تفسير سورة الشمس

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الشمس من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
[ سورة ﴿ والشمس وضحاها ﴾ ]١
١ من م، ساقطة من الأصل..

سُورَةُ الشَّمْسِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا).
قالوا: تأويله: والشمس وضوئها.
وقيل: وحرها.
وقيل: وبهائها.
وهذا في موضع القسم؛ وذلك لأن اللَّه - تعالى - جعل في الشمس معاني تدل على لطائف حكمته وعجائب تدبيره، وجعلها في النهاية من البركات، وفي النهاية من الآيات، فمن عجيب تدبيره أنه جعل نورها بحيث يهلك نور الظل حتى إذا بدت في مكان أذهبت نور الظل، ونور السراج، ونور القمر، وستر نورها الكواكب عن أن ترى، وجعلها بحيث يظهر بها هباء الهواء، فبين أن الهواء ذا هباء؛ ألا ترى أنك إذا نظرت في المشكاة حين سقوط الشمس فيها تبين لك بها هباء الهواء، ولو أراد أحد من الخلائق أن يتدارك المعنى الذي به استنار هذا الشَّمس كل هذا لم يقف عليه.
ثم من بركتها أن بحرارتها مصالح الأغذية، وبها مصالح النبات، وبها ييبس الحب، وبها تنضج الفواكه.
ومن عجيب تدبيره أنه جعلها بالنائي عن كل شيء له بها صلاح؛ إذ لو دنت منها، لكانت تحرق الأشياء كلها.
ومن آياتها أن جعلت بحيث تسير وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام ما يتعذر على الذي خلق للسير والمشي قطع تلك المسافة بمدد كثيرة.
وهي أيضا تظهر جود الرب - جل جلاله - لأن منافعها تعم الخلق كلهم: برهم وفاجرهم، والولي منهم والعدو.
فأقسم اللَّه - تعالى - بها؛ ليزيل عن الكفرة الشبهة التي تعرض لهم في أمر الدِّين؛ إما في التوحيد، أو في الرسالة، أو في البعث، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢):
جائز أن يتلوها في كل ما ذكرنا في الشمس من المنافع والمعاني؛ فيكون ثانيها في العمل، فإنه يقع به صلاح الأغذية أيضا، وهو ينير أيضا إلا أنه لا ينتهي منتهاها ولا يبلغ مبلغها، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا تلاها، أي: يتلوها في أول ما يهل؛ فإنه إذا وجبت الشمس في آخر اليوم من الشهر تلا غروبها طلوع الهلال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه يتلوها إذا صار بدرا، وفي هذا دلالة أن منشئهما واحد؛ لأن منافعهما تعم الخلق جميعا، ولو لم يكن مدبرهما واحدا، لكانت لا تعم، بل يمنع كل واحد منهما مُنْشَأه عن إيصال النفع إلى قوم عدوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣):
يحتمل أوجها:
يحتمل أن يكون النهار جلى الدنيا.
ويحتمل أن يكون جلى الأرض.
ويحتمل أن يكون جلى الشمس.
ويحتمل أن تكون تجلى الأبصار بنورها عن ظلمة الليل التي يغشاها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤):
ينصرف إلى الأوجه التي ذكرنا أيضا، أي: يغشى الدنيا، أو الأرض، أو الشمس، أو يغشى الأبصار بظلمتها عن الخلائق، واللَّه أعلم.
ثم لليل والنهار زيادة سلطان ليست للشمس ولا للقمر؛ لأن من سلطان الليل والنهار أنهما يفنيان الآجال، ويقطعان الأعمال، ولا يتهيأ لأحد الامتناع والتحرز من سلطانهما، ويتهيأ للخلق دفع أذى الشمس والقمر عن أنفسهم بالحيل والأسباب؛ فكان في ذكر الليل والنهار زيادة معنى ليس ذلك في ذكر الشمس والقمر.
الآية ٣ : وقوله تعالى :﴿ والنهار إذا جلاها ﴾ يحتمل أوجها : يحتمل أن يكون النهار جلى الدنيا، ويحتمل أن يكون جلى الأرض، ويحتمل أن يكون جلّى الشمس، ويحتمل أن يجلي الأبصار بنورها عن ظلمة الليل التي تغشاها.
الآية ٤ : وقوله تعالى :﴿ والليل إذا يغشاها ﴾ ينصرف إلى الأوجه التي ذكرنا أيضا، أي يغشى الدنيا أو الأرض أو الشمس، أو يغشى الأبصار بظلمتها عن الخلائق، والله أعلم.
