تفسير سورة لقمان

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

هذه السورةُ آياتُ الكتابِ الحكيم الذي وعدَكَ اللهُ أن يُنْزِلَهُ عليكَ. وانتصبَ ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً ﴾ على الحالِ. وقرأ حمزةُ بالرفعِ على الابتداء، وَقِيْلَ: على إضمار هُوَ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (مَعْنَى الآيةِ: هُدًى مِنَ الضَّلاَلَةِ وَرَحْمَةً مِنَ الْعَذَابِ لِلمُوَحِّدِيْنَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) وما بعدَ هذا قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾؛ نزلت هذه الآيةُ وما بعدَها في النَّضرِ بن الحارثِ، كان اشترَى كُتباً فيها أخبارُ الأعاجمِ، ويحدِّثُ بها أهلَ مكَّة، ويتمَلَّقُ بها في المجالسِ، ويقولُ: إنَّ مُحَمَّداً يحدِّثُكم أحاديثَ عادٍ وثَمودَ، وأنا أُحدِّثُكم أحاديثَ فارس والروم، وأقرأُ عليكم كما مُحَمَّدٌ يقرأ عليكم أساطيرَ الأوَّلين هو يأتِيكم بكتابٍ فيه قصصُ الأممِ الماضيةِ، وأنا أتيتُ بمثلهِ! وكانوا يستَمْلِحُون حديثَهُ، وكان إذا سَمِعَ شيئاً من القُرْآنِ يهزأُ به ويُعرِضُ عنهُ. فذلكَ قولهُ: ﴿ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾؛ أي ليصرِفَ الناسَ عن دِين الله بلا علمٍ، ومن قرأ (لِيَضِلَّ) بفتحِ الياء، فمعناهُ: ليتَشَاغَلَ بما يُلهِيهِ، وليصير أمرهُ إلى الضَّلال والباطلِ. ومعنى قولهِ تعالى ﴿ لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ ﴾ أي باطلُ الحديثِ، هذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل، وَقِيِْلَ: المرادُ بلَهْوِ الحديثِ الغناءُ، وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لاَ يَحِلُّ تَعْلِيْمُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلاَ بَيْعُهُنَّ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ؛ مَا رَفَعَ رَجُلٌ قًطُّ عَقِيْرَتَهُ يَتَغَنَّى إلاَّ ارْتَدَفَهُ شَيْطَانَانِ يَضْرِبَانِ بأَرْجُلِهِمَا عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرهِ حَتَّى يَسْكُتَ "، وهذا قولُ سعيدِ بن جُبير ومجاهد وابنِ مسعودٍ، قالوا: (هُوَ وَاللهِ الْغِنَاءُ، وَاشْتِرَاءُ الْمُغَنِّيَةِ وَالْمُغَنِّي بالْمَالِ). وقال صلى الله عليه وسلم:" " مَنْ مَلأَ مَسَامِعَهُ مِنْ غِنَاءٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أنْ يَسْمَعَ أصْوَاتَ الرُّوحَانِيِّيْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قِيْلَ: وَمَا الرُّوحَانِيُّونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " أهْلُ الْجَنَّةِ " "، وعن إبراهيمَ النخعيِّ أنه قالَ: (الْغِنَاءُ يُنْبتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْب) وقال مكحولُ: (مَنِ اشْتَرَى جَاريَةً ضَرَّابَةً لِيُمْسِكَهَا لِغِنَائِهَا وَضَرْبها مُقِيْماً عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي أنه جاهلٌ فيما يفعلُ، لا يفعلهُ عن عِلْمٍ.
﴿ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً ﴾ بالرفعِ عطفاً على ﴿ مَن يَشْتَرِي ﴾، وبالنصب عَطفاً على ﴿ لِيُضِلَّ ﴾، والكتابةُ المذكورة تعودُ إمَّا إلى الآياتِ المذكورةِ في أوَّل السورةِ، وإما إلى (سَبيْلِ اللهِ)، والسبيلُ يُؤَنَّثُ لقولهِ﴿ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ ﴾[يوسف: ١٠٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً ﴾؛ أي أعرَضَ عن قَبولِها متَعظِّماً عنِ الإيْمان بها.
﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِيۤ أُذُنَيْهِ وَقْراً ﴾؛ أي ثُقْلاً يَمنعهُ عن السَّماعِ.
﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾؛ وَجِيْعٍ في الدُّنيا قبل أن يَصِلَ إلى الآخرةِ، وهو ما رُوي: (أنَّهُ أُخِذَ أسِيْراً يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ صَبْراً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلنَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ ظاهرُ المعنَى.
قولهُ تعالى: ﴿ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾؛ أي جِبَالاً ثُم أُرْسِيَتِ أوتادٌ لَها لِئَلاَّ تَميدَ بأهلِها.
﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ﴾؛ أي فرَّقَ الدوابَّ الكثيرةَ في الأرضِ.
﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾؛ يعني المطرَ.
﴿ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾؛ أي مِن كلِّ نوعٍ حسَنٍ.
قولهُ تعالَى: ﴿ هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ ﴾؛ أي هذا الذي ذكرتُ لكم مما تُعاينُونَ خَلْقُ اللهِ.
