تفسير سورة الحديد

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه بن أبي شيبة في "المصنف" عن عبد العزيز بن أبي روّاد: أن أصحاب النبي - ﷺ - ظهر فيهم المزاح والضحك.. فنزلت هذه الآية: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾... الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: كان أصحاب النبي - ﷺ - قد أخذوا في شيء من المزاح، فأنزل الله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...﴾ الآية.
وأخرج عن السدي عن القاسم قال: مل أصحاب رسول الله - ﷺ - ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله. فأنزل الله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾. ثم ملوا ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله. فأنزل الله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...﴾ الآية.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: لما قدم أصحاب رسول الله - ﷺ - المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد أن كانوا في جهد جهيد. فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فعوتبوا، فنزلت الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾؛ أي: نزه لله سبحانه وتعالى، وقدسه عن كل ما لا يليق به ذاتًا وصفات وأفعالًا، ومجده، وعظمه بكل الكمالات ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: جميع المخلوقات في السموات والأرض حيوانًا وجمادًا عقلاء وغير عقلاء، إما بلسان المقال أو بلسان الحال.
ومعنى التسبيح (٢): هو تنزيه الله تعالى اعتقادًا وقولًا وفعلًا عمَّا لا يليق بجنابه سبحانه (٣)، عبر هنا، وفي الحشر والصف بالماضي، وفي الجمعة والتغابن بالمضارع، وفي الأعلى بالأمر، وفي الإسراء بالمصدر استيعابًا للجهات المشهورة
(١) لباب النقول.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
433
لهذه الكلمة، وبدأ بالمصدر في الإسراء؛ لأنه الأصل، ثم بالماضي في الحديد، والحشر، والصف؛ لأنه أسبق الزمانين. ثم بالمضارع في الجمعة والتغابن لشموله الحال والمستقبل، ثم بالأمر في الأعلى لخصوصه بالحال مع تأخره في النطق به في قولهم: فعل يفعل إفعل.
وفيه تعليم (١) عباده استمرار وجود التسبيح منهم في جميع الأزمنة، والأوقات.
والحاصل: أن كلًّا من صيغتي الماضي والمضارع جردت عن الدلالة على مدلولها من الزمان المخصوص. فأشعر باستمراره في الأزمنة لعدم ترجح البعض على البعض. فالمكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود، مسبحة في كل الأوقات، لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت، بل هي مسبحة دائمًا في الماضي، وتكون مسبحة أبدًا في المستقل.
وفي الحديث: "أفضل الكلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. لا يضرك بأيهن بدأت". والمراد (٢) بالتسبيح المسند إلى ما في السماوات والأرض من العقلاء، وغيرهم، والحيوانات، والجمادات: هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة، والإنس، والجن. وبلسان الحال كتسبيح غيرهم. فإن كل موجود يدل على الصانع. وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة. وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة. فلِمَ قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾؟ وإنّما هو تسبيح مقال، واستدل بقوله: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾. فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة.
وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارةً كما في قوله: ﴿وَسَبِّحُوهُ﴾، وباللام أخرى كهذه الآية. واللام إما مزيدة للتأكيد كما في نصحت له، وشكرت له في نصحته وشكرته أو للتعليل، والفعل منزل منزلة اللازم؛ أي: فعل ما في السموات والأرض التسبيح، وأوقعه، وأحدثه لأجل الله تعالى وخالصًا لوجهه. وعبر بما التي لغير
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
434
العاقل دون من التي للعاقل تغليبًا لغير العقلاء لكثرتهم. وقوله: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قاله (١) هنا بحذف ﴿ما﴾ الثانية موافقة لقوله بعد: ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وقوله: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. وقاله في الحشر، والصف، والجمعة، والتغابن بإثباتها عملًا بالأصل.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب بقدرته، وسلطانه لا يمانعه، ولا ينازعه شيء. ﴿الْحَكِيمُ﴾ بلطفه وتدبيره، لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. وفيه إشعار بعلية الحكم. فإن العزة، وهي الغلبة على كل شيء تدل على كمال القدرة. والحكمة تدل على كمال العلم. والعقل يحكم بأن الموصوف بهما يكون منزها عن كل نقص كالعجز والجهل ونحوهما. ولذا كان الأمن كفرًا؛ لأن فيه نسبة العجز إلى الله تعالى، وكذا اليأس؛ لأن فيه نسبة البخل إلى الله الجواد.
٢ - ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: له سبحانه لا لغيره التصرف الكلي، ونفوذ الأمر فيهما، وما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام، وسائر التصرفات مما نعلم وما لا نعلم. يتصرف فيهما وحده، ولا ينفُذ غير تصرفه وأمره. وقيل: أراد خزائن المطر، والنبات، وسائر الأرزاق.
يقول الفقير: فإن قلت (٢) كيف أضاف الملك إلى ما هو متناه، وكمال ملكه تعالى غير متناه؟.
قلت: إن للسموات والأرض ظاهرًا وهو ما كان حاضرًا، ومرئيًّا من عالم الملك وهو متناه؛ لأنه من قبيل الأجسام والصور، وباطنًا وهو ما كان غائبًا غير محسوس من أسرارهما وحقائقهما، وهو غير متناه؛ لأنه من عالم الملكوت والمعاني، فإضافة الملك إلى الله تعالى إضافة مطلقة يندرج تحتها الملك والملكوت، وهما غير متناهيين في الحقيقة؛ ألا ترى أن القرآن لا تنقضي عجائبه. فهو بحر لا ساحل له، من حيث أسراره، ومن حيث أن المتكلم به هو الذي لا نهاية له، وإن كان القرآن متناهيًا في الظاهر والحس. فالمراد بالملك: هو الملك
(١) فتح الرحمن.
(٢) روح البيان.
الحقيقي؛ لأن ملك البشر مجاز. فإن قلت (١): قوله: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ذكره مرتين، فهو مكرر.
قلت: لا تكرار فيه؛ لأنَّ الأول في الدنيا بدليل قوله عقبه: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، والثاني في العقبى لقوله عقبه: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾.
وهذه الجملة مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. وقوله: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ مستأنفة أيضًا لبيان بعض أحكام الملك. أو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو في محل نصب على الحال من ضمير ﴿له﴾. والمعنى: يحيي الموتى بالبعث، والنطف، والبيض في الدنيا، ويميت الأحياء في الدنيا. ومعنى الإحياء، والإماتة: جعل الشيء حيًّا، وجعله ميتًا. وقد يستعاران للهداية وللإضلال في نحو قوله (٢): ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء التي من جملتها: ما ذكر من الإحياء والإماتة على مقتضى الحكمة والإرادة ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: تام القدرة، لا يعجزه شيء كائنًا ما كان، فإن الصيغة للمبالغة.
ومعنى الآيات (٣): أي إن ما دونه من خلقه ينزهه عن كل نقص تعظيمًا له، وإقرارًا بربوبيته، وإذعانا لطاعته. وهو القادر الغالب الذي لا ينازعه شيء. الحكيم في تدبير أمور خلقه، وتصريفها فيما شاء، وأحب له التصرف والسلطان فيهما. وهو نافذ الأمر، ماضي الحكم، فلا شيء فيهن يمتنع منه. يحيي ما يشاء من الخلق كيف شاء، فيحدث من النطفة الميتة حيوانًا ينفخ فيه الروح، ويميت ما يشاء من الأحياء حين بلوغ أجله. وهو سبحانه ذو قدرة تامّة لا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء، وإماتة، وإعزاز، وإذلال إلى نحو أولئك.
٣ - ﴿هُوَ﴾ سبحانه ﴿الْأَوَّلُ﴾؛ أي (٤): السابق على سائر الموجودات بالذات والصفات لما أنه مبدئها ومبدعها. فالمراد بالسبق، والأولية: هو الذاتي لا الزماني. فإن الزمان من جملة الحوادث أيضًا. ﴿وَالْآخِرُ﴾؛ أي: الباقي بعد فنائها
(١) فتح الرحمن.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
436
حقيقة أو نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها؛ فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها، فهي فانية. وقيل: الأول (١) هو الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة. والآخر: هو الدائم الذي ليس له نهاية منقضية. وقيل: الأول الذي كان قبل كل شيء. والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء. وقال أبو بكر الوراق: الأول بالأزلية، والآخر بالأبدية. ﴿وَالظَّاهِرُ﴾ وجودًا لكثرة دلائله الواضحة، أو العلي الغالب على كل شيء. من ظهر عليه إذا علاه، وغلبه. ﴿وَالْبَاطِنُ﴾ حقيقة، فلا يحوم العقل حول إدراك كنهه، وليس يعرف الله إلا الله. وتلك الباطنية سواء في الدنيا والآخرة. فاضمحل ما في "الكشاف" من أن فيه حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة. وذلك فإن كونه باطنًا بكنه حقيقته لا ينافي كونه مرئيًا في الآخرة من حيث صفاته. أو العالم بما بطن، وخفي من الأمور، من قولهم: فلان يبطن أمر فلان؛ أي: يعلم داخلة أمره.
وقد فسر هذه الأسماء الأربعة رسول الله - ﷺ -، فيتعين المصير إليه (٢). وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة، ومسلم، والترمذي، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت فاطمة إلى رسول الله - ﷺ - تسأله خادمًا. فقال قولي: "اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، وربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس قبلك شيء. اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر".
وقال الزمخشري: فإن قلت: فما معنى ﴿الواو﴾ في هذه الأسماء؟
قلت: الواو الأولى معناها: الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء. وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، ومجموع الصفتين الأخريين، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن، جامع الظهور بالأدلة والخفاء، فلا يدرك بالحواس.
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
437
﴿وهُوَ﴾ سبحانه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفي. فإنَّ ﴿عَلِيمٌ﴾ صيغة مبالغة، تدل على أنه تعالى تام العلم بكل شيء جليه وخفيه.
والمعنى: أي: وهو ذو علم تامّ بكل شيء فلا يخفى عليه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
٤ - ﴿هُوَ﴾ سبحانه ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: أنشأهما، وأبدعهما على غير مثال سابق بقدرته الكاملة وحكمته البالغة ﴿فِي﴾ قدر ﴿سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ من أيام الآخرة، أو من أيام الدنيا تعليمًا للعباد التأني في الأمور. قال ابن عطية: وهذا الأخير أصوب. أولها: الأحد، وآخرها الجمعة. وهذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾؛ أي: ارتفع، وعلا استواء يليق به من غير كيف ولا تمثيل ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ المحيط بجميع الأجسام.
والمعنى (١): هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين. فدبَّرهنَّ وما فيهن في ستة أطوار مختلفات، ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه ارتفاعًا يليق بجنابه لا نكيفه ولا نمثله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
﴿يَعْلَمُ﴾ سبحانه ﴿مَا يَلِجُ﴾ ويدخل ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ كالكنوز، والدفائن والموتى، والبذور، وكالغيث ينفذ في موضع وينبع في الآخر. ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾؛ أي: من الأرض كالجواهر من الذهب، والفضة، والنحاس، وغيرها، والزروع، والحيوانات، والماء، وكالكنوز والموتى يوم القيامة. ﴿وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ كالكتب، والملائكة، والأقضية، والصواعق، والأمطار، والثلوج. ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾؛ أي: وما يصعد إليها كالملائكة الذين يكتبون الأعمال، والدعوات، والأعمال، والأرواح السعيدة، والأبخرة، والأدخنة. وقد تقدم تفسيره مستوفى في سورة الأعراف، وفي غيرها.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿مَعَكُمْ﴾ بقدرته، وعلمه، وسلطانه ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾؛ أي: في أي مكان كنتم فيه من الأرض من برّ وبحر. وهذا تمثيل (٢) لإحاطة علمه بهم،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
وتصوير لعدم خروجهم عن قبضته أينما داروا. وفي الحديث: "أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان". وقال موسى عله السلام: "أين أجدك يا رب؟ قال: يا موسى إذا قصدت إلي فقد وصلت إلي".
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم عليه ثوابًا وعقابًا، وهو عبارة عن إحاطته بأعمالهم، فتأخيره عن الخلق لما أن المراد: ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم، لا لما قيل: من أن الخلق دليل على العلم، فبالخلق يستدل على العلم، والدليل يتقدم على المدلول.
وفي الآية: إيقاظ للغافلين، وتنشيط للمتيقظين، ودلالة لهم على الخشية والحياء من رب العالمين، وإشارة لهم إلى أن أعمالهم محفوظة، وأنهم مجزيون بها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. قال بعض الكبار: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾؛ لأنه العامل بكم وفيكم، ولا بد لكل عامل أن يبصر عمله، وما يتعلق به.
والمعنى (١): أي وهو رقيب عليهم، سميع لكلامكم، يعلم سركم ونجواكم. كما قال: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠)﴾.
وفي "الصحيح": أن رسول الله - ﷺ - قال لجبريل لما سأله عن الإحسان: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وقال عمر رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي - ﷺ -، فقال: زودني حكمة أعيش بها، فقال: "استح الله كما تستحي رجلًا من صالحي عشيرتك لا يفارقك". وكان الإمام أحمد كثيرًا ما ينشد هذين البيتين:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً وَلَا أَنَّ مَا تُخْفِيْ عَلَيْهِ يَغِيْبُ
٥ - وقوله: ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: سلطنتهما والتصرف فيهما. تكرير للتأكيد كما مر الجواب عنه، وتمهيد لقوله: ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه، لا إلى غيره استقلالًا، واشتراكًا ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾؛ أي: ترد جميع الأمور.
(١) المراغي.
فاستعدوا للقائه باختيار أرشد الأمور، وأحسنها عند الله تعالى. وقرأ الجمهور (١) ﴿تُرْجَعُ﴾ مبنيًا للمفعول، فيكون بمعنى ترد، وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، والأعرج مبنيًا للفاعل، فيكون بمعنى تصير. والأمور عام في جميع الموجودات أعراضها وجواهرها.
ومعنى الآية: أي هو سبحانه المالك لما فيهما، والمدبر لأمورهما، والنافذ حكمه فيهما، وإليه مصير جميع خلقه، فيقضي بينهم بحكمه، كما قال: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣)﴾، وقال: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)﴾.
٦ - ﴿يُولِجُ﴾؛ أي: يدخل سبحانه وتعالى: ﴿اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾؛ أي (٢): يدخل بعض ساعات الليل في النهار حتى يصير النهار أطول ما يكون خمس عشرة ساعة، والليل أقصر ما يكون تسع ساعات. ﴿وَيُولِجُ النَّهَارَ﴾؛ أي: بعض ساعاته ﴿فِي اللَّيْلِ﴾ بحسب اختلاف الفصول، واختلاف مطالع الشمس ومغاربها حتى يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة، والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات. ومجموع الليل والنهار أربع وعشرون ساعة دائمًا.
والمعنى: أي يقلب الله سبحانه الليل والنهار، ويقدرهما بحكمته كما يشاء. فتارة يطول الليل ويقصر النهار، والعكس بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وحينًا يجعل الفصل شتاء أو ربيعًا أو صيفًا أو خريفًا، وكل ذلك بتدبيره، وفائدة خلقه.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿عَلِيمٌ﴾؛ أي: مبالغ في العلم ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: بخطرات قلوب العباد، ومكنوناتها اللازمة لها من الأسرار، والمعتقدات. وذلك أغمض ما يكون، وأخفاه؛ أي: عليم بالسرائر، وإن دقت وخفيت. فهو يعلم نوايا خلقه كما يعلم ظواهر أعمالهم من خير أو شرّ. وفي ذلك حث لنا على النظر والتأمل، ثم الشكر على ما أولى وأنعم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (٣): اسم الله الأعظم في أول سورة
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
الحديد في ست آيات من أولها. فإذا علقت على المقاتل في الصف لم ينفذ إليه حديد، كما في فتح الرحمن. ولكن لا أصل له.
٧ - ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: صدقوا بوحدانية الله يا معشر الكفار ﴿وَ﴾ صدقوا برسالة ﴿رَسُولِهِ﴾ - ﷺ -. وهذا خطاب لكفار العرب. ويجوز أن يكون خطابًا للجميع، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين: الاستمرار عليه أو الإزدياد منه.
ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال: ﴿وَأَنْفِقُوا﴾؛ أي: واصرفوا أيها المؤمنون في طاعة الله ﴿مِمَّا جَعَلَكُمْ﴾؛ أي: من المال الذي جعلكم الله تعالى ﴿مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾؛ أي؛ خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً. فإن المال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه.
عبر (١) عما بأيديهم من الأموال والأرزاق بذلك تحقيقًا للحق، وترغيبًا لهم في الإنفاق. فإن من علم أنها لله، وأنه بمنزلة الوكيل والنائب بحيث يصرفوها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف.. هان عليه الإنفاق أو جعلكم خلفاء من قبلكم فيما كان بأيديهم بتوريثه إياكم، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينتقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به. قال الشاعر:
وَيَكْفِيْكَ قَوْلُ النَّاسِ فِيْمَا مَلَكْتَهُ لَقَدْ كَانَ هَذَا مَرَّةً لِفُلَانِ
فلا بد من إنفاق الأموال التي هي للغير، وستعود إلى الغير. فكما أن الإنفاق من مال الغير يهون على النفس إذا أذن فيه صاحبه، فكذا من المال الذي على شرف الزوال.
روي: أن الآية نزلت في غزوة ذي العشيرة، وهي غزوة تبوك، والظاهر (٢) أن معنى الآية: الترغيب في الإنفاق في الخير، وما يرضاه الله على العموم. وقيل: هو خاص بالزكاة المفروضة، ولا وجه لهذا التخصيص.
ومعنى الآية: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾؛ أي: (٣) أقروا بوحدانية الله، وصدقوا
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
رسوله فيما جاءكم به عن ربكم، تنالوا الفوز برضوانه، وتدخلوا فراديس جنانه، وتسعدوا بما لم يدر لكم بخلد، ولم يخطر لكم ببال، وأنفقوا مما هو معكم من المال على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، واستعملوه في طاعته وإلا حاسبكم على ذلك حسابًا عسيرًا. ولله در لبيد إذ يقول:
وَمَا الْمَالُ وَالأَهْلُوْنَ إلَّا وَدَائِعٌ وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ
وفي هذا الترغيب أيما ترغيب في الإنفاق. لأن من علم أن المال لم يبق لمن قبله، وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له بل ينتقل إلى غيره. وبذا يسهل عليه إنفاقه.
قال شعبة: سمعت عن قتادة يحدث عن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال: "انتهيت إلى رسول الله - ﷺ - وهو يقول: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾، يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للناس". رواه مسلم.
ثم حث على ما تقدم من الإيمان، والإنفاق في سبيل الله تعالى، فقال: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ بالله، وصدقوا رسوله ﴿وَأَنْفَقُوا﴾ مما خولهم الله عمن قبلهم في سبيل الله حسبما أمروا به ﴿لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾؛ أي: ثواب عظيم عند ربهم، وهو الجنة. وهناك يرون من الكرامة، والمثوبة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
٨ - ثم وبخهم على ترك الإيمان الذي أمروا به، وأبان أنه ليس لهم في ذلك من عذر. فقال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: وأي عذر لكم، وأي مانع من الإيمان، وقد أزيحت عنكم العلل. و ﴿ما﴾ مبتدأ، و ﴿لَكُمْ﴾ خبره. والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع. وجملة ﴿لَا تُؤْمِنُونَ﴾ حال من الضمير في ﴿لَكُمْ﴾، والعامل فيه ما فيه من معنى الفعل، وهو الاستقرار؛ أي (١): أي شيء ثبت لكم، وحصل حال كونكم غير مؤمنين، وحقيقته ما سبب عدم إيمانكم بالله على توجيه الإنكار، والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب.
وقيل المعنى: أي شي لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا؟. وجملة قوله: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ في محل نصب على الحال من ضمير {لَا
(١) روح البيان.
442
تُؤْمِنُونَ} مفيدة لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه؛ أي: وأي عذر في ترك الإيمان، والحال أن الرسول يدعوكم إليه، وينبهكم على صحة ما جاءكم به بالحجج والآيات. فإن الدعوة المجردة لا تفيد. فلو لم يجب الداعي دعوة مجردة، وترك ما دعاه إليه لم يستحق الملامة والتوبيخ، فلام ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾ بمعنى إلى، ولا يبعد حملها على التعليلية، أي: يدعوكم إلى الإيمان لأجل أن تؤمنوا.
وجملة قوله: ﴿وَقَدْ أَخَذَ﴾ الله سبحانه ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ وعهدكم المؤكد باليمين على الإيمان من قبل دعوة الرسول إيّاكم إليه بنصب الأدلة والتمكين من النظر، حال من مغعول ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ أو من فاعله على التداخل. وحمله بعضهم على الميثاق المأخوذ يوم الذر، حين أخرجهم من صلب آدم في صورة الذر. وهي النمل الصغير. والمعنى؛ أي: والحال أن الله قد أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَقَدْ أَخَذَ﴾ مبنيًا للفاعل، وهو الله لتقدم ذكره ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ بالنصب. وقرأ أبو عمرو مبنيًا للمفعول، ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ بالرفع.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لموجب ما. فإن هذا موجب لا موجب وراءه. وفي "عين المعاني"؛ أي: إن كنتم مصدقين بالميثاق. وفي "فتح الرحمن"؛ أي: إن دمتم على ما بدأتم به، وفي "الشوكاني": إن كنتم مؤمنين بما أخذ عليكم من الميثاق، أو بالحجج والدلائل، أو كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب، فهذا من أعظم أسبابه، وأوضح موجباته، وقال أبو حيان: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ شرط جوابه محذوف، تقديره: إن كنتم مؤمنين لموجب ما، فهذا هو الموجب لإيمانكم، أو إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون، والحالة هذه، وهي دعاء الرسول، وأخذ الميثاق. وقال الطبري: إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال، فالآن فإنه قد تطابقت الدلائل النقلية والعقلية، وبلغت مبلغًا لا يمكن الزيادة عليها.
والمعنى (٢): أي وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج، والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد أخذ الله
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
443
عليكم الميثاق بما نصب لكم من الأدلة على وحدانيته في الكون أرضه وسمائه، بره وبحره، وفي الأنفس بما تشاهدن فيها من بديع صنعها، وعظيم خلقها إن كنتم تؤمنون بالدليل العقلي والنقلي.
وصفوة القول: إن الأدلة تظاهرت على وجوب الإيمان بالله ورسوله، فقد نصب في الكون ما يرشد إلى وجوده، وأرسل الرسل يدعون إلى ذلك، وأقاموا البراهين على صدق ما يقولون، فما عذركم، وإلام تستندون في رد هذا؟ الآن قد تبين الرشد من الغيّ، وأفصح لذي عينين. وماذا بعد الحق إلا الضلال "فهل من مدّكر".
٩ - ثم قطع عليهم الحجة، وأزال معذرتهم. فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي يُنَزِّلُ﴾ بواسطة جبرئيل عليه السلام، وقرىء (١) في السبعة ﴿يُنَزِّلُ﴾ مضارعًا. فبعض ثقل، وبعض خفف. وقرأ الحسن بالوجهين. وقرأ زيد بن علي، والأعمش ﴿أنزل﴾ ماضيًا. ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد - ﷺ -. ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: واضحات من الأمر والنهي، والحلال، والحرام وهي الآيات القرآنية. وقيل: المعجزات، والقرآن أعظمها. ﴿لِيُخْرِجَكُمْ﴾ الله سبحانه أيها المؤمنون بتلك الآيات ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾؛ أي (٢): من ظلمات الكفر، والشرك، والشك، والجهل، والمخالفة ﴿إِلَى النُّورِ﴾؛ أي: إلى نور الإيمان، والتوحيد، واليقين، والعلم، والموافقة. أو ليخرجكم عبده محمد - ﷺ - بتلك الآيات أو بالدعوة. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: لكثير الرأفة والرحمة بليغهما، حيث هداكم إلى سعادة الدارين بإنزال كتبه، وإرسال رسله لهداية عباده بعد نصب الحجج العقلية، فلا رأفة، ولا رحمة أبلغ من هذا. والرأفة: أشد الرحمة.
