تفسير سورة الحديد

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة الحديد مكية وهي تسع وعشرون آية

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
﴿سَبَّحَ للَّهِ﴾ جاء في بعض الفواتح سبح بلفظ الماضي وفي بعضها بلفظ المضارع وفي بني إسرائيل بلفظ المصدر وفي الأعلى بلفظ الأمر استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها هي أربع المصدر والماضي والمضارع والأمر وهذا الفعل قد عُدي باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله وتسبحوه وأصله التعدي بنفسه لأن معنى سبحته بعدته من السوء منقول من سبح إذ ذهب وبعد فاللام إما
أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له وإما أن يراد بسبح الله اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً ﴿مَا فِى السماوات والارض﴾ ما يتأتى منه التسبيح ويصح ﴿وَهُوَ العزيز﴾ المنتقم من مكلف لم يسبح له عناداً ﴿الحكيم﴾ في مجازاة من سبح له انقيادا
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢)
﴿لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ لا لغيره وموضع ﴿يحيي﴾ رافع أي هو يحي الموتى ﴿وَيُمِيتُ﴾ الأحياء أو نصب أي له ملك السموات والأرض محيياً ومميتاً ﴿وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير﴾
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)
﴿هُوَ الأول﴾ هو القديم الذي كان قبل كل شيء ﴿والآخر﴾ الذي يبقي
432
بعد هلاك كل شيء ﴿والظاهر﴾ بالأدلة الدالة عليه ﴿والباطن﴾ لكونه غير مدرك بالحواس وإن كان مرئياً والواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فه مستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية وهو في جميعها ظاهر وباطن وقيل الظاهر العالي على كل شيء الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه ﴿وَهُوَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾
433
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)
﴿هُوَ الذى خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ عن الحسن من أيام الدنيا ولو أراد أن يجعلها في طرفة عين لفعل ولكن جعل الستة أصلاً ليكون عليها المدار ﴿ثُمَّ استوى﴾ استولى ﴿عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرض﴾ ما يدخل في الأرض من البذر والقطر والكنوز والموتى ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ من النبات وغيره ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء﴾ من الملائكة والأمطار ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ من الأعمال والدعوات ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ بالعلم والقدرة عموماً وبالفضل والرحمة خصوصاً ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيكم على حسب اعمالكم
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥)
﴿لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦)
﴿يولج الليل فِى النهار﴾ يدخل الليل في النهار بأن ينقص من الليل ويزيد من النهار ﴿ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور﴾
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
﴿آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا﴾ يحتمل الزكاة الانفاق في سبيل الله ﴿مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾
يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله
433
بخلقه وإنشائه لها وإنما مولكم إياها للاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيا فليست هي بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى وليهن عليكم الإنفاق منها كما تهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريئه اياكم وسينقل منكم الى من بعدكم فاعتبرا بحالهم ولا تبخلوا به ﴿فالذين آمنوا﴾ بالله ورسوله ﴿مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾
434
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله﴾ هو حال من معنى الفعل في مَالَكُمْ كما تقول مالك قائماً بمعنى ما تصنع قائماً أي ومالكم كافرين بالله والواو في ﴿والرسول يَدْعُوكُمْ﴾ واو الحال فهما حالان متداخلتان والمعنى وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم ﴿لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم﴾ وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ أو بما ركب فيكم من العقول ومكنكم من النظر في الأدلة فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه أُخِذَ ميثاقكم أبو عمرو
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٩)
﴿هو الذي ينزل على عبده﴾ محمد ﷺ ﴿آيات بَيّنَاتٍ﴾ يعني القرآن ﴿لِيُخْرِجَكُمْ﴾ الله تعالى أو محمد بدعوته ﴿مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ﴿وَإِنَّ الله بكم لرؤوف﴾ بالمد والهمزة حجازي وشامي وحفص ﴿رَّحِيمٌ﴾ الرأفة أشد الرحمة
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)
﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ﴾ في أن لا تنفقوا ﴿فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض﴾ يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باقٍ لأحد من مال وغيره يعني وأي
434
غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال ﴿لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل﴾ أي فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لأن قوله مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ يدل عليه ﴿أولئك﴾ الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي ﷺ لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد احدم ولا نصيفه
﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا وَكُلاًّ﴾ أي كل واحد من الفريقين ﴿وَعَدَ الله الحسنى﴾ أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات وَكُلاًّ مفعول أول لوعد الحسنى مفعول ثانٍ وَكُلٌّ شامي أي وكل وعده الله الحسنى نزلت في أبي بكر رضي لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله وفيه دليل على فضله وتقدمه ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فيجازيكم على قدر أعمالكم
435
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
﴿مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا﴾ بطيب نفسه والمراد الانفاق أضعافاً مضاعفة من فضله ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه فيضعفه مكي فيضعفه شامي فيضعفه عاصم وسهل فيضاعفُهُ غيرهم فالنصب على جواب الاستفهام والرفع على فهو يضاعفه أو عطف على يقرض
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
﴿يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات﴾ ظرف لقوله وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أو منصوب بإضمار اذكر تعظما لذلك اليوم ﴿يسعى﴾ يمضي ﴿نُورُهُم﴾ نور
435
التوحيد والطاعات وإنما قال ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم﴾ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم فيجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا أو بصحائفهم البيض أفلحوا فإذا ذهب بهم إلى الجنة وسروا على الصراط يسعون سعي بسعيهم ذلك النور وتقول لهم الملائكة ﴿بُشْرَاكُمُ اليوم جنات﴾ أي دخول جنات لأن البشارة تقع بالأحداث دون الجثث ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾
436
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣)
﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾ هو بدل من يَوْمَ تَرَى ﴿المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا﴾ أي انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة انظر ونا حمزة من النظرة وهي الامهال جعل انثادهم في المضي الى ان يحلقو بهم إنظاراً لهم ﴿نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيتسنيروا به ﴿قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً﴾ طرد لهم وتهكم بهم أي تقول لهم الملائكة اوالمؤمنون ارجعوا الى الموقت حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك فمن ثم يقتبس أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا بتحصيل سببه وهو الإيمان ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم﴾ بين المؤمنين والمنافقين ﴿بِسُورٍ﴾ بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار قيل هو الأعراف ﴿لَهُ﴾ لذلك السور ﴿بَابٍ﴾ لأهل الجنة يدخلون منه
﴿بَاطِنُهُ﴾ باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة أي النور أو الجنة ﴿وظاهره﴾ ما ظهر لأهل النار ﴿مِن قِبَلِهِ﴾ من عنده ومن جهته ﴿العذاب﴾ أي الظلمة والنار
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤)
﴿ينادونهم﴾ أي ينادي المنافقون المؤمنين ﴿أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ يريدون مرافقتهم في الظاهر ﴿قَالُواْ﴾ أي المؤمنون ﴿بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ محنتموها بالنفاق وأهلكتموها ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ بالمؤمنين الدوائر ﴿وارتبتم﴾ وشككتم في
436
التوحيد ﴿وَغرَّتْكُمُ الأمانى﴾ طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار ﴿حتى جَاء أَمْرُ الله﴾ أي الموت ﴿وَغَرَّكُم بالله الغرور﴾ وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم أو بأنه لا بعث ولا حساب
437
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
﴿فاليوم لاَ يُؤْخَذُ﴾ وبالتاء شامي ﴿مّنكُمْ﴾ أيها المنافقون ﴿فِدْيَةٌ﴾ ما يفتدى به ﴿وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النار﴾ مرجعكم ﴿هِىَ مولاكم﴾ هي أولى بكم والحقيقة مولاكم محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال هو مثن للكرم أي مكان لقول القائل إنه لكريم ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ النار
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦)
﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾ من أنى الأمر يأنى إذا جاءه انها أي وقته قيل كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت وعن مسعود رضي الله عنه ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية الا اربع سنين وعن ابي بكر رضي الله عنه إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من اهل اليمامية فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال هكذا كنا حتى قست القلوب ﴿للذين آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ من الحق﴾ القرآن لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء ﴿وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ﴾ القراءة بالياء عطف على تَخْشَعَ وبالتاء ورش على الالتفات ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا ذلك بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة
437
والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا احدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد﴾ الأجل والزمان ﴿فقست قلوبهم﴾
﴿وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحيي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات﴾
باتباع الشهوات وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴿فاسقون﴾ خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين أي وقليل منهم مؤمنون
