتان، وتاب إلى الله توبة نصوحا، والنصوح: أن لا يعودوا، وإقراره واعترافه عند الحدّ حين يؤخذ بالجلد، فقد تاب، والله غفور رحيم.
وقال آخرون: توبته من ذلك صلاح حاله، وندمه على ما فرط منه من ذلك، والاستغفار منه، وتركه العود في مثل ذلك من الجرم، وذلك قول جماعة من التابعين وغيرهم، وقد ذكرنا بعض قائليه فيما مضى، وهو قول مالك بن أنس.
وهذا القول أولى القولين في ذلك بالصواب؛ لأن الله تعالى ذكره جعل توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه العود منه، والندم على ما سلف منه، واستغفار ربه منه، فيما كان من ذنب بين العبد وبينه، دون ما كان من حقوق عباده ومظالمهم بينهم، والقاذف إذا أُقيم عليه فيه الحدّ، أو عُفي عنه، فلم يبق عليه إلا توبته من جرمه بينه وبين ربه،
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) من الرجال (أَزْوَاجِهِمْ) بالفاحشة، فيقذفونهنّ بالزنا، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ) يشهدون لهم بصحة ما رموهنّ به من الفاحشة، (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: "أرْبَعَ شَهاداتٍ" نصبا، ولنصبهم ذلك وجهان: أحدهما: أن تكون الشهادة في قوله: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) مرفوعة بمضمر قبلها، وتكون "الأربع" منصوبا بمعنى الشهادة، فيكون تأويل الكلام حينئذ: فعلى أحدهم أن يشهد أربعَ شهادات بالله. والوجه الثاني: أن تكون الشهادة مرفوعة بقوله: (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) و"الأربع" منصوبة بوقوع الشهادة عليها، كما يقال: شهادتي ألف مرة إنك لرجل سَوْء، وذلك أن العرب ترفع الأيمان بأجوبتها، فتقول: حلف صادق لأقومنّ، وشهادة عمرو ليقعدنّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ) برفع "الأربع"، ويجعلونها للشهادة مرافعة، وكأنهم وجهوا تأويل الكلام: فالذي يلزم من الشهادة، أربعُ شهادات بالله إنه لمن الصادقين.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ: "فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين" بنصب أربع، بوقوع "الشهادة" عليها، و "الشهادة" مرفوعة حينئذ على ما وصفت من الوجهين قبل. وأحبّ وجهيهما إليّ أن تكون به مرفوعة بالجواب، وذلك قوله: (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وذلك أن معنى الكلام: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن
ويعني بقوله: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) : فحلف أحدهم أربع أيمان بالله، من قول القائل: أشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى زوجته به من الفاحشة. (وَالْخَامِسَةُ) يقول: والشهادة الخامسة، (أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ) يقول: إن لعنة الله له واجبة وعليه حالَّة، إن كان فيما رماها به من الفاحشة من الكاذبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت به جماعة من أهل التأويل.
ذكر الرواية بذلك، وذكر السبب الذي فيه أنزلت هذه الآية:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلية، قال: ثنا أيوب، عن عكرمة، قال: لما نزلت (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) قال سعد بن عبادة: الله إن أنا رأيت لَكَاعِ متفخذَها رجل فقلت بما رأيت إن في ظهري لثمانين إلى ما أجمع أربعة قد ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مَعْشَرَ الأنْصَار، ألا تَسْمَعونَ إلى ما يَقولُ سَيِّدُكُمْ؟ ". قالوا: يا رسول الله لا تَلُمْه، وذكروا من غيرته، فما تزوّج امرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة قطّ فرجع فيها أحد منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإنَّ الله يَأبَى إلا ذَاكَ" فقال: صدق الله ورسوله. قال: فلم يلبثوا أن جاء ابن عمّ له فرمى امرأته، فشق ذلك على المسلمين، فقال: لا والله، لا يجعل في ظهري ثمانين أبدا، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت، قال: فأنزل الله القرآن باللعان، فقيل له: احلف! فحلف، قال: قفوه عند الخامسة، فإنها موجبة، فقال: لا يدخله الله النار بهذا أبدا، كما درأ عنه جلد ثمانين، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت فحلف، ثم قيل: احلفي، فحلفت، ثم قال: قفوها عند الخامسة، فإنها مُوجِبة، فقيل لها: إنها مُوجبة، فتلكأت ساعة، ثم قالت: لا أُخْزي قومي، فحلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجها، وإنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ للَّذِي قِيلَ فِيهِ ما قِيلَ، قال: فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق، فكان بعد أميرا بمصر لا يُعرف نسبه، أو لا يُدْرَى من أبوه".
حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا أبو أحمد الحسين بن محمد، قال: ثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: " لما قذف هلال بن أميَّة امرأته، قيل له: والله ليجلدنك رسول الله ﷺ ثمانين جلدة، قال: الله أعدل من ذلك أن يضربني ضربة وقد علم أني قد رأيت حتى استيقنت، وسمعت حتى استثبتُّ، لا والله لا يضربني أبدا، فنزلت آية الملاعنة، فدعا بهما رسول الله ﷺ حين نزلت الآية، فقال: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فقال هلال: والله إني لصادق. فقال له: "احلف بالله الذي لا إله إلا هو: إني لصادق" يقول ذلك أربعَ مرّات فإن كنتُ كاذبا فعليّ لعنة الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قِفُوه عِنْدَ الخامِسَة، فإنَّها مُوجِبه"، فحلف، ثم قالت أربعا: والله الذي لا اله إلا هو إنه لمن الكاذبين، فإن كان صادقا فعليها غضب الله، وقال رسول الله ﷺ "قِفُوها عِنْدَ الخامِسَة، فإنَّها مُوجِبة"، فتردّدت وهمَّت بالاعتراف، ثم قالت: لا أفضح قومي.
حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي، قالا ثنا عَبْدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنا ليلة الجمعة في المسجد، فدخل رجل فقال: لو أن رجلا وجَد مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية اللعان، ثم جاء الرجل بعد، فقذف امرأته، فلاعن
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جُبير قال: سألت ابن عمر، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أيفرق بين المتلاعنين؟ فقال: نعم، سبحان الله، إن أوّل من سأل عن ذلك فلان، أتى النبيّ ﷺ فسأله، فقال: أرأيت لو أن أحدنا رأى صاحبته على فاحشة، كيف يصنع؟ فلم يجبه في ذلك شيئا، قال: فأتاه بعد ذلك فقال: إن الذي سألت عنه قد ابتليتُ به، فأنزل الله هذه الآية في سورة النور، فدعا الرجل فوعظه وذكَّره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: والذي بعثك بالحق، لقد رأيت وما كذبتُ عليها، قال: ودعا المرأة فوعظها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، وما رأى شيئا؛ قال: فبدأ الرجل، فشهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين; ثم إن المرأة شهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غَضَبَ الله عليها إن كان من الصادقين وفرق بينهما.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عامر، قال: لما أنزل: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) قال عاصم بن عديّ: إن أنا رأيت فتكلمت جلدت ثمانين، وإن أنا سكت سكت على الغيظ، قال: فكأن ذلك شقّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأنزلت هذه الآية: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ) قال: فما لبثوا إلا جمعة، حتى كان بين رجل من قومه وبين امرأته، فلاعن رسول الله ﷺ بينهما.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ)... الآية، والخامسة: أن يقال له: إن عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين. وإن أقرّت المرأة بقوله رُجمت، وإن أنكرت شهدت أربع شهادات بالله: إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن يقال لها: غضب الله عليك إن كان من الصادقين، فيدرأ عنها العذاب، ويفرق بينهما، فلا يجتمعان أبدا، ويُلحق الولد بأمه.
قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني الزهريّ عن الملاعنة والسنة فيها، عن حديث سهل بن سعد أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر من أمر المتلاعنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قَضَى اللهُ فيكَ وفِي امرْأتِكَ، فتلاعنا وأنا شاهد" ثم فارقها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت السنة بعدها أن يفرّق بين المتلاعنين، وكانت حاملة، فأنكره، فكان ابنها يُدعى إلى أمه، ثم جرت السنة أن ابنها يَرثها، وترث ما فرض الله لها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ)... إلى قوله: (إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) قال: إذا شهد الرجل خمس شهادات، فقد برئ كل واحد من الآخر، وعِدَّتُها إن كانت حاملا أن تضع حملها، ولا يجْلد واحد منهما، وإن لم تحلف أقيم عليها الحدّ والرجْم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) ﴾
يعني جلّ ذكره بقوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) : ويدفع عنها الحدّ.
واختلف أهل العلم في العذاب الذي عناه الله في هذا الموضع أنه يدرؤه عنها شهاداتها الأربع، فقال بعضهم: بنحو الذي قلنا في ذلك، من أن الحدّ جلد مئة إن كانت بكرا، أو الرجم إن كانت ثيبا قد أحصنت.
وقال آخرون: بل ذلك الحبس، وقالوا: الذي يجب عليها إن هي لم تشهد الشهادات الأربع بعد شهادات الزوج الأربع، والتعانه: الحبس دون الحدّ.
وإنما قلنا: الواجب عليها إذا هي امتنعت من الالتعان بعد التعان الزوج الحدّ الذي
وقوله: (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) يقول: ويدفع عنها العذاب أن تحلف بالله أربع أيمان: أن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة، لمن الكاذبين فيما رماها من الزنا، وقوله: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا)... الآية، يقول: والشهادة الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان زوجها فيما رماها به من الزنا من الصادقين. ورفع قوله: (وَالْخَامِسَةُ) في كلتا الآيتين، بأن التي تليها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم، وأنه عَوّاد على خلقه بلطفه وطوله، حكيم في تدبيره إياهم، وسياسته لهم، لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم وفضح أهل الذنوب منكم بذنوبهم، ولكنه ستر عليكم ذنوبكم وترك فضيحتكم بها عاجلا رحمة منه بكم، وتفضلا عليكم، فاشكروا نعمه وانتهوا عن التقدّم عما عنه نهاكم من معاصيه، وترك الجواب في ذلك، اكتفاء بمعرفة السامع المراد منه.
يقول تعالى ذكره: إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) يقول: جماعة منكم أيها الناس. (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) يقول: لا تظنوا ما جاءوا به من الإفك شرّا لكم عند الله وعند الناس، بل ذلك خير لكم عنده وعند
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، قوله: (جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) هم أصحاب عائشة، قال ابن جريج: قال ابن عباس: قوله: (جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)... الآية، الذين افتروا على عائشة: عبد الله بن أُبيّ، وهو الذي تولى كبره، وحسان بن ثابت، ومسطح، وحمنة بنت جحش.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الذين قالوا لعائشة الإفك والبهتان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) قال: الشرّ لكم بالإفك الذي قالوا، الذي تكلَّموا به، كان شرّا لهم، وكان فيهم من لم يقله، إنما سمعه، فعاتبهم الله، فقال أول شيء: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ثم قال: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقوله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ) يقول: لكل امرئ من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما اجترم من الإثم، بمجيئه بما جاء به، من الأولى عبد الله.
وقوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) يقول: والذي تحمل معظم ذلك الإثم والإفك منهم هو الذي بدأ بالخوض فيه.
كما حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) يقول: الذي بدأ بذلك.
قال أبو جعفر: له من الله عذاب عظيم يوم القيامة.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (كِبْرهُ) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار: (كِبْرَهُ) بكسر الكاف، سوى حميد الأعرج، فإنه كان يقرؤه "كُبْرهُ" بمعنى: والذي تحمل أكبره.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب: القراءة التي عليها عوامّ القرّاء، وهي كسر الكاف، لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وأن الكبر بالكسر: مصدر الكبير من الأمور، وأن الكبر بضم الكاف إنما هو من الولاء والنسب من قولهم: هو كُبر قومه، والكبر في هذا الموضع: هو ما وصفناه من معظم الإثم والإفك. فإذا كان ذلك كذلك، فالكسر في كافه هو الكلام الفصيح دون ضمها، وإن كان لضمها وجه مفهوم.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) الآية، فقال بعضهم: هو حسان بن ثابت.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن قزعة، قال: ثنا مسلمة بن علقمة، قال: ثنا داود، عن عامر، أن عائشة قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ... وَعِنْدَ الله في ذاكَ الجَزَاءُ... فإنَّ أبي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي... لِعِرْضِ مُحمّدٍ مِنْكُمْ وقاءُ... أتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بكُفءٍ... فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ... لسانِي صَارمٌ لا عَيْبَ فِيه... وبَحْري لا تُكَدّرهُ الدّلاءُ (١)
= (وانظر القصيدة في سيرة ابن هشام طبعة الحلبي ج ٤: ٦٤ - ٦٦) وقد استشهد بها المؤلف على أن حسان كان ممن خاض في حديث الإفك الذي رميت به أم المؤمنين عائشة المبرأة، رضي الله عنها
قال: ثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: كنت عند عائشة، فدخل حسان بن ثابت، فأمرت، فألقي له وسادة; فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا، وقد قال الله ما قال؟ فقالت: قال الله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وقد ذهب بصره، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم: ذهاب بصره.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة، فشبَّب بأبيات له، فقال:
وتصبح غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِل (٢)
فقالت عائشة: أما إنك لست كذلك، فقلت: تدعين هذا الرجل يدخل عليك، وقد أنزل الله فيه: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) الآية؟ فقالت: وأيّ عذاب أشدّ من العمى، وقالت: إنه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن عثمان الواسطي، قال: ثنا جعفر بن عون، عن المُعَلَّى بن عرفان، عن محمد بن عبد الله بن جحش، قال: تفاخرت عائشة وزينب، قال:
(٢) هذا عجز بيت لحسان بن ثابت، من أبيات له في مدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه بعد أن نزلت براءتها في سورة النور، من الإفك الذي خاض فيه بعض الصحابة، وكان حسان من أشدهم خوضًا فيه، حتى إذا حصحص الحق، وظهرت براءة أم المؤمنين ندم حسان واعتذر، وقال يمدحها في أبيات له. وصدر البيت * حصان رزان ما تزن بريبة *
والحصان: العفيفة والرزان: الرزينة الثابتة التي لا يستخفها الطيش. وتزن ترمي وتتهم. والريبة: التهمة والشك. وغرثى: جائعة، يريد لا تغتاب النساء، والغوافل: جمع غافلة، وهي التي غفل قلبها عن الشر (وانظر سيرة ابن هشام طبعة الحلبي ٣: ٣١٩، ٣٢٠)
وقال آخرون: هو عبد الله بن أُبَي ابن سلول.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان الذين تكلموا فيه: المنافق عبد الله بن أُبي ابن سلول، وكان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره، ومسطح، وحسان بن ثابت.
حدثنا سفيان، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن علقمة بن وقاص وغيره أيضا، قالوا: قالت عائشة: كان الذي تولى كبره: الذي يجمعهم في بيته، عبد الله بن أُبي ابن سلول.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن شهاب، قال: ثني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة، قالت: كان الذي تولى كبره: عبد الله بن أُبي.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا) الآية، الذين افتروا على عائشة: عبد الله بن أُبي، وهو الذي تولى كبره، وحسان، ومسطح، وحمنة بنت جحش.
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبان العطار، قال: ثنا هشام بن عروة في الذين جاءوا بالإفك، يزعمون أنه كان كِبْرُ ذلك عبد الله بن أُبي ابن سلول، أحد بني عوف بن الخزرج، وأخبرت أنه كان يحدّث به عنهم، فيقرّه ويسمعه ويستوشيه.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أما الذي تولى كبره منهم، فعبد الله بن أُبي ابن سلول الخبيث، هو الذي ابتدأ هذا الكلام، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقود بها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث،
وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: الذي تولى كبره من عصبة الإفك، كان عبد الله بن أُبي، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير، أن الذي بدأ بذكر الإفك، وكان يجمع أهله ويحدثهم، عبد الله بن أُبي ابن سلول، وفعله ذلك على ما وصفت كان توليه كبر ذلك الأمر.
وكان سبب مجيء أهل الإفك، ما حدَّثنا به ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، ثني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبيّ ﷺ حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله، وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت اقتصاصا، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدّق بعضا:
زعموا أن عائشة زوج النبيّ ﷺ قالت: كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزاة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من غزوه وقفل إلى المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جَزْع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يُهَبِّلْهُن ولم يَغْشَهن اللحم، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني ويرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني،
فدعا رسول الله ﷺ عليّ بن أبي طالب، وأُسامة بن زيد، حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله قالت: فأما أُسامة، فأشار على رسول الله ﷺ بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود فقال: يا رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما عليّ فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، يعني: بريرة، فدعا رسول الله ﷺ بَرِيرة، فقال: "هَلْ رأيْت منْ شَيء يَرِيبُكِ مِنْ عائِشَةَ؟ " قالت له بريرة: والذي بعثك بالحقّ، ما رأيت عليها أمرا قطّ أغمصه عليها، أكثر من أنها حديثة السنّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام النبيّ ﷺ خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "مَنْ يَعْذُرُني مِمَّنْ قَدْ بَلَغني أذَاهُ في أهْلِي؟ " يعني عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، وقال رسول الله ﷺ وهو على المنبر أيضا: "يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَني أذَاهُ فِي أهْلِي؟ فَوَاللهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي إلا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا ما عَلِمْتُ عَلَيْه إلا خَيْرًا، وما كانَ يَدْخُل على أهْلِي إلا مَعي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك؛ فقام سعد بن عبادة، فقال، وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال: أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمة سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله
(٢) هذه رواية مسلم. وفي صحيح البخاري (٥: ١٥٠) : قالت: أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن... إلخ
قالت عائشة: وكان رسول الله ﷺ يسأل زينب بنت جحش عن أمري، وما رأت، وما سمعت، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب، فهلكت فيمن هلك.
قال الزهري بن شهاب: هذا الذي انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، وعن علقمة بن وقاص الليثي، عن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير، وعن عبيد الله بن عتبة بن مسعود، قال الزهري: كلّ قد حدثني بعض هذا الحديث، وبعض القوم كان له أوعى من بعض. قال: وقد جمعت لك كل الذي قد حدثني.
وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة; قال: وثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قال: وثني عبد الله بن بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة قالت: وكل قد اجتمع في حديثه قصة خبر عائشة عن نفسها، حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا، وكله قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا، ويحدث بعضهم ما لم يحدث بعض، وكلّ كان عنها ثقة، وكلّ قد حدّث عنها ما سمع.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزاة بني المصطلق، أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهنّ، فخرج بي رسول الله ﷺ معه، قالت: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق، لم يهيجهن اللحم فيثقلن؛
ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به، قام رسول الله ﷺ خطيبا وما علمت فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: " أمَّا بَعْدُ أشِيرُوا عَلَيَّ في أُناسٍ أبَنُوا أهْلِي، واللهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي سُوءًا قَطُّ، وأبَنوهُم بمَنْ واللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ سُوءًا قَطُّ، ولا دَخَلَ بَيْتِي قَطُّ إلا وأنا حاضِرٌ، ولا أغِيبُ في سَفَرٍ إلا غَابَ مَعِي" فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، نرى أن نضرب أعناقهم، فقام رجل من الخزرج، وكانت أمّ حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل، فقال: كذبت، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج في المسجد شر، وما علمت به، فلما كان مساء ذلك اليوم، خرجت لبعض حاجتي ومعي أمّ مسطح، فعثرت، فقالت: تعس مسطح، فقلت علام تسبين ابنك فسكتت، ثم عثرت الثانية، فقالت: تعس مسطح، قلت: علام تسبين ابنك؟ فسكتت، ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح فانتهرتها وقلت: علام تسبين ابنك؟ قالت: والله ما أسبه إلا فيك، قلت: في أيّ شأني، فبقرت (١) لي الحديث، فقلت: وقد كان هذا؟ قالت: نعم والله، قالت: فرجعت إلى بيتي فكأن الذي خرجتُ له لم أخرج له، ولا أجد منه قليلا ولا كثيرا، ووعكت، فقلت: يا رسول الله، أرسلني إلى بيت أبي، فأرسل معي الغلام، فدخلت الدار فإذا أنا بأمي أمّ رومان، قالت: ما جاء بك يا بُنية؟ فأخبرتها، فقالت: خفِّضي عليك الشأن،
فرجعت، فأصبح أبواي عندي، فلم يزالا عندي حتى دخل رسول الله ﷺ عليّ بعد العصر، وقد اكتنفني أبواي، عن يميني، وعن شمالي، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: " أمَّا بَعْدُ يا عائِشَةُ، إن كُنْتِ قَارفتِ سُوءًا أوْ ألمَمْتِ فَتُوبِي إلى الله، فإنَّ الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه" وقد جاءت امرأة من الأنصار وهي جالسة، فقلت: ألا تستحي من هذه المرأة أن تقول شيئا؟ فقلت لأبي: أجبه، فقال: أقول ماذا؟ قلت لأمي: أجيبيه، فقالت: أقول ماذا؟ فلما لم يجيباه تشهدت، فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله، ثم قلت: أما بعد، فوالله لئن قلت لكم إني لم أفعل، والله يعلم إني لصادقة ماذا بنافعي عندكم، لقد تكلم به وأشربته قلوبكم، وإن قلت إني قد فعلت، والله يعلم أني لم أفعل، لتقولنّ قد باءت به على نفسها، وأيم الله، ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) وأنزل الله على رسوله ساعتئذ، فرفع عنه، وإني لأتبين السرور في وجهه، وهو يمسح جبينه يقول: " أبْشِرِي يا عائِشَةُ، فَقَدْ أنزلَ اللهُ بَرَاءَتَكِ" فكنت أشدّ ما كنت غضبا، فقال لي أبواي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمده ولا أحمدكما، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه، ولكني أحمد الله الذي أنزل براءتي. ولقد جاء رسول الله بيتي، فسأل الجارية عني، فقالت: والله ما أعلم عليها عيبا، إلا أنها كانت تنام حتى كانت تدخل الشاة فتأكل حصيرها أو عجينها، فانتهرها بعض أصحابه، وقال لها: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة: فعتب على من قاله، فقال: لا والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، وبلغ ذلك الرجل الذي قيل له، فقال: سبحان الله ما كشفت كنف أنثى قطّ، فقتل شهيدا في سبيل الله، قالت عائشة: فأما زينب بنت جحش فعصمها الله بدينها، فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة أختها، فهلكت فيمن هلك، وكان الذين تكلموا فيه: المنافق عبد الله بن أُبي ابن سلول، وكان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره،
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن علقمة بن وقاص وغيره أيضا، قال: خرجت عائشة تريد المذهب (١) ومعها أمّ مسطح، وكان مسطح بن أثاثة ممن قال ما قال، وكان رسول الله ﷺ خطب الناس قبل ذلك، فقال: " كَيْفَ تَرَوْنَ فِيمَنْ يُؤْذِيني فِي أهْلِي ويَجْمَعُ في بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِيني؟ " فقال سعد بن معاذ: أي رسول الله، إن كان منا معشر الأوس جلدنا رأسه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا فأطعناك، فقال سعد بن عبادة: يا بن معاذ، والله ما بك نصرة رسول الله، ولكنها قد كانت ضغائن في الجاهلية، وإحن لم تحلل لنا من صدوركم بعد، فقال ابن معاذ: الله أعلم ما أردت، فقام أسيد بن حضير فقال: يا بن عبادة، إن سعدا ليس شديدا، ولكنك تجادل عن المنافقين، وتدفع عنهم، وكثر اللغط في الحيين في المسجد، ورسول الله ﷺ جالس على المنبر، فما زال النبيّ ﷺ يومئ بيده إلى الناس هاهنا وهاهنا، حتى هدأ الصوت.
وقالت عائشة: كان الذي تولى كبره، والذي يجمعهم في بيته، عبد الله بن أُبي ابن سلول، قالت: فخرجت إلى المذهب ومعي أمّ مسطح، فعثرت، فقالت: تعس مسطح، فقلت: غفر الله لك، أتقولين هذا لابنك ولصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت ذلك مرّتين، وما شعرت بالذي كان، فحُدثت، فذهب عني الذي خرجت له، حتى ما أجد منه شيئا،
ورجعت على أبويّ: أبي بكر، وأمّ رومان فقلت: أما اتقيتما الله في وما وصلتما رحمي؟ قال النبيّ ﷺ الذي قال، وتحدّث الناس بالذي تحدثوا به ولم تعلماني، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أي بنية، والله لقلما أحبّ رجل قطّ امرأته إلا قالوا لها نحو الذي قالوا لك، أي بنية ارجعي إلى بيتك حتى نأتيك فيه، فرجعت وارتكبني صالب من حمى، فجاء أبواي
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) ﴾
وهذا عتاب من الله تعالى ذكره أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة بما أرجف به، يقول لهم تعالى ذكره: هلا أيها الناس إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة ظن المؤمنون منكم والمؤمنات بأنفسهم خيرا: يقول: ظننتم بمن قرف بذلك منكم خيرا، ولم تظنوا به أنه أتى الفاحشة، وقال بأنفسهم، لأن أهل الإسلام كلهم بمنزلة نفس واحدة، لأنهم أهل ملة واحدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك، قال: فلما نزل القرآن، ذكر الله من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ)... الآية: أي كما قال أبو أيوب وصاحبته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) ما هذا الخير ظنّ المؤمن أن المؤمن لم يكن ليفجر بأمه، وأن الأم لم تكن لتفجر بابنها، إن أراد أن يفجر فجر بغير أمه،
يقول: إنما كانت عائشة أما، والمؤمنون بنون لها، محرّما عليها، وقرأ: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)... الآية.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) قال لهم خيرا، ألا ترى أنه يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). يقول: بعضكم بعضا، وسلموا على أنفسكم، قال: يسلم بعضكم على بعض.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف عن الحسن، في قوله: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) يعني بذلك المؤمنين والمؤمنات.
وقوله: (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) يقول: وقال المؤمنون والمؤمنات: هذا الذي سمعناه من القوم الذي رمي به عائشة من الفاحشة كذب وإثم، يبين لمن عقل وفكر فيه أنه كذب وإثم وبهتان.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: أخبرنا عوف عن الحسن: (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) قالوا: إن هذا لا ينبغي أن يتكلم به إلا من أقام عليه أربعة من الشهود، وأقيم عليه حدّ الزنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
يقول تعالى ذكره: هلا جاء هؤلاء العصبة الذين جاءوا بالإفك، ورموا عائشة بالبهتان، بأربعة شهداء يشهدون على مقالتهم فيها وما رَمَوها به،
فإذا لم يأتوا بالشهداء الأربعة على حقيقة ما رَمَوْها به (فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) يقول: فالعُصْبة الذين رَمَوها بذلك عند الله هم الكاذبون فيما جاءوا به من الإفك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) أيها الخائضون في أمر عائشة، المُشِيعُون فيها الكذب والإثم، بتركه تعجيل عقوبتكم (وَرَحْمَتُهُ) إياكم لعفوه عنكم (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) بقبول توبتكم مما كان منكم في ذلك؛ (لَمَسَّكُمْ فِيمَا) خضتم فيه من أمرها عاجلا في الدنيا (عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) هذا للذين تكلموا فنشروا ذلك الكلام، (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: لمسَّكم فيما أفضتم فيه من شأن عائشة عذاب عظيم، حين تلَّقونه بألسنتكم، و" إذ" من صلة قوله "لمسَّكم" ويعني بقوله: (تَلَقَّوْنَهُ) تتلقون الإفك الذي جاءت به العصبة من أهل الإفك، فتقبلونه، ويرويه بعضكم عن بعض يقال: تلقيت هذا الكلام عن فلان، بمعنى أخذته منه، وقيل ذلك؛ لأن الرجل منهم فيما ذُكِرَ يَلْقى آخر، فيقول: أوَمَا بلغك كذا وكذا عن عائشة؟ ليُشيع عليها بذلك
وقد رُوي عن عائشة في ذلك، ما حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكَم، قال: ثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة زوج النبيّ ﷺ أنها كانت تقرأ هذه الآية: " إذْ تَلِقُونَهُ بِألْسِنَتكُمْ" تقول: إنما هو وَلْق الكذب، وتقول: إنما كانوا يلقون الكذب. قال ابن أبي مليكة: وهي أعلم بما فيها أنزلت، قال نافع: وسمعت بعض العرب (١) يقول: اللَّيق: الكذب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا نافع بن عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الجمحِيّ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، أنها كانت تقرأ: "إذْ تَلِقُونَهُ بألْسِنَتِكم" وهي أعلم بذلك وفيها أنزلت، قال ابن أبي مليكة: هو من وَلْق الكذب.
قال أبو جعفر: وكأن عائشة وجَّهت معنى ذلك بقراءتها "تَلِقُونَهُ" بكسر اللام وتخفيف القاف، إلى: إذ تستمرّون في كذبكم عليها، وإفككم بألسنتكم، كما يقال: ولق فلان في السير فهو يَلِق: إذا استمرّ فيه; وكما قال الراجز:
إنَّ الجُلَيْدَ زَلِقٌ وَزُمَلِقْ | جاءتْ بِهِ عَنْسٌ مِنَ الشَّأمِ تَلِقْ |
وقد رُوي عن العرب في الوَلْق: الكذب: الألْق، والإلِق: بفتح الألف وكسرها، ويقال في فعلت منه: ألقت، فأنا ألق، وقال بعضهم:
مَنْ لِيَ بالمُزَرَّرِ اليَلامِقِ | صاحِبِ أدْهانٍ وألقٍ آلِقِ (٣) |
(٢) هذه الأبيات ثلاثة من مشطور الرجز، للقلاخ بن حزن المنقري نقلها صاحب (اللسان: زلق). قال: رجل زلق وزملق مثال هديد وزمالق وزملق (بتشديد الميم)، وهو الذي ينزل قبل أن يجامع. قال القلاخ بن حزن المنقري... الأبيات: ثم قال: والجليد: هو الجليد الكلابي. التهذيب: والعرب تقول: زلق وزملق، وهو الشكاز، الذي ينزل إذا حدث المرأة من غير جماع. قال ويقال للخفيف الطياش: زمل وزملوق وزمالق وفي (اللسان: ولق). قال: وولق في سيره ولقا: أسرع. ونسب أبيات الشاهد للشماخ، ولم أجدها في ديوان الشماخ المطبوع بمصر سنة ١٣٢٧. ١ هـ.
(٣) هذان بيتان من الرجز أنشدها الأزهري عن بعضهم (اللسان: ولق). وألق الكلام: متابعته في سرعة. والألق: الاستمرار في الكذب وألق يألق ألقا مثال ضرب يضرب ضربا. واليلامق: جمع يلمق، وهو القباء (فارسي معرب)... واستشهد المؤلف بالبيتين على أن بعضهم قرأ قوله تعالى: ﴿إذ تلقونه بألسنتكم﴾ بكسر اللام، وتخفيف القاف، على أنه بمعنى الاستمرار في الكذب
وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) قال: تَرْوُونه بعضُكم عن بعض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) قال: تَرْوُونه بعضكم عن بعض.
قوله: (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) يقول تعالى ذكره: وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم من الأمر الذي تَرْوُونه، فتقولون: سمعنا أن عائشة فعلت كذا وكذا، ولا تعلمون حقيقة ذلك ولا صحته، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا) وتظنون أن قولكم ذلك وروايتكموه بألسنتكم، وتلقِّيكموه بعضكم عن بعض هين سهل، لا إثم عليكم فيه ولا حرج، (وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) يقول: وتلقِّيكم ذلك كذلك وقولُكموه بأفواهكم، عند الله عظيم من الأمر; لأنكم كنتم تؤذون به رسول الله ﷺ وحليلته.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (١٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَلَوْلا) أيها الخائضون في الإفك الذي جاءت به عصبة منكم، (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) ممن جاء به (قُلْتُمْ) ما يحلّ لنا أن نتكلم بهذا، وما ينبغي لنا أن نتفوّه به (سُبْحَانَكَ) تنزيها لك يا ربّ وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) يقول: هذا القول بهتان عظيم.
يقول تعالى ذكره: يذكِّرُكم الله وينهاكم بآي كتابه، لئلا تعودوا لمثل فعلكم الذي فعلتموه في أمر عائشة من تلقِّيكم الإفك الذي روي عليها بألسنتكم، وقولكم بأفواهكم ما ليس لكم به علم فيها أبدا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يقول: إن كنتم تتعظون بعظات الله، وتأتمرون لأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال: والذي هو خير لنا من هذا، أن الله أعلمنا هذا لكيلا نقع فيه، لولا أن الله أعلمناه لهلكنا كما هلك القوم، أن يقول الرجل: أنا سمعته ولم أخترقه (١) ولم أتقوله، فكان خيرًا حين أعلمناه الله، لئلا ندخل في مثله أبدا، وهو عند الله عظيم وقوله: (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ) : ويفصّل الله لكم حججه عليكم بأمره ونهيه، ليتبين المطيع له منكم من العاصي، والله عليم بكم وبأفعالكم، لا يخفى عليه شيء، وهو مجاز المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، حكيم في تدبير خلقه، وتكليفه ما كلَّفهم من الأعمال وفرضه ما فرض عليهم من الأفعال.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: إن الذين يحبون أن يذيع الزنا في الذين صدّقوا بالله ورسوله ويظهر ذلك فيهم، (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: لهم عذاب وجيع في الدنيا، بالحدّ الذي جعله الله حدّا لرامي المحصَناتِ والمحصنين إذا رموهم بذلك، وفي الآخرة عذاب جهنم إن مات مصرّا على ذلك غير تائب. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) قال: الخبيث عبد الله بن أُبي ابن سلول، المنافق، الذي أشاع على عائشة ما أشاع عليها من الفرية، (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) قال: تظهر; يتحدّث عن شأن عائشة.
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يقول تعالى ذكره: والله يعلم كذب الذين جاءوا بالإفك من صدقهم، وأنتم أيها الناس لا تعلمون ذلك، لأنكم لا تعلمون الغيب، وإنما يعلم ذلك علام الغيوب. يقول: فلا تَرْووا ما لا علم لكم به من الإفك على أهل الإيمان بالله، ولا سيما على حلائل رسول الله ﷺ فتهلكوا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولولا أن تفضَّل الله عليكم أيها الناس ورحمكم، وأن الله ذو رأفة، ذو رحمة بخلقه لهلكتم فيما أفضتم فيه، وعاجلتكم من الله العقوبة. وترك ذكر الجواب لمعرفة السامع بالمراد من الكلام بعده، وهو قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)... الآية.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا تسلكوا سبيل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره، بإشاعتكم الفاحشة في الذين آمنوا وإذ اعتكموها فيهم وروايتكم ذلك عمن جاء به، فإن الشيطان يأمر بالفحشاء، وهي الزنا، والمنكر من القول.
وقد بَيَّنَّا معنى الخطوات والفحشاء فيما مضى بشواهده، ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
يقول تعالى ذكره: ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته لكم، ما تَطَهَّر منكم من أحد أبدا من دنس ذنوبه وشركه، ولكن الله يطهرُ من يشاء من خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) يقول: ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئا من الشرّ يدفعه عن نفسه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) قال: ما زكى: ما أسلم، وقال: كلّ شيء في القرآن من زكى أو تَزكى، فهو الإسلام.
وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يقول: والله سميع لما تقولون بأفواهكم، وتَلَقَّوْنه بألسنتكم، وغير ذلك من كلامكم، عليم بذلك كله وبغيره من أموركم، محيط به، محصيه عليكم، ليجازيكم بكل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولا يحلف بالله ذوو الفضل منكم، يعني: ذوي التفضل والسَّعة، يقول: وذوو الجِدَه.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (ولا يَأْتَلِ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار. (وَلا يَأْتَلِ) بمعنى: يفتعل من الألَيَّة، وهي القسم بالله، سوى أبي جعفر وزيد بن أسلم، فإنه ذكر عنهما أنهما قرآ ذلك "وَلا يَتألّ" بمعنى: يتفعل، من الألِية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهريّ، عن عَلقمة بن وقاص الليثيّ، وعن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير، وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة، قال: وثني ابن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قال: وثني ابن إسحاق، قال: ثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، قالت: لما نزل هذا، يعني قوله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) في عائشة، وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، وأدخل عليها
حدثني عليّ، قال ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) يقول: لا تقسموا ألا تنفعوا أحدا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ)... إلى آخر الآية، قال: كان ناس من أصحاب رسول الله ﷺ قد رَمَوا عائشة بالقبيح، وأفشَوا ذلك وتكلموا به، فأقسم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم أبو بكر، ألا يتصدّق على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يصله، فقال: لا يُقْسِم أولو الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم، وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك. فأمر الله أن يُغْفَر لهم وأن يُعْفَى عنهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) : لما أنزل الله تعالى ذكره عذر عائشة من السماء، قال أبو بكر وآخرون من المسلمين، والله لا نصل رجلا منهم تكلم بشيء من شأن عائشة ولا ننفعه، فأنزل الله (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) يقول: ولا يحلف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) قال: كان مِسْطَح ذا قرابة. (وَالْمَسَاكِينَ) قال: كان مسكينا (والمهاجرين في سبيل الله) كان بدْريا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) قال: أبو بكر حلف أن لا ينفع يتيما في حِجْره كان أشاع ذلك، فلما نزلت هذه الآية قال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، فلأكوننّ ليتيمي خيرَ ما كنت له قطُّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ) بالفاحشة (الْمُحْصَنَاتِ) يعني العفيفات (الْغَافِلاتِ) عن الفواحش (الْمُؤْمِنَاتِ) بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله، (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يقول: أبْعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة، (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذَابٌ عَظِيمٌ) وذلك عذاب جهنم.
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي هذا حكمهنّ، فقال بعضهم: إنما ذلك لعائشة خاصة، وحكم من الله فيها وفيمن رماها، دون سائر نساء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا خَصِيف، قال: قلت لسعيد بن جُبير: الزنا أشدّ أم قذف المحصَنة؟ فقال: الزنا، فقلت: أليس الله يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)... الآية؟ قال سعيد: إنما كان هذا لعائشة خاصة.
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: ثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سَلَمة، عن أبيه، قال: قالت عائشة: رُميت بما رُميت به وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، قالت: فبينما رسول الله ﷺ عندي جالس، إذ أوحي إليه، وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات، وأنه أُوحي إليه وهو جالس عندي، ثم استوى جالسا يمسح عن وجهه، وقال: يا عائشة أبشري، قالت: فقلت: بحمد الله لا بحمدك، فقرأ: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)... حتى بلغ: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ).
وقال آخرون: بل ذلك لأزواج رسول الله ﷺ خاصة، دون سائر النساء غيرهنّ.
*ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)... الآية، أزواج النبيّ ﷺ خاصة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد، عن جعفر بن برقان، قال: سألت ميمونا، قلت: الذي ذكر الله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)... إلى قوله: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فجعل في هذه توبة، وقال في الأخرى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ)... إلى قوله: (لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) قال ميمون: أما الأولى فعسى أن تكون قد قارفت، وأما هذه، فهي التي لم تقارف شيئا من ذلك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام بن حوشب، عن شيخ من بني أسد، عن ابن عباس، قال: فسَّر سورة النور، فلما أتى على هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)... الآية، قال: هذا في شأن عائشة وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي مبهمة، وليست لهم توبة، ثم قرأ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)... إلى قوله: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا)... الآية، قال: فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة، قال: فهمّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسَّر سورة النور.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) قال: هذا في عائشة، ومن صنع هذا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله، ولكن عائشة كانت إمام ذلك.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أوّل السورة فأوجب الجلد، وقبل التوبة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)... إلى: (عَذَابٌ عَظِيمٌ) يعني أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، رماهنّ أهل النفاق، فأوجب الله
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة، والحكم بها عامّ في كلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها فيها.
