تفسير سورة المنافقون

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة المنافقون

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ يعني عبد الله بن أبي وأصحابه ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ وتم الخبر عنهم، ثم ابتدأ فقال ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ أي أنه أرسلك فهو يعلم أنك رسوله، ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (١).
قال الفراء: جعلهم كاذبين لأنهم أضمروا غير ما أظهروا (٢). يعني أنهم لما أضمروا خلاف ما شهدوا به سماهم كاذبين، فدل هذا على أن حقيقة الإيمان بالقلب وكذلك حقيقة كل كلام. ومن قال شيئًا واعتقد خلافه فهو كاذب، ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ وسماهم الله كاذبين، لأنه قلوبهم كانت تخالف ألسنتهم فيما يقولون. وقال قوم: لم يكذبهم الله في قوله: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ وإنما أكذبهم بغير هذا مما وجد منهم من الكذب الذي أخبر الله عنهم عنهم في قوله: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا﴾ [التوبة: ٧٤] الآية، وقوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾ (٣) والقول هو الأول.
(١) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ١٢.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٥٨.
(٣) من آية (٥٦) من سورة التوبة. وهذا هو رأي الزجاج حيث قال: (أكذبهم فيما تعتقده قلوبهم وفي أنهم يحلفون بالله إنهم لمنكم، ويحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر). "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٥. قلت: ولعل هذا هو الصواب لأن حمل الآية على العموم أولى، وشهادتهم تدخل ضمن هذا المعنى، والله أعلم.
467
وجواب (إذا) قوله: (نشهد) أي أنهم إذا أتوك شهدوا لك بالرسالة وهو كاذبون في تلك الشهادة، لأنهم يقولونها عن غير اعتقاد ومواطأة قلب مع اللسان - وكل قول خالف اللسان فيه القلب فهو كذب، ألا ترى أن شاهدًا لو شهد على حق من غير علم كان كاذبًا، لأنه شهد ولم يعلم، كذلك المنافقون شهدوا ولم تكن شهادتهم مستندة إلى عقيدة وعلم بالقلب فكانوا كاذبين.
قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مذهب أهل العراق أن (١) من قال أشهد بالله لقد كان كذا، أو قال أشهد، ولم يقل بالله ونوى يمينًا كان ذلك يمينًا بالنية، واحتجوا بهذه الآية وهو أن الله تعالى لم يذكر منهم إلا الشهادة، ثم قال ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ فسمى شهاداتهم أيمانًا (٢)، وعند الشافعي لا يكون أشهد بالله يمينًا وإن نوى ذلك (٣).
ومعنى ﴿أَيْمَانَهُمْ﴾ ما أخبر الله عن حلفهم الباطل في آيات من سورة الحشر (٤).
قال الضحاك (أيمانهم) حلفهم إنهم لمنكم (٥)، وتفسير هذه الآية قد تقدم في سورة المجادلة.
(١) (أن) ساقطة من (ك).
(٢) انظر: "شرح فتح القدير" لابن الهمام ٤/ ١٢.
(٣) انظر: "المجموع" للنووي ١٨/ ٣٦، و"فتح الباري" ١١/ ٥٤٤، وفي "الأم" ٧/ ٥٦، قال: وإذا قال: أشهد بالله فإن نوى اليمين فهو يمين، وإن لم ينو يمينا فليس بيمين؛ لأن قوله أشهد بالله يحتمل أشهد بأمر الله، وإذا قال: أشهد، لم يكن يمينا، وإن نوى يمينا فلا شيء عليه.
(٤) وذلك عند قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ الآيات.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٦٩.
468
قوله: ﴿ذلك﴾ قال مقاتل: ذلك الكذب بأنهم آمنوا باللسان، ثم كفروا في السر، وجحدوا بقلوبهم (١) وهذا تأكيد لما فسرناه في قوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
قوله: ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ قال ابن عباس: ختم الله على قلوبهم (٢).
وقال مقاتل: طبع على قلوبهم بالكفر (٣) ﴿فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ لا يفهمون الإيمان والقرآن وصدق محمد -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى أن الله جازاهم بصنعهم الطبع على قلوبهم.