والمعنى: أي هو الذي ينزل على رسوله دلائل واضحات، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى، ولرأفته بكم، ورحمته لكم مكن لكم من النظر في الأنفس، والآفاق لتهتدوا إلى معرفته على أتم وجه، وأهون سبيل.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
١٠ - وبعد أن وبخهم على ترك الإيمان، وبخهم على ترك الإنفاق، وأبان أنه لا معذرة لهم في ذلك. نقال: ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ ﴿ما﴾ مبتدأ، ﴿لَكُمْ﴾ خبره. والاستفهام للتقريع والتوبيخ؛ أي: وأي عذر لكم في ﴿أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؟. وأي شيء يمنعكم من أن تنفقوا فيما هو قربة إلى الله ما هو له في الحقيقة، وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عينه من المصارف. فقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مستعار لما يكون قربة إليه، وقال بعضهم: معناه: لأجل الله، والأصل في "أن لا تنفقوا" كما أشرنا إليه في الحل.
وقيل (١): إنَّ ﴿أن﴾ زائدة. وجملة قوله: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ في محل النصب على الحال من فاعل ﴿أَلَّا تُنْفِقُوا﴾ أو من مفعوله المحذوف. والمعنى: وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، والحال أنه لا يبقى لكم منها شيء، بل تبقى كلها لله بعد فناء الخلق. وإذا كان كذلك.. فإنفاقها بحيث تستخلف عوضًا يبقى، وهو الثواب كان أولى من الإمساك؛ لأنها إذًا تخرج من أيديكم مجانًا بلا عوض، ولا فائدة. قال الراغب: وصف الله نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها صائرة إليه؛ وقال أبو الليث: إنما ذكر لفظ الميراث؛ لأن العرب تعرف أن ما ترك الإنسان يكون ميراثًا، فخاطبهم بحسب يعرفون فيما بينهم.
والخلاصة (٢): أنفقوا أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا، ليكون ذلك ذخرًا لكم عند ربكم. فبعد الموت لا تقدرون على ذلك. إذ تصير الأموال ميراثًا لمن له السماوات والأرض.
ثم بين سبحانه تفاوت درجات المنفقين بحسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق. فقال: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ﴾ يا عشر المؤمنين. روي أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنفقوا نفقات كثيرة حتى قال ناس: هؤلاء أعظم أجرًا من كل من أنفق قديمًا، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل فتح مكة أعظم أجرًا؛ أي: لا يستوي منكم معشر المؤمنين ﴿مَنْ﴾ آمن، وهاجر، و ﴿أَنْفَقَ﴾ ماله في سبيل الله ﴿مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ﴾؛ أي: قبل فتح مكة الذي أزال الهجرة ﴿وَقَاتَلَ﴾ لإعلاء كلمة الله؛ أي: لا يستوي هو ومن
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
445
أنفق بعد الفتح، وقاتل العدو تحت لواء رسول الله - ﷺ -. والاستواء (١) يقتضي شيئين. فقسيم ﴿من آمن﴾ محذوف لوضوحه، ودلالة ما بعده عليه؛ أي: لا يستوي في الفضل والثواب من أنفق من قبل الفخح وقاتل، ومن أنفق من بعده وقاتل. وقرأ الجمهور ﴿مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ﴾. وقرأ زيد بن علي ﴿قَبْلِ الْفَتْحِ﴾ بغير من.
وإنما كانت النفقة، والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح؛ لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر، وهم أقل وأضعف، ولم يؤمن إذ ذاك إلا الصديقون. أما بعد الفتح فقد انتشر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم، ولا يجدون ما يجودون به من الأموال، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
والإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى ﴿من﴾ باعتبار معناها، وهو مبتدأ، وخبره ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾؛ أي: أرفع منزلة عند الله، وأعلى رتبة ﴿مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا﴾ أموالهم في سبيل الله تعالى ﴿مِنْ بَعْدُ﴾؛ أي: من بعد فتح مكة. ﴿وَقَاتَلُوا﴾ مع رسول الله - ﷺ -. قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضًا أنفذ.
وقال الشعبي، والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.
والمعنى (٢): أي أولئك المنفقون المقاتلون قبل الفتح، وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار أعظم درجة، وأرفع منزلة عند الله، وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها. فالدرجة بمعنى المرتبة والطبقة، وجمعها درجات، كما سيأتي. ﴿مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾؛ لأنّهم إنما فعلوا من الإنفاق، والقتال قبل عزة الإسلام، وقوّة أهله عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال، وهؤلاء فعلوا ما فعلوا بعد ظهور الدين، ودخول الناس فيه أفواجًا، وقلة الحاجة إلى الإنفاق
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
446
والقتال. وقد صرح - ﷺ - بفضل الأوّلين بقوله: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
﴿وَكُلًّا﴾؛ أي: كل واحد من الفريقين. وهو مفعول أول لقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾؛ أي: المثوبة الحسنى. وهي الجنة. لا الأوّلين فقط، ولكن الدرجات متفاوتة. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أيها العباد ﴿خَبِيرٌ﴾ بظواهره وبواطنه، ويجازيكم بحسبه.
قال في "المناسبات": لما كان زكاة الأعمال إنما هو بالنيات، وكان التفضيل مناط العلم قال مرغّبًا في حسن النيات، مرهِّبًا من التقصير فيها: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: تجددون عمله على ممر الأوقات ﴿خَبِيرٌ﴾؛ أي: عالم بباطنه وظاهره علمًا لا مزيد عليه بوجه. فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيّات التي هي أرواح صورها. وقرأ الجمهور (١): ﴿وَكُلًّا﴾ بالنصب، وقرأ ابن عامر، وعبد الوارث بالرفع على أنه مبتدأ.
والمعنى (٢): أي وكل من المنفقين قبل الفتح وبعده لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في مقدار الجزاء، كما قال في آية أخرى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥)﴾ الآية. ثم وعدوا وأوعد. فقال: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾؛ أي: والله عليم بظواهر أحوالكم وبواطنها فيجازيكم بذلك، ولخبرته تعالى بكم فضل أعمال من أنفق من قبل الفتح وقاتل، على من أنفق بعده وقاتل، وما ذاك إلا لعلمه بإخلاص الأول في إنفاقه في حال الجهد والضيق. ولأبي بكر الصديق رضي الله عنه الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيد من عمل بها، إذ أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله تعالى، ولم يكن لأحد عنده من نعمة يجزيه بها.
١١ - ثم ندب إلى الإنفاق في سبيله، ووبخ على تركه. فقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ من (٣) مبتدأ، خبره ﴿ذَا﴾، و ﴿الَّذِي﴾ صفة ﴿ذَا﴾، أو بدله.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
447
والإقراض حقيقة: إعطاء العين على وجه يطلب بدله. و ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ مفعول مطلق له بمعنى إقراضًا حسنًا. وهو الإخلاص في الإنفاق؛ أي؛ الإعطاء لله، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات.
والمعنى: من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه. فإنه كمن يقرضه. وقال في "كشف الأسرار": كل من قدم عملًا صالحًا يستحق به مثوبة، فقد أقرض، ومنه قولهم: الأيادي قروض، وكذلك كل من قدم عملًا سيئًا يستوجب به عقوبة فقد أقرض، فلذلك قال تعالى: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾. لأنّ المعصية قرض سيء. قال أمية:
لَا تَخْلُطَنَّ خَبِيثَاتٍ بِطَيِّبَةٍ وَاخْلَعْ ثِيَابَكَ منها وَانْجُ عُرْيَانَا
كُلُّ امْرِىءٍ سَوْفَ يُجْزى قَرْضَه حَسَنًا أَوْ سَيِّئًا وَيُدَانُ مِثْلَ مَا دَانَا
وقيل: المراد بالقرض: الصدقة، انتهى. وهاهنا وجه آخر، وهو أن القرض في الأصل: القطع من قرض الثوب بالمقراض إذا قطعه به، ثم سمي به ما يقطعه الرجل من أمواله، فيعطيه عينًا بشرط رد بدله، فعلى هذا يكون ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ مفعولًا به.
والمعنى: من ذا الذي يقرض الله مالًا حسنًا؛ أي: حلالًا طيبًا. فإنه تعالى لا يقبل إلا الحلال الطيب.
فائدة: قال بعض العلماء: لا يكون القرض حسنًا حتى يجمع أوصافًا عشرة: وهو أن يكون المال من الحلال؛ وأن يكون من أجود المال، وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه، وأنت تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها، وأن تكتم الصدقة ما أمكنك، وأن لا تتبعها بالمن والأذى، وأن تقصد بها وجه الله تعالى ولا ترائي بها الناس، وأن تستحقر ما تعطي وإن كان كثيرًا، وأن يكون من أحب أموالك إليك، وأن لا ترى عز نفسك وذل الفقير. فهذه عشرة خصال، إذا اجتمعت في الصدقة كانت قرضًا حسنًا، انتهى ذكره في "الفتوحات" نقلًا عن القرطبي. وقيل: القرض الحسن هو الخالص عن شوائب الرياء. أما القرض الذي يدفع إلى الإنسان من المال بشرط بدله فهو سنة مؤكدة. قد يجب للمضطر، ويحرم على من يستعين به على معصية.
﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى. كأنّه قيل:
448
أيقرض الله أحد فيضاعفه له؛ أي: فيعطيه أجره أضعافًا من فضله، وإنّما قلنا: باعتبار المعنى؛ لأنَّ ﴿الفاء﴾ إنما تنصب فعلًا مردودًا على فعل مستفهم عنه كما قال أبو علي الفارسي. وهاهنا السؤال لم يقع عن القرض، بل عن فاعله. ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم حسن طيب مرضي في نفسه، حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، وإن لم يضاعف فكيف وقد ضوعف أضعافًا كثيرة.
والمعنى (١): أي من هذا الذي ينفق أمواله في سبيل الله محتسبًا أجره عند ربه بلا من ولا أذى، فيضاعف له ذلك القرض، فيجعل له بالحسنة الواحدة سبع مئة، وله بعد ذلك جزاء كريم بمثبوته بالجنة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا...﴾ الآية، قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض، قال: "نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله قال: فناوله يده قال: إني أقرضت ربي حائطي - بستاني - وكان له حائط فيه ست مئة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها. قال أبو الدحداح: فناديتها يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال أخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منها متاعها وصبيانها. فقال رسول الله - ﷺ -: "كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح".
وهذا الأسلوب يستعمل في الأمر العزيز النادر، فيقال: من ذا الذي يفعل كذا إذا كان أمرًا عظيمًا. وعلى هذا جاء قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾.
وقرأ ابن عامر، وابن كثير (٢): ﴿فيُضعِّفه﴾ بإسقاط الألف مع التضعيف، إلا ابن عامر، ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع، وأهل الكوفة والبصرة ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ بالألف وتخفيف العين، إلا أن عاصمًا نصب ﴿الفاء﴾ ورفع الباقون. قال ابن عطية: الرفع على العطف على ﴿يُقْرِضُ﴾ أو الاستئناف، والنصب لكون ﴿الفاء﴾ في جواب الاستفهام. وضَعَّف النصب أبو علي الفارسي، قال: لأن السؤال لم يقع عن القرض، وإنما وقع عن فاعل القرض، وإنما تنصب ﴿الفاء﴾ فعلًا مردودًا على فعل
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
449
مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى: كأن قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ بمنزلة قوله: أيقرض الله أحد، كما مرّ آنفًا. قال أبو حيان (١): وهذا الذي ذهب إليه أبو علي الفارسي ليس بصيحح، بل يجوز النصب إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو: من يدعوني فاستجيبَ له، وأين بيتك فأزورَك، ومتى تسير فأرافقَك، وكيف تكون فأصحبَك. فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي، وعن ظرف المكان وظرف الزمان، والحال، لا عن الفعل، وحكى ابن كيسان عن العرب: أين ذهب زيد فنتبعه، وكذلك كم مالك فنعرفه، ومن أبوك فنكرمه بالنصب بعد الفاء. وقراءة ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ بالنصب قراءة متواترة. وإذا جاز النصب في نحو هذا فجوازه في المثل السابقة أحرى، مع أن سماع ابن كيسان ذلك محكيًّا عن العرب يؤيد ذلك، انتهى.
١٢ - والظرف في قوله: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ منصوب بإضمار اذكر تفخيمًا لذلك اليوم، أو بـ ﴿كَرِيمٌ﴾ أو بـ ﴿يضاعفه﴾ أو بالعامل في ﴿لَهُمْ﴾. وهو الاستقرار. والخطاب لكل من يصلح. وقوله: ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ﴾ في محل نصب على الحال من مفعول ﴿تَرَى﴾. والنور: هو الضياء الذي يرى. والسعي: هو المشي السريع؛ أي: واذكر أيها المخاطب وقت رؤية المؤمنين والمؤمنات على الصراط، وهو يوم القيامة حال كونهم يسعى نور إيمانهم وطاعتهم ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ جمع يمين بمعنى الجارحة. والمراد هنا: جهة اليمين. و ﴿بَيْنَ﴾ ظرف للسعي. قال أبو الليث: يكون النور بين أيديهم، وبأيمانهم، وعن شمائلهم إلا أن ذكر الشمال مضمر.
قال في "فتح الرحمن": وخص بين الأيدي بالذكر؛ لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور، وخص ذكر جهة اليمين تشريفًا، وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاته. وفي "كشف الأسرار": لأن طريق الجنة يمنةٌ، وتجاههم، وطريق أهل النار يسرة ذات شمال، وفي الحديث: "بينا أنا على حوضي أنادي هلم إذا أناس أخذتهم الشمال، فاختلجوا دوني، فأنادي ألا هلم فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿النُّورِ﴾ أصله يكون بأيمانهم، والذي بين أيديهم هو
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
450
الضوء المنبسط من ذلك النور. وقيل: الباء بمعنى عن؛ أي: عن أيمانهم. وقال الزمخشري: وإنما قال: ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ لأنّ السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم، ووراء ظهورهم. وقرأ الجهور ﴿وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ بفتح الهمزة، جمع يمين. وقرأ سهل بن سعد الساعدي، وأبو حيوة ﴿بإيمانهم﴾ بكسرها وعطف هذا المصدر على الظرف؛ لأنَّ الظرف متعلق بمحذوف؛ أي: كائنًا بين أيديهم، وكائنًا بسبب إيمانهم. والمراد بالإيمان: ضد الكفر. وقيل: هو القرآن.
وتقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم: ﴿بُشْرَاكُمُ﴾؛ أي: ما تبشرون به اليوم. وعبارة الخطيب هنا؛ أي: بشارتكم العظيمة في جيمع ما يستقبلكم من الزمان. ﴿جَنَّاتٌ﴾؛ أي: بساتين أو بشراكم دخول جنات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها، وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة المعروفة في الجنة: اللبن، والماء، والخمر، والعسل. حال كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنات. ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من النور والبشرى بالجنات المخلدة ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا يقادر قدره، حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه لكونهم ظفروا كل ما أرادوا.
ومعنى الآية (١): أي لهم الأجر الكريم حين ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى بين أيديهم ما يكون السبب في نجاتهم، وهدايتهم إلى سبيل الجنة من العلوم التي كملوا بها أنفسهم في الدنيا: كالاعتقاد، بالتوحيد، وخلع الأنداد والأوثان، والقبور، والأعمال الصالحة التي زكوا بها أنفسهم، وبها أخبتوا لربهم، وأنابوا إليه مخلصين له الدين، وبأيمانهم تكون كتبهم. كما جاء في آية أخرى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩)﴾. وتقول لهم الملائكة: أبشروا بجنات تجري من تحتها الأنهار جزاء وفاقًا لما قدمتم من صالح الأعمال، وجاهدتم به أنفسكم في ترك الشرك والآثام، وكنتم تذكرون الله بالليل والناس نيام، فطوبى لكم وهنيئًا بما عملتم. ونحو الآية قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ
(١) المراغي.
451
عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)}. ذلك الخلود في الجنات التي سمعتم أوصافها هو النجاح العظيم الذي كنتم تطلبونه بعد النجاة من عقاب الله.
١٣ - وبعد أن ذكر حال المؤمنين في موقف القيامة أتبعه ببيان حال المنافقين. فقال: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ﴾ بدل من ﴿يَوْمَ تَرَى﴾؛ أي: اذكر يا محمد لقومك أو اذكر أيها المخاطب أهوال يوم يقول المنافقون والمنافقات ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: أخلصوا الإيمان بكل ما يجب الإيمان به: ﴿انْظُرُونَا﴾؛ أي: انتظرونا. يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف بهم، وهؤلاء مشاة أو انظروا إلينا. فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيستضيئون بالنور الذي بين أيديهم. فانظرونا على هذا الوجه من باب الحذف والإيصال؛ لأن النظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه، وإنما يتعدى بإلى. وهذان المعنيان على قراءة الجمهور. فإنهم قرأوا ﴿انْظُرُونَا﴾ أمرًا بوصل (١) الهمزة وضم الظاء، من نظر الثلاثي. وقرأ زيد بن علي، وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وحمزة ﴿أنظرونا﴾ بقطع الهمزة وكسر الظاء، من أنظر الرباعي؛ أي: أنظرونا وأخرونا. لأن الإنظار: الإمهال على أن تأنِّيهم في المضي ليلحقوا بهم إنظار لهم وإمهال؛ أي: تأخروا لأجلنا، ولا تسرعوا في مضيكم ﴿نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾؛ أي: نستضيء منه، ونمش فيه معكم. وأصله: اتخاذ القبس. وهو محركة شعلة نار تقتبس من معظم النار كالمقباس، كما سيأتي. وقيل: ﴿نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾؛ أي: نأخذ من نوركم قبسًا سراجًا وشعلة.
﴿قِيلَ﴾ طردًا لهم، وتهكّمًا بهم من جهة المؤمنين، أو من جهة الملائكة ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ﴾؛ أي: إلى الموقف ﴿فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾؛ أي: فاطلبوا نورًا. فإنه من ثمة يقتبس، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل مباديه من الإيمان والأعمال الصالحة.
والمعنى (٢): قال لهم المؤمنون أو الملائكة زجرًا لهم، وتهكمًا بهم: ارجعوا
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
452
ورائكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور. فالتمسوا واطلبوا هنالك نورًا لأنفسكم. فإنه من هنالك يقتبس. وقيل: المعنى: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما التمسناه من الإيمان والأعمال الصالحة. وقيل: أرادوا بالنور: ما ورائهم من الظلمة تهكمًا بهم.
وعن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه: أنه قال: بينا العباد يوم القيامة عند الصراط إذ غشيهم ظلمة، يقسم الله النور بين عباده، فيعي الله المؤمن نورًا، ويبقي المنافق والكافر لا يعطيان نورًا. فكما لا يستضيء الأعمى بنور البصير لا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن. فيقولون: انظرونا نقتبس من نوركم. فيقولون لهم: ارجعوا حيث قسم النور، فيرجعون فلا يجدون شيئًا، فيرجعون وقد ضرب بينهم بسور، أو ارجعوا خائبين خاسئين، وتنحوا عنا فالتمسوا نورًا آخر، وقد علموا أن لا نور ورائهم، وإنما قالوه تخييبًا لهم أو أرادوا بالنور ما ورائهم من الظلمة الكثيفة تهكمًا بهم.
وحاصل معنى الآية: في ذلك اليوم يقول (١) المنافقون والمنافقات: أيها الذين نجوتم بإيمانكم بربكم، وفزتم برضوانه حتى دخلتم فسيح جناته، انتظرونا نلحق بكم، ونقتبس من نوركم حتى نخرج من ذلك الظلام الدامس، والعذاب الأليم الذي نحن مقبلون عليه، فيجابون بما يخيب آمالهم، ويلحق بهم الحسرة والندامة، كما قال: ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾؛ أي: ارجعوا من حيث أتيتم واطلبوا لأنفسكم هناك نورًا. فإنه لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا الذي كان بما قدمنا لأنفسنا، وادخرنا لها من عمل صالح. فهيهات هيهات أن تنالوا نورًا، إذ لا ينفع المرء حينئذٍ إلا عمله. ولله درّ القائل:
صَاحِ هَلْ رَأيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعِ رَدَّ فِيْ الضَّرْعِ مَا قَرَى فِيْ الْحِلَابِ
ولا يخفي ما في هذا من التهكم بهم والاستهزاء بطلبهم كما استهزؤوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا: آمنا، وما هم بمؤمنين. وذلك ما عناه سبحانه بقوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾؛ أي: حين يقال لهم: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾.
(١) المراغي.
453
ثم ذكر ما يكون بعد هذه المقالة، فقال: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي (١): بني بين الفريقين المؤمنين والمنافقين ﴿بِسُورٍ﴾ الباء زائدة أي: حائط بين الجنة والنار كما قاله قتادة، أو حجاب كما في سورة الأعراف كما قاله مجاهد، وقال: من قال: ارجعوا إلى الدنيا المراد بضرب السور امتناع العود إلى الدنيا؛ أي: ضربته الملائكة بينهم بأمر إلهي.
ولما (٢) كان البناء مما يحتاج إلى ضرب باليد ونحوها من الآلات عبر عنه بالضرب، ومثله: ضرب الخيمة كضرب أوتادها بالمطرقة. ﴿بِسُورٍ﴾؛ أي: حائط بين شق الجنة وشق النار؛ فإن سور المدينة حائطها المشتمل عليها لحفظها، وقال بعضهم: هو سور بين أهل الجنة والنار، يقف عليه أصحاب الأعراف يشرفون على أهل الجنة وأهل النار، وهو السور الذي يذبح عليه الموت، يراه الفريقان معًا.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿فَضُرِبَ﴾ مبنيًا للمفعول. وقرأ زيد بن عليّ، وعبيد بن عمير مبنيًا للفاعل؛ أي: ضرب الله سبحانه وتعالى. ويبعد قول من قال: إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس، وهو مروي عن عبادة بن الصامت، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وكعب الأحبار. ولعله لا يصح عنهم.
ثم وصف سبحانه السور المذكور، فقال: ﴿لَهُ﴾؛ أي: لذلك السور ﴿بَابٌ﴾ يدخل فيه المؤمنون. فيكون السور بينهم باعتبار ثاني الحال أعني: بعد الدخول لا حين الضرب. ﴿بَاطِنُهُ﴾؛ أي: باطن ذلك السور، أو باطن الباب ﴿فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ لأنّه يلي الجنة ﴿وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ﴾؛ أي: من جهته، وعنده ﴿الْعَذَابُ﴾ لأنه يلي النار؛ أي: من جهته عذاب جهنم. وقيل: إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يحصلون في العذاب، وبينهم السور. وقيل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.
والمعنى: أي فضرب بين الفريقين حاجز جانبه الذي يلي مكان المؤمنين وهو الجنة، فيه الرحمة وجانبه الذي يلي المنافقين وهو النار فيه العذاب.
١٤ - ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
454
المنافقون إذ ذاك فقال: ﴿يُنَادُونَهُمْ﴾ استئناف واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا يفعلون بعد ضرب السور، ومشاهدة العذاب؟ فقيل: ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور ﴿أَلَمْ نَكُنْ﴾ في الدنيا ﴿مَعَكُمْ﴾ يريدون به موافقتهم لهم في الأمور الظاهرة: كالصلاة، والصوم، والمناكحة، والموارثة، ونحوها.
