تفسير سورة المائدة

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ اعصمني من الزلل (١)
سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾.
العقد في اللغة معناه الجمع بين الشيئين بما يعسر انفصال أحدهما عن الآخر، كعقدة الحبل بالحبل، ثم يسمى العهد وما يؤكده الناس بينهم الأمانات والمواثيق عقدًا لإحكامه (٢).
قال أبو إسحاق: والعقود أوكد العهود، يقال: عقد فلان اليمين، إذا وَكّدها (٣).
واختلفوا في معنى العقود ههنا: فقال ابن عباس في رواية عطاء (٤)،
(١) الظاهر أن البسملة والدعاء هنا لابتداء هذا الجزء (نسخة ج) وقد صدر بـ: "الجزء الثالث من البسيط في التفسير -تأليف أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي -رحمه الله- فيه: سورة المائدة والأنعام والأعراف سبعة أحزاب" في جامعة الإمام تحت رقم ٥١٠٥/ ف له صورة ميكروفيلم.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٤٦ - ٤٧، و"تهذيب اللغة" ١/ ٢٥١١، و"الصحاح" ٢/ ٥١٠ (عقد)، و"التعريفات" ص ١٥٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٣٩.
(٤) ثبت ذلك من طريق علي بن أبي طلحة كما في "تفسير ابن عباس" ص ١٦٥، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٤٧
217
ومجاهد والربيع والضحاك والسدي: هي العهود (١).
قال ابن عباس: العقود: ما أحل الله، وما حرم الله، وما فرض الله، وما حدّ في القرآن كله (٢).
فعلى هذا العقود جمع العقد بمعنى المَعْقُود، وهو الذي أحكم، وما فرضه الله علينا فقد أحكم ذلك ولا سبيل إلى نَقْضِه بِحَال. وهذا رواية أبي الجوزاء (٣) عن ابن عباس (٤).
وقال الكلبي: يقول: أتموا الفرائض ما افترض الله على العباد مما أحل لهم وحرم عليهم، والعهود التي بينكم وبين الناس (٥).
والعهود تسمى عقودًا؛ لأنك تقول: عهدت إلى فلان كذا وكذا، تأويله ألزمته، كذا (٦) باستيثاق كما يعقد الشيء (٧).
والعقود التي بين الناس على ضربين: لازمة، وجائزة.
واللازمة كالنكاح والبيع والإجارة (٨)، فهذه يجب الوفاء بها على
(١) أخرج الآثار عنهم الطبري في "تفسيره" ٦/ ٤٧.
(٢) "تفسير ابن عباس" ص ١٦٥، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٤٨.
(٣) هو أوْس بن عبد الله الربعي البصري، تابعي ثقة، يرسل كثيراً، وحديثه عند الجماعة، مات -رحمه الله- سنة ٨٣ هـ.
انظر: "ميزان الاعتدال" ١/ ٢٧٨، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٣٧١، و"التقريب" ص ١١٦ رقم (٥٧٧).
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٧٨٦ دون نسبة ولم أقف عليه.
(٥) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٦.
(٦) في (ش): (ذلك).
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٠٧ (عهد).
(٨) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٤٨ - ٤٩.
218
معنى القيام بمقتضاها.
وما كان جائزًا: فالعاقد مندوب إلى الوفاء به، ولا يجب، لقوله - ﷺ -: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" (١).
فأباح له ترك ما حلف عليه بشرط التكفير إذا رأى غير ما حلف عليه خيرًا، ففي الذي له يحلف عليه أولى أن يَجُوز (٢) له تركه.
وقوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾.
الأكثرون على أن هذا ابتداء كلام آخر (٣).
وقال بعضهم: هذا متصل بالكلام الأول، على معنى: أوفوا بعقود من عاهدتم وتعففوا عن أموالهم بما أحل لكم من بهيمة الأنعام (٤).
والبهيمة اسم لكل ذي أربع من ذوات البَرّ والبَحر (٥).
قال ابن الأنباري: البهيمة معناها في اللغة: المُبهَمَة عن العقل والتمييز (٦).
وقال أبو إسحاق نحو هذا، فقال: كل حي لا يُمَيِّز فهو بهيمة، وإنما
(١) أخرجه البخاري بنحوه (٦٦٢٢) كتاب: الأيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ ومسلم بلفظه (١٦٥٠) كتاب الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها.
(٢) في (ش): (يكون)، والمعنى واحد.
(٣) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤١٢، و"الكشاف" ١/ ٣٢٠.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٤٠٩ (بهم)، وانظر: "الدر المصون" ٤/ ١٧٧، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٤.
(٦) لم أقف عليه.
219
قيل له بهيمة لأنه أبهم عن أن يميز (١).
والأنعام جمع النَّعَم، وهي الإبل والبقر والغنم وأجناسها، في قول جميع أهل اللغة والتأويل (٢)، ولا يدخل فيها الحافر (٣)؛ لأنه (أخذ (٤) من نَعمة الوطء (٥).
واختلفوا في المَعْنِي بـ (بهيمة الأنعام)، فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الضأن والمعز والإبل والبقر (٦).
وهذا قول الحسن وقتادة والربيع والضحاك والسدي، قالوا: هي الأنعام كلها (٧).
وعلى هذا القول قال ابن الأنباري: إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام على جهة التوكيد والإطناب في المعنى، ولو قال: أحلت لكم الأنعام لم يسقط بسقوط البهيمة إلا زيادة التوكيد، وهذا كما يقال: نفس الإنسان (٨).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤١.
(٢) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٩، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٥١، و"معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٢٤٨، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦١٦ - ٣٦١٧ (نعم)، و"بحر العلوم" ١/ ٤١٢.
وابن قتيبة والسمرقندي زادا (الوحوش)، وهو غريب.
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥١.
(٤) زيادة في (ش).
(٥) نَعمة الوطء، بفتح النون، ولعل المراد تشبيه غير ذات الحافر بمن يمشي حافيا من قولهم: تنعم الرجل: إذا مشى حافيًا.
انظر: "اللسان" ٦/ ٤٤٨٤ (نعم).
(٦) لم أقف عليه.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٢٤٨، و"زاد المسير" ٢/ ٢٦٨، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٤.
(٨) لم أقف عليه.
220
وقال الكلبي: بهيمة الأنعام وحشيها (١) كالظِّباء وبقر الوحش وحمر الوحش (٢).
وهو اختيار الفراء (٣)، والزجاج (٤).
وعلى هذا القول قال أبو بكر: أضاف البهيمة إلى الأنعام؛ لأنه (٥) لو أفردها فقال: البهيمة، أو البهائم وقعت على الأنعام وعلى غيرها مما حظر وحرم، فأضافها إلى الأنعام ليعرف جنس البهيمة.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾.
أي: إلا ما يُقرأ عليكم في القرآن مما حرم عليكم، وهو قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: ٣]. قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي (٦).
وقوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾.
انتصب (غيرَ) على الحال من قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ (٧) كما تقول: أحل لكم الطعام غير مفسدين فيه.
(١) في (ج): (وحشها) بدون ياء.
(٢) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٦.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٢٩٨.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٠.
(٥) في (ج): (لأنها).
(٦) "تفسير ابن عباس" ص ١٦٦، وأخرج الآثار عن الجميع إلا الحسن والطبري في "تفسيره" ٩/ ٤٥٨.
وانظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٤٣ ن "زاد المسير" ٢/ ٢٦٩.
(٧) انظر: "مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢١٧، و"الكشاف" ١/ ٣٢٠، و"الدر المصون" ٤/ ١٧٨.
221
وقال الفراء: هو مثل قولك: أحل لك هذا الشيء لا مفرطًا فيه ولا متعديًا، فإذا جعلت (غيرَ) مكان (لا)، صار النصب الذي بعد (لا) في (غير) (١).
والمعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام، فإنه لا يحل لكم إذا كنتم محرمين.
ويقال: رجل حرام، وقوم حُرُم، أي: محرمون (٢).
والإضافة في قوله تعالى: ﴿مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ على تقدير الانفصال؛ لأن ما كان من هذا الباب للاستقبال وللحال أثبتت فيه النون والتنوين، نحو: ضارب زيدًا، وضاربون زيدًا (٣). وقد أحكمنا هذا الفصل عند قوله: ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٧].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ قال أبو إسحاق: أي الخلق له جل وعز يُحل منه ما يشاء لمن يشاء، ويُحرم ما يريد (٤).
٢ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ الآية.
الشعائر واحدتها: شعيرة، وهي فعيلة بمعنى مُفْعَلَة، والمُشْعَرة: المُعْلَمة، والإشعار: الإعلام من طريق الإحساس، والشعر: العلم من طريق الحس. ذكرنا ذلك في أول البقرة.
وكل شيء أُعلِم فقد أشعر، ومنه السنّة في إشعار الهدي، هذا معنى
(١) "معاني القرآن" ١/ ٢٩٨.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ١٤١، وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٧٩٤ (حرم)، و"زاد المسير" ٢/ ٢٦٩.
(٣) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٢٩٨، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٤١.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٢.
222
الشعائر في اللغة (١)، ثم كل شيء جُعل علماً على شيء، أو أعلم بعلامة جاز أن يُسمّى شعيرة.
والهدي التي تهدى إلى مكة تسمى شعائر؛ لأنها مُشعَرةٌ بالدم (٢)، ومنه قول الكميت:
نُقَتَّلهم جيلًا فجيلًا تراهم شعائرَ قُربانٍ بهِم يُتَقَرَّبُ (٣)
فأما التفسير فقال ابن عباس في رواية عطاء: أن (الحَطيم بن ضبيعة -واسمه شريح (٤)، والحطيم لقب، ويقال الحُطَم (٥) - أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليمامة (٦) إلى المدينة، فعرض عليه رسول الله - ﷺ - الإسلام، فلم يسلم، فلما خرج مرّ بسّرح المدينة فاستاق الإبل، فطلبوه فعجزوا عنه، فلما خرج رسول الله - ﷺ - عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة، فقال لأصحابه: "هذا الحطيم وأصحابه، فدونكم" وكان قد قلّد ما نهب من سرح النبي - ﷺ - وأهداه إلى الكعبة، فلما توجّهوا في طلبه أنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ يريد (ما) (٧) أُشْعِرَ (لله) (٨)، وإن كانوا على غير دين الإسلام (٩).
(١) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٧، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٥، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٤٢، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٨٤ (شعر).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٨٤ (شعر).
(٣) استشهد به في "مجاز القرآن" ١/ ١٤٦.
(٤) ما بين القوسين سقط من (ش).
(٥) لم أقف له على ترجمة.
(٦) اليمامة: مدينة من اليمن تقع على بعد مرحلتين من الطائف وأربع مراحل من مكة. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" الجزء الثالث، القسم الثاني ص ٢١٠.
(٧) ساقطة من (ش).
(٨) في (ج): (الله).
(٩) جاء ذلك مقطوعًا عن السدي وعكرمة كما في الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٨، و"أسباب النزول" للمؤلف ص ١٩١، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥، "لباب =
223
وهذا قول جماعة من أهل المعاني.
قال أبو عبيدة: الشعائر في كلام العرب: الهدايا المُشعرة (١).
وقال الزجاج: هي ما أشعر، أي أُعلم ليهدى إلى بيت الله الحرام (٢).
وقال جماعة: هي جميع متعبدات (الله) (٣) التي أشعرها الله، أي: جعلها أعلامًا لنا (٤).
قال ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج (٥).
وقال عبد الله بن مسلم: هي كل شيء جعل علمًا من أعلام طاعته (٦).
فالشعائر: العلامات والمعالم للحج نحو الصفا والمروة والمواقيت وعرفة وما أشبهها، فإن قلنا: المراد بالشعائر في هذه الآية الهدايا كان المعنى: لا تحلوها بإباحة نهبها والإغارة، وإن قلنا: إنها معالم الحج كان المعنى: لا تحلوها بتجاوز حدودها والتقصير فيها والتضييع لها.
وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج، ولا يطوفون بينهما فأنزل الله: لا تستحلوا ترك ذلك (٧).
= النقول" ص ٨٦. ولم أقف على رواية عطاء.
وانظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن" لهبة الله بن سلامة ص ٦٢.
(١) "مجاز القرآن" ١/ ١٤٦.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٢.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٥، و"بحر العلوم" ١/ ٤١٣.
(٥) "تفسير ابن عباس" ص ١٦٦، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٤، و"تفسير مجاهد" ١/ ١٨٣.
(٦) "غريب القرآن" ص ١٣٧.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٢٩٨.
224
وروى أبو صالح عن ابن عباس: يقول: لا تستحلوا شيئًا من ترك المناسك كلها التي أمر الله بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ومسح الركن، والإفاضتين، من عرفات ومن جَمْع ورمي الجمار؛ لأن عامة العرب كانوا لا يرون الصفا والمروة من شعائر الله والحُمس (١) وعامر ابن صعصعة (٢) وثقيف (٣)
لا يرون عرفات من شعائر الله (٤).
وقال في رواية أخرى: كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، ويتّجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ (٥).
وقال الكلبي: أي لا تستحلوا ترك شيء من المناسك (٦).
وزعم بعضهم أن هذا ورد في النهي عن مجاوزة الميقات بغير إحرام (٧).
(١) الحُمس بضم الحاء وسكون الميم: قبائل من العرب تشددوا في دينهم. "الاشتقاق" ص ٢٥٠.
(٢) قبيلة من العرب وتعد من الحُمس وتضم بطونًا كثيرة، نسبة إلى جدهم الجاهلي عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر، من في علان من العدنانية. انظر: "الاشتقاق" ص ٢٩٣، و"جمهرة أنساب العرب" / ٢٧٢، و"الأعلام" ٣/ ٢٥١.
(٣) عبارة عن قبائل من العرب منهم: بنو الحُطيط وبنو غاضره وغيرهم، وينتسبون إلى قسي بن منبه. انظر: "الاشتقاق" ص ٣٠١ - ٣٠٧، و"جمهرة أنساب العرب" / ٢٦٦.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "تفسير ابن عباس" ص ١٦٦، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٤ من طريق ابن أبي طلحة أيضاً.
(٦) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٦.
(٧) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٦، و"زاد المسير" ٢/ ٢٧٢
225
وهذا معنى يحتمله اللفظ؛ لأن تقدير الآية على القول الذي يقول: إن الشعائر المعالم: لا تحلوا شعائر الله بتركها على ما بينا، والمواقيت من شعائر الله.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾.
بالقتال فيه. عن ابن عباس (١) وقتادة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾.
الهدي ما أُهدِي إلى بيت الله تعالى من ناقة وبقرة أو شاة (٣)، واحدها هَدْيَةٌ، ويقال أيضًا: هَدِيّة، وجمعها هَدْيٌ (٤)، قال:
حلفت بربَّ مكة والمُصَلَّى وأعناق الهديَّ مُقلَّدَات (٥)
وقد مضى الكلام فيه (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾.
هي جمع قلادة، وهي: ما جُعل في العنق، سواء جعل في عنق الإنسان أو البدنة أو الكلب (٧).
واختلفوا في تفسير القلائد ههنا، فقال أكثر المفسرين: هي الهدايا المُقلَّدة (٨).
(١) في "تفسيره" ص ١٦٦، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٥.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٥.
(٣) الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٥، ٥٦.
(٤) انظر: "الصحاح" ٦/ ٢٥٣٣، و"اللسان" ٨/ ٤٦٤٢ (هدى).
(٥) البيت للفرزدق في "ديوانه" ١/ ١٠٨، و"اللسان" ٨/ ٤٦٤٢.
(٦) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ل ١٢٠.
(٧) "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٢٩ (قلد).
(٨) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٦.
226
وعلى هذا المراد: ولا ذوات القلائد، ثم حذف المضاف، وذكر ذوات القلائد بعد ذكر الهدي؛ لأنهم نهوا عنها مقلدة وغير مقلدة، أو أراد المقلدة مما لا يكون هديًا، ولكنها قلدت ليأمنوا بها (١)، على ما نذكر بُعَيد هذا.
وقال ابن عباس: يقول لا تعترضوا الهدي ولا تُخيفوا من قلّد بعيره (٢).
وهذا يدل على أن المراد بالقلائد أصحابها، وهو أيضًا من باب حذف المضاف.
قال المفسرون: كانت الحرب في الجاهلية قائمة بين العرب طول الدهر، يتغاورون ويتناهبون إلا في الأشهر الحرم، فمن وُجد في غير هذه الأشهر أصيب منه إلا أن يكون مشعرًا بدنة أو سائقًا هديًا أو مقلدًا نفسه وبعيره من لحاء شجر الحرم، أو مُحرِمًا بعمرة إلى البيت، فلا يُتعرض لهؤلاء، فأمر الله المسلمين بإقرار هذه الأَمَنَة على ما كانت في الجاهلية لضرب من المصلحة إلى أن نسخها (٣).
وقال ابن الأنباري: إن الرجل من العرب كان إذا خاف على نفسه عدوا، أو مُطالبا بثأر، وأراد سفرًا تقلد بشيء من لحاء شجر الحرم، فلا يلقاه أحد فيعرض له، وكان إذا خاف على بعيره قلده أيضًا فلا يتعرض له
(١) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٢٩٩، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٧ - ١٣٨، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٧، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٤٢.
(٢) أخرج الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٦ من طريق العوفي عن ابن عباس قال: (القلائد مقلدات الهدي، وإذا زيد الرجل هديه فقد أحرم، فإن فعل ذلك وعليه قميصه فليخلعه). هذا ما وجدته عن ابن عباس.
(٣) هذا معنى قول عطاء وقتادة ومجاهد. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٦، ٥٧،
و"زاد المسير" ١/ ٤٤١.
227
من يراه من أعدائه، وإن تعرض له عُيَّر بذلك وسُبّ ولم يزل مأثورًا عليه، قال الشاعر يعيب رجلين [قتلا رجلين] (١) معهما شيء من لحاء شجر الحرم:
أَلَم تَقْتُلا الحِرجَينِ إذ أعوَرَا لكم يُمِرَّانِ بالأيدي اللِّحاءَ المُضَفَّرَا (٢)
يريد باللحاء: شجر الحرم (٣).
وقال مُطَرَّف بن الشخير (٤) وعطاء: أراد بالقلائد نفس القلائد، وذلك أن المشركين يأخذون من لحاء سَمْر مكة وشجرها فيقلدونها ويتقلدونها فيأمنون بها في الناس، فنهى الله عز وجل أن ينزع شجرها فيقلدوه كفعل أهل الجاهلية (٥).
(١) ساقط من (ج).
(٢) البيت لحذيفة بن أنس الهذلي كما في "ديوان الهذليين" ٣/ ١٩، و"المعاني الكبير" ٢/ ١١٢٠، و"اللسان" ٢/ ٨٢٣ (حرج)، وعند الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٧، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٧ دون نسبة.
والحرجان: رجلان أبيضان، وقد يكون ذلك لقبًا لهما. ومعنى أعورا لكم: أمكناكم من عورتهما، ويمران من أمر الحبل إذا قتله واللحاء: قشر الشجر، والمضفر: المجدول ضفائر.
والشاهد منه عيب من قتل المتقلدين بلحاء شجر الحرم.
(٣) لم أقف عليه عن ابن الأنباري، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٧، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٧.
(٤) هو أبو عبد الله مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، ثقة عابد فاضل، مات سنة ٩٥ هـ انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص ٨٨، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٨٧، و"التقريب" ٥٣٤ رقم (٦٧٠٦).
(٥) أخرج نحوه عن عطاء: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٥٧، وذكره عن مطرف وعطاء ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦.
228
والظاهر القول الأول، وهو اختيار الفراء والزجاج (١).
قال الفراء: كانت العرب إذا أرادت أن تسافر في غير الأشهر الحرم قلد أحدهم بعيره فيأمن بذلكن فقال لا تخيفوا من قلد، وكان أهل مكة يقلدون بلحاء الشجر، وسائر العرب تقلد بالوبر والشعر (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾. قال الفراء: يقول: ولا تمنعوا من أمّ البيت الحرام أو أراده من المشركين (٣).
وقوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ﴾.
قال ابن عباس: يريد التجارة (٤).
وقال ابن عمر: الربح في التجارة (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانًا﴾.
قال ابن عباس: يعني: أنهم يترضون الله بحجهم (٦). وقال في رواية عطاء في قوله: ﴿وَرِضْوَانًا﴾: يريد وإن كانوا مشركين (٧).
قال أهل العلم: إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله، وإن كانوا لا ينالون ذلك فغير بعيد أن يثبت لهم بذلك القصد نوع من الحرمة (٨).
(١) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٢٩٩، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٤٢.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٢٩٩.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٢٩٩.
(٤) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٦.
(٥) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٢، وذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٧.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٢.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٢.
229
وقال أهل المعاني: معنى قوله: ﴿وَرِضْوَانًا﴾ أىِ: على زعمهم وفيما يظنون؛ لأن الكافر لا ينال الرضوان (١)، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ﴾ [طه: ٩٧]، وقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩]، وذلك على حكاية قولهم: نطلب الرضوان (٢).
وقد جاءت هذه الحكاية عن العرب مجيئًا متبعًا، قال زهرة اليمن (٣) يهجو جريرًا:
أبلغ كُلَيبا وأبِلغ عنكَ شاعَرها أني الأغرّ وأني زُهرةٌ اليمنِ (٤)
وقال جرير:
ألم يَكنْ في وُسوم قَد وُسِمتَ بها مَن حَان موعظةً يا زُهرةَ اليَمنِ (٥)
قال أكثر (٦) أهل العلم: هذه الآية من أولها إلى ههنا (٧) منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
(١) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٧٤.
(٢) انظر: "الخصائص" ٢/ ٤٦١، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٤٠٥.
(٣) لم أقف على ترجمة له.
(٤) البيت في "الحجة" ٢/ ١٨٣، و"المسائل الحلبيات" ص ٨٢، ١٦١، و"الخصائص" ٢/ ٤٦١.
(٥) "ديوان جرير" ص ٤٦٧، وفيه: (يا حارث اليمن)، و"الحجة" ٣/ ١٨٣، و"المسائل الحلبيات" ص ٨٢، و"الخصائص" ٢/ ٤٦١.
والشاهد من البيتين أن جريرًا دعا هذا الرجل بزهرة اليمن بناء على زعمه وقوله، الوسوم: جمع وسم، وهو أثر الكي، والمراد: أذى الهجاء، وحان: هلك.
(٦) لعل الصواب: بعض؛ لأن المؤلف ذكر رأي الأكثرية عقب هذا.
(٧) في (ش): (هنا).
230
وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة (١).
وأكثر أهل العلم قالوا: نسخت هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وقوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨] فلا يجوز أن يحج مشرك، ولا يأمن الكافر بالأشهر الحرم والهدي والقلائد والحج (٢).
وقال الشعبي: لم ينسخ من المائدة إلا آية واحدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ (٣).
وذهب جماعة إلى أنه لا منسوخ في هذه السورة، وأن هذه الآية محكمة (٤).
قال أبو بكر ابن الأنباري: فمن ذهب إلى أن هذه الآية محكمة قال: ما ندبنا الله تعالى إلى أن نُخيف من يقصد بيته من أهل شريعتنا في الشهر الحرام ولا في غيره، وفصل الشهر الحرام من غيره بالذكر تعظيمًا له وتفضيلاً، وحرم علينا أخذ الهدي من المهدين وصرفه عن بلوغ محله، وحرم علينا القلائد، أي إخافة المستجيرين بالبلد الحرام.
(١) هذا هو المشهور عن ابن عباس وقتادة، كما في "تفسير ابن عباس" ص ١٦٧، و"الناسخ والمنسوخ" لقتادة ص ٤٠، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص ١٨٩، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٠، ٦١، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٢٣٥، و"النكت والعيون" ٢/ ٩، و"زاد المسير" ٢/ ٢٧٨.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٠، ٦١، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٤٢، و"زاد المسير" ٢/ ٢٧٨.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦١، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٩، و"زاد المسير" ٢/ ٢٧٨.
(٤) قال الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٠: اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية، بعد إجماعهم على أن منها منسوخًا، ونحو ذلك في "النكت والعيون" ٢/ ٦، وقد =
231
هذا كلامه (١)، والظاهر ما عليه الجمهور.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾.
قال أبو إسحاق: هذا لفظ أمر، معناه الإباحة؛ لأن الله عز وجل حرم الصيد على المحرم وأباحه له إذا حل من إحرامه، ليس أنه واجب عليه إذا حلّ أن يصطاد، ومثله قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا﴾ [الجمعة: ١٠] تأويله: أنه قد أبيح لك ذلك بعد الفراغ من الصلاة، ومثل ذلك في الكلام: لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها، فإذا أديت ثمنها فادخلها، تأويله: فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾.
قال ابن الأعرابي: الجَرْم مصدر الجارم الذي يجرم نفسه وقومه شرًا (٣).
والمفسرون يقولون في هذا: لا يحملنكم بغض قوم (٤).
وهو قول ابن عباس وقتادة (٥)، وقول الكسائي ويونس (٦).
قال أبو العباس: يقال: جرمني زيد على بغضك، أي: حملني عليه (٦).
وأكثر أهل اللغة والمعاني يقولون: لا يُكْسِبَنَّكم (٧).
= نسب ما ذكره المؤلف من أنها محكمة إلى الحسن.
انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٢٣٥، و"زاد المسير" ٢/ ٢٧٧.
(١) لم أقف عليه.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ١٤٣.
(٣) "تهذيب اللغة" ١/ ٥٨٧ (جرم).
(٤) الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٤٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٥٨٧ (جرم).
(٥) "تفسير ابن عباس" ص ١٦٨، وأخرجه عنهما الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٣.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٥٨٨ (جرم).
(٧) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٢٩٩، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٨. قال الفراء: والمعنى متقارب.
232
قال الفراء: سمعت العرب تقول (١): فلان جريمة أهله، وخرج يجرم أهله أي: يكسبهم. قال: فالمعنى: لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا (٢).
وقال في قول الشاعر:
جَرَمَتْ فَزَارَةَ بعدَها أنْ يَغْضبُوا (٣)
(فزارة) منصوبة في البيت، المعنى: جرمتهم الطعنة الغضب، أي: أكسبتهم (٤).
ومثل ذلك قال ابن الأنباري في: ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾، وأنشد:
نصَبنا رأسه في رأس جِذْع بما جَرَمَت يداه وما اعتَدَيْنَا (٥)
وقال أبو علي: تأويل: ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ يكسبنكم، وهو فعل متعدًّ إلى مفعولين، كما أن (يكسبنكم) كذلك، وأما قول الشاعر في صفة عقاب:
جَريمةُ ناهضٍ.... البيت (٦).
يحتمل تأويلين:
(١) في (ش): (يقولون)، وما أثبته موافق لما في "معاني الفراء".
(٢) من "معاني القرآن" ١/ ٢٩٩، و"تهذيب اللغة" ١/ ٥٨٨ بتصرف.
(٣) عجز بيت لأبي أسماء بن الضريبة الفزاري، وصدره: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة
"الكتاب" ٣/ ١٣٨، و"مجاز القرآن" ١/ ١٤٧، و"المقتضب" ٢/ ٣٥١، و"اللسان" ١/ ٦٠٥ (جرم).
(٤) من "تهذيب اللغة" ١/ ٥٨٨ (جرم).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) جزء من شطر بيت لأبي خراش الهذلي كما في "ديوان الهذليين" ٢/ ١٣٣، و"الحجة" ٣/ ١٩٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٥٨٩ (جرم)، وتمام:
جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا
وجريمة: أي كاسبة. والناهض: فرخ العقاب، والنيق: أرفع موضع في الجبل. والصليب: ودك العظاء.
233
أحدهما: جريمة قوتِ ناهضٍ، أي: كاسبُ قوته، وجريم وجارم، كما قالوا: ضاربُ قداحٍ، وضريب قداح، وعريفٌ وعارفٌ.
والآخر: أن لا يقدر حذف المضاف، وتضيف جريمة إلى ناهض، والمعنى: كاسب ناهض، كما تقول: بديعٌ كاسبُ مولاهُ، أي يسعى له ويردّ عليه. فَجَرمَ يستعمل في الكسب وما يُردُّ سعيُ الإنسان عليه، وأما أجرم فيقال في اكتساب الإثم (١).
ومعنى ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ لا تكتسبوا لبغض قوم عدوانًا ولا تقترفوه.
ولفظ النهي واقع على الشنآن، والمعنى بالنهي المخاطبون، كما قالوا: لا أرينك ههنا، ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]، وكذلك: ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ﴾ [هود: ٨٩] (أن يصيبكم) المفعول الثاني، وأسماء المخاطبين المفعول الأول، ولفظ النهي واقع على الشقاق، والمعنيّ بالنهي المخاطبون. كذلك في هذه الآية، المفعول الأول: المخاطبون، والثاني قوله ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾، والمعني بالنهي المخاطبون، وإن كان لفظ النهي واقعًا على الشقاق، أي: لا تكتسبوا أنتم (٢).
وقوله تعالى: ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾.
قال أبو زيد: شنئت الرجل أشَنؤُه شنْأً، وشنآنًا، وشُنأً، ومشنأةً، إذا أبغضتَه (٣).
(١) "الحجة" ٣/ ١٩٦، وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٥٨٧ - ٥٨٨ (جرم).
(٢) انظر: "الحجة" ٣/ ١٩٥ - ١٩٧.
(٣) "الحجة" ٣/ ١٩٧.
234
وزاد الفراء وأبو عمرو: شنْأ، بالكسر (١)، وأبو عبيدة: شنآنا بالجزم (٢)، وأبو الهيثم: شنأة، ومشنئا (٣).
وقال أبو زيد: رجل شنآنٌ، وامرأة شنآَنةٌ، مصروفان. قال: وقد يقال: رجل شنآنُ بغير صرف، لأنك تقول: امرأة شَنْأى (٤). وفعلان قد جاء وصفًا وقد جاء مصدرًا، وهما جميعًا قليلان، فمما جاء مصدرًا في قولهم: لويته حقه ليّانًا، وشنآن في قول أبي عبيدة (٥)، وأنشد للأحوص (٦):
وإن عَابَ فيه ذُو الشنَانِ وفَنَّدا (٧)
قوله: (ذو الشنانِ) على التخفيف القياسي، كقولك في تخفيف ظمآن، وملآن: ظمان، وملان. تحذف الهمزة وتلقي حركتها على ما قبلها.
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٤١ (شنأ).
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ١٤٨، وانظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٠٠، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٩٤١ (شنأ).
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٤١ (شنأ).
(٤) "الحجة" ٣/ ١٩٩.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٤٧، و"الحجة" ٣/ ١٩٩.
(٦) هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم الأنصاري، شاعر هجاء لقب بالأحوص لضيق في مؤخر عينيه، كان معاصرًا لجرير والفرزدق، وقد نفي إلى اليمن من قبل بني أمية لمبالغته في النسيب. توفي سنة ١٠٥هـ.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٣٤٥، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٥٩٣، و"الأعلام" ٤/ ١١٦.
(٧) عجز بيت للأحوص في "ديوانه" ص ٥٨ وصدره: وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي والبيت في "مجاز القرآن" ١/ ١٤٧، و"الشعر والشعراء" ص ٣٤٤، و"الحجة" ٣/ ١٩٩.
والشاهد أن شنان جاء مخففًا، ومعناه: البغض والكره، وفندا: من التفنيد وهو التكذيب.
235
وأما فعلان في الوصف فليس بالكثير إذا لم يكن له فعلى، ومن ذلك: شيحان (١).
وفعلان قد جاء أيضًا مصدرًا ووصفًا، فالمصدر كالنَّقَزان، والنّغَران، والغَلَيَان، والنَّفَيَان، والغَثَيَان. والشنآن جاءت على ما جاءت عليه هذه المصادر.
والوصف نحو: الزَّفَيان، والصَّمَيان، والقَطَوان من (قولك (٢)): قطا يقطو، إذا قاربَ بين خطوه، وكبش أَلْيَانٍ، ونعجة أليانة (٣)، وأنشد أبو زيد:
وقبلك ما هاب الرجالُ ظلامَعي وفقَّأت عَينَ الأشوسِ (الأبيان (٤))
وقد يجيء الاسم الذي لا يكون صفة على فَعَلان نحو: الوَرَشَان، والعلَجَان، وهو شجر يستاك به (٥).
واختلف القراء في هذا الحرف، فالأكثرون قرءوا على: فَعْلاَن (٦)، وحجتهم أنه مصدر، والمصدر يكثر على فعلان.
ومن أسكن النون فإن المصدر قد جاء أيضًا على: فعلان، كما ذكرنا.
وإذا كان كذلك فالمعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان،
(١) "الحجة" ٣/ ٢٠١.
(٢) في (ج): (ذلك).
(٣) انظر: "الحجة" ٣/ ٢٠٢، ٢٠٣.
(٤) في "النوادر" لأبي زيد ص ١٤٨، ونسبه لأبي المجشر الضبي شاعر جاهلي، و"الحجة" ٣/ ٢٠٩، والأشوس هو الرافع رأسه كثيراً. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٣٥٩ (شوس).
(٥) انظر: "الحجة" ٣/ ٢٠٢.
(٦) هذه قراءة السبعة غير أبي عمرو وابن عامر ورواية عن عاصم ونافع. انظر: "الحجة" ٣/ ١٩٥، و"التيسير" ص ٩٨.
236
والمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم -أي بغضكم قوما بصدهم إياكم ومن أجل صدهم أياكم- أن تعتدوا، فأضيف المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل، كقوله تعالى: ﴿مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ [فصلت: ٤٩]، و ﴿بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾ [ص: ٢٤]، ونحو ذلك (١).
واختلفوا في قوله: ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ فقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة، والباقون بفتحها (٢).
وحجة من كسر الهمزة أنه جعل (أنْ) للجزاء وإن كان الصد ماضيًا؛ لأن المراد: بالصد ههنا: ما كان من المشركين من صدهم المسلمين عن البيت في الحديبية، والماضي لا يكون فيه الجزاء، غير أنه قد يقع في الجزاء لا على أن المراد بالماضي الجزاء، ولكن المراد بالماضي ما كان مثل هذا الفعل؛ كأنه يقول: إن وقع مثل هذا الفعل لا يقع منكم كذل، وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا ما انتَسَبنْا لم تَلِدني لَئِيمةٌ ولم تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرَّي بِه بُدّا (٣)
فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء، فكأن المعنى: إن (أنتسب (٤)) لا تجدني (مولود لئيم (٥))، وجواب (إن) قد أعنى عنه ما تقدم
(١) "الحجة" ٣/ ٢١١.
(٢) "الحجة" ٣/ ٢١٢، و"التيسير" ص ٩٨.
(٣) البيت لزائدة بن صعصعة يعرّض فيه بزوجته وكانت أمها سرية. انظر: "شرح أبيات المغني" ١/ ١٢٥.
(٤) في (ش): (تنسب) وهو الموافق لما في "الحجة" ٣/ ٢١٣.
(٥) في (ش): (مولودًا لئيمًا)، وفي "الحجة" ٣/ ٢١٣: (مولود لئيمة)، ولعله هو الأرجح.
237
من قوله: ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُم﴾ المعنى: إن صدوكم (١) قوم عن المسجد الحرام فلا تكسبوا عدوانا.
وأما قول من فتح فبين لا مؤونة فيه، وهو أنه مفعول له، التقدير: لا يجرمنكم شنآن قوم؛ لأن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. فأنْ الثانية في موضع نصب لأنه المفعول الثاني، والأولى منصوبة لأنه مفعول له (٢).
قال مقاتل في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ﴾ الآية: يقول لا يحملنكم بغض كفار مكة أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام أن تعتدوا على حجاج اليمامة فتستحلوا منهم محرمًا، وتمنعوهم عن المسجد الحرام كما منعكم كفار مكة، أو تعرضوا للهدي (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾.
قال الفراء: لِيعُن بعضكم بعضًا.
(قال): وهو في موضع جزم؛ لأنه أمر وليس بمعطوف على (تعتدوا) (٤).
وقال الزجاج: ما مضى من هذه الآية: كله منسوخ إلا تعاون (المسلمين (٥)) على البر والتقوى (٦).
(١) هكذا في (ش)، (ج)، وفي "الحجة" ٣/ ٢٩٣: (صدكم)، وهو الأولى.
(٢) انتهى من "الحجة" ٣/ ٢١٢ - ٢١٤.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٤٩، ٤٥٠.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٣٠٠.
(٥) تكررت في (ج).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٤، وانظر: "النكت والعيون" ١/ ٤٤٢، و"زاد المسير" ٢/ ٢٧٨.
238
قال ابن عباس: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ وهو ما أمرت به، (والتقوى) ترك ما نهيت عنه (١). ونحو ذلك قال أبو العالية (٢).
وقال عطاء في البر والتقوى: يريد كل ما كان لله فيه رضي (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.
قال عطاء: يريد معاصي الله والتعدي في حدوده (٤).
قال مقاتل ثم حذرهم فقال:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فلا تستحلوا مُحَرّمًا. ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ إذا عاقب (٥).
٣ - قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ الآية.
قد شرحنا هذه الآية إلى قوله تعالى: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ في سورة البقرة (٦).
فأما المنخنقة يقال: خنقه فاختنق (وانخق (٧)) والانخناق انعصار الحلق (٨).
قال ابن عباس: المنخنقة التي تنخنق فتموت (٩).
(١) "تفسيره" ص ١٦٨، وأخرجه الطبري في "تفسيره" من طريق ابن أبي طلحة أيضًا ٦/ ٦٧.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٧.
(٣) في (ج): (رضا) بالألف، ولم أقف عليه عن عطاء.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٧٧.
(٥) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤١٤.
(٦) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ل ١٠٥، ١٠٦.
(٧) في (ش): (والخنق).
(٨) "تهذيب اللغة" ١/ ١١١٦، وانظر: "اللسان" ٣/ ١٢٨٠ (خنق).
(٩) "تفسيره" ص ١٦٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٨ من طريق علي أيضًا.
239
ورُوي عنه قتادة أنه قال: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها (١).
وقال في رواية عطاء: يريد التي تخنق حتى تموت (٢).
وقال الحسن وقتادة والضحاك: هي التي تخنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت (٣).
وقال السدي: هي التي تدخل رأسها بين عودين في شجرة فتخنق فتموت (٤).
وقال الزجاج: هي التي تختنق برقبتها، أي بالحبل الذي تشد (٥) به، وبأي وجه اختنقت فهي حرام (٦).
فهذه ألفاظ المفسرين في تفسير المنخنقة، وقد أجملها الزجاج بقوله: وبأي وجه اختنقت فهي حرام (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾.
قال الفراء: هي المضروبة حتى تموت ولم تُذكَّ (٨).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٨ مقطوعًا على قتادة.
(٢) لم أقف على هذه الرواية" وقد ثبت عن ابن عباس نحوها كما تقدم قريبًا.
(٣) أخرجه بمعناه عن قتادة والضحاك: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٨، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ١١، و"زاد المسير" ٢/ ٢٧٩.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٨.
(٥) في "معاني الزجاج" ٢/ ١٤٥ تشك، ولعله تصحيف.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٥.
(٧) المرجع السابق.
(٨) "معاني القرآن" ١/ ٣٠١، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٨، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٣٠ (وقذ).
240
وقال أبو إسحاق: هي التي تقتل ضربًا، يقال: وقذتُها أقِذُها وقْذًا وقذة، وأوقذتُها إيقاذًا، إذا أثخنتها ضربًا (١).
وذكر اللغتين أيضًا في باب الوفاة من: (فعلت، وأفعلت) أبو عبيد عن الأحمر: الموقودة والوقيذة: الشاة تُضرب حتى تموت ثم تؤكل (٢)، وأنشد:
... إذا وَقَد النُّعاَس الرُّقَّدا (٣)
أي صاروا كأنهم سُكارى من النوم. ويقال: ضربه على موقذ من مواقذه (٤).
أبو سعيد: الوَقْذ الضرب بالفأس (٥) على القفا فتصير هدتها إلى الدماغ فيذهب العقل، يقال: رجل موقوذ. وقد وقذه الحِلم، أي سكنه (٦).
قال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي: هي المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت (٧).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٥.
(٢) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٣٠، وانظر: "اللسان" ٨/ ٤٨٨٩ (وقذ).
(٣) البيت للأعشى في "ديوانه" ص ٥٤، وتمامه:
يلوينني دَيني النهار واجتزي ترى لعظام ما جمعت صليبا
(٤) من "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٣٠، وانظر: "اللسان" ٨/ ٤٨٨٩ (وقذ).
(٥) في (ش): (على فأس)، وانظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٣٠، و"لسان العرب" ٨/ ٤٨٨٩ (وقذ). وأبو سعيد هذا لعله الأصمعي.
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٣٠، وانظر: "اللسان" ٨/ ٤٨٨٩ (وقذ).
(٧) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٦٩، ٧٠
241
وقوله تعا لي: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾.
معنى التردي في اللغة التهور في مهواة (١). وقيل في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾ [الليل: ١١] أي سقط في النار (٢).
أبو زيد: يقال: ردى فلان في القليب يردى، وتردّى من الجبل تردّيا (٣).
فالمتردية: هي التي تقع من جبل، أو تطيح في بئر، أو تسقط من مُشْرِف فتموت. كذلك قال ابن عباس والحسن والضحاك والسدي (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾، قال ابن عباس: يريد التي تنطحها شاة أو كبش فتموت قبل أن تُذَكَّى (٥).
وكذلك قال الحسن وقتادة والضحاك والسدي (٦).
وأما دخول الهاء في هذه الحروف إلى: (النطيحة) فإنما دخلت لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة والمتردية (٧). وخصت لأنها من أعم ما يأكله الناس للحمه، والكلام يخرج على ما هو الأغلب والأعم ثم يلحق به غيره.
(١) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٨٧ (ردأ)، وانظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣١١، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٨، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٠.
(٢) "غريب القرآن" لابن قتية ص ١٣٨، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٨٧ (ردأ).
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٨٧، وانظر: "اللسان" ٣/ ١٦٣٠.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٠، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤١٤، و"زاد المسير" ٢/ ٢٨٠.
(٥) بنحوه في "تفسيره" ص ١٦٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٠، ٧١.
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٠، ٧١.
(٧) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٠، ٧١.
242
وأما النطيحة فقال ابن السكيت: إذا كان فَعِيل نعتًا للمؤنث وهو في تأويل المفعول كان بغير هاء، نحو: لحية دهين، وكف خضيب؛ لأنها في تأويل: مخضوبة مدهونة (١).
هذا كلامه وقد انتهى، وإنما كان كذلك لأن نقله عن لفظ المفعول المبني على الفعل إلى: فعيل يأخذه عن حيّز الأفعال فيقربه من الأسماء وذلك يوجب حذف علامة التأنيث، إذ التأنيث لتقدير الفعل وقد ارتفع، فعلى هذا كان يجب أن يقال: النطيح بغير هاء، وعلة دخول الهاء ما ذكره ابن السكيت، وهو أنه قال: وقد تأتي فعيلة بالهاء وهي في تأويل مفعول بها، تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت نحو: النطيحة، والذبيحة، والفريسة، وأكيلة السبع، ومررت بقبيلة بني فلان (١). انتهى كلامه.
