تفسير سورة الحديد

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة الحديد
مدنية وهى تسع وعشرون واية واربع ركوعات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ذكر هاهنا وفى الحشر والصف بلفظ الماضي وفى الجمعة والتغابن بلفظ المضارع اشعارا بان التسبيح لله تعالى من مخلوقاته مستغرق بجميع الأوقات لا يختلف باختلاف الحالات ومجىء المصدر مطلقا فى بنى إسرائيل ابلغ فى هذه الدلالة والتسبيح يتعدى بنفسه لان معناه التنزيه والتبعيد من السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد وقد يتعدى باللام مثل نصحته ونصحت له وجاز ان يكون تعديته باللام للاشعار بان إيقاع الفعل ثبت لاجل الله وخالصا لوجهه الكريم ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ط يعم ذوى العقول وغيرهم وقيل المراد منه ما يأتي منه التسبيح ويصح وقيل المراد بالتسبيح من الجمادات ونحوها التسبيح الحالي يعنى دلالتها على تنزه الصانع تعالى عن السوء والصحيح ان شيئا من الموجودات لا يخلو عن نوع من الحيوة والعلم كما حققناه فى تفسير سورة البقر فى قوله تعالى وان منها لما يهبط من خشية الله فالتسبيح منها مقالى ايضا وان من شىء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حال يشعر بما هو المبتدا للتسبيح.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ج فانه هو الموجد لها والمتصرف فيها والجملة اما حال من مفعول سبح او مستانفة يُحْيِي وَيُمِيتُ استيناف او خبر لمحذوف اى هو او حال من المجرور فى له وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الاحياء والاماتة وغيرهما قَدِيرٌ تام القدرة.
هُوَ الْأَوَّلُ قبل كل شىء ليس قبله شىء فانه هو الموجد للاشياء محدثها كلها وَالْآخِرُ الباقي بعد فناء الأشياء ولو بالنظر الى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها فان وجوده تعالى اصل لا يحتمل الانفكاك والزوال ووجود غيره مستعار فى حكم الله وجود بالنظر الى ذاته فهو الاخر بعد كل شىء ليس بعده شىء وَالظَّاهِرُ فوق كل شىء ليس فوقه فى الفهور شىء فان منشاء الظهور الوجود ولا ظهور للمعدوم ووجود كل شىء مستفاد منه وظل لوجوده فظهور كل شىء فرع لظهوره غير انه تعالى لكمال ظهوره وشعشان وجوده اختفى عن الابصار لقصورها كما اختفى الشمس عن عين الخفاش واختفى الشمس ايضا فى تصف النهار لشدة الظهور وكمال النور عن أعين الناس فمن ادنى تميز يعترف بوجوده تعالى
حتى الصبيان والمجانين كما يعترف الناس لوجود الشمس فى النهار وَالْباطِنُ ج لكمال ظهوره وايضا باطن كنه ذاته دون كل شىء ليس دونه شىء حتى عجز من دركه بصائر اولى الابصار من النبيين والصديقين الأخيار روى مسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن ابى شيبة عن ابى هريرة وابو يعلى الموصلي عن عائشة انه - ﷺ - كان يقول وهو مضطجع اللهم رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شىء فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل شىء أنت أخذ بناصيته اللهم أنت الاول فليس قبلك شىء وأنت الاخر فليس يعدك شىء وأنت الظاهر فليس فوقك شىء وأنت الباطن فليس دونك شىء اقض عنا الدين واغننا عن الفقر قال البغوي وسئل عمر رض عن هذه الاية فقال معناها ان علمه بالأول كعلمه بالاخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يستوى عنده الظاهر والخفي.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ط هذا من المتشابهات والأسلم فيه تفويض تأويله الى الله تعالى والايمان بما أراد يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ كالبذور والقطر والكنوز والأموات وغير ذلك وَما يَخْرُجُ مِنْها كالزروع والانجرة والندور والمعادن والأموات عند الحشر وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالامطار والملائكة والاحكام والبركات وَما يَعْرُجُ فِيها كالانجرة والملائكة باعمال العباد وأرواحهم وَهُوَ مَعَكُمْ معية غير متكيفة أَيْنَ ما كُنْتُمْ ط فان نسبة جميع الامكنة الى الله تعالى على السواء وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ط ذكره مع الاعادة كما ذكر مع الإبداء لانه كالمقدمة لهما وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ط بان ينقص من أحدهما ويزيد فى الاخر وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بمكنوناتها ذكر السيوطي فى جمع الجوامع عن على رض فى الدعاء لقضاء الحوائج ان يقرأ الفواتح من سورة الحديث وثلث آيات من اخر الحشر ثم يقول يا من كذلك وليس أحد غيره كذلك اقض حاجتى كذلك.
آمِنُوا ايها الناس بِاللَّهِ الذي شانه كما ذكرنا وَرَسُولِهِ فان الايمان بالله على ما ينبغى لا يمكن الا بتوسط الرسل وَأَنْفِقُوا فى سبيل الله مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ط اى بعض الأموال التي جعلكم الله خلفاء فى التصرف فيها وهو مخلوق
مملوك الله تعالى او التي استخلفكم عمن قبلكم فى تملكها والتصرف فيها وسيخلفكم فيها غيركم ذكرها الله سبحانه بهذا العنوان للحث على الانفاق وتوهينه على النفس فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا فى سبيله لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ الفاء للتعليل وفيه مبالغات فى الوعد حيث أورد الجملة الاسمية وأعاد ذكر الايمان والانفاق وبنى الحكم على الضمير ونكر الاجر ووصفه الكبير.
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ج جملة لا تومنون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيه معنى الفعل فى مالكم اى تصنعون غير مومنين به وجملة ما لكم معترضة للتوبيخ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حال من الضمير فى لا تؤمنون يعنى اى عذر لكم فى ترك الايمان والحال ان الرسول يدعوكم اليه بالحجج والآيات والبينات وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حال مرادف لما سبق او من مفعول يدعوكم يعنى والحال انه قد أخذ الله ميثاقكم بالايمان قبل ذلك حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام وقال أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا على أنفسنا الاية او المعنى قد أخذ الله ميثاقكم على لسان من قبلكم من الأنبياء وفيما سبق من الكتب ان إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قالء أقررتم وأخذتم على ذلك اصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين وقيل أخذ ميثاقكم باقامة الحجج والتمكين من المنظر قرأ ابو عمرو وأخذ بضم الهمزة وكسر الخاء على البناء للمفعول وميثاقكم بالرفع والاسناد اليه والباقون على البناء للفاعل ونصب ميثاقكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط حذف جزاءه تقديره عندى ان كنتم مؤمنين بالله على زعمكم فامنوا بالله والرسول فان الايمان بالله على ما ينبغى لا يتصور الا بتوسط الرسول وذلك ان الكفار ايضا كانوا مقرين بالله تعالى ويزعمون الأصنام شفعاء اليه تعالى فى الصحيحين عن ابن عباس قال وفد عبد القيس لما أتوا النبي - ﷺ - أمرهم بأربع ونهاهم بأربع أمرهم بالايمان بالله وحده وقال أتدرون ما الايمان بالله وحده قالوا الله ورسوله اعلم قال شهادة ان لا اله الا الله ومحمد رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكوة وصيام رمضان وان تعطوا من المغنم الخمس ونهاهم عن اربع عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت وقال احفظوهن وأخبروهن من وراءكم قلت تقدير الكلام عندى أمرهم بأربع ونهاهم عن اربع بعد ما أمرهم بالايمان وحده ثم فسر الايمان بالشهادتين وفسر الأربع المامورة بقوله واقام الصلاة يعنى أمرهم باقام الصلاة الحديث هذا الحديث يدل ان الايمان بالله وحده لا يتصور الا بعد الايمان بالرسول وقال البيضاوي
تقدير الاية ان كنتم مؤمنين بموجب ما فان هذا موجب له لا مزيد له وقال البغوي ان كنتم مؤمنين يوما تاما فالان أحرى الأوقات ان تومنوا لقيام الحجج والاعلام ببعثه محمد - ﷺ - ونزول القران.