438
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)
﴿اعلموا أن الله يحيي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ قيل هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)
﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات﴾ بتشديد الدال وحده مكي وأبو بكر وهواسم قاعل من صدق وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين الباقون بتشديد الصاد والدال وهو اسم فاعل من تصدق فأدغمت التاء في الصادر وقرىء على الأصل ﴿وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ هو عطف على معنى الفعل في المصدقين لأن اللام بمعنى اللذين واسم الفاعل بمعنى الفعل وهو اصدقوا كأنه قيل ان الذين اصدقوا وأقرضوا القرض الحسن أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدق ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ﴾ يضعف مكي وشامي وَلَهُمْ أَجْرٌ كريم أي الجنة
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٩)
﴿والذين آمنوا بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ﴾ يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ويجوز أن يكون والشهداء مبتدأ ولهم
438
أجرهم خبره ﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم﴾
439
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
﴿اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ﴾ كلعب الصبيان ﴿وَلَهْوٌ﴾ كلهو الفتيان ﴿وَزِينَةٌ﴾ كزينة النسوان ﴿وَتَفَاخُرٌ بينكم﴾ كتفاخر الأفران ﴿وتكاثر﴾ كنكاثر الدهقان ﴿فِى الأموال والأولاد﴾ أي مباهاة بهما والتكاثر ادعاء الاستكثار ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾ بعد خضرته ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً﴾ متفتتاً شبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قدلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين وقيل الكفار الزراع
﴿وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع﴾
﴿وفي الآخرة عذاب شديد﴾ الكفار ﴿وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان﴾ للمؤمنين يعني أن الدنيا وما فيها ليست إلا من محقرات الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاحر والتكاثر وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام وهي العذاب الشديد والمغفرة والرضوان من الله الحميد والكاف في كَمَثَلِ غَيْثٍ في محل رفع على أنه خبر بعد خبر أي الحياة الدنيا مثل غيث ﴿وَما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾ ان ركن إليها واعتمد عليها قال ذو النون يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها فإن الزاد منها والمقيل في غيرها ولما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة بعث عباده عى الممارعة إلى نيل ما وعد ذلك وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة بقوله
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
﴿سَابِقُواْ﴾ أي بالأعمال الصالحة ﴿إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ﴾ وقيل سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض﴾ قال السدي كعرض سبع السموات وسبع الأرضين
439
وذكر العرض دون الطول لأن كل ما له عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله فإذا وصف عرضه بالبسطة عرف أن طوله أبسط أو أريد بالعرض البسطة وهذا ينفي قول من يقول إن الجنة في السماء الرابعة لأن التي في إحدى السموات لا تكون في عرض السموات والأرض ﴿أعدت للذين آمنوا بالله وَرُسُلِهِ﴾ وهذا دليل على أنها مخلوقة ﴿ذلك﴾ الموعود من المغفرة والجنة ﴿فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء﴾ وهم المؤمنون وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ ثم بين أن كل كائن بقضاء الله وقدره بقوله
440
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢)
﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض﴾ من الجدب وآفات الزروع والثمار وقوله فِى الأرض في موضع الجراى ما أصاب من مصيبة ثابتة في الأرض ﴿وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ﴾ من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد ﴿إِلاَّ فِى كتاب﴾ في اللوح وهو موضع الحال أي إلا مكتوباً في اللوح ﴿مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ من قبل أن نخلق الأنفس ﴿إِنَّ ذلك﴾ إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب ﴿عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ وإن كان عسيراً على العباد ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه بقوله
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣)
﴿لكي لا تَأْسَوْاْ﴾ تحزنوا حزناً يطغيكم ﴿على مَا فَاتَكُمْ﴾ من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحتها ﴿ولا تفرحوا﴾ فرح المختال الفخور ﴿بما آتاكم﴾ أعطاكم من الإيتاء أبو عمرو أتاكم أي جاءكم من الاتيان يعني أتاكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي لأن من علم أن ما
﴿والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن﴾
عنده مفقود لا مجالة لم يتفاقم جزعه عند فقده لأنه وظن نفسه على ذلك وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه وأن وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله وليس أحد إلا وهو يفرح عند منفعة
440
تصيبه ويحزن عند مضرة تنزل به ولكن ينبغي أن يكون الفرج شكراً والحزن صبراً وإنما يذم من الحزن والجزع المنافي للصبر ومن الفرح الأشر المطعي الملهي عن الشكر ﴿والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر وتكبر على الناس