قال العلماء من النحويين: إنما تحذف الهاء من الفعيله إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم تذكر الموصوف وذكرت الصفة موضع الموصوف فقلت: رأيت قبيلة بني فلان بالهاء؛ لأنك إن (٢) لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أم امرأة، فعلى هذا إنما أدخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهي الشاة (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾.
قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئًا فقتله أو أكل منه أكلوا ما بقي منه، فحرمه الله تعالى (١).
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٠، ٧١
(٢) في (ش): (اذً).
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٢، وانظر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٣.
243
والسبُعُ: اسم يقع على ما له ناب ويَعْدُو على الناس والدواب فيفترسها، مثل الأسد والذئب والنمر والفهد، ومنه يقال: سبَعَ فلانًا، إذا عضه بسنه، وسبع الذئب الشاة، إذا فرسها، وهذا هو الأصل، ثم يقال: سبعه، إذا وقع فيه وعابه (١).
ويجوز التخفيف في السبع فيقال: سَبْع (٢).
وفي الآية تقديره: وما أكل منه السَّبعُ؛ لأن ما أكله السبع قد فُقِد ولا حكم له، وإنما الحكم للباقي منه.
وكل هذه الأشياء المحرمة حكمها حكم الميتة، واسم الميتة يعمها، إلا أنها ذُكِرَت بالتفصيل؛ لأن العرب كانت لا تعدّ الميت إلا ما مات من مرض. قاله السدي (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾.
الظاهر أن هذا الاستثناء من جميع هذه المحرمات التي ذكرت من قوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾. وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وقتادة (٤).
قال ابن عباس: يقول: ما أدركت من هذا كله وفيه روح، فاذبح، فهو حلال (٥).
(١) من "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦١٨ (سبع) بتصرف، وانظر: "مقاييس اللغة" ٣/ ١٢٨، و"اللسان" ٤/ ١٩٢٥ (سبع)، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٣.
(٢) انظر: "اللسان" ٤/ ١٩٢٦ (سبع).
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٤.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٢، وانظر ابن كثير في "تفسيره" ١٣/ ٢.
(٥) "تفسيره" ص ١٦٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٢.
244
وقال الكلبي: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ استثنى من ذلك كله، أي إلا ما ذبحتم. (١)
وحكى أبو العباس عن بعضهم أن الاستثناء مما أكل السبع خاصة (٢).
والقول هو الأول (٣).
وأما كيفية إدراكها فقال أكثر أهل العلم من المفسرين: إن أدركت ذكاته بأن يوجد له عين تطرف أو ذَنَب متحرك، فأكله جائز (٤).
قال ابن عباس وعُبَيد بن عُمَير (٥): إذا طرفت بعينها، أو مصعت بذَنَبِها أو ركضت برجلها، أو تحركت، فاذبح، فهو حلال (٦).
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا أخرج السبع الحشوة أو قطع الجوف قطعًا تؤس معه الحياة فلا ذكاة لذلك، وإن كان به حركة ورمق؛ لأنه صار إلى حالة لا يؤثر في حياته الذبح (٧).
(١) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٠، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٢٤، و"الدر المصون" ٤/ ١٩٦.
(٣) وهذا أيضًا اختيار الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٣ وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٠.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٢ - ٧٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٤٥، و"زاد المسير" ٢/ ٢٨٠.
(٥) لعله أبو عاصم عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، ولد على عهد النبي - ﷺ - ويعد من كبار التابعين، وكان قاص أهل مكة ومن العباد، وقد أُجْمِع على توثيقه. مات رحمه الله قبل ابن عمر رضي الله عنه. انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ١٣٤ (٥٩٢)، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٥٦، و"التقريب" ص ٣٧٧ (٤٣٨٦).
(٦) أخرجه عنهما الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٢ - ٧٣
(٧) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٣ "معاني الزجاج" ٢/ ١٤٥، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٨٦ (ذكا).
245
وهو مذهب مالك (١) واختيار الزجاج (٢) وابن الأنباري (٣).
واحتجوا بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾، فقال أبو إسحاق: معنى التذكية: أن يدركها وفيها بقية تشخُبُ معها الأوداج، وتضطرب اضطراب المذبوح.
قال: وأصل الذكاء في اللغة: تمام الشيء، فمن ذلك الذكاء في السن والفهم، وهو تمام السن، (قال الخليل (٤)): الذكاء في السن أن يأتي على قروحه (٥) سنة، وذلك تمام استكمال القوة، وأنشد لزهير:
يُفَضَّله إذا اجتَهَدا عليه تَمام السَّنَّ منهُ والذَّكَاء (٦)
وقيل: جَرْيُ المُذَكَّياَت غِلابٌ (٧)، أي جري المسانّ التي قد أسنّت. وتأويل تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذَّكاء. والذكاء في الفهم أن يكون تامًا سريع القبول، وذكّيت النار إنما هو من هذا، تأويله: أتممت إشعالها، فكذلك قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾
(١) أخرج قوله الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٥.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في (ش): (قال: وقال الخليل)، ولا يؤثر ذلك في المعنى.
(٥) قال الجوهري: وقرح الحافر قروحًا، إذا انتهت أسنانه، وإنما تنتهي في خمس سنين؛ لأنه في السنة الأولى حولي، ثم جذع، ثم ثنى، ثم رباع، ثم قارح. "الصحاح" ١/ ٣٩٥ (قرح).
(٦) "ديوانه" ص ٦٩، و"الكامل" ١/ ٣٨٦، وفي الديوان: يفضله إذا اجتهدت، والتفصيل في السرعة لتمام السن، والذكاء حدة القلب، ويقال الذكاء في السن.
(٧) أي أن المذكي يغالب مجاريه لقوته. وهذا مثلٌ يضرب لمن يوصف بالتبريز على أقرانه في حلبة الفضل. "مجمع الأمثال" ١/ ٢٨١.
246
أدركتم ذبحه على التمام (١).
قال الأزهري: وقد جود أبو إسحاق فيما فسر، وشفى وبالغ في الشفاء، ولقد كان له حظ من البيان موفور (٢).
وقال ابن الأنباري: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ معناه: إلا ما أدركتموه وقد بقيت فيه بقيّة من الحياة حسنة تشخب معها أوداجه عند الذبح وينهر دمه، فإذا قطع السبع بطنه وأخرج حشوته بطلت التذكية؛ لأنه بعد أن يقع به هذا لا يضطرب اضطراب المذبوح ولا ينهر ولا تشخب أوداجه.
ومعنى التذكية: تتميم الشيء، فإذا قال القائل: قد ذكى فلان الشاة، فمعناه قد ذبحها الذبح التام الذي يجوز معه الأكل ولا يحرم، وإذا قيل: فلان ذكيّ، فمعناه تام الفطنة، وذكت النار تذكو، إذا استحكم وقودها، وأذكيتها أنا، والتذكية بلوغ غاية الشباب وتمام القوة، يقال: جريُ المُذكَّيات غِلابٌ، أي جري المسانّ مغالبة، وذلك أن الفرس الذي يبلغ نهاية الشباب والقوة يُحمل (٣) على السهل والحزن للثقة به (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾.
النصب: جمع نِصاب مثل: حِمار وحُمُر، وجائز أن يكون واحدًا وجمعه: أنصاب، مثل: طُنُب وأطناب. قاله الزجاج (٥) وابن الأنباري (٦).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ١٤٥ - ١٤٦.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في النسختين (ج)، (ش) بدون إعجام، وكأنها: محمل -بالميم-.
(٤) لم أقف على كلام ابن الأنباري.
(٥) "معانى القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٦.
(٦) لم أقف عليه.
247
(قال أبو بكر) (١): ويجوز أن يكون النصب جمع نَصْب في الواحد، مثل: سَقْف وسُقُف، ورَهْن ورُهُن (٢).
وقال الليث: النصب جماعة النصيبة، وهي علامة تنصب للقوم (٣)
الأزهري: وقد جعل الأعشى النصب واحداً فقال:
وذا النُّصبَ المنصوبَ (لا تنسُكَنّه) (٤) لعاقبةٍ والله ربَّكَ فاعبُدا (٥)
هذا قول أهل اللغة.
وأما التفسير: فقال ابن عباس: يريد الأصنام التي تنصب وتعبد من دون الله تعالى (٦).
وقال الكلبي: النصب: حجارة كانوا يعبدونها (٧).
وقال الفراء: النصب: الآلهة التي كانت تُعبد من أحجار (٨).
وقال الزجاج: النصب: حجارة كانت لهم يعبدونها، وهي الأوثان (٩).
(١) ليس في (ج).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "العين" ٧/ ١٣٦، و "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨١ (نصب).
(٤) في (ج): (لا تعبدنه)، وما أثبته هو الموافق لما في "الديوان"، و"تهذيب اللغة".
(٥) من "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨١ نصب، والبيت في "ديوان الأعشى" ص ٤٦، وعجزه في "الديوان": ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا.
(٦) بمعناه في "تفسيره" ص ١٦٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٥، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٣.
(٧) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
(٨) من "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨١ (نصب)، وانظر: "معاني القرآن" ١/ ٣٠١، و"زاد المسير" ٢/ ٢٨٣.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٦، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٣.
248
وقال مجاهد وقتادة وابن جريج: كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويُشَرّحُون اللحم عليه، وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها (١).
قالوا: وليست هي بأصنام، إنما الصنم ما يُصوَّر وُينقَش (٢).
فإذا أخذنا بهذا وهو أنهم كانوا يذبحون على هذه الحجارة فـ (على) في قوله تعالى: ﴿عَلَى النُّصُبِ﴾ بمعناه، وإن قلنا: إن النُّصُب أوثان كانوا يتقربون إليها بالذائح عندها فمعنى قوله تعالى: ﴿عَلَى النُّصُبِ﴾ أي على اسمها.
وقال قطرب: معناه ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ (على) بمعنى اللام: وهما يتعاقبان في الكلام، قال الله تعالى: ﴿فَسَلَامٌ لَكَ﴾ [الواقعة: ٩١] أي: عليك، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] أي فعليها (٣).
قال ابن زيد: (وما ذبح على النصب) (وما أهل لغير الله به) (٤) واحد (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾.
معناه: وأن تطلبوا على ما قُسِم لكم بالأزلام (٦).
قال المفسرون: وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا أراد أحدهم سفرًا
(١) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٥، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٤.
(٢) هذا ما ذهب إليه ابن جريج وقرره الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٥، وانظر: "البحر المحيط" ٣/ ٤٢٤.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٣.
(٤) في (ش): (أهل به لغير الله).
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٥.
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٥
249
أو غزوًا أو تجارة أو غير ذلك من الحاجات أجال القداح، وهي سهام مكتوب على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإن خرج السهم الآمر مضى لحاجته، وإن خرج الناهي لم يمض في أمره (١).
قال أبو عبيدة (٢): (الاستقسام طلب القسمة، وكانوا يسألون الأزلام بأن تقسم لهم (٣).
وقال المبرد) (٤): الاستقسام: أخذ كل واحد قسمه. وقال: الاستقسام إلزام أنفسهم ما تأمرهم به القِداح كقَسَم اليمين (٥).
وقال الأزهري: معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا﴾ أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين (٦). وهذا أشفى العبارات.
وقال ابن السكيت: يقال قسم فلان أمره يقسمه قسمًا، أي يقدره، ينظر كيف يعمل فيه (٧)، وأنشد للبيد:
فقُولا لهُ إن كَانَ يَقْسِمُ أمره أَلَمَّا يَعِظْك الدهُر أمُّك هَابِلُ (٨)
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٦، ومعاني الزجاج ٢/ ١٤٦.
(٢) في (ج): (أبو عبيد).
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٥٢.
(٤) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٦١، وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٦٢٩ (قسم).
(٧) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٦٢ (قسم).
(٨) "ديوانه" ص ٢٥٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٦٢ (قسم).
والبيت من قصيدة يرثى فيها النعمان بن المنذر، والمراد بـ (أمك هابل): الدعاء، يقال: هبلته أمه، أي ثكلته.
250
وقالوا: فلان جيد القسم، أي جيد الرأي، ومعنى: قسم أمره إذا ميّل فيه الرأي: أيفعله أم لا (١). ويقال: تركت فلانًا يستقسم، أي يفكر ويروّي بين أمرين، ومنه الاستقسام بالأزلام، وهو طلب الرأي الذي ميل فيه من جهة الأزلام، ولذلك بني على الاستقسام.
وأما الأزلام فهي أسماء هذه القداح التي كانت لقريش في الجاهلية، وقد زُلّمت أي سويت ووضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد الرجل أمرًا أتى السادن فقال له: أخرج إلي زَلمًا، فيخرجه، فإن خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قدح النهي قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زَلمان قد وضعهما في قرابه، فإذا أراد إلاستقسام أخرج أحدهما (٢). قال الحُطَيئة:
لا يزجُر الطيرُ إنْ مرَّت بِه سُنُحًا ولا يُفِيض على قِسْمٍ بأزلامِ (٣)
وقال طَرَفَه:
أخذ الأزلامَ مقتسمًا فأتى أغواهُما زُلَمُه (٤)
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٦٢ (قسم).
(٢) من "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٥ (زلم)، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٥٢، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٩، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٥ - ٧٦، و"زاد المسير" ٢/ ٢٨٤.
(٣) "ديوانه" ص ٢٢٧، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٥٢ (زلم).
ومعنى لا يزجر: لا يتطير، وسنحا جمع سانح وهو ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك.
انظر: "اللسان" ٤/ ٢١١٢، ويفيض من الإفاضة وهي الضرب بالاقداح، وقوله: قسم من قولك: يقسم أمره إلي: ينظر فيه ويحيله أيفعله أم لا.
(٤) "ديوانه" ص٧٢، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٥٢ (زلم).
251
ويقال للرجل إذا كان مخففًا رجل مُزَلَّم، وامرأة مزلّمة. ويقال: قدح مُزلَّم وزليم، إذا طرّ وأجيد قده وصنعته، وعصا مزلّمة، وما أحسن ما زلم سهمه (١). قال ذو الرَّمَّة:
كأرحاءِ رقطٍ زَلَّمَتْها المَنَاقِرُ (٢)
أي سوَّتها وأخذت من حروفها (٣).
ويقال لقوائم البقر أزلام، شبهت بالقداح للطافتها (٤)، ومنه قول لَبيِد:
بَكَرَت تَزِلّ عن الثرى أزلامُها (٥)
وواحد الأزلام زَلَم، وزُلَم. ذكره الأخفش (٦).
وكل ما ذكرنا في الأزلام هو قول أهل اللغة (٧) وابن عباس (٨)
(١) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٥٢ (زلم).
(٢) عجز بيت لذي الرمة في "ديوانه" ص ٢٥٠، وصدره:
تفض الحصى عن مجمرات وقيعة
واستشهد به في "الصحاح" ٥/ ١٩٤٣ (زلم). وأرحاء جمع رحى، والمناقر: المعادل. انظر: "اللسان" ١٢/ ٢٧٠ (زلم).
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٥٢، وانظر: "اللسان" ٣/ ١٨٥٧ (زلم).
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٥٢، وانظر: "اللسان" ٣/ ١٨٥٨ (زلم).
(٥) عجز بيت للبيد في معلقته وصدره:
حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت
"ديوان لبيد" ص ٣١٠، و"شرح المعلقات السبع" ص٩٠.
ومعنى بكرت: غدت بكره، وأزلامها: قوائمها، شبهها بالقداح أي لم تعد تثبت قوائمها على الثرى لأن الطين زلق.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٤٦١.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٥٢، و"اللسان" ٣/ ١٨٥٧ - ١٨٥٨ (زلم).
(٨) انظر: "تفسيره" ص ١٦٩.
252
والمفسرين (١).
وقال الزجاج: أعلم الله عز وجل أن الاستقسام بالأزلام حرام، ولا فرق بين ذلك وبين قول المُنَجَّمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من أجل طلوع نجم كذا؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ [لقمان: ٣٤]، ولذلك دخول في علم الله عز وجل الذي هو غيب، فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله (٢).
وقد روى أبو الدرداء عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة" (٣).
وذهب المؤرج وكثير من أهل اللغة إلى أن الاستقسام ههنا هو في معنى الميسر المنهي عنه، وأن الأزلام قداح الميسر.
وليس الأمر كذلك عند أهل العلم الموثوق بعلمهم (٤).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾.
قال الزجاج: أي الاستقسام هنا بالأزلام فِسق، وهو كل ما يخرج به عن الحلال إلى الحرام (٥).
(١) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١/ ١٥٢، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٩، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٦، و"زاد المسير" ٢/ ٢٨٤.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٦، ١٤٧.
(٣) رواه أبو نعيم في "الحلية" ٥/ ١٧٤، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٥/ ١١٨، وقال: رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات.
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٦٢ (قسم).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٧، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٨.
253
وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾.
قال المفسرون: يئسوا أن ترتدوا راجعين إلى دينهم (١).
وقال الكلبي: نزلت لما دخل رسول الله - ﷺ - مكة في حجة الوداع ييئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم (٢).
وقال الزجاج: يئسوا من بطلان الإسلام، وجاءكم ما كنتم توعدون من قوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾.
قال ابن عباس: فلا تخشوهم في اتباع محمد واخشوني في عبادة الأوثان (٤).
وقال الزجاج: أي فليكن خوفكم لله عز وجل، فقد أمنتم في أن يظهر دين على الإسلام (٥).
وهو قول ابن جريج، قال: فلا تخشوهم أن يظهَروا عليكم (٦).
وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾.
أجمعوا على أن المراد باليوم ههنا: يوم عرفة، وأن هذه نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر، والنبي - ﷺ -. واقف بعرفات على ناقته العضباء. قاله ابن عباس وغيره (٧).
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٨، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٤٨.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ١٨٥، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
(٣) هكذا بالياء في النسختين، وفي رسم المصحف: (واخشون) بدونها.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٨.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٩، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٦.
(٧) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٠٢٧٩، و"بحر العلوم" ١/ ٤١٥، و"زاد المسير" ٢/ ٢٨٧.
254
وأما معنى إكمال الدين في ذلك: فقال عطاء عن ابن عباس: اليوم أكملت لكم دينكم حيث لم يحج معكم مشرك، وخلا الموسم لله ولرسوله ولأوليائه (١)، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة (٢).
وقال آخرون: أكملت لكم دينكم ببيان الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض.
وهذا معنى قول ابن عباس (٣)، والسدي (٤)، وهو الاختيار؛ لأن كمال الدين يكون ببيان الأحكام.
قال أرباب المعاني: والكمال على وجهين: كمال مشروح وهو بيان الرسول، وكمال مُبهَم وهو اجتهاد أهل العلم إلى قيام الساعة، (فما عُدِم نصه) (٥) لم يُعدَم دليله من الكتاب والسنة (٦).
وقال بعضهم: كمال دين هذه الأمة أن لا يزول ولا يُنسخ، وأن شريعتهم باقية (إلى يوم (٧)) القيامة (٨).
وقيل: الكمال هو أن هذه الأمة آمنوا بالكُلّ ولم يفرقوا، ولم يكن هذا لغيرهم (٩).
(١) لم أقف عليه.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٠، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٧.
(٣) في "تفسيره" ص ١٧٠، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٩.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٧٩.
(٥) لم تظهر في (ش).
(٦) لم أقف عليه.
(٧) لم تظهر في (ش).
(٨) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٨.
(٩) لم أقف عليه.
255
وقال الزجاج: معنى قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ أي الآن أكملت دينكم بأن كفيتكم خوف عدوكم، وأظهرتكم عليه، كما تقول: الآن كمل لنا الملك (وكمل لنا (١)) ما نريد، بأن كُفِينا من كنا نخافه. قال: وقد قيل: (المعنى (٢)) أكملت لكم فرض ما تحتاجون إليه في دينكم، وذلك جائز (حسن) (٣).
وقد شرح ابن الأنباري هذين القولين شرحًا حسنًا فقال في القول الأول للزجاج: المعنى أكملت لكم (نصر دينكم (٤)) بأن كفيتكم ما كنتم تخافونه عليه. وقال في القول الثاني: اليوم أكملت لكم شرائع دينكم من غير نقصان قبل (هذا (٥)) الوقت، وذلك أن الله عز وجل يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر، فيكون الأمر الأول تامًا في وقته وكذلك الثاني، كما يقول القائل: عندي عشرة كاملة، ومعلوم أن العشرين أكمل منها، و (الشرائع (٦)) التي تعبد الله بها عباده في الأوقات المختلفة مختلفة، وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها، (فكمل (٧)) الله الشرائع في اليوم الذي ذكره وهو يوم عرفة، ولم يوجب ذلك أن الدين كان ناقصًا في وقت من الأوقات (٨).
(١) غير ظاهر في (ش).
(٢) ليست في (ج).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٩، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٨.
(٤) غير ظاهر في (ش).
(٥) غير واضح في (ش).
(٦) غير ظاهر في (ش).
(٧) غير ظاهر في (ش).
(٨) لم أقف عليه.
256
وقوله تعالى: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾.
قال عطاء عن ابن عباس: يريد أنه حكم لهم بدخول الجنة (١).
وقال (المفسرون (٢)): يريد أنه أنجز لهم ما وعدهم في قوله تعالى: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠]، وكان من تمام (نعمته أن دخلوا مكة (٣)) آمنين، وحجوا (مطمئنين (٤))، لم يخلطهم أحد من المشركين (٥).
وقال السدي: يعني أظهرتكم على العرب (٦).
وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ﴾.
قال ابن عباس: (فمن اضطر) إلى ما حرّم مما سمي في صدر هذه السورة في مجاعة (٧).
ومعنى ﴿اضْطُرَّ﴾ أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة. وقال الزجاج: فمن دعته الضرورة في مجاعة (٨).
والمخمصة: المجاعة في قول ابن عباس وجميع المفسرين (٩).
(١) لم أقف عليه.
(٢) غير ظاهر في (ش).
(٣) طمس في (ج).
(٤) غير ظاهرة في (ش).
(٥) هذا قول الحكم وقتادة وسعيد بن جبير واختيار الطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٠، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٨.
(٦) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٨.
(٧) بنحوه في "تفسيره" ص ١٧٠، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٥.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٨.
(٩) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٥٣، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٩، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٥.
257
وقال أهل اللغة: الخَمْص والمَخْمَصَة: خلاء البطن من الطعمام جوعًا (١)، وأنشدوا:
يرى الخُمص تعذيبًا وإن يلق شِعبةً يَبِتْ قلبُه من قلة الهمّ مُبْهَمَا (٢)
وأصله من الخَمص الذي هو ضمور البطن، يقال: رجل خَميص وخُمصان، وامرأة خَمِيصة وخُمصانة، والجمع (٣) خمائص وخُمصانات (٤)، قال الأعشى:
تبيتُون في المشتَى مِلاءً بُطونُكم وجاراتكم غَرثَى يَبِتْن خَمَائِصا (٥)
وقوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ﴾.
يجوز أن ينتصب (غير لمحذوف مقدر على معنى: فتناول غير متجانف و (٦)) يجوز أن ينتصب بقوله (اضطرّ) ويكون المقدر متأخرًا، على معنى: فمن اضطر غير متجانف لإثم (فتناول ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٧).
ومعنى غير متجانف لإثم) (٨) غير متعمد، في قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن زيد (٩).
(١) "تهذيب اللغة" ٧/ ١٥٥.
(٢) البيت لحاتم الطائي في "ديوانه" ٨٢، و"النوادر" لأبي زيد ص ١١١.
(٣) في (ش): (الجميع).
(٤) انظر: "الصحاح" ٣/ ١٠٣٨، و"اللسان" ٣/ ١٢٦٦ (خمص).
(٥) "ديوانه" ص ١٠٠، و"مجاز القرآن" ١/ ١٥٣. وفي الديوان: جوعى بدل غرثى والمعنى واحد.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (ج).
(٧) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٠١، و"الدر المصون" ٤/ ٢٠٠.
(٨) ما بين القوسين ليس في (ش).
(٩) انظر: "تفسير ابن عباس" ص١٧٠، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٦، و"النكت والعيون" ٢/ ١٣.
258
وروى عن قتادة: غير مُتعرّض لمعصية (١).
وأصله في اللغة: من الحيف الذي هو: الميل (٢).
قال الزجاج: غير مائل (٣).
وقال أبو عبيدة: غير مُنحرف (٤).
ومعنى الإثم ههنا في قول أهل العراق: أن يأكل فوق الشبع تلذذًا (٥).
وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصيًا بسفره (٦) على ما بينا في سورة البقرة.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣].
قال ابن عباس: يريد غفر له ما أكل مما حرم عليه حين اضطر إليه، رحيم (بأوليائه (٧)) حيث أحل لهم ما حرم عليهم في المخمصة إذا اضطروا إلى أكلها (٨).
٤ - قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ الآية.
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/ ٨٦.
(٢) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٩.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٩، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٦، و"الصحاح" ٤/ ١٣٣٩ (جنف).
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ١٥٣.
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٤٩، و"بحر العلوم" ١/ ٤١٦.
(٦) هذا معنى قول مجاهد كما في الطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٦، ورجحه أبو يعلى انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٨٩.
(٧) غير ظاهر في (ش).
(٨) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
259
قال سعيد بن جبير: إن عديَّ بن حاتم (١) وزيدَ الخَيْل (٢) جاءا إلى رسول الله - ﷺ - فقالا: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبُزاة، وقد حرم الله عز وجل الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت هذه الآية (٣).
وقوله تعالى: ﴿مَاذَا﴾ إن جعلته اسمًا فهو رفع بالابتداء وخبره (أُحِلّ)، وإن شئت جعلت (ما) وحدها اسمًا (ويكون خبرها (٤)) (ذا) أحل من صلة ذا؛ لأنه بمعنى: أي شيء (الذي (٥)) أحل لهم (٦).
ومضى الكلام مستقصى في (ماذا) (٧).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾.
(١) هو أبو طريف عدي بن حاتم بن سعد بن الحشرج الطائي ولد الجواد المشهور، أسلم سنة تسع أو عشر وكان نصرانيًا وحسن إسلامه وثبت على إسلامه في الردة، وقد شهد بعض الفتوحات وتوفي رضي الله عنه سنة ٦٧هـ وقيل بعدها.
انظر: "أسد الغابة" ٤/ ٨، و"سير أعلام النبلاء" ٣/ ١٦٢، و"الإصابة" ٢/ ٤٦٨.
(٢) هو أبو مكنف زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي، وفد على النبي - ﷺ - وكان يسمى زيد الخيل، فسماه - ﷺ - زيد الخير كان شاعرًا خطيبًا شجاعًا من أجمل الناس، ومات رضي الله عنه بعد وفاة النبي - ﷺ -.
انظر: " الاستيعاب" ٢/ ١٢٧، و"أسد الغابة" ٢/ ٣٠١، و"الإصابة" ١/ ٥٧٢.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم، انظر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٨، وإسناده ضعيف. انظر: "تهذيب التهذيب" ٧/ ١٩٨، وله شاهد عن عدي عند الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩١، وذكر الأثر المؤلف في "أسباب النزول" ص ١٩٤.
(٤) ساقط من (ش) بسبب طمس.
(٥) غير ظاهر في (ش).
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٤٩، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢١٩.
(٧) انظر: [البقرة: ٢١٥].
260
قال ابن عباس: يريد من جميع الحلال (١).
قال أهل العلم: كانت العرب تستقذر أشياء كثيرة فلا تأكلها، وتستطيب أشياء فتأكلها، فأحل الله لهم ما استطابوا مما لم ينزل بتحريمه (تلاوة) (٢)، مثل لحوم الأنعام كلها وألبانها، ومثل الدواب التي كانوا يأكلونها من الضباب (٣) واليرابيع (٤) والأرانب وغيرها (٥).
وهذا أصل كبير في التحليل والتحريم، فكل حيوان استطابته العرب فهو حلال، وكل حيوان استخبثته العرب فهو حرام (٦)، وهو في قوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] (٧).
والطيب في اللغة: المُستَلذّ، والحلال المأذون فيه، يسمى أيضًا طيبًا تشبيها بما هو مُستَلذ، لأنهما اجتمعا بانتفاء المضرة.
وقال مقاتل والكلبي: المراد بالطيبات الذبائح (٨).
(١) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
(٢) غير ظاهر في (ش).
(٣) جمع ضب، وهو دويبة معروفة يشبه الوَرَل، والأنثى: ضبة. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٥٤٣ (ضبب).
(٤) جمع يربوع: دويبة فوق الجُرَذ. انظر: "اللسان" ٣/ ١٥٦٢ (ربع).
(٥) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٤٧، وانظر: "اللسان" ٥/ ٢٧٣١ (طيب).
(٦) هذا إذا وافق التشريع عند نزول القرآن وجاء على لسان الرسول - ﷺ - الحلال والحرام في هذا الشأن، وليس المراد أن استطابة العرب مصدر للتشريع في التحليل والتحريم في هذا المضمار، والله أعلم.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٩١.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٥٤ و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
261
والقول الأول أولى؛ لأنه أعم في التحليل، وعليه أكثر العلماء.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ﴾.
قال الزجاج وغيره: يريد: وصيد ما علمتم من الجوارح، فحذف الصيد وهو مراد في الكلام؛ لدلالة الباقي عليه، وهو قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ ولأنهم سألوا عن الصيد (١).
هذا قول جميع أهل المعاني (٢).
ويجوز أن يقال: قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ﴾ ابتداء كلام وخبره: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ فيصبح الكلام من غير حذف وإضمار، وهو قول حسن.
وأما الجوارح: فهي الكواسب من الطير والسباع ذوات الصيد، والواحدة جارحة، والكلب الضاري جارحة، سميت جوارح؛ لأنها كواسب أنفسها، من: جرح واجترح، إذا اكتسب (٣).
قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الطير تصيد، والكلاب، والفهود، وعناق الأرض (٤)، وسباع الطير، مثل: الشاهين والباشِق (٥)
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤٩.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٨، و"بحر العلوم" ١/ ٤١٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦.
(٣) من "تهذيب اللغة" ١/ ٥٧٢ (جرح)، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٥٤، و"معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٤٦٤، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٩، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٨.
(٤) عناق الأرض: دابة من السباع أصغر من الفهد تصيد الطيور. انظر: "اللسان" ٥/ ٣١٣٦ (عنق).
(٥) الباشق: بفتح الشين اسم طائر جارح، انظر: "اللسان" ١/ ٢٨٩
262
والعقاب والزُّمَّج (١)، فما اصطادت هذه الجوارح فقتلته فهو حلال (٢).
وقال ليث (٣) (٤): سئل مجاهد عن الصقر والبازي والفهد وما يَصطاد من السباع؟ فقال: هذه كلها جوارح (٥).
وهذا قول جميع المفسرين (٦) إلا ما روي عن ابن عمر (٧) والضحاك أنهما قالا: الجوارح الكلاب دون غيرها، وما صاد غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يحل أكله (٨).
ومثل هذا يروى عن السدي أيضًا (٩)، وهو قول غير معمول به (١٠).
(١) الزُّمَّج:- بضم الزاي وتشديد الميم المفتوحة طائر جارح دون العقاب يصاد به، وقيل: هو ذكر العقبان. انظر: "اللسان" ٣/ ١٨٦٠ (زمج).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في (ج): الليث.
(٤) هو أبو بكر ليث بن أبي سليم أيمن أو أنس بن زنيم الكوفي الليثي، من أوعية العلم وكان صاحب سنة، صدوق في الرواية لكنه اختلط وحديثه عند مسلم والأربعة، توفي رحمه الله سنة ١٤٨هـ.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٦/ ١٧٩، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٤٢٠، و"التقريب" ٤٦٤ رقم (٥٦٨٥).
(٥) أخرجه بنحوه من عدة طرق عن مجاهد: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٩، وانظر: "تفسير مجاهد" ١/ ١٨٦.
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٨٩ - ٩٠، و"النكت والعيون" ٢/ ١٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦.
(٧) في (ج): ابن عمرو.
(٨) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٠، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ١٥.
(٩) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٠، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦.
(١٠) قال الطبري في "تفسيره": وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال: كل ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح، وأن صيد جميع ذلك حلال إذا صاد بعد التعليم؛ لأن الله جل ثناؤه عمّ بقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ﴾ كل جارحة ولم يخصص منها شيئًا. "جامع البيان" ٦/ ٩٠ - ٩١، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦.
263
وقوله تعالى: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾.
المُكَلَّب: الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد، ويقال للصائد مكلب؛ لأنه يعلم الكلب الصيد (١)، قال الشاعر:
فبادَرَه عند الصبَاح مُكَلّبٌّ أزلّ كَسِرحَان الهَزيِمة أَغْبرُ (٢)
قال أهل المعاني: وليس في قوله: (مكلبين) دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة؛ لأنه بمنزلة قوله: مؤدبين (٣).
وقوله تعالى: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾.
قال الكلبي: تؤدبونهن (٤) لطلب الصيد أن لا يأكلن الصيد كما أدبكم الله (٥).
قال العلماء: وصفة الكلب المعلم الذي يحل صيده هو أن يكون إذا أرسله صاحبه وأشلاه استشلى (٦)، وإذا أخذ الصيد أمسك ولم يأكل، وإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفرّ منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم (٧).
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٤٩، و"بحر العلوم" ١/ ٤١٧، و"النكت والعيون" ٢/ ١٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦، و"اللسان" ٧/ ٣٩١١ (كلب).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ١٥، و"زاد المسير" ٢/ ٢٩٢.
(٤) في (ج): (تؤدبوهن).
(٥) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤١٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦.
(٦) أشلاه: أي أغراه انظر: "اللسان" ١٤/ ٢٣١٩ (شلا).
(٧) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٢، و"النكت والعيون" ٢/ ١٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦.
264
وقوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾.
(قال النحويون (١)): دخلت (من) في قوله (مما) للتبعيض؛ لأنه إنما أحل أكل بعضه وهو اللحم دون الفرث والدم (٢).
وقال الأخفش: من ههنا زائدة، (والمعنى: فكلوا (٣)) ما أمسكن عليكم (٤).
وقال غيره: هذا خطأ؛ لأن مِنْ لا تزاد في الواجب، وإنما تزاد في النفي والاستفهام. ومعنى (مِن) في: ﴿وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١] (٥) ابتداء الغاية، أي: يكفر (عنكم أعمالكم (٦)) التي تحبون أن تستر عنكم من سيئاتكم (٧).
قال العلماء: إذا كان الضاري وهو الكلب معلمًا كما وصفنا، ثم صاد صيدًا (فجرحه (٨)) وقتله وأدركه الصياد ميتًا: فهو حلال وجرح
(١) ما بين القوسين ساقط من (ج).
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٨ - ٩٩، و"الدر المصون" ٤/ ٢٠٤. وقد رجح الطبري في "تفسيره" والسمين هذا القول.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٤٦٤، و"زاد المسير" ٢/ ٢٩٤، و"الدر المصون" ٤/ ٢٠٤.
(٥) سياق هذه الآية في مقام الرد على الأخفش؛ لأنه قد اعتبر من في آية النساء هذه كما في آية البقرة. انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٤٦٤.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(٧) انظر: الطبري في "تفسيره" ٩/ ٥٦٩، ٥٧٠ والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٧٣، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٣٠.
(٨) ساقط من (ش).
265
الجارحة كالذبح (١)، وكذلك الحكم في سائر الجوارح (المُعلَّمة، والسهم، والرمح، والمعراض (٢) وما جَرَح (٣)) تجده، فإن أصابه المعراض بعَرضه (فقتله ولم تدرك (٤)) ذكاته فهو حرام (٥)، (وإن صاده الكلب فجثم عليه (٦)) فغمّه وقتله بالغم (٧) من غير جُرح (لم يجز أكله عند كثير من العلماء، والقياس أنه حلال؛ لأنه مما أمسكه على صاحبه) (٨)، والكلب لا يتعلم الجرح، (والذي يُتَصوّر عنده أنّ تسليمه إلى مرسله سليمًا (٩)) عن الجرح أحسن (في الاصطياد) (١٠).
هذا كله إذا لم يأكل، فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء.
فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي: أنه لا يحل ولا يؤكل (١١).
قال ابن عباس: إذا أرسلت الكلب فأكل من صيده فهو (ميتة، لا يحل
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٧، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٧١، ٧٢.
(٢) المعراض: السهم الذي لا ريش عليه "الصحاح" ٣/ ١٠٨٣ (عرض).
(٣) غير واضح في (ش).
(٤) غير واضح في (ش).
(٥) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٧، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٧١، ٧٢.
(٦) غير واضح في (ش).
(٧) الظاهر أن المراد بغمه أن يضيق عليه أنفاسه بثقله فيموت الصيد بالغم.
(٨) غير واضح في (ش).
(٩) غير واضح في (ش).
(١٠) غير واضح في (ش).
(١١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٢ - ٩٨، و"النكت والعيون" ٢/ ١٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦.
266
أكله) (١)؛ لأنه أمسكه (على نفسه (٢)) ولم يمسك عليك، ولم يتعلم ما علمته، فاضربه ولا تأكل من صيده (٣).
وهذا (هو الأشهر (٤)) والأظهر من مذهب الشافعي (٥)، ويدل عليه ما روي أن النبي - ﷺ - قال لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك (فاذكر اسم الله (٦)) فإن أدركته لم يقتل (فاذبح (٧)) واذكر اسم الله، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل، فقد أمسك عليك، وإن وجدته (وقد أكل (٨)) منه فلا تطعم منه (شيئاً فإنما (٩)) أمسك على نفسه" (١٠).
وعند سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة أنه يحل وإن أكل (١١) (وهو أحد (١٢)) قولي الشافعي (١٣).
(١) غير ظاهر في (ش).
(٢) غير ظاهر في (ش).
(٣) أخرجه بمعناه من طريق العوفي: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٨، وقد ثبت نحو هذا القول لابنه في "صحيح البخاري" (٥٤٨٣) كتاب الذبائح والصيد، باب (٧): إذا أكل الكلب ٦/ ٢٢٠.
(٤) غير واضح في (ش).
(٥) انظر: "الأم" ٢/ ٢٢٦، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٩، وذكره ابن كثير في "تفسيره" أنه رأي الجمهور واختار هذا القول الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٦.
(٦) غير واضح في (ش).
(٧) طمس في (ش).
(٨) غير واضح في (ش).
(٩) طمس في (ش).
(١٠) أخرجه البخاري (٥٤٨٤) كتاب الذبائح والصيد، باب (٨): الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة ٦/ ٢٢٠، ومسلم (١٩٢٩) كتاب الصيد والذبائح، باب (١): الصيد بالكلاب المعلمة ٣/ ١٥٢٩ (ح ١).
(١١) وهذا رأي الإِمام مالك أيضًا. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٥ - ٩٦، و"النكت والعيون" ٢/ ١٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧.
(١٢) ما بين القوسين بياض في (ش).
(١٣) انظر البغوي في "تفسيره" ١/ ١٧.
267
ولا فرق فيما ذكرنا بين الطيور المعلمة والسباع المعلمة.
وقال سعيد (بن جبير (١)): إذا أكل الكلب (من صيده (٢)) فلا تأكل منه، فإنما أمسك على نفسه، وأما البازي والصقر فكل وإن أكلا؛ فإنما تعليمه إذا دعوته يجيبك، ولا تستطيع ضربه حتى يدع الأكل (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾.
يعني إذا أرسلتم الكلاب. قال الكلبي وغيره من المفسرين (٤).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ إذا أطلقت، فإن نسيت حين تطلق كلبك اسم الله فلا بأس أن تأكله، فإن المؤمن مؤمن واسم الله المؤمن، والمسلم مسلم، واسم الله السلام (٥).
وقال الحسن: إذا أرسل المؤمن كلبه (ونسي (٦)) أن يسمي الله فإنه يأكل؛ لأن اسم الله من دينه، وهو بمنزلة شفرته إذا نسي أن يذكر اسم الله (٧).
(١) غير واضح في (ش).
(٢) بياض في (ش).
(٣) أخرج صدره الخاص بالكلب: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٣، وذكره بطوله الهواري في "تفسيره" ١/ ٤٥٠.
(٤) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤١٧، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
(٥) لم أقف عليه، وقد ثبت عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة أنه قال: إذا أرسلت جوارحك فقل: بسم الله، وإن نسيت فلا حرج، و"تفسيره" ص ١٧١، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٩، وانظر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٤٩٩.
(٦) في (ش): (فنسي).
(٧) لم أقف عليه، وانظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٥٠.
268
قال العلماء: الأولى الذبح علي اسم الله، وإرسال الجوارح على اسم الله، فمن ترك اسم الله فذبيحته؛ حلال لما قال رسول الله - ﷺ -: "المؤمن يذبح على اسم الله، سمّى أو لم يُسمّ" (١).
وهو ما فسر ابن عباس والحسن.
وقالت عائشة لرسول الله - ﷺ -: إن الأعراب يأتوننا بلحوم الصيد، ولا ندري سموا الله عليها أم لا. فقال رسول الله - ﷺ -: "سموا أنتم وكلوا" (٢).
قال أهل المعاني: الهاء في قوله: (عليه) تعود إلى الإرسال (٣)، كنّى عنه وإن لم يجر له ذكر؛ لأن الكلام يدل عليه، ومثله كثير.
٥ - قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾.
قال أهل المعاني: إنما ذكر إحلال الطيبات تأكيدًا، كأنه قيل: اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها (٤).
وقد فسرنا الطيبات في الآية الأولى.
وقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾.
الطعام عند العرب: (اسم لما يُؤكل (٥))، كما أن الشراب اسم لما
(١) لم أقف عليه.
(٢) أخرجه بنحوه البخاري (٥٥٠٧) كتاب الذبائح والصيد، باب (٢١): ذبيحة الأعراب ونحوهم ٦/ ٢٦٦، وابن ماجة (٣١٧٤) كتاب الذبائح، باب: التسمية عند الذبح.
(٣) هذا معنى قول ابن عباس والسدي. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٩٩، و"زاد المسير" ٢/ ٢٩٤.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٩٥.
(٥) غير واضح في (ش).
269
يشرب، والذبائح داخلة في اسم الطعام على مقتضى اللغة.
قال ابن عباس: قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١] ثم استثنى ذبائح أهل الكتاب فقال: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ يعني: (ذبائح اليهود (١)) والنصارى وإن لم يذكروا اسم الله وذكروا عيسى وعزير (٢).
وقال الشعبي وعطاء في النصراني (يذبح فيقول: باسم (٣)) المسيح. قالا: تَحلّ، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم (ما يقولون (٤)) (٥).
ومثل هذا رُوي عن الزهري (٦) ومكحول (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾.
يريد أن ذبائحنا لهم حلال، فإذا اشتروها (منا كان (٨)) الثمن لنا حلالًا، (واللحم لهم حلالًا) (٩)، وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا.
(١) غير واضح في (ش).