٤ - قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ قال الكلبي: يعني عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير كانت لهم أجسام ومنظر (٤).
قال زيد بن أرقم: كانوا رجالًا أجمل شيء (٥).
وقال ابن عباس: يريد أن لهم أجسامًا ومناظر (٦).
وقال مقاتل: كان عبد الله بن أبي جسيمًا صحيحًا فصيحًا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله (٧) وذلك قوله عز وجل: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾.
وقال الكلبي: وإن يقولوا إنك لرسول الله تسمع لقولهم فتحسب أنه
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ ب، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٣.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ٧٦، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٣.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ ب، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٣.
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٤٨، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٤، ولم ينسباه لأحد.
(٥) "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ ٦/ ١٩١، و"فتح الباري" ٨/ ٦٤٧.
(٦) انظر. "تنوير المقباس" ٦/ ٧٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٤٨.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٤٨، و"زاد المسير" ٨/ ٢٧٤.
469
حق وصدق منهم (١).
ثم شبههم فقال ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ﴾ والاختيار في ﴿خُشُبٌ﴾ التخفيف (٢) نحو بَدَنةٍ وبُدْنٍ، وفي المذكر أَسَدٌ وأُسْدٌ، وَوَثَنٌ وَوُثْنٌ.
قال الأخفش: ولغة أهل الحجاز التثقيل في ﴿خُشُبٌ﴾ وذلك نحو ثمرَ وثُمرُ، وقالوا: أسَدٌ بالتثقيل فيجمع أُسْدٌ. أنشد المبرد:
يقدم أقداما عليل كالأسد (٣)
قال المفسرون: الخشب لا أرواح فيها فلا تعقل ولا تفهم، كذلك المنافقون لا يسمعون الإيمان ولا يعقلون وليس في أجوافهم إيمان لذلك شبههم بالخشب. (٤)
(١) انظر: "زاد المسير" ٨/ ٢٧٥.
(٢) قرأ أبو عمرو، والكسائي، وقنبل في رواية ابن مجاهد: (خُشْب) بضم الخاء وإسكان الشين، وقرأ الباقون ﴿خُشُبٌ﴾ بضم الخاء والشين. انظر: "حجة القراءات" ص ٧٠٩، و"النشر" ٢/ ٢١٦، و"الإتحاف" ص ٤١٦.
وقال ابن جرير -رحمه الله- بعد تصويب القراءتين: وتسكين الأوسط فيما جاء من الجامع لأحكام القرآن فعلة على فعل في الأسماء على ألسن العرب أكثر وذلك كجمعهم البدنة بدنا، والآجمة أجما. "جامع البيان" ٢٨/ ٧٠، قلت: إذا كان العرب في كلامهم على ما ذكر ابن جرير وأكثر القراء على خلاف ذلك فهذا مما يقوي قراءه الجمهور ويؤكد على صحتها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان للترجيح مجال هنا فترجيح ما تعددت طرقه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولى. والله أعلم.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٩١ - ٢٩٢، و"اللسان" ١/ ٨٣٢ (خشب). ولم أجد البيت منسوبًا لقائل.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ سب، و"جامع البيان" ٢٨/ ٦٩، و"روح المعاني" ٢٨/ ١١١.
470
قال أبو إسحاق: وصفهم بتمام الصور وحسن الإبانة، ثم أعلم (١) أنهم في تركهم (٢) التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب (٣).
قوله: ﴿مُسَنَّدَةٌ﴾ يقال: أسندت الشيء. أي: أملته فاستند كالخشب يسند إلى الجدار، و ﴿مُسَنَّدَةٌ﴾ للتكثير (٤)، لأنها صفة خشب وهي جمع أشجار (٥)، وصفها بالتسنيد إرادة أنها ليست بأشجار قائمة تنمو وتزيد وتنبت الورق والثمر ويحسن منظرها، بل هي خشب ملقاة بعضها على بعض مسندة إلى حائط، كذلك هم لا يسمعون النداء ولا يقبلون، فشبههم بالخشب في أخس أحوالها ليست بأشجار فتثمر، ولا منحوته عمل منها شيء فينتفع به. وهذا معنى قول الكلبي (٦).