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمد - ﷺ - آياتٍ بَيِّناتٍ يعنى القران او غير ذلك من المعجزات الباهرة لِيُخْرِجَكُمْ هو او عبده مِنَ الظُّلُماتِ اى الكفر والجهل إِلَى النُّورِ ط اى الايمان او العلم وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث أرسل إليكم رسوله فانزل عليه آياته ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية.
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا واى فائدة لكم يعنى لا فائدة لكم فى عدم الانفاق فِي سَبِيلِ اللَّهِ اى فيما يكون قربة اليه تعالى وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ط يعنى والحال ان الله يرث كل شىء فيها ولا يبقى لاحد مال وإذا كان كذلك فانفاقه بحيث انه يستخلف عوضا يبقى وهو الثواب اولى وترك الانفاق وجمع الأموال حتى ينتفع بها غيركم لا يفيدكم أصلا عن عائشة انهم ذبحوا شاة فقال النبي - ﷺ - ما بقي منها يعنى بعد الانفاق قالت ما بقي منها إلا كتفا قال بقي كلها غير كتفها رواه الترمذي وصححه وعن ابن مسعود قال قال رسول الله - ﷺ - أيكم مال وارثه أحب اليه من ماله قالوا يا رسول الله ما منا أحد الا ماله أحب اليه من مال وارثه قال ماله ما قدم ومال وارثه ما اخر رواه البخاري والنسائي لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ اى فتح مكة فى قول اكثر المفسرين وقال الشعبي هو صلح الحديبية وَقاتَلَ ط قبله لا يستوى افتعال بمعنى التفاعل وفاعله من أنفق مع ما عطف عليه المحذوف يعنى لا يستوى من أنفق قبل الفتح وقاتل قبله ومن أنفق بعد الفتح وقاتل بعده أُولئِكَ الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا فيه أَعْظَمُ دَرَجَةً عند الله ثوابا وتقربا مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ الفتح وَقاتَلُوا ط حينئذ قال البغوي روى محمد ابن فضل عن الكلبي ان هذه الاية نزلت فى ابى بكر الصديق رض فانه أول من اسلم وأول من أنفق فى سبيل الله وروى البغوي بسند فى تفسيره المعالم عن ابن عمر قال كنت عند رسول الله - ﷺ - وعنده ابو بكر الصديق رض وعليه عباءة فدخلنا فى صدرها بخلال فنزل عليه جبرئيل فقال مالى ارى أبا بكر عليه عباءة فدخلها فى صدرها بخلال فقال أنفق ماله على قبل الفتح قال فان الله عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عنى فى فقرك هذا أم ساخط فقال رسول الله - ﷺ - يا أبا بكر ان الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت عنى فى فقرك هذا أم ساخط فقال ابو بكر
190
أسخط على ربى وانى عن ربى راض وكذا روى الواحدي فى تفسيره قلت هذه الاية بمنطوقه تدل على افضلية السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على من أمن بعد الفتح وأنفق حينئذ وبمفهومه وسياقه يدل على افضلية الصديق على ساير الصحابة وافضلية الصحابة على سائر الناس فان مدار الفضل على السبقة فى الإسلام والانفاق والجهاد كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام من سن حسنة فاجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء وقد اجمع العلماء على ان أبا بكر أول من اسلم واظهر إسلامه على يده اشراف قريش وأول من أنفق الأموال العظام فى سبيل الله وأول من احتمل الشدائد من الكفار ومن ثم قال رسول الله - ﷺ - مالا حد عندنا يد الا وقد كافيناه ما خلا ابى بكر فان له عندنا يد يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة وما نفعنى مال أحد قط ما نفعنى مال ابى بكر رواه الترمذي من حديث ابى هريرة وعن ابن الزبير عن أبيه قال اسلم ابو بكر وله أربعون الفا أنفقها كلها على رسول الله - ﷺ - وفى سبيل الله رواه ابو عمر وروى البخاري فى حديث طويل ثم يدا لابى بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلى فيه ويقرأ القران وروى البخاري ان عقبة بن معيط لما راى النبي - ﷺ - يصلى جعل رداءه فى عنقه وخنقه فاطلع ابو بكر فدفع عنه وقال أتقتلون رجلا ان يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات وروى ابو عمر نحوه وزاد فاخذ الكفار أبا بكر فضربوه ضربا شديدا فلما رجع ابو بكر الى داره فكان كلما وضع يده على شعره سقط شعره مع يده ويقول تباركت يا ذا الجلال وروى ابو عمرو فى الاستيعاب انه أعتق ابو بكر سبعة كانوا يعذبون فى الله منهم بلال وعامر بن فهيرة وقال ابو اسحق انه لما اسلم ابو بكر اظهر إسلامه ودعى الناس الى الله عز وجل والى رسوله وكان ابو بكر رجلا مولفا لقومه مجيبا سهلا فجعل يدعو الى الإسلام
من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس اليه فاسلم بدعائه فيما بلغني عثمان بن عفان رئيس بنى عبد الشمس وزبير بن العوام رئيس بنى اسد وسعد ابن ابى وقاص وعبد الرحمن بن عوف رئيسا لبنى زهرة وطلحة بن عبد الله رئيس بنى تميم فجاء بهم الى رسول الله - ﷺ - حين استجابوا له واسلموا وصلوا وانكسر شوكة قبائل قريش بإسلامهم قال ابو الحسن الأشعري تفضيل ابى بكر على غيره من الصحابة قطعى قلت قد اجمع عليه السلف وما حكى عن ابن عبد البر ان السلف اختلفوا فى تفضيل ابى بكر وعلى فهو شىء غريب الفرد به عن غيره ممن هو أجل منه علما واطلاعا منهم الشافعي وقد ذكرنا ادلة تفضيل الشيخين نقلا وعقلا فى السيف المسلول
191
وله مواقف رفيعة فى الإسلام كثباته على كمال تصديقه ليلة الاسراء وجوابه للكفار فى ذلك وهجرته مع رسول الله - ﷺ - وترك عياله وأطفاله وملازمته له فى الغار وساير الطريق وكلامه يوم بدر ويوم الحديبية حين اشتبه على غيره الأمر فى تأخير دخول مكة وثباته مع كمال حزنه فى وفات رسول الله - ﷺ - وخطبه الناس وتسكينهم ثم قيامه فى قصة البيعة لمصالح المسلمين واهتمامه فى بعث جيش اسامة وقيامه فى قتال اهل الردة وتجهيزه الجيوش الى العراق والشام واخر مناقبه انه فوض الخلافة الى عمر رض وَكُلًّا قرأ ابن عامر بالرفع والباقون بالنصب اى كل واحد من الفريقين من الصحابة الذين أنفقوا قبل الفتح والذين أنفقوا بعده وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ط لا يحل الطعن فى أحد منهم ولا بد حمل مشاجراتهم على محامل حسنة واغراض صحيحه او خطأ فى الاجتهاد وايضا يدل صدر الاية على افضلية الصحابة على من بعدهم بسبقهم فى الإسلام والانفاق والجهاد وروى الشيخان فى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ع عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر فيجازى كلا على حسبه.