تفسير سورة الحديد

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿سَبَّحَ للَّهِ﴾ نزَّه الله ومجَّده وقدَّسه ﴿العزيز﴾ القوي الغالب على كلي شيء ﴿الأول﴾ السابق على جميع الموجودات ﴿الآخر﴾ الباقي بعد فنائها ﴿يَلِجُ﴾ يدخل ﴿يَعْرُجُ﴾ يصعد ﴿الظاهر﴾ بوجوده ومصنوعاته وآثاره ﴿الباطن﴾ بكنه ذاته عن إِدارك الأبصار له ﴿الحسنى﴾ المثوبة الحسنة والمراد بها الجنة ﴿انظرونا﴾ انتظرونا ﴿نَقْتَبِسْ﴾ نستضيء ونهتدي بنوركم ﴿سُورٍ﴾ حاجز بين الجننة والنار ﴿الغرور﴾ الشيطان وكل من خدع غيره فهو غار وغرور.
301
التفسِير: ﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ أي مجَّد اللهَ ونزَّهه عن السوء كلُّ ما في الكون من إِنسان، وحيوان، ونبات قال الصاوي: والتسبيحُ تنزيهُ المولى عن كل ما لا يليق به قولاً، وفعلاً، واعتقاداً، من سبح في الأرض والماءِ إِذا ذهب وأبعد فيهما، وتسبيحُ العقلاء بلسان المقال، وتسبيح الجماد بلسان الحال أي أن ذاتها دالة على تنزيه صانعها عن كل نقص، وقيل بلسان المقال أيضاً ﴿ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإِسراء: ٤٤] وقال الخازن: تسبيحُ العقلاء تنزيهُ الله عَزَّ وَجَلَّ عن كل سوء، وعما لا يليق بجلاله، وتسبيحُ غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه، فقيل: تسبيحه دلالته على صانعه، فكأنه ناطق بتسبيحه، وقيل: تسبيحه بالقول يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإِسراء: ٤٤] أي قولهم، والحقُّ ألأن التسبيح هو القولُ الذي لا يصدر إِلا من العاقل العارف بالله تعالى، وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان: أحدهما: أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني: أن جميع الموجودات بأسرها منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن حملنا التسبيح على القول كان المراد بقوله ﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ الملائكةُ والمؤمنون العارفون بالله، وإِن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي، فجميع أجزاء السموات وما فيها من شمس، وقمر، ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبالٍ، وبحار، وشجر، ودواب وغير ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله، منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن قيل: قد جاء في بعض فواتح السور ﴿سَبَّحَ للَّهِ﴾ بلفظ الماضي، وفي بعضها ﴿يُسَّبح للهِ﴾ بلفظ المضارع فما المراد؟ قلت: فيه إشارة إلى كون جميع الأشياء مسبحاً لله أبداً، غير مختص بوقت دون وقت، بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي وهو الغالب على أمره الذي لا يمانعه ولا ينازعه شيء، الحكيمُ في أفعاله الذي لا يفعل إِلا تقتضيه الحكمة والمصلحة.. ثم ذكر تعالى عظمته وقدرته فقال ﴿لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي هو جلا وعلا المالك المتصرف في خلقه، يحيي من يشاء، ويُميت من يشاء قال القرطبي: يميتُ الأحياء في الدنيا، ويحيي الأموات للبعث والنشور ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولفظُ ﴿قَدِيرٌ﴾ مبالغة في القادر لأن «فعيل» من صيغ المبالغة ﴿هُوَ الأول والآخر﴾ أي ليس لوجوده بداية، ولا لبقائه نهاية ﴿والظاهر والباطن﴾ أي الظاهرُ للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده، الباطنُ الذي لا تدركه الأبصار، ولا تصلُ العقول إِلى معرفة كنه ذاته وفي الحديث
«أنت الأولُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» قال شيخ زاده: وقد فسَّر صاحب الكشاف «الباطن» بأنه غير المدرك بالحواسِ وهو تفسير بحسب التشهي يؤيد مذهبه من استحالة رؤية الله في الآخرة، والحقُّ أنه تعالى ظاهرٌ بوجوده،
302