ثم عابهم بالجبن فقال ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ قال المفسرون: من الفرق والجبن لا يسمعون صوتًا إلا ظنوا أن قد أوتوا.
قال مقاتل: إن نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو نشدت ضالة ظنوا أنهم يرادون بذلك مما في قلوبهم من الرعب (٧)، قالوا: وسبب ذلك أنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ويكشف أسرارهم فهم يتوقعون
(١) في (ك): (أعلمهم).
(٢) في (ك): (ترك).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٦.
(٤) انظر: "اللسان" ٢/ ٢١٥ (سند).
(٥) في (ك): (أثمار).
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ١٥، ولم ينسبه لقائل.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥/ ب، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٢٨/ أ، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٥، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٧٢.
471
الإيقاع بهم ساعة فساعة (١).
وقال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون المعنى: يحسبون أن كل من خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنما يخاطبه في أمرهم بكشف نفاقهم (٢).
ثم أعلم رسوله بعداوتهم فقال: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ أىِ هم وإن كانوا معك يظهرون تصديقك أعداء لك فاحذرهم أن تأمنهم على سرك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار يلقون (٣) إليهم أسرارك.
قوله: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ مفسر في سورة براءة (٤).
٥ - قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾ قال الكلبي: لما نزل القرآن على رسول الله بصفة المنافقين مشى إليه عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتوبوا إليه من النفاق، وسلوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار فأنزل الله فيهم هذه الآية (٥).
قال عطاء عن ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنفوه، فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يستغفر لك ويرضى عنك. قال: لا أذهب إليه، ولا أريد أن يستغفر لي (٦).
(١) في (ك): (ساعة). وانظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٦٩، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٥.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٦.
(٣) في (ك): (يتلقون).
(٤) عند "تفسيره" لآية (٣٠) من سورة التوبة.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ١٥.
(٦) أخرجه البيهقي في "الدلائل" عن الزهري، نحو هذا بسياق أطول. "الدر" ٦/ ٢٢٤. وذكره الرازي عن ابن عباس من غير سند. "التفسير الكبير" ٣٠/ ١٥.
472
قال قتادة: قال قوم عبد الله بن أبي: لو أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستغفر لك. فجعل يلوي رأسه، فنزلت هذه الآية (١).
وقال أكثر المفسرين: إنما دعي إلى الاستغفار؛ لأنه كان قد قال: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾، وقال: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾، فقيل له: تعال يستغفر لكم رسول الله فلوى رأسه وقال: ماذا قلت؟. فذلك قوله: ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾ (٢) قال مقاتل: عطفوا رؤسهم رغبة عن الاستغفار (٣).
وقرئ (لووا) بالتخفيف من الليّ، وهو يصلح للقليل والكثير، ويشهد لهذه القراءة قوله: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ (٤) و (لَوَوْا) من الليّ. وقُرئ بالتشديد (٥)، وهو يختص بالكثرة، والفعل هاهنا لجماعة فهو كقوله: ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ [ص: ٥٠] على أنه قد جاء:
(١) أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وعبد الرزاق في "التفسير"، وعبد بن حميد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٩٤، و"جامع البيان" ٢٨/ ٧١، و"الدر" ٦/ ٢٢٤، وقال ابن حجر: ووقع في مرسل الحسن، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة، ومن طريق مجاهد، ومن طريق عكرمة "فتح الباري" ٨/ ٦٤٨.
(٢) وهو المروي عن أكثر أهل التفسير والسير. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٩٤، و"جامع البيان" ٢٨/ ٧٠، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٢٨/ أ، و"أسباب النزول" ٤٩٦.
(٣) انظر "تفسير مقاتل" ١٥٦/ أ، و"زاد المسير" ٨/ ٢٧٦.
(٤) قال تعالى ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ [النساء: ٤٦].
(٥) قرأ نافع، ويعقوب من طريق روح، والمفضل، عن عاصم: ﴿لَوَّوْا﴾ بالتخفيف. وقرأ الباقون: ﴿لَوَّوْا﴾ بالتشديد. انظر: "حجة القراءات" ٧٠٩، و"النشر" ٢/ ٣٨٨، و"الإتحاف" ٤١٦، "معاني الأخفش" ٢/ ٧٠٩.
