تفسير سورة الحديد

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

٥٧ شرح إعراب سورة الحديد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحديد (٥٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
سَبَّحَ عظّم ورفّع مشتق من السباحة وهي الارتفاع، والتقدير: ما في السّموات وما في الأرض، وحذفت «ما» على مذهب أبي العباس وهي نكرة لا موصولة لأنه لا يحذف الاسم الموصول، وأنشد النحويون: [الرجز] ٤٦٣-
لو قلت ما في قومها لم تيثم يفصلها في حسب وميسم
«١» فالتقدير: من يفضلها «٢». وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مبتدأ وخبره أي العزيز في انتقامه ممن عصاه الذي لا ينتصر منه من عاقبه من أعدائه الحكيم في تدبّره خلقه الذي لا يدخل في تدبيره خلل.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رفع بالابتداء. يُحْيِي وَيُمِيتُ في موضع نصب على الحال، ومرفوع لأنه فعل مستقبل. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مبتدأ وخبره.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٣]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ مثله. ولم ينطق من الأول بفعل، وهو على أفعل لأن فاءه وعينه من موضع واحد فاستثقل ذلك والآخر ليس بجار على الفعل لأنه من تأخّر.
(١) الرجز لحكيم بن معيّة في خزانة الأدب ٥/ ٦٢، وله أو لحميد الأرقط في الدرر ٦/ ١٩، ولأبي الأسود الحماني في شرح المفصّل ٣/ ٥٩، والمقاصد النحوية ٤/ ٧١، ولأبي الأسود الجمالي (وهذا تصحيف) في شرح التصريح ٢/ ١١٨، وبلا نسبة في الكتاب ٢/ ٣٦٤، والخصائص ٢/ ٣٧٠، وشرح الأشموني ٢/ ٤٠٠، وشرح عمدة الحافظ ٥٤٧، وهمع الهوامع ٢/ ١٢٠.
(٢) انظر الكتاب ٢/ ٣٦٤ (يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا).
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ قيل: معنى الظاهر الذي ظهرت صنعته وحكمته، وقيل العالم بما ظهر وما بطن. ومن أحسن ما قيل فيه أنه من ظهر أي قوي وعلا، فالمعنى الظاهر على كل شيء العالي فوقه فالأشياء دونه. الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه، ومثله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] ويدلّ على هذا أن بعده وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي لا يخفى عليه شيء.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٤]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)
يكون الَّذِي في موضع رفع على إضمار مبتدأ لأنه أول آية. قال: ويجوز أن يكون نعتا لما تقدم ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح أعني بهذا المدح الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها يقال: ولج يلج إذا دخل. والأصل يولج حذفت الواو لأنها بين ياء وكسرة. وَهُوَ مَعَكُمْ نصب على الظرف، والعامل فيه المعنى أي وهو شاهد معكم حيث كنتم. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي بما تعملونه من حسن وسيّئ وطاعة ومعصية حتّى يجازيكم عليها.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٥]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي سلطانهما فأمره وحكمه نافذ فيهما وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه مصيركم ليجازيكم بأعمالكم.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٦]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي نقصان الليل في النهار فتكون زيادة وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل نقصان النهار في الليل فتكون زيادة فيه، كما قال عكرمة وإبراهيم هذا في القصر والزيادة ولم يحذف الواو من يولج وهي بين ياء وكسرة لأن الفعل رباعي لا يجوز أن يغير هذا التغيير وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما تخفونه في صدوركم من حسن وسيئ أو تهمّون به في أنفسكم. وفي الحديث «إنّ الدعاء يستجاب بعد قراءة هذه الآيات السّت» «١».
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٧]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
أي يخلفون من كان قبلهم، وحضّهم على الإنفاق لأنهم يفنون كما فني الذين من
(١) انظر تفسير القرطبي ١٧/ ٢٣٥.