باطنٌ بكنهه، وأنه تعالى جامعٌ بين الوصفين أزلاًَ وأبداً ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي هو تعالى عالمٌ بكل ذرةٍ في الكون، لا يعزب عن عمله شيء في الأرض ولا في السماء ﴿هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أي خلقهما في مقدار ستة أيام ولو شاء لخلقهما بلمح البصر، وهو تحقيقٌ لعزته، وكمال قدرته، كما أن قوله ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض﴾ تحقيق لحكمته، وكمال علمه ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ استواءً يليق بجلاله من غير تمثيلٍ ولا تكييفٍ ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ أي يعلم ما يدخل في الأرض من مطر وأموات، وما يخرج منها من معادن ونبات وغير ذلك ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ أي وما ينزل من السماء من الأرزاق، والملائكة، والرحمة، والعذاب، وما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة كقوله ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ [فاطر: ١٠] ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ أي هو جل وعلا حاضرٌ مع كل أحدٍ بعلمه وإِحاطته قال ابن عباس: هو عالمٌ بكم أينما كنتم قال ابن كثير: أي هو رقيبٌ عليكم، شهيدٌ على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم، من برٍّ وبحر، في ليلٍ أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، يسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سرَّكم ونجواكم ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي رقيب على أعمال العباد، مطلع علىك ل صغيرة وكبيرة ﴿لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ كرره للتأكيد والتمهيد لإِثبات الحشر والنشر أي هو المعبود على الحقيقة، المتصرف في الخلق كيف يشاء ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي إِليه وحده مرجع أمور الخلائق في الآخرة فيجازيهم على أعمالهم ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ أي هو المتصرف في الكون كيف يشاء، يقلِّب الليل والنهار بحكمته وتقديره، ويدخل كلاً منهما في الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وأُخرى بالعكس ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي هو العالم بالسرائر والضمائر، وما فيها من النوايا والخفايا، ومن كانت هذه صفته فلا يجوز أن يُعبد سواه.
. ثم لما ذكر دلائل عظمته وقدرته، أمر بتوحيده وطاعته فقال ﴿آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي صدِّقوا بأن الله واحد وأن محمداً عبده ورسوله ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ أي وتصدّقوا من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف ليها، فهي في الحقيقة لله لا لكم قال في التسهيل: يعني أن الأموال التي بأيديكم إنماهي أموال الله لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء فلا تمنعوها من الإِنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، والمقصود التحريضُ على
303
الإِنفاق والتزهيد في الدنيا ولهذا قال بعده ﴿فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ أي فالذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والإِنفاق في سبيل الله ابتغاء وجهه الكريم لهم أجر عظيم وهو الجننة قال أبو السعود: وفي الآية من المبالغات ما لا يخفى، حيث جعل الجملة اسمية ﴿فالذين آمَنُواْ﴾ وأعيد ذكرُ الإِيمان والإِنفاق ﴿آمَنُواْ وَأَنفَقُواْ﴾ وكرر الإِسناد ﴿لَهُمْ﴾ وفخَّم الأجر بالتنكير ووصفه بالكبير ﴿لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله﴾ استفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيُّ عذرٍ لكم في ترك الإِيمان بالله؟ ﴿والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ﴾ أي والحالُ أن الرسول صلى الل عليه وسلم يدعوكم للإِيمان بربكم وخالقكم، بالبراهين القاطعة، والحجج الدامغة ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ أي وقد أخذ الله ميثاقكم وهو العهد المؤكد بما ركز في العقول من الأدلة الدالة على وجود الله قال أبو السعود: وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقال الخازن: أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم وأعلمكم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل: أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ شرطٌ حذف جوابه أي إِن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات فالآن أحرى الأوقات لقيام الحجج والبراهين عليكم.. ثم ذكر تعالى بعض الأدلة الدالة على وجوب الإيمان فقال ﴿هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي هو تعالى الذي ينزّل على محمد القرآن العظيم، المعجز في بيانه، الواضح في أحكامه قال القرطبي: يريد بالآيات البينات القرآن وقيل: المعجزات أي لزمكم الإِيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما معه من المعجزات، والقرآنُ أكبرها وأعظمها ﴿لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أي ليخرجكم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان ﴿وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي مبالغ في الرأفة والرحمة بكم، حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لهدايتكم، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض﴾ ؟ أيْ أيُّ شيءٍ يمنعكم من الإِنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون وتخلّفون أموالكم وهي صائرة إِلى الله تعالى؟ قال الإِمام الفخر: المعنى إِنكم ستموتون فتورثون، فهلاَّ قدمتموه في الإِنفاق في طاعة الله!! وهذا من أبلغ الحث على الإِنفاق في سبيل الله ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ﴾ أي لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل الأعداء مع رسول الله قبل فتح مكة، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة قال المفسرون: وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الإِسلام إِلى الجهاد والإِنفاق كانت أشد، ثم أعز الله الإِسلام بعد الفتح وكثَّر ناصريه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ﴿أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ﴾ أي أعظم أجراً، وأرفع منزلة من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا لإِعلاء كلمة الله قال الكلبي: نزلت في «أبي بكر» لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، وذبَّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ أي وكلاً ممن آمن وأنفق قبل الفتح، ومن آمن وأنفق بعد الفتح،
304
وعده الله الجنة مع تفاوت الدرجات ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي عالمٌ بأعمالكم، مطلع على خفاياكم ونواياكم، ومجازيكم عليه، وفي الآية وعدٌ ووعيد ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ابتغاء رضوانه ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ أي يعطيه أجره على إنفاقه مضاعافً ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ أي وله مع المضاعفة ثواب عظيم كريم وهو الجننة قال ابن كثير: أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة، ولما نزلت هذه الآية قال
«ابو الدحداح الأنصاري» يا رسول الله: وإنَّ الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإِني قد أقرضت ربي حائطي أي بستاني وله في ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه هي وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال اخرجي فقد أقرضته ربي عَزَّ وَجَلَّ، فقالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها «. ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الأبرار، وما يتقدمهم من الأنوار وهم على الصراط فقال ﴿يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ أي اذكر يوم ترى أنوار المؤمنين والمؤمنات تتلألأ من أمامهم ومن جميع جهاتهم ليستضيئوا بها على الصراط، وتكون وجوههم مضيئة كإِضاءة القمر في سواد الليل ﴿بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي ويقا لهم: أبشروا اليوم بجنات الخلد والنعيم، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي ماكثين فيها أبداً ﴿ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ أي الفوز الذي لا فوز بعده لأنه سبب السعادة الأبدية، روي أن نور كل أحدٍ على قدر إِيمانه، وأنهم متفاوتون في النور، فمنهم من يضيء نوره ما قرب من قدميه، ومنهم من يُطفأ نوره مرة ويظهر مرة قال الزمخشري: وإِنما قال ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم.