ثم أخبر سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المؤمنون: ﴿بَلَى﴾ كنتم معنا بحسب الظاهر ﴿وَلَكِنَّكُمْ﴾ أيها المنافقون ﴿فَتَنْتُمْ﴾ وابتليتم ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ ومحنتموها بالنفاق، وأهلكتموها. وإضافة (١) الفتنة إلى النفس إضافة الميل والشهوة، وإلى الشيطان في قوله: ﴿لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ إضافة الوسوسة، وإلى الله تعالى في قوله: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ﴾ إضافة الخلق. لأنه خلق الضلال فيه ليفتتن. ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ بالمؤمنين الدوائر. والتربص: الانتظار. وقال مقاتل: وتربصتم بمحمد - ﷺ - الموت، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه. وهو وصف قبيح؛ لأن انتظار موت وسائل الخير، ووسائط الحق من عظيم الجرم والقباحة. إذ شأنهم أن يرجى طول حياتهم ليستفاد منهم، ويغتنم بمجالستهم. ﴿وَارْتَبْتُمْ﴾؛ أي: شككتم في أمر الدين أو في النبوة، أو في هذا اليوم، ولم تصدقوا ما نزل من القرآن، ولا بالمعجزات الظاهرة. ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ الفارغة الباطلة التي من جملتها: الطمع في انتكاس أمر الإِسلام. جمع أمنية كأضحية. وفي "عين المعاني": وغرتكم خدع الشيطان. وقال أبو الليث: أباطيل الدنيا. ﴿حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾؛ أي: الموت. وقيل: نصره سبحانه لنبيه - ﷺ -. وقال قتادة: هو إلقاؤهم في النار. ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ﴾ الكريم ﴿الْغَرُورُ﴾؛ أي: الشيطان؛ أي: غركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم. قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان، حتى قذفهم الله تعالى في النار. قال الزجاج: الغرور على وزن فعول. وهو من أسماء المبالغة، يقال: فلان أكول كثير الأكل، وكذا الشيطان الغرور. لأنه يغر ابن آدم كثيرًا. قال في "المفردات": الغرور: كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسر بالشيطان؛ إذ هو أخبث الغارين بالدنيا لما قيل: الدنيا تغر، وتضر، وتمر.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿الْغَرُورُ﴾ بفتح الغين، وهو صفة على فعول، والمراد به:
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
455
الشيطان؛ أي: خدعكم بحلم الله وإمهاله الشيطان. وقرأ أبو حيوة، ومحمد بن السميفع، وسماك بن حرب بضمها، وهو مصدر.
ومعنى الآية (١): أي ينادي المنافقون المؤمنين أما كنا معكم في دار الدنيا نصلي معكم الجماعات، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم الغزوات، ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ فيجيبهم المؤمنون قائلين لهم: بلى كنتم معنا ولكنكم أهلكتم أنفسكم باللذات والمعاصي، وأخرتم التربة، وشككتم في أمر البعث بعد الموت، وغرتكم الأماني فقلتم: سيغفر لنا، وما زلتم كذلك حتى حضركم الموت، وغركم الشيطان فقال لكم: إن الله عفو كريم لا يعذبكم.
والخلاصة: أنكم كنتم معنا بأبدانكم لا بقلوبكم، وكنتم في حيرة من أمركم فلا تذكرون الله إلا قليلًا.
١٥ - ثم أيأسوهم من عاقبة أمرهم، وأنهم هالكون لا محالة، ولا سبيل إلى الخلاص من النار. فقال: ﴿فَالْيَوْمَ﴾؛ أي: ففي هذا اليوم الحاضر. وهو يوم القيامة ﴿لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ﴾ أيها المنافقون ﴿فِدْيَةٌ﴾؛ أي: فداء تدفعون به العذاب عن أنفسكم. والفداء: حفظ الإنسان نفسه من النائبة بما يبذله من مال أو نفس؛ أي: لا يؤخذ منكم دية، ولا نفس أخرى مكان أنفسكم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لَا يُؤْخَذُ﴾ بالياء. وقرأ أبو جعفر، والحسن، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وابن عامر، وهارون عن أبي عمرو ﴿تُؤخَذ﴾ بالتاء لتأنيث الفدية. ﴿وَلَا﴾ تؤخذ فدية أيضًا ﴿مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ظاهرًا وباطنًا. وفيه (٣) دلالة على أن الناس ثلاثة أقسام: مؤمن ظاهرًا وباطنًا وهو المخلص، ومؤمن ظاهرًا لا باطنًا، وهو المنافق، وكافر ظاهرًا وباطنًا. ﴿مَأْوَاكُمُ﴾؛ أي: مرجعكم، ومقركم، ومنزلكم الذي تأوون إليه أيها المنافقون ومرجع الكفار أيضًا ﴿النَّارُ﴾؛ أي: نار جهنم لا ترجعون إلى غيرها أبدًا. ﴿هِيَ﴾؛ أي: النار ﴿مَوْلَاكُمْ﴾؛ أي: والية أموركم تتصرف فيكم تصرف الموالي في عبيدهم لما أسلفتم من المعاصي. والمولى في الأصل: من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن يلازمه. وقيل: معنى ﴿مَوْلَاكُمْ﴾:
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
مكانكم عن قرب من الولي. وهو القرب. وقيل: إن الله يركب في النار الحياة والعقل فهي تتميز غيظًا على الكفار. وقيل: هي ناصركم على طريقة قول الشاعر:
تَحِيّةٌ بينهم ضرب وجيع
فإن مقصوده نفي التحية فيما بينهم قطعًا؛ لأن الضرب الوجيع ليس بتحية، فيلزم أن لا تحية ألبتة، فكذا إذا قيل لأهل النار: هي ناصركم يراد به أن لا ناصر لكم ألبتة. ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾؛ أي: المرجع الذي تصيرون إليه، وهو النار.
والمعنى (١): أي فاليوم لو جاء أحدكم بملء الأرض ذهبًا، ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه. فمصيركم إلى النار، وإليها متقلبكم ومثواكم، وهي أولى بكم من كل منزل آخر لكفركم وارتيابكم، وساءت مصيرًا ومآلًا.
والخلاصة: أنّ لا مناص من النار، فلا فداء ولا فكاك منها.
١٦ - والاستفهام في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ للتوبيخ والتقرير. ﴿يَأْنِ﴾ فعل مضارع مجزوم من (٢) أنى الأمر يأني أنيًا من باب رمى إذا جاء إناه أي: وقته، وحان حينه؛ أي: ألم يأت، ولم يجيء، ولم يقرب للذين آمنوا بالله ورسوله ﴿أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: ألم يأت وقت خشوع قلوبهم وخضوعها لذكره تعالى، ومواعظه، وطمأنينتها به، ومسارعتها إلى طاعته بالامتثال لأوامره، والانتهاء عما نهوا عنه من غير توان، ولا فتور. قال بعضهم: الذكر إن كان غير القرآن يكون المعنى: أن ترق، وتلين قلوبهم إذا ذكر الله، فإن ذكر الله سبب لخشوع القلوب أي سبب. فالذكر مضاف إلى مفعوله، واللام بمعنى الوقت، والمعنى: ألم يأت للذين آمنوا خشوع قلوبهم وقت ذكرهم إياه تعالى، وإن كان القرآن فهو مضاف إلى الفاعل، واللام للعلة.
والمعنى (٣): ألم يأت للذين آمنوا وقت خشوعهم لذكر الله تعالى، ومواعظة التي ذكرها في القرآن، ولآياته التي تتلى فيه. ﴿وَ﴾ أن تخشع لـ ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾؛ أي: من القرآن. وهو معطوف على ﴿ذِكْرِ اللَّهِ﴾ فإن كان هو المراد به أيضًا فالعطف
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
457
لتغاير العنوانين. فإنه ذكر وموعظة، كأنه حق نازل من السماء. وإلا فالعطف كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)﴾. ومعنى الخشوع لما نزل: الانقياد التام لأوامره ونواهيه، والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام التي من جملتها ما سبق، وما لحق من الإنفاق في سبيل الله.
قرأ الجمهور (١): ﴿أَلَمْ﴾. وقرأ الحسن، وأبو السمّال ﴿ألمّا﴾. وقرأ الجمهور ﴿يأن﴾ مضارع أن إذا حان. وقرأ الحسن ﴿يئن﴾ بكسر الهمزة وسكون النون مضارع آن إذا حان أيضًا. وقرأ الجمهور، وأبو بكر عن عاصم ﴿وما نزّل﴾ بتشديد الزاي؛ أي: ولما نزله الله من القرآن. وقرأ نافع، وحفص مخففًا. والجحدري، وأبو جعفر، والأعمش، وأبو عمرو في رواية يونس، وعباس عنه مبنيًّا للمفعول مشددًا، وقرأ عبد الله ﴿أنزل﴾ بهمزة النقل مبنيًّا للفاعل.
وعبارة الشوكاني: والمعنى: أنه (٢) ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعًا ورقة، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر، ولا يخشع له. ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ معطوف على ﴿ذكر الله﴾. والمراد بما نزل من الحق: القرآن. فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان، أو خطور بالقلب. وقيل: المراد بالذكر: هو القرآن، فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير أو بتغاير المفهومين، انتهى.
وقرأ الجمهور (٣) قوله: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ بالتحتانية على الغيبة جريًا على ما تقدم عطفًا على ﴿أَنْ تَخْشَعَ﴾. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة، ويعقوب، وحمزة في رواية عن سليم عنه ﴿ولا تكونوا﴾ بالفوقانية على الخطاب التفاتًا، وبها قرأ عيسى، وابن إسحاق إما نهيًا وإما عطفًا على ﴿أَنْ تَخْشَعَ﴾؛ أي: ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم ولا يكونوا كالذين... إلخ.
والمعنى: النهي لهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
458
والإنجيل من قبل نزول القرآن. ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾؛ أي: طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم، أو الأعمار والآمال، وغلبهم الجفاء والقسوة، وزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من التوراة والإنجيل إذا تلوهما أو سمعوهما. وقرأ الجمهور (١) ﴿الْأَمَدُ﴾ بتخفيف الدال. وهي الغاية من الزمان. وقرأ ابن كثير في رواية عنه بتشديدها. وهو الزمان بعينه الأطول. وقيل: المراد بالأمد على القراءة الأولى: الأجل والغاية، يقال: أمد فلان كذا؛ أي: غايته. ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾؛ أي: تصلبت وغلظت بذلك السبب بحيث لا تنفعل للخير والطاعة، فهي كالحجارة أو أشد قسوة. فلذلك حرفوا وبدلوا. فنهى الله سبحانه أمة محمد - ﷺ - أن يكونوا مثلهم. ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أهل الكتاب ﴿فَاسِقُونَ﴾؛ أي: خارجون عن طاعة الله تعالى؛ لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم، وحرفوا، وبدلوا، ولم يؤمنوا بما نزل على محمد - ﷺ - لفرط الجفاء والقسوة. قيل: هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد - ﷺ -. وقيل: هم الذين ابتدعوا الرهبانية. وهم أصحاب الصوامع.
وفيه (٢): إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر، وروي عن عيسى عليه السلام قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله تعالى، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: مبتلى ومعافى. فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
ومعنى الآية (٣): أي أما آن للمؤمنين أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن والمواعظ، فتفهمه، وتنقاد له، وتطيع أوامره، وتنتهي عن نواهيه. وإذا كان المؤمنون قد أصابهم الوهن، ولم يمض على الإسلام أكثر من ثلاث عشرة سنة، كما قال ابن عباس: فما بالهم اليوم وقد مضى عليهم أكثر من ثلاثة عشر قرنًا؟. فتعبير الآية عن حالهم الآن بالأولى. فالوهن الآن أضعاف مضاعفة عما كان في تلك الحقبة، ومن ثم أفرط الأفاريج في إذلالهم واستعبادهم، وصاروا غرباء في ديارهم، والأمر والنهي فيها لسواهم.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
459
ويُقْضَى الأَمْرُ حِيْنَ تَغِيْبُ تَيْمٌ وَلَا يُسْتَأْذَنُوْنَ وَهُمْ شُهُوْدُ
ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب قبلهم فقال: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ الآية؛ أي: لا يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، حين طال الأمد بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم، ولم تقبل موعظة، ولم يؤثر فيها وعد ولا وعيد، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا في دين دون دليل ولا برهان، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا أو دون الله، وكثير منهم خرج عن أوامر الدين في الأعمال والأقوال. كما قال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)﴾؛ أي: فسدت قلوبهم فقست، وصار سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، فتركوا الأعمال التي أمروا بها، واجترحوا ما نهوا عنه.
والخلاصة: أن الله نهى المؤمنين أو يكونوا حين سماع القرآن غير متدبرين مواعظه كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم، لما طال العهد بينهم وبين أنبيائهم.
١٧ - ثم ضرب المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن في القلوب. فقال: ﴿اعْلَمُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؛ أي (١): يلين القلوب بالخشوع الناشىء عن الذكر، وتلاوة القرآن بعد قساوتها كما يحيي الله سبحانه الأرض بالغيث بعد يبسها، وكذلك يحيي الله الموتى أو القبور بالمطر. وهذا تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر، والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة. ﴿قَدْ بَيَّنَّا﴾ وأوضحنا ﴿لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿الْآيَاتِ﴾ الدالة على باهر قدرتنا، وبليغ حكمتنا التي أو جملتها هذه الآيات. ﴿لَعَكلم تَعْقِلُونَ﴾؛ أي: لكي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين.
والمعنى (٢): أي من الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي النفوس
(١) المراح.
(٢) المراغي.
460
الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها ببراهين القرآن ودلائله، وبالمواعظ والنصائح التي تلين الصخر الأصم، ويحييها بعد موتها كما يحيي الأرض الهامدة المجدبة بالغيث الوابل الهتان، وقد ضرب لكم الأمثال كي تتدبروا، وتكمل عقولكم. فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال. وهو الفعال لما يشاء، الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير المتعال.
الإعراب
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)﴾.
﴿سَبَّحَ﴾ فعل ماضي، مبني على الفتح، ﴿للهِ﴾ متعلق به. وقيل: اللام زائدة في المفعول. وقد تقدم القول في هذا الفعل، وأنه يتعدّى تارة بنفسه، وتارة باللام. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع، فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿في السماوات﴾ متعلق بمحذوف صلة الموصول، ﴿وَالأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السماوات﴾. ﴿وَهُوَ﴾ الواو: حالية أو استئنافية ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿العزيز﴾ خبر أول ﴿الحكيم﴾ خبر ثان، والجملة الاسمية إما حال أو لفظ الجلالة أو مستأنفة. ﴿له﴾ خبر مقدم، ﴿ملك السماوات﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿وَالأرْضِ﴾ معطوف على السماوات والجملة مستأنفة. ﴿يحيي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿وَيُمِيتُ﴾ معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال أو ضمير ﴿لَهُ﴾، أو مستأنفة، ﴿وَهُوَ﴾ الواو: عاطفة، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿على كل شيء﴾ متعلق بـ ﴿قدير﴾، و ﴿قدير﴾ خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿يحيي﴾. ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. ﴿والآخر والظاهر والباطن﴾ معطوفات على الأوّل. ﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿بكل شيء﴾ متعلق بـ ﴿عليم﴾، و ﴿عليم﴾ خبر المبتدأ. والجملة معطوفة على ما قبلها.
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾.
﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿الذي﴾ خبر. والجملة مستأنفة. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾،
461
﴿في سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ، ﴿اسْتَوَى﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ ومتعلق به. والجملة معطوفة على جملة ﴿خَلَقَ﴾. ﴿يَعْلَمُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. والجملة مستأنفة أو حال أو فاعل ﴿اسْتَوَى﴾ ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول به، ﴿يَلِجُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَا﴾، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بـ ﴿يَلِجُ﴾. والجملة صلة الموصول. ﴿وَمَا يَخْرُجُ﴾ معطوف على ﴿مَا يَلِجُ﴾، ﴿مِنْهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَخْرُجُ﴾، ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿مَا﴾ معطوف على ﴿ما﴾ الأولى، وجملة ﴿يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ معطوف على ﴿ما﴾ الأولى.
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦)﴾.
﴿وَهُوَ﴾ الواو: عاطفة، ﴿هو﴾ مبتدأ، ﴿مَعَكُمْ﴾ ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على ما قبلها أو مستأنفة. ﴿أَيْنَ مَا﴾ اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية مبنيُّ على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والظرف متعلق بالجواب المحذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: يكن معكم. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل تامّ، وفاعله في محل الجزم بـ ﴿أَيْنَ﴾ على كونه فعل شرط لها، وجملة الشرط مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾ و ﴿بَصِيرٌ﴾ خبره. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم، ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على السماوات، ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُرْجَعُ﴾. ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فعل، ونائب فاعل. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. ﴿يُولِجُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿اللَّيْلَ﴾ مفعول به، ﴿فِي النَّهَارِ﴾ متعلق بـ ﴿يُولِجُ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ معطوف على ما قبله، ﴿وَهُوَ﴾ مبتدأ ﴿عَلِيمٌ﴾ وخبر المبتدأ. والجملة معطوفة أو مستأنفة. ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾.
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)﴾.
462
﴿آمِنُوا﴾ فعل أمر، وفاعل. والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في مخاطبة كفّار قريش، وأمرهم بالإيمان بعد أن ذكر أنواعًا من دلائل التوحيد. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿آمِنُوا﴾، ﴿وَرَسُولِهِ﴾ معطوف على الجلالة، ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، معطوف على ﴿آمِنُوا﴾، ﴿مِمَّا﴾ متعلق بـ ﴿أَنْفِقُوا﴾، ﴿جَعَلَكُمْ﴾ فعل، وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ومفعول أول، ﴿مُسْتَخْلَفِينَ﴾ مفعول ثان، ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿مُسْتَخْلَفِينَ﴾ والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿فَالَّذِينَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم الأمر المذكور، وأردتم بيان جزاء من فعل ذلك فأقول لكم. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ، ﴿آمَنُوا﴾ صلته، ﴿وَأَنْفَقُوا﴾ معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿أَجْرٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿كَبِيرٌ﴾ صفة أجر. والجملة في محل الرفع خبر عن الموصول، وجملة الموصول في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو: استئنافية، ﴿مَا﴾ اسم استفهام للإنكار والتوبيخ، في محل الرفع مبتدأ، ﴿لَكُمْ﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿لَا﴾ نافية، ﴿تُؤْمِنُونَ﴾ فعل، وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به. والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير ﴿لَكُمْ﴾. والمعنى: أيّ شيء ثبت لكم حال كونكم غير مؤمنين. ﴿وَالرَّسُولُ﴾ الواو: حالية، ﴿الرَّسُولُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ﴿الواو﴾ في ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾. ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾ اللام: حرف جرّ وتعليل، ﴿تُؤْمِنُوا﴾ فعل، وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَدْعُوكُمْ﴾، واللام بمعنى إلى؛ أي: يدعوكم إلى الإيمان. ﴿بِرَبِّكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿تُؤْمِنُوا﴾. ﴿وَقَدْ﴾ الواو: حالية، ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق، ﴿أَخَذَ﴾ فعل ماضي، وفاعل مستتر، يعود على الرسول أو على الله، ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ مفعول به، والجملة في محل النصب على الحال من فاعل ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ على التداخل أو على الحال من ﴿رَبِّكُمْ﴾. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم، ﴿كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنتم مؤمنين فالآن
463
ظهرت أعلام اليقين، ووضحت الدلائل والبراهين. والجملة الشرطية مستأنفة.
﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٩)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. ﴿يُنَزِّلُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُنَزِّلُ﴾، ﴿آيَاتٍ﴾ مفعول به، ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ صفة ﴿آيَاتٍ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿لِيُخْرِجَكُمْ﴾ اللام: حرف جر وتعليل، ﴿يُخْرِجَكُمْ﴾، فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾، متعلق بـ ﴿يخرج﴾، ﴿إِلَى النُّورِ﴾ متعلق بـ ﴿يخرجكم﴾ أيضًا، وجملة ﴿يخرجكم﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإخراجه إياكم من الظلمات إلى النور، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُنَزِّلُ﴾. ﴿وَإِنَّ﴾ الواو: عاطفة، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، ﴿بِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿رَءُوفٌ﴾، ﴿لَرَءُوفٌ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿رَءُوفٌ﴾ خبر أول. لأنّ ﴿رَحِيمٌ﴾ خبر ثان لها. وجملة إنَّ معطوفة على جملة قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ﴾.
﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ما اسم استفهام إنكاري في محل الرفع، مبتدأ، ﴿لَكُمْ﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿أَلَّا﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿لا﴾ نافية، ﴿تُنْفِقُوا﴾ وفعل، وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جرّ محذوف، تقديره: وأيّ شيء ثبت لكم في عدم إنفاقكم في سبيل الله، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُنْفِقُوا﴾. ﴿وَلِلَّهِ﴾ خبر مقدم، ﴿مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ﴾ مبتدأ، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل الاستقرار أو مفعوله؛ أي: وأيّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، والحال أن ميراث السماوات والأرض له تعالى. ﴿لَا﴾ نافية، ﴿يَسْتَوِي﴾ فعل مضارع، ﴿مِنْكُمْ﴾ حال من ﴿مَنْ﴾ الموصولة الواقعة فاعلًا، ﴿مِنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع، فاعل ﴿يَسْتَوِي﴾، ﴿أَنْفَقَ﴾ فعل ماضي، وفاعل مستتر.
464
والجملة صلة ﴿من﴾ الموصولة. ﴿مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بـ ﴿أَنفَقَ﴾ ﴿وَقَاتَلَ﴾ معطوف على ﴿أَنْفَقَ﴾، ومقابله محذوف لدلالة الاستواء عليه؛ لأنه لا يقال إلا في شيئين فأكثر؛ أي: لا يستوي منكم من أنفق، ومن لم ينفق، والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ، ﴿أَعْظَمُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة. ﴿دَرَجَةً﴾ تمييز من الذين متعلق بـ ﴿أَعْظَمُ﴾، وجملة ﴿أَنْفَقُوا﴾ صلة الموصول، ﴿مِنْ بَعْدُ﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَنْفَقُوا﴾، ﴿وَقَاتَلُوا﴾ معطوف على ﴿أَنْفَقُوا﴾، ﴿وَكُلًّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿كُلًّا﴾ مفعول به أوّل مقدم لـ ﴿وَعَدَ﴾، ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، ﴿الْحُسْنَى﴾ مفعول ثان لـ ﴿وَعَدَ﴾. والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿أُولَئِكَ أَعْظَمُ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾، و ﴿خَبِيرٌ﴾ خبر المبتدأ، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة الموصول، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿ذَا﴾ اسم إشارة خبره، ﴿الَّذِي﴾ صفة لاسم الإشارة أو بدل منه. والجملة مستأنفة، ويصح أن يكون ﴿قَرْضًا﴾ اسم استفهام مركَّبًا في محل الرفع مبتدأ، و ﴿الَّذِي﴾ خبره، ويصح أن تكون ﴿ذَا﴾ مبتدأ، و ﴿الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ صفة، و ﴿مَنْ﴾ خبر المبتدأ مقدم عليه لما فيه من معنى الاستفهام. ﴿يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿قَرْضًا﴾ مفعول مطلق، ﴿حَسَنًا﴾ صفة ﴿قَرْضًا﴾. والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ الفاء: عاطفة سببية، ﴿يُضَاعِفَهُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿الفاء﴾ السببية الواقعة في جواب الاستفهام، ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿يضاعف﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيّد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: من ذا الذي يكن إقراضه لله فمضاعفته له، وقرىء بالرفع على الاستئناف أو على العطف. ﴿وَلَهُ﴾ الواو: حالية ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم، ﴿أَجْرٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿كَرِيمٌ﴾ صفة ﴿أَجْرٌ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ضمير ﴿لَهُ﴾.
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
465
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)}.
﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية متعلق باذكر محذوفًا أو متعلق بـ ﴿يضاعفه﴾، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿تَرَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به. لأن رأى بصرية. ﴿وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ معطوف على ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾. والجملة في محل الجر مضاف إليه ليوم. ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ﴾ فعل، وفاعل. والجملة في محل النصب، حال من ﴿الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾. ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَسْعَى﴾، ﴿وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ معطوف على بَينَ أَيدِيهِتم. ﴿بُشْرَاكُمُ﴾ مبتدأ، ﴿الْيَوْمَ﴾ ظرف متعلق بالبشرى. لأنه مصدر بمعنى المبشر به. وقيل: متعلق بالقول المقدر، وفيه خفاء. ﴿جَنَّاتٌ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول للقول المحذوف؛ أي: يقال لهم: بشراكم في هذا اليوم جنات الخ. أو يقال لهم في ذلك اليوم: بشراكم جنات الخ. ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع، ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ متعلق به، ﴿الْأَنْهَارُ﴾ فاعل، والجملة صفة لـ ﴿جَنَّاتٌ﴾. ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من ضمير المخاطبين المقدر مع العامل فيها، والتقدير: بشراكم دخولكم جنات حالة كونكم خالدين فيها، فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطبين، وأضيف المصدر إلى مفعوله، فصار دخول جنات، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ ثان، ﴿الْفَوْزُ﴾ خبره. والجملة خبر ﴿ذَلِكَ﴾، وجملة ﴿ذَلِكَ﴾ مستأنفة. ﴿الْعَظِيمُ﴾ صفة لـ ﴿الْفَوْزُ﴾.
﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى﴾.
﴿يَوْمَ﴾ ظرف بدل من ﴿يَوْمَ﴾ قبله. وقال ابن عطية: ويظهر لي أن العامل فيه ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، كأنّه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا، وكذا. ورده أبو حيان. ﴿يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه. ﴿وَالْمُنَافِقَاتُ﴾ معطوف على ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾، ﴿لِلَّذِينَ﴾ متعلق بـ ﴿يَقُولُ﴾، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، ﴿انْظُرُوا﴾ وفعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، و ﴿نَا﴾ ضمير متصل في محل النصب مفعول به. والجملة
466
الفعلية في محل النصب، مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾. وإن شئت قلت: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ مقول محكيّ. ﴿نَقْتَبِسْ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بالطلب السابق، ﴿مِنْ نُورِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿نَقْتَبِسْ﴾، والجملة جزاء المقول، لا محل لها من الإعراب. ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾، نائب فاعل محكيّ لـ ﴿قِيلَ﴾. وجملة ﴿قِيلَ﴾ مستأنفة. وإن شئت قلت: ﴿ارْجِعُوا﴾ فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو: فاعل، ﴿وَرَاءَكُمْ﴾ ظرف متعلّق بـ ﴿ارْجِعُوا﴾. والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿فَالْتَمِسُوا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿التمسوا﴾ فعل أمر، وفاعل، معطوف على ﴿ارْجِعُوا﴾، ﴿نُورًا﴾، مفعول به. ﴿فَضُرِبَ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿ضرب﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ﴿بَيْنَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿ضرب﴾، ﴿بِسُورٍ﴾ وجار ومجرور، في محل الرفع نائب فاعل، وقيل: الباء: زائدة، ﴿سور﴾ نائب فاعل. والجملة الفعلية معطوفة على ﴿قِيلَ﴾. ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم، ﴿بَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لـ ﴿سور﴾، ﴿بَاطِنُهُ﴾ مبتدأ، ﴿فِيهِ﴾ خبر مقدم، ﴿الرَّحْمَةُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر لـ ﴿بَاطِنُهُ﴾، وجملة ﴿بَاطِنُهُ﴾ صفة ثانية لـ ﴿سور﴾ أو صفة لـ ﴿بَابٌ﴾، ولعله أولى لقربه. ﴿وَظَاهِرُهُ﴾ مبتدأ، ﴿مِنْ قِبَلِهِ﴾ خبر مقدم، ﴿الْعَذَابُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ﴿ظاهره﴾، وجملة ﴿ظاهره﴾ معطوفة على جملة ﴿بَاطِنُهُ﴾، ﴿يُنَادُونَهُمْ﴾ وفعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في ﴿بَيْنَهُمْ﴾، ﴿أَلَمْ﴾ الهمزة: للاستفهام التقريري، و ﴿لم﴾ حرف جزم، ﴿نَكُنْ﴾ فعل ناقص مجزوم بلم، واسمه ضمير يعود على المتكلمين، ﴿مَعَكُمْ﴾ خبر ﴿نَكُنْ﴾. وجملة الاستفهام جملة مفسرة لجملة النداء، لا محل لها من الإعراب، أو منصوبة بقول مقدّر. ﴿قَالُوا﴾ فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بَلَى﴾ حرف جواب قائم مقام الجواب المحذوف، تقديره: كنتم معنا. وجملة الجواب جزء مقول.
﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)﴾.
﴿وَلَكِنَّكُمْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿لكنكم﴾ ناصب واسمه، ﴿فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على جملة الجواب المحذوف على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ فعل، وفاعل،
467
معطوف على ﴿فَتَنْتُمْ﴾، ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿فَتَنْتُمْ﴾ أيضًا، ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾ فعل، ومفعول به، وفاعل، معطوف على ﴿فَتَنْتُمْ﴾ أيضًا. ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية، ﴿جَاءَ﴾ فعل ماض في محل النصب بأن مضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾، ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾ فاعل. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى، تقديره: إلى مجيء أمر الله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿غرتكم﴾. ﴿وَغَرَّكُمْ﴾ فعل، ومفعول، ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿غركم﴾، ﴿الْغَرُورُ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على ﴿غرتكم﴾. ﴿فَالْيَوْمَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أحوالكم الدنيوية، وأردتم بيان مآلكم الأخروية فأقول لكم اليوم لا يؤخذ. و ﴿اليوم﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿يُؤْخَذُ﴾. ﴿لَا﴾ نافية، ﴿يُؤْخَذُ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة، ﴿مِنْكُمْ﴾ متعلق به، ﴿فِدْيَةٌ﴾ نائب فاعل، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ جار ومجرور، معطوف على ﴿مِنْكُمْ﴾ وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿مَأْوَاكُمُ﴾ خبر مقدم، ﴿النَّارُ﴾ مبتدأ مؤخر، أو بالعكس. والجملة مستأنفة أو حال من ضمير ﴿مِنْكُمْ﴾. ﴿هي﴾ مبتدأ، ﴿مَوْلَاكُمْ﴾ خبر، والجملة في محل النصب حال من النار أو مستأنفة. ﴿وَبِئْسَ﴾ الواو: استئنافية، ﴿بئس﴾ فعل ماض من أفعال الذمّ، ﴿الْمَصِيرُ﴾ فاعل، والمخصوص بالذمّ محذوف، تقديره: النار. والجملة الفعلية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب.
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾.
﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي، ﴿لم﴾ حرف جزم، ﴿يَأْنِ﴾ فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة، ﴿لِلَّذِينَ﴾ متعلّق به، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، ﴿أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ﴾ ناصب، وفعل منصوب، وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقدير: ألم يأن للذين آمنوا خشوع قلوبهم. والجملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَخْشَعَ﴾، ﴿وَمَا﴾ معطوف على ﴿ذكر الله﴾، وجملة ﴿نَزَلَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾ حال من فاعل ﴿نَزَلَ﴾، ﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَكُونُوا﴾ فعل
468
ناقص واسمه، معطوف على ﴿تَخْشَعَ﴾ ﴿كَالَّذِينَ﴾ خبر ﴿يَكُونُوا﴾، ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله، ومفعول ثان. والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ تعلق بـ ﴿أُوتُوا﴾.
﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)﴾.
﴿فَطَالَ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿طال﴾ فعل ماضي، ﴿عَلَيْهِمُ﴾ متعلق به، ﴿الْأَمَدُ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أُوتُوا﴾. ﴿فَقَسَتْ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿قست﴾ فعل ماض، ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ فاعل. والجملة معطوفة على جملة ﴿طال﴾. ﴿وَكَثِيرٌ﴾ مبتدأ، ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة له. وهو المسوّغ للابتداء بالنكرة. ﴿فَاسِقُونَ﴾ خبر، والجملة مستأنفة. ﴿اعْلَمُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، ﴿يُحْيِ الْأَرْضَ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ متعلق به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾، وجملة ﴿أنّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسدّ مفعولي ﴿اعْلَمُوا﴾. ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿بَيَّنَّا﴾ فعل، وفاعل، ﴿لَكُمُ﴾ متعلق بـ ﴿بَيَّنَّا﴾ ﴿الْآيَاتِ﴾ مفعول به، والجملة مستأنفة، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾ خبره. وجملة ﴿لعل﴾ جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ والتسبيح: تنزيه الله تعالى اعتقادًا وقولًا وفعلًا عما لا يليق بجنابه سبحانه وتعالى من صفات المحدثين: كإثبات شريك له أو ند، وكون الملائكة بنات له، وكون عيسى ابنًا له، هذا في حق العقلاء، وأما تسبيح غيرهم فهو دلالة وجوده على عظم خالقه، وانقياده له في كل آنٍ.
﴿الْعَزِيزُ﴾ هو الذي لا ينازعه في ملكه شيء. ﴿الْحَكِيمُ﴾ هو الذي يفعل أفعاله وفق الحكمة والصواب. ﴿يُحْيِي﴾ النطف، فيجعلها أشخاصًا عقلاء فاهمين ناطقين. ﴿وَيُمِيتُ﴾ الأحياء. وأصله: يموت بوزن يفعل نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء، ففيه إعلال بالنقل والتسكين.
﴿هُوَ الْأَوَّلُ﴾؛ أي: السابق على سائر الموجودات. ﴿وَالْآخِرُ﴾؛ أي: الباقي
469
بعد فنائها. ﴿وَالظَّاهِرُ﴾؛ أي: الذي ظهرت دلائل وجوده، وتكاثرت، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وظاهر بغلبته على مخلوقاته وتسخيرها لإرادته. ﴿وَالْبَاطِنُ﴾؛ أي: الذي خفي عنا كنه ذاته، فلم تره العيون، فهو باطن بذاته، ومشرق بجماله وكماله، وباطن بعلمه بما خفي من مخلوقاته، فلا تخفى عليه خافية.
﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أصله: أيوام بوزن أفعال، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، فصار أيَّام بوزن أعال.
﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ من الولوج. وهو الدخول في مضيق، وفي "المناسبات": الولوج: الدخول في الساتر لجملة الداخل، وفيه إعلال بالحذف، أصله: يولج بوزن يفعل، حذفت فاؤه في المضارع لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة، وهي الواو. إذ ماضيه ولج، فهو مثال واويّ.
﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ قرىء مبنيًّا للمفعول من رجع رجعًا؛ أي: رد ردًّا وبالبناء للفاعل من رجع رجوعًا إذا صار إليه. ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ﴾ من أولج الرباعي، والإيلاج: الإدخال. يستعمل في المحسوسات كإيلاج الحشفة في الفرج، وفي "المعنويات" كإيلاج الليل في النهار.
﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ والميثاق: العهد المؤكد باليمين. وأصله: موثاقكم، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ﴾ أصله: موراث، من الوراثة، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة، فصارت حرف مدٍّ.
﴿أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾؛ أي: أرفع منزلة عند الله تعالى، وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها. فالدرجة بمعنى المرتبة والطبقة، وجمعها درجات. وإذا كانت بمعنى المرقاة فجمعها درج.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ والإقراض حقيقته: إعطاء العين على أن يرد بدله من القرض. وهو في الأصل: القطع، من قرض الثوب بالمقراض إذا قطعه به، ثم سمي به ما يقطعه الرجل من أمواله فيعطيه عينًا بشرط رد بدله. فعلى هذا يكون ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ مفعولًا به.
﴿يَسْعَى نُورُهُمْ﴾ وأصله: يسعى بوزن يفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت
470
ألفًا. ﴿وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ جمع يمين بمعنى الجهة، والمراد: جميع الجهات من إطلاق البعض وإرادة الكل.
﴿انْظُرُونَا﴾ أمر من النظر. والنظر: هو تقليب العين إلى الجهة التي فيها المرئي. والمراد: رؤيته. ومادة "نظرت" وما تصرف منه يستعمل على ضروب:
أحدها: أن تريد به نظرت إلى الشيء، فتحذف الجار، وتصل الفعل. ومن ذلك ما أنشده أبو الحسن:
ظَاهِرَاتُ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ يَنْظُرْ نَ كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الْظِّبَاءُ
والمعنى: ينظرن إلى الأراك، فحذف الجار.
والثاني: أن تريد به: تأملت وتدبرت، وهو فعل غير متعد. فمن ذلك قولهم: اذهب فانظر زيد أبو من هو. فهذا يراد به: التأمل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ﴾، و ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾. وقد يتعدى هذا بالجار كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)﴾ فهذا حض على التأمّل. وقد يتعدى هذا بقي نحو قوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
والثالث: أن تريد به: انتظرته. ومن ذلك قوله: ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾.
والرابع: أن يكون نظرت بمعنى أنظرت، تريد بقولك: نظرت التنفيس الذين يطلب به الانتظار. فمن ذلك قول عمرو بن كلثوم:
أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِيْنَا
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. إنّما هو طلب الإمهال والتسويف.
﴿نَقْتَبِسْ﴾ وأصل الاقتباس: طلب القبس؛ أي: الجذوة من النار. والجذوة: شعلة نار تقتبس من معظم النار. قال بعضهم: النار والنور من أصل واحد. وهو الضوء المنتشر يعين على الإبصار. وكثيرًا ما يتلازمان، لكن النار متاع للمقوين في الدنيا، والنور متاع لهم في الدنيا والآخرة. ولأجل ذلك استعمل في النور الاقتباس، وقيل: ﴿نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾؛ أي: نأخذ من نوركم قبسًا وسراجًا وشعلة.
471
﴿بِسُورٍ﴾ والسور: الحاجز. ﴿مِنْ قِبَلِهِ﴾ من جهته. ﴿بَلَى﴾؛ أي: كنتم معنا. ﴿فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أهلكتموها بالمعاصي والشهوات. ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ انتظرتم بالمؤمنين مصايب الزمان وحوادثه. ﴿لَهُ بَابٌ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: بوب، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا يدل على ذلك تصغيره على بويب، وجمعه على أبواب.
﴿يُنَادُونَهُمْ﴾ أصله: يناديونهم بوزن يفاعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فسكنت فحذفت لالتقاء الساكنين، وضمت الدال لمناسبة الواو.
﴿وَارْتَبْتُمْ﴾؛ أي: شككتم في أمر البعث، أصله: ارتيب بوزن افتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار ارتاب، ثم أسند الفعل إلى ضمير الرفع التحرك فسكن آخره فالتقى ساكنان، فحذفت الألف.
﴿الْأَمَانِيُّ﴾ الأباطيل التي لا أصل لها من طول الآمال، الطمع في انتكاس الإِسلام. جمع أمنية كأضحية وأضاحي، وأصل أمنية: أمنوية بضم الهمزة، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءٌ، وأدغمت الياء في الياء، ثم كسرت النون لمناسبة الياء.
وقرأه أبو جعفر بتخفيف الياء ساكنة، فلم يعتد بحرف المد الموجود في المفرد الذي هو سبب التشديد عند الجمهور.
﴿الْغَرُورُ﴾ بالفتح: الشيطان. ﴿فِدْيَةٌ﴾ والفدية والفداء: ما يبذل لحفظ النفس أو المال من الهلاك. ﴿مَأْوَاكُمُ﴾؛ أي: منزلكم الذي تأوون إليه. وأصله: مأويكم بوزن مفعل بفتح العين، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿هِيَ مَوْلَاكُمْ﴾ أصله: موليكم بوزن مفعل بفتح العين، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بسكون الهمزة وكسر النون مضارع أنى من باب رمى، يقال: أنى الأمر يأني كرمى يرمي رميًا وأناءً وأني إذا جاء أناه؛ أي: وقته. فهو معتل حذفت منه الياء التي هي لامه للجازم، فوزنه يفع لحذف لامه.
وقرأ الحسن ﴿يَئِنْ﴾ بكسر الهمزة وسكون النون مضارع آن من باب باع، يقال: آن يئين مثل: باع يبيع، فجزم بسكون النون، ومعنى ﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾؛ أي: ألم يقرب وقت خشوع قلوبهم، ويجيء وقته. ومنه: قول الشاعر:
472
أَلَمْ يأنِ لِيَ يَا قلْبُ أَنْ أَتْرُكَ الجَهْلَا وَإِنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ المُنِيرُ لَنَا عَقْلا
﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أصله: أءتيوا، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت للتخفيف، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمت التاء لمناسبة الواو، وأبدلت الهمزة الساكنة واوًا حرف مد للأولى.
﴿فَطَالَ﴾ أصله: طول، من باب فعل المضموم، فقلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ففيه إعلال بالقلب. ﴿فَقَسَتْ﴾ أصله: قسو، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقائها مع تاء التأنيث الساكنة لما لحقت الفعل، فوزنه فعت. والقسوة: غلظ القلب، وعدم لينه لقبول الخير كما مر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، وبين ﴿الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ وبين ﴿الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾.
ومنها: المقابلة بين ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾، وبين ﴿وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾.
ومنها: رد العجز على الصدر في قوله: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾.
ومنها: حذف مفعول ﴿أَنْفِقُوا﴾ في قوله: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ فِيه للمبالغة في الحث على الإنفاق، وعدم البخل بالمال. وحذف مفعول ﴿تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لما تقدم ولتشديد التوبيخ؛ أي: وأيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا ما هو قربة لله تعالى.
ومنها: الاستعارة التصريحية في ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لأن السبيل حقيقة في الممر، فاستعير لكل خير يوصلهم إليه تعالى.
ومنها: حذف ثاني الاستوائين لأن الاستواء لا يتم إلا بعد شيئين، فلا بد من تقدير ثان، تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة، وقوّة الإِسلام، ومن
473
أنفق من بعد الفتح. فحذف لوضوح الدلالة عليه، ويسمى هذا الحذف بالإيجاز.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾؛ أي: ليخرجكم من ظلمات الشرب إلى نور الإيمان. فاستعار لفظ الظلمات للكفر والضلالة، ولفظ النور للإيمان والهداية.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ فقد شبه الإنفاق في سبيل الله بإقراضه، ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به، والجامع بينهما إعطاء شيء بعوض.
ومنها: حذف متعلق الظرف في قوله: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ أعني اذكر تفخيمًا لشأن ذلك اليوم، كما في "الروح".
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ وحيث استعار النور للهدى والرضوان الذي هم فيه، فحذف المشبه وأبقى المشبه به.
ومنها: تخصيص الإيمان بالذكر في قوله: ﴿وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ ولم يذكر الشمائل مع أن المراد: جميع الجهات إظهارًا لشرفها على الشمائل.
ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ بعد قوله: ﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿بِسُورٍ لَهُ بَابٌ﴾ حيث استعار الضرب للبناء لكون البناء مما يحتاج إلى ضرب باليد، ونحوها من الدلالات.
ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ﴾ أيضًا حيث شبه بقاء المنافقين في حندس نفاقهم وظلامه بمن ضرب بينهم، وبين النور الهادي سور يحجب كل نور.
ومنها: الطباق بين باطنه وظاهره وبين الرحمة والعذاب في قوله: ﴿بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾.
ومنها: حذف الجواب في قوله: ﴿قَالُوا بَلَى﴾ إقامة لحرف الجواب مقامه.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾.
474
ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: ﴿مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ﴾؛ أي: لا ولي لكم ولا ناصر إلا نار جهنم. وهو تهكم بهم.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ حيث شبه تليين القلوب بالذكر والتلاوة بعد قساوتها ونبوها عن استماع الحق والعمل بأوامره بإحياء الأرض الميتة بالغيث من حيث اشتمال كل واحد منهما على بلوغ الشيء إلى كماله المتوقع بعد خلوه عنه، أو يكون استعارة تمثيلية لإحياء الأموات، بأن شبه إحياءها بإحياء الأرض الميتة، وأن من قدر على الثاني قادر على الأول. فحقه أن تخشع القلوب لذكره.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
475
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) وازن بين المؤمنين والمنافقين فيما مضى، وأبان ما يكون
(١) المراغي.
476
بينهما من فارق يوم القيامة.. ذكر هنا التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.
قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا بشر المؤمنين بأن نورهم يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وحثهم على بذل الجهد وترك الغفلة، وذكر ثواب المتصدقين والمتصدقات.. أردف ذلك بوصف حال الدنيا، وسرعة زوالها، وتقضيها، وضرب لذلك مثل الأرض ينزل عليها المطر، فتنبت الزرع البهيج الناضر الذي يعجب الزرّاع لنمائه وجودة غلته، وبينما هو على تلك الحال إذا به يصفر بعد النضرة والخضرة، ويجف ثم يتكسر ويتفتت، وما الحياة الدنيا إلا مزرعة للآخرة، فمن أجاد زرعه حصد وربح، ومن توانى وكسل ندم ولات حين مندم.
قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع، ونعم الوسيلة، ثم حث سبحانه على عمل ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه، ويمهد إلى الدخول في جنات عرضها السماوات والأرض، أعدها لمن آمن به وبرسله فضلًا منه ورحمة، وهو المنعم عظيم الفضل.
قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (١) أن متاع هذه الدنيا زائل فان، وأن ما فيها من خير أو شر لا يدوم.. أردف ذلك بتهوين المصايب على المؤمنين، فذلك يكون مصدر سعادة نفوسهم واطمئنانها، وبدونه يكون شقاؤها وكآبتها. وآية ذلك أن لا يحزنوا على فائت، ولا يفرحوا بما يصل إليهم من لذاتها الفانية.
ثم بين أن المختالين الذين يبخلون بأموالهم على ذوي الحاجة والبائسين، ويأمرون بذلك، ويعرضون عن الإنفاق لا يبخلون إلا على أنفسهم، والله غني عنهم، وهو المحمود على نعمه التي لا تدخل تحت حد.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأنه أنزل الميزان
(١) المراغي.
477
والحديد، وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرة رسله؛ أتبع ذلك ببيان ما أنعم به على أنبيائه من النعم الجسام، فذكر أنه شرف نوحًا وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة، ثم جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فما جاء أحد بعدهما بالنبوة إلا كان من سلائلهما.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن من آمنوا من أهل الكتاب إيمانًا صحيحًا لهم أجرهم عند ربهم. ذكر هنا من آمنوا منهم بعيسى أولًا، وبمحمد - ﷺ - ثانيًا يؤتيهم أجرهم مرتين لإيمانهم بنبيهم، ثم بمحمد من بعده، ثم ذكر أن النبوة فضل من الله ورحمة منه، لا يخص به قومًا دون قوم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، لا كما يقول اليهود: إن الوحي والرسالة فينا، لا تعدونا إلى سوانا، فنحن شعب الله المختار، ونحن أبناء الله وأحبّاؤه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند فيه من لا يعرف عن ابن عباس: أنّ أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي - ﷺ -، فشهدوا معه أحدًا، فكانت فيهم جراحات، ولم يقتل منهم أحد، فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا: يا رسول الله إنا أهل ميسرة، فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسى بها المسلمين، فأنزل الله فيهم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)﴾ الآيات، فلمّا نزلت قالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم. فأنزل الله عزّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا...﴾ الآية، فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي - ﷺ -، فقالوا: لنا أجران ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
(١) لباب النقول.
478
اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ...} والآية. فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب.
قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾.. حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ...﴾ الآية.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبيٌّ فيقطع الأيدي، والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا. فأنزل الله سبحانه: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ...﴾ الآية. يعني بالفضل: النبوّة.
التفسير وأوجه القراءة
١٨ - ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ قرأ الجمهور (١) بتشديد الصاد والدال في الموضعين، من الصدقة، وأصله: المتصدقين والمتصدقات، فأدغمت التاء في الصاد، وقرأ أبي ﴿المتصدقين والمتصدقات﴾ وبإثبات التاء على الأصل.
والمعنى على هاتين القراءتين: إن الذين آمنوا من الرجال والنساء، وتصدقوا صدقة واجبة أو تطوعًا.
وقرأ ابن كثير، وأبو بكر، والمفضل، وأبان، وأبو عمرو في رواية هارون بتخفيف الصاد وتشديد الدال من التصديق؛ أي: إن الذين صدقوا رسول الله - ﷺ - فيما جاء به عن الله، واللاتي صدقنه كذلك.
وقوله: ﴿وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ معطوفة على اسم الفاعل في المصدقين؛ لأنه وقع صلة للألف واللام الموصولة، حل محل الفعل، فصح العطف عليه، نظير قوله تعالى: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤)﴾. والإقراض (٢) الحسن عبارة عن التصدق من الطيب عن طيبة النفس، وخلوص النية على المستحق للصدقة.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
479
والمعنى على القراءتين الأوليين: إن الناس الذي تصدقوا، واللاتي تصدقن أي صدقة سواء كانت حسنة أم لا، والذين أقرضوا الله قرضًا حسنًا واللاتي أقرضن كذلك، فاندفع ما يتوهم من التكرار؛ لأن الإقراض تصدق مقيد، وما قبله تصدق مطلق، وأما على القراءة الثالثة فلا إيهام، ولا إشكال.