(٢) لم أقف عليه، وما وجدته عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم. أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠١، ويريد نصارى بني تغلب.
(٣) غير واضح في (ش).
(٤) غير واضح في (ش).
(٥) أخرجه عنهما بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠١، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨، و"زاد المسير" ٢/ ٢٩٥.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠١، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٩٥.
(٧) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨.
(٨) غير واضح في (ش).
(٩) غير واضح في (ش)، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٩٦.
270
وقال الزجاج: ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ (تأويله حل لكم أن تطعِمُوهم (١)) (٢). فجعل الزجاج الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود إلى إطعامنا إياهم، لا إليهم. ثم قال: لأن (الحلال والحرام والفرائض بعد (٣)) عقد التوحيد (٤)، إنما يعقد على أهل الشريعة (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾.
قال مجاهد: يعني الحرائر (٦).
وقال ابن عباس: يريد العفائف من المؤمنات (٧) وهو قول الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم والسدي (٨).
فإن حملنا الإحصان على الحرية وهو قول مجاهد لم تدخل الأَمَة
(١) غير واضح في (ش).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥١، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤١٧، و"زاد المسير" ٢/ ٢٩٦.
(٣) غير واضح في (ش).
(٤) علق محقق "معاني الزجاج" عند هذا الموضع ما يأتي: أي الإيمان والعقيدة أولاً ثم التكليف بعد ذلك، وهؤلاء لا إيمان عندهم فليأكلوا ما يأكلون ولا حرج علينا في تقديم ذلك لهم.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥١، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤١٧.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٤، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٢٦٧، و"زاد المسير" ٢/ ٢٩٦.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٢٦٦، و"زاد المسير" ٢/ ٢٩٦، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
(٨) انظر: الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٠٦ - ١٠٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩.
271
المسلمة في هذا التحليل، وذلك ان هذا تحليل مطلق، والتحليل المطلق إنما يستمر في الحرائر المسلمات؛ فأما الأمة المسلمة فنكاحها إنما يجوز بشرطين، على ما بينا في سورة النساء، فهي غير مطلقة النكاح.
وإن حملنا الإحصان على العِفّة وهو قول ابن عباس والباقين قلنا في هذه الآية إن المراد بها بيان الأولى من النكاح، كما قال رسول الله - ﷺ -: "عليك بذات الدين تربت يداك" (١) فالأولى أن يتزوج عفيفة، فإن تزوج زانية كُرِهَ وجاز، وسنذكر المذاهب في تزوجّ الزانية عند قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً﴾ [النور: ٣] إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.
قال ابن عباس: يريد الحرائر، وأما أهل الكتاب حرام نكاحهن (٢).
هذا كلامه، وقد بينا هذا في سورة النساء.
واختلفوا في قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ هل هو عام أم لا؟
فقال ابن عباس: هذا خاص في الذميات منهن، فأما الحربيات منهن فلا. روى مِقسَم عنه أنه قال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، (ومنهم (٣)) من لا يحل لنا. ثم قرأ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ [التوبة: ٢٩] فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يُعطِ لم يحل (٤).
(١) أخرجه بنحوه من حديث أبي هريرة البخاري (٥٠٩٠) كتاب النكاح، باب: الأكفاء في الدين.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٧.
(٣) في (ش): منهن وما أثبته هو الموافق لما عند الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٧.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٧، و"زاد المسير" ٢/ ٢٩٧. قال ابن الجوزي معلقًا على رأي ابن عباس هذا: والجمهور على خلافه.
272
وقال الحسن وسعيد بن المسيب: هذا عام في جميع الكتابيات حربية كانت أو ذمية (١).
وقوله تعالى: ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾.
قال ابن عباس: يريد الصداق والمهور (٢).
قال أهل المعاني: تقييد التحليل بإيتاء الأجور يدل على تأكد وجوبه، وأن من تزوج امرأة واعتقد أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني. وقد روي هذا المعنى عن النبي - ﷺ - (٣).
وتسمية المهر بالأجر يدل على أن أقل الصداق لا يتقدر، كما أن أقل الأجر في الإجارات لا يقدر.
وقوله تعالى: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾.
قال ابن عباس: يريد حلالًا غير حرام (٤).
﴿وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾. قال: يريد التي يهواها فيضمها إليه من غير تزويج، هذا حرام (٥). وقال غيره: ﴿مُحْصِنِينَ﴾ يعني تنكحوهن بالمهر والبينة، ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ معالنين بالزنا، ﴿وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ يعني تُسرون الزنا (٦).
وقال الشعبي: الزنا ضربان خبيثان: السفاح وهو أخبثهما، وهو
(١) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٧، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٩٦.
(٢) "تفسيره" ص ١٧٢، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٨.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) بمعناه في "تفسيره" ص ١٧٢، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٨.
(٥) بمعناه في "تفسيره" ص ١٧٢، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٨.
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩.
273
المعالنة بالزنا، والآخر: اتخاذ الخدن، وهو الزنا في السر (١).
قال الزجاج حرم الله عز وجل الجماع على جهة السفاح، وعلى جهة اتخاذ الصديقة، وأحله على جهة الإحصان، وهو التزوج (٢) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾.
قال ابن عباس ومجاهد: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾ أي بالله (٤).
ووجه هذا القول: هو أن الله تعالى يجب الإيمان به، ومن آمن به فهو مؤمن به، والله تعالى مؤمن به، والمؤمن به يجوز أن يسمى إيمانًا كما يسمى المضروب ضربًا، كقولهم: نسج اليمن، وصيد البر.
وحكى عن بعضهم أنه قال: معنى هذا القول: ومن يكفر برب الإيمان (٥). فجعله من باب حذف المضاف.
والأول الوجه.
قال العلماء: وليس هذا على الإطلاق، لأنه قيد في آية أخرى فقال: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٧]، فأما من كفر ثم آمن ومات على الإيمان لا يقال حبطت أعماله.
(١) لم أقف عليه.
(٢) في "معاني الزجاج": التزويج.
(٣) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٢.
(٤) هذا لفظ مجاهد كما عند الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٩، وانظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٥١، أما لفظ ابن عباس فإنه قال: أخبر الله أن الإيمان هو العروة الوثقى وأنه لا يقبل عملاً إلا به، ولا يحرم الجنة إلا على من تركه. "تفسيره" ص ١٧٢، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٠٩ - ١١٠.
(٥) لم أقف عليه.
274
وقال الكلبي: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾ بشهادة أن لا إله إلا الله (١).
فجعل كلمة التوحيد إيمانًا.
وروى حِبان (٢) عنه: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾ يقول: بما أنزل على محمد - ﷺ - (٣).
وعلى هذا سُمي القرآن إيمانًا؛ لأنه يجب الإيمان به، وأنه من عند الله.
قال مقاتل: المراد بقوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾ نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر أو يغني عنهن في دينهن شيئًا، وجعلهن ممن كفر بالإيمان وحبط عمله، وهي بعدُ للناس عامة، من كفر بالإيمان فقد حبط عمله (٤).
وقال أبو إسحاق: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ أي من بدّل شيئًا مما أحل الله فجعله حرامًا، أو أحل شيئًا مما حرم الله فهو كافر بالإجماع، وقد حبط جميع ما تقرب به إلى الله عز وجل (٥).
وهذا دليل لمن جعل الطاعات إيمانًا؛ لأن تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرمه طاعة.
(١) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٠، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٨.
(٢) هو أبو عبي حبان -بكسر الحاء- بن علي العنزي الكوفي، له فقه وفضل، لكنه ضعيف. توفي سنة ٧١ هـ.
انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٢٧٠، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٤٤٩، و"التقريب" ص ١٤٩ رقم (١٠٧٦) رقم (١٠٧٦).
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "سير مقاتل" ١/ ٤٥٥.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٢.
275
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: ٥].
قال ابن عباس: يريد الثواب (١).
٦ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾.
قال الزجاج: المعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وإنما جاز ذلك لأن (في (٢)) الكلام والاستعمال دليلًا على معنى الإرادة، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [النحل: ٩٨]، المعنى: إذا أردت أن تقرأ (٣).
قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا اتجرت فاتجر في البزّ، وإذا آخيت فآخ أهل الحسب. تريد إذا أردت التجارة، وإذا أردت مؤاخاة الناس.
قال: ويجوز أن يكون المعنى: إذا قمتم إلى الطهور، فذكر الصلاة وهو يريد الطهور؛ لأن الصلاة لا تكون إلا بطهور وهو مقدمتها التي لا تكون صلاة مُجازَةً إلا بها. قال: والأول هو المختار (٤).
وقال أبو الفتح الموصلي (٥): معنى قوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾: إذا عزمتم الصلاة (٦) وأردتموها، وليس الغرض والله أعلم في (قمتم) النهوض والانتصاب؛ لأنهم قد أجمعوا على أنه لو غسل أعضاءه قبل
(١) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٨.
(٢) ليست في (ج).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٢، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٢٦٨، و"بحر العلوم" ١/ ٤١٨، و"رصف المباني" ص ٤٤١.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٩٨.
(٥) هو ابن جني كما في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٣٣.
(٦) في "سر صناعة الإعراب": (عزمتم على الصلاة).
276
الصلاة قاعدًا أو نائمًا (١) لكان قد أدى فرض هذه الآية (٢).
ونظير قمتم في هذا الموضع قوله سبحانه: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣٤] وليس يراد هنا -والله أعلم- القيام الذي هو المثول، وإنما هو من: قمت (بأمرك (٣))، وعليّ القيام بهذا الأمر، فكأنه (٤) قال: الرجال متكلِّفون لأمر النساء ومعنيون بشؤونهن، فكذلك قوله: ﴿إِذَا قُمْتُم﴾ (أي (٥)) إذا هممتم بأمر الصلاة، وتوجهتم إليها بالعناية، وكنتم غير متطهرين فافعلوا كذا، فقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا﴾ يريد: إذا قمتم إلى الصلاة ولستم على طهارة، فحذفُ ذلك للدلالة عليه، وهذا أحد الاختصارات التي في القرآن، وهو كثير جدًّا.
ومثل ذلك قول طَرَفَة:
فإن مُتُّ فانعِيني بما أنا أهلُه وشُقِّي عليَّ الجَيبَ يابنة مَعْبَدِ (٦)
تأويله: فإن مُتُّ قبلك. لابد من أن يكون الكلام معقودًا على هذا؛ لأنه معلوم أنه لا يكلفها نعيه والبكاء عليه بعد موتها (٧).
(١) في "سر صناعة الإعراب": (قائمًا أو قاعدًا)، وهو أولى.
(٢) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٣٣.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(٤) في (ج): (وكأنه).
(٥) ساقط من (ج).
(٦) "ديوانه" ص ٢٩، والبيت من معلقته كما في "شرح القصائد المشهورات" ص ٩٢ و"شرح المعلقات السبع" ص ٦٨، ومعنى انعيني: أشيعي خبر موتي، ويقصد بابنة معبد ابنة أخيه معبد بن العبد.
(٧) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٣٤، ٦٣٥.
277
وقوله تعالى ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾.
قال أبو الفتح: كان أبو سهل بن زياد القطان (١) يحتج بهذه الآية على وجوب الترتيب في الطهارة. قال: لأن الفاء للترتيب، وقد قال: ﴿فَاغْسِلُوا﴾ فوجب أن يُرتب الغَسل على القيام، يبدأ به دون غيره.
فقال أبو الفتح: قد بينا أن المراد بالقيام ههنا: العزم والإرادة، فالفاء إذًا إنما (رتب (٢)) الغسل والمسح عَقِيب الإرادة والعزم، ولم يجعل للغسل مزية في المتقدم على المسح؛ لأن المسح معطوف على الغسل بالواو (٣).
والواو لا توجب الترتيب، وليس فيها دليل على (المبدوء به (٤)) في المعنى؛ لأنها ليست مرتبة، ألا ترى إلى قول لبيد:
أُغْلي السِّباءَ بكُلِّ أدكنَ عاتقٍ أو جَونةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتامُها (٥)
قوله قدحت (أي غُرِفَت (٦))، وإنما يُفَضّ الخَتم قبل الغرف، فقد
(١) هو أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان البغدادي، الإِمام المحدث الثقة مسند العراق، وكان كثير التلاوة حسن الانتزاع لمعانيه، توفي رحمه الله سنة ٣٥٠ هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٥٢١، و"البداية والنهاية" ١١/ ٢٣٨، و"شذرات الذهب" ٣/ ٢.
(٢) في "سر صناعة الإعراب": (رتبت)، وهو أصوب.
(٣) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٣٣ بتصرف.
(٤) في (ش): (البدء به)، وما أثبته هو الموافق لـ"سر صناعة الإعراب".
(٥) "ديوانه" ص ٣١٤، والبيت من معلقته كما في "شرح القصائد المشهورات" ١/ ١٦٢، و"شرح المعلقات السبع" ص ٩٤.
ومعنى: أغلي: أشتري غاليًا، والسباء: اشتراء الخمر، والأدكن: الذي فيه دكنة كالخز الأدكن، والعاتق: الخالصة، والجونة: الخابية السوداء، وقدحت. غرفت، والفض: الكسر.
(٦) بياض في (ش).
278
علمت أن قُدِحَت مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، وعلى هذا يتوجه قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ الآية [آل عمران: ٤٣] فبدأ بالسجود قبل الركع لفظًا وهو مؤخر عني (١).
وإذا كان كذلك جرى قوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا﴾ ﴿وَامْسَحُوا﴾ مجرى قولك: فاضرب زيدًا واشتم جعفرًا، فلو بدأ بالشتم قبل الضرب كان جائزًا، فالفاء لم ترتب الغَسل قبل المَسح، ولا الضرب قبل الشتم، ولم ترتب أيضًا نفس المغسول؛ لأن المغسول معطوف بعضه على بعض بحرفٍ لا يوجب الترتيب وهو الواو.
وقوله تعالى: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾.
المِرفق مكسور من اليد والمتكأ، ومن الأمر كقوله تعالى: ﴿وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: ١٦]، والارتقاء التوكؤ بمِرفقك على مَرفَق (٢).
(فأما قوله: ﴿إِلَى﴾ فإن أبا العباس (٣)) (٤) وجماعة من النحويين جعلوا (إلى) ههنا بمعنى: مع، وأوجبوا غسل المرافق (٥)، وهو مذهب الشافعي وأكثر العلماء (٦).
(١) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٣٢، ٦٣٣ بتصرف.
(٢) "العين" ٥/ ١٤٩، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٤٤ (رفق).
(٣) لعله المبرد.
(٤) في (ج): (فأما قوله فإن العباس).
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٥٣، و"بحر العلوم" ١/ ٤١٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢١، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٧، و"الدر المصون" ٤/ ٢٠٨.
(٦) انظر: "الأم" ١/ ٢٥، والطبري ٦/ ١٢٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٥٣، و"بحر العلوم" ١/ ٤١٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢١، و"زاد المسير" ٢/ ٣٠٠، =
279
وقال المبرد: وهو قول الزجاج: اليد من أطراف الأصابع إلى الكتف، والرجل من الأصابع إلى أصل الفخذين، فلما كانت المرافق والكعبان داخلة في تحديد اليد والرجل كانت داخلة فيما يغسل وخارجة مما لا يغسل، ولو كان: مع المرافق، لم يكن في ذكر المرافق فائدة، وكانت اليد كلها يجب أن تغسل، ولكن لما قيل: ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ اقتطعت في الغسل من حد المرفق (١).
قال الزجاج: والمرفق في الحقيقة في اللغة ما جاوز الإبرة (٢). وهو المكان الذي يرتفق به، أي يتكَّأ عليه، فالمرافق هي في الحقيقة حد ما ينتهي إليه في الغسل، وليس يحتاج إلى تأويل (مع). انتهى كلامه (٣).
وقد حصل من قوليهما أن الحد إذا كان من جنس المحدود كان داخلًا في جملة المحدود، وهو قولهما: لما كانت المرافق والكعبان داخلة في تحديد اليد والرجل كانت داخلة فيما يغسل، ومثل هذا قولك: بعتك الثوب من هذا الطرف إلى ذاك الطرف، دخل الطرفان في البيع إذا كان من جنس المبيع.
وحصل من قول الزجاج: أن المِرفق ما جاوز الإبرة، وأنه حد ما ينتهي إليه الغسل. وما جاوز الإبرة لا يجب غسله بالإجماع.
= و"المغني" لابن قدامة ١/ ١٧٢، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٨٦، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٧.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٣.
(٢) الإبرة بالكسر: عظم وترة العرقب، وطرف الذراع من اليد، وما انحدّ من عرقوب الفرس. "مختار القاموس" ص ١١.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٣.
280
وقوله تعالي: ﴿وَامْسَحُوا (١) بِرُءُوسِكُمْ﴾.
المسح مسحك شيئًا بيدك كمسحك الرشح عن جبينك، وكمسحك رأسك في وضوئك. قاله الليث (٢).
والظاهر (٣) من مقتضى الآية أن التعميم لا يجب في مسح الرأس، وأنه غير محدود أيضًا، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ لأنه إذا مسح البعض وإن قل، فقد حصل من طريق اللسان ماسحًا (٤)، ولا يلتفت إلى قول من قال: إن الباء توجب التعميم؛ لأن ذلك لا يعرفه أهل النحو، بل الباء للإلصاق، كما بينا في أول الكتاب عند قوله: ﴿بِسْمِ اللهِ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
في الأرجل قراءتان: النصب والخفض (٥).
أما النصب فهو ظاهر؛ لأنه عطف على المغسول، لوجوب غسل الرجلين بإجماع، لا يقدح فيه قول من خالف.
وأما الكسر فقد اختلفوا في وجهه: فقال أبو حاتم وابن الأنباري
(١) في (ش): (فامسحوا).
(٢) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٨، وانظر: "اللسان" ٧/ ٤١٩٦ (مسح).
(٣) في (ش): (فالظاهر).
(٤) انظر: "الأم" ١/ ٢٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٢، وقد قال بقول الشافعي الحسن والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو رواية عن الإمام أحمد، والرواية الأخرى عن أحمد أنه يجب مسح جميعه، وهو مذهب مالك.
انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٢٤ - ١٢٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٢، و"المغني" ١/ ١٧٥.
(٥) قراءة النصب لنافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص، وقرأ الباقون بالخفض، انظر: "الحجة" ٣/ ٢١٤، و"النشر" ٢/ ٢٥٤.
281
وأبو علي: الكسر بالعطف على الممسوح، غير أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل (١). روي ذلك عن أبي زيد أنه قال: المسح خفيف الغسل. قالوا: تمسّحت للصلاة، وهات ما أتمسّح به للصلاة في معنى: أتوضأ (٢).
قال أبو حاتم: وذلك أن المتوضئ لا يرضى بصبّ الماء على أعضائه حتى يمسحها مع الغسل، فسمي الغسل مسحًا (٣).
فعلى هذا الرأس والرجل ممسوحان؛ لأن المسح في أحدهما وهو الرأس، دون المسح في الرجل.
والذي يدل على أن المراد بالمسح في الرجل الغسل: ذكر التحديد وهو قوله تعالى: ﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ والتحديد إنما جاء في المغسول، ولم يجيء في الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد. ذكره الزجاج (٤) وابن الأنباري (٥) (وأبو (٦) علي) (٧).
فإن قيل: إن كان المراد بالمسح الغَسل فهلا عطفت على المغسول فيكون أظهر في إيجاب الغسل؟
(١) انظر: "الحجة" ٣/ ٢١٥، و"معانى القراءات" ١/ ٣٢٧.
(٢) من "الحجة" ٣/ ٢١٥ بتصرف، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٢٧، و"زاد المسير" ٢/ ٣٠١.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٤ بنحوه.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (ج).
(٧) "الحجة" ٣/ ٢١٥.
282
قيل: إن من قرأ بالكسر وجد في الكلام عاملين، أحدهما: الغسل والآخر الباء الجارة، ووجد العاملين إذا اجتمعا في التنزيل أن يحمل على الأقرب منهما دون الأبعد، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا﴾ [الجن: ٧]، ونحو قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: ١٧٦]، (١)، ونحو قوله تعالى: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩]، وقوله تعالى: ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ [الكهف: ٩٦]، فلما رأى العاملين إذا اجتمعا حُمِل الكلام على أقربهما إلى المعمول حمل في هذه الآية أيضاً على أقربهما وهو الباء، ولم يُخَف الالتباس لشيوع الغسل في الآثار، وقيام الدلالة على أن المراد بالمسح في الرجل الغسل (٢). وهو ما قدمنا ذكره.
وقال الجماعة من أهل المعاني: إن الأرجل معطوفة على الرؤوس في الظاهر، والمراد فيها الغسل، وقد ينسق بالشيء على غيره والحكم فيهما مختلف، كما قال الشاعر:
يا ليتَ بَعلَك قد غَدا مُتَقَلِّدًا سيفًا ورُمحًا (٣)
المعنى: وحاملًا رمحًا، وكذلك قول الآخر:
(١) لعل الشاهد في الآية الأولى أن يكون التقدير: وأنهم ظنوا أن لن يبعث الله أحدًا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدًا وفي الآية الثانية: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾، وهكذا في بقية الآيات.
(٢) "الحجة" ٣/ ٢١٤، ٢١٥.
(٣) البيت لعبد الله بن الزبعري كما في "الكامل" ١/ ٣٣٤، وبلا نسبة في "معاني الفراء" ١/ ١٢١، و"معاني الأخفش" ٢/ ٤٦٦، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٥٤.
283
علّفتُها تِبنًا وماءً باردًا (١)
المعنى: وسقيتُها ماءً باردًا. ذكره الزجاج (٢).
قال أبو بكر: وكما قالوا: أكلت خبزًا وماء، وهم يريدون: وشربت ماء، فحذفوا شربت، كذلك المعنى في الآية: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ واغسلوا ﴿أَرْجُلَكُمْ﴾، فلما لم يذكر الغسل عطفت الأرجل على الرؤوس في الظاهر، واكتفى بقيام الدليل أن الأرجل تغسل من الآية والخبر (٣).
وهذا الذي ذكرنا مذهب أبي عبيدة (٤) والأخفش (٥) في هذه الآية.
وقوله تعالى: ﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ قد مضى الكلام في كيفية التحديد.
وأما تفسير الكعبين فقال الليث: كعب الإنسان ما أشرف فوق رُسْغِه عند قدمه (٦).
وقال أبو عبيد عن الأصمعي: الكعبان الناشزان من جانبي القدم. وأنكر قول الناس أنه في ظهر القدم (٧).
(١) عجز هذا البيت:
حتى شتت همالة عيناها
وفي رواية: غدت همالة، ومعنى شتت: أي أقامت في الشتاء والمراد: صارت. والبيت من شواهد "تأويل مشكل القرآن" ص ٢١٣، و"الخصائص" ٢/ ٤٣١، و"الإنصاف" ص ٤٨٨، و"شذور الذهب" ص ٢٤٠.
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٤، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٤٦٦، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٢١٣، و"زاد المسير" ٢/ ٣٠١.
(٣) لم أقف على قول ابن الأنباري.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٥٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٤٦٥، ٤٦٦.
(٦) "العين" ١/ ٢٠٧، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٥٢ (كعب)
(٧) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٥٢ (كعب).
284
وروى الأزهري أن واحداً (١) سأل أحمد بن يحيى عن الكتب، فأومأ إلى المَنْجَمَين (٢). وقال: هذا قول أبي عمرو بن العلاء والأصمعي (٣).
ولا يعرج على قول من يقول: إن الكتب في ظهر القدم، فإنه خارج من اللغة والأخبار وإجماع الناس (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾.
قال الزجاج: معناه فتطهروا، إلا أن التاء تدغم في الطاء؛ لأنهما من مكان واحد، فإذا أدغمت التاء في الطاء (سكن (٥)) أول الكلمة، فتزيد فيها ألف الوصل فابتدأت فقلت: اطهروا (٦).
قال مقاتل: يقول: فاغتسلوا (٧).
ومضى الكلام في هذا الحرف عند قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] في الآية مشروح في سورة النساء إلى قوله تعالى:
(١) في "تهذيب اللغة" أنه: ابن جابر.
(٢) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٥٢ (كعب): فأومأ ثعلب إلى رجله إلى المفصل منها بسبابته فوضع السبابة عليه... قال: ثم أومأ إلى المنجمين.
قال ابن منظور: والمَنْجِمَان والمِنْجَمَان: عظمان شاخصان في بواطن الكعبين يقبل أحدهما على الآخر إذا صفت القدمان. ومنجما الرجَّل: كعباها. "اللسان" ٧/ ٤٣٥٨ (نجم)، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٣٦.
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٢٥ (نجم).
(٤) أخرج الطبري في "تفسيره" عن الإِمام مالك -رحمه الله- أنه قال: (الكعب) الذي يجب الوضوء إليه هو الكعب الملتصق بالساق المحاذي العقب، وليس بالظاهر في ظهر القدم. "جامع البيان" ٦/ ١٣٦.
(٥) في "معاني الزجاج" ٢/ ١٥٥: سقط.
(٦) انتهى من "معاني الزجاج" ٢/ ١٥٥، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٠٤.
(٧) "تفسيره" ١/ ٤٥٥.
285
﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ (١).
ومعنى (منه) ههنا استعمال بعض تراب الصعيد في التيمم، خلافًا لمن جوز في التيمم ضرب اليد على موضع لا يعلق بيده منه غبار؛ لأنه إذا فعل ذلك لم يمسح بوجهه من الصعيد، وإنما مسح بوجهه كفًّا فارغة من الصعيد وترابه، وذلك عبث (٢).
وقوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾.
يعني: من ضيق في الدين (٣)، ولكن جعله واسعًا حين رخص في التيمم.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾.
قال الزجاج: دخلت اللام لتبيين الإرادة، المعنى: إرادته (لتطهيركم (٤)) (٥).
قال المفسرون: يريد ليطهركم من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات؛ لأن الوضوء يكفر الذنوب (٦).
(١) الظاهر أنه عند تفسير الآية (٤٣) من سورة النساء، وهو ضمن القسم المفقود.
(٢) هذا على القول بأن الصعيد لا يقع إلا على التراب ذي غبار، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة ومالك يجوز بكل ما كان من جنس الأرض.
انظر: "الأم" ١/ ٥٠، والطبري في "تفسيره" ٥/ ١٠٨ - ١٠٩، و"المغني" ١/ ٣٢٤، والقرطبي في "تفسيره" ٥/ ٢٣٦، و"زاد المسير" ٢/ ٩٤.
(٣) انظر: "تفسير مجاهد" ١/ ١٨٧، و"معاني النحاس" ٢/ ٢٧٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٥.
(٤) في "معاني الزجاج": ليطهركم.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ١٥٥، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٠٤.
(٦) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٥، و"زاد المسير" ٢/ ٣٠٤
286
روى أبو أمامة أن النبي - ﷺ - قال: "الطهور يكفر ما قبله ويصير الصلاة نافلة" (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾. أي تبيان الشرائع (٢).
وقال القرظي: أي: بغفران الذنوب، بيانه قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ [الفتح: ٢] فلم يتم عليه النعمة حتى غفر له (٣).
وفسر النبي - ﷺ - تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: ٦].
قال عطاء: يريد لكي تشكروا نعمتي، وتطيعوا أمري (٥).
٧ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾.
قال مجاهد: نعمة الله: النعم (٦).
(١) أخرجه أحمد في "مسنده" ٥/ ٢٥١، ٢٦١ بلفظ: الوضوء يكفر.. الحديث، وحسنه الألباني. انظر: "صحيح الجامع" (٧١٥٦).
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٠٦.
(٣) أخرجه بمعناه ابن المبارك في الزهد وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان". انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٥، و"زاد المسير" ٢/ ٣٠٥، و"الدر المنثور" ٢/ ٤٦٨.
(٤) أخرج الترمذي عن معاذ بن جبل قال: سمع النبي - ﷺ - رجلاً يدعو يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة. فقال: "أي شيء تمام النعمة؟ " قال: دعوة دعوت بها أرجو بها الخير. قال: "فإن من تمام النعمة دخول الجنة، والفوز من النار" الحديث.
أخرجه الترمذي (٣٥٢٧) كتاب الدعوات، باب (٩٩): ٥/ ٥٤١، وقال: هذا حديث حسن. وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٤٦٨.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ١٨٧، وانظر: "الدر المنثور" ٤٦٩.
287
قال أهل المعاني: إنما لم تجمع للإشعار بعظمها من غير جهة تضاعفها (١). ولأن جملة النعم نعمة على طريقة الجنس، كما أن جملة الماء ماء، وجملة المنافع منفعة.
وقال مقاتل: يعني: بالإسلام (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ﴾.
معنى المواثقة: المعاهدة التي قد أحكمت بالعقد على ثقة (٣).
واختلفوا في هذا الميثاق، فقال ابن عباس: هو الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل حين قالوا: آمنا بالنبي، وأقررنا بما في التوراة، فذكّرهم الله ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء (٤).
فعنده الآية خطاب لليهود.
وقال مجاهد والكلبي ومقاتل: هو ما أخذ عليهم حين أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى (٥).
فإن قيل على هذا: إن بني آدم لا يذكرون ذلك الميثاق، فكيف (أُمِروا (٦)) بحفظه؟
قيل: إن الله تعالى إذ (٧) أخبر أنه أخذ ذلك الميثاق علينا لم يبق لنا شك في أنه كان كذلك، وليس التذكر شرطًا في خبر الصادق، فجاز أن
(١) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٠٦.
(٢) "تفسيره" ١/ ٤٥٦.
(٣) انظر: "اللسان" ٨/ ٤٧٦٤ (وثق).
(٤) "تفسير ابن عباس" ص ١٧٣، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٤٠.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ١٨٧، وانظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٥٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٦، و"زاد المسير" ٢/ ٣٠٦.
(٦) ساقط من (ش).
(٧) في (ش): (إذا) بالمد.
288
يكلفنا الوفاء به بعد إنتفاء الشك بإخبار الصادق عنه، كما لو انتفى الشك بالتذكر، وغير بعيد أن يذكرنا الله ذلك الميثاق يوم القيامة.
وقال جماعة من المفسرين: يعني بالميثاق: حين بايعوا رسول الله - ﷺ - على السمع والطاعة في كل أمر ونهي، في اليسر والعسر، والرضا والكره، والأيمان التي أخذت عليهم يوم بيعة العقبة، ويوم بيعة الرضوان (١).
قال السدي: هذا ميثاق قبول التوحيد والإقرار بالطاعة والاستسلام لأمره، أخذ الله ميثاقنا فقلنا: سمعنا وأطعنا على الإيمان بالله، والإقرار به وبرسله، فكل مؤمن أقر بالله ورسله، فهو داخل في هذا الميثاق، وهذا كان ميثاق الذين بايعوا محمدًا على السمع والطاعة، فيما أحبوا وكرهوا (٢).
وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [المائدة: ٧].
قال ابن عباس: بخفيات القلوب، والضمير، والنيات (٤).
وقال الكلبي: بما في القلوب من النقض والوفاء (٥).
وذكرنا الكلام في معنى (ذات الصدور) في موضعين من سورة آل عمران.
(١) انظر: "معاني النحاس" ٢/ ٢٧٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٦، و"زاد المسير" ٢/ ٣٠٦.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٤٠ بمعناه.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٨
289
٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾.
قال عطاء عن ابن عباس: يريد يقومون لله بحقه (١)، هذا كلامه.
ومعنى القيام لله: هو أن يقوم له (٢) بالحق في كل ما يلزمه القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به، والنهي عن المنكر وتجنبه (٣).
واللام في (لله) أجل.
وقوله تعالى: ﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾. قال عطاء: يريد يشهدون بالعدل، يقول: لا تُحابِ في شهادتك أهل ودك وقرابتك، ولا تمنع شهادتك أهل بغضك وأعدائك (٤).
وقال الزجاج: أي: تبيّنون عن دين الله، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾.
أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل (٦)، وأراد: أن لا تعدلوا فيهم، فحذف للعلم.
وقال الزجاج: لا يحملنكم بغض المشركين على ترك العدل (٧).
فإن قيل: ما وجه ظلم المشركين وقد أمر بقتلهم وسبي أولادهم وأخذ أموالهم؟
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (ج): (لله).
(٣) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٠.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٦.
(٦) انظر: الطبرى في "تفسيره" ٦/ ١٤١، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٥٦.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٦.
قيل: إنه قد يمكن أن يظلموا بضروب كثيرة، منها: المُثلة، وقتل الأولاد صبرًا لاغتمام الآباء، وترك قبول الإسلام منهم، ونحو ذلك مما هو محرم في الدين (١). وقد ذكرنا ما في هذا في أول السورة.
وقوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا﴾ أي: في الولي والعدو (٢).
﴿هُوَ أَقْرَبُ﴾ أي العدل، ودل عليه الفعل كقولهم: من كذب كان شرًا، أي كان الكذب شرًا.
ومعنى ﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ أي: أقرب إلى أن تكونوا متقين باجتناب جميع السيئات، وأقرب لاتقاء النار (٣).
٩ - قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾.
موضع (لهم) يجوز أن يكون نصبًا لوقوعه مع المغفرة موقع المفعول الثاني للوعد، كما قال:
وَجَدنا الصَّالِحِين لهم جزاءٌ وجناتٍ وعينًا سلسبيلا (٤)
فوقع: لهم جزاء موقع المفعول الثاني، ولذلك عطف عليه بالنصب.
ويجوز أن يكون الموعود به محذوفًا على تقدير: وعدهم الحسنى، ثم استأنف (لهم)، فيكون موضعه رفعًا بالاستئناف، وهو مع ذلك قال على
(١) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٠، و"الكشاف" للزمخشري ١/ ٣٢٦.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٤٢، و"زاد المسير" ٢/ ٣٠٧.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٠٧.
(٤) البيت لعبد العزيز بن زرارة الكلابى كما في "الكتاب" ١/ ٢٨٨، وهو من "شواهد المقتضب" ٣/ ٢٨٤.
ومعنى سلسبيلا: قال الراغب: أي سهلًا لذيذًا سلسًا، وقيل: هو اسم عين في الجنة. وذكر بعضهم أن ذلك مركب من قولهم: سل سبيلا، نحو الحوقلة والبسملة ونحوهما. "المفردات" / ٢٣٧ (سل).
المحذوف ومفسر له (١).
وقد ذكرنا قولين آخرين في هذه الآية عند قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ﴾ [النساء: ١١].
١٠ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾
قال عطاء: يريد بني النضير (٢) خاصة (٣).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [المائدة: ١٠].
هذا اللفظ ينبئ عن التخليد فيها؛ لأن المصاحبة تقتضي الملازمة، كما يقال: أصحاب الصحراء، أي اللازمون لها.
١١ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ الآية. قال ابن عباس والكلبي ومقاتل وغيرهم: كان النبي - ﷺ - قد بعث سرية إلى بني عامر فقُتِلوا ببئر معونة (٤) إلا ثلاثة نفر، أحدهم عمرو بن أمية الضَّمْري (٥)، ثم انصرف هو وآخر معه إلى النبي - ﷺ - ليخبروه خبر القوم، فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبي - ﷺ - فقتلاهما، ولم يعلما أن
(١) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٤٦٦، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٥٦، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢٢١.
(٢) طائفة من اليهود كانت بالمدينة.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) بئر معونة: اسم لموضع في أرض بني سليم بين مكة والمدينة. وأطلق هذا الاسم على وقعة بين المسلمين والمشركين، وقد أشار المؤلف إليها بهذا الأثر.
(٥) هو أبو أمية عمرو بن أمية بن خويلد بن عبد الله الضمري، صحابي مشهور له أحاديث، وكان شجاعًا، وأول مشاهده بئر معونة، وكان من أهل النجدة، مات رضي الله عنه قبل الستين.
انظر: "الاستيعاب" ٣/ ٢٤٨، و"أسد الغابة" ٤/ ١٩٣، و"الإصابة" ٢/ ٥٢٤.
معهما أمانًا، فجاء قومهما يطلبون الدية، فخرج النبي - ﷺ - ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم حتى دخلوا على بني النضير، وكانوا قد عاهدوا النبي - ﷺ - على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات، فقال النبي - ﷺ -: "رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان مني، فلزمني ديتهما، فأريد أن تعينوني"، فقالوا: نعم، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. وهموا باغتيالهم والفتك بهم، فآذن (١) الله به رسوله حتى فاتُوا بأنفسهم، فخرجوا من المكان الذي كانوا فيه، فأعلمتهم اليهود أن قدورهم تغلي، فأعلمهم - ﷺ - أنه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه (٢).
قال عطاء: توامروا أن يطرحوا عليهم رحًا أو حجرًا (٣).
وقال بعض أهل العلم: بل ألقوا فأخذه جبريل (٤).
١٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾
قال ابن عباس: ثم أخبر الله عن نقض إسرائيل عهد الله كما نقضت هذه الطبقة فقال: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (٥).
(١) فآذن: أي فأعلم.
(٢) أخرجه عن ابن عباس بنحوه من طريق الضحاك أبو نعيم في "الدلائل"، كما أخرجه من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه، انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٤٧٠، وذكره المؤلف عن الكلبي في "أسباب النزول" ص ١٩٦. وأخرج الأثر بمعناه عن قتادة ومجاهد ويزيد بن أبي زياد وعكرمة: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٤٤ - ١٤٥. وانظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٥٨ - ٤٦٠، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٨، و"زاد المسير" ٢/ ٣٠٩، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٦.
(٣) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٨.
(٤) في جميع الروايات أن جبريل عليه السلام أعلمه بما عزموا عليه، وليس فيها أنه أخذ الحجر.
(٥) لم أقف عليه.
293
قال الكلبي ومقاتل: أخذ الله ميثاقهم على أن يعملوا بما في التوراة (١).
وقوله تعالى: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾.
اختلفت عبارات المفسرين في تفسير النقيب: فقال ابن عباس والحسن: الضمين (٢).
وقال قتادة: الشهيد على قومه (٣).
وقال الكلبي: ﴿اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ يعني ملكًا (٤).
وقال مقاتل: يعني شاهدًا على قومهم (٥).
وقال أبو عبيدة: النقيب: الأمين الكفيل (٦).
وقال الأخفش: النقباء: الكفلاء على قومهم (٧).
وقال المؤرج: النقباء: الأمناء (٨).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٦١، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٩.
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد نسبه ابن الجوزي للحسن، وقال: ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده. "زاد المسير" ٢/ ٣١٠، ونحو هذا "تفسير أبي عبيدة" النقيب بالضامن. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٥٦ن والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٤٨. هذا، وقد أخرج الطستي ضمن "مسائل ابن الأزرق" أن ابن عباس فسر النقيب بالوزير، انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٤٧٢.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٤٨ بلفظ: من كل سبطٍ رجل شاهد على قومه. وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٠.
(٤) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٩.
(٥) "تفسيره" ١/ ٤٦٠، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢١.
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ١٥٦، وعبارته: أي ضمانًا ينقب عليهم، وهو الأمين والكفيل على القوم.
(٧) ليس في "معاني القرآن".
(٨) لم أقف عليه.
294
وقال أبو إسحاق: النقيب في اللغة كالأمين (١) والكفيل (٢). ثم بين حقيقة الباب واشتقاقه فقال: يقال: نقب الرجل على القوم ينقُبُ نقابة فهو نقيب، إذا صار نقيبًا عليهم، وما كان الرجل نقيبًا، ولقد نقُبَ، وفي فلان مناقب جميلة، أي أخلاق، وهو حسن النقيبة، أي جميل الخليقة (٣)، وإنما قيل للنقيب: نقيب؛ لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعلم مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم.
وهذا الباب كله أصله التأثير الذي له عمق ودخول، فمن ذلك: نقبت الحائط، أي بلغت في النقب آخره، ومن ذلك: النقبة من الجَرب؛ لأنه داء شديد الدخول، وذلك أنه يطلى البعير بالهناء فيوجد طعم القطران في لحمه، والنُّقْبة السراويل بغير رجلين، لما قد بولغ في فتحها ونقبها، ويقال: كلب نقِيب، وهو أن تنقب حنجرته لئلا يرتفع صوت نباحه، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف (٤). هذا بيان الزجاج.
واختلفوا في معنى بعث النقباء: فقال الحسن: أخذ من كل سبط منهم نقيب ضامن بما عقد عليهم بالميثاق في أمور دينهم (٥).
ونحو هذا قال ابن عباس في رواية عطاء، فقال في قوله: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾: يريد ضامنين عن قومهم لله الميثاق وأن يؤمنوا بمحمد (٦) - ﷺ - ويصدقوه وينصروه (٧).
(١) في "معاني الزجاج": كالأمير.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ١٥٧.
(٣) في "معاني الزجاج" ٢/ ١٥٨: حسن الخليقة.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٧ - ١٥٩ بتصرف.
(٥) انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٥٦، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٠.
(٦) في (ش): (لمحمد).
(٧) لم أقف عليه.
295
ومعنى البعث في هذا القول إقامتهم بذلك الأمر كبعث الرسل، فقوله تعالى: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ كقوله لو قال: بعثنا منهم اثنى عشر نبيا.
وقال مجاهد والكلبي والسدي: إن النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى بالقتال معهم؛ ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام، فرجعوا ينهون قومهم عن قتالهم، وكانوا قد تواثقوا فيما بينهم أن لا يفعلوا، فنكثوا العهد، وجعل كل واحد منهم ينهى سِبطه عن قتالهم إلا رجلين منهم: كالِب، ويوشَع، وهما اللذان قال الله تعالى: (فيهما) (١): ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ الآية [المائدة: ٢٣] (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾.
أي: قال الله لهم، فحذف ذلك لاتصال الكلام بذكرهم.
واختلفوا في المعنيّ بهذا القول، فقال الربيع: ﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾ أي: للنقباء (٣).
وعلى هذا دل كلام ابن عباس، فقال في قوله: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ أي مع النقباء، ومن أوفى بميثاق الله وعهده (٤).
(١) ساقط من (ج).
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ١/ ١٨٨، ١٨٩، والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٤٩ - ١٥٠، و"تفسير الهواري" ١/ ٤٥٦، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٢، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ٢٨ - ٣٠.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٠ مطولًا، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٢، و"الدر المنثور" ٢/ ٤٧٣.
(٤) لم أقف عليه.
296
وقال غيرهما: ﴿وَقَالَ اللَّهُ﴾ لبني إسرائيل ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ (١).
ومعنى ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ أي: بالعون والنصر والدفع عنكم. قال الكلبي (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ﴾.
ذكر أبو علي الجرجاني في تقدير الآية ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون قوله: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ جزاء مقدمًا على شرط، والشرط قوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ وما انعطف عليه، وما انعطف عليه، ويكون قوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ جوابا لقوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ (٣)، وكأنه ابتدأ شرطًا آخر بقوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ﴾ وجعل جوابه ﴿لَأُكَفِّرَنَّ﴾، فيحصل من هذا أن يكون قوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ﴾ جزاءً لقوله: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ ويكون مبتدأ وشرطًا لقوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ﴾. فمرة من وجه يكون جزاء، ومرة من وجه آخر يكون مبتدأ وشرطًا، وصار قوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ﴾ مرة جزاء للشرط الأول، (ومرة شرطًا للجزاء الآخر) (٤)، (فاشترك) (٥) فيه الجزاء والشرط.