ثم الليل والنهار زيادة سلطان ليست للشمس ولا للقمر، لأن من سلطان الليل والنهار أنهما يفنيان الآجال، ويقطعان الأعمار، ولا يتهيأ لأحد الامتناع والتحرز من سلطانهما، أو يتهيأ للخلق دفع أذى الشمس والقمر عن أنفسهم بالحيل والأسباب، فكان في ذكر الليل والنهار زيادة معنى، ليس ذلك في ذكر الشمس والقمر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥):
قال الزجاج: " ما " بمعنى: " الذي "، وقد تستعمل في مثله، كقول العرب: " سبحان ما سبحت له السماوات والأرض "، أي: سبحان الذي سبحت له.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: " ما " هاهنا بمعنى " مَن "؛ كأنه يقول: والسماء ومَن بناها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: " ما " هاهنا تجعل الفعل الماضي بمعنى المصدر، تقول: أعجبني ما صنعت، أي: أعجبني صنعك؛ فيكون معناه: والسماء وبنائها.
فإن كان التأويل على الوجهين الأولين، رجع القسم إلى اللَّه تعالى، والسماء، وإلى ما تقدم من الشمس والقمر والنهار والليل.
وإن كان على التأويل الآخر، رجع القسم إلى ما خلق وهو السماء، فإن بناء السماء عينها.
وقال أبو بكر الأصم: إن هذه الماءات في قوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)، تخرج على التعجب، على شرط التقديم، وإن كانت مؤخرة في اللفظ؛ كأنه يقول اللَّه، تعالى: وما السماء؟ ثم أجاب: بناها بأن رفع سمكها وسواها ورفعها بغير عمد ترونها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) أي: بسطها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧):
قالوا: تسويتها في أن خلقها باليدين والرجلين والعينين ونحوها، فإن كان على هذا فالتسوية ترجع إلى الأغلب لا إلى الجملة؛ إذ ليس لكل نفس هذه الجوارح جملة؛ فيكون معناه: أنه سوى أكثر النفوس بما ذكر من اليدين والرجلين، وذلك جائز في الكلام، وهو كقوله - تعالى -: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)، (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)، ومعناه: أنه جعله سكنا ومقرا لأكثر الخلائق لا للجملة، وجعل النهار لأكثر الخلائق معاشا لا للجملة، واللَّه أعلم.
وقيل: سوى جوارحها وأطرافها ما لو لم يكن له جارحة من تلك الجوارح يوصف
الآية ٦ : وقوله تعالى :﴿ والأرض وما طحاها ﴾ أي بسطها.
الآية ٧ : وقوله تعالى :﴿ ونفس وما سواها ﴾ قالوا : تسويتها في أن خلقها باليدين والرجلين والعينين ونحوها.
فإن كان على هذا فالتسوية ترجع إلى الأغلب لا إلى الجملة ؛ إذ ليس لكل نفس هذه الجوارح جملة، فيكون معناه أنه سوى أكثر النفوس بما ذكر من اليدين والرجلين، وذلك جائز في الكلام، وهو كقوله تعالى :﴿ وجعل الليل سكنا ﴾ [ الأنعام : ٩٦ ] [ وقوله ]١ :﴿ وجعلنا النهار معاشا ﴾ [ عم : ١١ ] ومعناه : أنه [ جعل الليل ]٢سكنا ومقرا لأكثر الخلائق لا للجملة، وجعل النهار لأكثر الخلائق معاشا لا للجملة، والله أعلم.
وقيل : سوى جوارحها وأطرافها ما لو لم يكن له جارحة من تلك الجوارح لوصف بالنقصان، وهذا أعم من الأول.
ويحتمل ﴿ سواها ﴾ على٣ ما عليه مصلحتها، فتملك التقلب والتعيش، ليس على ما عليه سائر الحيوان.
ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون قوله :﴿ وسواها ﴾ أي جعلها بحيث احتمال الكلفة والمحنة كقوله تعالى :﴿ ولما بلغ أشده واستوى ﴾ [ القصص : ١٤ ] يميز بين القبيح والحسن، ويعرف عواقب الأمور من الخير والشر.
١ ساقطة من الأصل وم. انظر تفسير الآية ٣ من سورة الحاقة والآية ٤ من سورة المرسلات والآيات المشابهة لها..
٢ في الأصل وم: جعلها..
٣ أدرج بعدها في الأصل وم: غير..
بالنقصان، وهذا أعم من الأول.
ويحتمل: (سَوَّاهَا) على ما عليه مصلحتها، وتملك التقلب والتعيش، ليس على ما عليه سائر الحيوان.
ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون قوله: (سَوَّاهَا)، أي: جعلها بحيث احتمال الكلفة والمحنة، كقوله - تعالى -: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى)، وتميز بين القبيح والحسن، وتعرف عواقب الأمور من الخير والشر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨):
هذا يحتمل أوجها:
أحدها: أي: بين لها فجورها وتقواها وعلمها، فمن زعم أن المعارف ضرورية خلقة، يحتج بهذه الآية، فيقول: أخبر - تعالى - أنه علمها فجورها وتقواها، وأنه وضع في نفسه ما يعرف به قبح كل قبيح، وحسن كل حسن.
والأصل فيه عندنا: أنه يعرف حسن الأشياء وقبحها جملة ببداية العقول، ولكن العقول لا تعرف حسن كل شيء على الإشارة إليه، ولا قبح كل قبيح على الإشارة إليه؛ وإنما تعرف ذلك إما بخبر يرد على ألسن الرسل عليهم السلام، أو باستعمال الفكر؛ ألا ترى أنك تجد النفس من طبعها أنها تألف الملاذ والمنافع، وتنفر عن المكاره والآلام، ولكنها لا تعرف معرفة كل منتفع على الإشارة إليه ولا ضرارة أعين الأشياء؛ وإنما تعرف ذلك بالذوق.
وكذلك العين تدرك الألوان، لكنها لا تعرف حسنه وقبحه؛ بل العقل هو الذي يفصل بينهما، فعلى ذلك قد جعل في طبع العقل قبح القبائح جملة وحسن الحسن، ولكن لا يفصل بينهما على الإشارة إلى كل في نفسه إلا بما ذكرنا؛ فيكون قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، أي: جعل في نفسها ما يبين القبيح من الحسن، والخبيث من الطيب، ويبين قبح الفجور وحسن التقوى، ويلزمه المحنة والكلفة بذلك، ثم يصل إلى معرفة ذلك إما بالرسل، وإما باستعمال الفكر.
ويحتمل وجها آخر، وهو أن يلهمها تقواها إذا وفَّى بما لله تعالى عليه من الاستقامة على الطريقة والمجاهدة؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، فوعد الهداية بالجهاد، وقال - تعالى -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ثم كانت الإجابة مضمنة شريطة، وهي أن يستجيب له الداعي فيما دعاه إليه؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، وقال - تعالى -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)، وقال: (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ...) الآية؛ فثبت أن الذي يلهم التقوى هو الذي يقوم بوفاء ما عليه، فإذا قام به ألهمه التقوى، وبين له سبيل الفجور.
وقال أبو بكر الأصم في قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، أي: ألزمها فجورها وتقواها؛ فتكون تقواها لها، وفجورها عليها، لا يؤخذ أحد بفجور أحد، وفي هذا دليل على أن التقوى إذا ذكر مفردا انصرف إلى الخيرات أجمع، وإذا قرن به البر والإعطاء، انصرف إلى الاتقاء عن المحارم، كقوله - تعالى -: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ...)، وإذا قيل: بر، واتقى، أريد به: أنه بر بكل ما يحمد عليه، واتقى عن كل ما يذم عليه فاعله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠):
فموقع ما تقدم من القسم بالشمس والقمر والليل والنهار على هذا، فقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) في الآخرة (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) في الآخرة؛ فيكون هذا منصرفا إلى الجزاء في الآخرة؛ على ما يذكر في قوله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)؛ فيكون في هذا إيجاب القول بالبعث من الوجه الذي نذكره، إن شاء اللَّه تعالى.
ثم اختلفوا في تأويل الفلاح:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أفلح، أي: سعد.
ومنهم من يقول: أي: بقي في الخيرات، والفلاح: البقاء.
ومنهم من يقول: أفلح، أي: فاز، والمفلح في الجملة هو الذي يظفر بما يأمل، وينجو عما يحذر؛ فيدخل في ذلك السعادة والبقاء والفوز.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ زَكَّاهَا): جائز أن يكون منصرفا إلى اللَّه تعالى.
وجائز أن ينصرف إلى العبد، قال اللَّه - تعالى -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)، وقال - تعالى -: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ...)، فبين اللَّه - تعالى - أنه هو الذي تفضل بتزكية من زكا.
وجائز أن يصرف إلى العبد؛ فيكون قوله: (زَكَّاهَا)، أي: صاحبها، وكذلك قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) يحتمل هذين الوجهين؛ فيكون اللَّه - تعالى - هو الذي أنشأ فعل الضلال؛ فيكون الفعل من حيث الإنشاء من اللَّه تعالى، ومن حيث العمل من العبد.