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ اى يقرض عباد الله بحذف المضاف او المعنى ينفق ماله فى سبيل الله رجاء ان يعوضه فصار كمن يقرضه فاستعير لفظ القرض لبدل على التزام الجزاء قَرْضاً حَسَناً بالإخلاص وتحرى أكرم المال وأفضل الجهات له فَيُضاعِفَهُ لَهُ اى يعطى اجره ضعافا قرأ عاصم فيضاعفه من المفاعلة منصوبا على جواب الاستفهام باعتبار المعنى فكانه قال يقرض الله أحد فيضاعفه له وقرأ ابن عامر ويعقوب فيضعفه من التفعيل منصوبا وقرأ ابن كثير فيضعفه من التفعيل مرفوعا عطفا على يقرض والباقون فيضاعفه من المفاعلة مرفوعا وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ حال من الضمير المنصوب فى فيضاعفه يعنى والحال ان ذلك الاجر المضموم اليه الأضعاف كريم فى نفسه ينبغى ان يطلب وان لم يضاعف فكيف وقد يضاعف أضعافا.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ظرف لقوله او فيضاعفه او متعلق بمقدر يعنى اذكر يَسْعى نُورُهُمْ اى يضىء نور التوحيد والطاعات معهم على الصراط وأينما كانوا ويكون ذلك دليلهم الى الجنة وجملة يسعى حال من المؤمنين والمؤمنات بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ قال بعض المفسرين أراد جميع جوانبهم فعبر بالبعض عن الكل ويؤيد هذا التأويل الدعاء المأثورة عن النبي - ﷺ -
192
فانه كان يقول إذا خرج للصلوة اللهم اجعل فى قلبى نورا وفى بصرى نورا وفى سمعى نورا وعن يمينى نورا وعن شمالى نورا وخلفى نورا واجعلنى نورا رواه الشيخان وابو داود والنسائي وروى ابن ماجة عن ابن عباس وفى رواية عند مسلم وابى داود والنسائي وزاد فى لسانى نورا واجعل من خلفى نورا ومن امامى نورا واجعل من فوقى نورا ومن تحتى نورا اللهم أعطني نورا فان هذا الدعاء يقتضى احاطة النور من جميع جوانبه ولعل وجه تخصيص الجهتين بالذكران السعداء يوتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين وقال الضحاك ومقاتل يسعى نورهم بين أيديهم وبايمانهم كتبهم وقيل يجعل الله لهم نورا فى الجهتين اشعارا بانهم بحسناتهم سعدوا بصحايفهم البيض أفلحوا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن مسعود قال يوتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من كان فى إبهامه يتقدمرة ويطفى اخرى وقال قتادة ذكر لنا ان النبي - ﷺ - قال من المؤمنين من يضىء نوره من المدينة الى عدن والى الصنعاء فدون ذلك حتى ان من المؤمنين من لا يضىء نوره الا بين القدمين- (فصل) فى موجبات النور والظلمة اخرج ابو داود والترمذي عن بريدة وابن ماجة عن انس كليهما عن النبي - ﷺ - قال بشر المشائين فى الظلم الى المساجد بالنور التام يوم القيامة وورد مثله فى حديث سهل بن سعد وزيد بن الحارثة وابن عباس وابن عمر وحارثة بن وهب وابى امامة وابى الدرداء وابى سعيد وابى موسى وابى هريرة وعائشة رض وروى احمد والطبراني عن ابن عمر عن النبي - ﷺ - من حافظ على الصلوات كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وروى الطبراني عن ابى سعيد مرفوعا من قرأ سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة من مقامه الى مكة وروى ابن مردوية عن ابن عمر من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدميه الى عنان السماء يضىء له يوم القيامة وروى احمد عن ابى هريرة مرفوعا من تلا اية كانت له نورا يوم القيامة وروى الديلمي عن ابى هريرة مرفوعا الصلاة علىّ نور على الصراط واخرج الطبراني فى الأوسط من ذهب بصره فى الدنيا جعل الله له نورا يوم القيامة ان كان صالحا- وروى الطبراني عن عبادة بن صامت مرفوغا فى الحج اما حلق راسك فانه ليس من شعره يقع فى الأرض الا كانت له نورا يوم القيامة
193
وروى البزاز عن ابن مسعود مرفوعا إذا رميت الجمار كانت به نورا يوم القيامة وروى الطبراني بسند جيد عن ابى امامة مرفوعا من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورا يوم القيامة روى البزاز بسند جيد عن ابى هريرة مرفوعا من رمى بسهم فى سبيل الله كان له نورا يوم القيامة وروى البيهقي فى شعب الايمان بسند منقطع عن ابن عمر مرفوعا ذاكر لله فى السوق له بكل شعرة نور يوم القيمة وروى الطبراني عن ابى هريرة مرفوعا من فرج عن مسلم كربه جعل الله له يوم القيمة شعبتين من نور على الصراط يستضىء بهما عالم لا يحصيهم الا رب العزة واخرج الشيخان عن ابن عمر ومسلم عن جابر والحاكم عن ابى هريرة وابن عمرو الطبراني عن ابن زياد قالوا قال رسول الله - ﷺ - إياكم والظلم فانه هو الظلمات يوم القيامة والله تعالى اعلم بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ يعنى يقول لهم ذلك من يلقيهم من الملائكة كانت الجملة فى الأصل فعلية تقديره يبشركم اليوم بجنات فعدلت الى الاسمية للدلالة على الاستمرار بشرى مبتدا وجنات خبره واليوم ظرف البشرى اى المبشر به جنات او بشركم دخول جنت تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة
لجنات خالِدِينَ فِيها ط حال من الجملة التي يفهم من الكلام السابق يعنى يدخلونها خالدين فيها ولا يجوز ان يكون حالا من جنات وإلا لزم جريانه على غير من هو له ذلِكَ النور والبشرى بالجنات المخلدة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا بدل من يوم ترى انْظُرُونا قرأ حمزة بهمزة القطع وفتحها فى الحالين وكسر الظاء من الافعال من النظرة بمعنى المهلة كما فى قوله تعالى حكاية عن إبليس رب أنظرني الى يوم يبعثون يعنى مهلونا جعل ثانيهم فى المشي حتى يلحقوا بهم امهالا لهم مجازا والباقون بحذف الالف فى الوصل وضمها فى الابتداء بمعنى الانتظار فى القاموس نظره وانتظره وتنظره تأنى عليه ونظرة كفرجة التأخير قال الله تعالى فنظرة الى ميسرة والله تعالى اعلم نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ومجزوم فى جواب الأمر اى تستضىء بكم ونمشى فى نوركم ولا يكون للمنافقين والكافرين نور يوم القيامة حيث لم يكن لهم نور الايمان فى الدنيا وهو المستفاد من القران ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور وبه قال الكلبي واخرج ابن ابى حاتم عن ابى امامة الباهلي قال يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله بالنور اى المؤمن بقدر أعمالهم فيتبعه المنافقون ويقولون انظرونا نقتبس من نوركم