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٠، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٢، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٢، وقد نسبه ابن الجوزي للجمهور.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٩.
وهذا القول لجمهور المفسرين. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٠، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣١، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٢.
(٣) انظر: "الكشاف" ١/ ٣٢٨، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٤٥، و"الدر المصون" ٤/ ٢٢٠.
(٤) في (ج): (ومرة جزاء للشرط الآخر).
(٥) في (ج): (فاشترط).
297
والوجه الآخر: أن تجعل قوله: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ جزاء تقدم شرطًا، ثم جاء الشرط بعده وهو قوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ إلى ما اتصل به، ثم تضمر شرطًا لقوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ﴾ على تقدير: إن فعلتم ذلك لأكفرن، كما قال في سورة الصف ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾ [الصف: ١٠] ثم بين تلك التجارة ما هي فقال: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ إلى آخر الآية، ثم ابتدأ شرطًا آخر مضمرا وأظهر جزاءه، فدل الجزاء الظاهر على الشرط المضمر (١)، وهو قوله: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ على تأويل: إن تفعلوا ذلك يغفر لكم، وهذا كقوله عز وجل: ﴿كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ﴾ [محمد: ١٥] وهذه الكاف تدل على مبتدأ قبله ولم يجر له ذكر، وإنما جرى ذكر الجنة وصفتها، وكأنه قيل: أفمن هو في هذه الجنة كمن هو خالد في النار، فدل الجواب على الإبتداء.
الوجه الثالث: أن الكلام قد تم عند قوله: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ ثم ابتدأ فصلًا آخر بقوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ فجعله شرطًا، ثم أتى بجزائه في قوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ﴾ فيكون هذا الشرط والجزاء بما يتضمنان من القصة ترجمة لقوله: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ لأن قوله: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ كلمة جامعة مجملة فصار ما بعده كالتفسير له.
وقوله تعالى: ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾.
قال أبو إسحاق: العَزْر في اللغة الردّ، وتأويل عزَّرت فلانًا أي أدَّبته، إنما تأويله: فعلت به ما يرده عن القبيح ويردعه، كما أن نكلتُ به: فعلت به ما يجب أن ينكل معه عن المعاودة. فتأويل ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ نصرتموهم بأن تردوا عنهم أعداءهم، ولو كان التعزيز هو التوقير لكان الأجود في اللغة
(١) انظر: "البحر المحيط" ٣/ ٤٤٥.
298
الاستغناء عن التوقير في قوله: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: ٩]، والنصرة إذا وجدت فالتعظيم داخل فيها؛ لأن نصرة الأنبياء هي المدافعة عنهم والذب عن دينهم وتعظيمهم (١).
أبو العباس عن ابن الأعرابي: العزر: النصر بالسيف، والعزر: المنع، وقال أيضًا: التعزير: التوقير، والتعزير: النصر باللسان والسيف (٢).
وقال عطاء عن ابن عباس: ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ يريد وقّرتموهم (٣).
وقال السدي: نصرتموهم بالسيف (٤).
وقال مقاتل والكلبي: أعنتموهم (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾.
قال ابن عباس: يريد الصدقات للفقراء والمساكين وابن السبيل (٦).
وقال مقاتل: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ محتسبة، طيبة بها أنفسكم (٧).
وقال الضحاك: تبتغون به وجه الله (٨).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ١٥٩، وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤١٩.
وقول الزجاج: ولو كان التعزير هو التوقير، فيه رد على أبي عبيدة قال: ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾: نصرتموهم وأعنتموهم ووقرتموهم "مجاز القرآن" ١/ ١٥٦. وقد ذكر الزجاج معنى قوله. وما ذهب إليه الزجاج قد اختاره الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥١.
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤١٩، وانظر: "اللسان" ٥/ ٢٩٢٤ (عزر).
(٣) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد نسب لعطاء، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٢، وقد تقدم استبعاد الزجاج لمثل هذا القول قريبًا. ثم إنه ورد عن ابن عباس أن المراد الإعانة والنصر. انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٢، و"الدر المنثور" ٢/ ٤٧٣.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥١، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٢.
(٥) "تفسير مقاتل" ١/ ٤٦١، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٩.
(٦) لم أقف عليه، وانظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٤
(٧) "تفسيره" ١/ ٤٦١.
(٨) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٤.
299
وقال ابن المبارك (١): حلالًا من طيب أموالكم (٢).
قال الفراء: القرض مصدر، ولو قيل: إقراضًا كان صوابًا، وربما أخرج المصدر على بنية الفعل الأول قبل أن يزاد فيه، وهذا من ذاك؛ لأن أصل الإقراض: قرضت، ومثله قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] ولم يقل: بتقبل، وقوله: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: ٣٧] ولم يقل: إنباتا (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾. أي: بعد العهد والميثاق (٤).
﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ١٢].
أخطأ قصد الطريق، يعني الهدى والدين الذي شرعه لهم (٤).
١٣ - قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ الآية.
قد مضى الكلام في مثل هذا في سورة النساء.
قال قتادة: ونقضهم أنهم كذّبوا الرسل بعد موسى، وقتلوا الأنبياء، ونبذوا كتاب الله، وضيعوا فرائضه (٥).
(١) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي المروزي، إمام عالم مجاهد، جواد فقيه، محدث شهير، توفي رحمه الله سنة ١٨١ هـ.
انظر: " الجرح والتعديل" ٥/ ١٧٩، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ٢٧٤، و"تهذيب الكمال" ٥/ ١٦ (٣٥٢٠).
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٣٢ ولم أقف عليه.
(٣) لم أقف عليه عن الفراء، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٢، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٤.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٣، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٢.
(٥) ذكره عن قتادة: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣١، وأورد السيوطي نحوه في "الدر المنثور" ٢/ ٤٧٣، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
300
قال أهل المعاني: تقدير الكلام: فنقضوا فلعناهم بنقضهم؛ لأنه لما ذكر أخذ الميثاق عليهم اقتضى ذكر الوفاء به (أو (١)) النقض، فلما ذكر أن اللعن سببه النقض دل على وقوعه منهم (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَعَنَّاهُمْ﴾.
قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية (٣).
وقال مقاتل: عذبناهم بالمسخ (٤) وهو قول الحسن (٥).
وقال عطاء: أخرجناهم (٦). وهو اختيار الزجاج، قال: باعدناهم من الرحمة (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾.
القسوة: الصلابة، والشدة في كل شيء، يقال: قسا: يقسو (٨) فهو قاس (٩)، يقال: حجر قاس، وأرض قاسية لا تنبت شيئًا (١٠).
(١) في (ش): (و).
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٤.
(٣) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٢، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٣، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٩.
(٤) "تفسيره" ١/ ٤٦١، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣١، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٣.
(٥) انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٥٦، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣١، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٣.
(٦) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٣.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٥٩.
(٨) في (ش)، (ج): (يقسوا).
(٩) علق هنا في هامش (ج) بـ: (قسوا). والمراد المصدر.
(١٠) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٥٨، والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٤، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٦٠، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٥ (قسو).
301
وقرأ حمزة والكسائي: (قَسِيَّة) على وزن، فعيلة، وقد يجيء فاعل وفعيل، مثل: شاهد وشهيد، وعالم وعليم، وعارف وعريف (١).
وقال شَمر: العام القسِيّ الشديد لا مطر فيه (٢).
وذهب بعضهم: إلى أن هذا من الدراهم القسَيّة وهي الفاسدة الردية (٣).
قال الأصمعي: درهم قسِيّ، مخفف السين مشدد الياء، على مثال: شقيّ (٤)، وهو في شعر أبي زبيد (٥) يذكر المَساحي:
لها صواهِلُ في صُمِّ السِّلام كَما صاح القَسِيَّاتُ في أيدي الصياريفِ (٦)
(١) من "الحجة" ٣/ ٢١٦، ٢١٧، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٢٧، و"الكشف" ١/ ٤٧٠.
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٥، وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٦٣٣ (قسو).
(٣) انظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٢٧، و"الكشف" ١/ ٤٠٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣١، و"اللسان" ٦/ ٣٦٣٣ (قسو).
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٥، وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٦٣٣ (قسو).
(٥) هو المنذر بن حرملة، وقيل حرملة بن المنذر، الطائي، شاعر جاهلي معمر، أدرك الإسلام ولم يسلم، ومات نصرانيًا بعد الستين للهجرة.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ١٨٥، و"طبقات الشعراء" ص ١٨٥، و"الأعلام" ٧/ ٢٩٣.
(٦) "الأمالي" ١/ ٢٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٥ (قسو) واستشهدوا به الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٥ ونسبه الأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٣٢٨، إلى الشامخ، وليس في "ديوانه". وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٦٣٣ (قسو). والشاهد أن قسي جاء على وزن: شقي.
والسلام: الحجارة، والصيارف: الصيارفة، أي للمساحي أصوات إذا وقعت على الحجارة كأصوات الدراهم إذاً انتقدها الصياريف.
302
وأنشد ابن السكيت:
وما زوَّدوني غيرَ سَحقِ عِمامَةٍ وخَمس مِئي منها قَسِيٌّ وزائِفُ (١)
قال الأصمعي: وكأنه إعراب قاس.
قال أبو علي: إذا كان القَسِيّ من الدراهم معربًا لم يكن من القَسِيّ العربي، ألا ترى أن قابوس وإبليس وجالوت وطالوت، ونحو ذلك من الأسماء الأعجمية التي من ألفاظها يوجد العربي لا تكون مشتقة من باب القبس والإبلاس، يدل على ذلك منعهم الصرف (٢).
قال ابن عباس: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ يابسة عن الإيمان (٣).
وقال الحسن: طبع عليها (٤).
وقوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾.
قال ابن عباس: يغيرون كلام الله عن مواضعه من صفة محمد - ﷺ - في كتابهم (٥).
ونحو ذلك قال مقاتل (٦).
وقال السدي: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ آية الرجم (٧).
وقال الزجاج: تأويل ﴿يُحَرِّفُونَ﴾: يفسرون على غير ما أنزل، وجائز أن يكون: يلفظون به على غير ما أنزل (٨). انتهى كلامه.
(١) نسبه في "اللسان" ٦/ ٣٦٣٣ (قسو) لمزرد.
(٢) "الحجة" ١/ ٣١٧، ٣١٨.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٩.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) بمعناه في "تفسيره" ص ١٧٣، والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٥.
(٦) "تفسيره" ١/ ٤٦١، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٣
(٧) لم أقف عليه.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٠.
303
وتحريفهم يحتمل تأويلين على ما قال: أحدهما: سوء التأويل، والآخر: التغيير والتبدل، وهذا مما فسرنا في سورة النساء (١).
وقوله تعالى: ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾.
قال ابن عباس: تركوا نصيبًا مما أمروا به في كتابهم من اتباع محمد (٢).
وقال عطاء عنه: تركوا حظًا مما وعظوا به (٣).
ونحوه قال مقاتل، وزاد: من إيمان بمحمد، ولو آمنوا به لكان ذلك لهم حظًا (٤).
وقال قتادة: نسوا عهد الله الذي عهد إليهم، وأمر الله الذي أمرهم (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾.
يقال: لا زال يفعل كذا، كقولك: ما ينفك، وما زلت أفعل، والمضارع لا يزال لا غير، وقيل ما يتكلم به إلا بحرف نفي.
وأما الخائنة، يقال: رجل خائنة، إذا بالغت في وصفه بالخيانة (٦) ومنه قوله:
(١) لعله عند الآية ٤٦ من سورة النساء وتفسيرها من القسم المفقود.
(٢) انظر: "تفسيره" ص ١٧٣، والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٥، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٢.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٦١.
(٥) أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٤٧٤ بنحوه، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٩٧٠ (خون)، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٩، و"اللسان" ٣/ ١٢٩٤ (خون).
304
ولم تَكُن... للغَدرِ خائنةً مُغِلَّ الإصْبَعِ (١)
وقد تكون الخائنة مصدرًا على فاعلة، ومنه قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ [غافر: ١٩]، وكثير من المصادر في القرآن جاء على: فاعله، نحو قوله: ﴿لاغية﴾ (٢) [الغاشية: ١١]، أي لغوًا، وتقول العرب: سمعت (راغية الإبل) و (ثاغية الشاء)، يعنون: رغاءها وثُفاءها (٣).
قال الزجاج: وفاعلة في أسماء المصادر كثيرة نحو: عافاه الله عافية، و ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ [الواقعة: ٢]، و ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ [الحاقة: ٥] (٤).
وعلى هذا دل كلام المفسرين، فقال (٥) ابن عباس: ولا تزال تطلع على معصية منهم (٦). فهذا يدل على أنه أراد بالخائنة الخيانة.
(١) جزء من بيت لرجل من بني كلاب يخاطب قرينا أخا عمير الحنفي، وكان له عنده دم وتمام البيت:
حدَّثت نفسك بالوفاء ولم تكن... للغدر خائنة مغل الإصبع
"مجاز القرآن" ١/ ١٥٨، والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٦، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٦٠، و"اللسان" ٣/ ١٢٩٤ (خون).
ومغل الإصبع: كناية عن الخيانة والسرقة.
(٢) من قوله تعالى: ﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾ [الغاشية: ١١].
(٣) "تهذيب اللغة" ١/ ٩٧١، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣١، و"اللسان" ٣/ ١٢٩٥ (خون).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٠.
(٥) في (ش): (وقال).
(٦) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣١، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٦، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٩.
305
وقال مقاتل: يعني بالخائنة الغش للنبي - ﷺ - وقال: إيمان على كذب وفجور. (١)
وقال عطاء: ﴿عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾ مثل ما خانوك حين هموا بقتلك (٢).
قال الزجاج: ويجوز أن يكون والله أعلم ﴿عَلَى خَائِنَةٍ﴾ علي فرقة خائنة (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾.
قال ابن عباس: يعني من أسلم منهم، عبد الله وأصحابه، ولم ينقضوا العهد (٤).
وقال مقاتل: والقليل أيضًا منهم كفار (٥).
وعلى هذا القليل مستثنى من الخيانة، يريد إلا قليلًا منهم لم يخونوا، والظاهر أن المراد بالمستثنى: مؤمنو أهل الكتاب.
وقوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾. منسوخ بآية السيف (٦).
(١) بلفظه الأول في "تفسيره" ١/ ٤٦١، وبنحو هذا القول قال مجاهد وقتادة، انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٦، و"الدر المنثور" ٢/ ٤٧٤.
(٢) انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٥٧، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٦. وهذا معنى قول مجاهد، انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٦، و"الدر المنثور" ٢/ ٤٧٤.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦١، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٢١.
(٤) انظر البغوي في "تفسيره" ١/ ٣١، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٤، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٩.
(٥) ليس في "تفسيره"، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٤.
(٦) هذا قول ابن عباس وقتادة وكثر من المفسرين.
انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص ١٩١، والطبري في "جامع البيان" ٦/ ١٥٧، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٢٧٣، و"تفسير الهواري" ١/ ٤٥٧، =
306
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: ١٣]. قال عطاء: يريد المتجاوزين (١).
وقال ابن عباس: فإذا عفوت فأنت محسن (٢).
١٤ - قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾.
ولم يقل: من النصارى، ليدل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسمَّوا لها. وهذا يُروى عن الحسن (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾.
قال مقاتل: أخذ عليهم الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد ويتبعوه، وهو مكتوب عندهم في الإنجيل (٤).
قال الأخفش: وهذا كما تقول: من عبد الله أخذت الدرهم (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾.
قال الكلبي ومقاتل: فتركوا ما أُمِروا به من الإيمان بمحمد - ﷺ - فكان ذلك الحظ (٦).
= و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٣، و"النكت والعيون" ٢/ ٢١، والبغوي في "معالم التنزيل" ٣/ ٣٢، وقد استبعد الطبري في "تفسيره" والنحاس النسخ، وانظر: "البرهان" للزركشي ٢/ ٤٣، ٤٤.
(١) لم أقف عليه.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٢، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٥. وقيل سموا بذلك نسبة إلى قرية كانوا بها اسمها: ناصرة.
انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٥٧، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٥.
(٤) "تفسيرمقاتل" ١/ ٤٦٢.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٤٦٧، وانظر: القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ٦/ ١١٧
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ٤٦٢، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٠.
307
وتنكير الحظّ في الآية: يدل على أن المراد به حظ واحد، وهو ما ذكره المفسرون من الإيمان بمحمد، وإنما خص هذا الواحد مع كثرة ما تركوا مما أمروا به؛ لأن هذا هو المُعظم (١)، ولو وفوا بهذا الواحد ولم يتركوه لم يضرهم ترك سائر ما تركوا.
وقوله تعالى: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾.
يقال: غرِيتُ بالشيء أغرى به غرًى وغراءً ممدودًا أي أُولِعت به (٢).
وقال شَمر: يقال لما يلصق به الأشياء الغِراء والغَرى بفتح الغين مقصور، وأغرى فلان بفلان إغراءً، إذا أولع به، كأنه ألصق به، فأصل الباب هو اللصوق والإلصاق؛ لأن المولع بالشيء كالملصق به. ذكره الزجاج وغيره (٣). ثم يقال: أغريت الكلب، إذا آسدته (٤)؛ لأنك تولعه بالصيد (٥).
فأما التفسير: فقال المؤرج: (أغرينا): حرشنا بعضهم على بعض (٦).
وقال الكسائي: سلطنا (٧).
وقال النضر: هيجنا (٨).
(١) في (ش): (العظيم).
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٦١، وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٢٥٠ (غرى).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦١، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٥، و"اللسان" ٦/ ٣٢٥٠ (غرى).
(٤) في (ج): (أسددته)، وما أثبته هو الموافق لـ"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٦١ (غرى).
(٥) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٦١، وانظر: "اللسان " ٦/ ٣٢٥٠ (غرى).
(٦) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٥، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٤٣.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٥، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٤٣.
308
وقال الكلبي: ألقينا بينهم العداوة والبغضاء (١).
فقوله: ﴿بَيْنَهُمُ﴾ ظرف للعداوة والبغضاء، أي العداوة التي بينهم أغريت بأن حرشت وهيجت، ويجوز أن يكون ﴿بَيْنَهُمُ﴾ بمنزلة بالصيد في قولك: أغريت الكلب بالصيد، فيكون المعنى: أغرينا العداوة والبغضاء بالحالة التي بينهم.
واختلفوا في الضمير الذي في ﴿بَيْنَهُمُ﴾، فقال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: الضمير (٢) يعود على اليهود والنصارى (٣).
وقال الربيع: يعود على النصارى خاصة (٤). وذلك لما بين فرق النصارى من الاختلاف والعداوة.
وهذا اختيار الزجاج (٥)، قال: وتأويل ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ أي صاروا فَرقًا يكفر بعضهم بعضًا (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ وعيد لهم.
١٥ - قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾.
قال ابن عباس: يريد الجميع (٧) وهذا على تقدير: يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ووحد الكتاب؛ لأنه أخرج مخرج الجنس.
(١) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٠.
(٢) تكررت الكلمة في (ج).
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٩، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٥.
(٤) الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٥٩ - ١٦٠، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦١، وقد اختاره الطبري في "تفسيره" أيضًا. انظر: "جامع البيان" ٦/ ١٦٠.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦١.
(٧) لم أقف عليه، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦١، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٦.
309
وقال قتادة: لما ذكر نقضهم العهد وتركوا ما أمروا به دعاهم على إثر ذلك إلى الإيمان بمحمد - ﷺ - (١).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾.
قال عطاء عن ابن عباس: يريد تكتمون مما في التوراة والإنجيل (٢). وقال ابن عباس: أخفوا منه الرجم وأمر محمد وصفته (٣).
قال أهل المعاني: وهذا بيان لإعجاز النبي - ﷺ - حيث اطلع على أسرارهم وبين ما أخفوه من غير قراءة كتبهم، فوجب الإيمان به (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾. قال ابن عباس: يتجاوز عن كثير، فلا يخبرهم بكتمانه (٥).
فإن قيل على هذا: ما وجه بيان بعضه وترك بعضه؟
قيل: إنه بين ما فيه دلالة على نبوته من صفاته ونعته والبشارة به، وما يحتاج إلى علمه من غير ذلك مما تتفق له الأسباب التي يحتاج معها إلى استعلام ذلك، كالذي اتفق له في الرّجم، وما عدا هذين مما ليس في تفصيله فائدة فيكفي ذكره في الجملة (٦).
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٠، و"الدر المنثور" ٢/ ٤٧٥.
(٢) لم أقف عليه من رواية عطاء، وانظر: "الوسيط" ٣/ ٨٣٨، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٠.
(٣) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦١، والحاكم ٤/ ٣٥٩، وقال: هذا صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٤٧٥.
(٤) انظر: "الكشاف" ١/ ٣٢٩، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٨
(٥) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٦، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٠.
(٦) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٨.
310
وفي قوله: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ إعجاز للنبي - ﷺ - كالإعجاز فيما بينهم؛ لأنهم يعلمون بهذا أنه عالم بما يخفونه: وإن لم يبينه على التفضيل (١).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ﴾. قال ابن عباس: يعني ضياء من الضلالة (٢).
وقال عطاء: يريد هدى (٣). فعلى هذا أراد بالنور: الإسلام (٤).
وقال قتادة: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ﴾ يعني النبي (٥). وهو اختيار الزجاج، قال: النور محمد - ﷺ -، وهو الذي يبين الأشياء (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: ١٥]. قال ابن عباس: يريد القرآن، فيه بيان لكل ما يختلفون فيه (٧).
١٦ - قوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ﴾. أي بالكتاب المبين.
﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾. اتبع ما رضيه الله تعالى مما مدحه وأثنى عليه، وهو دين الإسلام، يدل على هذا قول ابن عباس: يريد من صدق
(١) هكذا جاءت هذه الكلمة في النسختين (ش)، (ج) والظاهر أنها مصحفة، والصواب: التفصيل بالصاد المهملة.
(٢) في "الوسيط" ٣/ ٨٣٨، دون نسبة لابن عباس، ولم أقف عليه.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) قد فسر النور هنا: بالإسلام، انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٣، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٦.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٦. والاختلاف هنا اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، فإن النبي محمد - ﷺ - قد جاء بالإسلام.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦١، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٢٢.
(٧) في "الوسيط" ٣/ ٨٣٨، دون نسبة لابن عباس، ولم أقف عليه. وانظر: "تفسير البغوي" في "تفسيره" ٣/ ٣٣، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٦.
311
النبي - ﷺ - لما جاء به (١) ففسر (رضوان الله) بتصديق (٢) النبي - ﷺ -.
وقوله تعالى: ﴿سُبُلَ السَّلَامِ﴾. قال ابن عباس: يريد دين الإسلام، دين الله (٣).
وهو قول الحسن (٤) والسدي، أن معنى ﴿السَّلَامِ﴾ ههنا الله عز وجل، والسلام من أسمائه تعالى (٥).
قال الزجاج: والسبل الطرق، فجائز أن يكون والله أعلم: طريق السلام طرق السلامة التي من سلكها سلم في دينه (٦).
قال أبو علي: ويجوز أن يكون على حذف المضاف، كأنه: سبل دار السلام، كما قال: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ﴾ [الأنعام: ١٢٧] ويراد بها طرق الجنة؛ لأن من اتبع رضوانه فقد أوتي الهداية التي هي الإستدلال، فتكون الهداية في هذه الآية مثل التي في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ [محمد: ٤، ٥]، في أنه ليس بهداية الاستدلال، ولكن الهداية إلى طرق الجنة للثواب (٧).
(١) لم أقف عليه، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٧، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٠.
(٢) في (ش): (بصدق).
(٣) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٧، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٠.
(٤) "تفسير الهواري" ١/ ٤٥٨، و"النكت والعيون" ٢/ ٢٢، وانظر: "البحر المحيط" ٣/ ٤٤٨.
(٥) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٣، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٧، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٤٨.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦١.
(٧) من "المسائل الحلبيات" لأبي علي الفارسي ص ٢٠، ٢١، وانظر: "الحجة" ١/ ١٨٤.
312
﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.
قال ابن عباس: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان (١) وذلك أن الكُفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام، وُيهتدى بالإيمان إلى النجاة كما يُهتدى بالنور.
وقوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾. أي: بتوفيقه وإرادته (٢).
والجار من صلة الاتباع، أي: يتبع رضوانه بإذنه، ولا يجوز أن يتعلق بالهداية، ولا بالإخراج؛ لأنه لا معنى له، فدل على (٣) أنه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله.
وقوله تعالى: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٦]. قال الحسن: هو الذي يأخذ بصاحبه حتى يؤديه إلى الجنة (٤).
وقال ابن عباس: يعني: الإسلام (٥).
والقولان سواء.
١٧ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾. قال أهل المعاني: إنما حكم بكفرهم؛ لأنهم قالوا هذا القول على جهة التدين به، ولو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا (٦).
(١) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٧، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٠.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٣، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٧.
(٣) في (ش): (فدل هذا على).
(٤) انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٥٨، وذكر عن الحسن أنه قال: طريق الحق، من "النكت والعيون" ٢/ ٢٢، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٧، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٤٨.
(٥) لم أقف عليه، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٣، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٧.
(٦) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٩.
313
فإن قيل: إنهم قالوا: هو ابن الله؟
قيل: هذا القول منهم كالقول إنه إله؛ لأنهم اتخذوه مع قولهم إنه ابن الله ربًا وجعلوه إلهًا (١).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾. قال الكلبي: فمن يقدر أن يدفع من عذاب الله شيئًا (٢).
وهذا من قولهم: ملكت على فلان أمره، إذا اقتدرت عليه حتى لا يمكنه إنفاذ شيء من أمره إلا بك، وتقديره: من يملك من أمره شيئًا (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾.
قال الكلبي: إن أراد أن يعذب المسيح ابن مريم (٤).
ووجه الاحتجاج بهذا على النصارى: أنه لو كان المسيح إلهًا لقدر على دفع أمر الله إذا أتى بإهلاكه وإهلاك غيره (٥).
وفي هذه رد على القدرية، وبيان أنه لو أراد إهلاك النبيين وأهل طاعته أجمعين كان له ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾.
أراد ما بين هذين الصنفين والنوعين (٦)، كقول الراعي:
(١) انظر: "البحر المحيط" ٣/ ٤٤٩.
(٢) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٠.
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٣، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٩.
(٤) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٠.
(٥) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٣، و"تفسير الهواري" ١/ ٤٥٨، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٥، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٧.
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٥٩، ١٦٠، والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٣، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٩.
314
طَرَقَا فتلِك هَمَاهِمي أَقْرِيهما قُلُصًا لواقحَ كالقِسِيّ وحُولا (١)
فقال: (طرقا)، ثم قال: (فتلك هماهِمي)، ولم يقل: طرقن.
١٨ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾
الآية. أمال اليهود فقال السدي: إنهم زعموا أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد، وكذَبُوا فيما زعموا (٢).
وقال الحسن: إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد (٣).
وهو اختيار ابن قتيبة، قال: يعنون أنه من حدبه وعطفه علينا كالأب المشفق (٤).
(١) البيت من قصيدة للراعي في "جمهرة أشعار العرب" ٣/ ٩٣٠ وقبله:
أخليد إن أباك ضاف وساده همان باتا جنبة ودخيلا
طرقا..................
وقد استشهد به في "مجاز القرآن" ١/ ١٦٠، والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٣، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١١٩، ومعنى هماهم: الهموم، وقلصا: جمع قلوص وهي الفتية من الإبل، ولواقح: أي حوامل، والحول: جمع جائل وهي الناقة لم تحمل. والشاهد منه أن الشاعر ذكر همين في البيت الذي قبله، ثم ذكر همومًا بقوله: فتلك هماهمي، مع أنه ثنى في قوله: باتا وطرقا وأقربهما.....
(٢) الأثر في "زاد المسير" ٢/ ٣١٨، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٠، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٩. وقد عزاه ابن كثير في "تفسيره" إلى ابن أبي حاتم والطبري في "تفسيره"، لكن وجدته عند الطبري في "تفسيره" بلفظ: إنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدًا من ولدك أدخلهم النار فيكون فيها أربعين يومًا.... فأخرجهم فذلك قوله ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، وأما النصارى، فإن فريقًا منهم قال للمسيح: ابن الله. الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٤.
(٣) "النكت والعيون" ٢/ ٢٣، وانظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٥٨، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٥٠.
(٤) لم أقف عليه عن ابن قتيبة، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٣٣، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٥٠.
315
وأما النصارى فقال سعيد بن المسيب: إنهم قالوا: المسيح ابن الله (١).
ووجه هذا القول أنهم لما قالوا: المسيح ابن الله وادعوا أن المسيح منهم فكأنهم قالوا: نحن أبناء الله، كقول العرب: هذيل (٢) شعراء، أي: منهم شعراء، وقولهم في رهط مسيلمة: قالوا: نحن أنبياء، أي قال قائلهم وتابعوه (عليه (٣))، وذلك أنهم إذا قالوا: الواحد منهم أنه نبي، ثم افتخروا به وانتسبوا إليه، صح في اللفظ أن يقال: إنهم أنبياء (٤).
وهذا وجه ثالث في قول اليهود: نحن أبناء الله، لأنهم أيضًا قالوا: عُزَير ابن الله، كما قالت النصارى: المسيح ابن الله، ذكره سعيد بن المسيب (٥).
وقيل: إنهم تأولوا قول عيسى. أذهب إلى أبي وأبيكم، وقوله: إذا صليتم فقولوا: يا أبانا الذي في السماء ليتقدس اسمك (٦).
وتأويل هذا: أنه في بره ورحمته وعطفه على عباده الصالحين كالأب الرحيم لولده (٧).
وذهب بعضهم إلى أن معنى قوله: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ﴾ معناه: نحن أبناء
(١) لم أقف عليه.
(٢) قبيلة ينتسبون إلى هذيل بن مدركة بن الياس، نبع منهم شعراء كثيرون. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ١٩٦ - ١٩٨.
(٣) تكرر في (ج).
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٤، ١٦٥، و"الكشاف" ١/ ٣٢٩.
(٥) تقدم قريبًا.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٥٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٣.
316
رسله. فهو من باب حذف المضاف (١).
قال ابن عباس: إنما قالوا هذا حين حذرهم النبي - ﷺ - عقوبة الله (٢).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾.
يحلمه (٣) المفسرون على قولهم: إنما نعذب أربعين يومًا، قدر الأيام التي عبد آباؤنا فيها العجل، فقيل لهم: إن كان الأمر كما زعمتم فلم يعذبكم الله؟ هل رأيتم والدا يعذب ولده بالنار؟ وهل تطيب نفس حبيب بتعذيب حبيبه في النار؟
هذا معنى قول المفسرين (٤).
وقال أهل المعاني: (هذا التعذيب) (٥) مطلق غير محمول على الأيام الأربعين؛ لأنهم مقرون أنهم معذبون بذنوبهم ولو لم يقولوا بهذا (٦)، كذبوا بكتبهم، وأباحوا للناس ارتكاب الفواحش، والله تعالى يقول: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ فجعل التعذيب بسبب ذنوبهم.
وقال الربيع بن أنس في قوله تعالى: ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾: لم
(١) انظر: "الوسيط" ٣/ ٨٤١، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٠، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٥٠.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" بمعناه ٦/ ١٦٤، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٤٨٦، وعزاه إلى ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الدلائل".
(٣) هذه الكلمة غير واضحة، والأقرب أنها هكذا.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٥، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٤، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٨.
(٥) في (ش): (في هذا التعذيب).
(٦) انظر: الطبرى في "تفسيره" ٦/ ١٦٤، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٠.
317
مسخكم؟ (١).
قال صاحب النظم: تأويل: ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ﴾ لم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى الذين كانوا أمثالكم في الدين بذنوبهم؛ لأنه تعالى لم يكن ليأمر نبيه -عليه السلام- بأن يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، يقولون: فإنا لا نعذب، ولكن أمره بأن يحتج عليهم بما كان وعرفوه. وكثير ما يذكر لفظ المستقبل والمراد به الماضي، كقول عنترة:
ولقد أمُرُّ على اللئيم يسبُني.. البيت (٢)
أي: مررت.
وقد بينا هذا في مواضع (٣) من هذا الكتاب.
ثم كذبهم في زعمهم فقال تعالى: ﴿بَلْ (٤) أَنتُم بَشَرٌ مَمَّنْ خَلَقَ﴾.
قال ابن عباس: لحم ودم (٥).
وقال المفسرون: كسائر بني آدم، مجزيون بالإحسان والإساءة (٦).
(١) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٩.
(٢) لم أجده في "ديوان عنترة"، وقد نسبه لمولد من بني سلول. سيبويه في "الكتاب" ٣/ ٢٤، وعجزه:
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
واستشهد به دون نسبه: ابن جني في "الخصائص" ٣/ ٣٣٠، والسمين في "الدر المصون" ٢/ ٢٨٨.
(٣) في (ش): (موضع) بالإفراد.
(٤) سقطت (بل) من: (ج).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٤، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٩.
318
وقولى تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾. قال ابن عباس: لمن تاب من اليهودية ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ من مات عليها (١).
وقال عطاء: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ من يوحد الله ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ من لا يوحد الله (٢).
وقال السدي: يهدي منكم من يشاء فيغفر له، ويميت منكم من يشاء على كفره فيعذبه (٣) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾.
أي أنه يملك ذلك، لا شريك له فيعارضه، وهو يملك المغفرة لمن يشاء والتعذيب لمن يشاء (٥).
قال أهل المعاني: دل بهذا على أنه لا ولد له؛ لأن (من (٦)) ملك ذلك استحال أن يكون له شبيه أو شريك أو قسيم (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ أي: وإليه يؤول أمر العباد في الآخرة (٨)؛ لأنه لا يملك الضر والنفع غيره، كما يملك في الدنيا بتمليكه.
١٩ - وقوله تعالى: ﴿عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ﴾. قال ابن عباس: يريد على
(١) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١١.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣١٩.
(٣) في (ج): فيعذبه الله وما أثبته هو الموافق للمصادر في التخريج الآتي.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٥ - ١٦٦، وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٤٨٦.
(٥) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢١.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (ج).
(٧) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢١.
(٨) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢١.
انقطاع من الأنبياء (١).
قال الزجاج: لأن النبي - ﷺ - بعث بعد إنقطاع الرسل؛ لأن الرسل كانت إلى وقت رفع الله عيسى متواترة بعضها في أثر بعض (٢).
ويقال: فتر الشيء يفتر فتورًا، إذا سكنت حدّته وانقطع عما كان عليه (٣). وسميت المدة التي بين النبيين فترة لانقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم: فتر عن عمله.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾. أي: لئلا تقولوا، وهو قول ابن عباس (٤). وقال بعضهم: تأويله: كراهة أن تقولوا (٥).
وقد استقصينا شرح هذا في آخر سورة النساء عند قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦].
٢٠ - قوله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾.
(أنبيآء) لا ينصرف في معرفة ولا نكرة؛ لأنها مبنية على علامة التأنيث، وهي الألف الممدودة كألف حمراء، فلما بنوا الاسم على علامة التأنيث حتى صارت كبعض حروفه، صار كأن التأنيث قد تكرر فيه فلم ينصرف في النكرة (٦).
(١) "زاد المسير" ٢/ ٢٣٠ عن ابن عباس من طريق أبي صالح، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١١.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٢، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٦، ١٦٧.
(٣) "العين" ٨/ ١١٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٣٥، وانظر: "الصحاح" ٢/ ٧٧٧ (فتر)، و"زاد المسير" ٢/ ٣١٩.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢١، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١١.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٢، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢١.
(٦) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٣.
320
قال الكلبي: ﴿جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾ على عهد موس بن عمران، وهم السبعون (الذين) (١) اختارهم موسى من قومه، فانطلقوا معه إلى الجبل (٢).
﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله - ﷺ - قال: كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يُكْتَبُ ملكًا (٣).
وقال ابن عباس: جعل لكم الحشم والخدم (٤).
وقال مجاهد: كل من لا يُدخل عليه إلا بإذنه فهو ملك (٥) وهو اختيار الزجاج، قال: جعلكم ذوي منازل تأمرون فيها، لا يدخل عليكم فيها داخل إلا بإذن (٦).
وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، فمن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جار فهو ملك (٧).
(١) في (ش): (الذي).
(٢) "بحر العلوم" ١/ ٤٢٦، و"زاد المسير" ٢/ ٣٢١. وقد أشار إليه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٨.
(٣) أخرجه المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٤٥، وذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٥ بصيغة التمريض وأورده ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٤٢، والسيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٤٧٨، وعزاه كل منهما إلى ابن أبي حاتم، وفي "سنده" ابن لهيعة. قال ابن كثير في "تفسيره": هذا حديث غريب من هذا الوجه.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٩، بمعناه، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٥، و"زاد المسير" ٢/ ٣٢١، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٤٢، و"الدر المنثور" ٢/ ٤٧٧.
(٥) في "تفسير مجاهد" ١/ ١٩١: قال: جعل لهم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا، ومن كان كذلك فهو ملك، ونحوه في الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٦٩، بلفظ المؤلف عزاه إلى ابن عباس السمرقندي في "بحر العلوم" ١/ ٤٢٦، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٢.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٢.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢٢.
321
وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم، وسُخَّر لهم الخدم من بني آدم (١).
وقال السدي: يعني: وجعلكم أحرارًا تملكون أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القِبْط بمنزلة أهل الجزية فينا (٢).
قال الزجاج: ومعناه: جعلتم تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ٢٠].
قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ما آتاهم في الدنيا من النعمة والكرامة، حيث فلق لهم البحر، وأغرق عدوهم، ونصرهم على جميع من عاداهم (٤).
وقال مجاهد: يعني: المنّ والسلوى والحجر (٥) والغمام (٦).
٢١ - قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ الآية.
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٠، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢٢. وهذا القول انفرد به قتادة، وقد يكون فيه نظر؛ لأن القول بأن بني إسرائيل أول من ملك الخدم يحتاج إلى تثبت واستقراء تاريخي ما لم يرد دليل سمعي بذلك، والله أعلم.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٠، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢٢.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٢.
(٤) لم أقف على هذا الأثر، وقد أخرج الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٠ - ١٧١ من طريق عطاء عن ابن عباس قال: الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة، وضعف أحمد شاكر وإسناده.
(٥) أي: الذي ضربه موسى فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.
(٦) "تفسيره" ١/ ١٩١، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٠.
322
المقدسة معناها في اللغة: المُطهّرة (١)، طهرت تلك الأرض من كثير من الشرك، وجعلت مسكنًا وقرارًا للأنبياء (٢).
قال قتادة: هي الشام كلها (٣). ومعنى المقدسة في قول قتادة المباركة (٤)، وبه قال ابن الأعرابي من أهل اللغة (٥).
وقال عكرمة والسدي وابن زيد: هي أريحا (٦).
الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن (٧).
وقوله تعالى: ﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾. قال عطاء عن ابن عباس: يريد فرض عليكم دخولها (٨).
وبه قال قتادة، قال: أمروا بها كما أمروا بالصلاة (٩). ونحو منه قول السدي: أمركم الله بدخولها (١٠).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٢، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٧.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢٣.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٢، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢٣.
(٤) جاء هذا القول صريحًا عن مجاهد، انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٢.
(٥) انظر: "لسان العرب" ٦/ ٣٥٥٠ (قدس).
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٢ عن ابن زيد والسدي، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٥. وأريحا مدينة في الأردن بينها وبين بيت المقدس يوم. انظر "معجم البلدان" ١/ ١٦٥.
(٧) البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٥، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١١. وبهذا القول قال الزجاج. انظر: "معاني القرآن" ٢/ ١٦٢، و"النكت والعيون" ٢/ ٢٥.
(٨) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢٤.
(٩) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٣، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٦.
(١٠) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٣، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٦، و"زاد المسير" ٢/ ٣٢٤.
323
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾.
يحتمل تأويلين:
أحدهما: لا ترجعوا إلى دينكم الشرك بالله وإلى معصيته (١).
وإلى هذا أشار ابن عباس فقال (٢): يريد لا تعصوا ربكم (٣).
والثاني: لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها (٤).
٢٢ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾.
قال المفسرون: هم العمالقة فرقة من عاد (٥).
وللجبار ههنا معنيان: قال الأخفش: أراد الطُّول والقوة والعظم (٦). وكأنه ذهب في هذا إلى الجَبَّار من النخل، وهو الطويل الذي فات الأيدي، ويقال: رجل جَبَّار، إذا كان طويلًا عظيمًا قويًّا، تشبيهًا بالجبار من النخل (٧).
(١) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٢٥، و"زاد المسير" ٢/ ٣٢٤، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٦.
(٢) في (ش): (قال).
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٣، و"النكت والعيون" ٢/ ٢٥، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٦.
وقال القرطبي في "تفسيره" بعد أن ذكر الوجهين: والمعنى واحد.
(٥) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٦، القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٦.
(٦) ليس في "معاني القرآن" للأخفش، وقد نسبه الأزهري إلى أبي الحسن اللحياني. انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٥٣٢ (جبر).
(٧) من "تهذيب اللغة" ١/ ٥٣٢ (جبر)، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٦، و"اللسان" ١/ ٥٣٥ (جبر).
324
وهذا معنى قول قتادة: كانت لهم أجسما وخلق عجيب ليس لغيرهم (١). ويحتمل أن يكون معنى الجَبّار ههنا من أجبره على الأمر، إذا أكرهه عليه.
قال الأزهري: وهي لغة معروفة، وكثير من الحجازيين يقولونها، وكان الشافعي -رحمه الله- يقول: جبره السلطان (٢).
وجائز أن يكون الجبّار من: أجبره على الأمر، إذا أكرهه عليه.
قال الفراء: لم أسمع فعَّالا من أفْعَل إلا في حرفين، وهما: جبّار من أَجْبَر، ودرَّاك من أدْرَك (٣).
وهذا الوجه اختيار الزجاج، قال في هذه الآية: تأويل الجبّار من الآدميين العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد (٤).
قال المفسرون: وبلغ من جبرية هؤلاء، أن موسى لما بعث النقباء ليتحسسوا (٥) له أخبار هؤلاء رآهم واحد من الجبارين، فأخذهم وحملهم في كُمِّه مع فاكهةٍ كان حملها من بستانه، وأتى بهم الملك، فنثرهم بين يديه، وقال معُجّبًا للملك: هؤلاء يريدون قتالنا. فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا (٦).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٤، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢٤.
(٢) "تهذيب اللغة" ١/ ٥٣٣، وانظر: "اللسان" ١/ ٥٣٦ (جبر).
(٣) من "تهذيب اللغة" ١/ ٥٣٢، وانظر: "اللسان" ١/ ٥٣٤ (جبر).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٣، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٧، و"زاد المسير" ٢/ ٣٢٤.
(٥) في (ش): (ليتجسسو ا) بالجيم.
(٦) أخرج الأثر مطولًا الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٤، ونقله ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٤٣، وقال: وفي هذا الإسناد نظر.