وإنما قلنا ذلك أولى تأويلاته بالصواب؛ لأن الله عمَّ بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) كلّ محصنة غافلة مؤمنة، رماها رام بالفاحشة، من غير أن يخصَّ بذلك بعضا دون بعض، فكلّ رام محصنة بالصفة التي ذكر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية فملعون في الدنيا والآخرة، وله عذاب عظيم، إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفاته، فإن الله دلّ باستثنائه بقوله: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) على أن ذلك حكم رامي كل محصنة، بأيّ صفة كانت المحصنة المؤمنة المرمية، وعلى أن قوله: (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) معناه: لهم ذلك إن هلكوا ولم يتوبوا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولهم عذاب عظيم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) فاليوم الذي في قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) من صلة قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وعُني بقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) يوم القيامة، وذلك حين يجحد أحدهم ما اكتسب في الدنيا من الذنوب، عند تقرير الله إياه بها فيختم الله على أفواههم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
فإن قال قائل: وكيف تشهد عليهم ألسنتهم حين يختم على أفواههم؟ قيل: عني بذلك أن ألسنة بعضهم تشهد على بعض، لا أنَّ ألسنتهم تنطق وقد ختم على الأفواه.
وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ عُرِّفَ الكَافِرُ بعَمَلِه، فَجَحَدَ وَخَاصَمَ، فَيُقُالُ لَهُ: هَؤُلاءِ جِيرَانُك يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: أهْلُكَ وعَشِيرتُكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: أتَحْلِفُونَ؟
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يوفيهم الله حسابهم وجزاءهم الحقّ على أعمالهم.
والدين في هذا الموضع: الحساب والجزاء، كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) يقول. حسابهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (الحَقَّ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار. (دِينَهُمُ الْحَقَّ) نصبا على النعت للدين، كأنه قال: يوفيهم الله ثواب أعمالهم حقا، ثم أدخل في الحقّ الألف واللام، فنصب بما نصب به الدين. وذُكر عن مجاهد أنه قرأ ذلك: "يُوَفِيهمُ اللهُ دينَهُمُ الحَقُّ" برفع الحقّ على أنه من نعت الله.
حدثنا بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن حميد، عن مجاهد، أنه قرأها "الحق" بالرفع. قال جرير: وقرأتها في مصحف أُبيّ بن كعب " يُوَفِّيهمُ اللهُ الحَقُّ دِينَهُمْ".
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، وهو نصب الحقّ على اتباعه إعراب الدين؛ لإجماع الحجة عليه.
وقوله: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) يقول: ويعلمون يومئذ أن الله هو الحق الذي يبين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، ويزول حينئذٍ الشكُّ فيه عن أهل النفاق، الذين كانوا فيما كان يعدهم في الدنيا يمترون.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) ﴾
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) يقول: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول.
وقوله: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ) يقول: الطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، نزلت في الذين قالوا في زوجة النبيّ ﷺ ما قالوا من البهتان، ويقال: الخبيثات للخبيثين: الأعمال الخبيثة تكون للخبيثين: والطيبات من الأعمال تكون للطيبين.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، في قول الله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) قال: الطيبات: القول الطيب، يخرج من الكافر والمؤمن فهو للمؤمن، والخبيثات: القول الخبيث يخرج من المؤمن والكافر فهو للكافر (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) وذلك أنه برأ كليهما مما ليس بحقّ من الكلام.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) يقول: الخبيثات والطيبات: القول السيئ والحسن، للمؤمنين الحسن وللكافرين السيئ (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) وذلك بأنه ما قال الكافرون من كلمة طيبة فهي للمؤمنين، وما قال المؤمنون من كلمة خبيثة فهي للكافرين، كلّ بريء مما ليس بحقّ من الكلام.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن
حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)... الآية، يقول: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، فهذا في الكلام، وهم الذين قالوا لعائشة ما قالوا، هم الخبيثون، والطيبون هم المبرّءون مما قال الخبيثون.
حدثنا أبو زرعة، قال ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سلمة، يعني ابن نبيط الأشجعي، عن الضحاك: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) قال: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس.
قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيع وعثمان بن الأسود، عن مجاهد: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) قال: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
قال: ثنا سفيان عن خصيف، عن سعيد بن جبير، قال: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) قال: الخبيثات من القول للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
قال: ثني محمد بن بكر بن مقدم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن عبد الملك، يعني ابن أبي سليمان، عن القاسم بن أبي بزّة، عن سعيد بن جبير، عن مجاهد: (وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) قال: الخبيثات من القول للخبيثين من الناس.
قال: ثنا عباس بن الوليد النرسي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) يقول: الخبيثات من القول والعمل للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، قال: الطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات، قال: الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول، والخبيثات من القول للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) قال: نزلت في عائشة حين رماها المنافق بالبهتان والفرية، فبرأها الله من ذلك. وكان عبد الله بن أُبيّ هو خبيث، وكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله ﷺ طيبا، وكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة الطيبة، وكان أولى أن يكون لها الطيب (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) قال: هاهنا برّئت عائشة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
وأولى هذه الأقوال في تأويل الآية قول من قال: عنى بالخبيثات: الخبيثات من القول، وذلك قبيحه وسيئه للخبيثين من الرجال والنساء، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، هم بها أولى؛ لأنهم أهلها. والطيبات من القول، وذلك حسنه وجميله للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول; لأنهم أهلها وأحقّ بها.
وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل الآية؛ لأن الآيات قبل ذلك إنما جاءت بتوبيخ الله للقائلين في عائشة الإفك، والرامين المحصنات الغافلات المؤمنات، وإخبارهم ما خصهم به على إفكهم، فكان ختم الخبر عن أولى الفريقين بالإفك من الرامي والمرمي به، أشبه من الخبر عن غيرهم.
وقوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ) يقول: الطيبون من الناس مبرّءون من خبيثات القول، إن قالوها فإن الله يصفح لهم عنها، ويغفرها لهم، وإن قيلت فيهم؛ ضرّت قائلها ولم تضرّهم، كما لو قال الطيب من القول الخبيث من الناس لم ينفعه الله به، لأن الله لا يتقبله،
كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) فمن كان طيبا فهو مبرأ من كل قول خبيث، يقول يغفره الله، ومن كان خبيثا فهو مبرأ من كل قول صالح، فإنه يردّه الله عليه لا يقبله منه، وقد قيل: عُني بقوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) عائشة وصفوان بن المعطل الذي رميت به، فعلى هذا القول قيل "أُولئِكَ"فجمع، والمراد ذانك، كما قيل: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً) والمراد أخَوان.
وقوله: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يقول لهؤلاء الطيبين من الناس مغفرة من الله لذنوبهم، والخبيث من القول إن كان منهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يقول: ولهم أيضا مع المغفرة عطية من الله كريمة، وذلك الجنة، وما أعدّ لهم فيها من الكرامة.
كما حدثنا أبو زرعة، قال: ثنا العباس بن الوليد النرسي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : مغفرة لذنوبهم ورزق كريم في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) ﴾
اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: تأويله يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: "لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا" قال: وإنما "تستأنسوا" وهم من الكُتَّاب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في هذه الآية (لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) وقال: إنما هي خطأ من الكاتب حتى تستأذنوا وتسلموا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا معاذ بن سليمان، عن جعفر بن إياس، عن سعيد، عن ابن عباس (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) قال: أخطأ الكاتب، وكان ابن عباس يقرأ "حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا" وكان يقرؤها على قراءة أُبيّ بن كعب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش أنه كان يقرؤها: "حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا" قال سفيان: وبلغني أن ابن عباس كان يقرؤها: "حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا" وقال: إنها خطأ من الكاتب.
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) قال: الاستئناس: الاستئذان.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: في مصحف ابن مسعود: "حَتَّى تُسَلِّمُوا على أهْلِها وَتَسْتَأْذِنُوا".
قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جعفر بن إياس، عن سعيد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: "يأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تُسَلِّمُوا عَلى أهْلِها وتَسْتَأْذِنوا" قال: وإنما تستأنسوا وهم من الكتاب.
قال: ثنا هشيم، قال مغيرة، قال مجاهد: جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرمضاء، فأتى فسطاط امرأة من قريش، فقال: السلام عليكم، أدخل؟ فقالت: ادخل بسلام، فأعاد فأعادت، وهو يراوح بين قدميه، قال: قولي ادخل، قالت: ادخل فدخل.
قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن ابن سيرين، وأخبرنا يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد الثقفي، أن رجلا استأذن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ألج أو أنلج؟ فقال النبيّ ﷺ لأمة له يقال لها روضة: "قُومِي إلى هَذَا فَكَلِّمِيهِ، فإنَّهُ لا يُحسِنُ يَسْتأذِنُ، فَقُولي لَهُ يَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أدْخُل؟ " فسمعها الرجل، فقالها، فقال: "اُدْخُل".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن المغيرة، عن إبراهيم، قوله: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) قال: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) قال: حتى تستأذنوا وتسلموا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أشعث بن سوار، عن كردوس، عن ابن مسعود، قال: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم، قال أشعت، عن عديّ بن ثابت: أن امرأة من الأنصار، قالت: يا رسول الله، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، والد ولا ولد، وأنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال؟ قال: فنزلت: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)... الآية.
وقال آخرون: معنى ذلك: حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم وما أشبهه، حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) قال: حتى تتنحنحوا وتتنخموا.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) قال: حتى تجرّسوا وتسلموا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) قال: تنحنحوا وتنخموا.
قال ابن جُرَيج: وأخبرني ابن طاووس، عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى، كأنه يقول: عريتها أو عريانة، من ذات محرم، قال: وكان يشدّد في ذلك.
قال ابن جُرَيج، وقال عطاء بن أبي رباح: وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا، فواجب على الناس أجمعين إذا احتلموا أن يستأذنوا على من كان من الناس، قلت لعطاء: أواجب على الرجل أن يستأذن على أمه، ومن وراءها من ذات قرابته؟ قال: نعم، قلت: أبرّ وجب؟ قال قوله: (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا).
قال ابن جُرَيج: وأخبرني ابن زياد: أن صفوان مولى لبني زهرة، أخبره عن عطاء بن يسار: أن رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال: "نَعَمْ"، قال: إنها ليس لها خادم غيري، أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: "أتُحب أنْ تَراها عُرْيَانَةً؟ " قال الرجل: لا. قال: "فاسْتَأْذِنْ عَلَيْها".
قال ابن جُرَيج عن الزهري: قال: سمعت هزيل بن شُرَحبيل الأوْدي الأعمى، أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا.
حدثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن حازم، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن يحيى بن الجزّار، عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود، عن زينب قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الاستئناس: الاستفعال من الأنس، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، مخبرا بذلك من فيه، وهل فيه أحد؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم.
وقد حكي عن العرب سماعا: اذهب فاستأنس، هل ترى أحدا في الدار؟ بمعنى: انظر هل ترى فيها أحدا؟
فتأويل الكلام إذن إذا كان ذلك معناه: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تسلموا وتستأذنوا، وذلك أن يقول أحدكم: السلام عليكم، أدخل؟ وهو من المقدم الذي معناه التأخير، إنما هو حتى تسلموا وتستأذنوا، كما ذكرنا من الرواية، عن ابن عباس.
وقوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) يقول: استئناسكم وتسليمكم على أهل البيت الذي تريدون دخوله، فإن دخولكموه خير لكم، لأنكم لا تدرون أنكم إذا دخلتموه بغير إذن، على ماذا تهجمون؟ على ما يسوءكم أو يسرّكم؟ وأنتم إذا دخلتم بإذن، لم تدخلوا على ما تكرهون، وأدّيتم بذلك أيضا حقّ الله عليكم في الاستئذان والسلام. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يقول: لتتذكروا بفعلكم ذلك أوامر الله عليكم، واللازم لكم من طاعته، فتطيعوه.
يقول تعالى ذكره: فإن لم تجدوا في البيوت التي تستأذنون فيها أحدا، يأذن لكم بالدخول إليها، فلا تدخلوها، لأنها ليست لكم، فلا يحلّ لكم دخولها إلا بإذن أربابها، فإن أذن لكم أربابها أن تدخلوها فادخلوها (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) يقول: وإن قال لكم أهل البيوت التي تستأذنون فيها: ارجعوا فلا تدخلوها، وارجعوا عنها ولا
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا) قال: إن لم يكن لكم فيها متاع، فلا تدخلوها إلا بإذن (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا).
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
قال: ثنا الحسن، قال: ثنا هاشم بن القاسم المزني، عن قَتادة، قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية، فما أدركتها، أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي ارجع، فأرجع وأنا مغتبط، لقوله (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) وهذا القول الذي قاله مجاهد في تأويل قوله: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا) بمعنى: إن لم يكن لكم فيها متاع، قول بعيد من مفهوم كلام العرب; لأن العرب لا تكاد تقول: ليس بمكان كذا أحد، إلا وهي تعني ليس بها أحد من بني آدم.
وأما الأمتعة وسائر الأشياء غير بني آدم، ومن كان سبيله سبيلهم، فلا تقول ذلك فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩) ﴾
ثم اختلفوا في ذلك أيّ البيوت عنى، فقال بعضهم: عنى بها الخانات والبيوت المبنية بالطرق التي ليس بها سكان معروفون، وإنما بنيت لمارّة الطريق والسابلة، ليأووا إليها، ويؤوا إليها أمتعتهم.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن سالم المكي، عن محمد ابن الحنفية، في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) قال: هي الخانات التي تكون في الطرق.
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا عمر بن فروخ، قال: سمعت قَتادة يقول: (بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) قال: هي الخانات تكون لأهل الأسفار.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) قال: كانوا يضعون في بيوت في طرق المدينة متاعا وأقتابا، فرُخِّص لهم أن يدخلوها.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) قال: هي البيوت التي ينزلها السفر، لا يسكنها أحد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) قال: كانوا يصنعون، أو يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد، فأحلّ لهم أن يدخلوها بغير إذن.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. إلا أنه قال: كانوا يضعون بطريق المدينة، بغير شكّ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله، غير أنه قال: كانوا يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) هي البيوت التي ليس لها
وقال آخرون: هي بيوت مكة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن سعيد بن سائق، عن الحجاج بن أرطأة، عن سالم بن محمد بن الحنفية في: (بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) قال: هي بيوت مكة.
وقال آخرون: هي البيوت الخربة والمتاع الذي قال الله فيها لكم قضاء الحاجة، من الخلاء والبول فيها.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عطاء يقول (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) قال: الخلاء والبول.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا حسن بن عيسى بن زيد، عن أبيه، في هذه الآية (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) قال: التخلي في الخراب.
وقال آخرون: بل عنى بذلك بيوت التجار التي فيها أمتعة الناس.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) قال: بيوت التجار، ليس عليكم جناح أن تدخلوها بغير إذن، الحوانيت التي بالقيساريات والأسواق، وقرأ (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) متاع للناس، ولبني آدم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عمّ بقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) كلّ بيت لا ساكن به لنا فيه متاع ندخله بغير إذن; لأن الإذن إنما يكون ليؤنس المأذون عليه قبل الدخول، أو ليأذن للداخل إن كان له مالكا، أو كان فيه ساكنا. فأما إن كان لا مالك له فيحتاج إلى إذنه لدخوله
فإن ظنّ ظانّ أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس، فقد أذن لمن أراد الدخول عليه في دخوله، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ، وذلك أنه ليس لأحد دخول ملك غيره بغير ضرورة ألجأته إليه، أو بغير سبب أباح له دخوله إلا بإذن ربه، لا سيما إذا كان فيه متاع، فإن كان التاجر قد عرف منه أن فتحه حانوته إذن منه لمن أراد دخوله في الدخول، فذلك بعد راجع إلى ما قلنا من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن من معنى قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) في شيء، وذلك أن التي وضع الله عنا الجناح في دخولها بغير إذن من البيوت، هي ما لم يكن مسكونا، إذ حانوت التاجر لا سبيل إلى دخوله إلا بإذنه، وهو مع ذلك مسكون، فتبين أنه مما عنى الله من هذه الآية بمعزل.
وقال جماعة من أهل التأويل: هذه الآية مستثناة من قوله: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا).
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) ثم نسخ واستثنى فقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا)... الآية، فنسخ من ذلك، واستثني فقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ).
وليس في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) دلالة على أنه استثناء من قوله: (لا تَدْخُلُوا
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله وبك يا محمد (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) يقول: يكفوا من نظرهم إلى ما يشتهون النظر إليه، مما قد نهاهم الله عن النظر إليه (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أن يراها من لا يحلّ له رؤيتها، بلبس ما يسترها عن أبصارهم (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) يقول: فإن غضها من النظر عما لا يحلّ النظر إليه، وحفظ الفرج عن أن يظهر لأبصار الناظرين؛ أطهر لهم عند الله وأفضل (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) يقول: إن الله ذو خبرة بما تصنعون أيها الناس فيما أمركم به من غض أبصاركم عما أمركم بالغضّ عنه، وحفظ فروجكم عن إظهارها لمن نهاكم عن إظهارها له.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن سهل الرملي، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) قال: كل فرج ذُكِرَ حِفْظُهُ في القرآن فهو من الزنا إلا هذه (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) فإنه يعني الستر.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس،
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) قال: يغضّ من بصره: أن ينظر إلى ما لا يحلّ له، إذا رأى ما لا يحلّ له غضّ من بصره لا ينظر إليه، ولا يستطيع أحد أن يغضّ بصره كله، إنما قال الله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ (٣١) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ (وَقُلْ) يا محمد (للْمُؤْمِنَاتِ) من أمتك (يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) عما يكره الله النظر إليه مما نهاكم عن النظر إليه (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) يقول: ويحفظن فروجهنَّ عن أن يراها من لا يحلّ له رؤيتها، بلبس ما يسترها عن أبصارهم.
وقوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) يقول تعالى ذكره: ولا يُظهرن للناس الذين ليسوا لهن بمحرم زينتهنّ، وهما زينتان: إحداهما: ما خفي وذلك كالخلخال والسوارين والقرطين والقلائد،
والأخرى: ما ظهر منها، وذلك مختلف في المعنيّ منه بهذه الآية، فكان بعضهم يقول: زينة الثياب الظاهرة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، قال: الزينة زينتان: فالظاهرة منها الثياب، وما خفي: الخَلْخَالان والقرطان والسواران.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الثوري، عن أبي إسحاق
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الثياب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، مثله.
قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن زيد، عن عبد الله، مثله.
قال: ثنا سفيان، عن علقمة، عن إبراهيم، في قوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) : قال: الثياب.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا بعض أصحابنا، إما يونس، وإما غيره، عن الحسن، في قوله: (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الثياب.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الثياب.
قال أبو إسحاق: ألا ترى أنه قال: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: ثنا محمد بن الفضل، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن زيد، عن ابن مسعود (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: هو الرداء.
وقال آخرون: الظاهر من الزينة التي أبيح لها أن تبديه: الكحل، والخاتم، والسواران، والوجه.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مروان، قال: ثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الكحل والخاتم.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُليّ، قال: ثنا مروان، عن مسلم المَلائي، عن سعيد بن جُبير، مثله. ولم يذكر ابن عباس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن أبي عبد الله نهشل، عن الضحاك، عن
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جُبير، في قوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الوجه والكفّ.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، عن سعيد بن جُبير، مثله.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا أبو عمرو، عن عطاء في قول الله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الكفان والوجه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قَتادة قال: الكحل، والسوران، والخاتم.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكفّ، والخاتم، فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: المسكتان والخاتم والكحل، قال قَتادة: وبلغني أن النبيّ ﷺ قال: "لا يحِلُّ لامْرأةٍ تُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ، أنْ تخْرجَ يَدَها إلا إلى هاهنا". وقبض نصف الذراع.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن رجل، عن المسور بن مخرمة، في قوله: (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: القلبين، والخاتم، والكحل، يعني السوار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الخاتم والمسكة.
