تفسير سورة الفيل

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الفيل من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الفيل
مكية، وهي خمس آيات.

﴿ ألم تر ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والاستفهام للإنكار، وإنكار النفي إثبات، والغرض منه التقرير، يعني قد رأيت يا محمد، وهو صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها، وجاز أن يكون الرؤية بمعنى العلم، والجملة الاستفهامية التي بعدها سدت مسدت مفعولي ( تر )، فيه إشارة إلى نظره صلى الله عليه وسلم، وأن يفعل بأعدائه مثل ما فعل بأصحاب الفيل ﴿ كيف فعل ربك ﴾ استفهام للتعجب، ولذا لم يقل : ما فعل ؛ لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته، وعزة بيته، وشرف نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنها من الإرهاصات، وكانت قصة الفيل توطئة لنبوته، ومقدمة لظهوره وبعثته، وإلا فأصحاب الفيل -كما قال ابن نعيم- كانوا نصارى أهل الكتاب، وكان دينهم خيراً من دين أهل مكة ؛ إذ ذلك لأنهم كانوا عبدة الأوثان، وكان قدوم الفيل يوم الأحد لثلاث عشر ليلة بقيت من المحرم، وبه قال ابن عباس، ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه، وقال : كل قوم يخالفه وهم، وفي ذلك العام ولد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نحو من الشهرين، في شهر ربيع الأول من تلك السنة، كذا قال الأكثرون، وهو الأصح، وقيل : بعده بثلاثين عاما، وقال مقاتل : بأربعين عاما، وقيل : بسبعين عاما، وقال الكلبي : بثلاث وعشرين سنة، والأول أصح، كذا في خلاصة السير. ﴿ بأصحاب الفيل ﴾ وهم أبرهة ملك اليمن وأصحابه، قال الضحاك : وكانت الفيلة ثمانية، وقيل : اثني عشر سوى الفيل الأعظم والذي يقال له : المحمود، وإنما وحد ؛ لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم، وقيل : لوفاق رؤوس الآي.
وقصة أصحاب الفيل على ما ذكره محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس، وذكره الواقدي، أن النجاشي ملك الحبشة كان قد بعث أرياطا إلى الأرض اليمن فغلب عليها، فقام رجل -يقال له : أبرهة بن الصباح- من رجال الحبشة فساخط أرياط في أمر الحبشة، حتى انصدعوا صدعين، فكانت طائفة مع أرياط، وطائفة مع أبرهة، فتزاحفا فقتل أبرهة أرياطا، واجتمعت الحبشة لأبرهة، وغلب على اليمن وأفرد النجاشي، ثم إن أبرهة رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله، فبنى كنيسة بصنعاء، وكتب إلى النجاشي : إني صنعت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، لست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب، فسمع به رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إليها ليلاً، فقعد فيها ليلاً، ولطخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة، فحلف أبرهة ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله يقال له : محمود، ولم ير مثله عظيما وقوة، فبعث إليه، فخرج أبرهة سائرا إلى مكة، فسمعت العرب بذلك فعظموه، ورأوا جهاده حقا عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن -يقال له : ذو نفر- مقاتله، فهزمه أبرهة، وأخذ ذا نفر ولم يقتله وواثقه، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم، واجتمع إليه قبائل اليمن فقاتلوه، وأخذ نفيلا، فقال نفيل : أيها الملك، إني دليل بأرض العرب، فاستبقاه وخرج معه يدله على الطريق، حتى إذا مر بالطائف خرج مسعود بن مغيث الثقفي في رجال من ثقيف فقال : أيها الملك، نحن عبيدك، ليس لك عندنا خلاف، إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره، فبعث أبرهة من المغمس رجلا من الحبشة -يقال له : الأسود- يسوق إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير، ثم إن أبرهة بعث بحناطة الحميري إلى أهل مكة، فقال : اسأل عن شريفها، ثم أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب، وقال له ما قال أبرهة، فقال عبد المطلب : ماله عندنا قتال، فنخلي به وبين ما جاء به، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت الخليل عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوة، فقدم عبد المطلب العسكر لطلب إبله، وكان ذو نفر صديقاً فأتاه، فقال له ذو نفر : إني رجل أسير، ولكن سأبعثك إلى أنيس سائس الفيل، فإنه لي صديق. قال ذو نفر لأنيس : هذا سيد القريش، وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل الوحوش في الجبال، ليستأذن عليك، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره، وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه فأجلسه معه، وقال لترجمانه : قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال عبد المطلب : حاجتي مائتي بعير. فقال أبرهة : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه، لم لا تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير أصابتها ؟ فقال عبد المطلب : أنا رب هذه الإبل، وإن لهذا البيت رباً سيمنعه، قال : ما كان ليمنعه مني فأمر بإبله فردت عليه، وجاء عبد المطلب وأخبر قريشا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، ويتحرزوا في رؤوس الجبال تخوفاً عليهم من معرفة الحبش ففعلوا، وأتى عبد المطلب الكعبة، وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :
يا رب لا أرجو لهم سواك يا رب فامنع منهم حماك
إن عدو البيت من عداك امنعهم أن يخربوا قراك
وقال أيضا :
لا هم إن العبد يمن ع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصليب وعابد له اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم وعدو محالك
جروا هموع بلادهم والفيل كي يسبو عيالك
جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تراكهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك
ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول، وهيأ جيشه وهيأ فيله، وكان فيلاً لم ير مثله في العظمة والقوة، ويقال : كانت معه اثني عشر فيلاً، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بإذنه وقال : ابرك محمود، وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام. فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوا بالمعول رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنهم تحت مواثقه ففزعوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فصرفوه إلى الحرام فأبى أن يقوم، وخرج نفيل يشتد حتى صعد إلى الجبل، وأرسل الله عز وجل طيراً من البحر مثل الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار : حجران في رجليه، وحجر في منقاره، مثل الحمص والعدس، فلما غشين القوم أرسلناها عليهم، فلم يصب تلك الحجارة أحد إلا هلك، وليس كل القوم أصاب، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذين جاؤوا، يتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم إلى الطريق إلى اليمن، ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال، وصرخ القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون كل طريق، ويهلكون على كل منهل ما كان على الطريق، وبعث الله إلى أبرهة داء في جسده فجعل يتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره من قبله ثم هلك، قال الواقدي : وأما محمود فيل النجاشي فركض ولم يشجع على الحرم فنجا، والفيل الآخر شجع فضرب، أي رمي بالحصاء.
وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرى أصحاب الفيل أن فئة من قريش خرجوا تجاراً إلى أرض النجاشي فدنوا من ساحل البحر ثم بيعة النصارى، تسميها قريش الهيكل، فنزلوا فأحجوا نارا فاشتروا، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فهبت الريح فاضطرم الهيكل نارا، فانطلق الصريح إلى النجاشي فأسف غضبا للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة، وقال : إنه كان بمكة يومئذ سعيد الثقفي، وكان مكفوف البصر، يصيف بالطائف ويشتوا بمكة، وكان رجلا نبيها ونبيلا يستقسم الأمور برأيه، وكان خليل عبد المطلب، فقال له عبد المطلب : ماذا عندك، هذا يوم يستغني فيه من رأيك ؟ فقال أبو مسعود : اصعد بنا إلى حراء، وصعدا الجبل، فقال أبو مسعود لعبد المطلب : اعمد إلى مائة إبل فاجعلها لله، وقلدها نعلا، ثم ابعثها في الحرم، لعل بعض هذا السودان يعقر منها فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم، ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها، وجعل عبد المطلب يدعو. فقال أبو مسعود : إن لهذا البيت رباً يمنعه، وقد نزل تبع ملك من اليمن صحن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله، وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض، وعظمه، ونحر له الجزور، فنظر أبو مسعود إلى البحر فرأى شيئا، فقال لعبد المطلب : انظر نحو البحر، فنظر عبد المطلب فقال : أرى طيرا بيضا نشأت من شاطئ البحر، فقال : ارفعها ببصرك أين قرارها ؟ فدارت على رؤوسنا. قال : هل تعرفها ؟ قال : والله ما أعرفها، ما هي بنجدية ولا تهامية ولا عربية ولا شامية، قال : ما قدرها ؟ قال : أشباه اليعاسيب، في منقارها حصى كأنها حصى الحذف، قد أقبلت كالليل، يتبع أمام كل فرقة طير يقودها أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق، فجاءت حتى حاذت بعسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم، فلما توافقت الرجال كلها أهالت الطير ما في مناقيرها على ما تحتها، مكتوب في كل حجر اسم صاحبه، ثم إنها انضاغت راجعة من حيث جاءت، فلما أصبحا تحطا من ذروة الجبل، فمشيا ربوة فلم يؤنسا أحدا، ثم أتيا ربوة فلم يسمعا حساً، فقال : بات القوم خامدين فأصبحوا نياما، فلما دنوا عن عسكر القوم فإذا هم خامدون، فكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فعمد عبد المطلب فأخذ فأساً من فؤوسهم فحفر حتى أعمق من الأرض، فملأه من الذهب الأحمر والجوهر، وحفر لصاحبه فملأه، ثم قال لأبي مسعود : هات خاتمك فاختر إن شئت حفرتي، وإن شئت حفرتك، وإن شئت فهما لك معا، قال أبو مسعود : اختر لي على نفسك. قال عبد المطلب : إني لم آل أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك، وجلس كل منها على حفرته، ونادى عبد المطلب في الناس فراجعوا وأصابوا من فضلهما، حتى ضاقوا به ذرعا، وساد عبد المطلب وأبو مسعود في أهلهما في غناء من ذلك المال، ودفع الله عن الكعبة.
﴿ ألم يجعل ﴾ استفهام للإنكار مثل ألم تر ﴿ كيدهم ﴾ مكرهم وسعيهم في تخريب البيت ﴿ في تضليل ﴾ تضيع وإبطال.
﴿ وأرسل ﴾ عطف على مضمون ألم يجعل، أي جعل ﴿ عليهم طيرا أبابيل ﴾ صفة طير، أي كثيرة متفرقة تبع بعض جماعة أخرى، يقال : جاءت الخيل أبابيل من ها هنا ومن ها هنا، جمع أبالة، وهي الحزمة الكبيرة، شبهت الجماعة من الطير في تضامنها، كذا قال أبو عبيد، وقال الفراء : لا واحد لها من لفظها، وقال الكسائي : جمع أبول، مثل عجول وعجاجيل، وقيل : جمع إبل.
﴿ ترميهم ﴾ أي أصحاب الفيل، صفة أخرى للطير ﴿ بحجارة ﴾ كائنة ﴿ من سجّيل ﴾ من طين متحجر معرب. وقيل : مشتق من السجل وهو الدلو الكبير، أو الإسجال وهو الإرسال، أو من السجل ومعناه من الجملة العذاب المكتوب لأجلهم، قال ابن عباس : طيرا لها خراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب، قال عكرمة : لها رؤوس كرؤوس السباع، وقال الربيع : لها أنياب كأنياب السبع، وقال سعيد بن جبير : طير خضر لها مناقير صفر، وقال قتادة : طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا، قال ابن مسعود : صاحت الطير ورمتهم بالحجارة، وبعث الله له ريحا فضربت الحجارة فزادته شدة، فما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع في رأسه خرج من دبره.
﴿ فجعلهم ﴾ عطف على أرسل ﴿ كعصف مأكول ﴾ مفعول ثان لجعل، أي جعلهم كزرع وتبن أكلته الدواب فراثه، وتفرقت أجزاؤه. شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث. وقال مجاهد : العصف ورق الحنطة، وقال قتادة : هو التبن، وقال ابن عباس : هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف. ومعنى مأكول : يعني أكلته الدواب. والله تعالى أعلم.
Icon