325
وللجبار معانٍ نذكرها في مواضعها إن شاء الله.
٢٣ - قوله تعالى: ﴿قَالَ رَجُلَانِ﴾. قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والربيع: هما يوشَع بن نون، وكالب بن يوفنا (١).
﴿مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾. قال عطاء وقتادة: يخافون الله في مخالفة أمره بقتال الجبارين (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾. قال الحسن: الإسلام (٣). وقال عطاء: يريد بالصلاح والفضل واليقين (٤).
﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾.
قال المفسرون: إنهما قالا لبني إسرائيل: نحن أعلم بالقوم، إنهم قد مُلِئُوا منا رعبًا، وإنا رأيناهم وكانت (٥) أجسامهم عظيمة قوية وقلوبهم ضعيفة (٦).
قال (٧) أهل المعاني: إنما قالا هذا القول؛ لأن الله كان قد أنعم عليهما باليقين، فعلما أن الله ينجز وعده مع حكمه بأنه كتبها لهم وما تقدم
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٤ - ١٧٥، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٧، و"زاد المسير" ٢/ ٣٢٦، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٤٤.
(٢) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٨، و"النكت والعيون" ٢/ ٢٦، و"زاد المسير" ٢/ ٣٢٦.
(٣) "النكت والعيون" ٢/ ٢٦، ونسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ٣٢٦ إلى ابن عباس.
(٤) "زاد المسير" ٢/ ٣٢٦.
(٥) في (ج): (فكانت).
(٦) فانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٨ - ١٧٩، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٦، و"زاد المسير" ٢/ ٣٢٦.
(٧) في (ش): (وقال).
من وعد موسى إياهم، فلذلك قالا: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ (١).
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي عليه توكلوا في نصره إياكم على الجبارين إن كنتم مصدقين به وبما أتاكم به رسوله.
٢٤ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا﴾.
قال المفسرون: إن عشرة من النقباء نقضوا العهد، وقالوا لبني إسرائيل: إن الرجل الواحد من هؤلاء الجبارين يدخل المائة منا في كُمِّه، ورأينا حصونًا ممتنعة وجبابرة، فلا يدان لنا بهم، فجَبُن القوم وخافوا ولم يثقوا بنصر الله، وقالوا: إنا لسنا نقبل مشورةً في دخولها ولا أمرًا وفيها هؤلاء الجبارون، ولما أمرهم يوشع وكالب بدخول القرية عصوهما وأرادوا أن يرجموهما بالحجارة، وقالوا: يا موسى نكذب عشرة ونصدق اثنين (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ﴾.
قال أبو إسحاق: كلام العرب: اذهب أنت وزيد، ويستقبح النحويون: اذهب وزيد؛ لأنه يقبح العطف على المضمر والمضمر (في النية) (٣)، فكان الاسم يصير معطوفًا على ما هو متصل بالفعل غير مفارق له (٤).
وقال الفراء: ولو ألقيت (أنت) فقيل: اذهب وربك، كان صوابًا؛ لأنه في إحدى القراءتين: ﴿إنه يراكم وقبيلُه﴾ [الأعراف: ٢٧]، واذهب
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٨، و"النكت والعيون" ٢/ ٢٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٧.
(٢) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٧٩ - ١٨٠، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٧.
وقد سبق قريبًا كلام ابن كثير في "تفسيره" على مثل هذا الخبر.
(٣) في "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٤: في النية لا علامة له.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٤.
327
أنت وربك أكثر في كلام العرب، وذلك أنه العطف على الاسم المضمر المرفوع؛ لأن المرفوع خفي في الفعل وليس كالمنصوب؛ لأن المنصوب يظهر، فتقول: ضربته وزيدًا، وضربتك وزيدًا. وتقول في المرفوع: قام، وقاما، فلا ترى اسمًا منفصلًا في الأصل من الفعل، فلذلك أوثر إظهاره (١)، (فقيل: قام هو وعمرو) (٢). قال (٣): وإذا فرقت بين الاسم المعطوف بشيء قد وقع عليه الفعل حسن بعض الحسن، من ذلك قولك: (ضربت زيدًا وعمرًا (٤))، فلو لم يكن (زيد) (٥) لقلت: (ضربت أنا وعمرو) (٦). ومن هذا قوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ [يونس: ٧١]، وقوله تعالى: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا﴾ [النمل: ٦٧].
قال الزجاج: وإنما جاز لأن المفعول يقوي الكلام كما يقوي الكلام دخول لا، قال الله تعالى: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] (٧). فصار ذِكرُ لا وذكرُ المفعول عوضًا من المنفصل.
واختلفوا في معنى قوله: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾، فقال أصحاب المعاني:
(١) "معاني القرآن" ١/ ٣٠٤.
(٢) ما بين القوسين زيادة على "معاني القرآن".
(٣) أي الفراء.
(٤) في "معاني القرآن": ضربت زيدا وأنت.
(٥) في (ج): (زيدا).
(٦) في "معاني القرآن" ١/ ٣٠٤: قمت أنا وأنت، وقمت وأنت قليل. وقد أنتهى إلى هنا كلام الفراء، وما بعده من أمثله لعله من المؤلف.
(٧) انتهى من "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٤.
328
إن كانوا قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر؛ لأنه على وجه الجهل بالله عز وجل (١)، وإن قالوه على وجه الخلاف لأمره ولنبيه فهو فسق (٢).
وقال الحسن: هذا القول كفر منهم بالله (٣).
وإنما أخبر عنهم بهذا إنكارًا عليهم، وتعجيبًا من جهلهم.
وقال بعضهم: إنهم قالوه على المجاز، على تأويل: اذهب أنت وربك معينٌ لك، فأضمر خبر الابتداء (٤).
والأول أظهر لقيام قوله: ﴿فَقَاتِلَا﴾ مقام خبر الابتداء.
(١) قال الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٨٠: وكان بعضهم يقول في ذلك: ليس معنى الكلام: اذهب أنت وليذهب معك ربك فقاتلا، ولكن معناه: اذهب أنت يا موسى وليُعِنْك ربك، وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز عليه الذهاب، ولعل الطبري في "تفسيره" يقصد بهذا القائل أبا عبيدة. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٦٠، ثم رد هذا القول بقوله: وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له لو كان الخبر عن مؤمنين، فأما قوم أهل خلاف على الله عز ذكره ورسوله، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عز وجل، وافتروا عليه إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم. وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله - ﷺ - خلاف ما قال قوم موسى لموسى: حدثنا سفيان، عن طارق: أن المقداد بن الأسود قال للنبي - ﷺ -: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إن معكم مقاتلون. "جامع البيان" ٦/ ١٨٠، وانظر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٤٥.
(٢) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٨.
(٣) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٥٠، وذكره القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٨، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٣/ ٤٥٦.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٦٠، و"بحر العلوم" ١/ ٤٢٨، و"زاد المسير" ٢/ ٤٢٧، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٨، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٥٦.
329
وحكى بعض المفسرين أنهم أرادوا بقولهم: ﴿وَرَبُّكَ﴾ أخاه هارون، قال: وكان أكبر من موسى (١).
والظاهر أنهم قالوا هذا جهلًا منهم، وفسقوا بذلك؛ لأن الله تعالى قال في هذه القصة: ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾، يريدهم (٢).
قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن أهل الكتاب لم يزالوا غير قابلين من الأنبياء قبل النبي - ﷺ - وأن الخلاف شأنهم (٣).
٢٥ - قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي﴾. يقول: لم يطعني منهم إلا نفسي وأخي.
قال أهل المعاني: تأويله أنه لا يملك إلا تصريف نفسه في طاعة الله؛ لأن نفسه (لا تكون (٤)) في حكم المملوك له (٥).
وذكر أبو إسحاق في إعراب قوله: ﴿وَأَخِي﴾ وجهين:
أحدهما: أن يكون رفعًا من جهتين: الأولى: أن يكون نَسَقًا على موضع (إني)، المعنى: أنا لا أملك إلا نفسي وأخي كذلك، ومثله قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣]، والثانية: أن يكون عطفًا على الضمير في (أملك) وهو: أنا، والمعنى: لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا.
والوجه الثاني: أن يكون (أخي) في موضع نصب من جهتين: إحدهما: أن يكون نسقًا على الياء، المعنى: إني وأخي لا نملك إلا
(١) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٨، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٨، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٥٦.
(٢) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٣.
(٤) لعل الصواب: تكون بدون لا، مع أن لا غير واضحة في (ج).
(٥) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٨٠.
أنفسنا، وجائز (١) أن يكون (أخي) معطوفًا على (نفسي) فيكون المعنى: لا أملك إلا نفسي ولا أملك إلا أخي؛ لأن أخاه إذا كان مطيعًا له فهو مالك طاعته (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ قال الكلبي: فاقض بيننا وبين القوم العاصين (٣).
٢٦ - قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ الآية.
قال عطاء عن ابن عباس: حرم الله على الذين عصوا دخول بيت المقدس فماتوا في التِيه أجمعون، ولم يدخل بيت المقدس ممن خرج من مصر أحد، لا موسى ولا هارون ولا أحد منهم، إلا الرجلان اللذان قالا: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ يوشع وكالب، دخلا بأبناء الذين خرجوا من مصر بعدما تاهوا أربعين سنة (٤).
قال الكلبي: قيل لموسى: أما إذ سميتهم فاسقين فإنها محرمة عليهم، فكانوا في التيه أربعين سنة في ستة فراسخ، وقُبِضَ هارون وموسى في التِّيه (٥).
(١) لعل هذا الجائز هو الجهة الثانية من الوجه الثاني.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٤، ١٦٥، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢٢٣، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٨.
(٣) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٢. ونسبه ابن الجوزي إلى ابن عباس، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٢٩.
(٤) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٨٣ لكن من طريق عكرمة عن ابن عباس، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٣٠، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٠، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٤٤.
وهذا قول، وسيأتي أن الراجح أن موسى عليه السلام: هو الذي فتح مدينة الجبارين.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٢.
331
وقال الحسن: لم يمت موسى في التِّيه (١).
واختلفوا: أيضًا هل دخل مدينة الجبارين أم لا؟، فقال قوم: كان الفتح على يديه.
وقال قوم إنما قاتل الجبارين يوشع، ولم يَسِر إليهم إلا بعد موت موسى (٢).
فإن قيل: كيف قال: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ وقد قال: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾؟
قيل: قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ المراد به من دخلها من أولادهم وذراريهم، فأما من مات في التيه ولم يدخلها فإنها لم تكتب لهم.
والمراد: بهذا التحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، كما تقول: حرام عليك دخول داري، أي أني أمنعك ذلك فلا تدخل، ليس أنه يحرم عليه بالشرع.
وقوله تعالى: ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾.
قال الفراء: هي منصوبة بالتحريم، ولو نصبتها بـ (يتيهون) كان صوابًا (٣).
قال الزجاج: أما نصبه بـ (محرمة) فخطأ؛ لأن التفسير جاء بأنها
(١) لم أقف عليه.
(٢) رجح الطبري في "تفسيره" وغيره القول الأول وأن موسى عليه السلام هو الذي فتح مدينة الجبارين. انظر: "جامع البيان" ٦/ ١٨٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٨، و"زاد المسير" ٢/ ٣٣٠، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٣١.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٣٠٥، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٨٤، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢٢٣.
332
حرمة عليهم أبدًا (١)، كذلك قال ابن عباس في رواية عطاء وسائر المفسرين (٢).
وقوله تعالى: ﴿يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾.
يقال: تاه يتيه تَوْهًا وتِيها، والتِّيه أعمهما، ويقال: توهّتُه، وتيّهتُه، والواو أعم، والتَّيهاء: الأرض التي لا يُهتدى فيها، يقال: أرض تِيهٌ وتيهًا ومتيهة، يتيه فيها الإنسان (٣).
قال مجاهد والحسن: كانوا يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا (٤).
قال الزجاج: عذبهم الله عز وجل بأن مكثوا في التيه أربعين سنة سيارة، لا يقرّ بهم القرار، إلى أن مات البالغون الذين عصوا الله ونشأ الصغار.
فإن قيل: التيه عذاب، والأنبياء لا يعذبون، فكيف عذب موسى وهارون بالتيه؟
قيل: إن الله عز وجل سهّل عليهما ذلك كما سهل على إبراهيم النار فجعلها بردًا وسلامًا وشأنها الإحراق (٥).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٥، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢٣٣. وقد فصل مكي في "الإعراب" بما فيه جمع بين القولين.
(٢) لم أجده عن ابن عباس، وأخرجه الطبري في "تفسيره" عن قتادة ٦/ ١٨٤. ونحوه عن غيره. انظر: "جامع البيان" ٦/ ١٨١ - ١٨٢.
(٣) "تهذيب اللغة" ١/ ٤٢٣ (تيه)، وانظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٢٩.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٨٥ عن مجاهد، وانظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٦٢.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٥، ١٦٦ بتصرف يسير.
333
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد لا تحزن على القوم الذين عصوك وعصوني (١).
وقال مقاتل: إنهم قالوا لموسى: ما صنعت بنا؟ وندم موسى على ما دعا عليهم، فأوحى الله إليه: ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (٢).
يقال: أسي يأسى أسًى، أي: حزن (٣).
وقال الزجاج: وجائز أن يكون خطابًا لمحمد - ﷺ - أي لا تحزن على قومٍ لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل (٤).
٢٧ - قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾.
قال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾ يا محمد، يريد على قومك، ﴿نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ كما كان، يريد هابيل وقابيل. وكان هابيل له ضأن، وقابيل له زرع، ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ فنظر هابيل إلى خير كبش في ضأنه فتقرب به إلى الله، ونظر قابيل إلى شر قمحه، فتقرب به إلى الله، فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل، ولم تحمل قربان قابيل، فعلم أن الله قد قَبِلَ من أخيه ولم يقبل منه فحسده، قال الله تعالى: ﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا﴾ يريد هابيل ﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ﴾ يريد قابيل. ويقال إن قربان هابيل هو الكبش الذي فدى الله به إسماعيل (٥) ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ﴾ هابيل {إِنَّمَا
(١) "تفسيره" ص ١٧٦، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٨٦ بلفظ: لا تحزن لا غير.
(٢) بنحوه في "تفسيره" ١/ ٤٦٧، ٤٦٨.
(٣) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٩، والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٨٥.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٦، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٣١.
(٥) كأن هذا القول اعتراض ضمن قول ابن عباس، فإنه نُسِب إلى سعيد بن جبير. انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٤.
334
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. انتهى كلامه (١).
وهذا قول جميع أهل التفسير إلا الحسن والضحاك فإنهما قالا: إن ابني آدم اللذين قربا قربانًا لم يكونا ابني آدم لصلبه، إنما كانا رجلين من بني اسرائيل (٢).
ومضى الكلام في معنى القربان في سورة آل عمران.
وتقديره قوله: ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ قرب كل واحد منهما قربانا، نجمعهما في الفعل وأفرد الاسم؛ لأنه يستدل بفعلها على أن لكل واحد قربانًا.
وقيل: إن القربان اسم جنس، فهو يصلح للواحد وللعدد، على أن القربان مصدر كالرُّجحان والعُدوان والكُفران، يقال: قَرَّبْت الرجل (٣) أقربه قُربًا وقُربانًا (٤).
وكان الرجل فيما مضى إذا رفع إلى الله حاجة قدم أمامها نسيكة، وكاذت تلك الذبيحة تسمى: قربانا، إذ (٥) كان صاحبها يتقرب إلى الله،
(١) الأثر أخرجه الطبري في "تفسيره" بمعناه من طريقين: أحدهما طريق العوفي عن ابن عباس، والثاني طريق أبي صالح عنه.
انظر: "جامع البيان" ٦/ ١٨٦ - ١٨٩، وذكره البغوي في "تفسيره" ٦/ ٤٢، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ٣٣٣.
(٢) أخرجه عن الحسن الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٨٩، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٢٧، "زاد المسير" ٢/ ٣٣١، ورجح كل من الطبري في "تفسيره" وابن الجوزي القول الأول، وأنهما ابني آدم لصلبه.
(٣) قربت الرجل: أي أدنيته، من القرب ضد البعد. انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٥ (قرب).
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٠، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٢.
(٥) في (ج): (إذا).
335
فسمي المتقرب به قربانًا، والمصادر لا تثنى ولا تجمع.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾.
مختصر، أي قال الذي لم يتقبل منه للثاني: لأقتلنك، فحذف لأن المعنى يدل على أن الذي لم يتقبل منه هو القائل بحسده لأخيه: لأقتلنك. قاله الفراء (١). ومثله في الكلام أن تقول إذا اجتمع السفيه والحليم: حمد، تنوي بالحمد الحليم. وإذا رأيت الظالم والمظلوم: أعنت، وأنت تنوي المظلوم، للمعنى الذي لا يُشكل (٢).
وقوله تعالي: ﴿قَرَّبَا﴾.
ليس معناه من القريب الذي هو ضد البعيد، ولكنه من قولهم قرّب قربانًا، إذا تقرب بمال له (٣) إلى الله تعالى، وليس معنى ﴿قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ قربه إلى موضع.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
أي المتقين للمعاصي (٤)، فأطلق للعلم بأن المراد أنها أحق ما يجب أن يُخَاف منه.
قال ابن عباس: قال له هابيل: إنما يتقبل الله ممن كان زاكيَ القلب، ورد عليك لأنك لست بزاكي القلب (٥).
(١) "معاني القرآن" ١/ ٣٠٥، ولا يزال الكلام له.
(٢) انتهى من "معاني القرآن" ١/ ٣٠٥، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٦، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٤.
(٣) في (ش): (لنا).
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٣٤.
(٥) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٢.
336
٢٨ - قوله تعالى: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ﴾ الآية.
يقال في هذا: لِمَ لَمْ يدفع ابن آدم أخاه عن نفسه وإن أدّى إلى قتله؟
قيل: معناه: لئن بدأتني بالقتل فما أنا الذي أبدؤك بالقتل (١).
وهذا يُروى عن ابن عباس (٢) وحُذيفة (٣).
وقال الحسن ومجاهد: إنه كتب عليهم: إذا أراد الرجل قتل رجل تركه، ولم يمتنع منه (٤).
وقال أهل العلم: الدافع عن نفسه يدفع بالأيسر فالأيسر، وليس له أن يقصد القتل، بل يقصد الدفع، ثم إن أتى الدفع على القاتل ولم يمكنه الدفع إلا بقتله جاز ذلك، فمن قصد قتل رجل ظُلمًا فالمقصود إن أراد أن يستسلم للقتل جاز له ذلك (٥).
وكذلك فعل عثمان -رضي الله عنه- (٦)، وكذلك أمر رسول الله - ﷺ - (٧) محمد بن مسلمة (٨)، فقال له: "أَلْقِ كُمَّك على وجهك وكن عبد الله
(١) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٣٤.
(٢) أخرج الطبري في "تفسيره" من طريق العوفي عنه في هذه الآية ما أنا بمنتصر، ولأمسكن يدي عنك. "جامع البيان" ٦/ ١٩١ - ١٩٢.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٢، وذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٣، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٦.
(٥) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٦، وقال القرطبي في "تفسيره": وفي وجوب ذلك [أي الدفع] عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر.
(٦) حينما ترك الدفاع عن نفسه في فتنة قتله -رضي الله عنه- انظر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٠.
(٧) الصلاة على النبي - ﷺ - ليست في (ج).
(٨) هو أبو عبد الرحمن محمد بن مسلمة بن خالد بن عدي الأوسي الأنصاري =
المقتول ولا تكن عبد الله القاتل" (١).
وإن أراد أن يدفع القاتل وجب أنْ يَقصد الدفع ولا يقصد القتل، ألا ترى أن ابن آدم قال: ﴿مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ﴾، فبان أن بسط اليد لقتل القاصد للقتل لا يجوز.
وقال عبد الله بن عمرو في هذه الآية: والله إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده لأخيه (٢).
٢٩ - قوله تعالى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾.
قد مضى الكلام في معنى: باء (٣).
قال ابن عباس والحسن وقتادة وابن مسعود: تحتمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي (٤).
= صحابي فاضل، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها إلا تبوك، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان -رضي الله عنه- مات بالمدينة سنة ٤٦ هـ وقيل بعدها. انظر: " الاستيعاب" ٣/ ٤٣٣، "أسد الغابة" ٥/ ١١٢، "الإصابة" ٣/ ٣٨٣.
(١) لم أقف عليه عن محمد بن مسلمة -رضي الله عنه- بهذا اللفظ. وقد أخرج معناه عنه ابن الأثير في "أسد الغابة" ٥/ ١١٣، وانظر: "الإصابة" ٣/ ٣٨٣.
والحديث له شاهد من حديث خالد بن عرفطة -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله - ﷺ -: "يا خالد إنها ستكون بعدي أحداث وفتن واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل".
أخرجه الإِمام أحمد في "مسنده" ٥/ ٢٩٢، والحاكم في "مستدركه" ٤/ ٥١٧، وله شاهد آخر من حديث خباب -رضي الله عنه- عند أحمد ٥/ ١١٠.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩١، وانظر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٠، "الدر المنثور" ٢/ ٤٨٤.
(٣) عند قوله تعالى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٦١].
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٢ - ١٩٣، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٣، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٥.
338
وقال الزجاج: ترجع إلى الله بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك (١).
قال ابن الأنباري: وإنما فصل الإثمين وهما على واحد لاختلاف سببهما (٢).
فإن قيل: كيف قال ابن آدم: إني أريد أن تبوء بالإثمين فجاز أن يريد منه الإثم، وليس للإنسان أن يريد معصية الله من غيره كما ليس له أن يريدها من نفسه؟
والجواب: عن هذا من وجوه: أحدها ما ذكره ابن الأنباري، وهو أن قابيل لما قال لأخيه: ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾، وعظه هابيل وذكره الله واستعطفه، وقال: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ﴾ الآية، فلما رآه هابيل قد صمم وأخذ له الحجارة يرميه بها، قال له عند الضرورة: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ أي إذا قتلتني ولم يندفع قتلك إياي إلا بقتلي إياك فمحبتي أن يلزمك إثم قتلي إذا قتلتني، فكان هذا عدلًا من هابيل (٣).
وإلى هذا أشار الزجاج فقال: أي إن قتلتني فأنا مريد ذلك (٤).
فهذه الإرادة منه بشرط أن يكون قاتلا له، والإنسان إذا تمنى أن يكون إثم دمه على قاتله لم يلم على ذلك (٥).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٧، وانظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٧.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) لم أقف على قول ابن الأنباري، وقد ذكر ابن الجوزي له قولاً خلافه. انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٣٦، ٣٣٧.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٧
(٥) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٣.
339
وهذا التأويل قال بعضهم معناه: إني أريد أن ترو بعقاب إثمي وإثمك، ثم حذف المضاف، ومن باء بإثم باء بعقاب ذلك الإثم (١).
وقوله تعالى: ﴿فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ قال عطاء: يريد إن جهنم جزاء من قتل أخاه وظلمه (٢).
٣٠ - قوله تعالى: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾.
قال الفراء: فتابعته نفسه وطاوعته (٣).
وقال المبرد: (طوعت (٤)) فعّلت، من الطَّوع (٥).
وقال أبو عبيد: قال حدثنا يزيد (٦)، عن ورقاء (٧)، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾ قال: شجعته (٨).
(١) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٨.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في "معاني القرآن" ١/ ٣٠٥: فتابعته، وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٣ (طاع)، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٧.
(٤) ما بين القوسين ساقط من (ج).
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٧، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٣ (طاع). وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٣٧.
(٦) يزيد بن هارون بن زاذان السلمي الواسطي، تقدمت ترجمته.
(٧) هو أبو بشر ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري الكوفي الإِمام الثقة الحافظ العابد المقرئ، قال ابن معين: تفسير ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أحب إلي من تفسير قتادة. مات -رحمه الله- بعد سنة ١٦٠ هـ.
انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص ١٧٥، "سير أعلام النبلاء" ٧/ ٤١٩، "غاية النهاية" ٢/ ٣٥٨.
(٨) الأثر بسنده من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٣ (طاع)، وهو في "تفسير مجاهد" ١/ ١٩٣، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٥.
340
قال أبو عبيد: عنى مجاهد أنها أعانته على ذلك وأجابته إليه. ولا أرى أصله إلا من الطواعية (١).
قال الأزهري: والأشبه عندي أن يكون معنى: (طوعت) سمحت وسهّلت له نفسه (قتل أخيه) أي جعلت نفسه قتل أخيه سهلًا وهوّنته (٢).
وتقدير الكلام: فصورت له نفسه أن قتل أخيه طوعٌ له سهلٌ عليه، فينتصب القتل على هذا من غير إضمار ولا حذف (٣) خافض.
واختار الزجاجي هذا الوجه فقال: طوّع فعل من طَاع الشيء يطوع إذا سهُل وانقاد، و ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ أي سهلت الأمر فيه عليه (٤).
وأما قول (٥) الفراء والمبرد فانتصاب قوله: ﴿قَتْلَ أَخِيه﴾ على إفضاء الفعل إليه بعد حذف الخافض، كأنه قيل (٦): فطوعت له نفسه أن انقادت في قلت أخيه ولقتل أخيه، فحذف الخافض وأفضى الفعل إليه فنصبه (٧). هذا كلام أهل اللغة.
وأما المفسرون فقال ابن عباس في رواية عطاء: فسولت له نفسه قتل أخيه (٨).
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٣ (طاع).
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٣، (طاع)، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٣.
(٣) في (ش): (حرف).
(٤) لم أقف عليه. انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٣ (طاع)، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٣.
(٥) في (ش): (وأما على قول).
(٦) في (ش): (قتل).
(٧) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٨.
(٨) لم أقف عليه.
341
وقال قتادة: زينت له نفسه (١).
وقال يمان (٢): سهلت له ذلك (٣).
وقال عبد العزيز بن يحيى (٤): أجابته إلى ذلك (٥).
وقال الكلبي: تابعته نفسه على قتل أخيه (٦).
وقوله تعالى: ﴿فَقَتَلَهُ﴾.
قال المفسرون: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل، فتمثل له إبليس وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر، وقابيل ينظر فعلّمه القتل، ثم وجد قابيل أخاه هابيل يومًا نائمًا، فرفع صخرة، فشدخ رأسه فمات (٧).
وروى مسروق عن عبد الله (٨) عن رسول الله - ﷺ - قال: "لا تقتل نفس
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٥، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٩.
(٢) يمان بن رئاب، تقدمت ترجمته.
(٣) انظر: "الوسيط" ٣/ ٨٥٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٣، وهذا اختيار الأزهري كما تقدم، مع أن الأقوال متقاربة من حيث المعنى.
(٤) لعله عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكناني المكي الذي ناظر بشرًا المريسي في نفي خلق القرآن، وينسب إليه كتاب "الحيدة" في ذلك واستبعد الذهبي هذه النسبة، كان من فقهاء الشافعية، وذكر أنه صَحِب الشافعي مدة ولم يذكر تاريخ وفاته.
انظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص ١٤، "ميزان الاعتدال" ٣/ ٣٥٣، "طبقات الشافعية" للإسنوي ١/ ٤١.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) لم أقف عليه. وقد نسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ٣٣٧ إلى ابن عباس.
(٧) أخرجه بنحوه عن ابن جريج: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٥، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٢٩، "النكت والعيون" ٢/ ٣٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٣، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٧، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥١.
(٨) ابن مسعود رضي الله عنه.
342
ظلمًا إلا كان عى ابن آدم كفل من دمها، وذلك أنه أول من سن القتل" (١).
وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين من اللذان يقول الله لهما: ﴿رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ [فصلت: ٢٩]؟ فقال علي: هو إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه، كانا أول من عمل بالمعصية (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: ٣٠].
قال ابن عباس: يريد خسر دنياه وآخرته، أما الدنيا فأسخط والديه وبقي بلا أخ، وأما الآخرة فأسخط ربه وصار إلى النار (٣).
قال المفسرون: إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس وقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل؛ لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك، فبنى (٤) بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها (٥).
٣١ - قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية.
قال المفسرون: إن قابيل لما قتل أخاه تركه بالعراء، ولم يدر ما يصنع؛ لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فقصده السباع، فحمله في
(١) أخرجه البخاري (٣٣٣٥) كتاب الأنبياء، باب (١): خلق آدم وذريته ٤/ ١٠٤، ومسلم (١٦٧٧) كتاب القسامه، باب (٧): بيان إثم من سن القتل ٣/ ١٣٠٣ (ح ٢٧) والمؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٥٨.
(٢) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٥ (الطبعة غير المحققة)، والحاكم ٢/ ٣١٢، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٤٨٨.
(٣) انظر: "الوسيط" ٣/ ٨٥٧، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٨، "البحر المحيط" ٣/ ٤٦٥.
(٤) في (ج): (فبنا).
(٥) جاء ذلك في أثر طويل رُوي عن ابن عباس. انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٥، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٣٩
343
جراب على ظهره حتى أَرْوح، فبعث الله غُرابًا يبحث في الأرض (١).
قال ابن عباس: وكان غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، وقابيل ينظر، ثم بحث في الأرض حتى جعل له حفرة فدفنه فيها، ففعل قابيل مثل ما فعل الغراب (٢).
قال ابن قتيبة: وهذا مختصر، والتقدير: فبعث الله غُرابًا يبحث في الأرض على غراب ميت (٣).
قال الضحاك: ﴿يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ﴾ يثير التراب من الأرض (٤).
﴿لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾. أي: جيفته، وقيل: عورة أخيه (٥).
وقوله تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَا﴾.
قال الزجاج: المعنى يا ويلتا تعالي، فإنه من إبّانك (٦)، أي: قد لزمني الويل، وكذلك: يا عجبًا، المعنى: يا أيها العجب هذا وقتك. قال: والوقت في غير القرآن: يا ويلتاه (٧).
(١) أخرجه بمعناه عن ابن عباس وغيره: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٧، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٤، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٢.
(٢) بمعناه في "تفسيره" ص ١٧٦، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٧ من طرق، وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٤٨٩.
(٣) "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٣١، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٨، "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٧.
(٤) لم أقف عليه، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٨.
(٥) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ١٩٩، "النكت والعيون" ٢/ ٣٠، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٨.
(٦) أي من وقتك أو زمن حاجتك.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٧، ١٦٨ بتصرف.
344
وذكرنا زيادة بيان في قوله: ﴿يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ﴾ [هود: ٧٢].
وقوله تعالى: ﴿فَأُوَارِيَ﴾، عطف على: ﴿أَنْ أَكُونَ﴾. وقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ [المائدة: ٣١].
حقيقة معنى الندم أنه وضع للزوم، ومنه سمي النديم نديمًا لأنه يلازم المجلس، ويقوي هذا قولهم: نادم سادم، والسدم اللهج بالشيء، يقال: سدم به، إذا أغري به ولزمه، ويقال (١) لمن اهتم بالشيء الفائت: نادم سادم؛ لأن هذا الهّم ألزم للقلب من الهّم لأجل الشيء الحادث؛ لأن هذا يزول بزوال ما حدث، والفائت لا سبيل إلى رده (٢).
قال كثير من المفسرين: ﴿مِنَ النَّادِمِينَ﴾ على حمله والتطواف به (٣).
وقال آخرون: ﴿مِنَ النَّادِمِينَ﴾ على ذوات أخيه؛ لأنه لم ينتفع بقتل أخيه، وسخط عليه بسببه أبواه وإخوته، فندم لأجل ذلك، لا لأجل أنه جنى واقترف ذنبًا بقتله، فلم يكن ندمه على الوجه الذي يكون ندم التربة (٤).
٣٢ - قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا﴾ الآية.
الأجل في اللغة: الجناية، يقال: أجَلَ عليهم شرًّا بأجله أجْلًا، إذا جنى عليهم جناية. ذكره ابن السكيت (٥)، وأبو عبيدة (٦)، والزجاج (٧)،
(١) في (ج): (وقال).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٤٣، "اللسان" ٧/ ٤٣٨٦ (ندم).
(٣) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٣٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٤، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٩.
(٤) انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٦٤، "بحر العلوم" ١/ ٤٣٠، "النكت والعيون" ٢/ ٣١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٤، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٩.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٥ (أجل).
(٦) في "مجاز القرآن" ١/ ١٦٢.
(٧) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٨.
345
وجميع أهل اللغة، وأنشدوا:
وأهلِ خِباءٍ (١) صالح ذات بينهم قد احتَربُوا في عَاجلٍ أنا آجِلُه (٢)
أي: أنا جانيه (٣). وفي هذا المعنى أيضًا يقال: جر عليهم جريرة، ثم يقال: فعلت ذلك من أجلك، أي من جنايتك وجريرتك، كأنه يقول: أنت جررتني إلى ذلك، وأنت جنيت علي هذا (٤).
قال الزجاج: من جنايته ذلك (٥).
وقال ابن الأنباري: من سبب ذلك. قال: ويقال: فعلت ذلك من أجلك ومن جلالك ومن جلك وجرّاك وجرائك (٦).
واختلفوا في قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾، فقال بعضهم: إنه من صلة النادمين، على معنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك، أي من أجل أنه حين قتل أخاه لم يواره (٧).
ويُروَى عن نافع أنه كان يقف على قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ ويجعله من
(١) في (ش): جناء.
(٢) البيت لزُهير بن أبي سُلمى. انظر: "أشعار الستة الجاهليين" ص ٣٠٣، "الدر المصون" ٤/ ٢٤٧، وينسب لخوات بن جبير كما في "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٥، واستشهد به أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ١٦٣، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠.
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ١٦٤، "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٥ (أجل)، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٦٢، ١٦٤، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٨.
(٦) لم أقف عليه عن ابن الأنباري، وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٥ (أجل).
(٧) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، "النكت والعيون" ٢/ ٣١، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٠، "البحر المحيط" ٣/ ٤٦٨.
346
تمام الكلام الأول (١).
وعامة المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ ابتداء كلام، وليس بمتصل بما قبله (٢).
واحتج ابن الأنباري لهذا بأن قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ رأس آية، ورأس الآية فصل. قال: ولأنه قد تقدم ما كشف علة الندم فاستغنى النادمون عن: (من أجل ذلك). قال: ولأن من (جعله من صلة للندم أسقط العلة للكتابة، ومن (٣)) جعله من صلة الكتابة لا يسقط معنى الندم، إذ قد تقدم ما كشف سببه، فكان هذا أولى (٤).
وأما التفسير: فقال ابن عباس في رواية عطاء: بسبب قابيل قضينا على (٥) بني إسرائيل (٦).
وقال الكلبي: من أجل ابني آدم حين قتل أحدهما صاحبه فرضنا على بني إسرائيل (٧).
(١) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص ٢٨٦، والمُكتفى في "الوقف والإبتداء" ص ٢٣٨، ٢٣٩.
(٢) وهذا هو الراجح. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠، "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، "إيضاح الوقوف والابتداء" ٢/ ٦١٧، ٦١٨، "القطع والائتناف" ص ٢٨٦، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٠، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٤٦، "البحر المحيط" ٣/ ٤٦٨، "الدر المصون" ٤/ ٢٤٨.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(٤) انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" ٢/ ٦١٧، ٦١٨.
(٥) في (ج): (إلي).
(٦) لم أقف عليه، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٧) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣، وورد نحوه عن الضحاك، انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠
347
﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾. قال ابن عباس: بغير قود (١).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ﴾ قال الكلبي: أو شرك في الأرض (٢).
وقال غيره: يعني بالفساد في الأرض أن يكون محاربًا لله ورسوله، كالذين ذكرهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية (٣).
قال الزجاج: ﴿أَوْ فَسَادٍ﴾ منسوق على نفس، المعنى: أو بغير فساد في الأرض (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
قال مجاهد: من قتل نفسًّا محرمة يَصلى النار بقتلها كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا (٥).
ونحو هذا قال الكلبي فقال: يعذب عليها كما أنه لو قتل الناس كلهم (٦).
وقال الحسن وابن زيد: يعني أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل
(١) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرج الطبري عنه في تفسير هذه الآية: يقول من قتل نفسًّا واحدة حرمتها. "جامع البيان" ٦/ ٢٠٠.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٠، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٤٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٨.
(٥) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٢، وذكره بلفظه البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٦، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٠.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
348
الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعًا (١).
وحكى الزجاج: عن بعضهم أن المعنى فيه أن المؤمنين كلهم خصماء للقاتل، وقد وَتَرهم وَتر من قصد لقتلهم جميعًا (٢). وأوصل إليهم من المكروه مثل ما يشبه القتل الذي أوصله إلى المقتول، فأذاه إياهم كأذى رجل قتلهم كلهم.
وهذا اختيار ابن الأنباري، وزاد من عنده وجهًا آخر فقال: المقدار الذي يستحقه قاتل الناس جميعًا معلوم عند الله عز وجل محدود، (فالذي يقتل الواحد يلزمه الله ذلك الإثم المعلوم) (٣)، والذي يقتل الاثنين يلزمه الله مثل ذلك (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
قال الكلبي: من عفا عن رجل قتل رجلاً خطأ وجبت له الجنة، كما لو عفا عن الناس جميعًا، وذلك أنه كتب عليهم في التوراة: أيما رجل قتل رجلاً خطأ فهو له قود إلا أن يشاء الولي أن يعفو (٥).
وقال الحسن: عفا عن دمها وقد وجب القود عليها (٦).
(١) أخرجه عن ابن زيد: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٢ - ٢٠٣، وذكره عنه الماورد في "النكت والعيون" ٢/ ٣٢، أما الحسن فذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٧ وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٠، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٤.
(٢) انتهى من "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، ١٦٩ حسب المطبوع، فبقية الكلام يحتمل له أو للمؤلف.
(٣) ما بين القوسين مكرر في (ش).
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤١.
(٥) انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٦٥، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٣.
(٦) "تفسير الهواري" ١/ ٤٦٦، وأخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٣، وانظر "النكت والعيون" ٢/ ٣٢، "زاد المسير" ٢/ ٢٤٣.
349
وهذا كقول الكلبي، وهو قول ابن زيد أيضًا (١).
وقال الزجاج: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ أي من استنقذها من غرق أو حرق أو هدم أو ما يميت لا محالة، أو استنقذها (٢) من ضلال ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ أي أجره على الله عزّ وجلّ أجر من أحياهم أجمعين؛ (لأنه في إسدائه (٣)) إليهم المعروف بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كل واحد منهم (٤).
وروى ابن الأنباري هذا القول عن مجاهد بإسناد له (٥).
وقال سعيد بن جبير: في هذه الآية: من استحل قتل نفس فهو كذلك في دماء الناس لا يتحرم لها، ومن أحياها مخافة من الله وتحرجًا من قتلها فكذلك يرى دماء الناس كلهم حرامًا (٦).
وهذا كما يُروى عن قتادة والضحاك أنهما قالا في هذه الآية: عظم الله أجرها وعظم وزرها، فمن استحل قتل مسلم بغير حقه، فكأنما قتل الناس أجمعين؛ لأنهم لا يَسْلمون منه، ومن أحياها فحرمها وتورعّ عن
(١) أخرج الأثر عنه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٣، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٢، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٢.
وقال بهذا أيضًا ابن قتيبة، انظر: "غريب القرآن" ص ١٤٠.
(٢) في (ج): (واستنقذها)، وما أثبته موافق لما في "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٩، وهو أولى.
(٣) عند الزجاج: وجائز أن يكون في إسدائه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٩، وذكر نحو هذا القول عن الحسن. انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٦٦.
(٥) أخرج الطبري في "تفسيره" عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: من أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة، وفي رواية: من غرق أو حرق أو هدم. "جامع البيان" ٦/ ٢٠٣، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٢.
(٦) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٦٢، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٥.
350
قتلها، فكأنما أحيا الناس جميعاً لسلامتهم منه (١).
قال أهل المعاني: قوله: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ على المجاز؛ لأن المعنى: ومن نجا بها من الهلاك، والفاعل للحياة هو الله عزّ وجلّ (٢) لا يقدر عليها غيره (٣).
وسئل الحسن عن هذه الآية فقيل: أهي كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي والذي لا إله غيره وما جعل دماء بني إسرائيل (أكرم (٤)) على الله من دمائنا (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾.
قال ابن عباس: بان لهم صدق ما جاءوهم به من الفرائض والحلال والحرام (٦).
وقال الكلبي: أي بالبيان في أن ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ الآية (٧).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة: ٣٢].
أي: مجاوزون حد الحق (٨).
(١) أخرج الأثر بمعناه عنهما الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٣ - ٢٠٤، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٧.
(٢) في (ش): (تعالى).
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٤.
(٤) ساقط من (ج).
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٤، وأورده البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٧، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٤.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٢.
(٨) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٥.
351
قال الكلبي: بالشرك (١).
وقال غيره: بالقتل (٢). وهذا عام في كل ما هو تجاوز عن الحق.
٣٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية.
قال الزجاج: المعنى في: ﴿إِنَّمَا﴾ ما جزاؤهم إلا هذا؛ لأن القائل إذا قال: (جزاؤك دينار، فجائز أن يكون معه غيره، وإذا قال (٣)): إنما جزاؤك دينار، كان المعنى: ما جزاؤك إلا دينار (٤).
قال ابن عباس في رواية عطاء وسعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في قصة العُرَنِيّين (٥) وهي معروفة (٦).
فإن قيل: فكيف (٧) لم يعذبوا بما في الآية، وفي حديثهم أنهم سُمِل
(١) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ١١/ ٢١٣.
(٣) ما بين القوسين ليس في "معاني الزجاج" حسب المطبوع.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٩.
(٥) أخرج ذلك عن سعيد بن جبير ١٠/ ٢٤٦، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٣، ولم أجد شيئًا في ذلك عن ابن عباس. وقد قال بهذا القول أنس وجرير والزبير والسدي وقتادة. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٦ - ٢٠٨، "النكت والعيون" ٢/ ٣٢.
(٦) أخرج مسلم (١٦٧١) كتاب القسامة، باب (٢): حكم المحاربين والمرتدين ٣/ ١٢٩٦ (ح ٩) عن أنس -رضي الله عنه- أن ناسًا من عرينة قدموا على رسول الله - ﷺ - المدينة، فاجتووها. فقال لهم رسول الله - ﷺ -: "إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها" ففعلوا، فصحوا. ثم مالوا إلى الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود رسول الله فبلغ ذلك النبي - ﷺ - فبعث في أثرهم. فأتي بهم. فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم. وتركهم في الحرة حتى ماتوا.
وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ص ١٩٦ - ١٩٧.
(٧) في (ش): (كيف).
352
أعينهم وقُطَّعت أيديهم وأرجلهم، وليس في الآية سمل الأعين وقطع جميع الأيدي والأرجل؟
والجواب: ما حكي عن الليث بن سعد (١) أنه قال: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله - ﷺ - وتعليمًا إياه عقوبتهم، فقيل: إن جزاءهم ما ذكر في الآية، لا المُثلة، فلذلك ما قام رسول الله - ﷺ - خطيبًا إلا نهى عن المُثلة (٢).