قال ابن جُرَيج، وقالت عائشة: القُلْبُ والفتخة، قالت عائشة: دَخَلَتْ عليّ ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مُزَيَّنةً، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعرض، فقالت عائشة: يا رسول الله إنها ابنة أخي وجارية، فقال: "إذا عركت المرأة (١) لم
قال ابن جُرَيج، وقال مجاهد قوله: (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الكحل والخضاب والخاتم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عاصم، عن عامر: (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال الكحل، والخضاب، والثياب.
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) من الزينة: الكحل، والخضاب، والخاتم، هكذا كانوا يقولون وهذا يراه الناس.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمر بن أبي سلمة، قال: سئل الأوزاعي عن (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الكفين والوجه.
حدثنا عمرو بن بندق، قال: ثنا مروان، عن جُويبر، عن الضحاك في قول: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) قال الكفّ والوجه.
وقال آخرون: عنى به الوجه والثياب.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: قال يونس (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال الحسن: الوجه والثياب.
حدثنا ابن بشار، قال ثنا ابن أبي عديّ، وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قَتادة، عن الحسن، في قوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الوجه والثياب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: عنى بذلك: الوجه والكفان، يدخل في ذلك إذا كان كذلك: الكحل، والخاتم، والسوار، والخضاب.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل؛ لإجماع الجميع على أن على كلّ مصل أن يستر عورته في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، إلا ما روي عن النبي ﷺ أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النصف. فإذا كان ذلك من جميعهم إجماعا، كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها
* * *
وقول: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يقول تعالى ذكره: وليلقين خُمُرهنّ، وهي جمع خمار، على جيوبهنّ، ليسترن بذلك شعورهنّ وأعناقهن وقُرْطَهُنَّ.
حدثنا ابن وكيع، قال ثنا زيد بن حباب، عن إبراهيم بن نافع، قال: ثنا الحسن بن مسلم بن يناق، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: لما نزلت هذه الآية: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) قال شققن البُرُد مما يلي الحواشي، فاختمرن به.
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، أن قرة بن عبد الرحمن، أخبره، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة زوج النبيّ ﷺ أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأوَل، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن أكثف مروطهنّ، فاختمرن به.
وقوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ) يقول تعالى ذكره: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) التي هي غير ظاهرة، بل الخفية منها، وذلك الخلخال والقرط والدملج، وما أمرت بتغطيته بخمارها من فوق الجيب، وما وراء ما أبيح لها كشفه، وإبرازه في الصلاة وللأجنبيين من الناس، والذراعين إلى فوق ذلك، إلا لبعولتهنّ.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن طلحة بن مصرف، عن إبراهيم: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ) قال: هذه ما فوق الذراع.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت رجلا يحدث عن طلحة، عن إبراهيم، قال في هذه الآية (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) قال: ما فوق الجيب، قال شعبة: كتب به منصور إليّ، وقرأته عليه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قَتادة، في قوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ) قال: تبدي لهؤلاء الرأس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال: ابن مسعود، في قوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ) قال: الطوق والقرطين، يقول الله تعالى ذكره: قل للمؤمنات الحرائر: لا يظهرن هذه الزينَة الخفية التي ليست بالظاهرة إلا لبعولتهنّ، وهم أزواجهن، واحدهم بعل، أو لآبائهنّ، أو لآباء بعولتهن: يقول أو لآباء أزواجهن، أو لأبنائهن، أو لأبناء بعولتهن، أو لإخوانهن، أو لبني إخوانهن، ويعني بقوله: أو لإخوانهن أو لأخواتهن، أو لبني إخوانهن، أو بني أخواتهن، أو نسائهن. قيل: عني بذلك نساء المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُريج، قوله: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) قال: بلغني أنهنّ نساء المسلمين، لا يحلّ لمسلمة أن ترى مشركة عريتها، إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ).
قال: ثني الحسين، قال: ثني عيسى بن يونس، عن هشام بن الغازي، عن عبادة بن نسيّ: أنه كره أن تقبل النصرانية المسلمة، أو ترى عورتها، ويتأوّل: (أَوْ نِسَائِهِنَّ).
قال: ثنا عيسى بن يونس، عن هشام، عن عبادة، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عُبيدة بن الجرّاح رحمة الله عليهما: أما بعد، فقد بلغني أن نساء يدخلن الحمامات، ومعهن نساء أهل الكتاب، فامنع ذلك، وحُلْ دونه. قال: ثم إن أبا عُبيدة قام في ذلك المقام مبتهلا اللهم أيما امرأة تدخل الحمام من غير علة ولا سقم، تريد البياض لوجهها، فسوّد وجهها يوم تبيض الوجوه.
وقول: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال: بعضهم: أو مَمَالِيكُهُنَّ، فإنه لا بأس عليها أن تظهر لهم من زينتها ما تظهره لهؤلاء.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال:
وقال: آخرون: بل معنى ذلك: أو ما ملكت أيمانهنّ من إماء المشركين، كما قد ذكرنا عن ابن جُرَيج قبل من أنه لما قال: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) عنى بهن النساء المسلمات دون المشركات، ثم قال: أو ما ملكت أيمانهن من الإماء المشركات.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) ﴾
يقول تعالى ذكره: والذين يتبعونكم لطعام يأكلونه عندكم، ممن لا أرب له في النساء من الرجال، ولا حاجة به إليهنّ، ولا يريدهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) قال: كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول لا يغار عليه ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) فهذا الرجل يتبع القوم، وهو مغفل في عقله، لا يكترث للنساء، ولا يشتهيهنّ، فالزينة التي تبديها لهؤلاء: قرطاها وقلادتها وسواراها، وأما خلخالاها ومعضداها ونحرها وشعرها، فإنها لا تبديه إلا لزوجها.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله: (أَوِ التَّابِعِينَ) قال: هو التابع يتبعك يصيب من طعامك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) قال: الذي يريد الطعام،
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) الذين لا يهمهم إلا بطونهم، ولا يُخافون على النساء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ) قال: الأبله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قوله: (غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ) قال: هو الأبله، الذي لا يعرف شيئًا من النساء.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) الذي لا أرب له بالنساء، مثل فلان.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عمن حدثه، عن ابن عباس: (غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ) قال: هو الذي لا تستحيي منه النساء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي: (غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ) قال: من تبع الرجل وحشمه، الذي لم يبلغ أربه أن يطَّلع على عورة النساء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن المغيرة، عن الشعبي (غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ) قال: الذي لا أرب له في النساء.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، قال: المعتوه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري في قوله: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) قال: هو الأحمق، الذي لا همة له بالنساء ولا أرب.
وبه عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، في قوله: (غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) يقول: الأحمق، الذي ليست له همة في النساء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال: ابن زيد، في قوله: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) قال: هو الذي يتبع القوم، حتى كأنه كان منهم ونشأ فيهم، وليس يتبعهم لإربة نسائهم، وليس له في نسائهم إربة. وإنما يتبعهم لإرفاقهم إياه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبيّ ﷺ مخنث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل عليه النبي ﷺ يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة، فقال: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا أرَى هَذَا يَعْلَمُ ما هَاهُنا، لا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُمْ " فحجبوه.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: ثنا حفص بن عمر العدني، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ) قال: هو المخنث الذي لا يقوم زبه.
واختلف القرّاء فى قوله: (غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ) فقرأ ذلك بعض أهل الشام، وبعض أهل المدينة والكوفة "غَيْرَ أُولي الإرْبَةِ" بنصب غير، ولنصب غير، هاهنا وجهان: أحدهما على القطع من التابعين، لأن التابعين معرفة وغير نكرة، والآخر على الاستثناء، وتوجيه غير إلى معنى "إلا"، فكأنه قيل: إلا. وقرأ غير من ذكرت بخفض "غَيْرِ" على أنها نعت للتابعين، وجاز نعت "التابعين" ب"غير" و"التابعون" معرفة وغير نكرة، لأن "التابعين" معرفة غير مؤقتة. فتأويل الكلام على هذه القراءة: أو الذين هذه صفتهم.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مستفيضة القراءة بهما في الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن الخفض في "غير" أقوى في العربية، فالقراءة به أعجب إليّ والإربة: الفعلة من الأرب، مثل الجلسة من الجلوس، والمشية من المشي، وهي الحاجة، يقال: لا أرب لي فيك: لا حاجة لي فيك، وكذا أربت لكذا وكذا إذا: احتجت إليه، فأنا آرب له أربا. فأما الأربة بضم الألف: فالعقدة.
وقوله: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) يقول تعالى ذكره: أو الطفل الذين لم يكشفوا عن عورات النساء بجماعهنّ فيظهروا عليهن لصغرهم.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) قال: لم يدروا ما ثم، من الصغر قبل الحلم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
وقوله: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) يقول تعالى ذكره: ولا يجعلن في أرجلهنّ من الحليّ ما إذا مشين أو حرّكنهنّ، علم الناس الذين مشين بينهم ما يخفين من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين (١) من فضة، واتخذت جزعا، فمرّت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الجزع، فصوّت، فأنزل الله (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ).
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) قال: كان في أرجلهم خرز، فكنّ إذا مررن بالمجالس حرّكن أرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهنّ.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ) فهو أن تقرع الخَلْخَال بالآخر عند الرجال، ويكون في رجليها خلاخل، فتحرّكهنّ عند الرجال، فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك؛ لأنه من عمل الشيطان.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) قال: هو الخَلْخَال، لا تضرب امرأة
وفي الأصل: "مرتين" بدون نقط. وانظر (اللسان: برا).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) قال: الأجراس من حليهنّ، يجعلنها في أرجلهنّ في مكان الخلاخل، فنهاهن الله أن يضربن بأرجلهنّ لتسمع تلك الأجراس.
وقوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) يقول تعالى ذكره: وارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من غضّ البصر، وحفظ الفرج، وترك دخول بيوت غير بيوتكم، من غير استئذان ولا تسليم، وغير ذلك من أمره ونهيه؛ (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يقول: لتفلحوا وتدركوا طلباتكم لديه، إذا أنتم أطعتموه فيما أمركم ونهاكم.
يقول تعالى ذكره: وزوّجوا أيها المؤمنون من لا زوج له، من أحرار رجالكم ونسائكم، ومن أهل الصلاح من عبيدكم ومماليككم. والأيامى: جمع أيمُ، وإنما جمع الأيم أيامى؛ لأنها فعيلة في المعنى، فجُمعت كذلك كما جمعت اليتيمة: يتامى; ومنه قول جميل:
أُحبُّ الأيامَى إذْ بُثَيْنَةُ أيِّمٌ | وأحْبَبْتُ لمَّا أنْ غَنِيتِ الغَوَانِيا (١) |
فإنْ تَنْكِحي أَنْكِحْ وَإنْ تَتأَيَّمِي | وإنْ كُنْتُ أفْتَى مِنْكُمُ أتَأيَّمُ (٢) |
(٢) البيت أنشده صاحب (اللسان) في أيم، قال: وتأيم الرجل زمانا، وتأيمت المرأة: إذا مكثا أيامًا وزمانًا لا يتزوجان، وأنشد ابن بري:
فإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتأَيَّمِي | (يَدَ الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكِحِي) أتأيم |
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) قال: أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغَّبهم فيه، وأمرهم أن يزوّجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى، فقال: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حسن أبو الحسن، وكان إسماعيل بن صبيح مولى هذا، قال: سمعت القاسم بن الوليد، عن عبد الله بن مسعود، قال: التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) قال: أيامى النساء: اللاتي ليس لهنّ أزواج.
وقوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يقول جلّ ثناؤه: والله واسع الفضل جواد بعطاياه، فزوّجوا إماءكم، فإن الله واسع يوسع عليهم من فضله، إن كانوا فقراء. عليم: يقول: هو ذو علم بالفقير منهم والغنيّ، لا يخفى عليه حال خلقه في شيء وتدبيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ (٣٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ) ما ينكحون به النساء عن إتيان ما حرّم الله عليهم من الفواحش، حتى يغنيهم الله من سعة فضله، ويوسِّع عليهم من رزقه.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، قال: قلت لعطاء: أواجب عليّ إذا علمت مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبا، وقالها عمرو بن دينار، قال: قلت لعطاء: أتأثِره عن أحد؟ قال: لا.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: ثنا سعيد، عن قَتَادَة، عن أنس بن مالك أن سيرين أراد أن يكاتبه، فتلكأ عليه، فقال له عمر: لتكاتبنه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لا ينبغي لرجل إذا كان عنده المملوك الصالح، الذي له المال يريد إن يكاتب، ألا يكاتبه.
وقال آخرون: ذلك غير واجب على السيد، وإنما قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ) ندب من الله سادة العبيد إلى كتابة من عُلم فيه منهم خير، لا إيجاب.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال مالك بن أنس: الأمر عندنا أن ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع بأحد من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده، وقد سمعت بعض أهل العلم إذا سُئل عن ذلك، فقيل له: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) يتلو هاتين الآيتين (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) قال مالك: فإنما ذلك أمر أذن الله فيه للناس، وليس بواجب على الناس ولا يلزم أحدا. وقال الثوري: إذا أراد العبد من سيده أن يكاتبه، فإن شاء السيد أن يكاتبه كاتبه، ولا يجبر السيد على ذلك.
حدثني بذلك عليّ عن زيد، عنه، وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب،
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: واجب على سيد العبد أن يكاتبه إذا علم فيه خيرا، وسأله العبد الكتابة، وذلك أن ظاهر قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ) ظاهر أمر، وأمر الله فرض الانتهاء إليه، ما لم يكن دليل من كتاب أو سنة، على أنه ندب، لما قد بيَّنا من العلة في كتابنا المسمى "البيان عن أصول الأحكام".
وأما الخير الذي أمر الله تعالى ذكره عباده بكتابة عبيدهم إذا علموه فيهم، فهو القدرة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتبوا عليه.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد الكريم الجزري، عن نافع، عن ابن عمر أنه كره أن يكاتب مملوكه إذا لم تكن له حرفة، قال: تطعمني أوساخ الناس.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) يقول: إن علمتم لهم حيلة، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا أشهب، قال: سئل مالك بن أنس، عن قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) فقال: إنه ليقال: الخير القوة على الأداء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن زيد، عن أبيه قول الله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: الخير: القوة على ذلك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن علمتم فيهم صدقا ووفاء وأداء.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلية، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، في قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: صدقا ووفاء وأداء وأمانة.
قال: ثنا ابن عُلية، قال: ثنا عبد الله، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وطاووس، أنهما قالا في قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قالا مالا وأمانة.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة، قال: كان إبراهيم يقول في هذه الآية (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: صدقا ووفاء، أو أحدهما.
حدثنا أبو بكر، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، في قوله (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: أداء ومالا.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، قال: قال عمرو بن دينار: أحسبه كل ذلك المال والصلاح.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سفيان: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) يعني: صدقا ووفاء وأمانة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: إن علمت فيه خيرا لنفسك، يؤدّي إليك ويصدّقك ما حدثك؛ فكاتبه.
وقال آخرون بل معنى ذلك: إن علمتم لهم مالا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) يقول: إن علمتم لهم مالا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: مالا.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: مالا.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: لهم مالا فكاتبوهم.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن زاذان، عن عطاء بن أبي رباح: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: مالا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد، قال: إن علمتم عندهم مالا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني محمد بن عمرو اليافعي، عن ابن جُرَيج، أن عطاء بن أبي رباح، كان يقول: ما نراه إلا المال، يعني قوله: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال: ثم تلا (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا).
وأولى هذه الأقوال في معنى ذلك عندي قول من قال: معناه فكاتبوهم إن علمتم فيهم قوة على الاحتراف والاكتساب، ووفاء بما أوجب على نفسه وألزمها وصدق لهجة. وذلك أن هذه المعاني هي الأسباب التي بمولى العبد الحاجة إليها إذا كاتب عبده مما يكون في العبد.
فأما المال وإن كان من الخير، فإنه لا يكون في العبد وإنما يكون عنده أو له لا فيه، والله إنما أوجب علينا مكاتبة العبد إذا علمنا فيه خيرا، لا إذا علمنا عنده أو له، فلذلك لم نقل: إن الخير في هذا الموضع معنيّ به المال.
وقوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) يقول تعالى ذكره: وأعطوهم من مال الله الذي أعطاكم.
ثم اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطائه من مال الله الذي أعطاه، من هو؟ وفي المال، أيّ الأموال هو؟ فقال: بعضهم: الذي أمر الله بإعطاء المكاتب من مال الله: هو مولى العبد المكاتب، ومال الله الذي أمر بإعطائه منه هو مال الكتابة، والقدر الذي أمر أن يعطيه منه الربع.
وقال آخرون: بل ما شاء من ذلك المولى.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عمرو بن عليّ، قال: ثنا عمران بن عيينة، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عليّ في قول الله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: ربع المكاتبة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ليث بن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، عن عليّ رضي الله عنه، في قول الله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: الربع من أوّل نجومه.
قال: أخبرنا ابن علية، قال عطاء بن السائب: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عليّ، في قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: الربع من مكاتبته.
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثني عبد الملك بن أبي سليمان، عن عبد الملك بن أعين، قال: كاتب أبو عبد الرحمن غلاما في أربعة آلاف درهم، ثم وضع له الربع، ثم قال: لولا أني رأيت عليا، رضوان الله عليه كاتب غلاما له، ثم وضع له الربع، ما وضعت لك شيئا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي: أنه كاتب غلاما له على ألف ومئتين، فترك الربع وأشهدني، فقال لي: كان صديقك يفعل هذا، يعني عليا رضوان الله عليه يتأوّل (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ).
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك، قال: ثني فضالة بن أبي أمية، عن أبيه، قال: كاتبني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستقرض لي من حفصة مئتي درهم. قلت: ألا تجعلها في مكاتبتي؟ قال: إني لا أدري أدرك ذاك أم لا.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، بلغني أنه كاتبه على مئة أوقية، قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك، قال: ذكرت ذلك لعكرمة، فقال: هو قول الله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ).
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قول الله (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) يقول: ضعوا عنهم من مكاتبتهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) يقول: ضعوا عنهم مما قاطعتموهم عليه.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: آتِهمْ مما في يديك.
حدثني الحسين بن عمرو العنقزي، قال: ثني أبي، عن أسباط، عن السديّ، عن أبيه، قال: كاتبتني زينب بنت قيس، بن مخرمة من بني المطلب بن عبد مناف على عشرة آلاف، فتركت لي ألفا وكانت زينب قد صلَّت مع رسول الله ﷺ القبلتين جميعا.
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا ابن مسعود الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، مولى أبي أسيد، قال: كاتبني أبو أسيد، على ثنتي عشرة مئة، فجئته بها، فأخذ منها ألفا، وردّ عليّ مئتين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أوّل نجومه؛ مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته، ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة، عن أبيه، عن نافع، قال: كاتب عبد الله بن عمر غلامًا له يقال له: شرف، على خمسة وثلاثين ألف درهم، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف ولم يذكر نافع أنه أعطاه شيئا غير الذي وضع له.
قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقول: إن ذلك أن يكاتب الرجل غلامه، ثم يضع عنه من آخر كتابته شيئا مسمى، قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت، وعلى ذلك أهل العلم، وعمل الناس عندنا.
حدثني عليّ، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سفيان: أحبّ إليّ أن يعطيه الربع، أو أقلّ منه شيئا، وليس بواجب، وأن يفعل ذلك حسن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن السلمي، عن عليّ رضي الله عنه (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: هو ربع المكاتبة.
وقال آخرون: بل ذلك حضّ من الله أهل الأموال على أن يعطوهم سهمهم، الذي جعله لهم من الصدقات المفروضة لهم في أموالهم، بقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ) قال: فالرقاب التي جعل فيها
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثني يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن ابن زيد، عن أبيه، قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: يحث الله عليه يعطونه.
حدثني يعقوب، قال: ثني ابن علية، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: حثّ الناس عليه، مولاه وغيره.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم في قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: يعطي مكاتبه وغيره حثّ الناس عليه.
