تفسير سورة القارعة

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ؛ القارعةُ من أسماءِ القيامة، سُميت بذلك، لأنَّها تقرعُ القلوبَ بالأهوالِ والأفزاعِ. والمعنى : ستأتيكَ القارعةُ، ويقال : إنَّ القارعةَ هي الصيحةُ العظيمة، وقولهُ تعالى :﴿ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ ؛ تفخيمٌ لأمرِ القيامة، ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾، تقديرهُ : القارعةُ ما هي ؟ وأيُّ شيء هي ؟ وما أعلَمَك ما هي لو لَمْ أُعلِمْكَ ؟ وهذا كما يقالُ : وأيُّ فقيهٍ؟
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴾ ؛ معناهُ : يوم يَمُوجُ الناسُ بعضُهم في بعضٍ حين يُخرَجون من قبورهم، كالجرادِ الكثير المتفرِّق الذي يدخلُ بعضهُ في بعضٍ، ويركبُ بعضهُ بعضاً يعني الغوغاءَ، وهي صغارُ الجرادِ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾[القمر : ٧] وسُمي الجرادُ فَرَاشاً ؛ لأنه يتَفرِشُ حين يتفرَّقُ، ويقالُ الفراشُ ما يطير حولَ السِّراجِ من البَقِّ ونحوهِ، وإنما شبَّهَ الناسَ يومئذ بالفراشِ ؛ لأنَّهم يذهَبون في ذلك اليومِ على وُجوهِهم لا يدرون من أينَ يجيئون، ولا أين يذهَبون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴾ ؛ معناهُ : تصيرُ في ذلك اليومِ بعدَ القوَّة والشدة كالصُّوف، والمنفوشُ : المندوفُ، وذلك أوهَى ما يكون من الصُّوف.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ ؛ يعني بالطَّاعات والحسناتِ، ﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ ؛ أي ذاتِ رضىً يرضَاها اللهُ، وَقِيْلَ : معنى ﴿ رَّاضِيَةٍ ﴾ أي مَرْضِيَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ ؛ أي خفَّت من الأعمالِ الصالحة فمسكَنهُ ومأواهُ الهاويةُ، يأوي إليها، كما يأوي الولدُ إلى أُمه. وَقِيْلَ : يَهوِي على أُمِّ رأسهِ في النار دَركَةً من دركاتِ النار.
واختلَفُوا في كيفيَّة وزنِ الأعمال، فقال بعضُهم : توزَنُ صحائفُ الحسَنات في كفَّة، وصحائفُ السِّيئات في كفَّة. وقال بعضُهم : يخلقُ الله من الحسَناتِ نوراً يكون علامةً للحسناتِ، فتوضعُ في كفَّة الحسناتٍ، ويخلقُ من السِّيئات ظُلمةً تكون علامةً للسِّيئات، فتوضعُ في كفَّة السيِّئات.
واختلَفُوا فيمَنْ يزنُ الميزانَ، قال بعضُهم : يتولاَّهُ ملَكٌ من الملائكةِ موكَّلٌ بالموازين. وقال بعضُهم : يتولاَّهُ جبريلُ فيَقِفُ بين الكفَّتين ويزنُ الأعمالَ، فمَن رجَحت حسناتهُ على سيِّئاته نادَى بصوتٍ يسمعهُ أهل الموقفِ : الآنَ فلانُ بنُ فلانٍ، سَعِدَ سعادةً لا شقاءَ بعدَها أبداً، ومَن رجَحتْ سيِّئاتهُ على حسناتهِ نادَى الملَكُ بصوتٍ يسمعهُ أهل الموقفِ : الآنَ فلانُ بنُ فلانٍ، شَقِيَ شقاوةً لا سعادةَ بعدَها أبداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾ ؛ أي ما أعلَمَك - يا مُحَمَّدُ - ما الهاويةُ لو لَمْ أُعلِمْكَ ؟ وهذه الهاءُ تسمى هاء السَّكْتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ ؛ تفسيرٌ للهاويةِ ؛ ومعناهُ : نارٌ قد تناهَتْ حرارَتُها منتهاها.
ويُروى :((أنَّ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ كَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ قَطَعَتْهُ الْعَبْرَةُ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ، فَفَارَقَ الدُّنْيَا وَمَا خَتَمَهَا)).
Icon