﴿ فَأَرُونِي ﴾؛ أيُّها الكفارُ.
﴿ مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ ﴾؛ أيُّ شيءٍ خَلَقَهُ الذي تعبدونَ مِن دونهِ، فلم تَجِدُوا شَيئاً يشيرونَ إليهِ من خَلْقِ غيرهِ، ولَم يقدِرُوا على جواب هذا الكلامِ، فقِيْلَ: ﴿ بَلِ ٱلظَّالِمُونَ ﴾؛ أي الكافِرون.
﴿ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ ﴾؛ يعني العقلَ والعلم والعملَ به، والإصابةَ في الأمور. واتَّفقَ العلماءُ على أن لُقْمَانَ حكيماً، ولَم يكن نَبيّاً إلاّ عكرمةُ وحدَهُ فإنه قال: (كَانَ لُقْمَانُ نَبيّاً)، وقال بعضُهم: خُيِّرَ لقمانُ بين النبوَّة والحكمةِ فاختارَ الحكمةَ!وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:" حَقّاً أقُولُهُ: لَمْ يَكُنْ لُقْمَانُ نَبيّاً، وَلَكِنْ عَبْداً صَمْصَامَةً، كَثِيْرَ التَّفَكُّرِ، حَسَنَ الْيَقِيْنِ، أحَبَّ اللهَ فَأَحَبَّهُ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بالْحِكْمَةِ "ورويَ أنه كان تَتَلْمَذَ لألفِ نبيٍّ عليهم السَّلام. واختَلفُوا في حِرفتهِ، فقالَ الأكثرُون: كان نَجَّاراً، ويقالُ: كان خيَّاطاً، ويقالُ: كان رَاعياً، ويروى: كان عَبْداً حَبَشِيّاً غليظَ الشَّفتين مشقوقَ الرِّجلين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مَرَّ رَجُلٌ بلُقْمَانَ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ حَوْلَهُ وَهُوَ يَعِظُهُمْ، فَقَالَ: ألَسْتَ الْعَبْدَ الأَسْوَدَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا بَلَغَ بكَ إلَى مَا أرَى؟ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيْثِ؛ وَأدَاءُ الأَمَانَةِ؛ وَتَرْكُ مَا لاَ يَعْنِيْنِي). وعن أنسٍ: (أنَّ لُقْمَانَ كَانَ عَبْدَ دَاوُدَ عليه السلام وَهُوَ يَسْرِدُ دِرْعاً، فجَعَلَ لُقْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِمَّا يَرَى، وَيُرِيْدُ أنْ يَسْأَلَهُ فَمَنَعَتْهُ حِكْمَتُهُ مِنَ السُّؤَالِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا، جَعَلَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ: نِعْمَ دِرْعُ الْحَرْب هَذَا وَنِعْمَ حَامِلُهُ، فَقَالَ لُقْمَانُ: الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيْلٌ فَاعِلُهُ). وقال عكرمةُ: (كَانَ لُقْمَانُ مِنْ أهْوَنِ مَمَالِيْكِ سَيِّدِهِ، فَبَعَثَ مَوْلاَهُ مَعَ عَبيْدٍ لَهُ إلَى بُسْتَانٍ لِمَوْلاَهُمْ يَأْتُونَهُ مِنْ ثَمَرِهِ، فَجَاءُوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، وَقَدْ أكَلُواْ الثَّمَرَةَ، وَأحَالُواْ عَلَى لُقْمَانَ بذَلِكَ! فَقَالَ لُقْمَانُ لِمَوْلاَهُ: إنَّ ذَا الْوَجْهَيْنِ لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللهِ أمِيْناً، فَاسْقِنِي وَإيَّاهُمْ مَاءً حَمِيْماً، فَسَقَاهُمْ فَجَعَلُواْ يَتَقَيَّؤُن الْفَاكِهَةَ، وَجَعَلَ لُقْمَانُ يَتَقَيَّأُ مَاءً بَحْتاً، فَعَرَفَ صِدْقَهُ وَكَذِبَهُمْ). قال: (وَأَوَّلُ مَا رُويَ مِنْ حِكْمَتِهِ أنَّهُ جَاءَ مَعَ مَوْلاَهُ فَدَخَلَ الْمَخْدَعَ، فَأَطَالَ الْجُلُوسَ فِيْهِ، فَنَادَاهُ لُقْمَانُ: إنَّ طُولَ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَاجَةِ يَتَجَمَّعُ مِنْهُ الْكَدَرُ، وَيُورثُ الْبَاسُورَ، وَتَصْعَدُ الْحَرَارَةُ إلَى الرَّأسِ، فَاجْلُسْ هُوَيْناً وَقُمْ هُوَيْناً، قَالَ: فَخَرَجَ وَكَتَبَ حِكْمَتَهُ عَلَى بَاب الْحَشِّ). ومعنى الآية ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ﴾ عِلْمَ التوحيدِ والمواعظِ والفقهِ والعقل والإصابة في القولِ، وألْهَمناهُ أن يشكرَ اللهَ على ما أعطاهُ من الحكمةِ. ومعنى قولهِ: ﴿ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ ﴾؛ أي قُلنا له: اشْكُرِ اللهَ فيما أعطاكَ من الحكمةِ.