وقوله: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ﴾ على البناء للمفعول، مسند إلى ما بعده من الجار والمجرور. وقيل: إلى مصدر ما في حيز الصلة على حذف مضاف؛ أي: يضاعف لهم ثواب التصدق والإقراض الحسن، والجملة خبر ﴿إِنَّ﴾، والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وقوله: ﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: لأولئك المتصدقين والمقرضين ﴿أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾؛ أي: ثواب حسن في الجنة. والأجر الكريم: هو الذي يقترن به رضا وإقبال.
وهذا العطف أعني: عطف ﴿أَقْرَضُوا﴾ على صلة الألف واللام على مذهب أبي عليّ الفارسي، ومن وافقه كالزمخشري، قال أبو حيّان (١): ولا يصح أن يكون معطوفًا على ﴿الْمُصَّدِّقِينَ﴾؛ لأن المعطوف على الصلة صلة، وقد فصل بينهما بمعطوف، وهو قوله: ﴿وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾. ولا يصح أيضًا أن يكون معطوفًا على صلة أن في ﴿المصدقات﴾ لاختلاف الضمائر. إذ ضمير المتصدقات مؤنث، وضمير ﴿وَأَقْرَضُوا﴾ مذكر. فالأولى أن يتخرج ما هنا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه، فكأنّه قيل: والذين أقرضوا الله. فيكون مثل قوله:
فَمَنْ يَهْجُوْ رَسُوْلَ الله مِنْكُمْ وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
يريد: ومن يمدحه. وقيل: جملة ﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ﴾ معترضة بين اسم ﴿إِنَّ﴾ وخبرها، وهو ﴿يُضَاعَفُ﴾.
وقرأ الجمهور: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ﴾ بالبناء للمفعول. وقرأ الأعمش (٢) ﴿يضاعفه لهم﴾ بكسر العين على صيغة المعلوم، وزيادة الهاء. والفاعل ضمير يعود على الله. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب ﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ﴾ بتشديد العين وفتحها.
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
480
والمعنى: أي (١) إنَّ المتصدقين والمتصدقات بأموالهم ابتغاء مرضات الله تعالى، لا يريدون جزاءًا ولا شكورًا، يضاعف لهم ربهم ثواب إنفاقهم فيقابل الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف ذلك إلى سبع مئة ضعف، ولهم ثواب جزيل ومرجع صالح.
١٩ - ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ جميعًا. وهو مبتدأ أول. والإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى الموصول، وهو مبتدأ ثان. ﴿هُمُ﴾ مبتدأ ثالث، خبره قوله: ﴿الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ﴾. وهو مع خبره خبر لأولئك، والجملة خبر للموصول؛ أي: أولئك ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ بمنزلة الصدّيقين والشهداء، المشهورين بعلو المرتبة ورفعة المحل، وهم الذين سبقوا إلى التصديق، واستشهدوا في سبيل الله تعالى، فالكلام على التشبيه البليغ، والصديق (٢) من أبنية المبالغة. قال الزجاج: ولا يكون فيما أحفظ إلا من ثلاثي. وقال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديق. وقال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم، ولم يكذبوهم، وقال في "فتح الرحمن": الصديق نعت لمن كثر منه الصدق، وهم ثمانية نفر من هذه الأمة، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإِسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة. وتاسعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ألحقه الله بهم، وإن تم به الأربعون لما عرف من صدق نيته.
وقيل: الشهداء على ثلاث درجات (٣):
الدرجة الأولى: الشهيد بين الصفين، وهو أكبرهم درجة.
والدرجة الثانية: ثم كل من قضى بقارعة أو بلية، مثل: الغرق، والحرق، والهالك في الهدم، والمطعون، والمبطون، والغريب، والميتة بالوضع، والميت يوم الجمعة وليلة الجمعة، والميت على الطهارة.
والدرجة الثالثة: ما نطقت به هذه الآية العامة للمؤمنين. وقال بعضهم في معنى الآية: هم المبالغون في الصدق، حيث آمنوا، وصدقوا جميع أخباره تعالى
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
481
ورسله، والقائمون بالشهادة لله بالوحدانية، ولهم بالإيمان أو على الأمم يوم القيامة. وقال مجاهد: هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم. واختار هذه القول الفراء، والزجاج. وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وكذا قال ابن جرير. وقيل: هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ.
والظاهر (١): أنّ معنى الآية: إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعًا بمنزلة الصدِّيقين والشهداء، المشهورين بعلو الدرجة عند الله تعالى.
ثم بين سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله. فقال: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ مبتدأ وخبر. والجملة خبر ثان للموصول، والضمير الأول على الوجه الأول أعني: كون الكلام على التشبيه راجع للموصول، والأخيران للصدّيقين والشهداء. ولا بأس بتشتيث الضمائر عند الأمن. وهذه الجملة بيان لثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال.
والمعنى (٢): أي للذين آمنوا مثل أجر الصديقين والشهداء، ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، وقد حذف أداة التشبيه تنبيهًا على قوّة المماثلة وبلوغها حد الإتحاد، فالمماثلة بين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف، وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الأضعاف؛ ليحصل التفاوت. وأما (٣) على قول من قال: إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصديقين والشهداء. فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد. والمعنى: لهم الأجر والنور الموعودان لهم.
وهذا المعنى المذكور على القول: بأن الشهداء معطوف على الصديقين. ويجوز أن يكون الوقف على ﴿الصِّدِّيقُونَ﴾، ﴿وَالشُّهَدَاءُ﴾ مبتدأ، وما بعده خبره، ومعنى الآية عليه؛ أي: (٤) والذين أقروا بوحدانية الله، وصدقوا رسله، وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم أولئك هم في حكم الله بمنزلة الصديقين، والذين استشهدوا في سبيل الله لهم أجر جزيل، ونور عظيم يسعى بين أيديهم. وهم
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
482
يتفاوتون في ذلك بحسب ما كانوا عليه في الدنيا من الأعمال.
والخلاصة: أن العاملين أقسام. فمنهم: النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩)﴾.
ولما ذكر الله سبحانه السعداء ومآلهم.. أردف ذلك بذكر حال الأشقياء ومصيرهم. فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسله ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: كذبوا بآيات الله، وحججه، وبراهينه الدالة على وحدانيته وصدق رسله ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات القبيحة المذكورة ﴿أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾؛ أي: أصحاب النار، خالدين فيها أبدا لا يفارقونها، يعذبون بها، ولا أجر لهم ولا نور، بل لهم عذاب مقيم وظلمة دائمة.
وفيه (١): دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفًا، وأراد بالكفر: الكفر بالله، فهو في مقابلة الإيمان بالله، وبتكذيب الآيات: تكذيب ما بأيدي الرسل من الآيات الإلهية، وتكذيبها تكذيبهم فهو في مقابلة الإيمان والتصديق بالرسل. ففيه وصف لهم بالوصفين القبيحين اللذين هما: الكفر والتكذيب.
٢٠ - ولما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني، وما وقع منهم من الكفر والتكذيب، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وإيثارها بين لهم حقارتها، وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة. فقال: ﴿اعْلَمُوا﴾ أيها المكبون على الدنيا المعرضون عن الآخرة ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ لفظ الحياة زائد، والمضاف مضمر، و ﴿ما﴾ صلة؛ أي: اعلموا أن أمور الدنيا وشؤونها لشعب إلخ، ويجوز أن تجعل الحياة الدنيا مجازًا عن أمورها بعلاقة اللزوم. وفي "كشف الأسرار": الحياة القربى في الدار الأولى. فإن المقصود الحياة في هذه الدار، فكل ما قبل الموت دنيا، وكل ما تأخر عنه أخرى. ﴿لَعِبٌ﴾؛ أي: عمل باطل تتعبون فيه أنفسكم إتعاب اللاعب بلا فائدة. واللعب (٢) في أصله: هو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدًّا، ثم إن تلك الملاعب تنقضي من غير
(١) روح البيان.
(٢) المرح.
483
فائدة. ﴿وَلَهْوٌ﴾ تلهون به أنفسكم، وتشغلونها عما يهمكم من أعمال الآخرة. واللهو في أصله: هو فعل الشبان، فبعد انقضائه لا يبقى إلا التحزن؛ لأنَّ العاقل يرى المال ذاهبًا والعمر ذاهبًا، وقال مجاهد: كل لعب لهو، وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة. ﴿وَزِينَةٌ﴾ من الملابس، والمراكب، والمنازل الحسنة تتزينون بها. والزينة في أصله: دأب النسوان؛ لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح وتكميل الناقص. ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ بالأنساب والأحساب، تتفاخرون بها كتفاخر الأقران، يفتخر بعضهم على بعض بالنسب، أو بالقوة، أو بالقدرة، أو بالعساكر. وكلها ذاهبة، كما هو شأن العرب، والتفاخر في أصله: هو دأب الأقران، ومعنى الفخر: المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه، ويعبر عن كل نفس بالفاخر، كما في "المفردات". وقرأ الجمهور (١) بتنوين ﴿تفاخر﴾، والظرف صفة له أو معمول له، وقرأ السلمي بالإضافة. ﴿وَتَكَاثُرٌ﴾؛ أي: مغالبة في الكثرة ﴿فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ وتطاول بكثرة العَدَد والعُدَد، ومباهاة بكثرتهما. لا سيما التطاول بها على الفقراء والمساكين، فإنهم كانوا يتكاثرون بأموالهم وأولادهم، ويتطاولون بذلك على الفقراء، والتكاثر في أصله: شأن الدهقان "بضم الدال وكسرها: التاجر، ورئيس الإقليم، معرب". فالحياة (٢) الدنيا غير مذمومة، وإنما المذموم من صرف هذه الحياة إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى، لا إلى طاعة الله تعالى.
والمعنى: اعلموا أن شغل البال بالحياة الدنيا دائر بين هذه الأمور الخمسة، وقيل: الدنيا لعب كعب الصبيان، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر كتفاخر الأقران، وتكاثر كتكاثر الدهقان.
قال علي بن أبي طالب لعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما: لا تحزن على الدنيا، فإن الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكوح. فأكبر طعامها العسل: وهو ريقة ذبابة، وأكبر شرابها الماء، ويستوي فيه جميع الحيوان، وأكبر الملبوس الديباج: وهو نسج دودة، وأكبر المشموم المسك: وهو دم ظبية، وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأكبر المنكوح النساء،
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
484
وهو مبال في مبال، وفي الحديث: "ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا، كراكب قام في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها".
والخلاصة (١): أي اعلموا أيها الناس أن متاع الدنيا ما هو إلا لعب ولهو تتفكهون به، وزينة تتزينون بها، وبها يفخر بعضكم على بعض، وتتابهون فيها بكثرة الأموال والأولاد.
ثم ضرب مثلًا يبين أنها زهرة فانية، ونعمة زائلة، فقال: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾؛ أي: كمثل مطر ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ﴾؛ أي: الزراع ﴿نَبَاتُهُ﴾؛ أي: النبات الحاصل بذلك المطر. ومحل (٢) الكاف النصب على الحالية من الضمير في ﴿لعب﴾؛ لأنَّ فيه معنى الوصف؛ أي: تثبت لها هذه الأوصاف حال كونها مشبهة غيثًا، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي كمثل أو خبر بعد خبر للحياة الدنيا. والغيث؛ مطر محتاج إليه، يغيث الناس من الجدب عند قلة المياه، فهو مخصوص بالمطر النافع، بخلاف المطر، فإنه عام. والمراد بالكفار هنا: الحراث، والعرب تقول للزارع: كافر لأنه يكفر، أي: يستر بذره بتراب الأرض، والكفر لغة: الستر، كما سيأتي. وقيل (٣): المراد بهم. الكافرون بالله؛ لأنهم أشد إعجابًا بزينة الدنيا، ولأن المؤمن إذا رأى معجبًا.. انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، والكافر لا يتخطى فكره عما أحسن به فيستغرق فيه إعجابًا، وقد منع في بعض المواضع عن إظهار الزينة صونًا لقلوب الضعفاء، كما في الأعراس ونحوها.
أي: صفة الدنيا في إعجابها كصفة مطر أعجب الزراع النبات الحاصل بذلك ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾؛ أي: يجف ذلك النبات وييبس بعد خضرته ونضارته بآفة سماوية أو أرضية. ﴿فَتَرَاهُ﴾؛ أي: فترى أيها المخاطب ذلك النبات بعدما رأيته ناضرًا ﴿مُصْفَرًّا﴾؛ أي: متغيرًا عما كان عليه من الخضرة والرونق إلى لون الصفرة والذبول. وإنما لم يقل: فيصفر إيذانًا بأن اصفراره مقارن لجفافه، وإنما المرتب عليه رؤيته كذلك، وقرىء ﴿مُصْفَارًّا﴾. ﴿ثُمَّ يَكُونُ﴾ ذلك النبات المصفر ﴿حُطَامًا﴾؛
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
485
أي: فتاتًا هشيمًا متكسرًا متحطمًا بعد يبسه؛ أي: مثل الحياة الدنيا كمثل الزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته وكثرة نضارته، ثم لا يلبث أن يصير هشيمًا تبنًا كأن لم يكن. وحطام (١) صيغة مبالغة كعجاب.
وحاصل المعنى: أي ما مثل هذه الحياة الدنيا في سرعة فنائها وانقضائها على عجل، إلا مثل أرض أصابها مطر وابل فأنبتت من النبات ما أعجب الزراع، وجعلهم في غبطة وحبور وبهجة وسرور، وبينما هو على تلك الحال إذا هو يصوح، ويأخذ في الجفاف واليبس، ثم يكون هشيمًا تذروه الرياح. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)﴾.
ثم ذكر عاقبة المنهمكين فيها، الطالبين لتحصيل لذاتها، المتهالكين في جمع حطامها، والمعرضين عنها الطالبين لرضوان ربهم. فقال: ﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ لمن أقبل عليها، ولم يطلب بها الآخرة، وقدم ذكر العذاب لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة كائنة ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿وَرِضْوَانٌ﴾ كثير منه تعالى، لا يقادر قدره لمن أعرض عنها، وقصد بها الآخرة، بل الله تعالى لأن الدنيا والآخرة ليستا مقصودتين لأهل الله؛ أي: وفي الآخرة إما عذاب شديد دائم لمن انهمك في لذاتها، وأعرض عن صالح الأعمال، ودسّ نفسه بالشرك، والآثام، وإما مغفرة من الله ورضوان من لدنه لمن زكي وأخبت لربه وأناب إليه.
قَدِّمْ لِرِجْلِكَ قَبْلَ الْخَطْوِ مَوْضِعَهَا فَمَنْ عَلَا زَلَقًا عَنْ غِرَّةٍ زَلَجَا
ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا، فقال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾؛ أي: إلا كالمتاع الذي يغر ويخدع به الغير أي: إلا مثل (٢) المتاع الذي يتخذ من نحو الزجاج، والخزف مما يسرع فناؤه يميل إليه الطبع أول
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
486
ما رآه، فإذا أخذه، وأراد أن ينتفع به ينكسر ويفنى.
والمعنى: أي وما هذه الحياة الدنيا إلا متاع فإني زائل خادع من ركن إليه، واغتر به، وأعجبه حتى اعتقد أن لا دار سواها، ولا معاد وراءها، واطمأن بها ولم يجعلها ذريعة إلى الآخرة، وأما من اشتغل بطلب الآخرة.. فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها، وهي الجنة، والدنيا غير مقصودة لذاتها بل لأجر الآخرة، وفي الحديث: نعم المال الصالح للرجل الصالح" فما شغل العبد عن الآخرة.. فهو من الدنيا، وما لا.. فهو من الآخرة.
٢١ - وهذه (١) الجملة مقررة للمثل المتقدم ومؤكدة له. ولما أبان أن الآخرة قريبة، وفيها العذاب الأليم، والنعيم حث على المبادرة إلى فعل الخيرات، فقال: ﴿سَابِقُوا﴾؛ أي: سارعوا أيها الناس مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار، وهو الميدان. ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ عظيمة كائنة ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ومالككم، أي: سارعوا إلى أسبابها وموجباتها كالاستغفار وسائر الأعمال الصالحة؛ أي: بحسب وعد الله، وإلا فالعمل نفسه غير موجب، وفي دعائه - ﷺ - "أسألك عزائم مغفرتك"؛ أي: أن توفقني للأعمال التي تغفر لصاحبها لا محالة، ويدخل فيها المسابقة إلى تكبيرة الإحرام مع الإِمام، قاله مكحول. وقيل: المراد الصف الأول، ولا وجه لتخصيص ما في هذه الآية بمثل هذا بل هو من جملة ما تصدق عليه صدقًا شموليًّا أو بدليًّا.
﴿وَ﴾ إلى ﴿جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: كعرض سبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض على أن يكون اللام في ﴿السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ للاستغراق، وإذا كان عرضها كذلك فما ظنك بطولها؛ فإن طول كل شيء أكثر من عرضه. وفي "البحر": ﴿عَرْضُهَا﴾؛ أي: مساحتها في السعة اهـ. ويقال: هذا التشبيه (٢) تمثيل للعباد بما يعقلون، وبما يقع في نفوسهم من مقدار السماوات والأرض، وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية، وقيل: المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة، وقال ابن كيسان: عني به: جنة واحدة من الجنات؛ أي: سابقوا أقرانكم في مضمار الأعمال الصالحة، وأدوا ما كلفتم به من أوامر الشريعة، واتركوا نواهيها يدخلكم ربكم بما
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
قدمتم لأنفسكم جنة سعتها كسعة السماوات والأرض.
ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى، فقال: ﴿أُعِدَّتْ﴾؛ أي: هيئت ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ سبحانه ﴿و﴾ بجميع ﴿رُسُلِهِ﴾ كافة عليهم الصلاة والسلام. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وفيه (١) دليل على أن الجنة مخلوقة بالفعل كما هو مذهب أهل السنة، وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقه إذ لم يذكر مع الإيمان شيء آخر، ولكن الدرجات بالأعمال، وفيه شيء لأن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه، واجتنب عما نهاه الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، ولأن الإيمان بالرسل لا يكمل إلا بالإيمان بما في أيديهم من الكتب الإلهية والعمل بما فيها.
والإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى ما وعد الله من المغفرة والجنة ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾ وعطاؤه. وهو ابتداء لطف بلا علة ﴿يُؤْتِيهِ﴾؛ أي: يعطيه تفضلًا وإحسانًا ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ إيتاءه إياه من غير إيجاب، لا كما زعمه أهل الاعتزال؛ أي (٢): هذا الذي أعده الله تعالى لهم هو من فضله ورحمته ومنته عليهم، وفي الصحيح: أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور "الأموال" بالأجور والدرجات العلا، والنعيم المقيم، قال: "وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون ولا نتصدّق، ويعتقون ولا نعتق، قال: "أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه.. سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين"، قال: فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله - ﷺ -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾؛ أي: والله واسع العطاء، عظيم الفضل، فيعطي من يشاء ما شاء كرمًا منه وفضلًا، ويبسط له الرزق في الدنيا، ويهب لهم النعم، ويعرفهم مواضع الشكر، ثم يجزيهم في الآخرة ما أعده لهم مما وصفه قبل.
٢٢ - ثم بين سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب، قد سبق بذلك قضاؤه
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
488
وقدره، وثبت في أم الكتاب. فقال: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ "ما" نافية. والمراد بالمصيبة هنا: النائبة. و ﴿من﴾ زائدة؛ أي: مصيبة، وذكر (١) فعلها وهو جائز التذكير والتأنيث، ومن التأنيث ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا﴾. ولفظ ﴿مُصِيبَةٍ﴾ يدل على الشر؛ لأنَّ عرفها ذلك كما مر آنفًا. قال ابن عباس: ما معناه: أنه أراد عرف المصيبة، وهو استعمالها في الشر، وخصها بالذكر؛ لأنها أهم على البشر، والمصيبة في الأرض مثل القحط، والزلزلة، وعاهة الزرع، واحتلال الأجانب الظالمين، واستيلاء الحكام الفاسقين، وفي الأنفس: الأسقام والموت. وقيل: المراد بالمصيبة (٢): الحوادث كلها من خير أو شر؛ أي: ما حدثت حادثة كائنة في الأرض كجدب وعاهات في الزروع والثمار. ﴿وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ أيها العباد كمرض، وآفة وموت ولد، وخوف عدو، وجوع. وقوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ في محل نصب على الحال من مصيبة؛ أي: إلا حال كونها مكتوبة مثبتة في علم الله سبحانه، أو في اللوح المحفوظ.
وجملة قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾؛ أي: من قبل أن نخلق الأنفس أو المصائب أو الأرض في محل جر، صفة لكتاب، والضمير في ﴿نَبْرَأَهَا﴾ عائد إلى المصيبة أو إلى الأنفس أو إلى الأرض أو إلى الجميع. و ﴿نَبْرَأَهَا﴾؛ أي: نخلقها، فإن البرء في اللغة: هو الخلق، والبارىء: الخالق.
وذكر (٣) ربيع بن صالح الأسلمي قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج حين أراد قتله، فبكى رجل من قومه، فقال سعيد: ما ييكيك؟ قال: ما أصابك، قال: فلا تبك قد كان في علم الله أن يكون هذا ألم تسمع قول الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾؟ قال في "الروضة": رؤي الحجاج في المنام بعد وفاته، فقيل: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني بكل قتيل قتلة. وبسعيد بن جبير سبعين قتلة. وفصل المصيبة هنا بقوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ و ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ وأجمل في التغابن حيث قال: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ موافقة لما قبلها. لأنه فصَّل هنا بقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
489
الدُّنْيَا} الآية، بخلافه ثَمَّ.
وفي الآية: دليل على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها، كذا جميع أعمال الخلق بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ، ليستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه تعالى عالمًا بجميع الأشياء قبل وجودها، وليعرفوا حلمه؛ فإنه تعالى مع علمه أنهم يقومون على المعاصي خلقهم، ورزقهم وأمهلهم، وليحذروا من أمثال تلك المعاصي، وليشكروا الله تعالى على توفيقه إياهم للطاعات وعصمته إياهم من المعاصي، وفيها دليل أيضًا على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها؛ لأن إثباتها في الكتاب قبل علمها محال، ولو سأل سائل: أن الله تعالى هل يعلم عدد أنفاس أهل الجنة؟ يقال له: إن الله يعلم أنه لا عدد لأنفاسهم.
والمعنى (١): أي ما أصابكم أيها الناس من مصائب في آفاق الأرض كقحط وجدب وفساد زرع، أو في أنفسكم من أوصاب وأسقام إلا في أم الكتاب من قبل أن نبرأ هذه الخليقة.
﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾؛ أي: إثباتها في كتاب مع كثرتها ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بقوله: ﴿يَسِيرٌ﴾ غير عسير لاستغنائه فيه عن العدة والمدة، وان كان عسيرًا على العباد. والمعنى؛ أي: إن علمه بالأشياء قبل وجودها وكتابته لها طبق ما توجد في حينها يسير عليه تعالى؛ لأنه يعلم ما كان، وما سيكون وما لا يكون، أخرج الحاكم وصححه عن أبي حسان: أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها، فقالا: إن أبا هريرة يحدث أن النبي - ﷺ - كان يقول: "إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار"، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم - ﷺ - ما كان يقول هكذا، كان يقول: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار". ثم قرأ: و ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾.
ففي الآية (٢): توطين للنفوس على الرضا بالقضاء والصبر على البلاء، وحمل لها على شهود المبتلى في عين البلاء، فإن به يسهل التحمل، وإلا فمن كان غافلًا عن مبدأ اللطف، والقهر فهو غافل في اللطف والقهر، ولذا تعظم عليه المصيبة،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
490
بخلاف حال أهل الحضور؛ فإنهم يلتذون بالبلاء التذاذهم بالعافية، بل ولذة البلاء فوق لذة العافية، ومن أمثال العرب ضرب الحبيب زبيب؛ أي: لذيذ.