ويمكن أن يقال: ما فعله رسول الله - ﷺ - كان هو الحد فيهم بالسنة، فلما نزلت الآية صارت تلك السنة منسوخة بالقرآن (٣). هذا إذا جوزنا نسخ السنة بالقرآن (٤).
وإن قلنا: لا تُنسخ السنة بالقرآن -وهو الأصح من مذهب الشافعي (٥)
(١) هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي المصري ثقة ثبت إمام مشهور، كان ورعًا فاضلًا سخيا، مات -رحمه الله- سنة ١٧٥هـ.
انظر: "مشاهير علماء الأمصار" ص ١٩١، "سير أعلام النبلاء" ٨/ ١٣٦، "التقريب" ص ٤٦٤ (٥٦٨٤).
(٢) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٨ - ٢٠٩، وأورده بلفظ المؤلف البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٨.
وقد ذكر الطبري في "تفسيره" عن الأوزاعي أنه أنكر أن يكون نزول هذه الآية معاتبة، ونقل عنه قوله: بلى، كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، فرفع عنهم السمل، والله أعلم. وسيأتي قريبًا تخريج الحديث في النهي عن المثلة.
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٦ - ٢٠٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٨.
(٤) هذا رأي جمهور العلماء، وهو الراجح لتظاهر الأدلة عليه.
انظر: "الناسخ والمنسوخ في كتاب الله عز وجل" للنحاس ١١٨، "الأحكام في أصول الأحكام" للآمدي ٣/ ١٥٠، "إرشاد الفحول" للشوكاني ص ٣٢٦.
(٥) انظر: "الرسالة" ص ١١٠، "الأحكام" للآمدي ٣/ ١٥٠، ١٥١، "إرشاد الفحول" ص ٣٢٦.
353
رضي لله عنه- فتلك إنما نُسِخت بسنة أخرى من عنده، فنسخت الثانية الأولى (١). وهذا أيضًا قول سعيد بن المسيب والسدي في نزول الآية (٢).
قال عبد الله بن مسلم (٣): المحاربون لله ورسوله هم الخارجون على جماعة المسلمين، يخيفون السبل، ويسعون في الأرض الفساد (٤).
فمعنى: ﴿يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أي يعصونهما ولا يطيعونهما، وكل من عصاك فهو حرب كذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾.
قال مجاهد: هو الزنا والسرقة وقتل النفس وإهلاك الحرث والنسل (٥).
وقال الكلبي: يعني بالقتل وأخذ الأموال (٦).
قال العلماء: وكل من أخذ السلاح على المسلمين في أي موضع كان وكيف ما كان، في البلد أو الصحراء، أو للقتل اغتيالًا، فهو محارب لله ورسوله، فدخل المكابر في البلد في هذه الجملة.
وهذا قول مالك والأوزاعي ومذهب الشافعي (٧) -رضي الله عنه-،
(١) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٨.
(٢) أخرج الأثر عن السدي: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٨.
(٣) ابن قتيبة.
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٩٩.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١١، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٤٩٤، وعزاه إلى عبد بن حميد.
(٦) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٧) انظر: "الأم" ٦/ ١٥٢، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٠، "النكت والعيون" ٢/ ٣٣، "الوسيط" ٣/ ٨٦٥، ٨٦٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٦، ٣٤٧.
وقال ابن الجوزي: ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر.
354
وذكر الشافعي قُطّاع الطريق ثم قال: وأراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم ذنبًا فحدودهم واحدة (١).
وقوله تعالى: ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ اختلفوا في حكم (أو) ههنا، فقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: إن (أو) دخلت للتخيير، ومعناها الإباحة، أي: إن شاء الإِمام قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء نفى، أي شيء من هذه الأشياء شاء فعل (٢). وهذا قول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد (٣).
وقال في رواية عطية: (أو) ليست للإباحة، وإنما هي مرتبة للحكم باختلاف الجناية، فمن قتل وأخذ المال صُلِب، وقُتِل، ومن أخذ المال ولم يقتل قُطِع، ومن سفك الدماء وكف عن الأموال قُتِل، ومن أخاف السبيل ولم يأخذ الأموال ولم يقتل نفي (٤)، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والسدي والقرظي والربيع (٥)، ورواية عطاء عن ابن عباس أيضًا (٦).
قال الشافعي -رضي الله عنه-: ويحدد كل واحد بقدر فعله فمن وجب
(١) "الأم" ٦/ ١٥٢، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٠.
(٢) بمعناه في "تفسير ابن عباس" ص ١٧٧، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٤.
(٣) أخرج الآثار عنهم: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٤، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٣، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٨.
(٤) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٢، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٩، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٨.
(٥) أخرجه أقوالهم الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٣.
(٦) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٣ وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٨. وقد أخرج الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٢ عن عطاء كالقول الأول: أن الإمام مخير فيها.
355
عليه القتل والصلب قتل قبل صلبه كراهية تعذيبه، ويصلب ثلاثًا ثم ينزل (١).
قال أبو عبيد: سألت محمد بن الحسن (٢) عن قوله: ﴿أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ فقال: هو أن يصلب حيًا ثم يطعن بالرماح حتى يقتل، وهو رأي أبي حنيفة. فقيل: هذا مُثلة. قال: المُثلةَ يراد به (٣). قال أبو عبيد: والذي أختار أن يكون الصلب بعد القتل؛ لأن رسول الله - ﷺ - نهى عن المثلة (٤).
قال الشافعي: ومن وجب عليه القتل دون الصلب: قتل ودفع إلى أهله يدفنونه، ومن وجب عليه القطع دون القتل: قطعت يده اليمنى ثم حسمت (٥)، ثم رجله اليسرى ثم حسمت في مكان واحد، ثم خُلّي، وذلك
(١) انظر: "الأم" ٦/ ١٥٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٩، "المحرر والوجيز" ٤/ ٤٢٧، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٥١، ١٥٢، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٨.
(٢) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني العلامة صاحب أبي حنيفة، أخذ بعض الفقه عن أبي حنيفة وأكمل على أبي يوسف وأخذ الحديث عن مالك، وله مؤلفات كثيرة، وقد أخذ عنه الشافعي، توفي -رحمه الله- سنة ١٨٩ هـ.
انظر: "المعارف" ص ٥٠٠، "الفهرست" ص ٢٨٤، "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص ١٤٢، "سير أعلام النبلاء" ٩/ ١٣٤.
(٣) لم أقف عليه، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٩، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٥١.
(٤) لم أقف على قول أبي عبيد، وأما النهي عن المثلة فقد قال عبد الله بن يزيد الأنصاري -رضي الله عنه-: نهى رسول الله - ﷺ - عن النُّهبى والمثلة. أخرجه البخاري (٢٤٧٤) كتاب المظالم، باب (٣٠): النهبى بغير إذن صاحبه ٣/ ١٠٧. والنُّهبى: بمعنى النَّهْب وهو الغارة والسلب والاختلاس، انظر: "النهاية في غريب الحديث" ٥/ ١٣٣ (نهب).
(٥) الحسم قطع الدم بالكي. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٣٤٩.
356
معني قوله: ﴿مِنْ خِلَافٍ﴾ (١).
واختلفوا: في معنى النفي في قوله: ﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾، فقال ابن عباس: هو أن يُهْدِر الإِمام دمه فيقول: من لقيه فليقتله (٢).
وقال بعضهم: هو أن يقاتَلُوا حيث توجهوا من الأرض، ويُطلبوا في أي أرض كانوا بها حتى تضيق عليهم الدنيا.
حكى هذا القول أبو إسحاق (٣) وأبو بكر وابن قتيبة، ثم قال ابن قتيبة: هذا إنما يكون فيمن لم يقدر عليه؛ لأنه لا يجوز أن يظفر الإِمام به فيدع عقوبته ثم يقول: من لقيه فليقتله، أو يجده فيتركه ثم يطلبه في كل أرض (٤). وهو على ما قال.
فأما المقبوض عليه ممن حقه النفي فقال ابن عباس في رواية عطاء: ينفوا من الأرض إلى بلاد الكفر (٥).
وهذا قول جماعة المفسرين، وهو أنهم قالوا: ينفى من بلدته إلى بلدةٍ أخرى (٦).
وقال آخرون: المراد بالنفي في هذه الآية: الحبس والسجن (٧).
(١) "الأم" ٦/ ١٥٢، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٣.
(٢) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٦ - ٢١٧، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٤، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٦.
(٣) أي الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٠.
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ١٤١.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٧ - ٢١٨، "النكت والعيون" ٢/ ٣٤.
(٧) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٨، "النكت والعيون " ٢/ ٣٤، "زاد المسير" ٢/ ٢٤٦.
357
قال ابن الأنباري: وأكثر اللغويين يختارون هذا القول في تفسير الآية، واحتجوا بأن المسجون بمنزلة المخرج من الدنيا إذا كان ممنوعًا من التصرف وَمحولًا بينه وبين أهله وأولي أُنسِه، مع ممارسته صنوف المكاره والأذى في السجن (١).
وقال ابن قتيبة: ولا أرى شيئًا من هذه التفاسير أشبه بالنفي في هذا الموضع من الحبس؛ لأنه إذا حُبس ومُنع من التصرف والتقلب في البلاد فقد نفي منها كلها وأُلجئ إلى مكان واحد، وأنشد هو وأبو بكر قول بعض المسجنين (٢):
خرجنا من الدنيا ونحنُ من أهلها فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجَّان يومًا لحاجةٍ عَجِبْنا وقلنا جاء هذا من الدنيا (٣)
وقال الوليد بن عبيد (٤) يذكر قومًا سجنوا:
غابوا عن الأَرْضِ أَنْآى غيبةٍ وهُم فيها فلا وَصلَ إلا الكتبُ والرسلُ (٥)
(١) لم أقف عليه
(٢) عند ابن قتيبة: المسجونين. "تأويل مشكل القرآن" ١/ ١٤١.
(٣) "تأويل مشكل القرآن" ١/ ١٤١، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٣٢، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٥٣، "البحر المحيط" ٣/ ٤٧١، وجاء فيها الشطر الثاني من البيت الأول:
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحياء
وقد ذكر الرازي أن هذا الشعر لصالح بن عبد القدوس حين حبس بتهمة الزندقة في سجن ضيق مدة طويلة. انظر: "التفسير الكبير" ١١/ ٢١٧.
(٤) هو أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى بن عبيد الملقب بالبحتري، شاعر وقته في الدولة العباسية، وله ديوان، توفي -رحمه الله- سنة ٢٨٣ هـ وقيل بعدها. انظر: "الفهرست" ص ١٢٦، "سير أعلام النبلاء" ٣/ ٤٨٦، "البداية والنهاية" ١١/ ٨١.
(٥) "ديوان البحتري" ٣/ ١٧٦٠.
358
فصرح بغيبتهم عن الأرض مع كونهم فيها، والمُحدثُون يُحتَجّ بهم في المعاني، ولا يحتج بهم في الألفاظ.
قال أبو محمد: وليس نفي الخارب (١) من بلده إلى غيره عقوبةً له، بل هو إهمال وتسليط وبعث على التزيد في العبث والفساد (٢).
ومذهب الفقهاء في هذه الآية أيضًا أن المراد بالنفي: الحبس.
قال الشافعي: ومن حضر منهم وكثر أو هِيب أو كان رِدءًا (٣) عُزِّر وحبس (٤).
وهو مذهب أبي حنيفة أيضًا (٥). قال (٦): ومن قتل وجرح أقص لصاحب الجرح ثم قتل، ولو أخذ المال وجرح أقص صاحب الجرح ثم قطع، لا يمنع حق الله حق الآدميين، ومن عفا عن الجراح كان له، ومن عفا عن النفس لم يحقن بذلك دمه، وعلى الإِمام قتله إذا بلغت جنايته القتل، ولا يقطع منهم إلا من أخذ ربع دينار فصاعدا، قياسًا على السنة في السارق (٧).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا﴾ أي: فضيحة وهوان.
﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهذا للكفار الذين نزلت في العُرَنِيّين
(١) الخارب: اللص. "الصحاح" ١/ ١١٩ (خرب).
(٢) "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٠١.
(٣) في "الأم" ٦/ ١٥٢: ردءا للصوص أي: مساعدًا.
(٤) "الأم" ٦/ ٥٢، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٠.
(٥) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢١٨، "بحر العلوم" ١/ ٤٣٢، "النكت والعيون" ٢/ ٣٤، "زاد المسير" ٢/ ٢٤٦.
(٦) أي الشافعي.
(٧) "الأم" ٦/ ١٥٢ بتصرف، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٩.
359
فإنهم ارتدوا عن الإسلام (١).
وبعض المفسرين يقول: نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي، وكانوا مشركين (٢)، وبعضهم يقول نزلت في قوم من أهل الكتاب (٣).
ثم بالسنة أجري حكم هذه الآية على المحاربين من المسلمين، فبقي العذاب العظيم في الآخرة للكافرين، والمسلم إذا عوقب بجنايته في الدنيا كانت عقوبته كفارة له.
٣٤ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾.
قال الزجاج: جائز أن يكون موضع (الذين) رفعًا بالإبتداء، وخبره قوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، والمعنى: لكن التائبون من قبل أن تقدروا عليهم (فالله (٤)) غفور رحيم (لهم (٥)) وجائز ان يكون موضع
(١) تقدم تخريج قصة العرنيين قريبًا.
(٢) قال السمرقندي: وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: وَادَع رسول الله - ﷺ - أبا بُردة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين فهو آمن، ومن أتى المسلمين منهم فهو آمن، فمر أناس من بني كنانة يريدون الإسلام فمروا بأصحاب أبي بردة، ولم يكن أبو بردة حاضرًا يومئذ، فخرج أصحابه إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية. "بحر العلوم" ١/ ٤٣١. ونسب هذا القول للكلبي: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٧، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٤.
(٣) قال ابن عباس: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي - ﷺ - عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله رسوله: إن شاء أن يقتل. وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. أخرجه من طريق علي: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٦، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٢، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٣.
(٤) في (ش)، (ج): والله، والتصويب من "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٠.
(٥) ما بين القوسين ساقط من (ج)، وما أثبته هو الموافق لـ"معاني الزجاج".
360
(الذين) نصبًا فيكون المعنى: جزاؤهم الذي وصفنا إلا التائبين (١).
قال عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾: يريد آمنوا من قبل أن تعاقبوهم ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لمن تاب من الشرك ﴿رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٤] به إذا رجع عما يُسخط الله (٢).
وهذا قول عُظْم (٣) أهل التفسير، أن المراد بهذا الإستثناء المشرك المحارب، إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها الله في هذه الآية، ولا يطالب بشيء مما أصاب لا مال ولا دم (٤).
قال أبو إسحاق: جعل التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك أدعى إلى الدخول في الإيمان (٥).
هذا حكم المشرك المحارب، وكذلك لو آمن بعد القدرة عليه لم يُطالب أيضًا بشيء بالإجماع (٦). فأما المسلم المحارب إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه فقال السدي: هو كالكافر إذا آمن لا يطالب (٧) بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه، فإنه يرد على أهله (٨).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٠، ١٧١ بتصرف، وانظر: "مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢٢٥ "الدر المصون" ٤/ ٢٥٢.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٣) عظم بمعنى: معظم. انظر: "اللسان" ٥/ ٣٠٠٥ (عظم).
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٠، "النكت والعيون" ٢/ ٣٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٠.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧١.
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٠ - ٢٢١.
(٧) في (ش): (لا يطلب).
(٨) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٠.
361
وهذا مذهب مالك والأوزاعي (١)، غير أن مالكًا قال: يؤخذ بالدم إذا طالب به وليه، فأما ما أصاب من الدماء والأموال ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإِمام بشيء من ذلك (٢)، وبهذا حكم علي -رضي الله عنه- في حارثة ابن بدر (٣)، وكان قد خرج محاربًا (٤)، وحكم بمثله أيضًا أبو موسى الأشعري في إمرة عثمان (٥).
(١) هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، شيخ الإسلام وعالم أهل الشام أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وورعا وفضلًا وزهدًا، مات -رحمه الله- سنة ١٥٩ هـ.
انظر: "تاريخ الثقات" ٢/ ٨٣، "مشاهير علماء الأمصار" ص١٨٠، "سير أعلام النبلاء" ٧/ ١٠٧ - ١٣٨.
(٢) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٤، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٥٥، ١٥٨، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٧١.
(٣) هو حارثة بن بَدْر بن حُصَين بن قطن التميمي الغداني، تابعي، أدرك النبي - ﷺ - ولم يره، له أخبار في الفتوح ومع عمر، وقاتل الخوارج فهزموه وأرهقوه، فدخل سفينة بمن معه فغرقت بهم سنة ٦٤ هـ.
انظر: "الإصابة" ١/ ٣٧١، "الأعلام" ٢/ ١٥٨.
(٤) وذلك أنه جاء إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- تائبًا، فأمنّه وكتب له بذلك أمانًا. أخرج الأثر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢١، وانظر: القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٥٥، "الدر المنثور" ٢/ ٤٩٤ - ٤٩٥.
(٥) ذلك أن أبا موسى -رضي الله عنه- كان على الكوفة في إمرة عثمان -رضي الله عنه- فجاءه رجل من مراد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، جاءه تائبًا، فقام أبو موسى فقال: هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، وإنه تاب قبل أن يُقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير.
أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٢ ونقله ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٩، وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٤٩٤ - ٤٩٥.
362
وقال الشافعي -رضي الله عنه-: يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد الله، ولا يسقط به حقوق بني آدم ما كان قصاصًا، أو مظلمة في المال (١).
وأما إذا تاب بعد القدرة عليه، فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه. قال الشافعي: ويحتمل أن يسقط كل حد لله بالتوبة (٢).
وإنما قال ذلك لقول رسول الله - ﷺ - بعد رجم ماعز (٣): "هلا رددتموه إلي لعله يتوب" (٤).
٣٥ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾.
معنى ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أينما ذكر: اتقوا عقابه بالطاعة؛ لأن أصل الإتقاء في اللغة الحجز بين الشيئين -قد ذكرناه قديمًا- (٥)، يقال: أتقي السيف بالترس، وأتقي الغريم بحقه.
وقوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾.
الوسيلة فعيلة من: وسل إليه، إذا تقرب إليه (٦)، قال لبيد:
(١) "الأم" ٦/ ١٥٢، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٠.
(٢) لم أجده في "الأم"، وقد ذكره القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٥٨، والنووي في "شرح صحيح مسلم" ١١/ ١٩٤، وقال القرطبي في "تفسيره" عقبه: والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصًا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
(٣) هو ماعز بن مالك الأسلمي، وقيل: إن اسمه: عريب، وماعز لقبه، له صحبة، وقصة رجمه في عهد النبي - ﷺ - ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي مشهورة. انظر: "أسد الغابة" ٥/ ٨، "الإصابة" ٢/ ٤٧٩، ٣/ ٣٣٧.
(٤) أخرج هذه الرواية أبو داود (٤٤١٩) كتاب الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، وانظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي ١١/ ١٩٤.
(٥) انظر: "البسيط" البقرة: ١٨٩.
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٦.
بَلَى كُلّ ذي رأيٍ (١) إلى الله وَاسِلُ (٢)
ومعنى الوسيلة: الوصلة والقربى (٣). قال ابن عباس: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ يريد بطاعتكم له (٤).
وقال قتادة: يقول تقربوا إليه بطاعته (٥).
﴿وَجَاهِدُوا﴾ العدو، ﴿فِي سَبِيلِهِ﴾ في طاعته، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٣٥] كي تسعدوا وتبقوا في الجنة. قاله ابن عباس وغيره (٦).
٣٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية. خبر (إن) الجملة المذكورة مع جوابها (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٦].
(١) في "ديوان لبيد" ص ٢٥٦: لب.
(٢) "شرح ديوان لبيد بن ربيعة" ص ٢٥٦، وجاء صدره:
أرَى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
والواسل: الطالب، أي يتوسل إلى الله بالطاعة والعمل الصالح. وقد جاء بعد هذا البيت بيت لبيد المشهور:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
(٣) جاء نحو ذلك عن كثير من التابعين. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٦.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٨، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦٠.
(٥) أخرج الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٦، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٨، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦٠.
(٦) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٣٢، "الوسيط" ٣/ ٨٧٢، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦١، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٧) تمام الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. فالجملة المذكورة جملة لو، وجوابها: ﴿مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾.
يحتمل أن يكون في موضع الحال، ويحتمل أن يكون عطفًا على الخبر (١).
٣٧ - قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ﴾.
يحتمل إرادتهم الخروج وجهين:
أحدهما: أنهم قصدوا ذلك وطلبوا المخرج، كما قال تعالى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ [السجدة: ٢٠].
والثاني: أنهم تمنوا ذلك وأرادوه بقلوبهم، كقوله في موضع آخر: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ [المؤمنون: ١٠٧] (٢)، ويؤكد هذا الوجه قراءة من قرأ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّار﴾ بضم الياء (٣).
٣٨ - قوله تعالي: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ الآية.
اختلف النحويون في وجه رفعها: فقال سيبويه والأخفش وكثير من البصريين: ارتفع (السارقُ والسارقةُ) على معنى: ومما نقُصّ عليك ونوحي إليك السارق والسارقة. قالوا: ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا﴾ [النور: ٢] وقوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ [النساء: ١٦].
قال سيبويه: والاختيار في هذا النصب في العربية كما تقول: زيدا أضربه.
وأبت العامة القراءة إلا بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر (٤): {وَالسَّارِقُ
(١) انظر: "الدر المصون" ٤/ ٢٥٦، وقد ضعف السمين الوجه الأول.
(٢) انظر الاحتمالين عند البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥١، وفي "البحر المحيط" ٣/ ٤٧٤.
(٣) بالبناء للمفعول، وهذه القراءة ليست في المتواتر، إنما هي للنخعي وابن وثاب وأبي واقد.
انظر: "البحر المحيط" ٣/ ٤٧٥.
(٤) هو أبو عمر عيسى بن عمر الهمداني الكوفي الأعمى القارئ الثقة، قرأ على =
365
وَالسَّارِقَةُ} بالنصب، ومثله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ [النور: ٢] أيضًا (١).
فالاختيار عند سيبويه النصب في هذا.
قال أبو إسحاق: والجماعة أولى بالاتباع، والدليل على أن القراءة الجيدة بالرفع قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ [النساء: ١٦] لم يقرأه أحد: واللذين (٢).
قال المبرد (٣): وأختار أن يكون ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ رفعًا بالابتداء؛ لأن قصد ليس إلى أحد بعينه، فليس هو مثل قولك: زيدًا أضربه، إنما هو كقولك: من سرق فاقطع يده، ومن زنا فاجلده (٤).
وهذا قول الفراء؛ لأنه قال: وإنما يختار العرب الرفع في: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ لأنهما غير مؤقتين، فوجها توجيه الجزاء، كقولك: من سرق فاقطعوا يده، و (من) لا يكون إلا رفعا، ولو أردت سارقًا بعينه وسارقة بعينها كان النصب وجه الكلام (٥).
قال الزجاج: وهذا القول هو المختار (٦).
= عاصم بن أبي النجود وغيره وقرأ عليه الكسائي وغيره، وكان مقرئ الكوفة بعد حمزة توفي -رحمه الله- سنة ١٥٦ هـ.
انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ١١٩، "غاية النهاية" ١/ ٦١٢، "التقريب" ص ٤٤٠ (٥٣١٤).
(١) "الكتاب" ١/ ١٤٢ - ١٤٤، "معاني الزجاج" ٢/ ١٧١، ١٧٢، بتصرف، وانظر: "البحر المحيط" ٣/ ٤٧٧، ٤٧٨.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٢.
(٣) لا يزال المؤلف ينقل من "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٢.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٢.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٠٦، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٨.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٢.
366
وقوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾.
دخلت الفاء في خبر السارق للشرط المنوي؛ لأن المعنى: من سرق فاقطعوا يده (١)، وعلى هذا أيضًا قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ [النساء: ١٦]، ومثله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا﴾ [النور: ٢].
والمراد بالأيدي في هذه الآية: الأيمان، قاله الحسن والسدي والشعبي (٢).
وكذلك هو في قراءة عبد الله: (فاقطعوا أيمانهما) (٣).
وإنما قال: ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ ولم يقل: يديهما؛ لأنه أراد يمينًا من هذا، أو يمينًا من هذه (٤)، فجمع إذ ليس في الجسد إلا يمين واحدة.
قال الفراء: وكل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافًا إلى اثنين فصاعدًا جمع، فقيل: هُشّمت رؤوسهما، ومُلِئتَ ظهورهما وبطونهما ضربًا، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤]. قال: وإنما اختير الجمع على التثنية؛ لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين (٥) في الإنسان، كاليدين والرجلين والعينين، واثنان من اثنين جمع، لذلك (٦) تقول قطعت أرجلهما وفقأت عيونهما، فلما جرى الأكثر
(١) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٩، "البحر المحيط" ٣/ ٤٨٢.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٨، "بحر العلوم" ١/ ٤٣٣.
(٣) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٨، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٣٣، و"النكت والعيون" ٢/ ٣٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥١.
(٤) في (ش): (هذا).
(٥) في (ش): (اثنان اثنان)، وما أثبته هو الموافق لـ "معاني القرآن".
(٦) في (ش): (كذلك).
367
على هذا ذهب بالواحد إذا أضيف إلى اثنين مذهب الاثنين (١). قال: ويجوز التثنية كقول الهُذَلي (٢):
فتخَالَسَا نفسَيهِمَا بنَوافذٍ (٣)
لأنه الأصل، ويجوز هذا أيضاً فيما ليس من خلق الإنسان، كقولك للاثنين: خليتما نساءكما، وأنت تريد امرأتين، وخرقتما قمصكما. قال: ويجوز التوحيد أيضاً لو قلت في الكلام: السارق والسارقة فاقطعوا يمينهما، جاز؛ لأن المعنى: اليمين من كل واحد منهما، كما قال الشاعر:
كُلُوا في نِصفِ بَطنِكم تَعِيشُوا (٤)
ويجوز في الكلام أن تقول: ائتني برأس شاتين، وبرأسي شاة، فمن قال: برأس شاتين، أراد الرأس من كل شاة، ومن قال: برأسي شاة، أراد رأسي هذا الجنس (٥).
(١) في "معاني القرآن" ١/ ٣٠٧ التثنية.
(٢) هو أبو ذؤيب، تقدمت ترجمته.
(٣) عجز البيت كما عند الفراء: كنوافذ العبط التي لا ترقع
وهو في "ديوان الهذليين" ١/ ٢٠.
والبيت في وصف فارسين يتنازلان، وتخالسا نفسيهما أراد كل واحد منهما اختلاس نفس الآخر وانتهاز الفرصة للقضاء عليه، والنوافذ الطعنات النافذة، والعبط جمع عبيط وهو ما يشق.
(٤) عجزه كما عند الفراء:
فان زمانكم زمن خميص
وهو في "الكتاب" ١/ ٢١٠ ولا يعرف قائله. والخميص من المخمصة وهي الجوع. والشاهد منه أنه استعمل المفرد للجمع: بطنكم والمراد: بطونكم.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٣٠٦ - ٣٠٨ بتصرف، وانظر: "الكتاب" ١/ ٢١٠، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٩.
368
وقال الزجاج: إنما جمع ما كان في الشيء منه واحد عند الإضافة إلى اثنين؛ لأن الإضافة تبين أن المراد بذلك الجمع التثنية لا الجمع، وذلك أنك إذا قلت: أشبعت بطونهما، علم أن للاثنين بطنين فقط، وأصل التثنية الجمع؛ لأنك إذا ثنّيت الواحد فقد جمعت واحداً إلى واحد، (وربما كان لفظ الجمع أخف من لفظ الاثنين، فيختار لفظ الجمع ولا يشتبه ذلك بالتثنية عند الإضافة إلى اثنين (١))؛ لأنك إذا قلت: قلوبهما، فالتثنية في (هما) قد أغنتك عن التثنية في (قلب). قال: وإن ثُنَّي ما كان في الشيء منه واحد فذلك جائز عند جميع النحويين، وأنشد:
ظَهْراهُما مِثل ظُهُور التُّرسَينْ (٢)
فجاء باللغتين (٣). وهذا كما حكينا عن الفراء في قول الهذلي: فتخالسا نفسيهما (٤).
(قال (٥)) وحكى سيبويه أنه قد يجمع المفرد الذي ليس من شيء إذا أردت به التثنية، كقول العرب: وضعا رحالهما، يريد رَحلَي راحلتيهما (٦). وهذا كما حكى الفراء: فرقتما قمصكما.
(١) ما بين القوسين ليس في "معاني الزجاج".
(٢) رجز لخطام المجاشعي أو لهميان بن قحافة وهو في "الكتاب" ٢/ ٤٨، "معاني الفراء" ٣/ ١٧، يصف فيه فلاتين، وقبله:
وَمهَمهين قَذِفين مَرْتَين جِبتُهما بالنَّعت لا بِالنَّعتَين
ظهرهما................
(٣) وشبه الفلاتين بالترسين في الاستواء. والشاهد منه أنه ثَنَّى وجَمَع المضاف للمثنى.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٣، وانظر: "الكتاب" ٢/ ٤٨، ٤٩.
(٥) ساقط من (ش).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٣، وانظر: "الكتاب" ٢/ ٤٨، ٤٩.
369
قال أبو علي: (..) (١) اليد اليمنى وتركهم لقطع اليد اليسرى في دلالة على أن اليد اليسرى لم ترد بقوله تعالى (٢): ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ ألا ترى أنها لو أريدت بذلك لم يكونوا ليدعوا نص القرآن إلى غيره.
وهذا يدل على أن جمع اليد في هذه الآية على حد جمع القلب في قوله: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤].
ودلت قراءة عبد الله على أن المراد بالأيدي الأيمان (٣).
فإن قيل: إن قراءة عبد الله لا تُعلم اليوم قراءة، لانقطاع النقل، فلا يلزم به حجة.
قيل: قراءته تكون حجة في إيجاب العمل، كما أنه لو روى خبرًا أن المراد بالأيدي التخصيص والقصر على الأيمان وجب المصير إليه، فكذلك إذا رُوي عنه على أنه قرآن وجب قبوله والعمل به، وكان أولى من الخبر الذي يرويه.
قال أهل العلم: هذه الآية مجملة في إيجاب القطع على السارق، وتفصيل ذلك مأخوذ من السنة (٤).
أما السارق الذي يجب عليه القطع فهو البالغ العاقل (٥) العالم بتحريم السرقة، فأما من كان حديث العهد بالإسلام لا يعلم أن السرقة حرام فلا قطع عليه.
(١) ما بين القوسين بياض في النسختين.
(٢) ساقط من (ج).
(٣) تقدم تخريج هذه القراءة قريبًا، ولم أقف على قول أبي علي.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٥٠.
(٥) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٦٧.
370
والمسروق يجب أن تكون قيمته ربع دينار (١)، والاعتبار بالمضروب.
فإذا أخرجه من حرز مثله، بعد أن لا يكون له شبهة فيه وجب القطع، والشبهة مثل شبهة المملوك في مال السيد، والولد مع الوالد، والوالد مع الولد، وكذلك شبهة المضطر عند المخمصة، وخوف التلف.
ولذلك رفع عمر -رضي الله عنه- القطع عام الرمادة (٢).
هذا جملة مذهب الشافعي -رضي الله عنه- (٣).
وعند أبي حنيفة -رضي الله عنه- لا يجب القطع فيما دون عشرة دراهم (٤).
وعند مالك -رضي الله عنه- يقطع في ثلاثة دراهم فصاعد (٥).
ودليل الشافعي ما روى الزهري عن عمرة (٦)، عن عائشة أن النبي - ﷺ -:
(١) هذا ما عليه أكثر العلماء، انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٩، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٢، "زاد المسير" ٢/ ٣٥٠، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٦٠، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦٣.
(٢) قال ابن منظور: سمي بذلك لأن الناس والأموال هلكوا فيه كثيراً، وقيل: هو لجدب تتابع فصير الأرض والشجر مثل لون الرماد، والأول أجود. "اللسان" ٣/ ١٧٢٧ (رمد).
(٣) انظر: "الأم" ٦/ ١٤٧ - ١٤٩، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٢، و"التفسير الكبير" ١١/ ٢٢٦، ٢٢٧، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦٣.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٩، و"بحر العلوم" ١/ ٤٣٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٢، و"زاد المسير" ٢/ ٣٥١، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦٣ - ٦٤.
(٥) انظر: "المدونة" ٤/ ٤١٣، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٢٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٥١، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٦٠، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦٣.
(٦) هي عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، أكثرت من الرواية عن عائشة -رضي الله عنها-، وهي فقيهة ثقة أخرج حديثها الجماعة، ماتت =
371
كان يقطع في ربع دينار فصاعد (١).
وهذا مذهب الأوزاعي وإسحاق (٢).
وذهب ابن عباس وابن الزبير إلى ظاهر الآية، فأوجبا القطع في القليل.
قال ابن عباس: في دانِق (٣)، وقال ابن الزبير: في دِرهَم (٤).
والقطع يكون من المفصل بين الكف والساعد (٥)، وهو الكوع والرُّسغ ويقطع في المرة الأولى يده اليمنى، وفي المرة الثانية رجله اليسرى، وفي المرة الثالثة يده اليسرى، وفي المرة الرابعة رجله اليمنى، ثم يحبس في المرة الخامسة (٦)، والقتل منسوخ (٧).
= -رحمها الله- قبل سنة ١٠٠هـ، وقيل بعدها.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٥٠٧، "التقريب" ص ٧٥٠ (٨٦٤٣).
(١) أخرجه البخاري (٦٧٨٩) كتاب الحدود، باب: قول الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ ٨/ ١٦، ١٧، ومسلم (١٦٨٤) كتاب الحدود، باب: حد السرقة ونصابها ٣/ ١٣١٢ (ح ١).
(٢) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٦١ عن إسحاق.
(٣) لم أقف عليه.
وقد أخرج الطبري في "تفسيره" عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ أخاص أم عام؟ فقال: بل عام. "جامع البيان" ٦/ ٢٢٩.
وهذا يحتمل أنه أراد القلة أو هو موافق لما تقدم من أقوال العلماء، انظر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦٣.
(٤) قال السمرقندي: ورُوي عن ابن الزبير أنه قطع في نَعلٍ ثمنه درهم "بحر العلوم" ١/ ٤٣٣. هذا ما وجدته عن ابن الزبير.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٥٤.
(٦) هذا قول مالك والشافعي. انظر: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٣، "زاد المسير" ٢/ ٣٥٤.
(٧) هذا إذا كان القتل ثابتًا، مع أنه لم يثبت، انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٧٢.
372
وعند أبي حنيفة لا يقطع في الثالثة (١)، وعند الشافعي يغرم قيمة السرقة مع القطع، وعند أبي حنيفة لا غرم مع القطع، ولكن إذا وجد المسروق عنده أخذ وردّ إلى صاحبه (٢).
وقوله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾.
قال الزجاج: نصب؛ لأنه مفعول له (٣). المعنى: فاقطعوهم لجزاء (٤) فعلهم، وكذلك ﴿نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾، وإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دل عليه: ﴿فَاقْطَعُوا﴾ لأن المعنى: ﴿فَاقْطَعُوا﴾ جازوهم ونكلوا بهم (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي: (عزيز) في انتقامه، (حكيم) فيما أوجبه من قطع يده (٦).
قال الأصمعي: كنت أقرأ سورة المائدة وبجنبي أعرابي فقرأت هذه الآية، فقلت: (نكالًا من الله والله غفور رحيم) سهوًا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعِد. فأعدت: والله غفور رحيم. فقال: ليس هذا كلام الله. فتنبهت وقرأت: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فقال: أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا، عزّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما
(١) وهو قول أحمد أيضًا. انظر: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٤، "زاد المسير" ٢/ ٣٥٤.
(٢) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٦٥.
(٣) في "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٤: به.
(٤) عند الزجاج: بجزاء.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٤، وانظر: القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٧٤.
(٦) أي: يد السارق.
373
قطع (١).
٣٩ - قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ (قال ابن عباس) (٢) يريد إن تاب بنية صادقة، وحرم ما حرم الله، وترك ظلم الناس، فإن الله يتجاوز عنه (٣).
والصحيح من مذهب العلماء وأهل التأويل، أن القطع لا يسقط عنه بالتوبة (٤).
قال مجاهد: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ تاب الله عليه، والحد كفارة له (٥).
وقال الكلبي: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ العمل بعد السرقة والقطع، فإن الله يتجاوز عنه (٦).
وروى أن النبي - ﷺ - أُتِي بسارق سرق شملةً فقال: "اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه (٧)، ثم ائتوني به" ففُعِل، فقال: "ويحك تب إلى الله"، فقال: تبت إلى الله. فقال: "اللهم تب عليه" (٨).
(١) ذكره في "الوسيط" ٣/ ٨٧٦، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٥٤.
(٢) ساقط من (ج).
(٣) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٤.
(٤) انظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٧٤، ١٧٥.
(٥) "تفسيره" ١/ ١٩٥، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٣٠، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٤٩٧ وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(٦) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٤.
(٧) الحسم في اللغة: القطع، والمراد به هنا: قطع الدم بالكي. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ٢/ ٣٤٩.
(٨) ذكره بنحوه أبو عبيد في "غريب الحديث" ١/ ٣٤٩، وأورده ابن كثير في "تفسيره" =
وقال عامر (١) وعطاء: إذا رد السرقة قبل القدرة عليه سقط عنه القطع، فيتوب الله عليه (٢).
٤٠ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾.
قال ابن عباس: يريد على الذنب اليسير ﴿وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ الذنب العظيم (٣).
وبيان هذا ما قال الضحاك: (يعذب من شاء) على الصغير إذا أقام عليه، (ويغفر لمن يشاء) الكبير إذا نزع عنه (٤).
وقال الكلبي: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ من مات على كفره، ﴿وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ من تاب من كفره (٥).
وقال السدي: يهدي من يشاء فيغفر له، ويعذب من يشاء، فيميته على كفره (٦).
= وعزاه إلى الدارقطني من حديث أبي هريرة، وقال عقبة: وقد رُوي من وجه آخر مرسلًا، ورجح إرساله علي بن المديني وابن خزيمة رحمهما الله. ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦٤، وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٤٩٧.
(١) الشعبي.
(٢) لم أقف عليه. قال البغوي: فأما القطع فلا يسقط بالتوبة عند الأكثرين. "معالم التنزيل" ٣/ ٥٤.
(٣) ذكره بمعناه البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٥.
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٧٨ ولم أقف عليه، وقد ذكر أبو حيان له قولًا، كقول الكلبي بعده، انظر: "البحر المحيط" ٣/ ٤٨٥.
(٥) ذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٥، ونسبه للسدي أيضًا.
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٧٨، ولم أقف عليه.
والآية بإطلاقها فاضحة للقدرية في التعديل والتجويز، وقولهم بوجوب الرحمة على الله للمطيع، ووجوب العذاب للعاصي، حيث فوض الأمر فيهما إلى المشيئة.
٤١ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ (قال أبو إسحاق: أي لا يحزنك مسارعتهم في الكفر) (١)، إذ كنت موعود النصر عليهم (٢).
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾. قال ابن عباس: هم المنافقون (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾. قال ابن عباس: يريد بني قينقاع (٤).
وقال مقاتل: يعني: يهود المدينة (٥).
وقوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾:
لو شئت جعلت تمام الكلام عند قوله: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ ثم ابتدأت فقلت: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾، أي: هم سماعون للكذب أي: المنافقون واليهود سماعون للكذب.
وإن شئت كان رفع ﴿سَمَّاعُونَ﴾ على معنى: ومن الذين هادوا
(١) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٤.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٧٩، وابن الجوزي ٢/ ٣٥٧، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٤٩٨، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٤) لم أقف عليه، وفي "الوسيط": يعني يهود المدينة، كقول مقاتل الآتي.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٧٤.
376
سماعون، فيكون المعنى: أن السماعين منهم، ويرتفع (منهم) كمال تقول: من قومك عقلاء.
والوجهان ذكرهما الفراء (١)، والزجاج (٢)، واختار أبو علي الوجه الثاني، وقال: هو على تقدير: ومن الذين هادوا فريق سماعون للكذب (٣)، وذكر أبو إسحاق في معنى قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ وجهين:
أحدهما: وهو قول أهل التفسير (٤) أن معناه: قابلون للكذب، والسمع يستعمل والمراد منه: القبول، كما يقال: لا تسمع من فلان، أي: لا تقبل منه، ومنه: (سمع الله لمن حمده)، وذلك الكذب الذي يقبلونه، وهو ما يقول لهم رؤساؤهم مما كذبوا فيه.
والوجه الثاني: وهو اختيار أبي علي (٥): أن معناه: أنهم يسمعون منك ليكذبوا عليك، أي: إنما يجالسونك ويسمعون منك ليكذبوا عليك، ويقولوا إذا خرجوا من عندك: سمعنا منه كذا وكذا، ولم يسمعوا ذلك منك (٦).
وهذا قول الحسن (٧) واختيار أبي حاتم، وكان يقول اللام في الكذب لام كي، أي: يسمعون لكي يكذبوا عليك (٨).
(١) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٣٠٨، ٣٠٩.
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٥.
(٣) "الحجة" ٢/ ٣٦.
(٤) جملة اعتراضية من الواحدي. وانظر في ذلك: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٣٥.
(٥) انظر: "الحجة" ٢/ ٣٦.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٤ بتصرف، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٣٠٦، ٣٠٧، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٥٦ (سمع)، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٥، "زاد المسير" ٢/ ٣٥٧.
(٧) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٨.
(٨) لم أقف عليه.
377
وقوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾
قال ابن عباس وجابر وسعيد بن المسيب والسدي وابن زيد: إن رجلاً وامرأة من أشراف أهل خيبر (١) زنيا، وكان حدهما الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا إلى بني قريظة ليسألوا محمدًا - ﷺ - عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا ما حدهما؟ وقالوا: إن أمرَكم بالجلد فاقبلوا منه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه، فأقبل نفر من قريظة والنضير إلى رسول الله - ﷺ - يسألونه، فنزل جبريل بالرجم، فأخبرهم به، فأبوا أن يأخذوا به، فذلك قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ (٢).
والمراد بالقوم الآخرين: أهل خيبر.
وقوله تعالى: ﴿لَمْ يَأْتُوكَ﴾ من صفة قوله: ﴿لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾.
قال الزجاج: هم عيون لأولئك الغُيَّب (٣).
وقوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾.
أي: من بعد أن وضعه الله مواضعه، أي: فرض فروضه، وأحل حلاله وحرم حرامه.
قال المفسرون: وذلك أن رسول الله - ﷺ - لما أفتى بالرجم لم يقبلوا ذلك وأنكروه وأبوا أن يأخذوا به، فقال جبريل للنبي - ﷺ -: اجعل بينك
(١) خيبر: موضع بالحجاز يقع شمال المدينة على مسافة ثمانية برد، فيها سبعة حصون ومزارع ونخل كثير، فتحها النبي - ﷺ - سنة ٧ هـ، وقيل سنة ٨ هـ.