473
تَلْوِية الخاتِنِ زُبَّ المُعْذَرِ (١)
واختار أبو عبيد بالتشديد. قال: لأنهم كثير (٢).
قال المبرد: لا أعلم الرواية اختلفت في أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي وهو القائل: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ الآية (٣)، فالعرب قد تكنى فتجعل الكناية جمعًا، والمفعول واحد. قال جرير:
لا بارك الله فيمن كان يحسبكم إلا على العهد حتى كان ما كانا (٤)
وإنما يخاطب بهذه امرأة، وهذا كثير في أشعارهم وكلامهم، يقول الرجل الواحد: نحن فعلنا، يعني نفسه، ويقول لرجل الواحد يخاطبه: أنتم فعلتم، يعني المخاطب وحده.
وقوله: ﴿وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ﴾ أي عن الاستغفار ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ عن استغفار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم ذكر أن استغفاره لا ينفعهم فقال ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ قال قتادة، ومقاتل: نزلت هذه الآية بعد قوله: ﴿أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠] الآية، وذلك أنها لما نزلت قال نبي الله -صلى الله عليه وسلم- خيرني ربي
(١) أنشده أبو زيد، وورد في "اللسان" غير منسوب لقائل. انظر: "الحجة" للقراء السبعة ٦/ ٢٩٣، و"اللسان" ٢/ ٧١٩ (عذر).
(٢) انظر: "زاد المسر" ٨/ ٢٧٦، وهو اختيار ابن جرير أيضًا. "جامع البيان" ٢٨/ ٧٠. قلت: واختيارهم هذا لا يعني الطعن في قراءة التخفيف لثبوتها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(٣) قلت: الروايات تظافرت على هذا، وإنما وقع الخلاف في الغزوة التي نزلت فيها هذه الآيات، والصواب أنها نزلت في غزوة بني المصطلق، كما ذكر ابن كثير رحمه الله. انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٦٨، و"فتح الباري" ٨/ ٦٤٨ - ٦٤٩.
(٤) "ديوان جرير" ١/ ١٦٢.
474
فلأزيدنهم على السبعين فأنزل الله هذه الآية (١).
﴿لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد المنافقين (٢)، والمعنى لا يجعل جزاءهم على النفاق أن يهديهم، أو لا يهدي من سبق في علمه وقضائه أنه فاسق منافق.
ثم أخبر بشنيع مقالتهم فقال: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾ قال المفسرون: اقتتل أجير لعمر مع أجير لعبد الله بن أبي في بعض الغزوات، وأسمع أجير عمر لعبد عبد الله بن أبي المكروه، واشتد عليه لسانه فغضب عبد الله وعنده وهي من قومه فقال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل -يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أقبل على قومه فقال: لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء -يعني المهاجرين- لأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فأنزل الله فيه هذه الآية (٣).
(١) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر، وفيه (فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما خيرني الله فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة}. وسأزيده على السبعين") "صحيح البخاري". كتاب: التفسير، باب: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾، وباب: ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره. وانظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ١٥، قال ابن حجر: وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة قال: لما نزلت ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأزيدن على السبعين"، فأنزل الله تعالى ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ ورجاله ثقات مع إرساله، ويحتمل أن تكون الآيتان معًا نزلتا في ذلك. "فتح الباري" ٨/ ٣٣٦.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ٧٧، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٥.
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي ٤٩٦، و"زاد المسير" ٨/ ٢٧١، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٧.
475
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال مقاتل: يعني مفاتيح الرزق والمطر والنبات (١). والمعنى أن الله هو الرزاق للخلق كلهم، ولهؤلاء المهاجرين لا هم، لأن خزائن الرزق من السموات والأرض لله تعالى كما قال: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: ٣١].
وقال أهل المعاني: خزائن الله مقدوراته؛ لأن فيها كل ما شاء مما يريد إخراجه (٢).
قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ قال ابن عباس: لا يفقهون أن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون (٣).