قبلهم ويورثون. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا فالذين مبتدأ أي الذين آمنوا منكم بالله ورسوله. لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ أي ثواب عظيم.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٨ الى ٩]
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩)
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ في موضع نصب على الحال، والمعنى أيّ شيء لكم إن كنتم تاركين الإيمان؟ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ قد أظهر البراهين والحجج. لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قال الفرّاء «١» : القرّاء جميعا على وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قال: ولو قرئت وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ لكان صوابا. قال أبو جعفر: هذا كلامه نصا في كتابه وهو غلط، وقد قرأ أبو عمرو وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ «٢» غير أن أبا عبيد قال: والقراءة عندنا هي الأولى وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ لأن الأمة عليها ولأن ذكر الله جلّ وعزّ قبل الآية وبعدها. قال أبو جعفر: أما قوله: لأن الأمة عليها، فحجة بيّنة لأن الأمة الجماعة، وأما قوله: لأن ذكر الله عزّ وجلّ اسمه قبل الآية وبعدها، فلا يلزم لأنه قد عرف المعنى. وللعلماء في أخذ الميثاق قولان: أحدهما أنه أخذ الميثاق حين أخرجوا من ظهر أدم صلّى الله عليه وسلّم بأن الله عزّ وجلّ ربّهم لا إله لهم سواه، وهذا مذهب العلماء من أصحاب الحديث منهم مجاهد، والقول الآخر أنه مجاز لما كانت آيات الله جلّ وعزّ بيّنة والدلائل واضحة وحكمته ظاهرة، يشهد بها من راها كان علمه بذلك بمنزلة أخذ الميثاق منه. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيل:
المعنى إن كنتم عازمين على الإيمان فهذا أوانه لما ظهر لكم من البراهين والدلائل، ويدل على هذا أن بعده هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات. لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، كما قال مجاهد من الضلالة إلى الهدى.
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حين بيّن لكم هداكم.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٠]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «أن» في موضع نصب على المعنى وأي عذر لكم في
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ١٣٢.
(٢) انظر تيسير الداني ١٦٨ (قرأ أبو عمرو «أخذ» بضمّ الهمزة وكسر الخاء و «ميثاقكم» بالرفع، والباقون بفتح الهمزة والخاء والنصب).
أن لا تنفقوا في سبيل الله وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فحضّهم بهذا على الإنفاق لأنهم يموتون ويخلّفون ما بخلوا به ويورّثونه. لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ اختلف العلماء في معنى هذا الفتح فقال قتادة: الذين أنفقوا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل فتح مكة وقاتلوا، أفضل من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا، وكذا قال زيد بن أسلم، وقال الشّعبي: الذين أنفقوا قبل الحديبية وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد فتح الحديبية وقاتلوا. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب لأن عطاء بن يسار روى عن أبي سعيد الخدري قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح الحديبية: «يأتون أقوام تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا: يا رسول الله أمن قريش هم؟ قال: «لا هم أهل اليمن أرقّ أفئدة وألين قلوبا». قلنا: يا رسول الله أهم خير منا؟
قال «لا لو أنّ لأحدهم جبل ذهب ثم أنفقه ما بلغ مدّ أحدكم ولا نصيفه. هذا فضل ما بعيننا وبين الناس» «١» لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. حكى أبو حاتم وكلّ وعد الله الحسنى»
بالرفع. قال أبو جعفر: وقد أجاز سيبويه مثل هذا على إضمار الهاء، وأنشد: [المتقارب] ٤٦٤-
فثوب نسيت وثوب أجرّ
«٣» وأبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز هذا في منثور ولا منظوم إلّا أن يكون يجوز فيه غير ما قدّره سيبويه، وهو أن يكون الفعل نعتا فيكون التقدير: فثمّ ثوب نسيت فعلى هذا لا يجوز في ثوب إلّا الرفع، ولا يجيز زيد ضربت لأنه ليس فيه شيء من هذا فيكون كلّ بمعنى وأولئك كلّ وعد الله فيكون نعتا. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مبتدأ وخبره أي من إنفاق وبخل حتّى يجازيكم عليه.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١١]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
مَنْ في موضع رفع بالابتداء وذَا خبره والَّذِي نعت لذا وفيه قولان آخران: أحدهما أن يكون «ذا» زائدا مع الذي، والقول الآخر أن يكون «ذا» زائدا مع
(١) انظر المعجم المفهرس لونسنك ١/ ٤٨٧.
(٢) انظر تيسير الداني ١٦٩.
(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ١٥٩، والكتاب ١/ ١٣٩، والأشباه والنظائر ٣/ ١١٠، وخزانة الأدب ١/ ٣٧٣، وشرح شواهد المغني ٢/ ٨٦٦، والمقاصد النحوية ١/ ٥٤٥، وبلا نسبة في المحتسب ٢/ ١٢٤، ومغني اللبيب ٢/ ٤٧٢، وصدره:
«فأقبلت زحفا على الرّكبتين».