٢٣ - ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا﴾ يقال: أسى على مصيبة يأسى أسى من باب علم إذا حزن والجار والمجرور فيه متعلق بمحذوف، تقديره: أخبرناكم بإثباتها وكتابتها في كتاب لكيلا يحصل لكم الحزن والألم، أي: لكيلا تحزنوا حزنًا يوجب القنوط كما يقيد بذلك في الفرح، وإلا فالحزن والفرح: الطبيعيان لا يخلو عنهما الإنسان. ﴿عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من نعم الدنيا كالمال والخصب والصحة والعافية. ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾؛ أي: أعطاكم الله منها. فإن من علم أن كلا من المصيبة والنعمة مقدر يفوت ما قدر فواته، ويأتي ما قدر إتيانه لا محالة، لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آتٍ؛ إذ يجوز أن يقدر ذهابه عن قريب، وكل زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله، ولا يحزن على فواته.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بِمَا آتَاكُمْ﴾ بالمد؛ أي: أعطاكم. وقرأ عبد الله ﴿بما أوتيتم﴾ مبنيًا للمفعول؛ أي: أعطيتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم، وأبو عمرو ﴿بما أتاكم﴾ بالقصر؛ أي: جاءكم. واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الأخيرة أبو عبيد.
ومعنى الآية (٢): أي أعلمناكم بتقدم علمنا، وسبق كتابتنا للأشياء قبل وجودها، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطاكم لم يكن ليصيبكم، فلا تحزنوا على فائت، ولا تفرحوا بآت.
والخلاصة: أن كل شيء قدر في الكتاب فكيف نفرح أو نحزن. قال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح أو يحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا والحزن صبرًا.
وقال حكيم: الصبر مخرج من الشقاء فلا سعادة إلا بالصبر، ووصول النفس إلى كمالها الخلقي بحيث يمر المال والولد والقوة والعلم عليها، فيصيبها مرة ويخطئها أخرى، وهي مطمئنة لا يدخلها زهو ولا إعجاب بما نالت ولا حزن على ما فاتها، اهـ.
(١) الشوكاني والبحر المحيط.
(٢) المراغي.
وفي الآية (١): إشارة إلى أنه يلزم أن يثبت الإنسان على حالة واحدة في السراء والضراء، فإن كان لا بد له من فرح فليفرح شكرًا على إعطائه لا بطرًا، وإن كان لا بد من حزن فليحزن صبرًا على قضائه لا ضجرًا، وفي تخصيص (٢) التذييل بالنهي عن الفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى. قال قتيبة بن سعيد: دخلت على بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء مملوء من الإبل الميتة بحيث لا تحصى، ورأيت شخصًا على تل يغزل صوفًا فسألته فقال: كانت باسمي فارتجعها من أعطاها، ثم أنشأ يقول:
لَا والَّذِيْ أَنَا عَبْدٌ مِنْ خَلَائِقِهِ وَالْمَرْءُ فِيْ الدَّهْرِ نَصَبُ الرِّزْءِ وَالْمِحَنِ
مَا سَرَّنِي أَنَّ إِبْلِيْ فِيْ مَبَارِكِهَا وَمَا جَرَى مِنْ قَضَاءِ الله لَمْ يَكُنِ
وبالجملة (٣): فالحزن المذموم هو ما يخرج بصاحبه إلى ما يذهب عنه الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء الثواب، والفرح المنهي عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويلهيه عن الشكر، ولذا عقب بقوله: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾؛ أي: متكبر بما أوتي من الدنيا ﴿فَخُورٍ﴾؛ أي: مبالغ في الفخر به على الناس؛ فإن من فرح بالحظوظ الدنيوية، وعظمت في نفسه اختال، وافتخر بها لا محالة والمختال (٤): المتكبر المعجب وهو من الخيلاء، وهو التكبر من تخيل فضيلة تترائى للإنسان من نفسه؛ أي: لا يحب الله من اتصف بهاتين الصفتين وهما: الاختيال والافتخار، وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار.
٢٤ - وقوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾؛ أي: يمسكون أموالهم، ولا يخرجون منها حق الله تعالى؛ فإن البخل إمساك المقتنيات عما يحق إخراجها فيه، ويقابله الجود. ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾؛ أي: بإمساك أموالهم عن إخراجها في الحقوق الواجبة بدل من ﴿كُلَّ مُخْتَالٍ﴾. وقيل: هو مستأنف، لا تعلق له بما قبله، وهو في محل رفع بالابتداء، والخبر مقدر، فيكون بيانا لصفة اليهود.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
والمعنى عليه (١): الذين يبخلون ببيان صفة النبي - ﷺ - التي في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم، ويأمرون الناس بالبخل به، لهم عذاب شديد، أو فإن الله غني عنهم، ويدل على هذا قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾. قال سعيد بن جبير: هم الذين يبخلون بالعلم، ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس تلك المعجزة على يده.
٢٥ - أي: ولقد أرسلنا رسلنا إلى الأمم مؤيدين بالمعجزات الدالة على صدقهم في دعواهم. ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾؛ أي: جنس الكتب الشامل للكل لتبيين الحق وتمييز صواب العمل؛ أي: لتكميل القوة النظرية والعملية.
وقوله: ﴿مَعَهُمُ﴾ يجعل على تفسير الرسل بالأنبياء حالًا مقدرة من
﴿الْكِتَابَ﴾. أي: مقدرًا كونه معهم، وإلا فالأنبياء لم ينزلوا حتى ينزل معهم الكتاب. فالنزول مع الكتاب شأن الملائكة، والإنزال إليهم شأن الأنبياء، ولذا قدم الوجه الأول؛ إذ لو كان المعنى: لقد أرسلنا الأنبياء إلى الأمم.. لكان الظاهر أن يقال: وأنزلنا إليهم الكتاب. ﴿و﴾ أمرناهم بـ ﴿الْمِيزَانَ﴾؛ أي: بالعدل ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ﴾؛ أي: ليتعامل الناس فيما بينهم ﴿بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالعدل إيفاء واستيفاء، ولا يظلم أحد أحدًا في ذلك. ومعنى إنزاله: إنزال أسبابه، والأمر بأعداده، وإلا فالميزان من مصنوعات البشر، وليس بمنزل من السَّماء. وعلى القول: بأن المراد به: الآلة التي يوزن بها يكون معنى إنزاله إرشاد الناس إليه، وإلهامهم الوزن به، ويكون الكلام من باب علفتها تبنًا وماء باردًا".
وروي: أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان نفسه فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: مر قومك يزنوا به.
والمعنى: أي ولقد أرسلنا الأنبياء إلى أممهم، ومعهم البراهين الدالة على صدقهم، المؤيدة لبعثهم من عند ربهم، ومعهم كتب الشرائع التي فيها هداية البشر وصلاحهم في دينهم ودنياهم، وأمرناهم بالعدل ليعملوا به فيما بينهم، ولا يظلم بعضهم بعضًا.
(١) المراح.
493
ولما كان الناس فريقين: فريقًا يقوده العلم والحكمة، وفريقًا يقوده السيف والعصا، وكان ما يزع الشيطان أكثر مما يزع القرآن، وكان العدل والقانون لا بد له من حام يحميه، وهو الدولة والملك وأعوانه والجند، وهؤلاء لا بدل لهم من عدة يحمون بها القانون والعدل في داخل البلاد، وفي خارجها أعقب بقوله: ﴿وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ﴾؛ أي: خلقناه كما في قوله: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾، والمعنى: أنه خلقه في المعادن، وعلم الناس صنعته واستخراجه من معدنه. وذلك أن أوامره وقضاياه وأحكامه تنزل من السماء، قاله الحسن. وأصل الحديد: ماء نزل من السماء، فتجمد في معادنه، ولذلك احتاج في صوغه إلى النار، كما أن الماء المثلج يحتاج إلى الحرارة في ذوبه. وقال بعضهم: وأخرجنا الحديد من المعادن؛ لأن العدل إنما يكون بالسياسة، والسياسة مفتقرة إلى العدة، والعدة مفتقرة إلى الحديد، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وهو أشد بياضًا من الثلج، وعصا موسى، وكانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع، والحديد. ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في الحديد ﴿بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾؛ أي: قوة شديدة يعني: السلاح للحرب؛ لأنَّ آلات الحرب، إنما تتخذ منه. قال الزجاج: يمتنع به ويحارب.
والمعنى: أنه تتخذ منه آلة للدفع، وآلة للضرب. قال مجاهد: فيه جنة وسلاح. ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: وفيه منافع كثيرة للنَّاس، فإنهم ينتفعون بالحديد في كثير من أمور معاشهم كالسكين، والفأس والإبرة، وآلات الزراعة والصناعة، ونحوها. فإنه ما من صنعة إلا، والحديد أو ما يعمل بالحديد آلتها كالمراكب، والبواخر، والطوائر، والسوائر. وفيه إشارة إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى القائم بالسيف يحتاج أيضًا إلى ما به قوام التعايش من الصنائع وآلات المحترقة.
وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ﴾ معطوف (١) على قوله: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: لقد أرسلنا رسلنا، وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس بالقسط، وليعلم الله.. إلخ. أو معطوف (٢) على علة مقدرة يدل عليها ما قبله، فإنه حال متضمنة للتعليل كأنه قيل: وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس ليستعملوه، وينتفعوا
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
494
به، وليعلم الله علمًا يتعلق بالجزاء من ينصره ورسله باستعمال السيوف والرماح، والمدافع، والبنادق، وسائر الأسلحة في مجاهدة أعدائه. وقال الشوكاني: والأول أولى؛ لأن عدم التقدير أولى من التقدير.
وقوله: ﴿بِالْغَيْبِ﴾ حال من فاعل ﴿يَنْصُرُهُ﴾؛ أي: ليعلم الله سبحانه من ينصر دينه، وينصر رسله حال كونهم غائبين عن الله تعالى مشاهدين له، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه. وإنما يحمد ويثاب من أطاع بالغيب من غير معاينة للمطاع، أو حال من مفعوله؛ أي: حال كونه تعالى غائبًا عنهم غير مرئي لهم (١)، أو حال من ﴿رسله﴾؛ أي: وإنما فعل ذلك ليراكم ناصري دينه باستعمال السلاح، والكراع لمجاهدة أعدائه وناصري رسله، وهم غائبون عنكم لا يبصرونكم.
روى أحمد، وأبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم".
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿قَوِيٌّ﴾ على إهلاك من أراد إهلاكه ﴿عَزِيزٌ﴾ لا يفتقر إلى نصرة الغير، وإنما أمرهم بالجهاد، لينتفعوا به ويستوجبوا ثواب الامتثال فيه؛ أي: إن الله قوي قادر يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته غالب على أمره لا يقدر أحد على دفع العقوبة حتى أحلها بأحد من خلقه، وليس له حاجة إلى أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله، بل كلفهم بذلك، لينتفعوا به إذا امتثلوا، ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين. قال الزروقي رحمه الله تعالى (٢): القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته وصفاته، ولا في أفعاله، فلا يمسه نصب ولا تعب، ولا يدركه قصور، ولا عجز في نقض ولا إبرام. وخاصية هذا الاسم ظهور القوة في الوجود، فما تلاه ذو همة ضعيفة إلا وجد القوة، ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك، ولو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرة كان له ذلك، وكفى أمره. وخاصية الاسم العزيز: وجود الغنى، والعز صورة أو معنى، فمن ذكره أربعين يومًا في كل يوم أربعين مرة أعانه الله وأعزه، فلم يحوجه إلى أحد من
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
495
خلقه. وقال السهرودي رحمه الله تعالى: من قرأه سبعة أيام متواليات كل يوم ألفًا أهلك خصمه، وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ويشير إليهم بيده؛ فإنهم ينهزمون.
٢٦ - ولما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالًا أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ وكرر القسم للتأكيد؛ أي: وعزّتي وجلالي.. لقد بعثنا ﴿نُوحًا﴾ إلى قومه. وهم (١) بنوا قابيل، وهو الأب الثاني للبشر. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ إلى قومه أيضًا، وهم نمرود ومن تبعه. ذكر الله رسالتهما تشريفًا لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل وأبوان للأنبياء عليهم السلام، فالبشر كلهم من ولد نوح. والعرب والعبرانيون كلهم من ولد إبراهيم. ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا﴾؛ أي: في نسلهما ﴿النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ بأن استنبأنا بعض ذريتهما، وأوحينا إلهم الكتب مثل: هود، وصالح، وموسى، وهارون، وداود، وغيرهم، فلا يوجد نبي ولا كتاب إلا وهو مدل إليهما بأمتن الأنساب، وأعظم الإنسان.
أي: جعلنا فيهم النبوّة، والكتب المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل: جعل بعضهم أنبياء، وجعل بعضهم يتلون الكتاب.
والمعنى: ولقد بعثنا نوحًا إلى طائفة من خلقنا، ثم بعثنا إبراهيم من بعده إلى قوم آخرين، ولم يرسل بعدهما رسلًا بشرائع إلا من ذريتهما.
ثم بين أن هذه الذرية افترقت فرقتين ﴿فَمِنْهُمْ﴾؛ أي: فمن ذريتهما ﴿مُهْتَدٍ﴾ إلى الحق مستبصر ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾؛ أي: ضلال خارجون عن طاعة الله تعالى، ذاهبون إلى طاعة الشيطان، مدسون أنفسهم باجتراح الآثام، وفي الآية إيماء إلى أنهم خرجوا من الطريق المستقيم بعد أن تمكنوا من الوصول إليه، وبعد أن عرفوه حق المعرفة، وهذا أبلغ في الذم وأشد في الاستهجان لعملهم.
والمعنى: أي فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم. وقيل: المعنى: فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى، وكثير منهم خارجون عن طاعتنا.
٢٧ - ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ﴾؛ أي: (٢) أتبعنا على آثار الذرية، أو
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
496
على آثار نوح، إبراهيم ﴿بِرُسُلِنَا﴾ الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى، وإلياس، وداود، وسليمان، وغيرهم. فالضمير (١) لنوح وإبراهيم، ومن أرسلا إليهم من الأمم؛ أي: أرسلنا بعد نوح هودًا وصالحًا، وبعد إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف مثلًا. وفي "الروح": الضمير لا يرجع إلى الذرية؛ فإن الرسل المقفى بهم من الذرية. يقال: قفا (٢) أثره أتبعه، وقفى على أثره بفلان؛ أي: أتبعه إياه وجاء به بعده. والآثار جمع إثر بالكسر، كما سيأتي. تقول: خرجت على إثره؛ أي: عقبه. فالمعنى: أتبعنا من بعدهم واحدًا بعد واحد من الرسل.
والخلاصة (٣): أي ثم بعثنا بعدهم رسولًا بعد رسول على توالي العصور والأيام.
ثم خص من أولئك الرسل عيسى لشهرة شريعته في عصر التنزيل ولوجود أتباعه في جزيرة العرب وغيرها، فقال: ﴿وَقَفَّيْنَا﴾؛ أي: أتبعنا أولئك الرسل الذين قفيناهم بعد نوح إبراهيم ﴿بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾؛ أي: أرسلنا رسولًا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، فأتينا به بعدهم؛ أي: جعلناه تابعًا لهم؛ أي: متأخرًا عنهم في الزمان. فأول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى عليهما السلام، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه. ونسبه إلى أمه على حقيقة الإخبار. ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾؛ أي: أعطينا عيسى ﴿الْإِنْجِيلَ﴾ دفعة واحدة، وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدَّم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران، وقرأ الجمهور (٤) ﴿الْإِنْجِيلَ﴾ بكسر الهمزة. وقرأ الحسن بفتحها. قال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له، انتهى، وهي لفظة أعجمية فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب. وقال الزمخشري: أمره أهون من أمر برطيل، يعني: أنه بفتح الباء، وكأنّه عربيّ، وأما الإنجيل فأعجمي.
والمعنى: أي ثم أرسلنا رسولًا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل الذي أوحيناه إليه، وفيه شريعته ووصاياه، وقد جاء ما فيه مكملًا لما في القوراة، ومخفِّفًا بعض أحكامها التي شرعت تغليظًا على بني إسرائيل
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
497
لنقضهم العهد والميثاق كما جاء في قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾.
ثم بين صفات أتباع عيسى، فقال: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا﴾ المؤمنين ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾؛ أي: اتبعوا عيسى في دينه كالحواريين وأتباعهم. ﴿رَأْفَةً﴾؛ أي: لينًا. وقرىء ﴿رآفة﴾ بوزن فعالة، كما في "البيضاوي". ﴿وَرَحْمَةً﴾؛ أي: شفقة؛ أي (١): جعلنا في قلوبهم رأفة؛ أي: أشد رقة ولين على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم، والاتباع لهم ورحمة؛ أي: رقة وعطفًا وشفقة على من لم يكن له سبب في الاتصال بهم والاتباع لهم، أي: يعطفون على جميع الناس من وافقهم في الدين، ومن لم يوافقهم، كما كان الصحابة رضي الله عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة، فهم أعزة على الكافرين. قيل: أمروا في الإنجيل بالصفح، والإعراض عن مكافأة الناس على الأذى. وقيل: لهم من لطم خدك الأيمن فوله خدك الأيسر، ومن سلب ردائك فاعطه قميصك، ولم يكن لهم قصاص على جناية في نفس أو طرف. فاتبعوا هذه الأوامر، وأطاعوا الله تعالى، وكانوا متوادين ومتراحمين. ووصفوا بالرحمة خلاف اليهود الذين وصفوا بالقسوة.
وقوله: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ منصوب (٢) على الاشتغال بفعل مضمر يفسره المذكور بعده؛ أي: وابتدع أتباع عيسى رهبانية ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾؛ أي: اخترعوها من قبل أنفسهم، وباختيارهم لا بأمر من الله، فيكون الكلام مستأنفًا؛ أي: حملوا أنفسهم على العمل بها. والرهبانية: المبالغة في العبادة بمواصلة الصوم، ولبس المسوح، وترك أكل اللحم، والامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والمنكح، والتعبد في الغيران، والتخلي في الصوامع. ومعناها: ابتدعوا الفعلة المنسوبة إلى الرهبان بفتح الراء: وهو الخائف، فإن الرهبة مخافة مع تحزن واضطراب كما في "المفردات"، وهو فعلان من رهب كخشيان من خشي. وقيل: معطوفة على ما قبلها، وجملة ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾ صفة لها؛ أي: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة مخترعة من عندهم؛ أي: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية، واستحداثها لينجوا من
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
498
فتنة بولس اليهودي. والأوّل أولى (١)، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره.
وجملة ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ صفة ثانية لـ ﴿رَهْبَانِيَّةً﴾ أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم. والمعنى: ما فرضنا عليهم تلك الرهبانية في كتابهم، ولا على لسان رسولهم.
وسبب ابتداعهم إياها (٢): أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى، فقاتلوا ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا قليل، فخافوا أن يفتتنوا في دينهم، فاختاروا الرهبانية في قلل الجبال، فارين بدينهم، مخلصين أنفسهم للعبادة، منتظرين البعثة النبوية التي وعدها لهم عيسى عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الآية.
وروي: أن الله تعالى لما أغرق فرعون وجنوده استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة موسى عليه السلام في الرجوع إلى الأهل والمال بمصر، فأذن لهم ودعا لهم فترهبوا في رؤوس الجبال، فكانوا أول من ترهب، وبقيت طائفة منهم مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله تعالى؛ ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب عيسى عليه السلام.
والرهبانية (٣) بفتح الراء وضمها، وقد قرىء بهما، وهي بالفتح من الرهب. وهو الخوف. وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل، فترهبوا وتبتلوا. ذكر معناه الضحاك، وقتادة وغيرهما.
وحاصل المعنى (٤): أن اتباع عيسى الذين ساروا على نهجه وشريعته اتصفوا بما يأتي:
١ - الرأفة بين بعضهم وبعض فيدفعون الشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيل، ويصلحون ما فسد من أمورهم.
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
499
٢ - الرحمة فيجلب بعضهم لبعض الخير، كما قال تعالى في حق أصحاب النبيّ - ﷺ -: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾.
٣ - الرهبانية المبتدعة فقد انقطعوا عن الناس في الفلوات والصوامع معتزلين الخلق، وحرموا على أنفسهم النساء، ولبسوا الملابس الخشنة تبتلا إلى الله وإخباتًا له، ما فرضنا عليهم هذه الرهبانية ولكنهم استحدثوها طلبًا لمرضاة الله والزلفى إليه.
والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا﴾ منقطع؛ أي؛ لكن ابتدعوها ﴿ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: لطلب رضا الله تعالى. وقال الزجاج (١): ما كتبناها عليهم معناه: لم نكتب عليهم شيئًا البتة. قال: ويكون قوله: ﴿ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ بدلًا من الهاء في ﴿كَتَبْنَاهَا﴾.
والمعنى: ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. فيكون الاستثناء متصلًا. ﴿فَمَا رَعَوْهَا﴾؛ أي: فما حفظ العيسويون الرهبانية ﴿حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾؛ أي: حق حفظها؛ لأنهم أتوها لطلب الدنيا والرياء والسمعة؛ أي: فما رعوا (٢) جميعًا حق رعايتها، بل أفسدوها بضم التثليث والقول بالاتحاد، وقصد السمعة، والكفر بمحمد - ﷺ -، ونحوها إليها. وروي عنه - ﷺ -: أنه قال: "من آمن بي وصدقني.. فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي.. فأولئك هم الهالكون". قال مقاتل: لما استضعفوا بعد عيسى عليه السلام التزموا الغيران فما صبروا وأكلوا الخنازير، وشربوا الخمور، ودخلوا مع الفساق، اهـ. وفي "المناسبات" ﴿فَمَا رَعَوْهَا﴾؛ أي: لم يحفظها المقتدون بهم بعدهم كما أوجبوا على أنفسهم حق رعايتها؛ أي: بكمالها، بل قصروا فيها ورجعوا عنها، ودخلوا في دين ملوكهم، ولم يبق على دين عيسى عليه السلام إلا قليلًا منهم، ذمهم الله تعالى بذلك من حيث إن النذر عهد مع الله لا يحل نكثه سيما إذا قصد رضاء الله تعالى.
﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: فأعطينا الذين آمنوا إيمانًا صحيحًا ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من العيسيين، وهو الإيمان بمحمد - ﷺ - بعد رعاية رهبانيتهم لا مجرد رعايتها؛ فإنها بعد البعثة لغو محض، وكفر بحت، وأنى لهم استتباع الأجر. قال في "كشف
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
500
الأسرار": لما بعث محمد - ﷺ - ولم يبق منهم إلا قليل حط رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به - ﷺ -، وهم المرادون بقوله: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾. والصومعة: كل بناء متصومع الرأس؛ أي: متلاصقه. والدير: خان النصارى، وصاحبه ديار.
أي: فآتينا الذين آمنوا منهم ﴿أَجْرَهُمْ﴾ الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى، وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد - ﷺ - لما بعثه الله تعالى؛ أي: أعطيناهم ما يحسن، ويليق بهم من الأجر، وهو الرضوان الذي طلبوه برهبانيتهم، وبإيمانهم بمحمد - ﷺ -.
﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من العيسيين، وهم الذين ابتدعوا فضيعوا، وكفروا بمحمد - ﷺ - ﴿فَاسِقُونَ﴾؛ أي: خارجون عن حد الاتباع، وهم الذين تهودوا وتنصروا؛ أي: خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به؛ ووجه (١) الذم لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع، أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة، وأن الله يرضاها، فكان تركها، وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه دينًا، وأما على القول: بأن الاستثناء متصل؛ وأن التقدير: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها، فوجه الذم ظاهر.
والمعنى (٢): أي فما حافظوا على هذه الرهبانية المبتدعة، وما قاموا بما التزموه حق القيام، بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى بن مريم، فضموا إليه التثليث، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا. وفي هذا ذم لهم من وجهين:
١ - أنهم ابتدعوا في دين الله ما لم يأمر به.
٢ - أنهم لم يقوموا بما فرضوه على أنفسهم بما زعموا أنه قربة يقربهم إلى ربهم. وقد كان ذلك كالنذر الذي يجب رعايته، والعهد الذي يجب الوفاء به.
روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: "قال لي رسول الله - ﷺ -: يا ابن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله قال: "اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
501
فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم، فرقة من الثلاث وازت الملوك، وقاتلتهم على دين الله، ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فقتلتهم الملوك، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فقتلتهم الملوك بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، ولا بالمقام بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فلحقوا بالبراري، والجبال فترهبوا فيها، فهو قول الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ الآية. فمن آمن بي، واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون".
﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾... الآية؛ أي: فأعطينا الذين آمنوا منهم إيمانًا صحيحًا طبعت آثاره في أعمالهم، فزكوا أنفسهم وأخبتوا لربهم، وأدوا فرائضه أجورهم التي استحقوها كفاء ما عملوا، وكثير منهم فسقوا عن أمر الله واجترحوا الشرور والآثام، وظهر فسادهم في البر والبحر، بما كسبت أيديهم فكبكبوا في النار، وباءوا بغضب من الله، ولهم عذاب عظيم.
٢٨ - ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين بالتقوى والإيمان بمحمد - ﷺ -، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: بالرسل المتقدمة ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فيما نهاكم عنه ﴿وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾؛ أي: بمحمد - ﷺ -، وفي إطلاقه إيذان بأنه علم فرد له في الرسالة لا يذهب الوهم إلى غيره. ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾؛ أي: نصيبين ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، لكن لا على أن شريعتهم باقية بعد البعثة بل على أنها كانت حقًّا قبل النسخ. ونقل عن الراغب: الكفل: الحظ الذي فيه الكفالة، كأنّه تكفل بأمره، والكفلان هما النصيبان المرغوب فيهما بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ انتهى.
وقيل (١): النداء في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نداء لمن آمن به من أمة محمد - ﷺ -، فمعنى ﴿آمَنُوا﴾: داوموا واثبتوا على إيمانكم، وهكذا المعنى في كل أمر يكون المأمور متلبسًا بما أمر به يؤتكم كفلين. قال أبو موسى الأشعري: ﴿كِفْلَيْنِ﴾ ضعفين بلسان الحبشة، انتهى.
(١) البحر المحيط.
502
والمعنى: أنه يؤتكم مثل ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ إذ أنتم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله. وروي: أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، وادعوا الفضل عليهم فنزلت هذه الآية.
وقيل: النداء للمنافقين.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم اتقوا الله، وآمنوا بقلوبكم إيمانًا صحيحًا. ويؤيد المعنى الأول ما رواه الشعبي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد - ﷺ -، والعبد المملوك إذا أدى حق مواليه، وحق الله عن وجل، ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها، وأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران" متفق عليه.
﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ﴾ يوم القيامة ﴿نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ على الصراط وبين الناس حسبما نطق به قوله تعالى: ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ فهو (١) الضياء الذي يمشون به على الصراط إلى أن يصلوا إلى الجنة.
وذلك لأن جهنم خلقت من الظلمة، إذ هي صورة النفس الأمّارة بالسوء، وهي ظلمانية، فنور الإيمان والتقوى يدفعها ويزيلها. وقيل المعنى: ويجعل لكم سبيلًا واضحًا في الدين تهتدوا به ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ما أسلفتم من الذنوب والمعاصي. فأما حسنات الكفار فمقبولة بعد إسلامهم على ما ورد في الحديث الصحيح، كما رواه مسلم. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي مبالغ في المغفرة والرحمة.
والمعنى (٢): أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، خافوا الله بأداء طاعته واجتناب معاصيه، وآمنوا بمحمد - ﷺ - يعطكم ضعفين من الأجر لإيمانكم بعيسى، والأنبياء قبل محمد - ﷺ - ثم بإيمانكم بمحمد بعد أن بعث نبيًا، ويجعل لكم نورًا تستبصرون به من العمى والجهالة، ويغفر لكم ما أسلفتم من الذنوب، وما فرطتم في جنب الله، والله واسع المغفرة لمن يشاء، رحيم
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
503
بعباده يقبل توبتهم متى أنابوا إليه وخشعت له قلوبهم.
والخلاصة (١): أنه تعالى وعد المؤمنين برسوله بعد إيمانهم بالأنبياء قبله بأمور ثلاثة:
١ - أن يضاعف لهم الأجر والثواب.
٢ - أن يجعل لهم نورًا بين أيديهم، وعن شمائلهم يوم القيامة يهديهم إلى الصراط السوي ويوصلهم إلى الجنة.
٣ - أن يغفر لهم ما اجترحوا من الذنوب والآثام.
٢٩ - ثم رد على أهل الكتاب الذين خصوا فضل الرسالة بهم، فقال: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ واللام (٢) فيه متعلقة بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة معنى الشرط، إذ التقدير: إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله.. يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم الذين لم يسلموا من أهل الكتاب؛ أي: ليعلموا، و ﴿لا﴾ مزيدة كهي في قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ كما ينبىء عنه قراءة ﴿ليعلم﴾، وقراءة ﴿لكي يعلم﴾، وقراءة ﴿لأن يعلم﴾ بإدغام النون في الياء. قال في "كشف الأسرار": وإنما يحسن إدخالها في كلام يدخل في أواخره، أو في أوائله جحد، اهـ. و ﴿أن﴾ في قوله: ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، وجملتها في حيز النصب علي أنها مفعول ﴿يَعْلَمَ﴾؛ أي: ليعلم الذين لم يسلموا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئًا مما ذكر من فضله الذي تفضل به على من آمن، بمحمد - ﷺ - من الكفلين والنور والمغفرة، ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان بمحمد - ﷺ -، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له. وجملة ﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى معطوفة على جملة ﴿أن﴾ المخففة؛ أي: ليعلموا أنهم لا يقدرون، وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه. وقوله: ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ خبر ثان؛ لأنَّ أو هو الخبر، والجار والمجرور في محل نصسب على الحال. وجملة قوله: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ مقررة لمضمون ما قبلها؛ أي: والله واسع الفضل، كثير العطاء، يمنحه من شاء من عباده،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
504
لا يخص به قومًا دون آخرين، ولا شعبًا دون آخر. والمراد بالفضل هنا: ما تفضل به على الذين اتقوا، وآمنوا برسوله - ﷺ - من الأجر المضاعف، وقال الكلبيّ: هو رزق الله، وقيل: نعم الله التي لا تحصى، وقيل: هو الإِسلام. وقيل (١): إن ﴿لا﴾ في ﴿لئلا﴾ غير مزيدة، وضمير ﴿لا يقدرون﴾ للنبيّ - ﷺ - وأصحابه، والمعنى: لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي، والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه. والأول أولى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ﴾ بلا المزيدة. وقرأ خطاب بن عبد الله ﴿لآن يعلم﴾. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، وعبد الله بن سلمة ﴿ليعلم﴾ وقرأ الجحدري ﴿لِيَنْيَعَلَمَ﴾، أصله: لأن يعلم، قلبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها، وأدغم النون في الياء بغير غنة كقراءة خلف ﴿أن يَضْرب﴾ بغير غنّةٍ، وروى ابن مجاهد عن الحسن ﴿لَيْلًا﴾ مثل: ليلى اسم امرأة، ﴿يعلم﴾ برفع الميم، أصله: لأن لا بفتح لام الجر، وهي لغة فحذفت الهمزة اعتباطًا، وأدغمت النون في اللام، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من الساكنة ياء، فصار ليلًا ورفع الميم لأن ﴿أن﴾ هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، إذ الأصل لأنه لا يعلم. وروى قطرب عن الحسن أيضًا ﴿لئلا﴾ بكسر اللام، وتوجيهه كالذي قبله إلا أنه كسر اللام على اللغة المشهورة في لام الجر. وعن ابن عباس ﴿كَيْ يَعْلَم﴾، وعنه: ﴿لِكَيْلا يعلم﴾. وعن عبد الله، وابن جبير، وعكرمة ﴿لكي يعلم﴾. وقرأ الجمهور (٣) ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ﴾ بالنون، فأن هي المخففة من الثقيلة. وقرأ عبد الله بحذفها، فأن هي الناصبة للمضارع. والله أعلم.
الإعراب
﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)﴾.
﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ﴾ ناصب واسمه، ﴿وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ معطوف على ﴿الْمُصَّدِّقِينَ﴾،
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
505
﴿وَأَقْرَضُوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على صلة أل في ﴿الْمُصَّدِّقِينَ﴾، والتقدير: إن الذين اصدقوا وأقرضوا الله، ولفظ الجلالة الله مفعول به، و ﴿قَرْضًا﴾ مفعول مطلق، ﴿حَسَنًا﴾ صفة ﴿قَرْضًا﴾، ﴿يُضَاعَفُ﴾ فعل مضارع، مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، ويجوز أن يكون نائب الفاعل ضمير التصدق، ولكنه على تقدير مضاف. ﴿وَلَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يُضَاعَفُ﴾؛ أي: يضاعف لهم ثواب التصدق. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَلَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿أَجْرٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿كَرِيمٌ﴾ صفة ﴿أَجْرٌ﴾. والجملة الاسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿يُضَاعَفُ﴾.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٩)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ الواو: استئنافية، ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَرُسُلِهِ﴾ معطوف على الجلالة، ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ثان، ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل، ﴿الصِّدِّيقُونَ﴾ وخبر ﴿أُولَئِكَ﴾، ﴿أُولَئِكَ﴾ وخبره خبر الأوّل. ويجوز أن يكون ﴿هُمُ﴾ مبتدأ ثالثًا، و ﴿الصِّدِّيقُونَ﴾ خبره، و ﴿هُمُ﴾ مع خبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. ﴿وَالشُّهَدَاءُ﴾ إمّا معطوف على ﴿الصِّدِّيقُونَ﴾ والوقف عنده تام أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، ويجوز أن تكون ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿وَالشُّهَدَاءُ﴾ مبتدأ، وخبره إما الظرف بعده أعني: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ والثاني: أنه قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿أَجْرُهُمْ﴾ مبتدأ مؤخر، و ﴿وَنُورُهُمْ﴾ معطوف على ﴿أَجْرُهُمْ﴾، و ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ظرف متعلق بمحذوف حال من أجرهم؛ أي: حال كونه مدّخرًا لهم عند ربهم. ﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلته، ﴿وَكَذَّبُوا﴾ معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿بِآيَاتِنَا﴾ متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ثان، ﴿أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ خبر ﴿أُولَئِكَ﴾. والجملة خبر الموصول، وجملة الموصول مستأنفة.
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (٢٠)﴾.
506
﴿اعْلَمُوا﴾ فعل أمر، و ﴿الواو﴾ فاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتحقير الدنيا، وبيان هوان أمرها. ﴿أَنَّمَا﴾ أن مكفوفة، و ﴿ما﴾ وكافّة، ﴿الْحَيَاةُ﴾ مبتدأ، ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة، ﴿لَعِبٌ﴾ خبر. والجملة الاسمية سادة مسد مفعولي ﴿اعْلَمُوا﴾. ﴿وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ﴾ معطوفات على ﴿لَعِبٌ﴾، ﴿بَيْنَكُمْ﴾ ظرف متعلق بمحذوف، صفة لـ ﴿تَفَاخُرٌ﴾، و ﴿تَكَاثُرٌ﴾ معطوف على ﴿لَعِبٌ﴾، ﴿فِي الْأَمْوَالِ﴾ متعلق بـ ﴿تَكَاثُرٌ﴾، ﴿وَالْأَوْلَادِ﴾ معطوف على ﴿الْأَمْوَالِ﴾، ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: مثلها كمثل غيث أو حال من معنى ما تقدم؛ أي: ثبتت لها هذه الصفات حال كونها مشبهة بغيث. ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ﴾ فعل، ومفعول مقدم، ﴿نَبَاتُهُ﴾ فاعل، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿غَيْثٍ﴾. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع التراخي، ﴿يَهِيجُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على النبات، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَعْجَبَ﴾. ﴿فَتَرَاهُ﴾ الفاء عاطفة ﴿ترى﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير المخاطب، والهاء: مفعول له، ﴿مُصْفَرًّا﴾ حال. لأن الرؤية هنا بصرية، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَهِيجُ﴾. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف، ﴿يَكُونُ﴾ فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على النبات، ﴿حُطَامًا﴾ خبره. والجملة معطوفة على جملة ﴿تراه﴾. ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ الواو: عاطفة، في الآخرة خبر مقدم، ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿شَدِيدٌ﴾ صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾. ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ معطوف على ﴿عَذَابٌ﴾، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ صفة لـ ﴿مغفرة﴾، ﴿وَرِضْوَانٌ﴾ معطوف على ﴿مغفرة﴾. ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿ما﴾ نافية، ﴿الْحَيَاةُ﴾ ومبتدأ، ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿الْحَيَاةُ﴾، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿مَتَاعُ﴾ خبر المبتدأ، ﴿الْغُرُورِ﴾ مضاف إليه. والإضافة فيه بيانية. والجملة معطوفة على ما قبلها.
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)﴾.
﴿سَابِقُوا﴾ فعل أمر، وفاعل. والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أسباب المفاخرة الحقيقية التي يصح التفاخر بها. ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿سَابِقُوا﴾، ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ صفة لـ ﴿مَغْفِرَةٍ﴾، ﴿وَجَنَّةٍ﴾ معطوف على ﴿مَغْفِرَةٍ﴾، ﴿عَرْضُهَا﴾ مبتدأ، ﴿كَعَرْضِ السَّمَاءِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه خبر المبتدأ، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَمَاوَاتٍ﴾.
507
والجملة صفة لـ ﴿جنة﴾، ﴿أُعِدَّتْ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود إلى الجنّة. والجملة صفة ثانية لـ ﴿جنة﴾، ويجوز أن تكون مستأنفة. ﴿لِلَّذِينَ﴾ متعلق بـ ﴿أُعِدَّتْ﴾، ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَرُسُلِهِ﴾ معطوف على الجلالة. ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿يُؤْتِيهِ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ومفعول أول، ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ مفعول ثان، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة ﴿من﴾ الموصولة، وجملة ﴿يُؤْتِيهِ﴾ حال من ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، ﴿ذُو الْفَضْلِ﴾ خبره، ﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة لـ ﴿الْفَضْلِ﴾. والجملة مستأنفة.
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾.
﴿مَا﴾ نافية، ﴿أَصَابَ﴾ فعل ماضي، ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ فاعل، و ﴿مِن﴾ زائدة، وذكّر الفعل لأن المصيبة مجازيّ التأنيث، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ صفة لـ ﴿مُصِيبَةٍ﴾ أو متعلق بها، أو متعلق بـ ﴿أَصَابَ﴾، ﴿وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ معطوف على في الأرض. ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿فِي كِتَابٍ﴾ حال من مصيبة لتخصصها بالوصف، أو بالعمل، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: إلا وهي كائنة في كتاب، والجملة أيضًا حال من ﴿مُصِيبَةٍ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ متعلق بما تعلق به قوله: ﴿فِي كِتَابٍ﴾؛ أي: إلا ثابتة في كتاب من قبل أن نبرأها، أو صفة لكتاب؛ أي: كتاب كائن من قبل أن نبرأها، ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿نَبْرَأَهَا﴾ فعل مضارع، ومفعول به، وفاعله ضمير المتكلم المعظم نفسه، يعود على الله سبحانه، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من قبل برئنا إياها. ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ ناصب واسمه، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَسِيرٌ﴾، و ﴿يَسِيرٌ﴾ خبره. وجملة ﴿إِنَّ﴾ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. ﴿لِكَيْلَا﴾ اللام: حرف جرّ وتعليل، ﴿كي﴾ حرف نصب ومصدر بمنزلة أن المصدرية وليست للتعليل لئلا يلزم علينا اجتماع حرفي تعليل في معلّل واحد، و ﴿لا﴾ نافية ﴿تَأْسَوْا﴾ فعل مضارع منصوب بكي، وعلامة نصبه حذف النون، والواو: فاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أعلمناكم ذلك أو أخبرناكم لكيلا تأسوا؛ أي لعدم أساكم. ﴿عَلَى مَا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تَأْسَوْا﴾، ﴿فَاتَكُمْ﴾ فعل ماضي، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَا﴾، ومفعول به،
508
والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة.
﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)﴾.
﴿وَلَا تَفْرَحُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿تَأْسَوْا﴾، و ﴿لَا﴾ نافية، ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿تَفْرَحُوا﴾، وجملة ﴿آتَاكُمْ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ومتعلق ﴿فَاتَكُمْ﴾ و ﴿آتَاكُمْ﴾ محذوف، تقديره: من النعم. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُحِبُّ﴾ خبره. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ مفعول به، ﴿فَخُورٍ﴾ نعت مختال، ﴿الَّذِينَ﴾ بدل من قوله: ﴿كُلَّ مُخْتَالٍ﴾؛ أي: لا يحب الذين يبخلون، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين يبخلون، أو منصوب على الذمّ، وجملة ﴿يَبْخَلُونَ﴾ صلة الموصول. ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول معطوف على ﴿يَبْخَلُونَ﴾، ﴿بِالْبُخْلِ﴾ متعلق بـ ﴿يأمرون﴾، ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾ الواو: استئنافية، ﴿من﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما، ﴿يَتَوَلَّ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذت حرف العلّة. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطة وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل، وفي قراءة سقوطه وهو مما يرجح كونه فصلًا لا مبتدأ، ﴿الْغَنِيُّ﴾ خبر ﴿إن﴾، ﴿الْحَمِيدُ﴾ خبر ثان لها، والجملة الاسمية في محل الجزم على كونها جوابًا لمن الشرطية، وجملة من الشرطية مستأنفة.
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)﴾.
﴿لَقَدْ﴾ اللام: موطئة للقسم، ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق، ﴿أَرْسَلْنَا﴾ فعل، وفاعل، ﴿رُسُلَنَا﴾ مفعول به، ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ حال من ﴿رُسُلَنَا﴾؛ أي: حال كونهم مؤيدون بالمعجزات، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿مَعَهُمُ﴾ ظرف متعلق بمحذوف حال مقدرة من ﴿الْكِتَابَ﴾، و ﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول به؛ أي: وأنزلنا الكتاب حال كونه آيلًا وصائرًا،
509
لأن يكون معهم إذا وصل إليهم في الأرض. ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ معطوف على الكتاب، ﴿لِيَقُومَ﴾ اللام: حرف جرّ وتعليل، ﴿يقوم﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، ﴿النَّاسُ﴾ فاعل، ﴿بِالْقِسْطِ﴾ متعلق بـ ﴿يقوم﴾. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لقيام الناس بالقسط، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أنزلنا﴾ و ﴿أَرْسَلْنَا﴾. لأنه علة للإرسال والإنزال. ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿فِيه﴾ خبر مقدم، ﴿بَأْسٌ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة في محل النصب حال من ﴿الْحَدِيدَ﴾؛ أي: فيه قوة ومنعة، ﴿شَدِيدٌ﴾ وصفة ﴿وَمَنَافِعُ﴾ معطوف على بأس، ﴿لِلنَّاسِ﴾ صفة لـ ﴿منافع﴾، ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ الواو: عاطفة على محذوف، واللام: حرف جرّ وتعليل، ﴿يعلم﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، ﴿اللهُ﴾ فاعل، و ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿يَنْصُرُهُ﴾ صلة لمن، ﴿وَرُسُلَهُ﴾ معطوف على الهاء؛ أي: وينصر رسله أيضًا، ﴿بِالْغَيْبِ﴾ حال من مفعول ينصره؛ أي: غائبًا عنهم غير مرئيّ لهم في الدنيا، وجملة ﴿يَعْلَمَ﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور معطوف على تعليل محذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: وأنزلنا الحديد ليستعملوه وينتفعوا به وليعلم الله علمًا يتعلق بالجزاء من ينصره ورسله باستعمال السيوف والرماح في مجاهدة أعدائه، أو معطوف على قوله: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. والأوّل أولى خلافًا لما قاله الشوكاني كما مرّ؛ لأن هذا ليس علة للإرسال. ﴿إِنَّ اللهَ﴾ ناصب واسمه، ﴿قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ خبران له، والجملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، واللام: موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾ وفعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم السابق. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ معطوف على ﴿وَجَعَلْنَا﴾، ﴿وَجَعَلْنَا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿في ذُرِّيَّتِهِمَا﴾ في موضع المفعول الثاني لـ ﴿جعلنا﴾، ﴿النُّبُوَّةَ﴾ مفعول أوّل لـ ﴿جعلنا﴾، ﴿وَالْكِتَابَ﴾ معطوف على ﴿النُّبُوَّةَ﴾، ﴿فَمِنْهُمْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت
510
إرسالنا، وجعلنا المذكور وأردت بيان مآلهم بعد ذلك فأقول لك. ﴿مِنْهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿مُهْتَدٍ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَكَثِيرٌ﴾ مبتدأ، ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة لـ ﴿كثير﴾، ﴿فَاسِقُونَ﴾ خبره. والجملة معطوفة على قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ﴾.
﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب، ﴿قَفَّيْنَا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿جعلنا﴾، ﴿عَلَى آثَارِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿قَفَّيْنَا﴾، ﴿بِرُسُلِنَا﴾ مفعول به لـ ﴿قَفَّيْنَا﴾، والباء: زائدة، ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿قَفَّيْنَا﴾ الأول، ﴿بِعِيسَى﴾ مفعول به، والباء: زائدة، ﴿ابْنِ مَرْيَمَ﴾ صفة لـ ﴿عيسى﴾، ﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾ فعل، وفاعل، ومفعولان معطوف على ﴿قَفَّيْنَا﴾ الثاني، ﴿وَجَعَلْنَا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿آتيناه﴾، ﴿فِي قُلُوبِ الَّذِينَ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه في موضع المفعول الثاني لـ ﴿جعلنا﴾، ﴿اتَّبَعُوهُ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿رَأْفَةً﴾ مفعول أول لـ ﴿جعلنا﴾ ﴿وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً﴾ معطوفان على ﴿رَأْفَةً﴾ ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾ وفعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة صفة لـ ﴿رهبانية﴾. ويجوز أن يكون ﴿رهبانية﴾ منصوبًا على الاشتغال بفعل محذوف يفسّره المذكور بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانية، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿جعلنا﴾. وجملة ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾ جملة مفسرة، لا محل لها من الإعراب. والرهبانية: رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن، واتخاذ الصوامع. ﴿مَا﴾ نافية، ﴿كَتَبْنَاهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿كتبنا﴾. والجملة صفة ثانية لـ ﴿رهبانية﴾ أو مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿ابْتِغَاءَ﴾ منصوب على الاستثناء، إن قلنا: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، أو منصوب على أنه مفعول لأجله إن قلنا: إن الاستثناء متصل؛ أي: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله تعالى، ويكون ﴿كتب﴾ بمعنى قضى. ﴿رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ مضاف إليه، ﴿فَمَا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿ما﴾ نافية، ﴿رَعَوْهَا﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾، ﴿حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة، ﴿رِعَايَتِهَا﴾ مضاف
511
إليه، ﴿فَآتَيْنَا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿آتَيْنَا الَّذِينَ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول أول، معطوف على قوله: ﴿فَمَا رَعَوْهَا﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل، وفاعل، صلة الموصول، ﴿مِنْهُمْ﴾ حال من الموصول، ﴿أَجْرَهُمْ﴾ مفعول ثان لـ ﴿آتَيْنَا﴾، ﴿وَكَثِيرٌ﴾ الواو: استئنافية، ﴿كثير﴾ مبتدأ، ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة له، ﴿فَاسِقُونَ﴾ خبر، والجملة مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾ حرف نداء، ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة، والهاء: حرف تنبيه زائد، ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿أيّ﴾ أو بدل منه، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾ فعل ماض، وفاعل والجملة صلة الموصول، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فعل أمر، وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وَآمِنُوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿اتَّقُوا﴾، ﴿بِرَسُولِهِ﴾ متعلق بـ ﴿وَآمِنُوا﴾ ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول أول مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة. والجملة جواب الطلب، لا محل لها من الإعراب، ﴿كِفْلَيْنِ﴾ مفعول ثان لـ ﴿يُؤْتِكُمْ﴾، ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ صفة لـ ﴿كِفْلَيْنِ﴾، ﴿وَيَجْعَلْ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَجْعَلْ﴾ وهو في موضع المفعول الثاني، ﴿نُورًا﴾ مفعول أول لـ ﴿يجعل﴾، وجملة ﴿تَمْشُونَ بِهِ﴾ صفة لـ ﴿نُورًا﴾، ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ معطوف على ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ أيضًا، ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يغفر﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، ﴿غَفُورٌ﴾ خبر أول، ﴿رَحِيمٌ﴾ خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)﴾.