قوله: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ من تلك الغزوة التي كانوا فيها -وهي غزوة بني المصطلق- إلى المدينة ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ﴾ يعني عبد الله بن أبي بالأعز نفسه وبالأذل (٤) رسول الله، فرد عليه فقال ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾ قال ابن عباس: المنعة (٥) ﴿وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ بإعزاز الله ونصره إياهم وإظهار دينهم على سائر الأديان.
وقال أبو إسحاق: أعلم الله أنه مظهر (٦) دينه على الدين كله ومعز رسوله ومن معه من المؤمنين (٧).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٦ ب، و"التفمير الكبير" ٣٠/ ١٧.
(٢) انظر: "مفردات الراغب" (خزن)، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٧.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٥٠، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٧، ولم ينسباه لقائل.
(٤) (ك): (بالأذل) بدون الواو.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ٧٨.
(٦) (ك): (يظهر).
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٧.
476
قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك، ولو علموا ما قالوا مقالتهم هذه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ قال عطاء: عن فرائض الله الحج والزكاة (١).
وقال الضحاك: الصلوات الخمس (٢).
وقال مقاتل: عن الصلاة المكتوبة. وعنده أن هذه الآية والتي بعدها خطاب للمنافقين الذين أقروا بالإيمان (٣).
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أي من ألهاه ماله وولده عن ذكر الله، فعبر عن هذا بفعله، لأنه ما لم يله بماله لم يلهه المال، ومن لم يغتر بشيء لم يغره، وهذا معنى قول صاحب النظم (٤).
﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد زكاة الأموال (٥).
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ فيسأل الرجعة إلى الدنيا، وهو قوله: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ قال أبو إسحاق: حضهم على إدامة الذكر، وأن لا يضنوا بالأموال من قبل أن يعاين ما يعلم معه أنه ميت (٦)، فيقول: ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ هلا أمهلتني وأخرت أجلي إلى أجل قريب، يعني استزاده في أجله حتى يتصدق ويزكي، وهو قوله تعالى:
(١) لم أجده، منسوبًا لقائل. وقد ذكره الرازي في "تفسيره" ٣٠/ ١٨.
(٢) أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما. "جامع البيان" ٢٨/ ٧٦، و"الدر" ٦/ ٢٢٦.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٧/ أ، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٨.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ١٨
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٥١، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٨.
(٦) انظر: "معانى القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٧.
477
﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال عطاء، عن ابن عباس: هذا دليل على أن القوم لم يكونوا مؤمنين، وذلك أن المؤمن لا يسأل الرجعة، إنما يسأل الكافر (١).
وقال الضحاك: لم ينزل بأحد الموت لم يحج ولم يؤد الزكاة إلا سأل الرجعة. وقرأ (٢) هذه الآية.
وقال في قوله: ﴿وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ يعني الحج (٣)، ونحو هذا روي عن ابن عباس أنه قال ذلك، فقيل له: اتق الله فإن الكافر يسأل الرجعة. فقال: أنا أقرأ عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية إلى قوله: ﴿وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال: أحج (٤).
قال أبو إسحاق: معناه: هلا أخرتني.
وجزم ﴿وَأَكُنْ﴾ على موضع ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ لأنه على معنى: إن أخرتني أصدق وأكن من الصالحين، ومن قرأ (وأكونَ): فهو على لفظ فأصدق وأكون (٥). قال المبرد: من قرأ (وأكون) فعلة ما قبله لأن ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾
(١) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ١٩.
(٢) في (ك): (وقال).
(٣) أخرجه ابن جرير عنه. "جامع البيان" ٢٨/ ٧٧، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ١٩.
(٤) أخرجه ابن جرير، والترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، من طريق أبي حناب، وهو ضعيف، وفيه انقطاع بين الضحاك وابن عباس. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٧٦، و"سنن الترمذي" كتاب تفسير القرآن ٥/ ٣٩٠، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٧٣.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٨، وفي قوله تعالى: ﴿وَأَكُنْ﴾ قرأ الجمهور. (وأكن) بجزم النون من غير واو، وقرأ أبو عمرو (وأكونَ) بالواو ونصب النون. انظر: "حجة القراءات" ٧١٠، و"النشر" ٢/ ٣٨٨، و"الإتحاف" ٤١٧.