حدثني يعقوب قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قال في قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: أمر مولاه والناس جميعا أن يعينوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: أمر المسلمين أن يعطوهم مما آتاهم الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن زيد، عن أبيه (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: ذلك في الزكاة على الولاة، يعطونهم من الزكاة، يقول الله (وَفِي الرِّقَابِ).
قال: ثني ابن زيد، عن أبيه (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: الفيء والصدقات. وقرأ قول الله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)، وقرأ حتى بلغ: (وَفِي الرِّقَابِ) فأمر الله أن يوفوها منه، فليس ذلك من الكتابة، قال: وكان أبي يقول: ما له وللكتابة؟! هو من مال الله الذي فرض له فيه نصيبا.
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي القول الثاني، وهو قول من قال: عنى به إيتاءهم سهمهم من الصدقة المفروضة.
وإنما قلنا ذلك أولى القولين، لأن قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) أمر من الله تعالى ذكره بإيتاء المكاتبين من ماله الذي آتى أهل الأموال، وأمر الله فرض على عباده الانتهاء إليه، ما لم يخبرهم أن مراده الندب، لما قد بيَّنا في غير موضع من كتابنا، فإذ كان ذلك كذلك ولم يكن أخبرنا في كتابه، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: زوّجوا الصالحين من عبادكم وإمائكم ولا تكرهوا إماءكم على البغاء، وهو الزنا (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) يقول: إن أردن تعففا عن الزنا.
(لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يقول: لتلتمسوا بإكراهكم إياهنّ على الزنا عرض الحياة الدنيا وذلك ما تعرض لهم إليه الحاجة من رياشها وزينتها وأموالها، (وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ) يقول: ومن يكره فتياته على البغاء، فإن الله من بعد إكراهه إياهنّ على ذلك، لهن (غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ووزر ما كان من ذلك عليهم دونهن.
وذُكر أن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أُبي ابن سلول، حين أكره أمته مسيكة على الزنا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن الصباح، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: جاءت مسيكة لبعض الأنصار فقالت: إن سيدي يكرهني على الزنا، فنزلت في ذلك: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ).
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر قال: كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول، يقال لها مسيكة، فآجرها أو أكرهها "الطبري شكّ" فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فشكت ذلك إليه، فأنزل الله (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني بهنّ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني أبو الزبير، عن جابر، قال: جاءت جارية لبعض الأنصار، فقالت: إن سيدي أكرهني على البغاء، فأنزل الله في ذلك (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) قال ابن جُرَيج: وأخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: أمة لعبد الله بن أُبَيّ، أمرها فزنت، فجاءت ببرد، فقال لها: ارجعي فازني، قالت: والله لا أفعل، إن يك هذا خيرا فقد استكثرت منه، وإن يك شرّا فقد آن لي أن أدعه. قال ابن جُرَيج، وقال مجاهد نحو ذلك، وزاد قال: البغاء الزنا، (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال: للمكرهات على الزنا، وفيها نزلت هذه الآية.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري أن رجلا من قريش أُسر يوم بدر، وكان عبد الله بن أُبي أسره، وكان لعبد الله جارية يقال: لها معاذة، فكان القرشيّ الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمة، فكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان ابن أُبي يُكرهها على ذلك، ويضربها رجاء أن تحمل للقرشيّ، فيطلب فداء ولده، فقال الله: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) قال الزهري: (وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: غفور لهنّ ما أكرهن عليه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جُبير، أنه كان يقرأ: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لهن غَفُورٌ رَحِيمٌ.
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) يقول: ولا تكرهوا إماءكم على الزنا، فإن فعلتم فإن الله سبحانه لهنّ غفور رحيم، وإثمهنّ على من أكرههنّ.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ)... إلى آخر الآية، قال: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن، فقال الله: لا تكرهوهنّ على الزنا من أجل المنالة في الدنيا، (وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) على الزنا، قال: عبد الله بن أُبي ابن سلول أمر أمة له بالزنا، فجاءته بدينار أو ببرد "شكّ أبو عاصم" فأعطته، فقال: ارجعي فازني بآخر، فقالت: والله ما أنا براجعة، فالله غفور رحيم للمكرهات على الزنا، ففي هذا أنزلت هذه الآية.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. إلا أنه قال في حديثه: أمر أمة له بالزنا، فزنت فجاءته ببرد فأعطته، فلم يشك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) يقول: على الزنا (فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: غفور لهنّ، للمكرهات على الزنا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال: ابن زيد، في قوله: (وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال: غفور رحيم لهنّ حين أكرهن وقسرن على ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: كانوا يأمرون ولائدهم يباغين يفعلن ذلك، فيصبن، فيأتينهم بكسبهنّ، فكانت لعبد الله بن أُبي ابن سلول جارية، فكانت تباغي. فكرهت وحلفت أن لا تفعله، فأكرهها أهلها، فانطلقت فباغت ببرد أخضر، فأتتهم به، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ)... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس دلالات وعلامات مبينات: يقول مفصلات الحقّ من الباطل، وموضحات ذلك.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة، وبعض الكوفيين والبصريين "مُبَيَّنَاتٍ" بفتح الياء: بمعنى مفصلات، وأن الله فصلهن وبينهنّ لعباده، فهنّ مفصلات مبينات. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (مُبَيِّنَاتٍ) بكسر الياء، بمعنى أن الآيات هن تبين
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، متقاربتا المعنى، وذلك أن الله إذ فصّلها وبيَّنها صارت مبينة بنفسها الحق لمن التمسه من قِبَلها، وإذا بيَّنت ذلك لمن التمسه من قبلها، فيبين الله ذلك فيها، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب، في قراءته الصواب.
وقوله: (وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأمم، (وَمَوْعِظَةً) لمن اتقى الله، فخاف عقابه وخشي عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) ﴾
يعني تعالى ذكره بقوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) هادي من في السماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول: الله سبحانه هادي أهل السماوات والأرض.
حدثني سليمان بن عمر بن خلدة الرقي، قال: ثنا وهب بن راشد، عن فرقد، عن أنس بن مالك، قال: إن إلهي يقول: نوري هُداي.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الله مدبر السماوات والأرض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال مجاهد وابن عباس في قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) : يدبر الأمر فيهما، نجومهما وشمسهما وقمرهما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب، في قول الله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: فبدأ بنور نفسه، فذكره، ثم ذكر نور المؤمن.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك; لأنه عقيب قوله: (وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) فكان ذلك بأن يكون خبرًا عن موقع يقع تنزيله من خلقه. ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه، أولى وأشبه، ما لم يأت ما يدلُّ على انقضاء الخبر عنه من غيره. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس آيات مبينات الحقّ من الباطل (وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) فهديناكم بها، وبيَّنا لكم معالم دينكم بها، لأني هادي أهل السماوات وأهل الأرض، وترك وصل الكلام باللام، وابتدأ الخبر عن هداية خلقه ابتداء، وفيه المعنى الذي ذكرت، استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره، ثم ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالآيات المبينات التي أنزلها إليهم، فقال: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) يقول: مثل ما أنار من الحقّ بهذا التنزيل في بيانه كمشكاة.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى بالهاء في قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) علام هي عائدة، ومن ذكر ما هي؟ فقال بعضهم: هي من ذكر المؤمن. وقالوا: معنى الكلام: مثل نور المؤمن الذي في قلبه من الإيمان والقرآن مثل مشكاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب، في قول الله: (مَثَلُ نُورِهِ) قال: ذكر نور المؤمن فقال: مثل نوره، يقول مثل نور المؤمن. قال: وكان أُبيّ يقرؤها: كذلك مثل المؤمن، قال: هو المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي،
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير (مَثَلُ نُورِهِ) قال: مثل نور المؤمن.
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي، قال: ثنا يحيى بن اليمان، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك في قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) قال: نور المؤمن.
وقال آخرون: بل عُني بالنور: محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الهاء التي قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) عائدة على اسم الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن حفص، عن شمر قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار، فقال له: حدثني عن قول الله عزّ وجلّ: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ)... الآية؟ فقال كعب: الله نور السماوات والأرض، مثل نوره مثل محمد ﷺ كمشكاة.
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي، قال: ثنا يحيى بن اليمان، عن أشعث، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير في قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل عني بذلك: هدي الله وبيانه، وهو القرآن، قالوا: والهاء من ذكر الله. قالوا: ومعنى الكلام: الله هادي أهل السماوات والأرض بآياته المبينات، وهي النور الذي استنار به السماوات والأرض مثل هداه وآياته التي هدى بها خلقه، ووعظهم بها في قلوب المؤمنين كمشكاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (مَثَلُ نُورِهِ) مثل هداه في قلب المؤمن.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) قال: مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة.
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عياش، قال: قال زيد بن أسلم في قول الله تبارك وتعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) ونوره الذي ذكر القرآن، ومثله الذي ضرب له.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: مثل نور الله، وقالوا: يعني بالنور: الطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني بي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) : وذلك أن اليهود قالوا لمحمد: كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) قال: وهو مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نورا، ثم سماها أنوارا شتى.
وقوله: (كَمِشْكَاةٍ) اختلف أهل التأويل في معنى المشكاة والمصباح، وما المراد بذلك، وبالزجاجة، فقال بعضهم: المشكاة كل كوّة لا منفذ لها، وقالوا: هذا مثل ضربه الله لقلب محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص، عن شمر، قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار، فقال له: حدثني عن قول الله: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ)، قال: المشكاة وهي الكوّة، ضربها الله مثلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، المشكاة (فيها مصباح المصباح قَلْبِهِ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ) صدره، الزجاجة (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) شبه صدر النبي ﷺ بالكوكب الدريّ، ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) لم تمسّها شمس المشرق ولا شمس المغرب، (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) يكاد محمد يبين للناس، وإن لم يتكلم أنه نبيّ، كما يكاد ذلك الزيت يضيء (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ).
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (الله نور السماوات والأرض إِلَى كَمِشْكَاةٍ) قال: المشكاة: كوّة البيت.
وقال: آخرون عنى بالمشكاة: صدر المؤمن، وبالمصباح: القرآن والإيمان، وبالزجاجة: قلبه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) قال: مثل المؤمن، قد جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة، قال: المشكاة: صدره (فِيهَا مِصْبَاحٌ) قال: والمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) قال: والزجاجة: قلبه (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ) قال: فمثله مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب درّيّ، يقول: مضيء (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) والشجرة المباركة أصله المباركة الإخلاص لله وحده وعبادته، لا شريك له (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال: فمثله مثل شجرة التفّ بها الشجر، فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الغير، وقد ابتلي بها فثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال: إن أعطى شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحيّ يمشي في قبور الأموات، قال: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) فهو يتقلَّب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة في الجنة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني يحيى بن اليمان، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أُبيّ العالية، عن أبي بن كعب، قال: المشكاة: صدر المؤمن (فِيهَا مِصْبَاحٌ) قال: القرآن.
قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب، نحو حديث عبد الأعلى، عن عبيد الله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) والمشكاة: كوّة (١) البيت فيها مصباح، (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) والمصباح: السراج يكون في الزجاجة، وهو مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نورا وسماها أنواعا شتى.
قوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ) قال: هي شجرة لا يفيء عليها ظلّ شرق ولا ظلّ غرب، ضاحية، ذلك أصفى للزيت (٢) (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) قال معمر، وقال الحسن: ليست من شجر الدنيا، ليست شرقية ولا غربية.
وقال آخرون: هو مثل للمؤمن، غير أن المصباح وما فيه مثل لفؤاده، والمشكاة مثل لجوفه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال مجاهد وابن عباس جميعا: المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن وجوفه، المصباح: مثل الفؤاد، والكوّة: مثل الجوف.
قال ابن جُرَيج (كَمِشْكَاةٍ) : كوة غير نافذة. قال ابن جُرَيج، وقال ابن عباس:
(٢) في الأصل: الزيت، بدون لام قبلها، وأظنه، محرفًا، عما أثبتناه.
وقال آخرون: بل ذلك مثل للقرآن في قلب المؤمن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) قال: ككوّة (فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).
حدثني يونس، قال: اخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) نور القرآن الذي أنزل على رسوله وعباده، فهذا مثل القرآن (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) فقرأ حتى بلغ: (مُبَارَكَةٍ) فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره ويعلمونه ويأخذون به، وهو كما هو لا ينقص فهذا مثل ضربه الله لنوره. وفي قوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) قال: الضوء: إشراق ذلك الزيت، والمشكاة: التي فيها الفتيلة التي فيها المصباح، والقناديل تلك المصابيح.
حدثنا محمد بن شار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن عياض في قوله: (كَمِشْكَاةٍ) قال: الكوّة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن عطية، في قوله: (كَمِشْكَاةٍ) قال: قال ابن عمر: المشكاة: الكوّة.
وقال: آخرون: المشكاة القنديل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (كَمِشْكَاةٍ) قال: القنديل، ثم العمود الذي فيه القنديل.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (كَمِشْكَاةٍ) الصفر الذي في جوف القنديل.
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن رجل، عن مجاهد قال: المشكاة: القنديل.
وقال آخرون: المشكاة الحديد الذي يعلق به القنديل.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن المفضل، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن مجاهد، قال: المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل.
وأوْلى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به، فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد، الذي أنزله إليهم فآمنوا به وصدقوا بما فيه في قلوب المؤمنين مثل مشكاة، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة، وذلك هو نظير الكوّة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها، وإنما جعل ذلك العمود مشكاة؛ لأنه غير نافذ، وهو أجوف مفتوح الأعلى، فهو كالكوّة التي في الحائط التي لا تنفذ، ثم قال: (فِيهَا مِصْبَاحٌ) وهو السراج، وجعل السراج وهو المصباح مثلا لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات المبينات، ثم قال: (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) يعني: أن السراج الذي في المشكاة: في القنديل، وهو الزجاجة، وذلك مثل للقرآن، يقول: القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره، ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشكّ فيه، واستنارته بنور القرآن، واستضاءته بآيات ربه المبينات، ومواعظه فيها بالكوكب الدرّيّ، فقال: (الزُّجَاجَةُ) وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (دُرِّيٌّ)، فقرأته عامة قراء الحجاز: (دُرِّيٌّ) بضم الدال وترك الهمزة، وقرأ بعض قراء البصرة والكوفة: "دِرِّيء" بكسر الدال وهمزة، وقرأ بعض قرّاء الكوفة "دُرِّيء" بضم الدال وهمزة، وكأن الذين ضموا داله وتركوا الهمزة وجهوا معناه إلى ما قاله أهل التفسير الذي ذكرنا عنهم من أن الزجاجة في صفائها وحسنها كالدرّ، وأنها منسوبة إليه لذلك من نعتها وصفتها، ووجه الذين قرءوا ذلك بكسر داله وهمزه إلى أنه فعيل من درِّيء الكوكب: أي دُفع ورجم به الشيطان من قوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) : أي يدفع، والعرب تسمي الكواكب العظام التي لا تعرف أسماءها الدراري بغير همز. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: هي الدرارئ بالهمز، من يدرأن. وأما الذين قرءوه بضمّ داله وهمزه، فإن كانوا أرادوا به درّوء مثل سبوح وقدوس من درأت، ثم استثقلوا كثرة الضمَّات فيه، فصرفوا بعضها إلى الكسرة، فقالوا دِرِّيء، كما قيل: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) وهو فعول من عتوت عتوّا،
والذي هو أولى القراءات عندي في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ (دُرِّيٌّ) بضمّ داله، وترك همزه، على النسبة إلى الدرّ، لأن أهل التأويل بتأويل ذلك جاءوا وقد ذكرنا أقوالهم في ذلك قبل، ففي ذلك مكتفى عن الاستشهاد على صحتها بغيره، فتأويل الكلام: الزجاجة: وهي صدر المؤمن، كأنها: يعني كأن الزجاجة وذلك مثل لصدر المؤمن، كوكب: يقول في صفائها وضيائها وحسنها. وإنما يصف صدره بالنقاء من كلّ ريب وشكّ في أسباب الإيمان بالله وبعده من دنس المعاصي، كالكوكب الذي يُشبه الدرّ في الصفاء والضياء والحسن.
واختلفوا أيضا في قراءة قوله: "تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ" فقرأ ذلك بعض المكيين والمدنيين وبعض البصريين: "تَوَقَّدُ مِنْ شَجَرَةٍ" بالتاء وفتحها وتشديد القاف وفتح الدال، وكأنهم وجهوا معنى ذلك إلى توقد المصباح من شجرة مباركة. وقرأه بعض عامة قرّاء المدنيين (يُوقَدُ) بالياء وتخفيف القاف ورفع الدال، بمعنى: يوقد المصباح، موقده من شجرة، ثم لم يسمّ فاعله. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة "تُوقَدُ" بضم التاء وتخفيف القاف ورفع الدال، بمعنى: يوقد الزجاجة موقدها من شجرة مباركة (١) لما لم يسمّ فاعله، فقيل: توقد. وقرأه بعض أهل مكة "تَوَقَّدُ" بفتح التاء وتشديد القاف وضم الدال، بمعنى: تتوقد الزجاجة من شجرة، ثم أسقطت إحدى التاءين اكتفاء بالباقية من الذاهبة، وهذه القراءات متقاربات المعاني وإن اختلفت الألفاظ بها، وذلك أن الزجاجة إذا وصفت بالتوقد، أو بأنها تَوَقَّد، فمعلوم معنى ذلك، فإن المراد به تَوَقَّدَ فيها المصباح، أو يوقد فيها المصباح، ولكن وجَّهوا الخبر إلى أن وصفها بذلك أقرب في الكلام منها، وفهم السامعين معناه. والمراد منه، فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءات قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءات إليّ أن أقرأ بها في ذلك "تَوَقَّدَ" بفتح التاء، وتشديد القاف وفتح الدال، بمعنى وصف المصباح بالتوقد; لأن التوقد والاتقاد لا شكّ أنهما من صفته دون الزجاجة،
وقد ذكرنا بعض ما رُوي عن بعضهم من الاختلاف في ذلك فيما قد مضى، ونذكر باقي ما حضرنا مما لم نذكره قبل، فقال بعضهم: إنما قيل لهذه الشجرة: لا شرقية ولا غربية: أي ليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت، وإنما لها نصيبها من الشمس بالغداة ما دامت بالجانب الذي يلي الشرق، ثم لا يكون لها نصيب منها إذا مالت إلى جانب الغرب، ولا هي غربية وحدها، فتصيبها الشمس بالعشيّ إذا مالت إلى جانب الغرب، ولا تصيبها بالغداة، ولكنها شرقية غربية، تطلع عليه الشمس بالغداة، وتغرب عليها، فيصيبها حرّ الشمس بالغداة والعشيّ، قالوا: إذا كانت كذلك، كان أجود لزيتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله: (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال: لا يسترها من الشمس جبل ولا واد، إذا طلعت وإذا غربت.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرمي بن عمارة، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن عكرِمة، في قوله: (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال: الشجرة تكون في مكان لا يسترها من الشمس شيء، تطلع عليها، وتغرب عليها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج؛ قال: قال مجاهد وابن عباس (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قالا هي التي بشقّ الجبل، التي يصيبها شروق الشمس وغروبها، إذا طلعت أصابتها، وإذا غربت أصابتها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك ليست شرقية ولا غربية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثني محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال: هي شجرة وسط الشجر، ليست من الشرق ولا من الغرب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (زيتونة لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) متيامنة الشام، لا شرقي ولا غربي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قول الله: (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال: والله لو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنما هو مثل ضربه الله لنوره.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عثمان، يعني ابن الهيثم، قال: ثنا عوف، عن الحسن في قول الله: (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال: لو كانت في الأرض هذه الزيتونة كانت شرقية أو غربية، ولكن والله ما هي في الأرض، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عوف، عن الحسن في قوله: (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال: هذا مثل ضربه الله، ولو كانت هذه الشجرة في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية.
وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك، قول من قال: إنها شرقية غربية، وقال: ومعنى الكلام: ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشيّ دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب، فهي شرقية غربية.
وإنما قلنا ذلك أولى بمعنى الكلام؛ لأن الله إنما وصف الزيت الذي يوقد على هذا المصباح بالصفاء والجودة، فإذا كان شجره شرقيا غربيا، كان زيته لا شكّ أجود وأصفى وأضوأ.
وقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) يقول تعالى ذكره: يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) يقول: فكيف إذا مسته النار.
وإنما أريد بقوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) أن هذا القرآن من عند الله، وأنه كلامه، فجعل مثله ومثل كونه من عنده، مثل المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة، التي وصفها جلّ ثناؤه في هذه الآية. وعنى بقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) : أن حجج الله تعالى ذكره على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر أو أعرض عنها ولها (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) يقول: ولو لم يزدها الله بيانا ووضوحا بإنزاله هذا القرآن إليهم؛ منبها لهم على توحيده، فكيف إذا نبههم به وذكَّرهم بآياته، فزادهم به حجة إلى حججه عليهم قبل ذلك، فذلك بيان من الله ونور على البيان، والنور الذي كان قد
وقوله: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) يعني: النار على هذا الزيت الذي كاد يضيء ولو لم تمسسه النار.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (نور على نُورٌ) قال: النار على الزيت.
قال أبو جعفر: وهو عندي كما ذكرت مثل القرآن. ويعني بقوله: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) هذا القرآن نور من عند الله، أنزله إلى خلقه يستضيئون به، (عَلَى نُورٍ) على الحجج والبيان الذي قد نصبه لهم قبل مجيء القرآن إنزاله إياه، مما يدلّ على حقيقة وحدانيته، فذلك بيان من الله، ونور على البيان، والنور الذي كان وضعه لهم ونصبه قبل نزوله.
وذكر عن زيد بن أسلم في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عياش، قال: قال زيد بن أسلم، في قوله: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) يضيء بعضه بعضا، يعني القرآن.
وقوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) يقول تعالى ذكره: يوفق الله لاتباع نوره، وهو هذا القرآن، من يشاء من عباده. وقوله: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ) يقول: ويمثل الله الأمثال والأشباه للناس، كما مثَّل لهم مثل هذا القرآن في قلب المؤمن بالمصباح في المشكاة، وسائر ما في هذه الآية من الأمثالَ.
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول والله يضرب الأمثال، وغيرها من الأشياء كلها، ذو علم.
يعني تعالى ذكره بقوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) الله نور السماوات
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: المشكاة التي فيها الفتيلة التي فيها المصباح، قال: المصابيح في بيوت أذن الله أن ترفع.
قال أبو جعفر: قد يحتمل أن تكون "من" في صلة "توقد"، فيكون المعنى: توقد من شجرة مباركة ذلك المصباح في بيوت أذن الله أن ترفع، وعنى بالبيوت المساجد.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم بالذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، ونصر بن عبد الرحمن الأودي، قالا ثنا حكام، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قول الله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) قال: المساجد.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) وهي المساجد تكرم، ونهى عن اللغو فيها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) يعني: كل مسجد يصلي فيه، جامع أو غيره.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) قال: مساجد تبنى.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) قال: في المساجد.
قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: أدركت أصحاب رسول الله وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وإنه حقّ على الله أن يكرم من زاره فيها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن سالم بن عمر في قوله: (فِي بُيُوتٍ
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) قال: المساجد.
وقال آخرون: عنى بذلك البيوت كلها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، ونصر بن عبد الرحمن الأودي، قالا حدثنا حكَّام بن سلم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عكرِمة (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) قال: هي البيوت كلها.
إنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك؛ لدلالة قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) على أنها بيوت بنيت للصلاة، فلذلك قلنا هي المساجد.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) فقال: بعضهم معناه: أذن الله أن تبنى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عصام، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) قال: تبنى.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: معناه: أذن الله أن تعظم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) يقول: أن تعظم لذكره.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، القول الذي قاله مجاهد، وهو أن معناه: أذن الله أن ترفع بناء، كما قال جلّ ثناؤه: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) وذلك أن ذلك هو الأغلب من معنى الرفع في البيوت والأبنية.
وقوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يقول: وأذن لعباده أن يذكروا اسمه فيها. وقد قيل:
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم قال: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يقول: يتلى فيها كتابه. وهذا القول قريب المعنى مما قلناه في ذلك؛ لأن تلاوة كتاب الله من معاني ذكر الله، غير أن الذي قلنا به أظهر معنييه، فلذلك اخترنا القول به.
وقول: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار (يُسَبِّحُ لَهُ) بضم الياء وكسر الباء، بمعنى يصلي له فيها رجال، ويجعل يسبح فعلا للرجال، وخبرا عنهم، وترفع به الرجال، سوى عاصم وابن عامر، فإنهما قرأا ذلك: "يُسَبَّحُ لَهُ" بضمّ الياء وفتح الباء، على ما لم يسمّ فاعله، ثم يرفعان الرجال بخبر ثان مضمر، كأنهما أرادا: يُسَبَّحُ الله في البيوت التي أذن الله أن ترفع، فسبَّح له رجال، فرفعا الرجال بفعل مضمر، والقراءة التي هي أولاهما بالصواب، قراءة من كسر الباء، وجعله خبرا للرجال وفعلا لهم. وإنما كان الاختيار رفع الرجال بمضمر من الفعل لو كان الخبر عن البيوت، لا يتمّ إلا بقوله: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا)، فأما والخبر عنها دون ذلك تامّ، فلا وجه لتوجيه قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ) إلى غيره أي (١) غير الخبر عن الرجال. وعني بقوله: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) يصلي له في هذه البيوت بالغُدُوات والعشيات رجال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي، قال: ثنا المعافى بن عمران، عن سفيان، عن عمار الدهني (٢) عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة.
حدثني عليّ، قال ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم قال: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) يقول: يصلي له فيها بالغداة والعشيّ،
(٢) هو عمار بن معاوية الدهني بضم المهملة، الكوفي، وثقه أحمد مات سنة ١٣٣، اهـ.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ) أذن الله أن تبنى، فيصلي فيها بالغدوّ والآصال.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول في قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) يعني الصلاة المفروضة.
وقوله: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: لا يشغل هؤلاء الرجال الذين يصلون في هذه المساجد، التي أذن الله أن ترفع، عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة - تجارة ولا بيع.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن رجل نسي اسمه في هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)... إلى قوله: (وَالأبْصَارُ) قال: هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم؛ لا تلهيهم تجاراتهم، ولا بيوعهم عن ذكر الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله أنه نظر إلى قوم من السوق، قاموا وتركوا بياعاتهم إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)... الآية.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، عن سيار، عمن حدثه، عن ابن مسعود، نحو ذلك.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن سيار، قال: حُدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة، تركوا بياعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
وقال بعضهم: معنى ذلك: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ) عن صلاتهم المفروضة عليهم.
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم قال: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يقول: عن الصلاة المكتوبة.
قوله: (وَإِقَامِ الصَّلاةِ) يقول: ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها.
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد، قال: ثنا عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، عن رجل نسي عوف اسمه في (وَإِقَامِ الصَّلاةِ) قال: يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة.
فإن قال قائل: أو ليس قوله: (وَإِقَامِ الصَّلاةِ) مصدرا من قوله: أقمت؟ قيل: بلى. فإن قال: أو ليس المصدر منه إقامة، كالمصدر من آجرت إجارة؟ قيل: بلى. فإن قال: وكيف قال: (وَإِقَامِ الصَّلاةِ) أو تجيز أن نقول: أقمت إقاما؟ قيل: ولكني أجيز أعجبني إقام الصلاة. فإن قيل: وما وجه جواز ذلك؟ قيل: إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال: إقواما، كما يقال: أقعدت فلانا إقعادا، وأعطيته إعطاء. ولكن العرب لما سكنت الواو من أقمت فسقطت لاجتماعها، وهي ساكنة، والميم وهي ساكنة، بنوا المصدر على ذلك، إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة، فسقطت الأولى منهما، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف، كما فعلوا ذلك في قولهم: وعدته عدة، ووزنته زنة، إذ ذهبت الواو من أوّله، كثروه من آخره بالهاء; فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير وهي الهاء في آخرها؛ لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد، فاستغنوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد، وقد قال بعضهم في نظير ذلك:
إنَّ الخَلِيطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانجَرَدُوا | وأخْلَفُوكَ عدَى الأمْرِ الَّذِي وَعَدُوا (١) |
وقوله (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) قيل: معناه وإخلاص الطاعة لله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ)، وقوله: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ)، وقوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)، وقوله: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً) ونحو هذا في القرآن، قال: يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص، وقوله: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) يقول: يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله بين طمع بالنجاة، وحذر بالهلاك، والأبصار: أي ناحية يؤخذ بهم، أذات اليمين أم ذات الشمال، ومن أين يؤتون كتبهم، أمن قبل الأيمان، أو من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القيامة.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الله بن عياش، قال زيد بن أسلم في قول الله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)... إلى قوله: (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) : يوم القيامة.
وقوله: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) يقول: فعلوا ذلك، يعني أنهم لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا ربهم؛ مخافة عذابه يوم القيامة، كي يثيبهم الله يوم القيامة بأحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا، ويزيدهم على ثوابه إياهم على أحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا من فضله، فَيُفْضل عليهم عن عنده بما أحبّ من كرامته لهم. وقوله: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يقول تعالى ذكره: يتفضل على من شاء وأراد من طوْله وكرامته، مما لم يستحقه بعمله، ولم يبلغه بطاعته (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، يقول: بغير
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩) ﴾
وهذا مثل ضربه الله لأعمال أهل الكفر به، فقال: والذين جحدوا توحيد ربهم وكذّبوا بهذا القرآن، وبمن جاء به مَثَلُ أعمالهم التي عملوها (كسراب) يقول: مثل سراب، والسراب ما لصق بالأرض، وذلك يكون نصف النهار، وحين يشتدّ الحرّ والآل، ما كان كالماء بين السماء والأرض، وذلك يكون أوّل النهار، يرفع كلّ شيء ضحى. وقوله: (بقيعة) وهي جمع قاع، كالجيرة جمع جار، والقاع: ما انبسط من الأرض واتسع، وفيه يكون السراب. وقوله: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) يقول: يظن العطشان من الناس السراب ماء (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ) والهاء من ذكر السراب، والمعنى: حتى إذا جاء الظمآنُ السرابَ ملتمسا ماءً، يستغيث به من عطشه (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) يقول: لم يجد السراب شيئا، فكذلك الكافرون بالله من أعمالهم التي عملوها في غرور، يحسبون أنها منجيتهم عند الله من عذابه، كما حسب الظمآن الذي رأى السراب فظنه ماء يُرويه من ظمئه، حتى إذا هلك وصار إلى الحاجة إلى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله، لم يجده ينفعه شيئا; لأنه كان عمله على كفر بالله، ووجد الله، هذا الكافرُ عند هلاكه بالمرصاد، فوفاه يوم القيامة حساب أعماله التي عملها في الدنيا، وجازاه بها جزاءه الذي يستحقه عليه منه.
فإن قال قائل: وكيف قيل: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) فإن لم يكن السراب شيئا، فعلام أدخلت الهاء في قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ) ؟ قيل: إنه شيء يرى من بعيد كالضباب، الذي يرى كثيفا من بعيد، والهباء، فإذا قرب منه المرء، رقّ وصار كالهواء. وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب؛ لم يجد السراب شيئا، فاكتفى بذكر السراب من ذكر موضعه، (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يقول والله سريع حسابه; لأنه تعالى ذكره لا يحتاج إلى عقد أصابع، ولا حفظ بقلب، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد، ومن بعد ما عمله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب، قال: ثم ضرب مثلا آخر، فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) قال: وكذلك الكافر يجيء يوم القيامة، وهو يحسب أن له عند الله خيرا فلا يجد، فيُدخله النار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب، بنحوه.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) يقول: الأرض المستوية.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ)... إلى قوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) قال: هو مثل ضربه الله لرجل عطش فاشتدّ عطشه، فرأى سرابا فحسبه ماء، فطلبه وظنّ أنه قد قدر عليه، حتى أتاه، فلما أتاه لم يجده شيئا، وقبض عند ذلك، يقول الكافر كذلك، يحسب أن عمله مغن عنه، أو نافعه شيئا، ولا يكون آتيًا على شيء حتى يأتيه الموت، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا، ولم ينفعه إلا كما نفع العطشانَ المشتدّ إلى السرابِ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) قال: بقاعٍ من الأرض، والسراب: عمله، زاد الحارث في حديثه عن الحسن: والسراب: عمل الكافر (إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) إتيانه إياه: موته، وفراقه الدنيا (وَوَجَدَ اللَّهَ) عند فراقه الدنيا، (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ).
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتَادة، في قوله: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) قال: بقيعة من الأرض (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) هو مثل ضربه الله لعمل الكافر، يقول: يحسب أنه في شيء، كما يحسب هذا السراب ماء (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) وكذلك الكافر إذا مات لم يجد عمله شيئا (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) ﴾
وهذا مثل آخر ضربه الله لأعمال الكفار، يقول تعالى ذكره: ومثل أعمال هؤلاء الكفار، في أنها عمِلت على خطأ وفساد وضلالة وحيرة من عمالها فيها، وعلى غير هدى، مثَلُ ظلمات في بحر لجِّيّ، ونسب البحر إلى اللجة وصفًا له بأنه عميق كثير الماء، ولجة البحر معظمه (يَغْشَاهُ مَوْجٌ) يقول: يغشى البحر موج (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) يقول: من فوق الموج موج آخر يغشاه، (مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ) يقول: من فوق الموج الثاني الذي يغشى الموج الأوّل سحاب، فجعل الظلمات مثلا لأعمالهم، والبحر اللجيّ مثلا لقلب الكافر، يقول: عمل بنية قلب قد غمره الجهل، وتغشَّته الضلال والحيرة، كما يغشى هذا البحر اللجّي موج من فوقه موج من فوقه سحاب، فكذلك قلب هذا الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات، يغشاه الجهل بالله، بأن الله ختم عليه، فلا يعقل عن الله، وعلى سمعه، فلا يسمع مواعظ الله، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض (١).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي،
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة في قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) عميق، وهو مثل ضربه الله للكافر، يعمل في ضلالة وحيرة، قال: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ).
ورُوي عن أُبيّ بن كعب ما حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب، في قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ)... الآية، قال: ضرب مثلا آخر للكافر، فقال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ)... الآية، قال: فهو يتقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن أبي الربيع، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب، بنحوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ)... إلى قوله: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) قال: شرّ بعضه فوق بعض.
وقوله: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) يقول: إذا أخرج الناظر يده في هذه الظلمات لم يكد يراها.
فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا)، مع شدّة هذه الظلمة التي وصف، وقد علمت أن قول القائل: لم أكد أرى فلانا، إنما هو إثبات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة، ومن دون الظلمات التي وصف في هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فيه، فكيف فيها؟ قيل في ذلك أقوال نذكرها، ثم نخبر بالصواب من
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك، فتعلم أن الله يصلي له من في السماوات والأرض من ملك وإنس وجنّ (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) في الهواء أيضا تسبح له (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٢) والتسبيح عندك صلاة، فيقال: قيل: إن الصلاة لبني آدم، والتسبيح لغيرهم من الخلق، ولذلك فصّل فيما بين ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(٢) يظهر أن في الكلام سقطًا. تقديره: فإن قيل: ما فائدة عطف " وتسبيحه " على صلاته... إلخ. بدليل قوله: قيل... إلخ وهو جواب عن سؤال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) قال: والصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من الخلق.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) قال: صلاته للناس، وتسبيحه عامة لكلّ شيء.
ويتوجه قوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) لوجوه: أحدها أن تكون الهاء التي في قوله: (صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) من ذكر كلّ، فيكون تأويل الكلام: كل مصلّ ومسبِح منهم قد علم الله صلاته وتسبيحه، ويكون الكلّ حينئذ مرتفعا بالعائد من ذكره في قوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) وهو الهاء التي في الصلاة.
والوجه الآخر: أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح أيضا للكل، ويكون الكل مرتفعا بالعائد من ذكره عليه في (عَلِمَ) ويكون (عَلِمَ) فعلا للكلّ، فيكون تأويل الكلام حينئذ: قد علم كلّ مصلّ ومسبح منهم صلاة نفسه وتسبيحه، الذي كُلِّفه وأُلْزمه.
والوجه الآخر: أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح من ذكر الله، والعلم للكل، فيكون تأويل الكلام حينئذ: قد علم كلّ مسبح ومصلّ صلاة الله التي كلفه إياها، وتسبيحه، وأظهر هذه المعاني الثلاثة على هذا الكلام، المعنى الأوّل، وهو أن يكون المعنى: كلّ مصلّ منهم ومسبح قد علم الله صلاته وتسبيحه.
وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بما يفعل كلّ مصلّ ومسبح منهم، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، طاعتها ومعصيتها، محيط بذلك كله، وهو مجازيهم على ذلك كله.
وقوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول جلّ ثناؤه: ولله سلطان السماوات والأرض وملكها دون كلّ من هو دونه من سلطان وملك، فإياه فارهبوا أيها الناس، وإليه فارغبوا لا إلى غيره، فإن بيده خزائن السماوات والأرض، لا يخشى بعطاياكم منها فقرا (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) يقول: وأنتم إليه بعد وفاتكم، مصيركم ومعادكم، فيوفيكم
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي) يعني: يسوق (سحابا) حيث يريد (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يقول: ثم يؤلف بين السحاب، وأضاف بين إلى السحاب، ولم يذكر مع غيره، وبين لا تكون مضافة إلا إلى جماعة أو اثنين؛ لأن السحاب في معنى جمع، واحده سحابة، كما يجمع النخلة: نخل، والتمرة تمر، فهو نظير قول قائل: جلس فلان بين النخل، وتأليف الله السحاب: جمعه بين متفرّقها.
وقوله: (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) يقول: ثم يجعل السحاب الذي يزجيه، ويؤلف بعضه إلى بعض ركاما، يعني: متراكما بعضه على بعض.
وقد حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا خالد، قال: ثنا مطر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبيد بن عمير الليثي، قال: الرياح أربع: يبعث الله الريح الأولى فتقُمّ الأرض قما، ثم يبعث الثانية فتنشئ سحابا، ثم يبعث الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركاما، ثم يبعث الرابعة فتمطره.
وقوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) يقول: فترى المطر يخرج من بين السحاب، وهو الودق، قال: الشاعر:
فَلا مُزْنَةٌ ودقَتْ ودْقَهَا | ولا أَرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَها (١) |
قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن رجل، عن ابن عباس أنه قرأ هذا الحرف: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) :"من خَلَله".
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: أخبرني عمارة بن أبي حفصة، عن رجل، عن ابن عباس، أنه قرأها: "مِنْ خَلَلِهِ" بفتح الخاء، من غير ألف.
قال هارون: فذكرت ذلك لأبي عمرو، فقال: إنها لحسنة، ولكن خلاله أعمّ.
وأما قرّاء الأمصار، فإنهم على القراءة الأخرى من خلاله، وهي التي نختار لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) قال: الودْقَ: القطر، والخلال: السحاب.
وقوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) : قيل في ذلك قولان: أحدهما: أن معناه أن الله ينزل من السماء من جبال في السماء من برد مخلوقة هنالك خلقه، كأن الجبال على هذا القول هي من برد، كما يقال: جبال من طين. والقول الآخر: أن الله ينزل من السماء قدر جبال، وأمثال جبال من برد إلى الأرض، كما يقال: عندي بيتان تبنا، والمعنى قدر بيتين من التبن، والبيتان ليسا من التبن.
وقوله: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) يقول: فيعذّب بذلك الذي ينزل من السماء من جبال فيها من برد، من يشاء فيهلكه، أو يهلك به زروعه وماله (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) من خلقه، يعني: عن زروعهم وأموالهم.
وقوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ) يقول: يكاد شدّة ضوء برق هذا السحاب يذهب بأبصار من لاقى بصره، والسنا مقصور، وهو ضوء البرق.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) قال: ضوء برقه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة، في قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) يقول: لمعان البرق يذهب بالأبصار.
وقرأت قرّاء الأمصار (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ) بفتح الياء من يذهب سوى أبي جعفر القارئ، فإنه قرأه بضم الياء "يُذْهِبُ بِالأبْصَارِ".
والقراءة التي لا أختار غيرها هي فتحها؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وأن العرب إذا أدخلت الباء في مفعول ذهبت، لم يقولوا: إلا ذهبت به، دون أذهبت به، وإذا أدخلوا الألف في أذهبت لم يكادوا أن يدخلوا الباء في مفعوله، فيقولون: أذهبته وذهبت به.
وقوله: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) يقول: يعقب اللهُ بين الليل والنهار ويصرفهما، إذا أذهب هذا جاء هذا، وإذا أذهب هذا جاء هذا (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ) يقول: إنّ في إنشاء الله السحاب، وإنزاله منه الودق، ومن السماء البردَ، وفي تقليبه الليل والنهار لعبرة لمن اعتبر به، وعظةً لمن اتعظ به. ممن له فهم وعقل; لأن ذلك ينبئ ويدلّ على أنه له مدبِّرا ومصرِّفًا ومقلبا لا يشبهه شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) فقرأته عامة قرّاء الكوفة غير عاصم: "وَاللهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ". وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وعاصم: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) بنصب كل، وخلق على مثال فَعَلَ، وهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، وذلك أن الإضافة في قراءة من قرأ ذلك "خَالِقُ" تدلّ على أن معنى ذلك المضيّ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقوله: (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) يعني: من نطفة، (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) كالحيات وما أشبهها، وقيل: إنما قيل: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) والمشي لا يكون على البطن; لأن المشي إنما يكون لما له قوائم على التشبيه وأنه لما خالط ما له قوائم ما لا قوائم له جاز، كما قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) كالطير، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) كالبهائم.
فإن قال قائل: فكيف قيل: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي)، و"مَنْ" للناس، وكلّ هذه
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: لقد أنزلنا أيها الناس علامات واضحات دالات على طريق الحقّ وسبيل الرشاد (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: والله يرشد من يشاء من خلقه بتوفيقه، فيهديه إلى دين الإسلام، وهو الصراط المستقيم والطريق القاصد الذي لا اعوجاج فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: ويقول المنافقون: صدّقنا بالله وبالرسول، وأطعنا الله وأطعنا الرسول (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يقول: ثم تدبر كلّ طائفة منهم من بعد ما قالوا هذا القول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدعو إلى المحاكمة إلى غيره خصمها (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) يقول: وليس قائلو هذه المقالة، يعني قوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا) بالمؤمنين؛ لتركهم الاحتكام إلى رسول الله ﷺ وإعراضهم عنه إذا دعوا إليه. وقوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يقول: وإذا دعي هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) فيما اختصموا فيه بحكم الله (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) عن قبول الحقّ، والرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ
يقول تعالى ذكره: وإن يكن الحق لهؤلاء الذين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم فيأبون ويعرضون عن الإجابة إلى ذلك، قِبَل الذين يدعونهم إلى الله ورسوله - يأتوا إلى رسول الله مذعنين، يقول: مذعنين منقادين لحكمه، مقرّين به طائعين غير مكرهين، يقال منه: قد أذعن فلان بحقه إذا أقرّ به طائعا غير مستكره وانقاد له وسلم.
وكان مجاهد فيما ذكر عنه يقول في ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) قال: سراعا.
وقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يقول تعالى ذكره: أفي قلوب هؤلاء الذين يعرضون إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، شكّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لله رسول، فهم يمتنعون من الإجابة إلى حكمه والرضا به (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) إذا احتكموا إلى حكم كتاب الله وحكم رسوله وقال: (أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) والمعنى: أن يحيف رسول الله عليهم، فبدأ بالله تعالى ذكره تعظيما لله، كما يقال: ما شاء الله ثم شئت، بمعنى شئت. ومما يدلّ على أن معنى ذلك كذلك قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) فأفرد الرسول بالحكم، ولم يقل: ليحكما.
وقوله: (بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يقول: ما خاف هؤلاء المعرضون عن حكم الله وحكم رسوله، إذ أعرضوا عن الإجابة إلى ذلك مما دعوا إليه، أن يحيف عليهم رسول الله، فيجور في حكمه عليهم، ولكنهم قوم أهل ظلم لأنفسهم بخلافهم أمر ربهم، ومعصيتهم الله فيما أمرهم من الرضا بحكم رسول الله ﷺ فيما أحبوا وكرهوا، والتسليم له.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) ﴾
يقول تعالى ذكره: إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا إلى حكم الله وإلى حكم رسوله، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وبين خصومهم، (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا) ما قيل لنا
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمره ونهاه، ويسلم لحكمهما له وعليه، ويخف عاقبة معصية الله ويحذره، ويتق عذاب الله بطاعته إياه في أمره ونهيه (فأولئك) يقول: فالذين يفعلون ذلك (هُمُ الْفَائِزُونَ) برضا الله عنهم يَوم القيامة، وأمنهم من عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣) ﴾
يقول تعالى ذكره وحلف هؤلاء المعرضون عن حكم الله وحكم رسوله، إذ دعوا إليه (بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) يقول: أغلظ أيمانهم وأشدّها (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) يا محمد بالخروج إلى جهاد عدوك وعدو المؤمنين (لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا) لا تحلفوا، فإن هذه (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) منكم فيها التكذيب.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) قال: قد عرفت طاعتكم إلي أنكم تكذبون (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) يقول: إن الله ذو خبرة بما تعملون من طاعتكم الله ورسوله، أو خلافكم أمرهما، أو غير ذلك من أموركم، لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو مجازيكم بكل ذلك.
يقول تعالى ذكره: (قل) يا محمد لهؤلاء المقسمين بالله (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ)، وغيرهم من أمتك (أَطِيعُوا اللَّهَ) أيها القوم فيما أمركم به، ونهاكم عنه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فإن طاعته لله طاعة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يقول: فإن تعرضوا وتدبروا عما أمركم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نهاكم عنه، وتأبوا أن تذعنوا لحكمه لكم وعليكم (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) يقول: فإنما عليه فعل ما أمر بفعله من تبليغ رسالة الله إليكم على ما كلَّفه من التبليغ (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) يقول: وعليكم أيها الناس أن تفعلوا ما ألزمكم، وأوجب عليكم من اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى طاعته فيما أمركم ونهاكم.
وقلنا: إن قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) بمعنى فإن تتولوا، فإنه في موضع جزم; لأنه خطاب للذين أمر رسول الله بأن يقول لهم (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) يدل على أن ذلك كذلك قوله: (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) ولو كان قوله: (تولوا) فعلا ماضيا على وجه الخبر عن غيب لكان في موضع قوله: (عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ).
وقوله: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) يقول تعالى ذكره: وإن تطيعوا - أيها الناس - رسول الله - فيما يأمركم وينهاكم - ترشدوا وتصيبوا الحقّ في أموركم (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يقول: وغير واجب على من أرسله الله إلى قوم برسالة إلا أن يبلغهم رسالته بلاغا يبين لهم ذلك البلاغ عما أراد الله به.
يقول فليس على محمد - أيها الناس - إلا أداء رسالة الله إليكم، وعليكم الطاعة، وإن أطعتموه (١) لحظوظ أنفسكم تصيبون، وإن عصيتموه بأنفسكم فتوبقون (٢).
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي
(٢) كان الأولى أن يقول: وإن عصيتموه فلأنفسكم توبقون
يقول تعالى ذكره: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ منكم) أيها الناس، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ) يقول: ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول: كما فعل منْ قبلهم ذلك ببني إسرائيل، إذ أهلك الجبابرة بالشأم، وجعلهم ملوكها وسكانها (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) يقول: وليوطئنّ لهم دينهم، يعني: ملتهم التي ارتضاها لهم، فأمرهم بها. وقيل: وعد الله الذين آمنوا، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله: (ليستخلفنهم) لأن الوعد قول يصلح فيه "أن"، وجواب اليمين كقوله: وعدتك أن أكرمك، ووعدتك لأكرمنك.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (كَمَا اسْتَخْلَفَ) فقرأته عامة القرّاء (كَمَا اسْتَخْلَفَ) بفتح التاء واللام، بمعنى: كما استخلف الله الذين من قبلهم من الأمم. وقرأ ذلك عاصم "كَما اسْتُخْلِفَ" بضم التاء وكسر اللام، على مذهب ما لم يسمّ فاعله.
واختلفوا أيضا في قراءة قوله: (وليبدلنهم) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم (وليبدلنهم) بتشديد الدال، بمعنى: وليغيرنّ حالهم عما هي عليه من الخوف إلى الأمن، والعرب تقول: قد بدّل فلان إذا غيرت حاله، ولم يأت مكان غيره، وكذلك كلّ مغير عن حاله، فهو عندهم مبدل بالتشديد. وربما قيل بالتخفيف، وليس بالفصيح، فأما إذا جعل مكان الشيء المبدل غيره، فذلك بالتخفيف أبدلته فهو مبدل. وذلك كقولهم: أبدل هذا الثوب: أي جُعل مكانه آخر غيره، وقد يقال بالتشديد غير أن الفصيح من الكلام ما وصفت. وكان عاصم يقرؤه "وَلَيُبْدِلَنَّهُمْ" بتخفيف الدال.
والصواب من القراءة في ذلك التشديد، على المعنى الذي وصفت قبلُ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه، وأن ذاك تغيير حال الخوف إلى الأمن، وأرى عاصما ذهب إلى أن الأمن لما كان خلاف الخوف وجَّه المعنى إلى أنه ذهب بحال الخوف، وجاء بحال الأمن، فخفف ذلك.
ومن الدليل على ما قلنا، من أن التخفيف إنما هو ما كان في إبدال شيء مكان آخر، قول أبي النجم:
عَزْلُ الأمير للأمِيرِ المبْدَل (١)
ألا ترى أنه نحى جسمًا، وجعل مكانه جسمًا غيره؟.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)... الآية، قال: فمكث النبيّ ﷺ عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرّا وعلانية، قال: ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة. قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفون، يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع عنا السلاح، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تَغْبُرُونَ إلا يَسيرًا حتى يجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الملإ العَظيمِ مُحْتَبِيًا فِيه، لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ". (١) فأنزل الله هذه الآية (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)... إلى قوله: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) "قال: يقول: من كفر بهذه النعمة (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وليس يعني الكفر بالله. قال: فأظهره الله على جزيرة العرب فآمنوا، ثم تجبروا، فغيرَ الله ما بهم، وكفروا بهذه النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم، قال القاسم: قال أبو علي: بقتلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه.
واختلف أهل التأويل في معنى الكفر الذي ذكره الله في قوله: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) فقال أبو العالية (٢) ما ذكرنا عنه من أنه كفر بالنعمة لا كفر بالله.
ورُوي عن حُذيفة في ذلك ما حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان،
(٢) لعله أبو العالية، راوي الحديث.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: ثنا شعبة، عن أبي الشعثاء، قال: قعدت إلى ابن مسعود وحُذيفة، فقال حذيفة: ذهب النفاق فلا نفاق، وإنما هو الكفر بعد الإيمان، فقال عبد الله: تعلم ما تقول؟ قال: فتلا هذه الآية (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ)... حتى بلغ: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) قال: فضحك عبد الله، قال: فلقيت أبا الشعثاء بعد ذلك بأيام، فقلت: من أي شيء ضحك عبد الله؟ قال: لا أدري، إن الرجل ربما ضحك من الشيء الذي يعجبه، وربما ضحك من الشيء الذي لا يعجبه، فمن أي شيء ضحك؟ لا أدري. والذي قاله أبو العالية من التأويل أشبه بتأويل الآية، وذلك أن الله وعد الإنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية، أنه منعم به عليهم، ثم قال عقيب ذلك: فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) قال: تلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد (أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) قال: لا يخافون غيري.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وأقيموا أَيُّهَا النَّاسُ الصلاة) بحدودها، فلا تضيعوها، (وَآتُوا الزَّكَاةَ) التي فرضها الله عليكم أهلها، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم ونهاكم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يقول: كي يرحمكم ربكم، فينجيكم من عذابه، وقوله: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ) يقول تعالى ذكره: لا تحسبن يا محمد، الذين كفروا بالله معجزيه في الأرض إذا أراد إهلاكهم (ومأواهم) بعد هلاكهم (النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) ﴾
اختلف أهل التأويل في المعنِّي بقوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) فقال بعضهم: عني بذلك: الرجال دون النساء، ونهوا عن أن يدخلوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة، هؤلاء الذين سموا في هذه الآية إلا بإذن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال: هي على الذكور دون الإناث.
وقال آخرون: بل عني به الرجال والنساء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال: هي في الرجال والنساء، يستأذنون على كلّ حال، بالليل والنهار.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عُني به الذكور والإناث; لأن الله عمّ بقوله: (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) جميع أملاك أيماننا، ولم يخصص منهم ذكرا ولا أنثى فذلك على جميع مَنْ عمه ظاهر التنزيل.
(وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) يقول: والذين لم يحتلموا من أحراركم (ثَلاثَ مَرَّاتٍ)، يعني: ثلاث مرات في ثلاثة أوقات، من ساعات ليلكم ونهاركم.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال: عبيدكم المملوكون (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) قال: لم يحتلموا من أحراركم.
قال ابن جُرَيج: قال لي عطاء بن أبي رباح: فذلك على كل صغير وصغيرة أن يستأذن، كما قال (ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ) قالوا: هي العتمة. قلت: فإذا وضعوا ثيابهم بعد العتمة استأذنوا عليهم حتى يصبحوا؟ قال: نعم. قلت لعطاء: هل استئذانهم إلا عند وضع الناس ثيابهم؟ قال: لا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن صالح بن كيسان ويعقوب بن عتبة وإسماعيل بن محمد، قالوا: لا استئذان على خدم الرجل عليه إلا في العورات الثلاث.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) يقول: إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء، فلا يدخل عليه خادم ولا صبيّ إلا بإذن حتى يصلي الغداة، فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب، عن ثعلبة، عن أبي مالك القرظي: أنه سأل عبد الله بن سويد الحارثي - وكان من أصحاب رسول الله ﷺ - عن الإذن في العورات الثلاث، فقال: إذا وضعت ثيابي من الظهيرة لم يلج عليّ أحد من الخدم الذي بلغ الحلم، ولا أحد ممن لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عباس: ثلاث آيات جحدهنّ الناس: الإذن كله، وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وقال الناس: أكرمكم أعظمكم بيتا، ونسيت الثالثة.
حدثني ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا يونس، عن الحسن،
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني موسى بن أبي عائشة، عن الشعبي في قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال: لم تُنسخ، قلت: إن الناس لا يعملون به، قال: الله المستعان!
قال ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن الشعبي، وسألته عن هذه الآية: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قلت: منسوخة هي؟ قال: لا والله ما نُسخت، قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله المستعان!
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، قال: إن ناسا يقولون نسخت، ولكنها مما يتهاون الناس به.
قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير في هذه الآية (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)... إلى آخر الآية، قال: لا يعمل بها اليوم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا حنظلة، أنه سمع القاسم بن محمد يسأل عن الإذن، فقال: يستأذن عند كلّ عورة، ثم هو طوّاف، يعني الرجل على أمه.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أخبرنا عبد العزيز بن أبي روّاد، قال: أخبرني رجل من أهل الطائف، عن غيلان بن شُرَحبيل، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله ﷺ قال: "لا يَغْلِبَنَّكُمْ الأعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمْ، قال الله: (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) وإنَّمَا العَتَمَةُ عَتَمَةُ الإبِلِ".
وقوله: (ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) برفع "الثلاث"، بمعنى الخبر عن هذه الأوقات التي ذكرت كأنه عندهم، قيل: هذه الأوقات الثلاثة التي أمرناكم بأن لا يدخل عليكم فيها من ذكرنا إلا بإذن، ثلاث عورات لكم، لأنكم تضعون فيها ثيابكم، وتخلون بأهليكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة "ثَلاثَ عَوْرَاتٍ" بنصب الثلاث على الرد على الثلاث الأولى. وكأن معنى الكلام عندهم: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرّات، ثلاثَ عورات لكم.
وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) يقول تعالى ذكره: (ليس عليكم) معشر أرباب البيوت والمساكن، (ولا عليهم) يعني: ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء، والذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغار، حرج ولا إثم بعدهنّ، يعني بعد العورات الثلاث، والهاء والنون في قوله: (بعدهن) عائدتان على "الثلاث" من قوله: (ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) وإنما يعني بذلك أنه لا حرج ولا جناح على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون، وصبيانهم الصغار بغير إذن بعد هذه الأوقات الثلاث اللاتي ذكرهنّ في قوله: (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم رخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، يعني فيما بين صلاة الغداة إلى الظهر، وبعد الظهر إلى صلاة العشاء، أنه رخص لخادم الرجل والصبيّ أن يدخل عليه منزله بغير إذن، قال: وهو قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ) فأما من بلغ الحُلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال.
وقوله: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) رفع الطوّافون بمضمر، وذلك هم. يقول: هؤلاء المماليك والصبيان الصغار هم طوّافون عليكم أيها الناس، ويعني بالطوّافين: أنهم يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن يطوفون عليهم، بعضكم على بعض في غير الأوقات الثلاث التي أمرهم أن لا يدخلوا على ساداتهم وأقربائهم فيها إلا بإذن (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ) يقول جلّ ثناؤه: كما بينت لكم أيها الناس أحكام الاستئذان في هذه الآية، كذلك يبين الله لكم جميع أعلامه وأدلته وشرائع دينه (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يقول: والله ذو علم بما يصلح عباده، حكيم في تدبيره إياهم، وغير ذلك من أموره.
يقول تعالى ذكره: إذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربائكم، ويعني بقوله: (منكم) من أحراركم (الحلم) يعني الاحتلام، واحتلموا (فليستأذنوا) يقول: فلا يدخلوا عليكم فى وقت من الأوقات إلا بإذن، لا في أوقات العورات الثلاث ولا في غيرها. وقوله: (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول: كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقربائه الأحرار، وخصّ الله تعالى ذكره في هذه الآية الأطفال بالذكر، وتعريف حكمهم عباده في الاستئذان دون ذكر ما ملكت أيماننا، وقد تقدّمت الآية التي قبلها بتعريفهم حكم الأطفال الأحرار والمماليك; لأن حكم ما ملكت أيمانكم في ذلك حكم واحد، سواء فيه حكم كبارهم وصغارهم في أن الإذن عليهم في الساعات الثلاث التي ذكرها الله في الآية التي قبل.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله، يعني من الصبيان الأحرار إلا بإذن على كل حال، وهو قوله: (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال عطاء: (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) قال: واجب على الناس أجمعين أن يستأذنوا إذا احتلموا على من كان من الناس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، قال: يستأذن الرجل على أمه؟ قال: إنما أنزلت (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) فِي ذَلِكَ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) يقول: هكذا يبين الله لكم آياته، أحكامه وشرائع دينه، كما بين لكم أمر هؤلاء الأطفال في الاستئذان بعد البلوغ (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يقول: والله عليم بما يصلح خلقه وغير ذلك من الأشياء، حكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ
يقول تعالى ذكره: واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء، فلا يحضن ولا يلدن، واحدتهنّ قاعد (اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) يقول: اللاتي قد يئسن من البعولة، فلا يطمعن في الأزواج (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) يقول: فليس عليهنّ حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهنّ، يعني جلابيبهنّ، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، لا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال، وغير المحارم من الغرباء غير متبرجات بزينة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) وهي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عنها الجلباب ما لم تتبرّج لما يكره الله وهو قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ثُمَّ قَالَ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ).