ثم قوله: (مَنْ دَسَّاهَا)، أي: أخفاها، وإخفاؤها: أنه صيرها بحيث لا تذكر في المحافل إلا بالذم، وزكى الأخرى، أي: أظهرها حتى ينظر إليها الناس بعين التبجيل والتعظيم.
وهكذا شأن المتقي أن يكون مبجلا معظما فيما بين الخلق، والفاجر يعيش مذموما مهانا فيما بين الخلق.
أو يرجع الإظهار والإخفاء إلى الآخرة: فيجلّ قدر المتقي المزكي، ويخمل ذكر الفاجر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (دَسَّاهَا) من " دسَّسْت "، فأسقط السين، وأبدل مكانها الياء.
ثم الإضافة في قوله: (دَسَّاهَا) إلى اللَّه - تعالى - على خلق ذلك الفعل منه، وفي قوله: (مَن زكَّاهَا) على التوفيق.
* * *
قوله تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا):
ولم يبين لمن كذبوا، وقد بينه في آية أخرى فقال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِطَغْوَاهَا) يحتمل وجهين:
أي: لأجل معصيتها وطغيانها؛ إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم وتركهم التفكر في أمره؛ وإلا لو تفكروا فيما جاءهم به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يجدوا موضع التكذيب.
والثاني: بأهل طغواها، أي: كذبت ثمود بسبب أهل الطغيان؛ فيكون في هذه الآية
إنباء أنهم لم يكذبوا رسولهم بشبهة اعترضت لهم، أو بحجة كانت لهم، بل كذبوه عن عناد منهم، وتيقن منهم برسالته، وذلك أن حجة نبيهم صالح - عليه السلام - جاوزت الحجج؛ لأنهم أوتوا الناقة على سؤال سبق منهم، وعلى تعد منهم في السؤال؛ إذ كان لهم أن يطالبوه بالحجة على دعوى الرسالة، ولم يكن لهم أن ينصوا السؤال على شيء يشيرون إليه، فهم بإشارتهم إلى سؤال الناقة كانوا معتدين فيه.
ثم من حكمة اللَّه - تعالى - أن الحجة إذا كانت على أثر السؤال، ثم ظهر التكذيب من السائلين هو الاستئصال في الدنيا، وقد وجد من أُولَئِكَ القوم السؤال والتكذيب؛ فعوقبوا بالاستئصال، قال اللَّه - تعالى -: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)؛ فيبين اللَّه - تعالى - المعنى الذي لأجله لم يرسل الآيات التي سألت الكفرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو أنهم لو أوتوا، ثم عندوا، استؤصلوا؛ فقد أراد اللَّه - تعالى - إبقاء أمته إلى أن تقوم الساعة، وأرسله رحمة للعالمين، وجعل حجته من وجه فيها رحمة للعالمين، وهي القتال، ووجه الرحمة فيه: أنهم كانوا يمتنعون عن اتباعه؛ لحب الدنيا وشهواتها؛ فكان يمنعهم ذلك عن النظر في حججه وآيات رسالته؛ فكان في الجهاد ما يضيق عليهم المعاش، ويضطرهم إلى النظر في الحجج؛ فيحملهم ذلك على تصديقه والإيمان به؛ فثبت أن في القتال رحمة عليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢).
أي: قام أشقاها، وصار أشقاها بما أحدث من الكفر بعقر الناقة.
وروي عن عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعلي. - رضي اللَّه عنه -: " ألا أخبرك بأشقى الناس، رجلين؟ " قال: بلى، يا رسول اللَّه. فقال: " أحيمر ثمود، عاقر الناقة، والذي يضرب على هذه -وأشار إلى هامته- حتى يبتل منها هذه، وأشار إلى لحيته " فصار عاقر الناقة أشقى الناس بما ذكرنا.
وجائز أن يكون قاتل علي، صار أشقى الناس؛ لأنه استحل قتله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣):
فهو يحتمل وجهين:
الآية ١٣ : وقوله تعالى :﴿ فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ﴾ فهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أي احذروا ناقة الله، وهو كقوله :﴿ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ﴾ [ الأعراف : ٧٣ ].
والثاني : أي قال احذروا ناقة الله تأكل في أرض الله، وذروا بين الناقة ﴿ وسقياها ﴾ وشربها١ ثم أضيفت الناقة إلى الله تعالى لوجهين :
أحدهما : أن الله تعالى لم يأذن لأحد بتملكها٢ حتى ينسب إليه الملك ؛ بل بقيت غير مملوكة لأحد، فأضيفت إلى الله تعالى كما أضيفت إليه المساجد لما لا ملك لأحد عليها.
[ الثاني : أنها ]٣ أضيفت إلى الله تعالى على معنى التفضيل.