﴿ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾؛ أي مَن يشكرُ نِعَمَ اللهِ فإن منفعةَ شُكرهِ راجعةٌ إلى نفسهِ.
﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾؛ فلم يُوَحِّدْ.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ ﴾؛ عن شُكرهِ.
﴿ حَمِيدٌ ﴾؛ يحمَدهُ الشاكرُ ويثبته على شُكرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ﴾؛ أي واذْكُرْ: إذْ قَالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: ﴿ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ﴾؛ أحَداً في العبادةِ.
﴿ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾؛ عندَ اللهِ؛ أي ليس مِن الذُّنوب شيءٌ أعظمُ من الشِّرك باللهِ؛ لأنَّ الله تعالى هو الحيُّ المميتُ الخالق الرازقُ، فإذا أشركتَ به أحداً غيرَهُ فقد جعلتَ النعمةَ لغير ربها، وذلك من أعظمِ الظُّلمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ﴾؛ نزل في سَعدِ بن أبي وقَّاص؛ لَمَّا آمَنَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَتْ أُمُّهُ لاَ تَذُوقُ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً وَلاَ يُظِلُّهَا شَيْءٌ حَتَّى يَرْجِعَ سَعْدُ إلَى دِينْهِ، فَمََضَتْ عَلَى هَذَا أيَّاماً، فَبَلَغَ مِنْ أمْرِهَا إلَى أنْ تَدَاخَلَ بَعْضُ أسْنَانِهَا فِي بَعْضٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: (لَوْ كَانَ لَهَا سَبْعُونَ نَفْساً فَخَرَجَتْ مَا ارْتَدَدْتُ عَنِ الإسْلاَمِ) فَفَتَحَ فَاهَا وَصَبَّ فِيْهِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ. ومعنى ﴿ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ ﴾ أي أمرناهُ ببرِّ والدَيه عطفاً عليهما. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ ﴾؛ أي ضَعْفاً على ضعفٍ، ومشقَّةً على مشقةٍ، كلَّما ازدادَ الولدُ في الرَّحمِ كِبر، ازدادت الأمُّ ضَعفاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾؛ أي وفِطَامُهُ في انقضاءِ عامَين، وقدَّرَهُ بعامين بناءً على الأغلب، ولأنَّ الرَّضاع لا يستحقُّ بعد هذه المدَّة. والفِصَالُ هو الفِطَامُ، وهو أن يُفْصَلَ الولدُ عن الأمِّ كي لا يرضع. والمعنى بهذا ذكرُ مشقَّة الوالدةِ بإرضاعِ الولد عامَين. ورُوي عن يعقوب: (وَفَصْلُهُ فِي عَامَيْنِ) بغير ألفٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾؛ أي قُلنا له اشكُرْ لِي على خلْقِي إياكَ، وعلى إنعامِي عليكَ، واشكُرْ لوالديكَ على تربيَتهما إياكَ. وقال مقاتلُ: (اشْكُرْ لِي إذْ هَدَيْتُكَ للإسْلاَمِ، وَلِوَالِدَيْكَ بمَا أوْلَيَاكَ مِنَ النِّعَمِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ أي مصيرُكَ ومصيرُ والدَيك، وعن سُفيان بن عُيينةَ في قولهِ: ﴿ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ قال: (مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَدْ شَكَرَ اللهَ، وَمَنْ دَعَا لِلْوَالِدَيْنِ فِي إدْبَار الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَ لِلْوَالِدَيْنِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ﴾؛ أي أجْهَدَا عليكَ لتُشرَكَ بي جَهلاً بغيرِ علمٍ فَلاَ تُطِعْهُمَا، فإنَّ حقَّهما وإنْ عَظُمَ فليس بأعظمَ من حقِّي. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾؛ قال صلى الله عليه وسلم:" حُسْنُ الْمُصَاحَبَةِ أنْ تُطْعِمْهُمَا إذَا جَاعَا، وَتَكْسُوهُمَا إذَا عَرِيَا، وَعَاشِرْهُمَا عِشْرَةً جَمِيْلَةً "﴿ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾؛ أي واتَّبع طريقَ مَن رجعَ إلَيَّ؛ أي مَنْ سَلَكَ طريقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ. والمعنى: واتَّبعِ دِينَ من أقبل إلى طَاعَتِي وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم. وقال عطاءُ عن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: (يَعْنِي أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ رضي الله عنه أنَّهُ حِيْنَ أتَاهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ وَسَعِيْدُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَقَالُواْ: يَا أبَا بَكْرٍ آمَنْتَ وَصَدَّقْتَ مُحَمَّداً؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَتَواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَآمَنُواْ بهِ وَصَدَّقُواْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ لِسَعْدٍ: (وَاتَّبعْ سَبيْلَ مَنْ أنَابَ إلَيَّ) يَعْنِي أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ رضي الله عنه). ويستدلُّ مِن قولهِ تعالى ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾ على أنَّ الابنَ لا يستحقُّ القَوَدَ على أبيهِ، ولا يُحَدُّ الأبُ بقَذفَةِ الابنِ، ولا يحبسُ الأبُ بدَينِ الابنِ، لأن في إيجاب القَوَدِ والحدِّ والحبسِ له عليه ما يُنافِي مُصَاحبتَهما. وعن أبي يوسفَ: (أنَّ الْقَاضِي يَأْمُرُ الأبَ بقَضَاءِ دَيْنِ الابْنِ، فَإنْ تَمَرَّدَ حَبَسَهُ لاسْتِخْفَافِ أمْرِهِ) وقال محمَّدُ بن الحسنِ: (يُحْبَسُ الأَبُ فِي نَفَقَةِ الابْنِ الصَّغِيْرِ، وَلاَ يُحْبَسُ بالدِّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ؛ لأنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْبَسْ فِي نَفَقَةِ الصَّغِيْرِ لَتَضَرَّرَ الْوَلَدُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾؛ أي مرجِعُكم ومرجعُ آبائِكم.