﴿لِئَلَّا﴾ اللام: حرف جر وتعليل، ﴿أن﴾ حرف مصدر ونصب، و ﴿لا﴾ زائدة، ﴿يَعْلَمَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، ﴿أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ فاعل، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لعلم أهل الكتاب، الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: إن تتقوا الله، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لعلم أهل الكتاب؛ أي: ليعلموا. ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ﴾ ﴿أن﴾ مخففة من الثقيلة،
512
واسمها ضمير الشأن، ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَقْدِرُونَ﴾ فعل وفاعل، ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَقْدِرُونَ﴾، ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾، وجملة ﴿لَا يَقْدِرُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ المخففة، وجملة ﴿أن﴾ المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿علم﴾؛ أي: فعلنا ذلك بكم ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضل الله. ﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ﴾ ناصب واسمه، ﴿بِيَدِ اللَّهِ﴾ خبره، وجملة أن معطوفة على ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ﴾، داخل في حيز المعلوم. وجملة ﴿يُؤْتِيهِ﴾ مستأنفة، أو خبر ثان لـ ﴿أنّ﴾، والهاء مفعول أول لـ ﴿يُؤْتِيهِ﴾؛ لأنّه بمعنى أعطى. ﴿من﴾ اسم موصول مفعول ثان ليؤتيه، جملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلته. ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ﴾ مبتدأ وخبر، ﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة لـ ﴿الْفَضْلِ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ قرىء بتشديد الصاد والدال فيهما اسم فاعل من تصدق الخماسي من باب تفعل، وأصله: المتصدّقين والمتصدّقات أبدلت التاء صادًا، ثم أدغمت في الصاد فاء الكلمة. وقرىء ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ بتخفيف الصاد فيهما اسم فاعل من صدّق الرباعي من باب فعّل المضعّف العين. ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ مصدر حذفت زوائده، أصله: إقراضًا حسنًا نظير قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾؛ أي: إنباتًا، والإقراض الحسن: هو عبارة عن الدفع بالمال الطيّب بطيب نفس، وخلوص نيّة ابتغاء مرضاة الله تعالى، لا يريدون جزاء ممن أعطوه.
﴿هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ جمع صديق، وهو من أوزان المبالغة ولا يجيء إلا من ثلاثي غالبًا، اهـ سمين. وفرقوا بين الصديق، والصادق بأن الصادق كالمخلص بالكسر من تخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقًا كالرياء، والسمعة والصديق كالمخلص بالفتح من تخلص أيضًا عن شوائب الغيرية، والثاني أوسع فلكًا، وأكثر إحاطة، فكل صديق ومخلص بالفتح صادق ومخلص بالكسر من غير عكس، اهـ من الروح.
﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ واللعب: إتعاب النفس بلا فائدة كفعل الصبيان، واللهو: شغل النفس عما يهمك من أعمال الآخرة، والتفاخر بالأنساب والأحساب، والفخر:
513
المباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان: كالمال والجاه.
﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ والغيث: المطر المحتاج إليه؛ لأنّه يغيث الناس من الجدب عند قلة المياه، فهو مخصوص بالمطر النافع بخلاف المطر؛ فإنه عام. ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ﴾؛ أي: الحرّاث والزرّاع. قال الأزهري: والعرب تقول للزارع: كافر؛ لأنه يكفر؛ أي: يستر بذره بتراب الأرض، والكفر في اللغة: التغطية، ولهذا سمي الكافر كافرًا؛ لأنه يغطي الحق بالباطل، والكفر أيضًا: القبر لسترها الناس.
﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ يقال: هاج النبت هيجًا وهيجانًا، وهياجًا بالكسر إذا يبس، والهائجة: أرض يبس بقلها أو اصفر، وأهاجه أيبسه وأهيجها وجدها هائجة للنبات. ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ قال في "القاموس": الحطم: الكسر أو خاص باليابس.
﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أصله: أعتدت، قلبت التاء دالًا فأدغمت الدال في الدال فصار أعدت؛ أي: هيئت. ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ والمصيبة أصلها في الرمية، يقال: أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى الصواب، ثم اختص بالنائبة والحادثة. وأصل ﴿أَصَابَ﴾ أصوب بوزن أفعل، نقلت حركة ﴿الواو﴾ إلى الصاد، فسكنت لكنها أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. ﴿مُصِيبَةٍ﴾ أصله: مصوبة بوزن مفعلة اسم فاعل من أصاب الرباعي، نقلت حركة ﴿الواو﴾ إلى الصاد فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مد.
﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا﴾ مضارع منصوب بحذف النون، والواو: فاعل. وأصله: تأسيون، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصارت تأساون، فالتقى ساكنان: الألف والواو التي هي الفاعل، فحذفت لالتقاء الساكنين، فصار وزنه تفعون؛ لأن لامه التي هي الياء المنقلبة ألفًا قد حذفت. والمصدر أسى مقصور، فيقال: أسي أسًى مثل: جوي جوًى من باب تعب. فقول بعض النحاة عند الاستشهاد بهذه الآية في باب النواصب. والتقدير: لأجل عدم إساءتكم فيه نظر؛ لما علمت من أن مصدر هذا الفعل أسًى لا إساءة، اهـ شيخنا. وفي "المصباح": أسي أسًى من باب تعب حزن، فهو أسي على فعيل مثل: حزين اهـ. وفي "المختار": وأسي على مصيبته من باب عدا أي: حزن، وأسي له أي: حزن له، اهـ.
514
﴿مَا فَاتَكُمْ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: فوتكم تحركت ﴿الواو﴾ انفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار فاتكم. ﴿آتَاكُمْ﴾ فيه إعلالان، أصله: أأتيكم بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الثانية ألفًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿مُخْتَالٍ﴾ اسم فاعل من اختال من باب افتعل الخماسي، أصله: مختيل قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. والمختال: هو المتكبر بسبب فضيلة تراءت له من نفسه. والفخور: هو المباهي بالأشياء العارضة: كالمال والجاه، وهو صيغة مبالغة.
﴿بِالْبُخْلِ﴾ والبخل: إمساك المال عما يجب إخراجه فيه.
﴿وَالْمِيزَانَ﴾ أصله: موزان بوزن مفعال، من الوزن قلبت ﴿الواو﴾ ياء حرف مد لسكونها إثر كسرة.
﴿قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا﴾ والتقفية: جعل الشيء في إثر الشيء على الاستمرار، ولهذا قيل لمقاطع الشعر: قواف. إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرة على منهاجه. وفي المختار: وقفا أثره اتبعه، وبابه عدا، وقفى على أثره بفلان أي: أتبعه إياه، ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا﴾، ومنه الكلام المقفى.
﴿رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ والمراد من الرأفة: دفع الشر، ومن الرحمة: جلب الخير، وبذا يكون بينهم مودة.
﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ والرهبانية: المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس. وهي هنا عبارة عن ترهبهم في الجبال فارّين بدينهم من الفتنة، مخلصين أنفسهم للعبادة متحملين المشاق من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف. منسوبة إلى الرهبان بفتح الراء، وهو المبالغ في الخوف من رهب، كالخشيان من خشي، ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف فإن الرهبة: مخافة مع تحزن واضطراب، كما في "المفردات". وهو فعلان من رهب كخشيان من خشي. وقرئت بالضم كأنها نسبت إلى الرهبان جمع واهب كراكب وركبان. وعبارة "القاموس": والراهب واحد رهبان النصارى، ومصدره الرهبة والرهبانية، أو الرهبان بالضم قد يكون واحدًا، وجمعه راهبين ورهابنة ورهبانون. ولا رهبانية في الإِسلام، هي كالإخصاء، واعتناق السلاسل، ولبس
515
المسوح، وترك اللحم، ونحوها، اهـ.
﴿ابْتَدَعُوهَا﴾ استحدثوها، ولم تكن في دينهم. ﴿ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾؛ أي: طلبًا لرضاه، ومحبته، وفيه إعلال بالإبدال، أصله: ابتغاى أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة.
﴿فَمَا رَعَوْهَا﴾؛ أي: ما حافظوا عليها، أصله: رعيوها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة.
﴿كِفْلَيْنِ﴾؛ أي: نصيبين ضخمين. والكفل: الحظ. قال المؤرخ السدوسي: الكفل: النصيب بلغة هذيل. وقال غيره: بل بلغة الحبشة. وقال المفضل الضبي: أصل الكفل: كساء يديره الراكب حول سنام البعير، ليتمكن من القعود عليه، والنوم إذا أراده، فيحفظه من السقوط، ففيه حظ من التحرز.
﴿تَمْشُونَ﴾ أصله: تمشيون بوزن تفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الشين لمناسبة الواو.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ فقد حذف أداة التشبيه تنبيهًا على قوة المماثلة، وبلوغها حد الاتحاد، كما فعل ذلك أوّلًا حيث قال: ﴿هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ﴾. وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور، وبين تمام ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف، فيحصل التفاوت، كذا في "روح البيان"، فراجعه إن شئت.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ...﴾ الآية، حيث مثل الحياة الدنيا في سرعة انقضائها، وقلة جدواها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى، وأعجب به الحراث. فوجه التشبيه منتزع من متعدد.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ...﴾ إلخ، فقد طابق بين العذاب والمغفرة في قوله: ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ ولكنه طابق بين واحد وشيئين،
516
فهو من باب: لن يغلب عسر بين يسرين، وسيأتي تفصيله في سورة الانشراح.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾؛ أي: إلا كالمتاع الذي يتخذ من نحو الزجاج، والخزف في كونه مزخرف الظاهر فحذف الأداة ووجه الشبه.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ حيث شبه مبادرتهم إلى الطاعات بمسابقة الفرسان في الميدان.
ومنها: التنوين للتعظيم في قوله: ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
ومنها: التشبه في قوله: ﴿كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ تمثيلًا للعباد بما يعقلون، ويقع في نفوسهم.
ومنها: تقديم المغفرة على الجنة في قوله: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا﴾ إلخ، لتقدم التخلية على التحلية.
ومنها: الاقتصار على الإيمان في قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ إشعارًا بأن مجرد الإيمان كاف في استحقاق الجنة. إذ لم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر، ولكن الدرجات مختلفة باختلاف الأعمال.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾.
ومنها: تخصيص التذييل بالنهي عن الفرح المذكور إيذانًا بأنه أقبح من الأسى.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿يَبْخَلُونَ﴾ و ﴿البخل﴾ في قوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾.
ومنها: التهديد في قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ لتغير الشكل وبعض الحروف.
517
ومنها: السجع المرصع كأنه الدر المنظوم في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
518
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
١ - صفات الله وأسماؤه الحسنى، وظهور آثاره في بدائع خلقه.
٢ - الحض على الإنفاق.
٣ - بشرى المؤمنين بالنور يوم القيامة.
٤ - ثواب المتصدقين الذين أقرضوا الله قرضًا حسنًا.
٥ - ذم الدنيا وأنها لهو ولعب.
٦ - الترغيب في الآخرة وتشمير العزيمة للعمل لها.
٧ - التسلية على المصايب.
٨ - ذم الاختيال والفخر والبخل.
٩ - الحث على العدل.
١٠ - الاعتبار بالأمم السالفة.
١١ - قصص نوح وإبراهيم.
١٢ - إن أهل الكتاب الذين آمنوا برسلهم، وآمنوا بمحمد - ﷺ - يضاعف لهم الأجر عند ربهم.
١٣ - الله يصطفي من رسله من يشاء فهو أعلم حيث يجعل رسالته (١).
والله أعلم
* * *
(١) والحمد لله أوّلًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا وسرًّا وجهرًا على إتمام تفسير هذه الجزء السابع والعشرين، لقد بذلت جهدي، وطاقتي على حسب القوى البشرية في تلخيصه وتهذيبه وتنقيحه، فرحم الله أمرءًا نظر فيه بعين الإنصاف، فسامح ووقف في التصحيح على خطأ فأصلح، وأعوذ بالله من حاسد إذا حسد وبغى، واستغفره جل اسمه من قلم زل، وسهى أو حرف شيئًا عن موضعه وطغى، وهو حسبي ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا =
519
شعرٌ
العَفْوُ يُرُجَى مِنْ بَنِي آدَمٍ فَكَيْفَ لَا أَرْتَجِي مِنْ رَبِّيْ
فَإِنَّهُ أَرْأَفُ بِيْ مِنْهُمْ حَسْبِي بِهِ حَسْبِيْ بِهِ حَسْبِيْ
آخرُ
يَا مَنْ مَلَكُوْتُ كُلِّ شَيءٍ بِيَدِهْ طُوْبَى لِمَنِ ارْتَضَاكَ ذُخْرًا لِغَدِهْ
آخرُ
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا ألْهَمْتَ لَنَا
سُبْحَانَكَ بِعَدِّ مَا سَيَكُوْنُ وَكَانَا
= وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بمكة المكرمة في المسفلة، حارة الرشد، أواخر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من رمضان الليلة الثانية والعشرين منه، من شهور سنة خمس عشرة بعد الأربع مئة والألف ٢٢/ ٩/ ١٤١٥ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيّات.
تَمَّ بعون الله وتوفيقه المجلد الثامن والعشرون من تفسير "حدائق الروح والريحان"، ويليه المجلد التاسع والعشرون، وأوله سورة المجادلة.
520
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد التاسع والعشرون»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٢٩]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4
شعرٌ
جَزَى اللهُ خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِي وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ
وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ وَفِطْنَتِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ سَهْوِيْ
آخرُ وَرُبَّمَا نِيْلَ باصطبَارٍ... مَا قِيْلَ: هَيْهَاتَ لَا يَكُوْنُ
5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور، وجعله منهلًا عذبًا للورود والصدور، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه ذلك القرآن من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد الذي أجرى من مُسجَّلِهِ ما يحاكي السلسبيل والرحيق، وأفحم بلاغته كل متكلم منطيق، وفسر الآيات في الأنفس والآفاق، على مراد الله الملك الخلاق، وعلى آله وأصحابه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم بإحسان ممن تخلق بالقرآن في كل زمان.
أما بعدُ: فيقول العبد الفقير المعترف بذنبه وخطأه، المنادي لربه في عفوه وعطاه، الراجي في إسبال سجاف الندى عليه، المناجي في إرسال رسول الهدى إليه، حفظه الله سبحانه وأخلاءه وأعاذه وإياهم من الشيطان الرجيم، وجعل يومه خيرًا من أمسه إلى الإياس من حياة نفسه سمّي محمد الأمين الهرري: إني لمّا فرغت من تفسير الجزء السابع والعشرين من القرآن الكريم عزمت - إن شاء الله تعالى - على الشروع في تفسير الجزء الثامن والعشرين، وإن كان علم التفسير لا يقحم في معاركه كل ذمير وإن كان أسدًا، ولا يحمل لواءه كلّ أمير وإن مات حسدًا، وذلك أظهر من أن يورد عليه دليل كالنيرين لغير كليل، ومع خطر هذا الأمر فالأمد قصير، وفي العبد تقصير وكم ترى من نحرير كامل في التحرير والتقرير قد أصابه سهم القضاء قبل بلوغ الأمل، وذلك بحلول ريب المنون والأجل، أو بتطاول يد الزمان، فإن الدنيا لا تصفو لشارب وان كانت ماء الحيوان، وأي وجود لا ينسج عليه عناكب العاهات، وأي نعيم لا يكدره الدهر؟ هيهات، هيهات:
الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرَجَّى وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ
مِحَنُ الزَّمَانِ كَثِيْرَةٌ لَا تَنْقَضِيْ وَسُرُوْرُهُ يَأْتِيْكَ كَالأَعْيَادِ
اللهم: كما عوّدتني في الأول خيرًا كثيرًا فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، واجعل رقيمي هذا سببًا لبياض الوجه يوم تبيض وجوه أولئك، وامح مسودات صحائف أعمالي بحق كتابك الكريم، واعف عني بكل حرف كتبته منه ألف ألف سيئة، واكتب لي بكل حرف رقمته منه ألف ألف حسنة، وارفع لي بكل سطر سطرته
7
منه ألف ألف درجة في فراديس جنتك ودار كرامتك، ولم أكن بدعائك رب شقيًا بكرةً وعشيًا ما دمت حيًا، ذلك الحمد - يا إلهي - في الأولى والأخرى على عنايتك الكبرى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وبتوفيقه أقول، وقولي هذا:
سورة المجادلة
سورة المجادلة نزلت بعد المنافقون، وهي مدنيَّةٌ، قال القرطبي: في قول الجميع إلَّا روايةً عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكّي. وقال الكلبي: نزلت جميعها بالمدينة إلا قوله: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾. فنزلت بمكّة.
وهي اثنتان وعشرون آية وأربع مئة وثلاث وسبعون كلمة، وألف وسبع مئة واثنتان وتسعون حرفًا.
التسميةُ: سميت بالمجادلة - بكسر الدال، اسم فاعل على الأصح كما سيأتي عن الشهاب - لبيانها قصة المرأة المجادلة - خولة بنت ثعلبة - في شأن زوجها الذي ظاهر على عادة أهل الجاهلية في تحريم الزوجة بالظهار منها.
المناسبةُ: مناسبتها لما قبلها من وجهين (١):
١ - أن الأولى ختمت بفضل الله، وافتتحت هذه بما هو من هذا الوادي.
٢ - أنه ذكر في مطلع الأولى صفاته الجليلة، ومنها: الظاهر والباطن، وذكر في مطلع هذه أنّه سميع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى.
الناسخُ والمنسوخُ فيها: قال محمد بن حزم: سورة المجادلة كلها محكم إلا آية واحدة؛ وهي: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً...﴾ الآية (١٢) من المجادلة، نسخت بقوله تعالى: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ...﴾ الآية (١٣). فنسخ الله تعالى ذلك بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والطاعة لله وللرسول.
(١) المراغي.
8
سبب نزولها: ما أخرجه أحمد في "المسند" عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "الحمد لله الذي وسع سمعه كل الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - ﷺ - تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا...﴾ إلى آخر الآية".
وأخرجه البخاري تعليقًا، والنسائي وابن ماجه وابن جرير والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
9

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٣)﴾.
المناسبة
تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السابقة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما:
10
أن الله سبحانه لما ذكر أحكام كفّارة الظهار، وبين أنه إنما شرعها تغليظًا على الناس حتى يتركوا الظهار - وقد كان ديدنهم في الجاهلية - ويتبعوا أوامر الشريعة، ويلين قيادهم لها، ويخلصوا لله ربهم في جميع أعمالهم، فتصفو نفوسهم وتزكو بصالح الأعمال.. أردف هذا ببيان أنّ من يشاق الله ورسوله، ويعصي أوامره يلحق به الخزي والهوان في الدنيا، وله في الآخرة العذاب المهين في نار جهنم، ثم أعقب ذلك بالوعيد الشديد، فبين أنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فهو عليم بمناجاة المتناجين، فإن كانوا ثلاثة.. فهو رابعهم، وإن كانوا خمسة.. فهو سادسهم، وإن كانوا أقل من ذلك أو أكثر.. فهو معهم أينما كانوا، فلا تظنوا أنه تخفى عليه أعمالكم وسينبئكم بها عند العرض والحساب، وحين ينصب الميزان، فتلقون جزاء ما كسبت أيديكم، وتندمون ولات ساعة مندم.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (١) سبحانه لمّا ذكر أنّه عليم بالسر والنجوى، وأنه لا تخفى عليه خافية من أمرهم، فهو عليم بما يكون من التناجي بين الثلاثة والخمسة والأكثر والأقل، ومجازيهم على ما يكون به التناجي.. خاطب رسوله معجبًا له من اليهود والمنافقين الذين نهوا عن التناجي دون المؤمنين، فعادوا لما نهوا عنه، وما كان تناجيهم إلا بما هو إثم وعدوان على غيرهم، ثم ذكر أنهم كانوا إذا جاؤوا الرسول.. حيوه بغير تحية الله، فيقولون: السام عليك - يريدون الموت، ثم يقولون في أنفسهم: لو كان رسولًا.. لعذبنا الله؛ للاستخفاف به، وإن جهنم لكافية جدّ الكفاية لعذابهم، ثم نهى المؤمنين أن يفعلوا مثل فعلهم، بل يتناجون بالبرّ والتقوى. ثم بين أن التناجي بالإثم والعدوان من الشيطان، ولن يضيرهم شيء منه إلا بإذن الله، فعليه فليتوكلوا.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما نهى عباده المؤمنين عما يكون سببًا للتباغض من التناجى بالإثم والعدوان.. أمرهم بما يكون سبب التوادّ والتوافق بين بعض المؤمنين وبعضٍ، من التوسع في المجالس حين إقبال الوافد، والانصراف إذا طلب
(١) المراغي.
11
منكم ذلك. فإذا فعلتم ذلك.. رفع الله سبحانه منازلكم في جناته، وجعلكم من الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنه لما كان المؤمنون يتنافسون في القرب من مجلس الرسول - ﷺ - لسماع أحاديثه ولمناجاته في أمور الذين، وأكثروا في ذلك حتى شق عليه - ﷺ -، وشغلوا أوقاته التي يجب أن تكون موزعة بين إبلاغ الرسالة والعبادة والقيام ببعض وظائفه الخاصة، فإنه بشر يحتاج إلى قسط من الراحة، وإلى التحنث إلى ربّه في خلواته.. أمرهم الله سبحانه وتعالى بتقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه؛ لما في ذلك من منافع ومزايا:
١ - إعظام الرسول، وإعظام مناجاته؛ فإن الشيء إذا نيل مع المشقة استعظم، وإن نيل بسهولة لم يكن له منزله ورفعة شأن.
٢ - نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة.
٣ - وتمييز المنافقين الذين يحبون المال ويريدون عرض الدنيا من المؤمنين حق الإيمان الذين يريدون الآخرة وما عند الله من نعيم مقيم.
قال ابن عباس: أكثروا المسائل على رسول الله - ﷺ - حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفّف عن نبيه، وأنزل هذه الآيات، فكفّ كثير من الناس عن المناجاة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات (١): ما أخرجه الحاكم، وصححه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع لام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله - ﷺ - وتقول: يا رسول الله! أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك. فما
(١) لباب النقول.
12
برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ وهو أوس بن الصامت.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان، قال: (كان بين النبي - ﷺ - وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنّهم يتناجون بقتله أو بما يكرهه، فنهاهم النبي - ﷺ - عن النجوى فلم ينتهوا، فأنزل الله سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه أحمد، والبزار والطبراني بسند جيّد عن عبد الله بن عمرو: أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله - ﷺ -: السام عليكم، ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذّبنا الله بما نقول. فنزلت هذه الآية ﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ...﴾ الآية. وفي الباب عن أنس وعائشة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين ويَكْبُر عليهم، فأنزل الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير - أيضًا - عن قتادة قال: كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلًا ضنوا بمجلسهم عند رسول الله - ﷺ -، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: أنها نزلت يوم الجمعة، وقد جاء ناس من أهل بدر وفي المكان ضيق فلم يفسح لهم، فقاموا على أرجلهم، فأقام - ﷺ - نفرًا بعدتهم وأجلسهم مكانهم، فكره أولئك النفر ذلك، فنزلت.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ...﴾ الآية فلما نزلت صبر كثير من الناس، وكفوا عن المسألة، فأنزل الله ذلك: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ...﴾ الآية.
وأخرج الترمذي - وحسنه - وغيره عن علي قال: لما نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾. قال لي النبي - ﷺ -: "ما ترى دينارًا"؟ قلت: لا يطيقونه، قال: "فنصف دينار"، قلت: لا يطيقونه، قال: "فكم"؟
13
Icon