194
واخرج عنه من وجه اخر فى حديث طويل فيه فيغشى الناس ظلمة شديدة ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورا او يترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئا وهو مثل ضرب الله فى كتابه او كظلمات فى بحر لّجّىّ يغشاه من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور فلا يستضىء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضىء الأعمى ببصر البصير ويقول المنافقون للذين أمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورا وهى خدعة الله التي خدع بها المنافقين قال يخدعون الله وهو خادعهم فيرجعون الى المكان الذي قسم الله فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب الاية اخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال بينهما الناس فى ظلمة إذ بعث الله نورا فلما راى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان دليلا لهم من الله الى الجنة فلما راى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا الى النور تبعوهم فاظلم على المنافقين فقالوا حينئذ للمؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم فانا كنا معكم فى الدنيا قالوا ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا نورا هناك واخرج ابن المبارك من طريق مجاهد عن يزيد بن شجرة قال انكم تكتبون عند الله باسمائكم وسيماكم وو نجواكم ومجالسكم فاذا كان يوم القيامة نودى يا فلان بن فلان لا نور لك وقال البغوي ان الله يعطى المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ويعطى المنافقين ايضا نورا خديعة لهم وهو قوله عز وجل وهو خادعهم فبينماهم يمشون إذا بعث الله ريحا وظلمة فاطفأ نور المنافقين فذلك قوله تعالى يوم لا يخزى الله النبي والذين أمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبايمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا مخافة ان يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين كذا اخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس بلفظ ليس أحد من الموحدين الا يعطى نورا يوم القيامة فاما المنافق فيطفىء نوره واما المؤمن فيشقق مما راى من اطفأ نور المنافق فهو يقول ربنا أتمم لنا نورنا والطبراني عنه نحوه واخرج مسلم واحمد والدارقطني فى الرواية من طريق ابن الزبير انه سمع جابر بن عبد الله فذكر حديثا طويلا وفيه ويعطى كل انسان منهم منافق او مؤمن نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وخسك تأخذ ما شاء الله ثم يطفىء نور المنافقين- والمختار عندى ان المنافقين لا يكون لهم نورا أصلا كما يدل عليه القران وما تقدم من الأحاديث ولعل المراد بالمنافقين الذين يعطى لهم نورا فيطفى
195
قبل بلوغهم الى الجنة فى الأحاديث المتاخرة اصحاب الهواء من المؤمنين كالروافض والخوارج والقرينة على هذا المراد قوله عليه السلام فى حديث ابن عباس ليس أحد من الموحدين الا يعطى نورا والموحد لا يكون الا بالشهادتين بإخلاص كما مر فى حديث وفد عبد القيس أتدري ما الايمان بالله وحده والله اعلم
قيل قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون وقال قتادة يقول لهم الملائكة ارْجِعُوا وَراءَكُمْ اى الى المكان الذي قسم فيه النور كما يدل عليه حديث ابى امامة وابن عباس وذلك خديعة بهم او المعنى ارجعوا ورائكم الى الدنيا فَالْتَمِسُوا هناك نُوراً بتحصيل الايمان والمعارف الالهية والأخلاق الفاضلة وكسب الطاعات فان هذا النور ظهور ذلك فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بين المؤمنين والمنافقين بِسُورٍ بحائط لَهُ بابٌ ط يدخل فيه المؤمنون باطِنُهُ اى باطن السور او الباب فِيهِ الرَّحْمَةُ لانه يلى الجنة وَظاهِرُهُ اى خارج السور او الباب مِنْ قِبَلِهِ اى من جهة الظاهرة الْعَذابُ لانه يلى النار- قال البغوي روى عن عبد الله بن عمر قال ان السور الذي ذكر الله فى القران بسور له باب هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم وقال ابن شريح وكان كعب يقول فى الباب الذي يسمى باب الرحمة فى البيت المقدس انه الباب الذي قال الله تعالى عز وجل فضرب بينهم بسور له باب الاية.
يُنادُونَهُمْ يعنى ينادى المنافقون المؤمنين من وراء السور حين حجب بينهم بالسور وبقوا فى الظلمة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ط فى الدنيا نصلى ونصوم قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ اى اهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملوها فى المعاصي والشهوات وكلها فتنة وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدواير بمحمد - ﷺ - الموت وقلتم يوشك ان يموت فنستريح منه وَارْتَبْتُمْ شككتم فى الدين وفيما أوعدكم به وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ الأباطيل وما نكتم تتمنون من نزول الدواير بالمؤمنين حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعنى الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان او الدنيا بان الله كريم لا يعذبكم او بانه لا بعث ولا حساب وقال قتادة ما زالوا على خدعتهم من الشيطان حتى قذفهم فى النار.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ قرأ ابو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتاء لتانيث المسند اليه والباقون بالياء لان التأنيث غير حقيقى وقد وقع الفصل ايضا مِنْكُمْ فِدْيَةٌ بدل وعوض وَلا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا
ط جهارا ومَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ اى مكانكم الذي يقال فيه وهو اولى بكم او ناصركم على طريقة قولهم تحية بينهم ضرب وجيع او متوليكم اى يتولكم كما توليتم موجباتها فى الدنيا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف عن عبد العزيز بن رواد وابن ابى حاتم عن مقاتل بن حبان ان اصحاب النبي - ﷺ - ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت.
