تفسير سورة التكوير

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة التكوير مكية وهي عشرون وتسع آيات.

سورة التكوير
وهي تسع وعشرون آية مكية
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (١٤)
قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الحاكم أبو الفضل قال حدثنا محمد بن أحمد الكاتب المروزي حدثنا محمد بن حموية النيسابوري قال: حدثنا إبراهيم بن موسى قال: حدثنا هشام عن عبد الله عن يحيى بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن عمر رضي الله عنهما- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إليَّ يَوْمَ القِيَامَةِ فَلْيَقْرَأْ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرتْ» وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ يعني: ذهب ضوؤها وكذلك قال الضحاك وعكرمة يعني: اضمحلت وذهبت ويقال تكور كما تكور العمامة يعني: جُمِع ضوؤها ولُفَّ كما تُلف العمامة قوله تعالى: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ يعني: تناثرت وتساقطت وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ يعني: قُلعت عن الأرض وسُيِّرت في الهواء كقوله: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف: ٤٧] يعني: خالية ليس عليها شيء من الماء والشجر وغيرها ثم قال: وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ يعني: النوق الحوامل عطّلها أربابها اشتغالاً بأنفسهم وواحدها:
عشراء وهي الناقة التي أتت على حملها عشرة أشهر وهي في الحمل فلا يطلعها أهلها إلا في يوم القيامة وهذا على وجه المثل لأن في يوم القيامة لا يكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المثل يعني: أن هول يوم القيامة بحال لو كان عند الرجل عشراء يعطلها واشتغل بنفسه ثم قال:
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ يعني: جُمِعَتْ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ يعني: ضجرت بعضها إلى بعض فصارت بحراً واحداً فملئت وكثر ماؤها كقوله: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) [الطور: ٦] يعني:
الممتلئ ويقال: سجرت أي أحميت بالكواكب إذا تساقطت وفيها قال ابن عباس إذا كان يوم القيامة كوَّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم في البحر ثم بعث الله تعالى ريحاً دبوراً فتنفخها فتصير ناراً وهو قوله: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي: أحميت. وقال قتادة: سجرت أي: غار ماؤها، وقال الزجاج وقد قيل إنه جعل مياهها ناراً يعذب بها الكفار فهذه الأشياء الست التي ذكرها قبل النفخة الأخيرة والتي ذكرها بعدها تكون بعد النفخة الأخيرة وهو قوله: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال الكلبي ومقاتل: يعني: نفوس المؤمنين قرنت بالحور العين ونفوس الكفار بالشياطين. وقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في قوله: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح وقال أبو العالية الرياحي قرنت الأجساد بالأرواح وقال القتبي الزوج القرين كقوله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: ٢٢] يعني: قرناءهم ثم قال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي: قرنت نفوس الكفار بعضها ببعض والعرب تقول زوجت إبلي إذا قرنت بعضها ببعض ويقال: وإذا النفوس زوجت يعني: الأبرار مع الأبرار في زمرة والأشرار مع الأشرار في زمرة ثم قال: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. وكان العرب إذا ولد لأحدهم ابنة دفنها حية وهي الموءودة فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلك أبوك وإنما يكون السؤال على وجه التوبيخ لقائلها يوم القيامة لأن جوابها قتلت بغير ذنب وهو مثل قوله تعالى: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: ١١٦] وإنما سؤاله وجوابه تبكيت على من ادعى هذا عليه وقال عكرمة الموؤدة المدفونة، كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت فكانت أوان ولادتها حفرت حفرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة وإن ولدت غلاما حبسته وقرئ في الشاذ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يعني: المقتولة سئلت لأبويها بأي ذنب قتلتماني ولا ذنب لي قوله تعالى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يعني تطايرت الصحف وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم، قرأ ابن كثير وأبو عمرو سجرت وسعرت مخففتين، ونشرت مشددة وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم سجرت وسعرت مشددتين ونشرت مخففة وقرأ حمزة والكسائي سجرت ونشرت مخففتين وسعرت مشددة فمن شددها فلتكثير ومن خففها فعلى غير التكثير قوله تعالى: وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ يعني: نزعت من أماكنها كما يكشف الغطاء عن الشيء يعني: كشفت عما فيها ثم قال عز وجل: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ يعني:
للكافرين وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ قربت للمتقين فجواب هذه الأشياء قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ يعني عند ذلك تعلم كل نفس ما عملت من خير أو شر وهذا كقوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: ٣٠] الآية.
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١٥ الى ٢٥]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥)
551
ثم قال عز وجل: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ يعني: الذي خنس بالنهار وظهر بالليل، ويقال الخنس النجوم التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل الْجَوارِ الْكُنَّسِ الجوار التي تجري والكنس التي ترتفع وتغيب، وقال أهل التفسير الخنس يعني: خمسة من الكواكب فهران، وزحل، ومشتري، وعطارد، وزهرة التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل، الجواري لأنهن تجري بالليل في السماء الْكُنَّسِ يعني: تستتر كما تكنس الظباء وقال أهل اللغة الخنس واحدها خانس كراكع وركَّع وقال بعضهم: الخنس أرادها هنا الوحوش والظباء وظباء الوحوش والجواري الكنس التي تدخل الكنائس وهذا غصن من أغصان الشجر ويكون معناه: أقسم برب هذه الأشياء وروى عكرمة عن ابن عباس: الخنس المعز، والكنس: الظباء ألم ترى إذا كانت في الظل كيف تكنس بأعناقها ومدت ببصرها؟ وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: الْجَوارِ الْكُنَّسِ هي بقر الوحش وقال علي بن أبي طالب: هي النجوم، وقال القتبي هي النجوم الخمسة الكبار لأنها تخنس أي ترجع في مجراها وتكنس أي تستتر كما تكنس الظباء ثم قال عز وجل: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ يعني: إذا أدبر وقال الزجاج: عَسْعَسَ إذا أقبل. وعسعس: إذا أدبر والمعنيان يرجع إلى شيء واحد وهذا ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره وقال مجاهد إِذا عَسْعَسَ أي إذا أظلم ثم قال عز وجل: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ يعني: إذا استضاء وارتفع، ويقال إذا امتد حتى يصير النهار بيناً، فأقسم بهذه الأشياء، ويقال يخالف هذه الأشياء إِنَّهُ يعني: القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ على ربه يقرأ على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو جبريل- عليه السلام- ثم أثنى على جبريل وبيَّن فضله فقال: ذِي قُوَّةٍ يعني: ذا شدة ويقال: أعطاه الله تعالى القوة ومن قوته أنه قلع مدائن قوم لوط بجناحه ثم قال عز وجل: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ يعني: عند رب العرش له منزلة مُطاعٍ يعني: يطيعه أهل السماوات ثَمَّ أَمِينٍ فيما استودعه الله من الرسالات ويقال: مُطاعٍ يعني: طاعته على أهل السموات واجبه كطاعة محمد صلّى الله عليه وسلم أمين على أهل الأرض أَمِينٍ على الرسالة والوحي، ويقال: أَمِينٍ في السماء كما أن محمد صلّى الله عليه وسلم أمين في الأرض ثم قال عز وجل: وَما صاحِبُكُمْ الذي يدعوكم إلى التوحيد لله تعالى بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ يعني: رأى محمد صلّى الله عليه وسلم جبريل- عليه السلام- بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ عند مطلع الشمس ثم قال: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي: ليس فيما يوحَى إليه من القرآن ببخيل وقرأ ابن مسعود- رضي الله عنه- بظنين بظاء وهكذا قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بظنين يعني: بمتَّهم أنه يزيد فيه أو ينقص والباقون بالضاد يعني: البخيل ثم قال: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ يعني: القرآن ليس بمنزلة قول الكهان.
552

[سورة التكوير (٨١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
قوله عز وجل: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ يعني: تذهبون عن طاعتي وكتابي ويقال: أنى تذهبون يعني: تعدلون عن أمري وقال الزجاج معناه فبأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يعني: ما هذا القرآن إلا عظة للجن والإنس. قوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ يعني: لمن شاء أن يستقيم على التوحيد فليستقم وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فأعلمهم أن المشيئة والتوفيق والخذلان إليه وأن الأمور كلها بمشيئة الله تبارك وتعالى وإرادته والله الموفق وصلى الله على سيدنا محمد.
Icon