والأصل : أن إضافة الأشياء إلى الله تعالى بحق الحرمات على تفضيل تلك الأجزاء من بين غيرها. فإضافة الأشياء إلى الله تعالى بحق الله تعالى بحق الكليات يخرج مخرج تعظيم الله تعالى ؛ فإذا قيل : رب المساجد أريد به تفضيل المساجد من بين سائر البقاع، وإذا قيل : رب العرش أريد به تعظيم العرش، وكذلك إذا قيل : رب الناقة أريد به تعظيم أمرها، وإذا قيل : رب العالمين ورب كل شيء أريد به تعظيم الرب، جل جلاله.
١ في الأصل وم: أو شربها..
٢ في الأصل وم: بالتملك عليه، في م: بالتملك عليها..
٣ في الأصل وم: أو..
أحدهما: أي: احذروا ناقة اللَّه، وهو كقوله: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
والثاني: أي: قال لهم: ذروا ناقة اللَّه تأكل في أرض اللَّه، وذروا بين الناقة وسقياها -أي: شربها- ثم أضيفت الناقة إلى اللَّه - تعالى - لوجهين:
أحدهما: أن اللَّه - تعالى - لم يأذن لأحد بالتملك عليها؛ حتى ينسب إليه الملك، بل بقيت غير مملوكة لأحد؛ فأضيفت إلى اللَّه - تعالى - كما أضيفت إليه المساجد؛ لما لا ملك لأحد عليها.
أو أضيفت إلى اللَّه - تعالى - على معنى التفضيل، والأصل أن إضافة الأشياء إلى اللَّه - تعالى - بحق الجزئيات على تفضيل تلك الأجزاء من بين غيرها، وإضافة الأشياء إلى اللَّه - تعالى - بحق الكليات، تخرج مخرج تعظيم اللَّه تعالى، فإذا قيل: رب المساجد، أريد به: تفضيل المساجد من بين سائر البقاع، وإذا قيل: رب العرش، أريد به تعظيم العرش، وكذلك إذا قيل: رب الناقة، أريد به تعظيم أمرها، وإذا قيل: رب العالمين، ورب كل شيء، أريد به تعظيم الرب، جل جلاله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤):
يحتمل أن يكونوا كذبوا صالحا في رسالته، أو كذبوه فيما أخبرهم من حلول العذاب بهم إذا عقروا الناقة، فعقروها مع ذلك.
وقوله - تعالى -: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أطبق عليهم العذاب على الصغير والكبير، ومنه يقال: بعير مدموم؛ إذا كان سمينا أطبق شحمه على لحمه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: دمدم عليهم، أي: دمر عليهم بذنبهم، وذنبهم ما تعدوا من تكذيبهم الرسول، وعقرهم الناقة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوَّاهَا):
يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه سواهم بالأرض؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ).
أو سوى بين الصغير والكبير في الإهلاك؛ فالصغار منهم يومئذ ماتوا بآجالهم، والكبار منهم استؤصلوا بذنوبهم.
وقوله: (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥):
جائز أن تكون الإضافة منصرفة إلى اللَّه تعالى، وهو أن يكون اللَّه لما أهلكهم لم يخف تبعة الإهلاك.
ووجه الخوف: هو أنه فيما أهلكهم، أهلكهم بما أوجبت الحكمة إهلاكهم، ولم يلحقه تقصير في الحكمة، ولا وجد العائب في ذلك مقالا.
وهكذا قال الحسن: ذاك ربنا، لم يخف مما أنزل عليهم العذاب.
أو يكون منصرفا إلى العاقر؛ فيكون معناه: أنه عقرها، ولم يخف العاقبة التي حذرهم بها صالح - عليه السلام - من قوله: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا)، أي: لم يعلم ما يحل به من عقر تلك الناقة، ولو علم لم يفعل.
ويجوز استعمال الخوف في موضع العلم؛ لأن الخوف إذا بلغ غايته، صار علما.
ثم الحكمة في ذكر قصة ثمود وجهان:
أحدهما: أن في ذكرها تثبيت رسالة مُحَمَّد صلوات اللَّه عليه، وهو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يوجد منه الاختلاف إلى من عنده علم الأنباء والأخبار، ولا كان يعرف الكتابة؛ ليقع له المعرفة بهما؛ فثبت أنه بالوحي علم.
والثاني: أن في ذكرها تحذيرًا لمكذبي الرسل، فحذروا بها ليمتنعوا عن تكذيبه؛ فلا يحل بهم كما حل بمكذبي صالح - عليه السلام - من بأسه وعذابه، واللَّه الهادي.
* * *
Icon