. ولما شرح حال المؤمنين يوم القيامة، أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال ﴿يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ أي انتظرونا لنستضيء من نوركم قال المفسرون: إن الله تعالى يعطي المؤمنين نوراً يوم القيامة على قد أعمالهم يمشون به على الصراط، ويترك الكافرين والمنافقين بلا نور، فيستضيء المنافقون بنور المؤمنين، فبينما هم يمشون إِذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة، فبقوا في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم فيقولون للمؤمنين: انتظرونا لنستضيء بنوركم ﴿قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً﴾ أي فيقول لهم المؤمنون سخريةً واستهزاءً بهم: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هناك قال أبو حيان: وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو إِقناطٌ لهم ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ﴾ أي فضرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجزٍ له باب، يحجز بين أهل الجنة وأهل النار ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب﴾ أي في باطن السور الذي هو جهة المؤمنين الرحمةُ وهي الجنة، وفي ظاهره وهو جهة الكافرين العذاب وهو النارُ قال ابن كثير: هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإِذا انتهى إليه المؤمنون دخوله من بابه، فإِذا استكملوا دخولهم أعلق الباب
305
وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ أي ينادي المنافقون المؤمنين: ألم نكن معكم في الدنيا، نصلي كما تصلون، ونصوم كما تصومون، ونحضر الجمعة والجماعات، ونقاتل معكم في الغزوات؟ ﴿قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ أي قال لهم المؤمنون: نعم كنتم معنا في الظاهر ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ انتظرتم بالمؤمنين الدوائر ﴿وارتبتم﴾ أي شككتم في أمر الدين ﴿وَغرَّتْكُمُ الأماني﴾ أي خدعتكم الأماني الفارغة بسعة رحمة الله ﴿حتى جَآءَ أَمْرُ الله﴾ أي حتى جاءكم الموتُ ﴿وَغَرَّكُم بالله الغرور﴾ أي وخدعكم الشيطان الماكر بقوله: إن الله عفو كريم لا يعذبكم قال قتادة: ما زالوا على خُدعةٍ من الشيطان حتى قذفهم الله في نار جهنم قال المفسرون: الغرور بفتح الغين الشيطان لأنه يغر ويخدع الإنسان قال تعالى ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً﴾ [فاطر: ٥٦] ﴿فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي ففي هذا اليوم العصيب لا يقبل منكم بدلٌ ولا عوضٌ يا معشر المنافقين، ولا من الكفارين الجاحدين بالله وآيات وفي الحديث «إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟! فيقول: نعم يا ربّ، فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو ايسرُ من ذلك في ظهر أبيك آدم، أن لا تشرك بي فأبيتَ إلا الشرك» ﴿مَأْوَاكُمُ النار﴾ أي مقامكم ومنزلكم نار جهنم ﴿هِيَ مَوْلاَكُمْ﴾ أي هو عونكم وسندكم وناصركم لا ناصر لكم غيرها، وهو تهكم بهم ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي وبئس المرجع والمنقلب نار جهنم.
قال بعض العلماء: «السعيد من لا يغتر بالطمع ولا يركن إِلى الخدع، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل».
306
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى اغترار المنافقين والكافرين بالحياة الدنيا، نبَّه المؤمنين ألا يكومنوا مثلهم، أو مثل مأهل الكتاب بالاغترار بدار الفناء، ثم ضرب مثلاً للحاية الدنيا وبهرجها الخادع الكاذب، وختتم السورة الكريمة ببيان فضيلة التقوى والعمل الصالح، وأرشد المؤمنين إلى مضاعفة الأجر والنور باتباعهم هدي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
اللغَة: ﴿يَأْنِ﴾ يحن يقال: أني يأْني مثل رمى يرمي أي حال، قال الشاعر:
ألم يأنِ لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يُحدث الشيب المبينُ لنا عقلاً
﴿تَخْشَعَ﴾ تذل وتلين ﴿الأمد﴾ الأجل أو الزمان ﴿يَهِيجُ﴾ هاج الزرع إِذا جف ويبس بعد خضرته ونضارته ﴿حُطَاماً﴾ فُتاتاً يتلاشى بالرياح ﴿قَفَّيْنَا﴾ ألحقنا وأتبعنا ﴿كِفْلَيْنِ﴾ مثنى كقل وهو النصيب.
سَبَبُ النّزول: لما قدم المؤمنون المدينة، أصابوا من لين العيش وفاهيته، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزلت هذه الآية ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله﴾ قال ابن مسعود: «ما كان إِسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إِلا أربع سنوات».