انظر: "الصحاح" ٢/ ٦٤٢ (خبر)، "معجم البلدان" ٢/ ٤٠٩.
(٢) أخرجه بمعناه عن السدي: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٣٥، وذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٨٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٥، واختاره ابن كثير في "تفسيره" سببًا لنزول الآية. انظر: "تفسيره" ٢/ ٦٦.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٥.
378
وبينهم ابن صُوريا (١) -وكان أعلمهم بالتوراة- فأُحضِر وأقسم عليه رسول الله - ﷺ -، فقال: "أسألك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل في التوراة أن يرجم المحصنان إذا زنيا؟ " قال: نعم (٢). وكانت اليهود قد ترخصت في حد الزنا، وجعلت بدل الرجم الجلد والتحميم (٣)، فذلك تحريفهم الكلم عن مواضعه. هذا قول أهل التفسير.
وقال أهل المعاني: يعني: تحريف كلام النبي - ﷺ - بعد سماعهم منه، يحرفونه للكذب عليه (٤).
قال أبو علي: قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ من صفة قوله (٥): ﴿سَمَّاعُونَ﴾ (٦) أي فريق سماعون يحرفون الكلم.
(١) هو عبد الله بن صوريا، ويقال: ابن صور، الإسرائيلي، وإن من أحبار اليهود، ويقال إنه أسلم، لكنه ارتد بعد ذلك. انظر: "الإصابة" ٢/ ٣٢٦.
(٢) أخرجه بنحوه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، أبو داود (٤٤٥٢) كتاب الحدود، باب: في رجم اليهوديين، وابن ماجه (٢٣٧٤) كتاب الأحكام، باب (٣٣): شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض مختصرا والحميدي في "مسنده" ٢/ ٥٤١، ٥٤٢. قال في "الزوائد": في إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف. وقد أورده الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٩، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٥، ٥٦، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٦٦، والسيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٥٠٠.
(٣) هو: أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين، ويطاف بهما. البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٦، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٣٦ فالتحميم: تسويد الوجه.
(٤) نسب هذا القول للحسن: الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٩، وانظر: "الحجة" لأبي علي ٢/ ٣٦.
(٥) في "الحجة" ٢/ ٣٦: لقوله.
(٦) "الحجة" ٢/ ٣٦.
379
فيكون موضعه رفعًا على قول أهل التفسير، ويجوز على قول أهل المعاني: أن يكون ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ حالًا من الضمير في اسم الفاعل؛ كأنه: سماعون محرفين للكلم، أي: مقدرين تحريفه، يعني: أنهم يسمعون كلام النبي - ﷺ - ويقدرون مع (١) أنفسهم تحريف ما يسمعون، فيكون كقولهم: معه صقر صائدًا به غدًا، وكقوله تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] (٢).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾.
من باب حذف المضاف؛ لأن التقدير: من بعد وضعه مواضعه، أي: وضع الله، على قول أهل التفسير (٣).
وعلى قول أهل المعاني (٤): من بعد وضع النبي كلامه مواضعه.
وقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾.
يقول ذلك يهود خيبر ليهود المدينة: إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوه، ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ﴾ يعني: الجلد فاحذروه (٥).
قال الزجاج: أي إن أُفتِيتم بهذا الحكم المحرف فخذوه، وإن أفتاكم النبي - ﷺ - بغير ما حددنا لكم فاحذروا أنه تعملوا به (٦).
قال المفسرون: وذلك أنهم كانوا بعثوا الزانيين إلى يهود المدينة ليسألوا النبي - ﷺ - عن حدهما، وقالوا: إن أفتاكم بالجلد فخذوه (٧) واجلدوا
(١) لعل الصواب: في.
(٢) "الحجة" ٢/ ٣٦.
(٣) تقدم هذا القول قريبًا.
(٤) تقدم قريبًا.
(٥) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٣٦ - ٢٣٧، "بحر العلوم" ١/ ٤٣٧.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٥.
(٧) في (ش): (فخذوا).
380
الزانيين، وإن أفتاكم بالرجم فلا تعملوا بذلك، ثم لما افتضحوا بقول ابن صوريا، أمر رسول الله - ﷺ - بالزانيين فرجما عند باب مسجده، وقال: "أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" (١).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾. قال ابن عباس ومجاهد: ضلالته (٢).
وقال الحسن وقتادة: عذابه (٣). وقال الضحاك: هلاكه (٤).
وقال الزجاج: قيل فضيحته، وقيل كفره، قال: ويجوز أن يكون اختباره بما يظهر به أمره (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾.
ذكرنا معناه عند قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ﴾ الآية [المائدة: ١٧].
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾.
قال ابن عباس: أن يخلص نياتهم (٦). وقال الزجاج: أي أن
(١) بمعناه في "تفسير ابن عباس" ص ١٧٨، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٣٢، وأورده بنحو لفظ المؤلف البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٦، ٥٧، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٥٨.
(٢) أورده عن ابن عباس السيوطي في "الدر المنثور" وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في "الأسماء والصفات". وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٥٩.
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣٩، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٥٩.
(٤) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٨.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٦، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤٠، "زاد المسير" ٢/ ٣٥٩.
(٦) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٨٢، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
381
يهديهم (١).
قال أهل العلم: قد دلت هذه الآية على أن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر، وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك، ولو فعل ذلك لآمن. وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾. قالوا: خزي المنافقين هتك سترهم بإطلاع النبي - ﷺ - على كفرهم وخوفهم القتل، وخزي اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان الرجم وأخذ الجزية منهم (٣).
﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٤١]. وهو الخلود في النار (٤).
٤٢ - قوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ مضى الكلام فيه (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾.
قال الليث: السحت: كل حرام قبيح الذكر يلزم منه العار (٦).
وأجمعوا على أن المراد بالسحت ههنا: الرشوة في الحكم، وقالوا: نزلت الآية في حكام اليهود، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم (٧).
(١) في "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٦: أي أن يهينهم.
(٢) انظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٨.
(٣) انظر: "معاني النحاس" ٢/ ٣٠٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٨، و"زاد المسير" ٢/ ٣٥٩.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٣٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٨.
(٥) تقدم قريبًا.
(٦) "العين" ٣/ ١٣٢، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٣٧ (سحت).
(٧) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ١/ ١٤١، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٣٩، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٧٧، و"بحر العلوم" ١/ ٤٣٨، و"معاني النحاس" ٢/ ٣٠٩، و"النكت والعيون" ٢/ ٤٠، البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٨.
382
وقال الحسن في هذه الآية: تلك الحكام يسمعون الكذب ممن يكذب في دعواه عندهم، ويأتيهم برشوة فيأخذونها ويأكلونه، فسمعوا كذبه وأكلوا رشوته (١).
فأما اشتقاق السُّحت: فقال الزجاج: إن الرِّشَا التي يأخذونها يعاقبهم الله بها أن يسحتهم بعذاب، أي يستأصلهم (٢).
وذكر عن الفراء أنه قال: (أصله (٣)) كَلَبُ الجوع، يقال: رجل مسحوتُ المعدة، إذا كان أكولا، لا يُلقى إلا جائعًا أبدًا، قال رؤبة (٤) في قصة يونس (عليه السلام (٥)) والحوت:
يدفع عنه جوفُه المَسْحوتُ (٦)
أي: الجائع (٧).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٣٩، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٠.
(٢) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٧، "معاني النحاس" ٢/ ٣٠٩.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ج)، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤١.
(٤) هو رؤبة بن العجاج عبد الله بن رؤبة التميمي، من الشعراء الرجاز. كان رأسًا في اللغة، قيل إنه توفي سنة ١٤٥ هـ.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٣٩٤، "طبقات الشعراء" ٣٣، "سير أعلام النبلاء" ٦/ ١٦٢.
(٥) ساقطة من (ج).
(٦) عجز بيت من الرجز وصدره:
والليل فوق الماء مستميت
"ديوان رؤبة" ص ٢٧، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٣٨.
ويدفع رُوي بالبناء للمفعول، والمعنى: نحى الله جل وعز جوانب جوف الحوت عن يونس، وجافاه عنه فلا يصيبه منه أذى. ورُوي بالبناء للفاعل يدفع والمعنى: أن جوف الحوت صار وقاية له من الغرق، وإنما دفع الله جل وعز عنه.
(٧) لم أقف على قول الفراء، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤١.
383
فالسحت حرام يحمل عليه الشره كشره المسحوت المعدة، وعلى ما قال الليث، إنه حرام يلزم منه العار، يمكن أن يقال: سمي سُحْتا؛ لأنه يسحت مروءة الإنسان.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾.
هذا تخيير للنبي - ﷺ - في الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه، إن شاء حكم، وإن شاء ترك (١).
واختلفوا في ثبوت هذا التخيير: فقال إبراهيم والشعبي وعطاء وقتادة: إنه ثابت اليوم لحكام المسلمين، إن شاءوا حكموا بينهم بحكم الإسلام، وإن شاءوا أعرضوا (٢).
وقال آخرون: إنه منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩].
وهو قول الحسن ومجاهد والكلبي وعكرمة والسدي (٣)، ورُوي ذلك عن ابن عباس (٤).
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٢، "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٧، "بحر العلوم" ١/ ٤٣٨.
(٢) أخرج أقوالهم الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٣ - ٢٤٤، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٢٩٣، "معاني النحاس" ٢/ ٣١٠، "النكت والعيون" ٢/ ٤١، البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٩، وبهذا القول قال الإِمام أحمد -رحمه الله- انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٦١، ورجحه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٦.
(٣) انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص ١٣٤، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٥ - ٢٤٦، و"معاني النحاس" ٢/ ٣١٠، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٢٩٤، ١٩٥، و"النكت والعيون" ٢/ ٤٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٩.
(٤) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص ١٣٤، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٢٩٤ بإسناد صحيح، وانظر المصادر السابقة.
384
ومذهب الشافعي أنه يجب على الحاكم منا أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه؛ لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارًا لهم (١).
فأما المُعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة، فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم، بل يخير في ذلك، وهذا التخيير الذي في هذه الآية إنما يثبت للحاكم بين المعاهدين (٢).
قال الشافعي: لما دخل رسول الله - ﷺ - المدينة وادع اليهود كافة (٣)، فالتخيير بهذا السبب.
فأما إذا قبلوا الجزية ورضوا بجريان أحكامها عليهم، فليس للحاكم أن يُعرض عنهم إذا تحاكموا إليه (٤).
قال أبو عبيد: وهذا هو الأولى عندنا؛ لأن في ردهم إلى أحكامهم معونةً على جورهم وأخذهم الرشا في الحكم (٥).
٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾ الآية.
هذا تعجب من الله تعالى نبيه - ﷺ - من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حكم الزاني وحده، ثم إعراضهم وتركهم القبول لحكمه وإنكارهم ذلك، فعدلوا عما يعتقدونه حكمًا إلى ما يجحدون أنه من عند الله طلبًا للرخصة، فظهر جهلهم وعنادهم في هذه القصة من وجوه: أحدها:
(١) انظر: "الأم" ٤/ ٢١٠، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٢٩٦.
(٢) انظر: "الأم" ٤/ ٢١٠، والشافعي -رحمه الله- اعتبر هؤلاء: الموادعين، أما المعاهدون فلا خيار في حقهم وسيأتي قريبًا.
(٣) "الأم" ٦/ ٢١٠.
(٤) انظر: "الأم" ٤/ ٢١٠، وهؤلاء هم المعاهدون.
(٥) انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص ٢٤٢.
385
عدولهم عن حكم كتابهم، والثاني: رجوعهم إلى حكم من يجحدون أن يكون حكمه من (عند) (١) الله، والثالث: إعراضهم عن حكمه بعدما حكّموه (٢).
فبين الله تعالى حالهم في جهلهم وعنادهم؛ لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب الله، ومن الحافظين على أمر الله.
وهذا قول ابن الأنباري وجماعة من أهل المعاني (٣).
وقوله تعالى: ﴿فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾. قال ابن عباس: يريد الرجم (٤)، وكذلك قال مقاتل (٥)، والكلبي (٦).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾.
مذهب المفسرين أن (ذلك) إشارة إلى حكم الله الذي في التوراة (٧)، ويجوز أن يعود إلى التحكيم (٨).
(١) ساقط من (ج).
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٧ - ٢٤٨، البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٠، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٢، "التفسير الكبير" ١١/ ٢٣٦.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ١١/ ٢٣٦.
(٤) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٥.
وقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: يعني حدود الله، "تفسيره" ص ١٧٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٨.
(٥) ابن حبان. وقد أورد قوله السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٥٠٥، وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٥.
(٧) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٨، "بحر العلوم" ١/ ٤٣٩، "النكت والعيون" ٢/ ٤١.
(٨) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤١، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٢.
386
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾. (قال الكلبي: وما أولئك الذين يعرضون عن الرجم بالمؤمنين (١) " (٢).
قال أهل المعاني: ويحتمل أن يكون المعنى: وما هم بالمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم نبوتك (٣).
وفي هذا تجهيل لهم في تحكيم من لم يؤمنوا بحكمه كما بينا.
٤٤ - قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾. قال ابن عباس: فيها بيان لكل شيء وضياء لكل ما تشابه عليهم (٤).
وقال الزجاج: ﴿فِيهَا هُدًى﴾ بيان الحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي - ﷺ - ﴿وَنُورٌ﴾ بيان أن أمر النبي - ﷺ - حق (٥).
وقوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾.
قال ابن عباس: يريد النبيين الذين كانوا بعد موسى، وذلك أن الله بعث في بني إسرائيل ألوفًا من الأنبياء ليس معهم كتاب، إنما بعثهم بإقامة التوراة، أن يحدوا حدودها، ويقوموا بفرائضها، ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها (٦). انتهى كلامه.
ومعنى قوله: ﴿النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ أي: الذين انقادوا لحكم
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٨٧ دون نسبة، ولم أقف عليه.
(٢) ساقط من (ش).
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤١، البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٠، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٢.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٨.
(٦) انظر: "تفسير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٥.
387
التوراة، فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة (١).
وهذا معنى قول مقاتل؛ لأنه قال: يحكم بما في التوراة الأنبياء من لدن موسى إلى عيسى -عليهما السلام- (٢).
وقال الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي: محمد - ﷺ - داخل في جملة هؤلاء الأنبياء الذين ذكرهم الله؛ لأنه حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة (٣).
وقال أهل المعاني: فعلى هذا يمكن أن يقال: المراد بقوله: ﴿النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ محمد - ﷺ -، فذكره بلفظ الجمع (٤)، كقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ﴾ الآية [النساء: ٥٤] يعني بالناس محمدًا وحده، وجاز ذلك لأنه اجتمع فيه من الفضل والخصال الحميدة ما يكون في جماعة من الأنبياء، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠] على هذا المعنى (٥).
وقال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى في دعواهم؛ لأن بعضهم كانوا يقولون: إن الأنبياء كانوا يهودًا، وبعضهم يقولون: إنهم كانوا نصارى. فقال الله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ الذين ليسوا على ما
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٩، "بحر العلوم" ١/ ٤٣٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٣.
(٢) أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٥٠٦، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٣) هذا معنى قولهم، وأخرج الآثار عنهم الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٩. وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤١، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٣.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٨، "النكت والعيون" ٢/ ٤١، البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٠، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٤.
(٥) انظر: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٠، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٤.
388
تصفونهم به من اليهودية والنصرانية (١).
وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾. قال ابن عباس: يريد تابوا، يعني من الكفر (٢).
واللام في قوله: ﴿لِلَّذِينَ﴾ من صلة قولهم: ﴿يَحْكُمُ﴾ أي يحكمون بالتوراة لهم وفيما بينهم (٣).
قال الزجاج: وجائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير، على معنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون (٤).
ومضى تفسير الربانيين (٥).
فأما الأحبار فقال ابن عباس: هم الفقهاء (٦).
واختلف أهل اللغة في واحده واشتقاقه، فقال أبو عبيد: بعضهم
(١) انظر: "التفسير الكبير" ١٢/ ٣.
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٨٨، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٦٤.
(٣) انظر: "الدر المصون" ٤/ ٢٧٠.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٨، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٣١٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٠.
(٥) ذكر ذلك عند قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران: ١٤٦]، حيث إن هذه الكلمة: الربانيون أول ما وردت في القرآن في هذا الموضع. انظر: "البسيط" نسخة دار الكتب ٢/ ل٧٠. قال الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٤٩: والربانيون جمع رباني، وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبيرهم أمورهم والقيام بمصالحهم. انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٨.
(٦) لم أقف عليه، وقال بهذا مجاهد وعكرمة. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٠، ٢٥١.
389
يقول: حَبْر، وبعضهم يقول: حِبْر (١). قال: وقال الفراء: إنما هو حِبْر، يقال ذلك للعالم، وإنما قيل: كعب الحِبر، لمكان هذا الحِبر الذي يُكتب به، وذلك أنه كان صاحب كتب (٢). وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحَبْر أو الحِبْر، للرجل العالم (٣).
وكان أبو الهيثم يقول: حَبر، بالفتح لا غير (٤). وقال ابن السكيت عن ابن الأعرابي: حَبْر وحِبْر للعالم (٥).
وقال الليث: هو حَبْر وحِبْر، للعالم ذميًا كان أو مسلمًا بعد أن يكون من أهل الكتاب (٦).
وقال الزجاج: الأحبار هم العلماء الخيّار (٧).
وأما اشتقاقه فقال قوم: أصله من التحبير وهو التحسين، فالعالم (٨) يُحَسِّن الحَسَن ويُقَبِّح القبيح (٩). وحاله مع ذلك حسنة، بخلاف حال الجاهل.
(١) "غريب الحديث" ١/ ٦٠، وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٧٢١ (حبر).
(٢) "غريب الحديث" ١/ ٦٠، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٠، "تهذيب اللغة" ١/ ٧٢١ (حبر).
(٣) "غريب الحديث" ١/ ٦٠، "تهذيب اللغة" ١/ ٧٢١ (حبر).
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٧٢١ (حبر).
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٧٢١ (جبر).
(٦) "العين" ٣/ ٢١٨، "تهذيب اللغة" ١/ ٧٢١ (جبر).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٩.
(٨) في (ش): (والعالم).
(٩) "النكت والعيون" ٢/ ٤٢، وانظر: "العين" ٣/ ٢١٨، "تهذيب اللغة" ١/ ٧٢١، "اللسان" ٢/ ٧٤٩ (جبر).
390
وقال آخرون. هو من الحِبر الذي يكتب به. وهو قول الكسائي وأبي عبيد (١).
وقوله تعالى: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾.
قال ابن عباس: يريد بما استودعوا من كتاب الله (٢).
في (ما) يجوز أن يكون من صلة الأحبار (٣)، على معنى العلماء بما استحفظوا، ويجوز أن يكون المعنى: يحكمون بما استحفظوا. وهو قول الزجاج (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾.
قال عطاء عن ابن عباس: وكانوا شهداء على الكتاب أنه من عند الله وحده لا شريك له (٥).
ورُوي عن ابن عباس أيضاً: أنهم كانوا شهداء على حكم النبي - ﷺ - أنه في التوراة (٦).
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾.
(١) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٦٠، وتقدم قوله، وانظر: "اللسان" ٢/ ٧٤٨ (حبر).
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٨٨، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٦٥.
(٣) الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٠، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٦٥.
(٤) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٨.
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٨٨ دون، ولم أقف عليه.
(٦) رواه أبو صالح عن ابن عباس. انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٦٥.
وأخرج الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥١ عن ابن عباس من طريق عطية أنه قال: يعني الربانيين، والأحبار هم الشهداء لمحمد - ﷺ - بما قال أنه حق من عند الله، فهو نبي الله محمد، أتته اليهود فقضى بينهم بالحق.
391
قال الكلبي ومقاتل: فلا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد والرجم، واخشوني في كتمان ذلك (١). والخطاب لعلماء اليهود (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي﴾.
قال ابن عباس: يريد بأحكامي وفرائضي، ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يريد متاع الدنيا قليل؛ لأنه ينقطع ويذهب (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
اختلفوا (في (٤)) هذا وفي الآيتين اللتين بعد هذه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
فقال جماعة من المفسرين: إن الآيات الثلاثة نزلت في الكفار ومن غير حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال: إنه كافر.
وهذا قول الضحاك وقتادة وأبي صالح (٥)، ورواية أبي الجوزاء عن ابن عباس (٦).
(١) عن مقاتل في "تفسيره" ١/ ٤٧٩، وأورده في "الدر المنثور" ٢/ ٥٠٦ وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
أما عن الكلبي ففي "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٥.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥١، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٥، وقد ذكر ابن الجوزي قولًا آخر وهو أن الخطاب للمسلمين، قيل: لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٨٨ دون نسبة، ولم أقف عليه.
(٤) سقط هذا الحرف من (ج).
(٥) أخرج الآثار عنهم الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٢ - ٢٥٣، وانظر: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦١، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٦.
(٦) لم أقف على هذه الرواية، وقد جاء عن ابن عباس أن المراد كفر دون كفر. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٦، وثبت عنه قوله: من جحد ما أنزل الله فقد كفر "تفسيره" ص ١٧٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٧.
392
ورواه البراء عن النبي - ﷺ -، أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم بن يحيى (١)، أخبرنا أبو الهيثم أحمد بن محمد بن غَوث (٢)، حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان (٣)، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة (٤)، حدثنا أبو معاوية (٥)، عن الأعمش (٦)، عن عبد الله بن مرة (٧)، عن البراء بن عازب
(١) جاء اسمه هكذا: محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى -فيحيى جد أبيه- المُزَكَّي النيسابوري المحدث الصادق المعمر، من شيوخ الواحدي، توفي -رحمه الله- سنة ٤٢٧ هـ. انظر: "المنتخب من السياق" ص ٣٢، "سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٥٥١، "شذرات الذهب" ٣/ ٢٣٣.
(٢) لم أقف على ترجمته.
(٣) الحضرمي الملقب بـ: مُطَيّن، محدث الكوفة، شيخ حافظ ثقة جبل، يقول في سبب تلقيبه بمطين: كنت صبيًا ألعب مع الصبيان وكنت أطولهم فنسبح ونخوض فيطينون ظهري فلقبه أبو نعيم بذلك. صنف "كتاب التفسير"، "المسند"، "التاريخ"، توفي -رحمه الله- سنة ٢٩٧ هـ وقيل ٢٩٨ هـ. انظر: "الفهرست" ص ٣١٦، "سير أعلام النبلاء" ١٤/ ٤١، ٤٢، "ميزان الاعتدال" ٣/ ٦٠٧.
(٤) عبد الله بن محمد بن القاضي العبسي الكوفي، الإِمام العلم المشهور، من أقران الإِمام أحمد وابن المديني وغيرهما، وصاحب الكتب الكبار: "المسند"، "المصنف"، "التفسير"، توفي -رحمه الله- سنة ٢٣٥ هـ انظر: "تاريخ الثقات" ٢/ ٥٧، "سير أعلام النبلاء" ١١/ ١٢٢، "ميزان الاعتدال" ٢/ ٤٩٠.
(٥) هو محمد بن خازم مولى بني سعد بن مناة بن تميم، تقدمت ترجمته.
(٦) هو أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي الكوفي، ثقة حافظ ورع لكنه يدلس وقد أخرج حديثه الجماعة، وكان عارفًا بالقراءات. توفي -رحمه الله- سنة ١٤٧ هـ. انظر: "تاريخ الثقات" ٢/ ٤٣٢، "طبقات القراء" لابن الجزري ١/ ٣١٥، "التقريب" ص ٢٥٤ (٢٦١٥).
(٧) عبد الله بن مرة الهمداني الخارفي الكوفي، من ثقات التابعين، وحديثه عند الجماعة، توفي سنة ١٠٠هـ، وقيل قبلها. انظر: "تاريخ الثقات" ٢/ ٥٩، "تهذيب =
393
عن النبي - ﷺ - أنه رجم يهوديًا ويهودية، ثم قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ قال: "نزلت كلها في الكفار" رواه مسلم في "الصحيح" (١) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية.
وقال آخرون: ومن لم يحكم بما أنزل الله ردًّا للقرآن، وتكذيبًا للنبي - ﷺ -، فقد كفر (٢).
قال مجاهد في الآيات الثلاث: من ترك الحكم بما أنزل الله ردًا لكتاب الله، فهو كافر ظالم فاسق (٣).
وقال عكرمة: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق (٤).
وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي (٥)، واختيار أبي إسحاق؛ لأنه قال: من زعم أن حكمًا من أحكام الله التي أتت بها الأنبياء باطل فهو
= التهذيب" ٢/ ٤٣٠، "التقريب" ص ٣٢٢ (٣٦٠٧).
(١) "صحيح مسلم" (١٧٠٠)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود، وأخرجه المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٨٩.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٧.
(٣) لم أقف عليه، وقد ذكر نحوه غير منسوب. النحاس في "معاني القرآن" ٢/ ٣١٥.
(٤) لم أقف عليه عن عكرمة، وقد أخرج الطبري في "تفسيره" عنه قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، و ﴿الظَّالِمُونَ﴾، و ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ لأهل الكتاب كلهم، لما تركوا من كتاب الله. "جامع البيان" ٦/ ٢٥٣.
(٥) "تفسيره" ص ١٧٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٧.
394
كافر (١).
قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلًا يضاهي أفعال الكفار، ويشبه من أجل ذلك الكافرين (٢).
وروى معنى هذا عن ابن عباس، قال طاوس: قلت لابن عباس: أكافر من لم يحكم بما أنزل؟ فقال: به كَفَرة (٣)، وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله (٤).
ونحو هذا رُوي عن عطاء في هذه الآية، قال: هو كُفر دون كفر (٥).
وقال عبد العزيز بن يحيى الكِنَاني: إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك، ثم لم يحكم بما أنزل الله من الشرائع، فليس هو من أهل هذه الآية (٦).
وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم: هذه الآيات عامة في اليهود وفي هذه الأمة، وكل من ارتشى، وبدل الحكم، فحكم بغير حكم الله، فقد
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٨.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في المصادر التي ستأتي عند تخريجه: كفر.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٦، والحاكم بمعناه في "المستدرك" ٢/ ٣١٣، وذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٩١، وانظر: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦١، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٧٠.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٦، وذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦١.
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٩١، وانظر: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦١، "البحر المحيط" ٣/ ٤٩٣.
395
كفر (١)، وإليه ذهب السدي أيضًا (٢).
وهؤلاء ذهبوا إلى ظاهر الخطاب.
٤٥ - قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ الآية.
قال ابن عباس: يريد وفرضنا عليهم في التوراة (٣).
﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ يريد من قتل نفسًا بغير، قود قتل به (٤).
قال الضحاك: لم يجعل لهم دية في نفس ولا جرح، إنما هو العفو أو (٥) القصاص (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾.
اختلفوا في رفع العين ونصبها، فقرأ الأكثرون بالنصب، وكذلك ما العين (٧)، جعلوا الواو للإشراك في نصب (أنّ)، ولم يقطعوا الكلام مما قبله (٨).
(١) هذا معنى الآثار عنهم وقد أخرجها الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٦ - ٢٥٧، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤٣، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٦.
(٢) أخرج قوله الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٧.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٥.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٨.
(٥) في (ش): (و).
(٦) لم أقف عليه عن الضحاك، وورد نحوه عن ابن عباس. أخرجه الطبري في "تفسيره"
٦/ ٢٥٩، وأورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٩٣.
(٧) قرأ بالنصب العشرة إلا الكسائي فإنه قرأ بالرفع، ووافقه في (الجروحُ) خاصة ابن كثير في "تفسيره" وأبو عمرو وأبو جعفر وابن عامر.
انظر: "الحجة" ٣/ ٢٢٣، "النشر" ٢/ ٢٥٤.
(٨) "الحجة" ٣/ ٢٢٣.
396
ومن رفع العين فإنه عطف جملة على جملة، ولم يجعل الواو للإشراك في العامل كما كان كذلك في قول من نصب، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى؛ لأن معنى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ قلنا لهم: (النَّفْسُ بِالنَّفْسِ)، فحمل (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) على هذا (١). والحمل على المعنى كثير في التنزيل والشعر، من ذلك قوله:
بادَتْ وغَيَّرَ آيَهنّ مع البلَى إلا رواكدَ جَمْرُهن هبَاءُ
ومُشَجَّعٌ أما سواءُ قَذالِه فَبَدا وغَيَّر سارَهُ المِعْزَاءُ (٢)
لما كان المعنى في قوله: إلا رواكد بها رواكد، حمل مشجّجًا عليه، فكأنه قال: هناك رواكد ومشجّج (٣).
قال الزجاج: ويجوز أن يكون: (العينُ) عطفًا على المضمر في قوله: (بالنفس (٤))، لأن المضمر في: (بالنفس (٥)) في موضع رفع، المعنى: أن النفس مأخوذة هي بالنفس، والعين معطوفة على: هي (٦).
(١) من "الحجة" ٣/ ٢٢٣، ٢٢٤.
(٢) البيتان بدون عزو في "الكتاب" ١/ ١٧٣، ١٧٤، "شرح أبيات سيبويه" للنحاس ص ٨٤، "الحجة" ٣/ ٢٢٥.
ومعنى بادت تغيرت وبليت، وآيهن: آثارهن، والرواكد: الأثافي، والهباء: الغبار، أي صار الجمر كالغبار لقدمه وانسحاقه، والمشجج، وتد الخباء، وتشجيجه ضرب رأسه لتثبيته، وسواء قذاله: أعلى الوتد، وساره: سائره، والمعزاء: الصلبة.
(٣) "الحجة" ٣/ ٢٢٥، وانظر: "الكتاب" ١/ ١٧٤.
(٤) في (ج): (أن النفس)، وفي "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٩: النفس.
(٥) في "معاني الزجاج" النفس.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٩، وانظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٩٣.
397
وأما من قرأ الجميع بالنصب ورفع (الجروحُ) (١) فالكلام في رفع (الجروحُ) كما ذكرنا في رفع العين.
قال العلماء في هذه الآية: كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في العين والأنف والأذن والسن وجميع الأطراف، إذا تماثلا في السلامة من الشلل، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضًا في الأطراف (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ وهو كل ما يمكن أن يقتص فيه مثل: الشفتين والذكر والأنثين والألسن والقدمين واليدين وغيرها (٣).
فأما ما لا يمكن القصاص من رضة لحم، أو هيضة عظم أو جراحة في البطن يُخاف منها التلف ففيه أرش (٤) حكومة (٥).
والقصاص ههنا مصدر يراد به المفعول، أي والجروح مُتقاصّة بعضها ببعض.
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ﴾.
(١) هذه قراءة ابن كثير في "تفسيره" وأبي عمرو وأبي جعفر وابن عامر. انظر: "الحجة" ٣/ ٢٢٣، "معاني القراءات" ١/ ٣٢٩، "النشر" ٢/ ٢٥٤.
(٢) انظر: "الأم" ٦/ ٥، ٥٠، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٣.
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٨ - ٢٥٩، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٣، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٨.
(٤) الأرش: هو اسم للمال الواجب على ما دون النفس. "التعريفات" للجرجاني ص ١٧، وانظر: "اللسان" ١/ ٦٠ (أرش).
(٥) انظر: "الأم" ٦/ ٨٠ - ٨٣، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢٠٤.
398
أي: أعطى وبذل وترك، من الصدقة، وكل ما يعطيه الإنسان من ماله أو بدنه أو عرضه فرضًا كان أو نقلًا، ومنه قوله - ﷺ -: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضَمْضَم (١)؟ كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس" (٢).
والكلام في أصل الصدقة قد مضى عند قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: ٢٧١].
وقوله تعالى: ﴿بِهِ﴾ أي: بالقصاص الذي وجب له.
﴿فَهُوَ﴾ أي: التصدق، ﴿كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ أي: للمتصدق الذي هو المجروح، أو ولي الدم. وهذا قول أكثر أهل التأويل (٣).
قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد فمن عفا فهو مغفرة له عند الله وثواب عظيم (٤).
وهذا قول ابن عمر والحسن والشعبي وقتادة (٥).
(١) هذا الرجل غير مسمى ولا منسوب، عدّ من الصحابة ويحتمل أنه ممن تقدم. انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٢٥٧، "أسد الغابة" ٦/ ١٧٧، "الإصابة" ٤/ ١١٢.
(٢) أخرجه بنحوه أبو داود (٤٨٨٧) كتاب الأدب، باب (٤٣): ما جاء في الرجل يحل الرجل قد اغتابه ٥/ ١٩٩، من طرق، وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" ٤/ ٢٥٧، وابن الأثير في "أسد الغابة" ٦/ ١٧٧، وابن حجر في "الإصابة" ٤/ ١١٢.
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٠ - ٢٦٢، "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٩، "معاني النحاس" ٢/ ٣١٧، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٠.
(٤) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٩٥ ولم أقف عليه، وقد ثبت عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة أنه قال: فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب.
"تفسير ابن عباس" ص ١٨٠، وأورده ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٧٢ من هذه الطريق أيضًا.
(٥) أخرج أقوالهم الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٠ - ٢٦٢، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٣١٧، "النكت والعيون" ٢/ ٤٣ - ٤٤
399
وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله - ﷺ - قال: "من تصدق من جسده بشيء كفر الله -عز وجل- عنه بقدره من ذنوبه" (١).
وقال آخرون: الكناية في قوله: ﴿لَهُ﴾ تعود على المتصدق عليه، أي كفارة للمتصدق عليه؛ لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه (٢).
قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير في قوله: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ قال: فهو كفارة للجارح، وأجر المتصدق على الله (٣).
وهذا قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم (٤).
وعلى هذا فالجاني إذا عفا عنه المجني عليه كان العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة، كما أن القصاص كفارة له.
والقول الأول أظهر؛ لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور وهو (من)، وفي القول الثاني يعود إلى مدلول عليه وهو المتصدق عليه، دل عليه قوله: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ﴾ (٥).
(١) أخرجه أحمد في "مسنده" ٥/ ٣١٦، والمؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٩٥ من طريق شيخه الثعلبي، وذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٣، وصححه الألباني، انظر: "صحيح الجامع" (٦١٥١)، وأخرج الترمذي نحوه من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- (١٣٩٣) كتاب الديات، باب: ما جاء في العفو، وابن ماجة (٢٦٩٣) كتاب الديات، باب: العفو في القصاص.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦١، "النكت والعيون" ١/ ٤٧٠.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٢، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٣١٧، "النكت والعيون" ٢/ ٤٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٤.
(٤) أخرج أقوالهم الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦١ - ٢٦٢، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٤.
(٥) وهذا أيضًا اختيار الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٢.
400
٤٦ - قوله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ﴾. مضى الكلام في: قفينا (١).
قال الزجاج: أي جعلناه يقفوهم (٢).
والكناية في: (آثارهم) عائدة إلى (النبيين الذين أسلمو).
وقوله تعالى: ﴿ومُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ منَ التَّوْرَاةِ﴾.
ليس بتكرير للأول في المعنى؛ لأنه يدل أن في الإنجيل ذكر التصديق في التوراة، كما أن عيسى -عليه السلام- جاء يدعو الناس إلى التصديق بها (٣).
وقوله تعالي: ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً﴾.
قال الفراء: متبع للمصدق في نصبه (٤).
يريد أن: (مصدقًا) حال من الإنجيل (٥)، والعامل فيه: (آتيناه) وعطف بالواو على قوله: (فيه هدى) لأن معناه: آتيناه الإنجيل هاديًا، وإن شئت قلت: تقديره: وآتيناه الإنجيل مستقرًّا فيه هدى ونور ومصدقًا، فقوله: ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً﴾ معناه: وهاديًا وواعظًا، فلذلك نصبًا (٦).
(١) ذكر ذلك عند قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ [البقرة: ٨٧].
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ١٦٨، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٤٧.
(٣) يوضح ذلك سياق الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾.
فـ: ﴿مُصَدِّقًا﴾ الأول لعيسى، والثاني للإنجيل، وانظر: "الوسيط" ٣/ ٨٩٦، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٩.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٣١٢.
(٥) انظر: "مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢٢٨، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢٠٩.
(٦) انظر: القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢٠٩، "الدر المصون" ٤/ ٢٨٤.
والآية تدل على أن شرع عيسى كان شرع موسى (١).
٤٧ - قوله تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾.
قال أهل المعاني: قوله: ﴿وَلْيَحْكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون التقدير: وقلنا: ليحكم أهل الإنجيل (٢)، فيكون هذا إخبارًا عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل. ثم حذف القول؛ لأن ما قبله من قوله: ﴿وَكَتَبْنَا﴾ [المائدة: ٤٥]، ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ [المائدة: ٤٦] يدل عليه. وحذف القول كثير كقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤] (٣).
والثاني: أن يكون قوله: ﴿وَلْيَحْكُمْ﴾ ابتداء أمر للنصارى بالحكم بما في كتابهم (٤).
فإن قيل على هذا: كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟
قيل: إن أحكام الإنجيل كانت موافقة لأحكام القرآن (٥).
وقيل: إن المراد من هذا الحكم الإيمان بمحمد - ﷺ - لأنه كان في الإنجيل ذكر وجوب التصديق به، فهذا الأمر راجع إلى ذلك (٦).
(١) وذلك فيما لم ينسخه شرع عيسى، انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٤.
(٢) انظر: "الكشاف" ١/ ٣٤٢.
(٣) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٢٤٠، قال أبو علي في آية الرعد: أي يقولون.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٥، "الحجة" ٣/ ٢٢٨، البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٥، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٩.
(٥) ليس هذا على إطلاقه، بل الكثير من الإنجيل، أو الأكثر -خاصة في الفروع- منسوخ بالقرآن. انظر: القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢٠٩.
(٦) انظر: القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢٠٩.
والقول الأول أظهر.
وقرأ حمزة: ﴿وَلْيَحْكُمْ﴾ بكسر اللام وفتح الميم (١)، جعل اللام متعلقة بقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾ [المائدة: ٤٦] لأن إيتاءه الإنجيل إنزال ذلك عليه، فصار ذلك بمنزلة قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: ١٠٥] (٢)، وكأن المعنى: آتيناه الإنجيل ليحكم (٣).
٤٨ - قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾. قال مقاتل: يعني القرآن، لم ينزله عبثًا (٤).
وقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾. قال ابن عباس: يريد كل كتاب أنزله الله على الأنبياء (٥).
قال مقاتل: يعني: شاهدًا أن الكتب التي أنزلت قبله أنها من الله (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾.
اختلفت الروايات عن ابن عباس في تفسير المهيمن، فقال في رواية الوالبي: شاهدًا عليهم (٧).
(١) "الحجة" ٣/ ٢٢٧، "التيسير في القراءات السبع" ص ٩٩.
(٢) في "الحجة" ٣/ ٢٨٨: فكأن.
(٣) "الحجة" ٣/ ٢٢٧، ٢٢٨.
(٤) "تفسير مقاتل بن سليمان" ١/ ٤٨١.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٠.
(٦) "تفسيره" ١/ ٤٨١.
(٧) "تفسيره" ص ١٨١ بلفظ: شهيداً، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٦، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٥، "الدر المنثور" ٢/ ٥١٣.
403
وهو قول السدي (١) والكسائي (٢)، ورواية عطاء عنه أيضًا: شاهدًا على جميع الكتب (٣).
وقال فيما روى عنه أبو عبيدة بإسناد له: مؤتمنًا (٤) وهو قول سعيد بن جبير (٥).
وقال في رواية عطية (عنه) (٦): أمينًا (٧) وهو قول قتادة (٨) ومجاهد (٩).
وقال الحسن (١٠): مصدقًا لهذه الكتب أمينًا عليها (١١).
هذا كلام المفسرين (١٢).
فأما أهل اللغة فقال المبرد: إن الهاء بدل من الهمزة، وأن أصله:
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٦، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٥.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٠ (همن)، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٥.
(٣) انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٥١٣.
(٤) أخرج هذا القول لابن عباس: الطبري في "تفسيره" من طرق كثيرة في "جامع البيان" ٦/ ٢٦٦ - ٢٦٧، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٦٨، "الدر المنثور" ٢/ ٥١٢.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٧.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٧، وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٥١٣.
(٨) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٧.
(٩) قول مجاهد أن المعنى: مؤتمن، "تفسيره" ١/ ١٩٨، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦.
(١٠) في الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٧: الحسين، ولعله تصحيف.
(١١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٧، وأبو علي في "الحجة" ١/ ٢٢٩، وانظر: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٥، و"زاد المسير" ٢/ ٣٧١، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٧٤ - ٧٥.
(١٢) وهي متقاربة من حيث المعنى.
404
مؤيمن، فجعلت الهاء بدلًا من الهمزة، كما قالوا: هَرَقْت وأَرَقْت، وإياك وهياك (١).
قال أبو إسحاق: وهذا على مذهب العربية حسن وموافق لبعض ما جاء في التفسير؛ لأن معناه مؤتمن (٢).
وقال ابن الأنباري (٣) -وحكى قول أبي العباس- ثم قال: ومهيمن وزنه مفيعل، وقد جاء في كلام العرب حروف على مثاله، منها: المسيطر، وهو المسلّط، والمبيطر، وهو البيطار (٤)، والمبيقر (٥) من قوله:
بأنَّ امرأ القَيسِ بنَ تَملكَ بَيْقَرا (٦)
والمديبر من الإدبار والتخلف، والمجيمر اسم جبل في قوله:
كأن ذُرَى رأسِ المُجَيمر غُدْوَةً (٧)...................... (٨)
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ١٨٠، "الزاهر" لابن الأنباري ١/ ٨٦، "معاني النحاس" ٢/ ٣١٨، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٠ (همن).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٠، وقد قال الأزهري مثل قول الزجاج في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٠ (همن).
(٣) في "الزاهر" ١/ ٨٦، ٨٧.
(٤) المبيطر والبيطار: معالج الدواب. انظر: "اللسان" ١/ ٣٠١ (بطر).
(٥) في "الزاهر" ١/ ٨٧: والمبيقر من قولهم: قد بيقر الرجل يبيقر بيقرة، إذا فسد.
(٦) عجز بيت لأمرئ القيس، وصدره: ألا هل أتاها والحوادث جمة
"ديوانه" ص ٦٢، "الزاهر" ١/ ٨٧.
(٧) صدر بيت لأمرئ القيس من معلقته، وعجزه: من السيل والأغثاء فلكة مغزل "ديوانه" ص ١٢٢، "الزاهر" ١/ ٨٧، "شرح القصائد المشهورات" ١/ ٤٨، ٤٩. والأغثاء: ما يحيله السيل من الأشياء، وفكلة مغزل: أي أن الماء استدار حوله فصار كفلكة المغزل.
(٨) "الزاهر" ١/ ٨٦، ٨٧، وانظر: "الحجة" لأبي علي ١/ ٢٣٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٥.