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا من انى الأمر يانى إذا جاء اناه وقته أَنْ تَخْشَعَ اى ترق وتلين وتخضع قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ قال البغوي قال عبد الله ابن مسعود وما كان بين اسلامنا وبين ان عاتبنا الله بهذه الاية الا اربع سنين وقال ابن عباس ان الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على راس ثلثة عشر سنة من نزول القران واخرج ابن المبارك فى الزهد عن سفيان عن الأعمش قال لما قدم اصحاب رسول الله - ﷺ - المدينة فاصابوا من العيش بعد ما كان بهم من الجهد مكانهم وفتروا عن بعض ما كانوا فنزلت ألم يأن الاية واخرج ابن ابى حاتم عن السدى عن القاسم قال ملّ اصحاب رسول الله - ﷺ - ملة فقالوا فنزل الله نزل احسن الحديث ثم ملواملة فقالوا حدثنا يا رسول الله فانزل الله ألم يأن للذين أمنوا الاية وقال البغوي قال الكلبي ومقاتل نزلت فى المنافقين بعد الهجرة بسنة وذلك انهم سالوا السلمان الفارسي ذات يوم فقالوا حدثنا عن التورية فان فيه العجائب فنزلت نحن نقص عليك احسن القصص فاخبرهم ان القران احسن من غيره فكفوا عن سوال سلمان ما شاء الله ثم عادوا فسالوا سلمان عن مثل ذلك فنزل الله نزل احسن الحديث فكفوا عن سواله ما شاء الله ثم عادوا فقالوا حدثنا عن التوراة فان فيها العجائب فنزلت هذه الاية وعلى هذا فتاويل الاية ألم يأن للذين أمنوا فى العلانية وباللسان تخشع سرايرهم وقلوبهم لذكر الله وَما نَزَلَ قرأ نافع وحفص ويعقوب بتخفيف الزاء والباقون بالتشديد مِنَ الْحَقِّ اى القران الموصول معطوف على ذكر الله عطف أحد الوصفين على الاخر ويجوز ان يراد بالذكر ذكر الله سوى القران وَلا يَكُونُوا اى الذين أمنوا منصوب بان معطوف على تخشع وجاز ان يكون مجزوما على انه نهى معطوف على امر مفهومه مما سبق فان المفاد من قوله تعالى ألم يأن للذين أمنوا ان تخشع قلوبهم ليخشع قلوب الذين أمنوا ولا يكونوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعنى اليهود والنصارى والمراد بالنهى عن مماثلة
اهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى فَطالَ معطوف على أوتوا عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ اى الزمان بينهم وبين أنبيائهم أو طال عليهم الزمان بطول أعمارهم فى الكفر والمعاصي فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
ط معطوف على طال وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم رافضون لما فى كتابهم لفرط القساوة جملة اسمية معطوف على فعلية وجاز ان يكون حالا وجملة ألم يأن مستانفة.
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ط تمثيل لاحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة او لاحياء الأموات ترغيبا فى الخشوع وزجرا عن القسوة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكى يكمل عقولكم.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قرأ ابن كثير وابو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق اى المؤمنين والمؤمنات والباقون بالتشديد اى المتصدقين أدغمت التاء فى الصاد وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بطيب النفس والإخلاص عطف على معنى الفعل لان المعنى الذين صدقوا او تصدقوا وعطف القرض الحسن على التصدق للدلالة على ان المعتبر هو التصدق بالإخلاص فان قيل عطف اقرضوا على الصلة فى المصدقين وعطف المصدقات على الموصول ويلزم فيه العطف على الموصول قبل تمام الصلة وذلك غير جائز قلنا المصدقين والمصدقات اعتبر من حيث المعنى موصولا واحد عطف على صلة اقرضوا والتقدير الناس تصدقوا واقرضوا من الرجال والنساء وجاز ان يقدر للمصدقين والمصدقات خبرا ثم يقدر موصولا اخر معطوفا عليه فيقال ان المصدقين والمصدقات يدخلون الجنة والذين اقرضوا الله الاية وجاز ان يكون اقرضوا معطوفا على خبر مقدر تقديره ان المصدقين والمصدقات أنفقوا أموالهم واقرضوا الله قرضا حسنا وعلى هذا يضاعف اما صفة لقرض او مستانف وجاز ان يكون التقدير ان المصدقين والمصدقات فازوا وقد اقرضوا وعلى هذا يكون واقرضوا حالا ولا يرد على هذه الوجوه إشكال والله تعالى اعلم يُضاعَفُ لَهُمْ قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعف لهم من التفعيل والباقون من المفاعلة ولم يجزم يضاعف لانه خبر ان وهو مسند الى لهم او الى ضمير المصدر وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ عطف على يضاعف او حال من الضمير فى لهم وقد مر مثله فيما سبق.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ اى المبالغون فى الصديق او الصدق فانهم صدقوا
جميع اخبار الله تعالى ورسوله - ﷺ - وهذه الاية تدل على جواز اطلاق الصديق على كل مؤمن ومن هاهنا قال مجاهد كل من أمن بالله ورسوله فهو صديق وشهيد- وكذا قال عمرو بن ميمون وللصديق اطلاق اخر أخص منه وهو من اكتسب كمالات النبوة بالوراثة والتبعية وهو المعنى من قوله تعالى فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قلت ويمكن ان يراد فى هذه الاية ايضا هو المعنى والمراد بالموصول المعهود يعنى الصحابة رض فانهم هم الذين كانوا موجودين فى زمن النبي - ﷺ - والحصر المستفاد من الضمير الفصل يدل على انحصار الصديقية فى الصحابة ويكون الحصر إضافيا بالنسبة الى اكثر الناس قال المجدد رح الصحابة كلهم كانوا فى كمالات النبوة كان كل من راى النبي - ﷺ - نظرة مع الايمان يستغرق فى كمالات النبوة وللصديق اطلاق اخر أخص من ذلك وبذلك المعنى قال على رض انا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي الاكاذب وبذلك الإطلاق قال الضحاك هم ثمانية نفر من هذه الامة سبقوا اهل الأرض فى زمانهم الى الإسلام ابو بكر وعلى وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب الحقه الله بهم لما عرف من صدق نية ومعنى الحقه بهم ان الله تعالى جعله صديقا بعدهم بستة سنة لا بمعنى انه دونهم فى الرتبة بل هو أفضل غير ابو بكر رضى الله عنه وَالشُّهَداءُ لله وللرسول او على الأمم يوم القيمة عطف على الصديقين وقيل مبتداء خبره عِنْدَ رَبِّهِمْ وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة فقيل هم الأنبياء لقوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يروى ذلك عن ابن عباس وقول مقاتل ابن حبان وقال مقاتل بن سليمان هم الذين استشهدوا فى سبيل الله لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ اى الاجر والنور الموعد ان لهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ اى خالدين فيها دون غيرهم فان الصحة تدل على الملازمة والتركيب يشعر بالاختصاص.