التفسِير: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله﴾ أي أما حان للمؤمنين أن ترقَّ
307
قلوبهم وتلين لمواعظ الله؟ ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق﴾ أي ولما نزل من آيات القرآن المبين؟ ﴿وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ﴾ أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي فطال عليهم الزمن الذي بينهم وبين أنبيائهم، حتى صلبت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة قال ابن عباس: ﴿قست قلوبهم﴾ مالوا إِلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن وقال أبو حيان: أي صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعمة والغرض أن الله يحذِّر المؤمنين أن يكونوا مع القرآن كاليهود والنصارى حين قست قلوبهم لما طال عليهم الزمان ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي وكثير من أهل الكتاب خارجون عن طاعة الله، رافضون لتعليم دينهم، من فرط قسوة القلب قال ابن كثير: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الزمن بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، ونبذوه وراء ظهروهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد ﴿اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي اعلموا يا معشر المؤمنين أن الله يحيي الأرض القاحلة المجدبة بالمطر، ويخرج منها النبات بعد يبسها، وهو تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر وتلاوة القرآن، كما تحيا الأرض المجدبة بالغيث الهتان قال ابن عباس: يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتةً منيبة، وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة قال في البحر: ويظهر أنه تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها، فكما يؤثر الغيب في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلةً يظهر فيها أثر الخشوع والطاعات ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات﴾ أي وضحنا لكم الحجج والبراهين الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي لكي تعقلوا وتتدبروا ما أنزل الله في القرآن ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ أي الذين تصدقوا بأموالهم على الفقراء ابتغاء وجه الله، والذين أنفقوا في سبيل الله وفي وجوه البر والإِحسان طيبة بها نفوسهم ﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ أي يضاعف لهم ثوابهم بأن تكتب الحسنة بعشر أمثالها، ولهم فوق ذلك ثواب حسن جزيل وهو الجنة قال المفسرون: أصل ﴿المصدقين﴾ المتصدقين أدغمت التاء في الصاد فصارت المصدّقين، ومعنى القرض الحسن هو التصدق عن طيب النفس، وخلوص النية للفقير، فكأن الإِنسان بإِحسانه إِلى الفقير قد أقرض اللهَ قرضاً يستحق عليه الوفاء في دار الجزاء ﴿والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ﴾ أي صدَّقوا بوحدانية الله ووجوده، وآمنوا برسله إِيماناً راسخاً كاملاً، لا يخالجه شك ولا ارتياب ﴿أولئك هُمُ الصديقون والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي أولئك الموصوفون بالإِيمان بالله ورسله، هم الذين جمعوا أعلى المراتب فحازوا درجة الصديقية والشهادة في سبيل الله قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صدِّيقٌ وشهيد ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ أي لهم في الآخرة الثواب الجزيل، والنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾ أي والذين
308
جحدوا بوحدانية الله وكذبوا بآياته أولئك هم المخلدون في دار الجحيم قال البيضاوي: فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، ومن حيث أن الصيغة تشعر بالاختصاص ﴿أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾ والصحبة تدل على الملازمة.
. ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين، ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخر فقال ﴿اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ﴾ أي اعلموا يا معشر السامعين أن هذه الحياة الدنيا ما هي إِلا لعبٌ يُتعب الناس فيها أنفسهم كإِتعاب الصبيان أنفسهم باللعب ﴿وَلَهْوٌ﴾ أي وشغل للإِنسان يشغله عن الآخرة وطاعة الله ﴿وَزِينَةٌ﴾ أي وزينة يتزين بها الجهلاء كالملابس الحسنة، والمراكب البهية، والمنازل الرفيعة ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ أي ومباهاة وافتخار بالأحساب والأنساب والمال والولد كما قال القائل:
أرى أهل القُصور إِذا أُميتوا بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إِلا مباهاةً وفخراً على الفقراء حتى في القبور