﴿ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ من الخيرِ والشرِّ. وقد تضمَّنت هذه الآيةُ النَّهيَ عن صُحبة الكفَّار والفُسَّاقِ، والترغيبَ في صُحبةِ الصالِحين لقولهِ تعالى ﴿ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ ﴾؛ وذلك أنَّ ابنَ لُقمان سألَ أباهُ فقالَ: أرأيتَ الحبَّة التي تكون في قَعْرِ البحار؛ أيعلَمُها اللهُ؟ فأعلَمَهُ أنَّ الله يعلمُ الحبَّة أينما كانت. وَقِيْلَ: إنَّ ابنَ لُقمان قال لأبيهِ: يا أبَتِ! إنْ عَمِلْتُ بالْخَطِيْئَةِ حيثُ لا يَرانِي أحدٌ، كيف يعلَمُها اللهُ؟ فقال لُقمان لابنهِ: ﴿ إِنَّهَآ إِن تَكُ ﴾ يعني إنَّ المعصيةَ إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكون في صَخرَةٍ التي تحتَ الأرضين السَّبع أو في السَّماوات أو في الأرضِ يأتِ بها اللهُ للجزاءِ عليها. ومَن قرأ برفعِ (مِثْقَالُ) فتقديرهُ: أن تَقَعَ مثقالُ حبَّة. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾؛ أي قَادِرٌ على الإتيانِ بها، خَبيرٌ بموضِعها، يُوصِلُها إلى صاحبها حيث كانَ. واللَّطِيْفُ: العالِمُ بكلِّ دقيقٍ وجليل. ومعنى الآيةِ: أن اللهَ تعالى ضَرَبَ هذا مَثلاً لأعمالِ العبادِ، يعني أنه يأتِي بأعمالِهم يومَ القيامةِ، وإنْ كان العملُ الصالح في الصِّغَرِ بوزنِ حبَّة مِن خردلٍ، فاللهُ تعالى يحفظهُ ولا يخفَى عليه مكانهُ حتى يجازيه عليهِ، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾[الزلزلة: ٧-٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ ﴾؛ أي أقِمِ الصَّلاةَ التي افترضَها اللهُ عليكَ، وأمُرْ بالطاعةِ وَانْهَ عن المعصيةِ.
﴿ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ ﴾؛ من الأذِيَّةِ في الأمرِ بالمعروف والنَّهيِ عن المنكرِ، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ ﴾؛ أي الصَّبْرُ على ما أصابَكَ في ذات اللهِ مِن الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر مِن عِظَامِ الأُمور. وَقِيْلَ: مِن حقِّ الأُمور التي أمرَ اللهُ بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾؛ قرأ نافعُ وأبو عمرو وحمزةُ والكسائي وخلف (تُصَاعِرْ) بالألفِ، وقرأ الباقونَ (تُصَعِّرْ) بغيرِ ألف. قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: لاَ تَتَكَبَّرْ فَتَحْقِرُكَ النَّاسُ، وَلاَ تُعْرِضْ عَنْهُمْ بوَجْهِكَ إذَا كَلَّمُوكَ)، يقالُ: صَعِّرَ خَدُّكَ وَصَاعَرَ، إذا مَالَ وأعرضَ تكبُّراً. والمعنى: لا تَتَعَظَّمْ على خلقِ الله، ولا تُعرِضْ عنِ الناسِ تكبُّراً عليهم، بل يكونُ الفقيرُ والغنيُّ عندَكَ سواءٌ، ولا تَعْبَسْ في وجهِ أحدٍ مِن الناسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً ﴾؛ أي ولا تَمْشِ في الأرضِ بالإعجَاب والبَطَرِ وَازْدِرَاءِ الناسِ، قال الحسنُ: (أنَّى لابْنِ آدَمَ الْكِبَرُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ؟!). وروي: أنَّ الْمُهَلَّبَ بْنَ أبي صُفْرَةَ مَرَّ عَلَى مُطَّرِفِ بْنِ عَبْدِاللهِ وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي جُبَّةِ خَزٍّ، فَقَالَ: (هَذِهِ مِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللهُ وَرَسُولُهُ) فَقَالَ لَهُ الْمُهَلَّبُ: مَا تَعْرِفُنِي؟! قَالَ: (بَلَى؛ أعْرِفُكَ، أوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُكَ جِيْفَةٌ قَذِرَةٌ، وَتُحْمَلُ بَيْنَ الْعُذْرَةِ) فَمَضَى الْمُهَلَّبُ وَتَرَكَ مِشْيَتَهُ تِلْكَ. وروي: أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ خَرَجَ يَوْماً يَتَمَشَّى، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: (مَنْ هَذَا؟!) قَالُواْ: هَذَا وَلَدُكَ عَبْدُاللهِ، قَالَ: ادْعُوهُ، فَجَاؤُا بهِ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: (يَا بُنَيَّ! أتَدْري بكَمِ اشْتَرَيْتُ أُمَّكَ؟ اشْتَرَيْتُهَا بثَلاَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأبُوكَ لاَ كَثَّرَ اللهُ مِنْ مِثْلِهِ فِي النَّاسِ، أتَمْشِي هَذِهِ الْمِشْيَةَ؟!). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾؛ الاخْتِيَالُ: هو التَّبَخْتُرُ في المشيِ، والفَخُورُ: هو الْمُتَطَاولُ بذِكْرِ المناقب على السَّامعِ والافتخار عليه، وذلك مذمومٌ لأن المستحقَّ على نِعَمِ اللهِ شُكراً لا الْفِخْرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾؛ أي تَوَاضَع ولا تتبختَر، وليكن مشيُكَ قَصْداً لا تبختُراً ولا إسراعاً. قال صلى الله عليه وسلم:" سُرْعَةُ الْمَشْيِ تَذْهَبُ بَهَاءَ الْمُؤْمِنِ "يقالُ: قَصَدَ فلانٌ في مشيتهِ إذا مشَى مُستوِياً، وقال مقاتلُ: (لاَ تَخْتَلْ فِي مِشْيَتِكَ)، وقال عطاءُ: (قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾ أيْ امْشِ بالْوَقَارِ وَالسَّكِيْنَةِ) كقولهِ تعالى:﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً ﴾[الفرقان: ٦٣]، والمعنى: اقصِدْ في الْمَشْيِ، لا تعجَلْ ولا تَمشِ بالْهُوَيْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ﴾؛ أي اخفِضْ صوتَكَ ولا ترفعْهُ على وجهِ انتهار النَّاس وإظهار الاستخفافِ بهم، وقال عطاءُ: (مَعْنَاهُ: اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إذَا دَعَوْتَ وَنَاجَيْتَ رَبَّكَ)، وكذلك وصيَّةُ الله تعالى في الإنجيلِ لعِيسَى عليه السلام: مُرْ عِبَادِي يَخْفِضُوا أصْوَاتَهُم إذا دَعَونِي، فإنِّي أسمعُ وأعلَمُ ما في قلوبهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ ﴾؛ أي أقبحُ الأصواتِ صوتُ الحميرِ؛ لأن أوَّلَهُ زفيرٌ وآخرهُ شهيقٌ. قال ابن زيدٍ: (لَوْ كَانَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ خَيْراً مَا جَعَلَهُ اللهُ لِلْحَمِيْرِ)، وعن أُمِّ سعدٍ قالت: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْغَضُ ثَلاَثَةَ أصْوَاتٍ: نَهِيْقُ الْحِمَار، وَنُبَاحُ الْكَلْب، وَالدَّاعِيَةُ بالْوَيْلِ وَالْحَرْب "وقال سُفيان: (صِيَاحُ كُلِّ شَيْءٍ تَسْبيحُهُ اللهَ إلاَّ الْحِمَارُ فَإنَّهُ يَنْهَقُ بلاَ فَائِدَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي ألَمْ تَرَوا أنَّ اللهَ خَلَقَ وذَلَّلَ لِمنافعِكم ولِمصَالحِكم ما في السَّماواتِ من الشَّمسِ والقمر والنجومِ والسَّحاب والمطَرِ، وفي الأرضِ من الأشجارِ والأنْهَارِ والبحارِ والدَّواب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾؛ أي أتَمَّ عليكم ووسَّعَ لكم نِعَمَهُ (ظَاهِرَةً) من الْخَلْقِ الحسنِ وسلامةِ الأعضاء الظاهرة، (وبَاطِنَةً) من العقلِ والفهمِ والفطنة والمعرفةِ بالله. وَقِيْلَ: النعمةُ الظاهرة هي الإسلامُ، والباطنةُ ما يخفَى من الذُّنوب ويُسْتَرُ من العوراتِ. وَقِيْلَ: الظاهرةُ ما يعلمُ الناس من حسنَاتِكَ، والباطنةُ ما لا يعلمون من السيِّئات. وقال الضحَّاك: (الظَّاهِرَةُ: حُسْنُ الصُّورَةِ وَامْتِدَادُ الْقَامَةِ وَتَسْوِيَةُ الأَعْضَاءِ، وَالْبَاطِنَةُ الْمَعْرِفَةُ). وَقِيْلَ: الظاهرةُ الإسلامُ وما أفْضَلَ عليكَ من الرِّزق، والباطنةُ ما سَتَرَ من سوءِ عمَلِكَ. وَقِيْلَ: الظاهرةُ نِعْمُ الدُّنيا، والباطنةُ نِعَمُ العُقبَى. وَقِيْلَ: الظاهرةُ تسويةُ الظواهرِ، والباطنةُ تصفيةُ السرائرِ. وَقِيْلَ: الظاهرةُ الرِّزْقُ الذي يكتسبُ، والباطنةُ الرزقُ مِن حيث لا تحتسبُ. وَقِيْلَ: الظاهرةُ المدخل للغداءِ، والباطنة المخرجُ للأذَى. وَقِيْلَ: الظاهرةُ نِعْمَةٌ عليكَ بعد ما خرجتَ من بطنِ أُمِّكَ، والباطنةُ نعمةٌ عليك وأنتَ في بطنِ أُمِّكَ. وَقِيْلَ: الظاهرةُ ألوانُ العطََايَا، والباطنةُ غفرانُ الخطايَا. وَقِيْلَ: الظاهرةُ المالُ والأولاد، والباطنة الْهُدَى والإرشادُ. وَقِيْلَ: الظاهرة التوفيق للعبادات، والباطنةُ الإخلاصُ من الْمُرَاءَاتِ. وَقِيْلَ: الظاهرةُ ما أعطى من النَّعماءِ، والباطنة ما زوى من أنواعِ البلاء. وَقِيْلَ: الظاهرةُ إنزالُ القَطْرِ والأمطارِ، والباطنةُ إحياءُ الأقطار والأنصار. وَقِيْلَ: الظاهرةُ ذِكْرُ اللسانِ، والباطنةُ ذكر الجِنَانِ. وَقِيْلَ: الظاهرةُ ضياءُ النَّهار، والباطنةُ ظلمة الليلِ للسُّكون والقرار. ومَن قرأ (نِعْمَةً) على التوحيدِ فهي واحدةُ تُبنَى على الجميعِ، كما في قولهِ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾[إبراهيم: ٣٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾؛ يعني النَّضْرَ بن الحارثِ يخاصمُ في آياتِ الله وفي صفاتهِ جَهْلاً بغير علمٍ ولا حجَّة.