478
جواب للاستفهام الذي فيه التمني، وهو قوله: ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾ أي: هلا أخرتني، والجزم على موضع الفاء لأن الفاء دخلت على شيء لو لم يكن فيه لكان مجزومًا ولم يتغير المعنى فكأنه لولا أخرقني إلى أجل قريب أصدق وأكن. وأنشد سيبويه أبياتًا كثيرة في العمل على الموضع منها قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا (١).
ومنه قول لبيد:
فإن لم نجد من دون عدنان والدًا ودون معدا فلترعك العوازل (٢)
فنصب دون معد على الموضع، لأن من زائدة، وزاد أبو علي شرحًا وبيانًا فقال: ﴿وَأَكُنْ﴾ عطفًا على موضع قوله: ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ لأنه في موضع فعل مجزوم، ألا ترى أنك إذا قلت: أخرني أصدق، كان جزمًا بأنه جواب الجزاء، وقد أغنى السؤال عن ذكر الشرط، والتقدير: أخرني فإن تؤخرني أصدق، فلما كان الفعل المنتصب بعد الفاء في موضع فعل مجزوم بأنه جزاء الشرط حمل قوله: ﴿وَأَكُنْ﴾ هو عليه، وأنشد الأئمة في وجه هذه القراءة قول الشاعر:
فَأَبْلُونيِ بَلَّيُكُمْ لَعَلِّي أصالحِكُمْ وأستدرجْ نَوَتَّا (٣)
(١) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ١٩.
والبيت لعقيبة بن هبيرة الأسدي. انظر: "شرح الشواهد" ١/ ٣٤، و"الخزانة" ١/ ٣٤٣، و"شرح المفصل" ٢/ ١٠٩، وينسب أيضًا لعبد الله ابن الزبير الأسدي.
(٢) "ديوان لبيد" ص ٢٥٥، و"الكتاب" ١/ ٣٤، و"الخزانة" ٢/ ٢٥٢، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ١٣٠.
(٣) البيت لأبي دؤاد، كما في "ديوانه" ص ٣٥٠، و"الخصائص" ١/ ١٧٦، و"شواهد شرح أبيات المغني" ٦/ ٢٩٢، و"اللسان" (علل)، أمالي ابن الشجري ١/ ٢٨٠، و"مغني اللبيب" ص ٤٢٣، و"النقائض" ص ٤٠٨، والنوى الوجه الذي يقصد، =
479
حمل وأستدرج على موضع الفاء المحذوفة وما بعدها من لعلّي (١). وأما قراءة أبي عمرو (وأكونَ) فإنه حمله على اللفظ دون المعنى، وكان الحمل على اللفظ أولى لظهوره في اللفظ وقربه (٢).
ثم أخبر الله تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته وحضر أجله فقال: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا﴾ أي عند الموت ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ قال عطاء: أي لو رد إلى الدنيا ما زكى ولا حج (٣)، ويكون هذا كقوله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ (٤) والمفسرون على أن هذا خطاب شائع لكل عامل عمل خيرًا أو شرًّا.
وروي عن عاصم أنه قرأ (يعملون) بالياء (٥) على قوله: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا﴾ لأن النفس وان كان واحدًا في اللفظ فالمراد به الكثرة، فحمل على المعنى (٦)، والله تعالى أعلم.
= وأستدرج أرجع أدراجي.
(١) في (ك): (على موضع لعلّي وما بعدها) والتصحيح من "الحجة".
(٢) انظر: "الحجة" للقراء السبعة ٦/ ٢٩٣ - ٢٩٤.
(٣) "التفسير الكبير" ٣٠/ ١٩، ولم ينسبه لقائل.
(٤) قال تعالى: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨].
(٥) قرأ أبو بكر، عن عاصم ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبر غائبين، وقرأ الباقون (تعملون) بالتاء على الخطاب. انظر: "حجة القراءات": ٧١١، و"النشر" ٢/ ٣٨٨.
(٦) "الحجة" للقراء السبعة ٦/ ٢٩٤.
480
(٦٤) تفسير سورة التغابن
481
Icon