﴿وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد﴾ أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد قال ابن عباس: يجمع المال من سخط الله، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلماتٌ بعضها فوق بعض ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ﴾ أي كمثل مطرٍ غزير أصاب أرضاً، فأعجب الزُرَّاع نباتُه الناشىء عنه ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾ أي ثم ييبس بعد خضرته ونُضرته فتراه مصفر اللون بعد أن كان زاهياً ناضراً ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً﴾ أي ثم يتحطم ويتكسر بعد يبسه وجفافه فيصبح هشيماً تذره الرياح كذلك حال الدنيا قال القرطبي: والمراد بالكفار هنا الزُرَّاع لأنهم يغطون البذر، ومعنى الآية أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إِليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيماً كأن لم يكن، وإِذا أعجب الزراع فهو في غاية الحسن ﴿وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ﴾ أي والجزاء في الآخرة إِما عذاب شديد للفجار، وإِما مغفرة من الله ورضوانٌ للأبرار ﴿وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور﴾ أي وليست الحياة الدنيا في حقارتها وسرعة انقضائها إِلا متاعٌ زائل، ينخدع بها الغافل، ويغتبر بها الجاهل قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغُرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إِذا دعتك إِلى طلب رضوا الله وطلب الآخرة، فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
. ولما حقَّر الدنيا وصغَّر أمرها، وعظَّم الآخرة وفخَّم شأنها، حثَّ على المساعة إِلى نيل مرضاة الله، التي هي سبب للسعادة الأبدية في دار الخلود والجزاء فقال ﴿سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي تسابقوا أيها الناس وسارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم قال أبو حيان: وجاء التعبير بلفظ ﴿سابقوا﴾ كأنهم في ميدان سباق يجرون إِلى غاية مسابقين إِليها، والمعنى سابقوا إلى سبب المغفرة
309
وهو الإِيمان، وعملُ الطاعات ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض﴾ أي وسارعوا إِلى جنةٍ واسعة فسيحة، عرضها كعرض السموات السبع من الأرض مجتمعة قال السدي: إِن اله تعالى شبَّه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها، فذكر الرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك وقال البيضاوي: إِذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ﴾ أي هيأها الله وأعدها للمؤمنين المصدّقين بالله ورسله قال المفسرون: وفي الآية دلالة على أن الجنة مخلوقة وموجودة لأن ما لم يُخلق بعد لا يوصف بأنه أُعدَّ وهُيءَ ﴿ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي ذلك الموعود به من المغفرة والجنة هو طاء الله الواسع، يتفضل به على من يشاء من عبادة من غير إيجاب ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ أي ذو العطاء الواسع والإِحسان الجليل ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض﴾ أي ما يحدث في الأرض مصيبةً من المصائب كقحطٍ، وزلزلةٍ، وعاهة في الزروع، ونقصٍ في الثمار ﴿وَلاَ في أَنفُسِكُمْ﴾ أي من الأمراض، والأوصاب، والفقر، وذهاب الاولاد ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ﴾ أي إِلاَّ ويه مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلقها ونوجدها قال في التسهيل: المعنى أن الأمور كلها مقدَّرة في الأزل، مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل ن تكون، وفي الحديث
«إن الله يكتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء» ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي إن إثبات ذلك على كثرته سهلٌ هيّنٌ على الله عَزَّ وَجَلَّ وإِن كان عسيراً على العباد.. ثم بيَّن تعالى لنا الحكمة في إعلامنا عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر فقال ﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ﴾ أي أثبت وكتب ذلك كي لا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا ﴿وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ﴾ أي ولكي لا تبطروا بما أعطاكم الله من زهرة الدنيا وتعميمها قال المفسرون: والمراد بالحزن الحزنُ الذي يوجب القنوط، وبالفرح الفرحُ الذي يورث الأشر والبطر، ولهذا قال ابن عباس: «ليس من أحدٍ إِلا وهو يحزن ويفرح، ولكنَّ المؤمن يجعل مصيبته صبراً، وغنيمته شكراً» ومعنى الآية: لا تحزنوا حزناً يخرجكم إِلى أن تهلكوا أنفسكم، ولا تفرحوا فرحاً شديداً يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا، ولهذا قال بعض العارفين: «من عرف سرَّ الله في القدر هانت عليه المصائب» وقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ما أصابتني مصيبة إِلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير ﴿وَبَشِّرِ الصابرين الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون﴾ [البقرة: ١٥٥١٥٧] ﴿والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ أي لا يحب كل متكبر معجبٍ بما أعطاه الله من حظوظ الدنيا، فخور به على الناس.. ثم بيَّن تعالى أوصاف هؤلاء المذمومين فقال ﴿الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل﴾ أي يبخلون بالإِنفاق في سبيل الله، ولا يكفيهم ذلك حتى يأمروا الناس بالبخل ويرغبوهم في الإِمساك ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ أي ومن يعرض عن