«من»، وهذا قول الفرّاء «١»، وزعم أنه رأى في بعض مصاحف عبد الله، «منذا» بوصل النون مع الذال جعلا شيئا واحدا، ولا يجيز البصريون أن تزاد «ذا» مع «من» ويجيزون ذلك مع «ما»، لأن «ما» مبهمة فذا تجانسها، وعلى هذا قرئ وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: ٢١٩] بالنصب، وزيادة «ذا» مع «الذي» أقرب ألا ترى أن «الذي» تصغّر كما تصغّر «ذا» فيقال: اللّذيّا، يقال: ذيّا وقد عورض سيبويه في قوله: الذي بمنزلة العمي فقيل: كيف هذا؟ وإنما يقال في تصغير العمي: العميّ، ويقال في تصغير الذي: اللذيّا، ويقال: اللّذيان والعميان فيوخذ هذا كلّه مختلفا فكيف يكون الذي بمنزلة العمي؟ وهذا لا يلزم منه شيء، وليس هذا موضع شرحه. «قرضا» منصوب على أنه اسم للمصدر كما يقال: أجابه إجابة، ويجوز أن يكون مفعول به كما تقول: أقرضته مالا، «حسنا» من نعت قرض. قيل: معنى الحسن هاهنا الحلال فإن الإقراض أن ينفق محتسبا لله عزّ وجلّ مبتغيا ما عنده فَيُضاعِفَهُ لَهُ قال الفرّاء «٢» : جعله عطفا على يقرض. كما تقول: من يجيء فيكرمني ويحسن إليّ، وقال أبو إسحاق: يجوز أن يكون مقطوعا من الأول مستأنفا، ومن قرأ فيضعفه «٣» جعله جواب الاستفهام فنصبه بإضمار «أن» عند الخليل، وسيبويه والجرمي ينصبه بالفاء. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ قيل:
الجنة.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٢]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
نصبت يوما على الظرف أي لهم أجر في ذلك اليوم، و «ترى» في موضع خفض بالإضافة «يسعى» في موضع نصب على الحال فأما قوله جلّ وعزّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ولم يذكر الشمائل فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قال الضحّاك: نورهم هداهم، ومال إلى هذا القول محمد بن جرير قال: لأن المؤمنين نورهم حواليهم من كل جهة فلما خص الله جلّ وعزّ بين أيديهم وبأيمانهم علم أنه ليس بالضياء، والباء بمعنى «في» وقال بعض نحويي البصريين هي بمعنى عن قال أبو جعفر: وقيل النور هاهنا نور كتبهم وإنما يعطون كتبهم بأيمانهم من بين أيديهم فلهذا وقع الخصوص. قال أبو جعفر: وأجلّ ما قيل في هذا ما قاله عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه، قال: يعطى المؤمنون أنوار على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نورا مثل الجبل، وأقل ذلك أن يعطى نورا على إبهامه يضيء مرة ويطفأ مرة. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي يقال لهم، وحذف القول
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ١٢٣. [.....]
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ١٣٢.
(٣) انظر البحر المحيط ٨/ ٢١٩، وتيسير الداني ٦٩.
«بشراكم» في موضع رفع بالابتداء «جنات» خبره، وأجاز الفرّاء: في «جنّات» النصب من جهتين، إحداهما على القطع ويكون اليوم في موضع الخبر وإن كان ظرفا، وأجاز رفع «اليوم» على أنه خبر «بشراكم»، وأجاز أن يكون «بشراكم» في موضع نصب يعني يبشّرونهم بالبشرى، وأن ينصب «جنات» «بالبشرى» قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا من النحويين ذكر هذا غيره وهو متعسّف لأن جَنَّاتٌ إذا نصبها على القطع، وليست بمعنى الفعل بعد ذلك وإن نصبها بالبشرى، فإن كان نصبها ببشراكم فهو خطأ بين، لأنها داخلة في الصلة فيفرق بين الصلة والموصول باليوم، وليس هو في الصلة، وهذا لا يجوز عند أحد النحويين، وإن نصبت «جنات» بفعل محذوف فهو شيء متعسّف ومع هذا فلم يقرأ به أحد، خالِدِينَ نصب على الحال. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. قال الفرّاء «١» : وفي قراءة عبد الله ذلك الفوز العظيم ليس فيها «هو». قال أبو جعفر:
«ذلك» مبتدأ، و «هو» زائدة للتوكيد. الْفَوْزُ الْعَظِيمُ خبر ذلك، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ ثانيا والجملة خبر ذلك.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٣]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣)
نصبت يوما على الظرف أي وذلك الفوز العظيم في ذلك اليوم، ويجوز أن يكون بدلا من اليوم الذي قبله، انْظُرُونا من نظر ينظر بمعنى النظر. وهذه القراءة البيّنة.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة. وأنظرونا «٢» بفتح الهمزة، وزعم أبو حاتم أن هذا خطأ، قال: وإنما يأتينا هذا من شقّ الكوفة. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: إنما لحن حمزة في هذا لأن الذي لحنه قدّر «أنظرنا» بمعنى أخّرنا وأمهلنا، فلم يجز ذلك هاهنا. وهو عندي يحتمل غير هذا لأنه يقال: أنظرني بمعنى تمهّل عليّ وترفّق، فالمعنى على هذا يصحّ. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ مجزوم لأنه جواب. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً أي قال المؤمنون للمنافقين ارجعوا إلى الموضع الذي كنا فيه فاطلبوا ثمّ النور. قال أبو جعفر: وشرح هذا ما روي عن ابن عباس قال: يغشى الناس ظلمة المؤمنين والمنافقين والكافرين، فيبعث الله جلّ وعزّ نورا يهتدي به المؤمنون إلى الجنة فإذا تبعه المؤمنون تبعهم المنافقون، فيضرب الله جلّ وعزّ بينهم بسور باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فينادي المنافقون المؤمنين انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فيقول لهم المؤمنون: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الموضع الذي كنا فيه وفيه الظلمة فجاء النور
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ١٣٣.