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) يعني الجلباب، وهو القناع، وهذا للكبيرة التي قد قعدت عن الولد، فلا يضرّها أن لا تجلبب فوق الخمار. وأما كلّ امرأة مسلمة حرّة، فعليها إذا بلغت المحيض أن تدني الجلباب على الخمار، وقال الله في سورة الأحزاب (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) وكان بالمدينة رجال من المنافقين إذا مرت بهم امرأة سيئة الهيئة والزيّ، حسب المنافقون أنها مزنية وأنها من بغيتهم، فكانوا يؤذون المؤمنات بالرفث ولا يعلمون الحرّة من الأمة، فأنزل الله في ذلك (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) يقول: إذا كان زيهنّ حسنا لم يطمع فيهن المنافقون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، في قوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) التي قعدت من الولد وكبرت. قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: (اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) قال: لا يُردنه (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: جلابيبهنّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ذرّ، عن أبي وائل، عن عبد الله، في قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: الجلباب أو الرداء، شكّ سفيان.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: الرداء.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله في هذه الآية (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: هي الملحفة.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت أبا وائل قال: سمعت عبد الله يقول في هذه الآية (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: الجلباب.
حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: أخبرني الحكم، عن أبي وائل، عن عبد الله، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، في قوله: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قال: هو الرداء.
قال الحسن، قال: عبد الرزاق، قال الثوري: وأخبرني أبو حصين وسالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، قال: هو الرداء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قال: تضع الجلباب المرأة التي قد عجزت ولم تزوّج. قال الشعبيّ: فإن أُبيّ بن كعب يقرأ "أنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: قلت لابن أبي نجيح، قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قال: الجلباب، قال يعقوب:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) قال: جلابيبهنَّ.
وقوله: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) يقول: ليس عليهنّ جناح في وضع أرديتهنّ إذا لم يردن بوضع ذلك عنهنّ أن يبدين ما عليهنّ من الزينة للرجال. والتبرّج: هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره.
وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) يقول: وإن تعففن عن وضع جلابيبهنّ وأرديتهنّ، فيلبسنها خير لهنّ من أن يضعنها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) قال: أن يلبسن جلابيبهنّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبيّ (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) قال: ترك ذلك، يعني: ترك وضع الثياب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) والاستعفاف: لبس الخمار على رأسها، كان أبي يقول هذا كله (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) ما تنطقون بألسنتكم (عليم) بما تضمره صدوركم، فاتقوه أن تنطقوا بألسنتكم ما قد نهاكم عن أن تنطقوا بها، أو تضمروا في صدوركم ما قد كرهه لكم، فتستوجبوا بذلك منه عقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هذه الآية في المعنى الذي أنزلت فيه، فقال بعضهم: أنزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين في الأكل مع العميان والعرجان والمرضى وأهل الزمانة من طعامهم، من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم من طعامهم، خشية أن يكونوا قد أتوا بأكلهم معهم من طعامهم شيئًا مما نهاهم الله عنه بقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا) من بيوتكم... إلى قوله: (أَوْ أَشْتَاتًا) وذلك لما أنزل الله (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) فقال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام من أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله بعد ذلك (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ)... إلى قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ).
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ)... الآية، كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبيّ ﷺ لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض، فقال بعضهم: إنما كان بهم التقذّر والتقزّز. وقال بعضهم: المريض لا يستوفي الطعام، كما يستوفي الصحيح والأعرج المنحبس، لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والأعمى لا يبصر طيب الطعام، فأنزل الله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) حرج في مؤاكلة المريض والأعمى والأعرج، فمعنى الكلام على تأويل هؤلاء: ليس عليكم أيها الناس في الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه، ولا في الأعرج حرج، ولا في المريض حرج، ولا في أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم، فوجّهوا معنى "على" في هذا الموضع إلى معنى "في".
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية، لأن قوما كانوا من أصحاب رسول الله ﷺ إذا لم يكن
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) قال: كان رجال زمنى. قال ابن عمرو في حديثه: عميان وعرجان. وقال الحارث: عمي عرج أولوا حاجة، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم، فإن لم يجدوا طعاما ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم، ومن عدّد منهم من البيوت، فكره ذلك المستتبعون، فأنزل الله في ذلك (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) وأحلّ لهم الطعام حيث وجدوه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان الرجل يذهب بالأعمى والمريض والأعرج إلى بيت أبيه، أو إلى بيت أخيه، أو عمه، أو خاله، أو خالته، فكان الزمني يتحرّجون من ذلك، يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، نحو حديث ابن عمرو، عن أبي عاصم.
وقال آخرون: بل نزلت ترخيصا لأهل الزمانة الذين وصفهم الله في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من خلَّفهم في بيوته من الغزاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: قلت للزهري، في قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ) ما بال الأعمى ذكر هاهنا، والأعرج والمريض؟ فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرّجون من ذلك، يقولون: لا ندخلها وهم غُيَّب، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.
وقال آخرون: بل عنى بقوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، قالوا: وقوله: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) كلام منقطع عما قبله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) قال: هذا في الجهاد في سبيل الله، وفي قوله: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ)... إلى قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) قال: هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في الأوّل، لم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو جائع، فسوّغه الله أن يأكله. قال: وقد ذهب ذلك اليوم، البيوت اليوم فيها أهلها، وإذا خرجوا أغلقوها، فقد ذهب ذلك.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين الذين كانوا يتقون مؤاكلة أهل الزمانة في مؤاكلتهم إذا شاءوا ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن مِقْسم، في قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ) قال: كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج، فنزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا).
واختلفوا أيضا في معنى قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) فقال بعضهم: عني بذلك: وكيل الرجل وقيمه، أنه لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته، فرخص الله له أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن.
وقال آخرون: بل عُني بذلك: منزل الرجل نفسه أنه لا بأس عليه أن يأكل.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) يعني: بيت أحدهم، فإنه يملكه، والعبيد منهم مما ملكوا.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة، في قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) مما تحبون يا ابن آدم.
وأشبه الأقوال التي ذكرنا في تأويل قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ)... إلى قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) القول الذي ذكرنا عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، وذلك أن أظهر معاني قوله: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ) أنه لا حرج على هؤلاء الذين سموا في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من ذكره الله فيها، على ما أباح لهم من الأكل منها؛ فإذ كان ذلك أظهر معانيه فتوجيه معناه إلى الأغلب الأعرف من معانيه أولى من توجيهه إلى الأنكر منها. فإذ كان ذلك كذلك؛ كان ما خالف من التأويل قول من قال: معناه: ليس في الأعمى والأعرج حرج أولى بالصواب. وكذلك أيضا الأغلب من تأويل قوله: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أنه بمعنى: ولا عليكم أيها الناس، ثم جمع هؤلاء والزَّمنَى الذين ذكرهم قبل في الخطاب، فقال: أن تأكلوا من بيوت أنفسكم، وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب غلبت المخاطب، فقالت: أنت وأخوك قمتما، وأنت وزيد جلستما، ولا تقول: أنت وأخوك جلسا، وكذلك قوله: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) والخبر عن الأعمى والأعرج والمريض غلب المخاطب، فقال: أن تأكلوا، ولم يقل: أن يأكلوا.
فإن قال قائل: فهذا الأكل من بيوتهم قد علمناه، كان لهم حلالا إذ كان ملكا لهم، أو كان أيضا حلالا لهم الأكل من مال غيرهم. قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما توهمت، ولكنه كما ذكرناه عن عبيد الله بن عبد الله، أنهم كانوا إذا غابوا في مغازيهم، وتخلف أهل الزمانة منهم، دفع الغازي مفتاح مسكنه إلى المتخلف منهم، فأطلق له في الأكل مما يخلف في منزله من الطعام، فكان المتخلفون يتخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب، فأعلمه الله أنه لا حرج عليه في الأكل منه، وأذن لهم في أكله فإذ كان ذلك كذلك تبين أن لا معنى لقول من قال: إنما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة المستتبع أكل طعام غير المستتبع، لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك، لقيل: ليس عليكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم، أو من طعام آباء من دعاكم، ولم يقل: أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم، وكذلك لا وجه لقول من قال: معنى ذلك: ليس على الأعمى حرج في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، لأن قوله: (أَنْ تَأْكُلُوا) خبر ليس، وأن في موضع نصب على أنها خبر لها، فهي متعلقة
وكان قَتادة يتأوّل في قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) ما حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة (أَوْ صَدِيقِكُمْ) فلو أكلت من بيت صديقك من غير أمره، لم يكن بذلك بأس، قال معمر: قلت لقتادة: أو لا أشرب من هذا الحُبّ؟ قال: أنت لي صديق.
وأما قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: كان الغنيّ من الناس يتخوّف أن يأكل مع الفقير، فرخص لهم في الأكل معهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) قال: كان الغنيّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصديقه، فيدعوه إلى طعامه ليأكل معه، فيقول: والله إني لأجنح أن آكل معك، والجنح: الحرج وأنا غنيّ وأنت فقير، ، فأمروا أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا.
وقال آخرون: بل عني بذلك حيّ من أحياء العرب، كانوا لا يأكل أحدهم وحده، ولا يأكل إلا مع غيره، فأذن الله لهم أن يأكل من شاء منهم وحده، ومن شاء منهم مع غيره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: كانوا يأنفون ويتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، حتى يكون معه غيره،
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: كانت بنو كنانة يستحي الرجل منهم أن يأكل وحده، حتى نزلت هذه الآية.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: كانوا لا يأكلون إلا جميعا، ولا يأكلون متفرّقين، وكان ذلك فيهم دينا، فأنزل الله: ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى، وليس عليكم حرج أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) قال: كان من العرب من لا يأكل أبدا جميعا، ومنهم من لا يأكل إلا جميعا. فقال الله ذلك.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، قال: نزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) في حيّ من العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده، كان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكله معه قال: وأحسب أنه ذكر أنهم من كنانة.
وقال آخرون: بل عُني بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن عمران بن سليمان، عن أبي صالح وعكرمة، قالا كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فرخص لهم، قال الله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا).
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وضع الحرج عن المسلمين أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا، أو أشتاتا متفرّقين إذا أرادوا، وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوّف من الأغنياء الأكل مع الفقير، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يطعمون وحدانا، وبسبب غير ذلك، ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه، والصواب التسليم لما دلّ عليه ظاهر التنزيل، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل.
وقوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) اختلف أهل
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قالا بيتك، إذا دخلته فقل: سلام عليكم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: سلم على أهلك، قال ابن جريح: وسُئل عطاء بن أبي رباح: أحقّ على الرجل إذا دخل على أهله أن يسلم عليهم؟ قال: نعم. وقالها عمرو بن دينار، وتلوا: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) قال عطاء بن أبي رباح: ذلك غير مرّة.
قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) قال: ما رأيته إلا يوجبه.
قال ابن جُرَيج، وأخبرني زياد، عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخل أحدكم بيته فليسلم.
قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قلت لعطاء: إذا خرجت أواجب السلام، هل أسلم عليهم؟ فإنما قال: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا) ؟ قال: ما أعلمه واجبا، ولا آثِرُ عن أحد وجوبه ولكن أحبّ إليّ وما أدعه إلا ناسيا.
قال ابن جُرَيج، وقال عمرو بن دينار: لا قال: قلت لعطاء: فإن لم يكن في البيت أحد؟ قال: سلم، قل: السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله، قلت له: قولك هذا إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد عمن تأثره؟ قال: سمعته ولم يؤثر لي عن أحد.
قال ابن جُرَيج، وأخبرني عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: السلام علينا من ربنا، وقال عمرو بن دينار: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
حدثنا أحمد بن عبد الرحيم، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: ثنا صدقة، عن زهير، عن ابن جُرَيج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: إذا دخلت على أهلك
حدثنا محمد بن عباد الرازي، قال: ثنا حجاج بن محمد الأعور، قال: قال لي ابن جُرَيج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول، فذكر مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) يقول: سلموا على أهاليكم إذا دخلتم بيوتكم، وعلى غير أهاليكم، فسلموا إذا دخلتم بيوتهم.
وقال آخرون: بل معناه: فإذا دخلتم المساجد فسلموا على أهلها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن المبارك عن معمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: هي المساجد، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا دخلت بيتك فقل: السلام عليكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين فيها ناس منكم، فليسلم بعضكم على بعض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: ليسلم بعضكم على بعض، كقوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: إذا دخل المسلِّمُ سُلِّم عليه، كمثل قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إنما هو: لا تقتل أخاك المسلم.
وقوله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) قال: يقتل بعضكم بعضا، قريظة والنضير.
وقال آخرون: معناه: فإذا دخلتم بيوتا ليس فيها أحد، فسلموا على أنفسكم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، قال: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا دخلت بيتا فيه ناس من المسلمين وغير المسلمين، فقل مثل ذلك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي سنان، عن ماهان، قال: إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم، قال: تقولوا: السلام علينا من ربنا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة عن منصور، قال شعبة: وسألته عن هذه الآية: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) قال: قال إبراهيم: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشجّ عن نافع أن عبد الله كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد، قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، قال: ثنا منصور، عن إبراهيم: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قال: إذا دخلت بيتا فيه يهود، فقل: السلام عليكم، وإن لم يكن فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال معناه: فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين، فليسلم بعضكم على بعض.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا) ولم يخصصْ من ذلك بيتا دون بيت، وقال: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) يعني: بعضكم على بعض، فكان معلوما إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض، أنه معنيّ به جميعها، مساجدها وغير مساجدها. ومعنى قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) نظير قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). وقوله: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ونصب تحية، بمعنى: تحيون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية، فكأنه قال: فليحيّ بعضكم بعضا تحية من عند الله، وقد كان بعض أهل العربية يقول: إنما نصبت بمعنى: أمركم بها تفعلونها تحية منه، ووصف جلّ ثناؤه هذه التحية المباركة الطيبة لما فيها من الأجر الجزيل والثواب العظيم.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ) يقول تعالى ذكره: هكذا يفصل الله لكم
يقول تعالى ذكره: ما المؤمنون حقّ الإيمان، إلا الذين صدقوا الله ورسوله (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ) يقول: وإذا كانوا مع رسول الله ﷺ (عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) يقول: على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر نزل (لَمْ يَذْهَبُوا) يقول: لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر، حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) يقول: إذا كان أمر طاعة لله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس: قوله: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) قال: أمر من طاعة الله عامّ.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، قال: سأل مكحولا الشامي إنسان وأنا أسمع، ومكحول جالس مع عطاء عن قول الله في هذه الآية (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) فقال مكحول: في يوم الجمعة، وفي زحف، وفي كلّ أمر جامع، قد أمر أن لا يذهب أحد في يوم جمعة حتى يستأذن الإمام، وكذلك في كل جامع، ألا ترى أنه يقول: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ).
حدثني يعقوب، قال: ثني ابن علية، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن الحسن، قال: كان الرجل إذا كانت له حاجة والإمام يخطب، قام فأمسك بأنفه، فأشار إليه الإمام أن
حدثني الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، في قوله: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) قال: هو الجمعة إذا كانوا معه لم يذهبوا حتى يستأذنوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) قال: الأمر الجامع حين يكونوا معه في جماعة الحرب أو جمعة، قال: والجمعة من الأمر الجامع لا ينبغي لأحد أن يخرج إذا قعد الإمام على المنبر يوم الجمعة إلا بإذن سلطان، إذا كان حيث يراه أو يقدر عليه، ولا يخرج إلا بإذن، وإذا كان حيث لا يراه ولا يقدر عليه، ولا يصل إليه، فالله أولى بالعذر.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) يقول تعالى ذكره: إن الذين لا ينصرفون يا محمد إذا كانوا معك في أمر جامع عنك إلا بإذنك لهم طاعة منهم لله ولك، وتصديقا بما أتيتهم به من عندي، أولئك الذين يصدقون الله ورسوله حقا، لا من يخالف أمر الله وأمر رسوله، فينصرف عنك بغير إذن منك له، بعد تقدّمك إليه أن لا ينصرف عنك إلا بإذنك. وقوله: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) يقول تعالى ذكره: فإذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لبعض شأنهم، يعني: لبعض حاجاتهم التي تعرض لهم، فأذن لمن شئت منهم في الانصراف عنك لقضائها (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يقول: وادع الله لهم بأن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لذنوب عباده التائبين، (رحيم) بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (لا تَجْعَلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا).
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: نهى الله بهذه الآية المؤمنين أن يتعرضوا لدعاء الرسول عليهم، وقال لهم: اتقوا دعاءه عليكم، بأن تفعلوا ما يسخطه، فيدعو لذلك عليكم فتهلكوا، فلا تجعلوا دعاءه كدعاء غيره من الناس، فإن دعاءه موجبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) دعوة الرسول عليكم موجبة، فاحذروها.
وقال آخرون: بل ذلك نهي من الله أن يدعوا رسول الله ﷺ بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) قال: أمرهم أن يدعوا: يا رسول الله، في لين وتواضع، ولا يقولوا: يا محمد، في تجهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد مثله، (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) قال: أمرهم أن يدعوه: يا رسول الله، في لين وتواضع.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) قال: أمرهم أن يفخِّموه ويشرّفوه.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله ابن عباس، وذلك أن الذي قبل قوله: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) نهي من الله المؤمنين أن يأتوا من الانصراف عنه في الأمر الذي يجمع جميعهم ما يكرهه، والذي بعده وعيد للمنصرفين بغير إذنه عنه، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه أن يضطّره إلى الدعاء عليهم أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن جُويبر، عن الضحاك، في قول الله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) قال: كانوا يستتر بعضهم ببعض، فيقومون، فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) قال: يطبع على قلبه، فلا يأمن أن يظهر الكفر بلسانه فتُضرب عنقه.
حدثنا ابن القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) قال: خلافا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قَال ابن زيد، في قوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) قال: هؤلاء المنافقون الذين يرجعون بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: اللواذ: يلوذ عنه، ويروغ ويذهب بغير إذن النبيّ ﷺ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) الذين يصنعون هذا أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم. الفتنة هاهنا: الكفر، واللواذ: مصدر لاوذت بفلان ملاوذة ولواذا، ولذلك ظهرت الواو، ولو كان مصدرا للذتُ لقيل: لياذا، كما يقال: قمت قياما، وإذا قيل: قاومتك، قيل: قواما طويلا. واللواذ: هو أن يلوذ القوم بعضهم ببعض، يستتر هذا بهذا، وهذا بهذا، كما قال الضحاك.
وقوله: (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: أو يصيبهم في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع، على صنيعهم ذلك، وخلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) وأدخلت "عن "؛ لأن معنى الكلام: فليحذر الذين يلوذون عن أمره، ويدبرون عنه معرضين.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
يقول تعالى ذكره: ألا إن لله ملك جميع السماوات والأرض: يقول: فلا ينبغي لمملوك أن يخالف أمر مالكه فيعصيه، فيستوجب بذلك عقوبته، يقول: فكذلك أنتم أيها الناس لا يصلح لكم خلاف ربكم الذي هو مالككم فأطيعوه، وأتمروا لأمره، ولا تنصرفوا عن رسوله إذا كنتم معه على أمر جامع إلا بإذنه.
وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم من ذلك، كما حدثني أيضا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) صنيعكم هذا أيضا (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يقول: ويوم يرجع إلى الله الذين يخالفون عن أمره (فينبئهم) يقول: فيخبرهم حينئذ، (بِمَا عَمِلُوا) في الدنيا، ثم يجازيهم على ما أسلفوا فيها، من خلافهم على ربهم (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول: والله ذو علم بكل شيء عملتموه أنتم وغيركم وغير ذلك من الأمور، لا يخفى عليه شيء، بل هو محيط بذلك كله، وهو موفٍّ كلّ عامل منكم أجر عمله يوم ترجعون إليه.
آخر تفسير سورة النور.