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا مبتداء المراد ما يرغب فيه الناس فى الحيوة الدنيا بما لا يتوصل به الى المنافع الاخرة لَعِبٌ مع ما عطف عليه خبر يعنى لا فائدة فيها فانها كانت قليلة النفع نظرا الى ما يفيد فى الاخرة شريعة الزوال عد لعبا كانه لا فائدة فيها أصلا وَلَهْوٌ يمنع الناس عمايهم لهم من الأمور الاخروية وَزِينَةٌ يتزينون به كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بالأنساب وغير ذلك مما لا مزية بها عند الله تعالى
وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ط اى مباهات بكثرة الأموال والأولاد وجملة انما الحيوة الدنيا إلخ قايم مقام مفعولى اعلموا كَمَثَلِ غَيْثٍ خبر اخر للمبتداء والكاف فى محل الرفع أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ صفة الغيث تمثيل لامور الدنيا فى سرعة زوالها وقلة جدواها وانما خض الاعجاب بالكفار لان المؤمن إذا راى شيئا معجبا انتقل فكره الى قدرة صانعه فاعجب بها والان مطمح نظره الى محاسن الاخروية فلا يمد عينه الى زهرة الحيوة الدنيا وقيل المراد بالكفار والزراع ذكر فى القاموس فى معنى الكافر الزراع لان معنى الكفر الستر والزراع يستر البذر فى الأرض ثُمَّ يَهِيجُ عطف على اعجب اى ثم يبس بعاهة فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ط الحطام ما يكسر باليبس كذا فى القاموس وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لاعداء الله لاشتغالهم عما يفيدهم فى الاخرة بما هو لعب ولهو وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ ط لاوليائه لتجافيهم عن دار الغرور وتهيئهم لدار الخلود وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لمن لم يستعملها الطلب الاخرة واما من استعملها الطلب الاخرة فله متاع بلاغ الى ما هو خير منه.
سابِقُوا اى سارعوا مسارعة السابقين فى المضمار بالايمان والخوف والرجاء والأعمال الصالحة إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها اى بسطها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وقال السدى كعرض سبع سموات وسبع ارضين يعنى لو وصل بعضا ببعض وإذا كان العرض كذلك نطولها اكثر منه أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ط فيه دليل على ان الجنة مخلوقة وان الايمان وحده كاف فى استحقاقها وان الايمان بالله لا يعتد به مالم يومن برسوله ذلِكَ الموعود فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ط يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب فيه دليل على ان إدخال المؤمنين الجنة انما هو بفضل الله تعالى ومبنى على وعده غير واجب على الله تعالى كما قال به المعتزلة خذلهم الله اخرج ابو نعيم عن على رض قال قال رسول الله - ﷺ - ان الله تبارك وتعالى اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عبد الحساب يوم القيامة ان شاء أعذبه إلا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك لا تلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله - ﷺ - ان لا ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يتغمدنى برحمة منه وفضل وعن عائشة عن النبي - ﷺ - قال سددوا قاربوا بشروا
فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يتغمدنى الله بمغفرة ورحمته- ولمسلم من حديث جابر نحوه وقد ورد هذا من حديث ابى سعيد أخرجه احمد وابى موسى وشريك بن طارق أخرجهما البزاز وشريك بن ظريف واسامة بن شريك واسد بن كدر أخرجها الطبراني وستشكل هذا مع نحو قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وأجيب بان درجات الجنة متفاوتة تنال بتفاوت الأعمال واصل دخولها والخلود فيها بفضل الله ورحمته ويؤيده ما أخرجه هناد فى الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقيمون المنازل بأعمالكم واخرج ابو نعيم عن عون بن عبد الله مثله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فانه لا يبعد منه التفضل بذلك وان عظم قدره-.
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ كجدب وعاهة وكائنة فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ كمرض وافة وموت الأحباب صفة لمصيبة إِلَّا فِي كِتابٍ فى موضع الحال اى كاينة فى حال من الأحوال إلا حال كونها مكتوبة فى اللوح مثبة فى علم الله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ط اى نخلقها والضمير للمصيبة او للارض او للانفس إِنَّ ذلِكَ الإثبات مع كثرتها عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ هين.
لِكَيْلا تَأْسَوْا اى كتب فيه لئلا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ط منها فان من علم ان الكل مقدر لا يجوز تغيره بان عليه الأمر قرأ ابو عمر وبقصر الالف من الإتيان معا ولا بقوله تعالى ما فاتكم والباقون بالمد أي بما اعطاكم الله وفى قراءة الجمهور اشعار بان الفوات لا يستدعى علة فانه عدم أصلي اما الوجود والبقاء فلا يتصور إلا بعلة والمراد به نفى الاسى المانع من التسليم لامر الله والصبر والفرح الموجب للنظر والاختيال ولذلك عقبه بقوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الجملة منصوبة على الحال كُلَّ مُخْتالٍ متكبر بنعم الدنيا فَخُورٍ به على الناس قال عكرمة ليس أحد الا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا قال جعفر الصادق يا ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت ومالك تفرح بموجود لا يتركه فى يدك الموت.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ط منصوب على انه بدل من كل مختال او مرفوع على انه مبتدا خبره محذوف دل عليه قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّ اى يعرض عن الانفاق فى سبيل الله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عنه عن إنفاقه لا يضره الاعراض عن شكره لا ينفعه التقرب اليه لشكر نعمة قرأ نافع وابن عامر بغير هو وكذلك فى مصاحفهم والباقون بضمير الفصل
الْحَمِيدُ محمود فى ذاته.
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا من الملائكة الى الأنبياء ومنهم الى الأمم بِالْبَيِّناتِ بالحجج والمعجزات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ لتبين الحق من الباطل والعمل الصالح من الفاسد والحلال من الحرام وَالْمِيزانَ اى العدل وقال مقاتل بن سليمان وهو ما يوزن به وانزاله إنزال الأمر بالاستعمال ليسوى به الحقوق وقيل ان جبرئيل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه الى نوح وقال مرقومك يزنوا به لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ج بالعدل وان لا يظلم أحد أحدا علة لانزال الكتاب والميزان وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ روى عن ابن عمر يرفعه ان الله انزل اربع بركات من السماء الى الأرض الحديد والنار والماء والملح وقال اهل المعاني معنى قوله تعالى أنزلنا الحديد انشأنا وأحدثنا اى اخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه وقال قطرب هذا من النزل كما يق انزل الأمير على فلان نزلا حسنا فمعنى الاية جعل ذلك نزلا لهم ومثله قوله تعالى وانزل لكم من الانعام ثمانية ازواج فِيهِ بَأْسٌ اى حرب شَدِيدٌ فان آلات الحرب متخذة منه وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ إذ ما من صنعة الا والحديد آلتها وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ عطف على محذوف اى لتقاتلوا فى سبيل الله أعدائه وليعلم الله مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ وجاز ان يكون اللام صلة لمحذوف اى وأنزله ليعلم الله وجاز ان يكون معطوفا على مفهوم فيه بأس شديد تقديره وأنزلنا الحديد لان فيه بأسا شديدا وليعلم الله بِالْغَيْبِ ط حال من المستكن فى ينصره إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على إهلاك من أراد هلاكه عَزِيزٌ ع لا يحتاج الى نصره أحد وانما امر الناس بالجهاد تفضلا على الناس ليبتغوا به مرضات الله واستوجبوا ثواب امتثال الأمر وإعزاز الدين او الشهادة.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ بيان وتفسير لما سبق من قوله تعالى ولقد أرسلنا رسلنا وخصا بالذكر بفضلهما وكثرة ذريتهما وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يعنى فضلناهما بجعل النبوة والكتاب فى ذريتهما فان الكتب الاربعة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان أنزلت فى ذرية ابراهيم وهو من ذرية نوح عليهما السلام وذكر فى المدارك عن ابن عباس ان المراد بالكتاب الخط بالقلم يقال كتبت كتابا فَمِنْهُمْ اى من الذرية او من المرسل إليهم وقد دل عليهم الإرسال والفاء للسببية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ
اى اثار نوح وابراهيم من أرسل إليهم ولا يجوز إرجاع الضمير الى الذرية لان الرسل المقفى بهم كانوا من ذريتهما.
بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا الرسل أجمعين قبل محمد - ﷺ - بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وكان اخر أنبياء بنى إسرائيل وكان بعده فترة الرسل حتى بعث الله خاتم النبيين محمدا - ﷺ - وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً مودة ولينا وَرَحْمَةً ط تعطفا على إخوانهم وعلى المؤمنين كما قال الله تعالى لتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا انا نصارى وكما قال فى صفة اصحاب النبي - ﷺ - رحماء بينهم وَرَهْبانِيَّةً وهى المبالغة فى العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس وترك الشهوات حتى المباحة منها كالاكل بالنهار والنوم بالليل والنكاح وغيرها منسوبة الى الرهبان فعلان من الرهب بمعنى خاف كخشيان من خشى معطوف على رافة جعلنا فى قلوبهم الميل الى رهبانية ابْتَدَعُوها من قبل أنفسهم صفة لرهبانية وابتداعهم إياها لا ينافى جعل الله تعالى ميلها فى قلوبهم وجاز ان يكون رهبانية منصوبا بالفعل يفسره قوله تعالى ابتدعوها والجملة معطوفة على جعلنا فى قلوبهم رافة ورحمة وابتدعوا من قبل أنفسهم رهبانية ما كَتَبْناها اى ما كتبنا شيئا من خصائل الرهبانية عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فالاستثناء حينئذ متصل وقيل الاستثناء منقطع لعدم دخول ابتغاء مرضات الله فى الرهبانية والمعنى ولكن كتبنا عليهم ابتغاء مرضات الله فَما رَعَوْها اى الرهبانية النفي لسلب العموم لا لعموم السلب والمعنى فمارعوها جميعهم حَقَّ رِعايَتِها ج بل ضيعها بعضهم بترك ما التزموا على أنفسهم من المبالغة فى الرياضة او لقصد الرياء والسمعة والميل الى الدنيا او بكفرهم وقولهم ثالث ثلثة او قولهم بالاتخاذ او بتهودهم وكفرهم بعيسى ومحمد او بكفرهم بمحمد - ﷺ - بعد ما استقاموا على دين عيسى قبل مبعثه فهؤلاء كلهم مارعوها حق رعايتها- فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ايمانا صحيحا وحافظوا حقوقها حتى أمنوا بمحمد - ﷺ - على ما وصى به عيسى عليه السلام مِنْهُمْ اى ممن ادعى باتباع عيسى عليه السلام أَجْرَهُمْ ج اى الاجر الموعود لهم على حسب أعمالهم فمن رعى حق رعاية الترهيب كما التزم أتاه اجر عمله ومن استقام على الدين الايمان ولكن لم يراع الرهبانية حقها أتاه اجر عمله وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن اتباع عيسى وهم الذين قالوا بالتثليث وللاتخاذ او التهود او دخلوا فى دين الملوك واثبتوا على دين عيسى لكنهم كفروا بمحمد - ﷺ - روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال دخلت على رسول الله فقال يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة نحا منهم ثلثة وهلك سايرهن فوقة وازت الملوك
203
وقاتلوهم على دين عيسى فاخذوهم وقتلوهم وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بان يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم الى دين الله ودين عيسى فساحوا فى البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم فقال النبي - ﷺ - من أمن بي وصدقنى واتبعنى فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فاولئك هم الهالكون وقال البغوي روى عن ابن مسعود قال كنت رديف رسول الله - ﷺ - على حمار فقال يا ابن أم عبد هل تدرى من اين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية قلت الله ورسوله اعلم قال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب اهل الايمان فقاتلوهم فهزم اهل الايمان ثلث مرات فلم يبق منهم الا قليل فقالوا ان ظهرنا هؤلاء أفتونا ولم يبق للدين أحد يدعوا اليه فقالوا تعالوا فتفرق فى الأرض الى ان يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون محمدا - ﷺ - فتفرقوا فى غير ان الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الاية ورهبانية ابتدعوها الاية فاتينا الذين أمنوا منهم يعنى ثبتوا عليها أجرهم ثم قال النبي - ﷺ - يا ابن أم عبدا تدرى ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله اعلم قال الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلال قال وروى عن انس عن النبي - ﷺ - ان لكل امة رهبانية ورهبانية هذه الامة الجهاد فى سبيل الله وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت الملوك بعد عيسى عليه السلام بدلوا التورية والإنجيل وكان فيهم مومنون يقرؤن التوراة والإنجيل ويدعونهم الى دين الله فقيل لملوكهم لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم او دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل او يتركوا قراءة التوراة والإنجيل الا ما بدلوا منها فقالوا نحن نكفيكم أنفسنا
فقالت طايفة ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا ترفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم وقالت طايفة دعونا نسيح فى الأرض ونهيم ونشرب كما نشرب الوحش فان قدرتم علينا بأرض فاقتلونا وقالت طايفة ابنوا لنا دورا فى الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ففعلوا ذلك فمعنى أولئك على منهاج عيسى وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فجعل الرجل يقول نكون نحن فى مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذدورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بايمان الذين اقتدوا بهم فلك قومه؟؟؟
عز وجل وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها اى ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها يعنى الآخرين الذين جاؤا من بعدهم فاتينا الذين أمنوا منهم أجرهم يعنى الذين ابتدعوها ابتغاء مرضات الله وكثير منهم فاسقون
204
هم الذين جاؤا من بعدهم قال فلما بعث النبي - ﷺ - ولم يبق منهم الا قليل حط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحة وصاحب الدير من ديره وأمنوا به واخرج الطبراني فى الأوسط بسند فيه من لا يعرف عن ابن عباس ان أربعين من اصحاب النجاشي قدموا فشهدوا وقعة أحد فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا يا رسول الله انا اهل ميسرة فاذن لنا نجىء باموالنا نواسى بها المسلمين فانزل الله تعالى الذين آتيناهم الكتب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا أمنا به انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبرو فلما نزلت قالوا يا معشر المسلمين اما من أمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله اجر كاجوركم فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد - ﷺ - يُؤْتِكُمْ هو وما عطف عليه مجزوم فى جواب الأمر كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ وكذا اخرج ابن ابى داود خاتم عن مقاتل قال لما نزلت أولئك يؤتون أجرهم مرتين الاية فخرمو من اهل الكتاب على اصحاب النبي - ﷺ - فقالوا لنا أجران ولكم اجر فشق ذلك على الصحابة فانزل الله تعالى هذه الاية فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمنى اهل الكتاب وعلى هذه الرواية الخطاب فى قوله تعالى يا ايها الذين أمنوا لاصحاب النبي - ﷺ - عامة وحينئذ قوله وأمنوا برسوله تأكيد لما سبق يعنى أمنوا لجميع ما جاء به الرسول حق الايمان وقال البغوي واكثر المفسرين هذا خطاب اهل الكتابين من اليهود والنصارى يقول الله تعالى يايها الذين أمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله فى محمد أمنوا برسوله محمد - ﷺ - يؤتكم كفلين من رحمته يعنى يوتكم أجرين لايمانكم بعيسى والإنجيل وبحمد والقران وقال البيضاوي لا يبعد ان يثابوا اى اليهود ايضا على دين السابق وان كان منسوخا ببركة الإسلام وقيل الخطاب للنصارى الذين كانوا فى عصره وفى الصحيحين عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله - ﷺ - ثلثة لهم أجران رجل من اهل الكتاب أمن بنبيه وأمن بمحمد - ﷺ - والعبد المملوك ادى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده امة يطاها فادبها فاحسن تأديبها وعلمها فاحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ على الصراط كذا قال ابن عباس ومقاتل فهذه الاية نظيره قوله تعالى يسعى نورهم بين أيديهم وبايمانهم ويروى عن ابن عباس ان النور هو القران وقال مجاهد هو الهدى والبيان اى يجعل لكم سبيلا واضحا فى الدين تهتدون به الى جناب القدس وجنات الفردوس وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط ما سبق من ذنوبكم
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ اخرج ابن جرير عن قتادة قال بلغنا انه لما نزلت يؤتكم كفلين من رحمته حسد اهل الكتاب المسلمين عليها فانزل الله تعالى.