(٢) انظر تيسير الداني ١٦٩ (قرأ حمزة «انظرون» بقطع الهمزة وفتحها في الحالين وكسر الظاء والباقون بالألف الموصولة ويبتدئونها بالضمّ وضمّ الظاء).
فالتمسوا منه النور. قال أبو جعفر: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله والباء زائدة، وعلى قول محمد بن يزيد هي متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل، وضمّت الضاد في «ضرب» للفرق فإن قيل: فلم لا كسرت؟ فالجواب عند بعض النحويين أنها ضمّت كما ضمّ أول الاسم في التصغير وهذا الجواب يحتاج إلى جوابين: أحدهما الجواب لم ضمّ أول الاسم المصغّر؟ ولم ضمّ أول فعل ما لم يسمّ فاعله؟ والجواب أن أول فعل ما لم يسم فاعله ضمّ لأنه لمّا وجب الفرق بينه وبين الفعل الذي سمّي فاعله لم يجز أن يكسر إلا لعلّة أخرى لأن بينه ما سمّي فاعله قد يأتي مكسورا في قول بعضهم: أنت تعلم ونحن نستعين، ويأتي مفتوحا، وهو الباب فلم يبق إلّا الضم، وليس هذا موضع جواب التصغير. لَهُ بابٌ قال كعب الأحبار:
باب الرحمة الذي في بيت المقدس هو الذي ذكره الله جلّ وعزّ. قال قتادة: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ الجنة وما فيها. وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ النار.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٤]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤)
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي نصلّي معكم ونصوم ونوارثكم ونناكحكم، قالُوا بَلى أي قد كنتم معنا كذلك وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ قال مجاهد: بالنفاق. وَتَرَبَّصْتُمْ قال ابن زيد: بالإيمان وَارْتَبْتُمْ قال: شكّوا، وقال غيره: ارتبتم فعلتم فعل المرتابين بوعد الله جلّ وعزّ ووعيده وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي خدعتكم أمانيّ أنفسكم فصددتم عن سبيل الله جلّ وعزّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قيل: قضاؤه بمناياكم وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قال مجاهد وقتادة:
الغرور الشيطان. قال أبو جعفر: فعول في كلام العرب للتكثير، وهو يتعدى عند البصريين. تقول: هذه غرور زيدا. وغفور الذنب، وأنشد سيبويه في تعدّيه إلى مفعول: [الرمل] ٤٦٥-
ثمّ زادوا أنّهم في قومهم... غفر ذنبهم غير فجر
«١»
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٥]
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وقرأ يزيد بن القعقاع تؤخذ «٢» بالتاء لأن الفدية مؤنثة،
(١) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ٥٥، والكتاب ١/ ١٦٨، وخزانة الأدب ٨/ ١٨٨، والدرر ٥/ ٢٧٤، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٦٨، وشرح التصريح ٢/ ٦٩، وشرح عمدة الحافظ ٦٨٢، وشرح المفصل ٦/ ٧٤، والمقاصد النحوية ٣/ ٥٤٨، ونوادر أبي زيد ١٠.
(٢) انظر تيسير الداني ١٦٩، والبحر المحيط ٨/ ٢٢١.