﴿ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾؛ وقد تقدَّم تفسيرهُ في سُورةِ الحجِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي اعْمَلُوا بما أنزلَ اللهُ.
﴿ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا ﴾؛ قالوا بل نعملُ بما وجدنا عليه آباءَنا، وقد تقدَّم تفسيرُ ذلك في سُورة البقرةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ ﴾؛ فيتَّبعونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ ﴾؛ أي مَن يُخْلِصُ طاعتَهُ للهِ وهو محسنٌ فيها فيفعَلُها على موجب الشَّريعة فقد أخذَ بالأمرِ الأوثقِ.
﴿ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَاقِبَةُ ﴾؛ تَرْجِعُ خواتِمُ ﴿ ٱلأَمُورِ ﴾؛ كلِّها، فيجزِي كلَّ عاملٍ بما عَمِلَ. قرأ السُلَمِيُّ: (وَمَنْ يُسْلِّمْ) بالتَّشديدِ. ومعنى قولهِ تعالى ﴿ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ ﴾ أي اعَتْصَمَ بالطَّرَفِ الأوثقِ الذي لا يخافُ انقطاعَهُ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (هُوَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ ﴾؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُحْزِنُهُ كفرُهم مخافةَ أن يكون ذلك لتقصيرٍ من جهتهِ، فَأَمَّنَهُ اللهُ مِن ذلكَ، والمعنى: مَن كَفَرَ فلا تَهْتَمَّ لكُفرهِ، فإنَّ رجوعَهم إلينا وحِسابُهم علينا، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوۤاْ ﴾؛ أي نُخبرُهم بقبائحِ أعمالِهم في الدُّنيا، ونجزيهم عليها.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾؛ أي عليمٌ بما في القلوب من خيرٍ وشرٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ﴾؛ أن نُمهِلُهم في الدُّنيا يَسِيراً.
﴿ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾؛ أي ثُم نُجَلِّيهِمْ في الآخرةِ إلى عذابٍ شديدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:" وَذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، أتَتْهُ أخْبَارُ الْيَهُودِ فَقَالُواْ: بَلَغَنَا أنَّكَ قُلْتَ: ﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أعَنَيْتَنَا أمْ عَنَيْتَ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ: " بَلْ عَنَيْتُ الْجَمِيْعَ " فَقَالُواْ: ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللهَ أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى وَفِيْهَا أنْبَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَدْ خَلَّفَهَا فِيْنَا فَهِيَ مَعَنَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " التَّوْرَاةُ وَمَا فِيْهَا مِنَ الأَنْبَاءِ قَلِيْلٌ فِي عِلْمِ اللهِ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ". والمعنى: لو جُعِلَ ما في الدُّنيا من الأشجار أقلاماً يكتبُ بها، وصارَتِ الجنُّ والإنسُ كُتَّاباً، والبحارَ مِدَاداً يَمدُّها من بعدِها سبعةَ أبْحُرٍ؛ أي سبعةَ أمثالِ بحرِ الدُّنيا، وكتبَ بها كلماتِ الله وحِكَمَهُ، لانكسرَتِ الأقلامُ، وأُعيَتِ الإنسُ والجنُّ، وَفَنِيَتِ البحارُ قبل أن ينقطعَ كلامُ اللهِ وحِكَمُهُ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾؛ أي عَزِيزٌ في سُلطانهِ ذُو حكمةٍ في قولهِ وأفعالهِ. وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ معنى (كَلِمَاتُ اللهِ) تعالى في هذه الآيةِ: مَعانِي القُرْآنِ وفوائدهِ، وقال بعضُهم: وهي نِعَمُ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ، وإن نِعَمَهُ في الآخرةِ غيرُ متناهيةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾؛ قال مقاتلُ: (قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إنَّ اللهَ خَلَقَنَا أطْوَاراً نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْماً، فَكَيْفَ يَبْعَثُنَا خَلْقاً جَدِيْداً فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ ﴾ " أيها الناسُ على اللهِ سُبحَانَهُ " في القدرة إلاّ كخلقِ نفسٍ واحدةٍ، وبعثِ نفسٍ واحدةٍ؛ ﴿ وَلاَ بَعْثُكُمْ ﴾ في قدرةِ اللهِ على بعثِ الْخَلْقِ كلِّهم (إلاّ) كقدرتهِ على بعثِ نفس واحدةٍ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾؛ لِما قالوا من أمرِ الخلقِ والبعثِ.