441
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
﴿الذين يَبْخَلُونَ﴾ خبر مبتدأ محذوف أو بدل من كل مختال فخور كان قال لا يحب الذين يبخلون يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به ﴿وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل﴾ ويحضون غيرهم على البخل ويرغبونهم في الإمساك ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ يعرض عن الإنفاق أو عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي ﴿فَإِنَّ الله هُوَ الغنى﴾ عن جميع المخلوقات فكيف عنه ﴿الحميد﴾ في أفعاله فَإِنَّ الله الغني يترك هو مدني وشامي
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء ﴿بالبينات﴾ بالحجج والمعجزات ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب﴾ أي الوحي وقيل الرسل الأنبياء والأول أولى لقوله مَعَهُمْ لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب ﴿والميزان﴾ رُوي أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال مرقومك يزنوا به ﴿لِيَقُومَ الناس﴾ ليتعاملوا بينهم إيفاء واستيفاء ﴿بالقسط﴾ بالعدل ولا يظلم أحدا أحداً ﴿وَأَنزْلْنَا الحديد﴾ قيل نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والطرقة والابرة وروي ومعه المرو والمسحاق وعن الحسن وأنزلنا الحديد خلقناه ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ وهو القتال به ﴿ومنافع لِلنَّاسِ﴾ في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها أو ما يعمل بالحديد ﴿وليعلم الله من ينصره ورسله﴾
441
باتسعمال لاسيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين وقال الزجاج ليعلم الله من يقاتل مع رسوله في سبيله بالغيب غائباً عنهم ﴿إِنَّ الله قَوِىٌّ﴾ يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته ﴿عَزِيزٌ﴾ يربط بعزته جأش من يتعرض لتصرفه والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة الأحكام والحدود ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن البغي والطغيان واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل ويحصل بها التساوي والتعادل وهي الميزان ومن المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلهة الموضوعة للتعامل بالتسوية إن تحص العامة على
اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعنَدَ ونزع عن صفقة الجماعة اليد وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد
442
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦)
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم﴾ خصا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام ﴿وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا﴾ أولادهما ﴿النبوة والكتاب﴾ الوحي وعن ابن عباس رضي الله عنهما الخط بالقلم يقال كتب كتاباً وكتابة فَمِنْهُمْ فمن الذرية أو من المرسل إليهم قد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين ﴿مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون﴾ هذا تفصيل لحالهم أي فمنهم من اهتدى باتباع الرسل ومنهم من فسق أي خرج عن الطاعة والغلبة للفساق
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧)
﴿ثم قفينا على آثارهم﴾ أي نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء ﴿برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً﴾ مودة وليناً ﴿وَرَحْمَةً﴾ تعطفاً على إخوانهم كما قال في صفة أصحاب النبي ﷺ رحماء بينهم وَرَهْبَانِيَّةً هي ترهبهم في
442
الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم العبادة وهي الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي وانتصابها بفعل من مضمر يفسره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية ﴿ابتدعوها﴾ أي أخرجوها من عند أنفسهم ونذروها ﴿مَا كتبناها عليهم﴾ لم نقرضها نحن عليهم ﴿إِلاَّ ابتغاء رضوان الله﴾ استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثة ﴿فآتينا الذين آمنوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ أي أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام أو الذين آمنوا بمحمد ﷺ ﴿وكثير منهم فاسقون﴾ الكافرون
443
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ الخطاب لأهل الكتاب ﴿اتقوا الله وآمنوا برسوله﴾ محمد ﷺ ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ الله ﴿كِفْلَيْنِ﴾ نصيبين ﴿مّن رَّحْمَتِهِ﴾ لإيمانكم بمحمد ﷺ وإيمانكم بمن قبله ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ﴾ يوم القيامة ﴿نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ وهو النور المذكور في قوله يسعى نُورُهُم الآية ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ذنوبكم ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
﴿لّئَلاَّ يَعْلَمَ﴾ ليعلم ﴿أَهْلِ الكتاب﴾ الذين لم يسلموا ولا مزيدة ﴿أَلاَّ يَقْدِرُونَ﴾ أن مخففة من
الثقيلة أصله أنه لا يقدرون يعني أن الشأن لا يقدرون ﴿على شَىْءٍ مّن فَضْلِ الله﴾ أي لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضل الله من الكفلين والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ﷺ فلم ينفعهم بايمانهم بمن قلهم ولم يكسبهم فضلاً قط ﴿وَأَنَّ الفضل﴾ عطف على أَن لا يَقْدِرُونَ ﴿بِيَدِ الله﴾ أي في ملكه وتصرفه ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء﴾ من عباده ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ والله أعلم
443
سورة المجادلة مدنية وهي اثنتان وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

444
Icon