ومن ذكّرها فلأنها والفداء واحد وهي البدل والعوض وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي لا يؤخذ من الذين كفروا بدل ولا عوض من عذابهم مَأْواكُمُ النَّارُ أي مسكنكم النار مبتدأ وخبره، وكذا هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وبئس المصير النار ثم حذف هذا.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٦]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦)
وعن الحسن أَلَمْ يَأْنِ «١» يقال: أإن يئين وأني يأنى وحان يحين، ونال ينال وأنال ينيل بمعنى واحد و «أن» في موضع رفع بيأن. وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ «ما» في موضع خفض أي ولما نزل، هذه قراءة شيبة ونافع، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكوفيون وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ «٢» وعن عبد الله بن مسعود أنه قرأ وما أنزل من الحقّ وأبو عبيد يختار التشديد لأن قبله ذكر الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: والمعنى واحد لأن الحق لا ينزل حتّى ينزله الله عزّ وجلّ، وليس يقع في هذا اختيار وله جاز أن يقال في مثل هذا اختيار لقيل: الاختيار نزل: لأن قبله لِذِكْرِ اللَّهِ ولم يقل لتذكير الله. وَلا يَكُونُوا «٣» كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يكونوا في موضع نصب معطوف على «تخشع» أي وألا يكونوا، ويجوز أن تكون في موضع جزم. والأول أولى لأنها واو عطف، ولا يقطع ما بعدها ممّا قبلها إلّا بدليل فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ قال مجاهد الدّهر. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي لم تلن ولم تقبل الوعظ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ مبتدأ وخبره ولم يعمّوا بالفسق لأن منهم من قد آمن، ومنهم من لم تبلغه الدعوة، وهو مقيم على ما جاء به نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٧]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قيل: فالذي فعل هذا هو الذي يهدي ويسدّد من أراد هدايته ومن ضلّ عن طريق الحقّ. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي بالحجج والبراهين لتكونوا على رجاء من أن تعقلوا ذلك، هذا قول سيبويه. وغيره يقول: «لعلّ» بمعنى «كي» ولو كان كذلك لكان تعقلوا بغير نون.
(١) انظر البحر المحيط ٨/ ٢٢٢.
(٢) انظر تيسير الداني ١٦٩ (قرأ نافع وحفص «وما نزل» مخفّفا والباقون مشدّدا).
(٣) انظر البحر المحيط ٨/ ٢٢٢ (بالياء قراءة الجمهور، وبالتاء قراءة أبي حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر وعن شيبة ويعقوب وحمزة).

[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٨]

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ الأصل المتصدقين ثم أدغمت التاء في الصاد. وفي قراءة أبيّ إنّ المتصدقين «١» وفي قراءة ابن كثير وعاصم إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ «٢» أي المؤمنين من التصديق، والأول من الصدقة وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ قيل. الجنة.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٩]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ مبتدأ. أُولئِكَ يكون مبتدأ ثانيا، ويجوز أن يكون بدلا من الذين، ولا يكون نعتا لأن المبهم لا يكون نعتا لما فيه الألف واللام لا يجوز مررت بالرجل هذا، على النعت عند أحد علمته، ولو قلت: مررت بزيد هذا على النعت لجاز، وخير الابتداء الصِّدِّيقُونَ قال أبو إسحاق: صدّيق على التكثير أي كثير التصديق، وقال غيره: هذا خطأ لأن فعيلا لا يكون إلا من الثلاثي مثل سكّيت من سكت، وصدّيق للكثير الصّدق. ومن هذا قيل لأبي بكر رضي الله عنه: الصّدّيق، حتّى كان يعرف بذلك في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنّ الله جلّ وعزّ سمّى أبا بكر صدّيقا».
وَالشُّهَداءُ على هذا معطوفون على الصديقين يدلّ على صحة ذلك ما رواه بن عجلان عن زيد بن أصمّ عن البرآء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مؤمنو أمتي شهداء» «٣» ثم تلا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ الآية. قال أبو جعفر: فهذا القول أولى من جهة الحديث والعربية لأن الواو واو عطف فسبيل ما بعدها أن يكون داخلا فيما قبلها إلّا أن يمنع مانع من ذلك أن يكون حجّة قاطعة وقد قيل: إن التمام أولئك هم الصديقون وإن الشهداء ابتداء. وهذا يروى عن ابن عباس وهذا اختيار محمد بن جرير وزعم أنه أولى بالصواب لأن المعروف من معنى الشهداء أنه المقتول في سبيل الله جلّ وعزّ ثم استثنى فقال: إلّا أن يراد بالشهداء أنه يشهد لنفسه عند ربّه بالإيمان، قال أبو جعفر: وإذا كان و «الشهداء» مبتدأ فخبره عِنْدَ رَبِّهِمْ ويجوز أن يكون خبره. لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وهذا عطف جملة على جملة والأول على خلاف هذا يكون «والشهداء» معطوفا على الصّدّيقين ويكون لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ للجميع. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا مبتدأ.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول.