﴿ بَصِيرٌ ﴾؛ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ ﴾؛ أي ألَمْ تَعلَمْ أنَّ اللهَ يزيدُ من ساعاتِ اللَّيل في ساعاتِ النهار صَيفاً، ويزيدُ في ساعاتِ النَّهار في ساعاتِ الليل شتاءً.
﴿ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾؛ أي ذَلَّلهما لِمنافعِ بني آدم يَجريان إلى يومِ القيامة، ثُم يسقُطان، وينقطعُ جَريُهما.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾؛ أي خَبيْرٌ بأعمالِكم في الدُّنيا ويُجازيكم عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ﴾؛ أو لِتَعلَمُوا أنَّ عبادةَ الله حقٌّ.
﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾؛ من عباده.
﴿ ٱلْبَاطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ﴾؛ بصفاتهِ.
﴿ ٱلْكَبِيرُ ﴾؛ الذي لا شَيءَ مثلهُ في كِبريائهِ وعَظَمتِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ ﴾؛ أي ألَمْ تعلَمْ أنَّ السُّفنَ تجري في البحرِ بإنعَامِ اللهِ تعالى، لو لَم يخلُقٍ الرِّياح والماءَ على الهيئةِ التي خلَقَها الله عليها لَما جَرَتِ السُّفن على ظهرِ الماءِ.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾؛ أي لدلالات على توحيد الله.
﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾؛ أي كثيرِ الصَّبرِ على الطاعات والْمِحَنِ، شَكُوراً أي كثيرَ الشُّكر على نِعَمِ الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ أحَبَّ الْعِبَادِ إلَى اللهِ مَنْ إذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ﴾؛ أي إذَا أصابَهم في البحرِ مَوْجٌ كالجبالِ في الارتفاعِ دَعَوُا اللهَ مُخلِصِينَ له الدُّعاء.
﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ ﴾؛ من البحرِ وأهوالهِ.
﴿ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾؛ أي منهم مَن يثبتُ على ذلكَ، ومنهم مَن يجحَدُ. ثُم قال: ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ﴾؛ أي لاَ ينكِرُ دلائلَ توحيدِنا.
﴿ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ ﴾؛ أي غَدَّارٍ.
﴿ كَفُورٍ ﴾؛ أي أكثرَ الكُفْرَ بآياتِ الله ونِعَمِهِ. والْخَتْرُ في اللُّغة: أقبحُ الغَدْر. والظُّلَلُ: جمعُ ظُلَّةٍ وهي السَّحابةُ التي ترتفعُ فتغَطِّي ما تحتَها. وإنَّ هذه الآيةَ كانت سببَ إسلامِ عِكْرِمَةَ بن أبي جهلٍ، وذلك أنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، أمَّنَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إلاَّ أرْبَعَةَ نَفَرٍ، فَإنَّهُ قَالَ:" اقْتُلُوهُمْ، وَلَوْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِيْنَ بأَسْتَار الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةُ بْنُ أبي جَهْلٍ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ الأَخْطَلِ، وَمَقِيْسُ بْنُ صَبَابَةَ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدِ بنِ أبي سَرْحٍ ". فأمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ، فَأَصَابَهُمْ ريْحٌ عَاصِفٌ، فَقَالَ أهْلُ السَّفِيْنَةِ: أخْلِصُواْ فَإنَّ آلِهَتَكُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً هَا هُنَا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: (لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي فِي الْبَحْرِ إلاَّ الإخْلاَصُ مَا يُنْجِيْنِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ) ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ إنَّ لَكَ عَهْداً إنْ أنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أنَا فِيْهِ أنْ آتِيَ مُحَمَّداً حَتَّى أضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ) فَجَاءَ فَأَسْلَمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ﴾؛ أي اتَّقُوا مخافةَ ربكُم، واخشَوا عذابَ يومٍ لا يُغنِي والدٌ عن ولدهِ.
﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً ﴾؛ لاشتغالِ كلٍّ منهُم لنفسهِ. وَقِيْلَ: معنى ﴿ لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ﴾ أي لا يَحْمِلُ شيئاً من سيِّئاتهِ ولا يُعطيهِ شيئاً من طاعتهِ.
﴿ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾؛ في البعث والجزاء أي صدق كائن.
﴿ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ فلاَ تغتَرُّوا بالحياة الدُّنيا وما فيها من زينَتِها وزهرَتِها.
﴿ وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ ﴾؛ الشَّيطانُ، فإنه هو الغَرُورُ، وهو الذي مَن يشاءُ أن يُغَرَّ، وغُرُورُ الشَّيطانِ تَمْنِيَتُهُ العبدَ: فإنَّ اللهَ تعالى غَفُورٌ، فَهَوَّنَ عليه رُكوبَ المعاصِي وما يَهواهُ. ومَن قرأ (الْغُرُورُ) بضمِّ الغَينِ فهي مصدرٌ، ومعناهُ: الأبَاطِيلُ. وعن سعيدِ بنِ جُبير: (إنَّ الْغُرُورَ تَمَنِّي الْمَغْفِرَةِ مَعَ الإصْرَار عَلَى الْمَعْصِيَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾؛ نزلت هذهِ الآيةُ في الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ، أتََى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أرْضَنَا أجْدَبَتْ، فَمَتَى الْغَيْثُ؟ وَقَدْ تَرَكْتُ امْرَأتِي حُبْلَى، فَمَاذَا تَلِدُ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ بأَيِّ أرْضٍ وُلِدْتُ - أيْ عَلِمْتُ أيْنَ وُلِدْتُ - فَبأَيِّ أرْضٍ أمُوتُ، وَقَدْ عَلِمْتُ مَا عَمِلْتُ الْيَوْمَ، فَمَا أعْمَلُ غَداً؟ وَمَتَى السَّاعَةُ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. وقال صلى الله عليه وسلم:" مَفَاتِيحُ الْغَيْب خَمْسَةٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللهُ، لاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلاَّ اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إلاَّ اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا كَسْبُهُ فِي غَدٍ إلاَّ اللهُ، وَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ بأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إلاَّ اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ إلاَّ اللهُ ". يقالُ: إنَّ هذه الخمسة الأشياءٍ التي ذَكَرَها اللهُ في هذه الآيةِ هي مفاتيحُ الغَيْب لا يعلمُها إلاَّ اللهُ، استأثَرَ اللهُ بهِنَّ، فلم يُطْلِعْ عليهِنَّ مَلَكاً مُقرَّباً ولا نَبيّاً مُرسَلاً. ومعنى الآيةِ: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ﴾ قيامِ ﴿ ٱلسَّاعَةِ ﴾، فلا يدري أحدٌ سواهُ متى تقومُ، في أيِّ سَنةٍ أو في أيِّ شهرٍ، ليلاً أو نَهاراً. وقوله ﴿ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ ﴾ معناهُ: هو المختصُّ بإنزالِ الغيثِ، وهو العالِمُ بوقتِ إنزالهِ، (ويَعْلَمُ مَا فِي الأَرْضِ) أي لا يعلمُ أحدٌ ما في الأرحامِ أذكرٌ أم أُنثَى، أحمرٌ أم أسودٌ، وإنَّما يعلمهُ الله عَزَّ وَجَلَّ نطفةً وعلقة ومُضغةً، وذكراً أم أُنثى، وشقِيّاً وسَعيداً، ومتى ينفصلُ عن أُمِّهِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾ يعنِي: ماذا تكسبُ من الخيرِ والشرِّ، أي مَا تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً خَيراً أو شرّاً.
﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ أي في بَرٍّ أو بحرٍ أو سَهلٍ أو جبلٍ. قال ابنُ عبَّاس: (هَذِهِ الْخَمْسَةُ لاَ يَعْلَمُهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبيٌّ مُرْسَلٌ مُصْطَفَى، فَمَنِ ادَّعَى أنَّهُ يَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ فَقَدْ كَفَرَ بالْقُرْآنِ لأنَّهُ خَالَفَهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ ﴾؛ أي عَلِيمٌ بخَلقهِ، خَبيْرٌ بأعمالِهم وبما يصيبُهم في مستقبلِ عُمرِهم. وروي أن يهودياً كان في المدينة يحسب حساب النجوم، فقال اليهوديُّ لابن عباس: إن شئت أنبأتك عن ولدك وعن نفسك، إنك ترجع الى منزلك فتلقى إبناً لك محموماً، ولا يمكث عشرة أيام حتى يموت الولد، وأنت لا تخرج من الدنيا حتى تعمى، فقال ابن عباس: وأنت يا يهودي، قال: لا يحول عليَّ الحول حتى أموت؟ قال: فأين موتك يا يهودي؟ قال ما أدري، قال ابن عباس: صدق الله ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ قال فرجع ابن عباس فلقي إبناً له محموماً، فلما بلغ عشراً مات الصبي، ويقال عن اليهودي " أنه ماتَ قبل الحول "، وما خرج ابن عباس من الدنيا حتى كُفَّ بصره.
Icon