لِئَلَّا يَعْلَمَ متعلق بافعال واقعة فى جواب الأمر على التنازع قيل متعلق بمحذوف تقديره أعلمكم بذلك لئلا يعلم ولا مزيدة والمعنى ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ان هى المخففة والمعنى انه لا ينالون شيئا من فضل الله الا بمشية الله تعالى ولا يقدرون على نيله باختيارهم هذه الرواية عن قتادة يناسب ما روى الطبراني عن ابن عباس وابن ابى حاتم عن مقاتل ان الخطاب فى قوله تعالى يايها الذين أمنوا اتقوا الله وأمنوا برسوله للمؤمنين عامة لا لاهل الكتاب وذكر البغوي قول قتادة انه حسد الذين لم يؤمنوا من اهل الكتاب المؤمنين منهم فانزل الله تعالى لئلا يعلم اهل الكتاب ان لا يقدرون على شىء من فضل الله على خلاف ما زعموا انهم أبناء الله وأحبائه واهل رضوانه وانهم لا يتمكنون من نيل شىء من الاجر والثواب لانهم لم يؤمنوا برسله وهو مشروط بالايمان به وعلى هذا يناسب ما ذكر المفسرون فى الاية خطاب لاهل الكتابين وقيل لا غير مزيدة والمعنى لئلا يعتقد اهل الكتاب انه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شىء من فضل الله ولا ينالون واخرج ابن المنذر عن مجاهد وكذا ذكر البغوي ان لا يقدرون على شىء من فضل الله على خلاف ما زعموا انهم أبناء الله وأحبائه واهل رضوانه وانهم لا يتمكنون من نيل شىء من الاجر والثواب لانهم لم يومنوا برسله وهو مشروط بالايمان به وعلى عنه انه قال قالت اليهود يوشك ان يخرج منا نبى فيقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فانزل الله لئلا يعلم اهل الكتاب اى ليعلم الذين لم يؤمنوا منهم انه لا يقدرون على شىء من فضل الله فضلا ان يتصرفوا فى أعظمه وهو النبوة ويؤيده قوله تعالى وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ط خبر بعد خبر لان وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ روى البخاري فى صحيحه عن ابن عمر عن رسول الله - ﷺ - قال انما اجلكم فى أجل من خلا من الأمم ما بين صلوة العصر الى مغرب الشمس وانما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عملا فقال من يعمل لى الى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود الى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل من نصف النهار الى العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار الى صلوة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لى من صلوة العصر الى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين الا فانتم الذين تعملون من صلوة العصر الى مغرب الشمس الا لكم الاجر مرتين فغضب اليهود والنصارى فقالوا نحن اكثر عملا واقل عطاء فقال الله تعالى فهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال الله تعالى فانه فضل أعطيه من شئت وروى البخاري عن ابى موسى عن النبي - ﷺ - قال مثل
206
المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استاجر قوما يعملون عملا يوما الى الليل على اجر معلوم فعملوا الى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا الى أجرك الذي شرطت لنا فهو باطل فقال لهم الا تفعلوا بقية عملكم وخذوا اجركم كاملا فابوا وتركوا واستاجر آخرين بعدهم فقال اكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت من الاجر فعملوا حتى إذا كان صلوة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الاجر الذي جعلت لنا فيه فقال اكملوا بقية عملكم فانما بقي من النهار شىء يسير فابوا فاستاجر قوما ان يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غاب الشمس فاستكملوا اجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور والله تعالى اعلم قلت حديث ابن عمر حكاية عن اليهود والنصارى الذين عملوا على ما أمرهم الله تعالى قبل ان ينسخ دينهم فلهم أجرهم على ما وعدهم الله تعالى وحديث ابى موسى حكاية عن اليهود الذين كفروا بعيسى والنصارى الذين كفروا بمحمد - ﷺ - وتركوا ما أمرهم الله تعالى وقد أخذ منهم الميثاق انه إذا جاءكم رسول مصدقا لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه فهؤلاء لا اجر لهم أصلا وحبط ما كانوا يعملون وفى الحديثين بشارة لامة محمد - ﷺ - بانهم يوتون الأجور على أضعاف أجور الصالحين من الأمم الماضيين وبانهم لا يزالوا على الحق الى يوم القيامة إنشاء الله تعالى وعن معاوية قال سمعت النبي ﷺ يقول لا يزال من أمتي قائمة بامر الله
لا يضرهم من خذلهم ولا خالفهم حتى يأتي امر الله وهم على ذلك متفق عليه اللهم اجعلنى من الامة القائمة بامرك المويدة لدينك وبحرمة نبيك واله وأصحابه أجمعين صلى الله تعالى عليه وعلى اله وأصحابه أجمعين برحمتك يا ارحم الراحمين روى ابو داود والترمذي والنسائي عن عرباض بن سارية انه ﷺ كان يقرأ المسبحات قبل ان يرقد ويقول ان فيهن اية خير من الف اية قلت لعل ذلك الاية التسبيح روى النسائي عن معاوية موقوفا انهن الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن والأعلى قلت ومنها على بنى إسرائيل ولم يذكرها معاوية وقد روى الترمذي والنسائي والحاكم وحتى يقرأ بنى إسرائيل والزمر خشيت ان النبي ﷺ كان يقرأ المسبحات السبع قبل ان يرقد.
207
Icon