(١) انظر تيسير الداني ١٦٩، ومختصر ابن خالويه ١٥٢، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦٢٦.
(٢) انظر تيسير الداني ١٦٩، ومختصر ابن خالويه ١٥٢، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦٢٦.
(٣) انظر تفسير القرطبي ٢٧/ ٢٣١.

[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٠]

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ «ما» كافة لأنّ عن العمل ولو جعلتها صلة لنصبت الحياة والدنيا من نعتها، لَعِبٌ خبر، والمعنى: مثل لعب أي يفرح الإنسان بحياته فيها كما يفرح باللعب ثم تزول حياته كما يزول لعبه وزينته وما يفاخر به الناس ويباهيهم به من كثرة الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ. قال أبو إسحاق: الكاف في موضع رفع على أنها نعت أي وتفاخر مثل غيث قال:
ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. والكفّار الزرّاع. وإذا أعجب الزراع كان على نهاية من الحسن. قال: ويجوز أن يكونوا الكفار بأعيانهم، لأن الدنيا للكفار أشدّ إعجابا لأنهم لا يؤمنون بالبعث قال: و «يهيج» يبتدئ في الصفرة ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً قال: متحطّما. فضرب الله جلّ وعزّ هذا مثلا للحياة الدنيا وزوالها ثمّ خبر جلّ وعزّ بما في الآخرة فقال: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«لموضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها فاقرؤوا إن شئتم» : وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ «١».
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢١]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا بالأعمال التي توجب المغفرة إلى مغفرة من ربكم وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قال أبو جعفر: قد تكلّم قوم من العلماء في معنى هذا فمنهم من قال: العرض هاهنا السعة ومنهم من قال: هو مثل الليل والنهار إذا ذهبا فالله جلّ وعزّ أعلم أين يذهبان، وأجاب بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من قال: هذه هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، والسماء مؤنثة ذكر ذلك الخليل رحمه الله وغيره من النحويين سوى الفرّاء وبذلك جاء القرآن إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١] وحكى الفرّاء أنها تؤنّث وتذكّر، وأنشد: [الوافر] ٤٦٦-
فلو رفع السّماء إليه قوما لحقنا بالسّماء مع السّحاب
«٢» وهذا البيت لو كان حجّة لحمل على غير هذا، وهو أن يكون يحمل على تذكير
(١) أخرجه أحمد في مسنده ٣/ ٤٣٣، والدارمي في سننه ٢/ ٣٣٣، والسيوطي في الدر المنثور ٢/ ١٠٧، وابن كثير في تفسير ٢/ ٢٥٥.
(٢) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (سما)، والمذكر والمؤنث للأنباري ص ٣٦٧، والمذكر والمؤنث للفراء ص ١٠٢، والمخصص ١٧/ ٢٢. [.....]
الجميع ذكر محمد بن يزيد: أن سماء تكون جمعا لسماوة وأنشد هو وغيره: [الوافر] ٤٦٧-
سماوة الهلال حتّى احقوقفا
«١» ويدلّ على صحة هذا قوله جلّ وعزّ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ [البقرة:
٢٩] وإذا كانت السماء واحدة فتأنيثها كتأنيث عناق، وتجمع على ستة أوجه منهن جمعان مسلّمان، وجمعان مكسّران لأقل العدد، وجمعان مكسّران لأكثره، وذلك قولك: سموات وسماءات وأسم وأسمية وسمايا وسميّ وإن شئت كسرت السين من سميّ، وقد جاء فيها أخر في الشّعر كما قال: [الطويل] ٤٦٨-
سماء الإله فوق سبع سمائيا
«٢» فعلى هذا جمع سماء على سماء وفيه من الأشكال والنحو اللطيف غير شيء، فمن ذلك أنه شبه سماء برسالة لأن الهاء في رسالة زائدة. ووزن فعال وفعال واحد، فكان يجب على هذا أن يقول: سمايا فعمل شيئا أخر فجمعها على سماء على الأصل لأن الأصل في خطايا خطاء ثم عمل شيئا ثالثا كان يجب أن يقول: فوق سبع سماء، فأجرى المعتلّ مجرى السالم وجعله بمنزلة ما لا ينصرف من السالم، وزاد الألف للإطلاق. والأرض مؤنّثة، وقد حكي فيها التذكير، كما قال: [المتقارب] ٤٦٩-
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل ابقالها
«٣» قال أبو جعفر: وقد ردّ قوم هذا، ورووا «ولا أرض أبقلت ابقالها» بتخفيف الهمزة. قال ابن كيسان: في قولهم أرضون حركوا هذه الراء لأنهم أرادوا: أرضات فبنوه على ما يجب من الجمع بالألف والتاء، قال: وجمعوه بالواو والنون عوضا من حذف الهاء في واحدة ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ مبتدأ وخبره أي ذلك الفضل من التوفيق والهداية والثواب فضل الله يؤتيه من يشاء أي يؤتيه إياه من خلقه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مبتدأ وخبره.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٢]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢)
(١) مرّ الشاهد رقم (٤٢٣).