310
الإِنفاق ﴿فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد﴾ أي فإِن الله مستغنٍ عنه وعن إِنفاقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا يضره الإِعراض عن شكره، ولا تنفعه طاعة الطائعني، وفيه وعيدٌ وتهديد ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات﴾ اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد بعثنا رسلنا بالحجج القواطع والمعجزات البينات ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان﴾ أي وأنزلنا معهم الكتب السماوية التي فيها سعادة البشرية، وأنزلنا القانون الذي يُحكم به بين الناس، وفسَّر بعضهم الميزان بأنه العدلُ وقال ابن زيد: وهو ما يُوزن به ويُتعامل ﴿لِيَقُومَ الناس بالقسط﴾ أي ليقوم الناس بالحق والعدل في معاملاتهم ﴿وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ أي وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد، لأن آلات الحرب تُتخذ منه، كالدروع، والرماح، والتروس، والدبابات وغاير ذلك ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أي وفيه منافع كثير للناس كسكك الحراثة، والسكين، والفأس وغير ذلك وما من صناعةٍ إِلا والحديدُ آلة فيها قال أبو حيان: وعبَّر تعالى عن إيجاده بالإِنزال كما قال
﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦] لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تُلقى من السماء جعل الكل نزولاً منها، وأراد بالحديد جنسه من المعادن قاله الجمهور ﴿وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب﴾ عطفٌ على محذوف مقدر أي وأنزلنا الحديد ليقاتل به المؤمنون أعداءهم ويجاهدوا لإِعلاء كلمة الله، وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة مؤمناً بالغيب قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه، ثم قال تعالى ﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي قادر على الانتقام من أعدائه بنفسه، عزيزٌ أي غالب لا يُغالب فهو غني بقدرته وعزته عن كل أحد قال البيضاوي: أي قويٌ على إِهلاك من أراد إِهلاكه، عزيزٌ لا يفتقر إِلى نصرة أحد، وإِنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا الثواب وقال ابن كثير: معنى الآية أنه جعل الحديد رادعاً لمن أبى الحقَّ وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة ثلاث عشرة سنة تُوحى إِليه السور، ويقارعهم بالحجة والبرهان، فلما قامت الحجة على من خالف أمر الله، شرع الله الهجرة وأمر المؤمنين بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب، ولهذا قال عليه السلام «بُعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي، وجعل الذي والصِّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم» ثم قال تعالى ﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي هو قوي عزيز ينصر من شاء من غير احتياج منه إِلى الناس، وإِنمام شرع الجهاد ليبلو بعضهم ببعض ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب﴾ لما ذكر بعثة الرسل ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام، وأبا الأنبياء إِبراهيم عليه السلام وبيَّن أنه جعل في نسلهما النبوة والكتب السماوية أي وباللهِ لقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم وجعلنا النبوة في نسلهما، كما أنزلنا الكتب الأربعة ويه «التوراة والزبور والإِنجيل والقرآن» على ذريتهما، وإِنما خصَّ نوحاً وإِبراهيم بالذكر تشريفاً لهما وتخليداً لمآثرهما الحميدة ﴿فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي فمن ذرية نوح وإِبراهيم أناس مهتدون، وكثيرٌ منهم عصاٌ خارجون عن الطاعة وعن الطريق المستقيم ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا﴾ أي ثم
311
أتبعنا بعدهم برسلنا الكرام، أرسلناهم رسولاً بعد رسول، موسى، وإِلياس، وداود، وسليمان، ويونس وغيرهم ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ أي وجعلناه بعد أولئك الرسل لأن كان آخر الأنبياء من بني إِسرائيل ﴿وَآتَيْنَاهُ الإنجيل﴾ أي وأنزلنا عليه الإِنجيل الذي فيه البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ أي وجعلنا في قلوب أتباعه الحواريين الشفقة واللين قال في التسهيل: هذا ثناء من اله عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف تعالى أصحاب سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنهم
﴿رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ أي ورهبانيةً ابتدعها القسسُ والرهبان وأحدثوها من تلقاء أنفسهم، ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها قال أبو حيان: والرهبانيةُ رفضُ النساء وشهوات الدنيا، واتخاذ الصوامع ومعنى ﴿ابتدعوها﴾ أي أحدثوها من عند أنفسهم ﴿إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله﴾ أي ما أمرناهم إِلا بما يرضي الله، والاستثناء منقطع والمعنى ما كتبان عليهم الرهبانية، ولكنه فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ أي فما قاموا بها حقَّ القيام، ولا حافظوا عليها كما ينبغي قال ابن كثير: وهذا ذمٌ لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به اللهُ والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي الحديث «لكل أمة رهبانية، ورهبانةي أمتي الجهاد في سبيل الله» ﴿فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ أي فأعطينا الصالحين من أتباع عيسى الذين ثبتوا على العهد وآمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثوابهم مضاعفاً ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله كقوله تعالى ﴿إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [التوبة: ٣٤] ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ﴾ أي يا من صدقتم بالله اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ودوموا واثبتوا على الإِيمان ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ﴾ أي يعطكم ضعفين من رحمته ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ أي ويجعل لكم في الآخرة نوراً تمشون به على الصراط ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ أي ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم المغفرة واسع الرحمة ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله﴾ أي إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بهم، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة فيهم، فلا في قوله ﴿لِّئَلاَّ﴾ زائدة والمعنى ليعلم المفسرون: إن أهل الكتاب كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا، والكتابُ والشرع ليس إِلا لنا، والله خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين، فردَّ الله عليهم بهذه الآية الكريمة ﴿وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي وأن أمر النبوة والهداية والإِيمان بيد الرحمن يعطيه لمن يشاء من خلقه ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ أي والله واسع الفضل والإِحسان.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ -
312
الطباق بين ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ وبين ﴿الأول والآخر﴾ وبين ﴿الظاهر والباطن﴾.
٢ - المقابلة بين ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ وبين ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾
[الحديد: ٤].
٣ - رد العجز على الصدر ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ [الحديد: ٦] وهو وما سبقه من المحسنات البديعية.
٤ - حذف الإِيجاز ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ﴾ [الحديد: ١٠] حذف منه جملة «ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل» وذلك لدلالة الكلام عليه ويسمى هذا الحذف بالإِيجاز.
٥ - الاستعارة اللطيفة ﴿لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [الحديد: ٩] أي ليخرجكم من ظلمات الشرك إِلى نور الإِيمان، فاستعار لفظ ﴿الظلمات﴾ للكفر والضلالة ولفظ ﴿النور﴾ للإِيمان والهداية وقد تقدم.
٦ - الاستعارة التمثيلية ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [الحديد: ١١] مثَّل لمن ينفق ماله ابتغاء وجه الله مخلصاً في عمله بمن يُقرض ربه قرضاً واجب الوفاء بطريق الاستعارة التمثيلية.
٧ - الأسلوب التهكمي ﴿مَأْوَاكُمُ النار هِيَ مَوْلاَكُمْ﴾ [الحديد: ١٥] أي لا ولي لكم ولا ناصر إِلا نار جهنم وهو تهكم بهم.
٨ - المقابلة اللطيفة بين قوله ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة﴾ وقوله ﴿وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب﴾ [الحديد: ١٣].
٩ - التشبيه التمثيلي ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً..﴾ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
١٠ - الجناس الناقصس ﴿أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ لتغير الشكل وبعض الحروف.
١١ - السجع المرصَّع كأنه الدر المنظوم ﴿وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ وقوله تعالى ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب﴾ [الحديد: ١٣] وهو كثير في القرآن.
313
Icon