(٢) الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ٧٠، وخزانة الأدب ١/ ٢٤٤، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٣٠٤، ولسان العرب (سما)، وبلا نسبة في الكتاب ٣/ ٣٤٩، والأشباه والنظائر ٢/ ٣٣٧، والخصائص ١/ ٢١١، وما ينصرف وما لا ينصرف ١١٥، والمقتضب ١/ ١٤٤، والممتع في التصريف ٢/ ٥١٣، والمنصف ٢/ ٦٦. وصدره:
«له ما رأت عين البصير وفوقه»
(٣) مرّ الشاهد رقم (١٥٢).
قال قتادة: فِي الْأَرْضِ يعني السنين أي الحرب والقحط. وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ الأوصاب والأمراض إلّا في كتاب. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها يكون من قبل أن نخلق الأنفس هذا قول ابن عباس والضحّاك والحسن وابن زيد، وقيل: الضمير للأرض، وقيل:
للمصائب والأول أولاها لأن الجلّة قالوا به، وهو أقرب إلى الضمير. وقال بعض العلماء: هذا معنى قضاء الله وقدره أنه كتب كلّ ما يكون ليعلم الملائكة عظيم قدرته جلّ وعزّ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لأنه جلّ وعزّ إنما يقول للشيء: كن فيكون.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ أي من أمر الدنيا إذ أعلمكم الله جلّ وعزّ أنه مفروغ منه مكتوب. وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وهو الفرح الذي يؤدي إلى المعصية، وقرأ أبو عمرو ولا تفرحوا بما آتاكم «١» وهو اختيار أبي عبيد، واحتجّ أنه لو أتاكم لكان الأول أفاتكم. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج مردود عليه من العلماء وأهل النظر لأن كتاب الله عزّ وجلّ لا يحمل على المقاييس، وإنما يحمل بما تؤديه الجماعة فإذا جاء رجل فقاس بعد أن يكون متّبعا، وإنما تؤخذ القراءة كما قلنا أو كما قال نافع بن أبي نعيم: ما قرأت حرفا حتّى يجتمع عليه رجلان من الأئمة أو أكثر. فقد صارت قراءة نافع عن ثلاثة أو أكثر ولا نعلم أحدا قرأ بهذا الذي اختاره أبو عبيد إلّا أبا عمرو، ومع هذا فالذي رغب عنه معروف المعنى صحيح قد علم كلّ ذي لبّ وعلم أن ما فات الإنسان أو أتاه فالله عزّ وجلّ فاته إياه أو أتاه إياه، ولو لم يعلم هذا إلّا من قوله جلّ وعزّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها والله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي في مشيته تكبّرا وتعظّما فخور على الناس بماله ودنياه، وإنما ينبغي أن يتواضع لله جلّ وعزّ ويشكره ويثني عليه.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي بحقوق الله جلّ وعزّ عليهم وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي بما يفعلونه من ذلك وفي إعراب الَّذِينَ «٢» خمسة أوجه منها ثلاثة للرفع واثنان للنصب.
يكون الَّذِينَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء وخبره محذوف يدلّ عليه الاخبار عن نظائره، والوجه الثالث أن يكون
(١) انظر تيسير الداني ١٦٩ (قرأ أبو عمرو «بما أتاكم» بالقصر والباقون بالمدّ).
(٢) انظر البحر المحيط ٨/ ٢٢٤.
مرفوعا بالابتداء ودلّ على خبره ما بعده من الشرط والمجازاة لأنه في معناه. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من كلّ أو بمعنى أعني. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي الغني عن خلقه وعما ينفقونه، الحميد إليهم بإنعامه عليهم. ومن قرأ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «١» جعل «هو» زائدة فيها معنى التوكيد أو مبتدأ، وما بعدها خبرا، والجملة خبر «إن».
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٥]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالدلائل والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي بالأحكام والشرائع. وَالْمِيزانَ قال ابن زيد، هو الميزان الذي يتعامل الناس به، وقال قتادة: الميزان الحق لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ منصوب بلام كي، وحقيقته أنها بدل من «أن». وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ أي للناس فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ قال ابن زيد: البأس الشديد السلاح والسيوف يقاتل الناس بها، قال: والمنافع التي يحفر بها الأرضون والجبال. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ معطوف على الهاء. بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة عزيز في انتقامه منه لأنه لا يمنعه منه مانع.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ إلى قومهما. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أي متّبع لطريق الهدى مستبصر. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون إلى الكفر والمعاصي.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٧]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي أتبعنا، ويكون الضمير يعود على الذريّة أو على نوح وإبراهيم عليهما السلام لأن الاثنين جمع وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي أتبعنا.
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ يروى أنه نزل جملة. وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
(١) انظر البحر المحيط ٨/ ٢٢٤، وتيسير الداني ١٦٩، (قرأ ابن عامر ونافع بغير هو، والباقون بزيادة هو).
ويقال: رأفة وقد رؤف ورأف وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها نصبت رهبانية بإضمار فعل أي فابتدعوا رهبانية أي أحدثوها، وقيل: هو معطوف على الأول. ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال ابن زيد: أي ما افترضناها. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ نصب على الاستثناء الذي ليس من الأول ويجوز أن يكون بدلا من المضمر أي ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان الله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها لفظه عام ويراد به الخاص لا نعلم في ذلك اختلافا، ويدلّ على صحته فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وفي الذين لم يرعوها قولان: مذهب الضحّاك وقتادة أنّهم الذين ابتدعوها تهوّد منهم قوم وتنصّروا، وهذا يروى عن أبي أمامة، فأما الذي روي عن ابن عباس فإنهم كانوا من بعد من ابتدعها بأنهم كفار ترهّبوا، وقالوا:
نتبع من كان قبلنا ويدلّ على صحّة هذا حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ قال: «من آمن بي». وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: من جحدني.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قال الضحّاك: من أهل الكتاب. اتَّقُوا اللَّهَ أي في ترك معاصيه وأداء فرائضه. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني حظّين، كما روى أبو بردة عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من كان من أهل الكتاب فآمن بالتوراة والإنجيل ثم آمن بالقرآن، ورجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن أدبها ثم تزوّجها، وعبد نصح مولاه وأدّى فرض الله جلّ وعزّ عليه» وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ عن ابن عباس قال: القرآن واتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد:
الهدى، قال أبو إسحاق: ويقال إنه النور الذي يكون للمؤمنين يوم القيامة وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي يصفح عنكم ويستر عليكم ذنوبكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ذو مغفرة ورحمة لا يعذّب من تاب.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٩]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
لا زائدة للتوكيد ودلّ على هذا ما قبل الكلام وما بعده أي لأن يعلم ويروى عن ابن عباس أنه قرأ لأن يعلم أهل الكتاب وكذا يروى عن عاصم الجحدري وعن ابن مسعود لكي يعلم أهل الكتاب «١» وكذا عن سعيد بن جبير، وهذه قراءات على التفسير لا يقدرون فرفعت الفعل لأن المعنى أنه لا يقدرون يدلّ على هذا أن بعده:
(١) انظر البحر المحيط ٨/ ٢٢٧، ومعاني الفراء ٣/ ١٣٧.
245
وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، وبعض الكوفيين يقول «لا» بمعنى «ليس»، والأول قول سيبويه، وروى المعتمر عن أبيه عن ابن عباس قال: اقرءوا بقراءة ابن مسعود ألّا يقدروا «١» بغير نون فهذا على أنه منصوب بأن. قال أبو جعفر: وهذا بعيد في العربية أن تقع أَنَّ معملة بعد يَعْلَمَ وهو من الشواذ، ومن الشواذ أنه روي عن الحسن أنه قرأ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ بالرفع ومجازه ما ذكرناه من أن التقدير فيه أنه وأن الفضل بيد الله أي بيد الله دونهم لأنه كما روي قالوا: الأنبياء منّا فكفروا بعيسى صلّى الله عليه وسلّم وبمحمد فأعلم الله جلّ وعزّ أنّ الفضل بيده يرسل من شاء وينعم على من أراد إلّا أن قتادة قال:
لمّا أنزل الله جلّ وعزّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ حسد اليهود المسلمين فأنزل الله جلّ وعزّ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي من خلقه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي على عباده.
(١) انظر البحر المحيط ٨/ ٢٢٨.
246
Icon