405
وقال الأزهري: الذي قاله المبرد في المهيمن أنه في الأصل: مؤيمن له مخرج من العربية حسن (١). وذلك أن آمن يؤمن كان في الأصل: آمن مؤيمن، وكذلك يفعل في الأصل: يوفعل، فاستثقلوا هذه الهمزة وحذفوها، كما حذفوا الهمزة الأصلية من: أرى ويرى، فأما المهيمن فإنهم ردوا الهمزة إلى الكلمة، ثم قلبت هاء؛ لأن الهاء أخف من الهمزة؛ لأن للهمزة ضغطة في الحلق ليست للهاء.
فالمهيمن على هذا التأويل بمعنى: المؤمن، وهو المصدق، وهو الأمين، كما قال المفسرون.
وقال ابن جريج: (ومهيمنًا) أمينًا على الكتب قبله، فما أخبر أهل الكتاب بأمر، فإن كان في القرآن فصدقوا وإلا فكذبوا (٢).
هذا طرق أهل اللغة في معنى المهيمن وأصله، فالمهيمن عندهم بمنزلة الأمين.
قال الأزهري: وكان النبي - ﷺ - يسمى الأمين، يعرف به قبل الإسلام، فقال العباس فيه يمدحه:
حتى احتوى بيتُك المُهَيمنُ مِن خِندِفَ عَلياءَ تحتَها النُّطُقُ (٣)
وبيته شرفه ومجده، أراد: حتى احتويت أنت أيها المهيمن من خِندِفَ علياء، أي: الشرف (٤).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٠ (همن)، وما بعد ذلك فهو من تعليق المؤلف على ما يظهر، حيث إنه لا وجود له في "التهذيب"، والله أعلم.
(٢) لم أقف عليه، وقد تقدم قريبًا عن ابن عباس وغيره نحوه.
(٣) البيت في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٠، "اللسان" ٨/ ٤٧٠٥ (همن)، والنطق أوساط الجبال العالية.
(٤) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٠ بتصرف، وانظر: "اللسان" ٨/ ٤٧٠٥ (همن).
406
فجعل العباس المهيمن في بيته صفة للنبي، أراد به الأمين.
وقال جماعة من أهل اللغة: المهيمن: الرقيب الحافظ، يقال: قد هيمن الرجل يهيمن هيمنة، إذا كان رقيبًا على الشيء. وهو قول الخليل وأبي عبيد (١).
وقال أبو عبيدة: المهيمن: الشاهد المصدق (٢)، واحتج بقول حسان (٣):
إن الكتاب مهيمنٌ لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب (٤)
وقوله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾. يعني: بين اليهود بالقرآن، والرجم على الزانيين.
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾. قال ابن عباس: يريد ما حرفوا وبدلوا، يعني: من أمر الرجم (٥).
وقوله تعالى: ﴿عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾.
يقول: لا تتبعهم عما عندك من الحق فتتركه وتتبعهم، كما تقول: لا تتبع زيدًا عن رأيك، يعني لا تترك رأيك وتتبعه.
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٩، "معاني النحاس" ٢/ ٣١٨، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٠ (همن)، "زاد المسير" ٢/ ٣٧١، "اللسان" ١٣/ ٤٣٧ (همن).
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٦٨.
(٣) تقدمت ترجمته.
(٤) في "ديوانه" ص ٣٥، لكن صدره: أخوات أمك قد علمت مكانها
(٥) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧١، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٦. وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ قال: بحدود الله، ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾. "تفسيره" ص ١٨١، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٩.
407
ويجوز أن تكون (عن) في قوله: (عما) من صلة معنى: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ وذلك أن معناه: لا تَزغ، فكأنه قيل: لا تزغ عما جاءك (من الحق) (١) باتباع أهوائهم.
وقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (٢).
الشَّرعة والشريعة واحدة، وأصلها من الشرع وهو البيان والإظهار، قال الله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ﴾ [الشورى: ١٣] (٣). قال ابن الأعرابي: شرع أي أظهر. قال: وشرع فلان، إذا أظهر الحق وقمع الباطل (٤).
قال الأزهري: معنى (شرع) بين وأوضح، مأخوذ من شَرَع الإهاب (٥).
قال ابن السكيت: الشرع مصدر شَرَعت الإهاب إذا شققت ما بين الرِّجلين وسلختَه (٦).
وقال غيره: الشارع والشرعة والشريعة: الطريقة الظاهرة. وتسمى معالم الدين شريعة لوضوحها (٧).
وقال قوم: أصل الشريعة من الشروع، وهو الدخول في الأمر (٨)، والشرعة والشريعة في كلام العرب المَشْرَعَة التي يشرعها الناس فيشربون
(١) في (ج): (بالحق).
(٢) في (ج): بعد (ومنهاجا): ومنها، ولعلها زائدة أو تكرار لبعض كلمة: (منهاجا).
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٦٨، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٤٣، الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٩، "معاني النحاس" ٢/ ٣١٩.
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥٨.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥٨.
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥٨، وانظر: "الصحاح" ٣/ ١٢٣٦ (شرع).
(٧) انظر: "معاني النحاس" ٢/ ٣١٩، "النكت والعيون" ٢/ ١٨٥٧.
(٨) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٩، "تهذيب اللغة" ٣/ ١٨٦٠، "الصحاح" ٣/ ١٢٣٦ (شرع).
408
ويسقون بها (١).
قال الليث: شرعت الواردةُ الشريعةُ، إذا تناولت الماء بفيها، والشريعة: المَشْرَعة. قال: وبها سُمّي ما شرع الله للعباد: شريعةً، من الصلاة والصوم والنكاح والحج وغيره (٢).
فعلى هذا معنى الشِّرعة والشَّريعة: الطريقة لشروع الناس فيها.
والمنهاج: الطريق الواضح، ومنهج الطريق: وَضَحه، ونهج الأمر وأنهج، لغتان، (إذا وضح) (٣). قاله الليث (٤).
وقال ابن بُزُرج (٥): استَنْهَج الطريقُ: صار نهجًا، ويقال: نهجت لك الطريق وأنهجته، لغتان، فهو منهوج ومُنهَج، وهو نَهجٌ ومُنهج (٦).
وأما الكلام في الجمع بين الشرعة والمنهاج فقال الأكثرون: إنها بمعنى واحد، وجمع بينهما للتأكيد في اللفظ. وهذا قول مجاهد (٧) والزجاج.
(١) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥٨ (شرع).
(٢) من "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥٨، وانظر: "العين" ١/ ٢٥٢، ٢٥٣.
(٣) في (ش): (إذا أوضح)، وما أثبته هو الموافق لـ"العين" ٣/ ٣٩٢.
(٤) "العين" ٣/ ٣٩٢، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٧٢ (نهج)، وانظر: الطبري في "تفسيره" ١٠/ ٣٨٤.
(٥) هو عبد الرحمن بن بزرج -بضم الباء- عالم لغوي له مؤلفات وتعليقات أفاد منها الأزهري في "تهذيب اللغة"، وقد عده الأزهري من متأخري الطبقة الثانية من علماء اللغة الذين اعتمد عليهم في كتابه، ولم تذكر سنة وفاته.
انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٧٢ المقدمة، "إنباه الرواة" ٢/ ١٦١، "الإكمال" لابن ماكولا ١/ ١٥٥، ١٥٦.
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٧٢، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٩.
(٧) قال مجاهد في تفسيرهما: الشرعة: السنة. والمنهاج السبيل.
"تفسيره" ١/ ١٩٨، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧١ من طرق، وانظر: "النكت =
409
قال الزجاج: الشرعة والمنهاج جميعًا: الطريق، والطريق ههنا: الدين، ولكن اللفظ إذا اختلف أتى به بألفاظ تؤكد بها القصة والأمر. قال: وقال بعضهم: الشرعة: الدين والمنهاج: الطريق (١).
وقال ابن الأنباري: الشرعة: ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق الواضح كله المستمر، فصح النسق للمخالفة بينهما (٢).
وهذا قول محمد بن يزيد. حكاه الزجاج عنه (٣).
وأما التفسير: فقال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾: سبيلًا وسنة (٤)، ورُوي: سنة وسبيلًا (٥).
وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك في تفسير الشرعة والمنهاج (٦).
وأما معنى الآية فقال قتادة في قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً﴾ الخطاب للأمم الثلاث، أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد (عليهم
= والعيون" ٢/ ٤٥.
وقد ذكر أبو حيان في "البحر المحيط" ٣/ ٥٠٣ عن مجاهد أنه قال: الشرعة والمنهاج دين محمد - ﷺ -.
(١) قول الزجاج في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥٧، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤١، ولم أجد في "معاني القرآن" له شيئاً من ذلك.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٢، "البحر المحيط" ٣/ ٥٠٣، "الدر المصون" ٤/ ٢٩٣.
(٣) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥٧ (شرع)، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٩١٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٧٢، "البحر المحيط" ٣/ ٥٠٣، "الدر المصون" ٤/ ٢٩٣.
(٤) "تفسيره" ص ١٨١، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٠ - ٢٧١ من طرق، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤٥.
(٥) أخرج هذه الرواية الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٠ - ٢٧١ من طرق.
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧١ - ٢٧٢، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤٥.
410
السلام) (١) ولا يعني به قوم كل نبي؛ لأن الشريعة (٢) لم تختلف من لدن موسى إلى عيسى، وإنما اختلفت على لسان عيسى، ثم لم تختلف إلى زمن محمد، ثم اختلفت على لسانه، ألا ترى أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ الآية [المائدة: ٤٤]، ثم قال: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ٤٦]، ثم قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾، ثم قال: ﴿لكلٍ (٣) جَعَلْنا مِنكُم شِرْعَةً ومنهَاجًا﴾ يعني: شرائع مختلفة، للتوراة (٤) شريعة، وللإنجيل (٥) شريعة، وللقرآن (٦) شريعة، والدين واحد لا يقبل الله إلا الإخلاص (٧).
وقال مجاهد: ﴿شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ السبيل الجادة (٨)، من دخل في دين محمد فقد جعل له شرعة ومنهاجًا، والقرآن له شرعة ومنهاج (٩).
وعلى هذا القول المراد (بالشرعة) (١٠) والمنهاج: القرآن، ودين محمد - ﷺ - وهو الذي جعل منهاجًا للكل وندب إليه الجميع، وليس المراد
(١) ساقط من (ج).
(٢) في (ش): (الشرائع).
(٣) في (ج): (ولكل).
(٤) في (ش): (التوراة).
(٥) في (ش): (الإنجيل).
(٦) في (ش): (القرآن).
(٧) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٩٩ مختصرًا، وأخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٠، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٦، "الدر المنثور" ٢/ ٥١٣.
(٨) الجادة أي الطريق. انظر: "اللسان" ١/ ٥٦١ - ٥٦٢ (جدد).
(٩) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٠، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٣.
(١٠) في (خ): (بالشرع).
411
الإخبار عن اختلاف الشرائع، واختصاص كل أمة بشريعة، كما ذكره قتادة.
والقول الأول أظهر وعليه المفسرون، فقد قال مقاتل: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ﴾ يعني: من المسلمين وأهل الكتاب (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾. قال الحسن: لو شاء لجمعكم على الحق (٢).
وقال الكلبي: ولو شاء (الله) (٣) لجعلكم أمة واحدة على أمر واحد ملة الإسلام (٤).
﴿وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ﴾. ليختبركم فيما أعطاكم من الكتاب والسنن.
ومضى الكلام في ابتلاء الله عز وجل عند قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ [البقرة: ٢٤٩].
وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾. قال مقاتل: (يقول) (٥): سارعوا في الأعمال الصالحة (٦).
وقال الكلبي: يقول: سابقوا الأمم الماضية إلى السنن والفرائض والصالحات من الأعمال (٧).
والاستباق في اللغة بين اثنين، يجتهد كل واحد منهما أن يسبق
(١) "تفسيره" ١/ ٤٨١، ٤٨٢.
(٢) "النكت والعيون" ٢/ ٤٥، وانظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٧٨.
(٣) ساقط من (ج).
(٤) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٩٠٠ غير منسوب، ولم أقف عليه.
(٥) ساقط من (ج).
(٦) "تفسيره" ١/ ٤٨٢، "زاد المسير" ٢/ ٣٧٤.
(٧) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٦.
412
صاحبه كقوله تعالى: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ [يوسف: ٢٥] يعني يوسف وصاحبته تبادر إلى الباب؛ فإن سبقها يوسف فتح الباب وخرج، وإن سبقت هي أغلقت الباب لئلا يخرج يوسف (١).
وقوله تعالى: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾.
قال مقاتل: أنتم وأهل الكتاب ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من الدين والفرائض والسنن (٢). وقاله الكلبي (٣).
وقال أهل المعاني: يعني أن الأمر سيؤول إلى ما تزول معه الشكوك بما يحصل من اليقين عند مجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء باساءته (٤).
٤٩ - قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾.
قد ذكرنا أن هذا ناسخ للتخيير في قوله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢].
وموضع (أن) من الإعراب نصب، بمعنى: أنزلنا إليك (أن احكم بينهم) (٥).
وأعيد ذكر الأمر بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى: إما للتأكيد، وإما لأنهما حُكمان أمر بهما جميعًا؛ لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصنين (٦) ثم احتكموا إليه في قتيل كان فيهم، في قول جماعة من المفسرين (٧).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٢٠ (سبق).
(٢) بنحوه في "تفسيره" ١/ ٤٨٢.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٦.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٢، "التفسير الكبير" ١٢/ ١٣.
(٥) انظر: "مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢٢٨.
(٦) في (ش): (المحصن).
(٧) احتكامهم إلى النبي - ﷺ - في زنا المحصنين ظاهر، وقد تقدم. أما احتكامهم إليه في قتيل كان فيهم فلم أقف عليه. وقد خالف في الأمر الثاني ابن الجوزي فقال: =
413
قال ابن عباس: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ قال: بحدود الله (١).
وقوله تعالى: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.
قال ابن عباس: يريد يردوك إلى أهوائهم (٢).
قال أبو عبيد: كل من صُرِف عن الحق إلى الباطل، وأميل عن القصد فقد فُتِن (٣). ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ [الإسراء: ٧٣].
وقال قطرب: واحذرهم أن يستزلوك (٤).
قال ابن الأنباري: وقولهم (٥): فتنت فلانةٌ فلانًا، قال بعضهم: أمالته القصد. والفتنة (٦) معناها في كلامهم المميلة عن الحق والقصد (٧).
وقال النضر في قوله - ﷺ -: "أعوذ بك من فتنة المحيا" (٨). هو أن يعدل
= وإنما نزلتا في شيئين مختلفين، أحدهما في شأن الرجم، والآخر في التسوية في الديات، حتى تحاكموا إليه في الأمرين. "زاد المسير" ٢/ ٢٧٥، وانظر: "البحر المحيط" ٣/ ٥٠٤، وما ذكره ان الجوزي من التسوية في الديات سيأتي له ذكر عند المؤلف في الآية ٥٠ من هذه السورة.
(١) قال ابن عباس -رضي الله عنهما- ذلك في تفسير الآية التي قبلها: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ "تفسيره" ص ١٨١، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٣.
(٢) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٩٠١، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٦.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٩٠١ ولم أقف عليه.
(٤) لم أقف عليه عن قطرب، وقد قال بذلك أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ١٦٨، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٣/ ٥٠٤.
(٥) في (ش): (فقولهم).
(٦) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٣٨ (فتن): الفتينة.
(٧) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٣٨، وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٣٤٥ (فتن).
(٨) جزء من الحديث المشهور في الدعاء قبل السلام، وأخرجه البخاري (٨٣٢) =
414
عن الطريق (١).
قال مقاتل: إن رؤساء اليهود قال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه ونرده عما هو عليه، فإنما هو بشر. فأتوه وقالوا (٢) له: قد علمت أنا إن اتبعناك اتبعك الناس، وإن لنا خصومة فاقض لنا على خصومنا إذا تحاكمنا إليك، ونحن نؤمن بك ونصدقك. فأبى ذلك رسول الله - ﷺ -، وأنزل الله هذه الآية (٣).
فمعنى فتنتهم (إياه) (٤) عن بعض ما أنزل الله إضلالهم إياه وإمالته عن ذلك إلى ما يهوون من الأحكام، إطماعًا منهم في الاستمالة إلى الإسلام في قول مقاتل وابن عباس (٥) وغيرهما.
قال أهل العلم: هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائز على الرسل؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ والتعمد في مثل هذا غير موهوم على رسول الله، فتحقيق تكليف الحذر عائد إلى النسيان والخطأ (٦).
= كتاب الأذان، باب: الدعاء قبل السلام ١/ ٢٠٢، ومسلم (٥٨٩) كتاب المساجد، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٣٨.
(٢) في (ش): (فقالوا).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل بن سليمان" ١/ ٤٨٢، ٤٨٣، "الوسيط" ٣/ ٩٠١.
(٤) ساقط من (ش).
(٥) قال ابن عباس بنحو قول مقاتل المتقدم فيما أخرجه عنه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٣، وذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٠٠، وانظر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٦، "الدر المنثور" ٢/ ٥١٤.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ١٢/ ١٤، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢١٣.
415
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾. قال ابن عباس: يريد إن لم يقبلوا منك (١). وقال مقاتل: أبوا حكمك (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾. قال ابن عباس: يريد أن يبتليهم، ويسلطك عليهم (٣).
وقال مقاتل: أي: يعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء (٤).
قال أهل المعاني: وخصص بعض الذنوب لأنهم جوزوا (٥) في الدنيا ببعض ذنوبهم، وكان مجازاتهم بالبعض كافيًا في إهلاكهم والتدمير عليهم، يقول: فإن أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يُعَجَّل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٤٩]. يعني: اليهود (٧).
٥٠ - قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾.
قال المفسرون: أي أتطلب اليهود في الزانيين حكما لم يأمر الله عز وجل به وهم أهل الكتاب، كما يفعل أهل الجاهلية (٨).
(١) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٦.
(٢) "تفسيره" ١/ ٤٨٣.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "تفسيره" ١/ ٤٨٣ وفي: والجلاء من المدينة إلى الشام.
(٥) في (ش): (جوزيوا).
(٦) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٣، "التفسير الكبير" ١٢/ ١٤، القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢١٤.
(٧) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢١٤.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ١٨٠، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٦، "التفسير الكبير" ١٢/ ١٥.
416
قال ابن عباس: يعني بحكم الجاهلية ما كانوا من الضلالة والجور في الأحكام، وتحريفهم إياها عما كانت عليه (١).
وقال بعضهم: إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به، فقيل لهم: أفحكم عبدة الأوثان تبغون وأنتم أهل كتاب؟ وكفى بذلك خزيًا أن يحكم بما يوجبه الجهل دون ما يوجبه العلم (٢).
وقال مقاتل: كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمدًا، فلما بعث تحاكموا إليه، فقالت بنو قريظة: إخواننا بنو النضير أبُونا واحد، وديننا وكتابنا واحد، فإن قتل أهل النضير منا قتيلًا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا مائة وأربعين وسقًا، وأرش جراحاتنا على النصف من أرش جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، قال رسول الله - ﷺ -: "فإني أحكم دم القُرَظي وفاءٌ من دم النُضَيري، ودم النُّضَيري وفاءٌ من دم القُرَظي، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة"، فغضب بنو النضير وقالوا: لا نرضى بحكمك، فإنك لنا عدو، وإنك ما تألو في وضعنا وتصغيرنا، فأنزل الله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ يعني حكمهم الأول (٣).
(١) لم أقف عليه.
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٤، "التفسير الكبير" ١٢/ ١٥، القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢١٤.
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٤٧٩، ٤٨٠ بنحوه، وانظر: "التفسير الكبير" ١٢/ ١٥.
وقد جاء نحو ذلك عن ابن عباس من طريق أبي صالح -وهي ضعيفة- عنه ذكر ذلك ابن الجوزي "زاد المسير" ٢/ ٣٧٦، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٧٤.
417
وقرأ ابن عامر (تَبغُون (١)) بالتاء (٢)، على معنى: قل لهم يا محمد: أفحكم الجاهلية تبغون (٣).
والقراءة بالياء أظهر، لجري الكلام على ظاهره واستقامته عليه من غير تقدير إضمار، على أن نحو هذا الإضمار لا ينكر لكثرته (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: ٥٠].
قال الزجاج: أي من أيقن تبين عدل الله في حكمه (٥).
وقال (٦) بعض أصحاب المعاني: معناه: عند قوم يوقنون بالله وبحكمته، فأقيمت اللام مقام عند، وهذا جائز في اللغة إذا تقاربت المعاني (٧).
فإذا قيل: الحكم لهم فلأنهم يستحسونه، فكأنه إنما جعل لهم خاصة، وإذا قيل: عندهم؛ فلأن عندهم العلم بصحته.
٥١ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ الآية، قال عطية. جاء عبادة بن الصامت إلى رسول الله - ﷺ - فتبرأ عنده من موالاة اليهود، فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود، لأني أخاف
(١) ساقط من (ج).
(٢) "الحجة" ٣/ ٢٢٨، "التيسير" ص ٩٩.
(٣) "الحجة" ٣/ ٢٢٨.
(٤) "الحجة" ٣/ ٢٢٨، ٢٢٩ بتصرف.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨١، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٣٢١، "زاد المسير" ٢/ ٣٧٦.
(٦) في (ش): (قال).
(٧) ذكر هذا القول أبو حيان في "البحر المحيط" ٣/ ٥٠٥، لكنه قال: وهذا ضعيف، وانظر "الدر المصون" ٤/ ٢٢٩.
418
الدوائر، فنزلت هذه الآية (١) في النهي عن موالاتهم، ومعنى: (لا تتخذوهم أولياء) لا تعتمدوا على الاستنصار بهم متوددين إليهم، وأولياء مثل أنبياء في الامتناع عن الصرف، وذكرنا العلة المانعة عن الصرف في "أنبياء" في هذه السورة (٢).
وقوله تعالى: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، أي: في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين (٣) وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾، قال ابن عباس: "يريد كافر مثلهم" (٤)، وقال أبو إسحاق: أي: من عاضدهم على المسلمين فإنه مع من عاضده (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٥١]، قال ابن عباس: "يريد لا يرشد الكافرين ولا المشركين ولا المنافقين" (٦)، روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً. فقال: مالك قاتلك الله؟! ألا اتخذت حنيفياً، أما سمعت قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾. قلت: له دينه ولي كتابته. قال: لا أكرمهم إذا أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم" (٧).
(١) أخرجه بنحوه الطبري ٦/ ٢٧٥، وذكره البغوي ٣/ ٦٧، والسيوطي في "لباب النقول" ص ٩٢.
(٢) عند قوله تعالى: ﴿إذ جعل فيكم أنبياء﴾ الآية (٢٠) من هذه السورة.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٠/ ٣٩٩، "تفسير البغوي" ٣/ ٦٨.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨١.
(٦) لم أقف عليه، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧.
(٧) بمعناه عند ابن كثير ٢/ ٧٧، "الدر المنثور" ٢/ ٥١٦.
419
٥٢ - قوله تعالى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾.
قال ابن عباس: "يعني عبد الله بن أبي وأصحابه" (١) وهو قول مجاهد (٢) ومقاتل (٣) وغيرهم.
وقوله تعالى: ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾، قال ابن عباس: "يريد يسارعون إلى مودتهم" (٤)، وقال الكلبي: "يسارعون في ولاية اليهود، ونصارى نجران؛ لأنهم كانوا أهل ريف يميرونهم ويقرضونهم" (٥).
وقال مجاهد: يسارعون في مصانعة اليهود وموأخاتهم (٦)، وقال أبو إسحاق: يسارعون في معاونتهم على المسلمين (٧).
وقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾، الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة التي تخشى كالهزيمة والدبرة والقحط والحوادث المخوفة (٨)، قال عبد الله بن مسلم (٩): نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه فلا يميروننا (١٠). وقال أبو عبيدة: الدوائر
(١) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٧٨ - ٢٧٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٧٩، "الدر المنثور" ٢/ ٥١٦.
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٤٨٥، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٨.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧.
(٥) لم أقف عليه، انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٤٣، "زاد المسير" ٢/ ١٧٩.
(٦) أخرجه بنحوه الطبري ٦/ ٢٧٩.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨١، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٦٨.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ١٠/ ٤٠٤، ٤٠٥، "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٢٩ مادة (دار).
(٩) ابن قتيبة.
(١٠) "غريب القرآن" ص ١٤٣.
420
تدور، والدوائل تدول (١)، وذكر قول حُميد الأرقط (٢):
[كنت حسبت الخندق المحفورا] (٣)
ودائراتِ الدَّهر أن تدورا (٤)
قال الكلبي: ﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ أي سنة جدبة، وقال مقاتل: "نخشى أن تصيبنا دائرة اليهود على المسلمين، وذلك أنهم قالوا، إنا نكره قتال اليهود ومفارقتهم، فإنا لا ندري ما يكون ونخشى أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا من الميرة والقرض" (٥).
وقال أبو روق: "يعنون نخشى أن ينصر محمد" (٦).
ونحو ذلك قال الزجاج: أي نخشى أن لا يتم الأمر للنبي - ﷺ -، قال: ومعنى (دائرة): أي: يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾، قال أهل المعاني: وعسى من الله واجب (٨). لأن الكريم إذا طمّع في خير يفعله، فهو
(١) "مجاز القرآن" ١/ ١٦٩.
(٢) هو حميد بن مالك بن ربعي بن فحاش بن قيس، من بني ربيعة، شاعر إسلامي. "معجم الأدباء" ٣/ ٢٦٧.
(٣) ما بين المعقوفين ليس في "المجاز".
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ١٦٩. والرجز في: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٧٩، "تفسير القرطبي" ٦/ ٢١٧.
(٥) بمعناه في تفسير مقاتل ١/ ٤٨٤، "تفسير البغوي" ٣/ ٦٨. وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٤٣، "زاد المسير" ٢/ ٣٧٩.
(٦) لم أقف عليه، وهو بمعنى ما تقدمه وما تلاه.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨١.
(٨) المرجع السابق.
421
بمنزلة الوعد به لتعلق النفس به ورجائها له، ولذلك حق لا يضيع، قال الكلبي والسدي: (أن يأتي بالفتح) يعني: فتح مكة (١)، وقال الضحاك: فتح قرى اليهود (٢)، وقال قتادة: "بالقضاء الفصل" (٣)، وقال مقاتل: "يعني نصر محمد الذي أيسوا منه" (٤)، وقال الزجاج: فعسى الله أن يظهر المسلمين (٥).
وجمع ابن عباس هذه الأقوال في قوله فقال: "يريد بفتح الله تعالى لمحمد - ﷺ - على جميع من خالفه" (٦)، وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾، قال الكلبي والضحاك: خصب وسعة لمحمد - ﷺ - وأصحابه (٧). وهو اختيار الزجاج (٨) وابن قتيبة (٩).
وقال السدي: "الجزية" (١٠)، وقال مقاتل: "القتل والجلاء لليهود" (١١)، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: (أو أمر من عنده)
(١) أخرجه عن السدي: الطبري ٦/ ٢٨٠ وذكره عنهما البغوي ٣/ ٦٨. وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٩، "ابن كثير" ٢/ ٧٨.
(٢) البغوي ٣/ ٦٨.
(٣) "تفسير الطبري" ٦/ ٢٨٠، "تفسير البغوي" ٣/ ٦٨.
(٤) "تفسيره" ١/ ٤٨٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٦٨.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨١.
(٦) انظر: "الوسيط" ٢/ ١٩٧، "تفسير القرطبي" ٦/ ٢١٨، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧.
(٧) انظر: "الوسيط" ٢/ ١٩٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٦٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٧٩.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨١.
(٩) "غريب القرآن" ص ١٤٤، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٩.
(١٠) أخرجه الطبري ٦/ ٢٨٠، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ١٠١، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٩، "ابن كثير" ٢/ ٧٨.
(١١) "تفسيره" ١/ ٤٨٤، "الوسيط" ٢/ ١٩٨، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٩.
422
يريد فيه هلاكهم (١) فهذا يحتمل هلاك اليهود وهلاك المنافقين (٢)، وقال الحسن: "هو إطهار أمر المنافقين مع الأمر بقتلهم" (٣). وهو اختيار أبي إسحاق (٤) وقوله تعالى: ﴿فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾.
قال ابن عباس: "يريد ندامة على نفاقهم" (٥).
وقال الكلبي: ﴿فَيُصْبِحُوا﴾ يعني أهل النفاق على ما كان منهم من ولايتهم لليهود، ودس الأخبار إليهم (نادمين) (٦).
وقال قتادة: ﴿فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من مودتهم وغشهم الإسلام ﴿نَادِمِينَ﴾ (٧).
٥٣ - قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، اختلفوا في إدخال الواو في (يقول) فقرأ أهل الحجاز والشام: (يقول) بغير واو (٨)، وقرأ أهل العراق: (ويقول) بالواو (٩)، وحذف الواو ههنا كإثباتها، وذلك أن في الجملة المعطوفة ذكراً من المعطوف عليها، وهو أن الذين وصفوا بقوله:
(١) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧.
(٢) واختيار الطبري القول بالعموم. انظر: "تفسيره" ٦/ ٢٨٠.
(٣) لم أقف عليه. انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٧٩.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨١.
(٥) انظر: "الوسيط" ٢/ ١٩٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٧٩، "ابن كثير" ٢/ ٧٨، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧.
(٧) أخرجه الطبري ٦/ ٢٨٠، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٧٨.
(٨) قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي ٣/ ٢٢٩، "النشر" ٢/ ٢٥٤.
(٩) قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر، انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي ٣/ ٢٢٩، "النشر" ٢/ ٢٥٤.
423
(يسارعون فيهم) إلى آخر الآية، هم الذين قال فيهم المؤمنون: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾ الآية، فلما صار في كل واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى، حسن العطف بالواو وبغير الواو، كما أن قوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]، لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر مما تقدم اكتفى بذلك عن الواو؛ لأنها بملابسة بعضها ببعض ترتبط إحداهما (١) بالأخرى كما ترتبط بحرف العطف، ويدلك على حسن دخول الواو قوله: ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢].
فحذف الواو من قوله: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كحذفها من قوله: ﴿رَابِعُهُمْ﴾ وقوله: ﴿سَادِسُهُمْ﴾ وإلحاقها كإلحاقها في قوله: ﴿وَثَامِنُهُمْ﴾، وقد جاء التنزيل بالأمرين في غير موضع (٢)، واختلفوا أيضاً في إعراب: (ويقول) فقرأ أبو عمرو: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نصباً على معنى: وعسى أن يقول الذين آمنوا (٣)، وأما من رفع فإنه جعل الواو لعطف جملة على جملة، ولم يجعلها عاطفة على مفرد.
ويدل على قوة الرفع قولُ من حذف الواو فقال: (يقول الذين آمنوا) (٤).
قال الزجاج: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت، أي: في وقت يظهر الله نفاقهم (٥).
(١) في (ج) و (ش): (إحديهما).
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٣١ - ٢٣٢.
(٣) انظر: "الحجة" ٣/ ٢٣١.
(٤) "الحجة" ٣/ ٢٣١.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٢، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٦٩.
424
وقوله تعالى: ﴿أَهَؤُلَاءِ﴾، يعني: المنافقين، قاله ابن عباس، والكلبي (١)، ﴿أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾، قال عطاء: حلفوا ﴿بِاللهِ﴾ بأغلظ الأيمان (٢)، ونصب ﴿جَهْدَ﴾ لأنه مصدر، أي: جهدوا جهد أيمانهم، وقال أبو إسحاق: أي: يقول المؤمنون للذين باطنهم وظاهرهم واحد: أهؤلاء الذين حلفوا وأكدوا أيمانهم أنهم مؤمنون، وأنهم معكم وأعوانكم على من خالفكم. ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي: ذهب ما أظهروه من الإيمان، وبطل كل خير عملوه بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ١] (٣)، وقال الكلبي: "بطلت حسناتهم" (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٣]، قال عطاء عن ابن عباس: "خسروا الدنيا والآخرة، أما الدنيا فليس هم من الأنصار، وأما الآخرة فقرنهم الله مع الكفار" (٥).
وقال الكلبي: ﴿فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ مغبونين بأنفسهم ومنازلهم في الجنة، وصاروا إلى النار، وورثها المؤمنون (٦).
(١) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٨١.
(٢) ساقه المؤلف في الوسيط ٢/ ١٩٨ ابتداء دون نسبة. وكذا البغوي ٣/ ٦٩، ونسبه ابن الجوزي "زاد المسير" ٢/ ٣٨٠ لابن عباس.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨١، ١٨٢، انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٣، "تفسير البغوي" ٣/ ٦٩.
(٤) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) لم أقف عليه، انظر: "الوسيط" ٢/ ١٩٨.
425
٥٤ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾، وقرأ أهل الحجاز والشام: (يرتدد) بإظهار الدالين (١). قال الزجاج هو الأصل، لأن الثاني إذا سكن من المضاعف ظهر التضعيف نحو: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ [آل عمران: ١٤٠] ويجوز في اللغة: إن يمسكم (٢).
قال أبو علي (٣): من أظهرهما (٤) أن الحرف المدغم لا يكون إلا ساكناً، ولا يمكن إدغام الحرف الذي يدغم حتى يسكن، لأن اللسان يرتفع عن المدغم والمدغم فيه ارتفاعة واحدة، فإذا لم يسكن لم يرتفع اللسان ارتفاعة واحدة، وإذا لم يرتفع لم يمكن الإدغام، فإذا كان كذلك لم يسغ الإدغام في الساكن؛ لأن المدغم إذا كان ساكنًا والمدغم فيه كذلك التقى ساكنان، والتقاء الساكنين في الوصل من هذا النحو ليس من كلامهم، فلهذا أظهر من أظهر، وهو لغة أهل الحجاز (٥)، وأما من أدغم فإنه أسكن الحرف الأول للإدغام، فاجتمع ساكنان، فحرك بالفتح، ويجوز في اللغة التحريك بالكسر، فيقال: من يرتدِّ (٦).
قال أبو إسحاق: ويجوز في العربية في هذا الحرف ثلاثة أوجه "يرتدد" بدالين، و"يرتدَّ" بفتح الدال، و"يرتدِّ" بكسر الدال (٧).
(١) قراءة نافع وابن عامر، انظر: "الحجة" ٣/ ٢٣٢، "النشر" ٢/ ٢٥٥.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٢.
(٣) الفارسي في "الحجة للقراء السبعة".
(٤) في الحجة: "حجة من أظهرهما".
(٥) "الحجة" ٣/ ٢٣٢، ٢٣٣.
(٦) انظر: "الحجة" ٣/ ٢٣٣.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٢.
426
قال أبو علي: وهذا لغة تميم، وإنما أدغموا لأنهم شبهوا حركة البناء بحركة الإعراب، وذلك أنهم قد اتفقوا على إدغام المعرب نحو: يرتد، فلما وجدوا ما ليس بمعرب مشابهاً للمعرب في تعاور الحركات عليه تعاورها على المعرب، جعلوه بمنزلة المعرب فأدغموه كما أدغموا المعرب بيان هذا أن المعرب يتحرك أيضاً بحركتين (الرفع والنصب) (١) نحو: يرتَدُّ ويرتَدَّ، فشبهوا حركة البناء بحركة الإعراب، وهذا يدل على صحة ما ذهب إليه سيبويه من تشبيه حركة الإعراب بحركة البناء في التخفيف، نحو: أشربْ غير مستحقبٍ (٢).
شبه ر بْ غَ (٣) بفخذ وعضد وسبع، فخفف كما يخفف الفخذ والسبع، ألا ترى أن بني تميم شبهوا حركة البناء بحركة الإعراب في إدغامهم في الساكن المحرَّك بغير حركة إعراب، كذلك شبهوا حركة الإعراب بحركة البناء في نحو: أشربْ غير مستحقب... (٤).
وقد جاء التنزيل بالأمرين فقال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ [النساء: ١١٥].
وقال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأنفال: ١٣] (٥).
(١) ليس في: (ج).
(٢) من قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب... إثمًا من الله ولا واغل
المستحقب: المتكسب، والواغل الداخل على القوم يشربون ولم يدع، يقول هذا حين أخذ بالثأر من قتلة أبيه يزعم أن الخمر حلت له فلا يأثم بشربها وقد نذر ألا يشرب حتى يأخذ بالثأر. انظر كتاب سيبويه ٤/ ٢٠٤، وحاشية "الحجة للقراء السبعة" ١/ ١١٧.
(٣) (ر ب غ) من قوله: (أشربْ غير) من الشاهد.
(٤) سبق قريبًا.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٣٣، ٢٣٤ باختلاف يسير في بعض الألفاظ.
427
فأما التفسير فقال الحسن: علم الله تعالى أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم - ﷺ -، فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه (١).
واختلفوا في ذلك القوم من هم: فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن وقتادة والضحاك وابن جريج: هم أبو بكر - رضي الله عنه - وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومنكري الزكاة (٢).
قالت عائشة: مات رسول الله - ﷺ -، وارتدت العرب، واشرأب النفاق ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها (٣).
قال المفسرون: وذلك أن أهل الردة قالوا: أما الصلاة فنصلي، وأما الزكاة فلا نُغصَبُ أموالنا، فقال أبو بكر: لا أفرق بين ما جمع الله، قال الله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣]. والله لو منعوني عقالاً مما أدوا إلى رسول الله - ﷺ - لقاتلتهم عليه (٤).
والمناظرة التي جرت بينه وبين عمر في هذا معروفة (٥).
قال أنس بن مالك: كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة، وقالوا: أهل
(١) الأثر في الوسيط ٢/ ١٩٩، البغوي ٣/ ٦٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٠.
وأخرج الطبري ٦/ ٢٨٢ - ٢٨٣ من طرق عن الحسن أنه قال: نزلت في أبي بكر وأصحابه.
(٢) أخرج الآثار عنهم: الطبري ٦/ ٢٨٣ - ٢٨٤، وذكرهم البغوي ٣/ ١٦٩، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ٣٨١، والسيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٥١٧.
(٣) ذكره البغوي ٣/ ٧١.
(٤) أخرج الأثر بنحوه البخاري (١٤٠٠) كتاب الزكاة/ باب: وجوب الزكاة. ومسلم (٢٠) كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.
(٥) جاء منصوصًا عليها في الأثر السابق في البخاري ومسلم.
428
القبلة. فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بُدّاً من الخروج على أثره (١).
وقال ابن مسعود: كرهنا ذلك، وحمدناه في الانتهاء ورأينا ذلك رشداً (٢).
وقال ابن عباس: فجاهدهم أبو بكر بالسيف (٣)، فإن قيل: إن قوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾ يوجب أن يكون ذلك القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب، وأبو بكر ممن كان في ذلك الوقت؟
قيل: إن من قاتل أبو بكر بهم (٤) أهل الردة لم يكونوا في ذلك الوقت.
قال قتادة: "بعث الله عصائب مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله، حتى سَبى وقتل وأحرق بالنار ناساً ارتدوا من الإسلام ومنعوا الزكاة" (٥).
وقال الكلبي: "أتى الله بخير من الذين ارتدوا فشدد بهم (الدين) (٦)، وهم أحياء من كندة وبجيلة خمسة ألاف (٧)، وألفان من النَخَع، وثلاثة آلاف من أفناء (٨) الناس" (٩).
(١) ذكره البغوي ٣/ ٦٩ وابن الجوزي "زاد المسير" ٢/ ٣٨١.
(٢) ذكره البغوي ٣/ ٧٠.
(٣) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٣، ٤٤٤.
(٤) في (ج) بعد "بهم" زيادة: "هم"، وهذه الزيادة تقلب المعنى رأسًا على عقب.
(٥) أخرجه الطبري ٦/ ٢٨٣.
(٦) في (ج): (الذين).
(٧) في النسختين: (ألف).
(٨) هكذا في النسختين بالنون، وفي البغوي ٣/ ٧١ بالياء (أفياء) وقد يكون أصوب جمع فئة تجوزًا، وإن كانت فئة تجمع على "فئون وفئات". انظر: "الصحاح" ١/ ٦٣ (فيأ).
(٩) ذكره البغوي ٣/ ٧١.
429
فهؤلاء قاتلوا أهل الردة بأمر أبي بكر، فحمدوا بطاعتهم له وانتهائهم إلى أمره، فليس يخرج أبو بكر عن أن يكون منهم، ثم الآية تتناول بعمومها كل من يكون منهم، ثم الآية تتناول بعمومها كل من يكون بعدهم إلى قيام الساعة، ممن يجاهد أهل الشرك والكفر والردة في سبيل الله.
وقوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، بدأ بمحبته لأنها الجالبة والموجبة لمحبتهم، ولا يحب الله إلا من أحبه الله، ولولا محبة الله إياهم ما أحبوه، فهذا طريق في تفسير هذه الآية، وروي مرفوعاً أن النبي - ﷺ - لما نزلت هذه الآية (أومأ) (١) إلى أبي موسى الأشعري فقال: "هم قوم هذا" (٢).
أخبرناه الأستاذ أبو إبراهيم إسماعيل بن أبي القاسم النصر اباذي، أخبرنا الإِمام أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب، حدثنا أبو عَمرو الحوضي، حدثنا شعبة، عن سماك، عن عياض الأشعري قال: لما نزلت هذه الآية (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) قال رسول الله - ﷺ -: "هم قوم هذا". يعني أبا موسى الأشعري. أخرجه الحاكم في المستدرك (٣) عن ابن السماك، حدثنا عبد الملك بن محمد، حدثنا وهب بن جرير عن شعبة، وتفسير النبي - ﷺ - أولى بالاتباع، وإذا كان
(١) في (ج): (اومى).
قال ابن منظور: "وأومأَ تومأَ، ولا تقل: أوميت. الليت:
الإيماء أن تومئ برأسك أو بيدك " اللسان ١/ ٢٠١ (ومأ).
(٢) الطبري ١٠/ ٤١٥، وسيأتي تخريج الحديث.
(٣) ٢/ ٣١٣ وصححه على شرط مسلم، كما أخرجه الطبري ٦/ ٢٨٤، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٥١٨ إلى ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
430
قد فسر الآية وبين أن المراد بالقوم المذكور فيها الأشعرية، فليست إلا الفرقة المعروفة بالأشعرية الذين ينتسبون في مذهبهم إلى أبي الحسن الأشعري (١).
وكان -رحمه الله- من صُلبَيهِ (٢) نسب أبي موسى، فإنه علي بن إسماعيل ابن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري (٣)، أتى الله به فجاهد أهل البدع الذين ارتدوا عن سنن الصحابة وسنة النبي - ﷺ - في المسائل المشهورة من أصول الدين التي لم يقع فيها خلاف زمن الصحابة كمسألة القدر (٤)، وخلق الأعمال (٥)، ورؤية الله تعالى في الجنة (٦)، وما أشبهها، فنصرها وأوضح أدلتها، ونفى الشبه وأبطلها، فكل من انتحل مذهبه فهو من جملة قومه الذين قال النبي - ﷺ - في إشارته إلى أبي موسى: "هم قوم هذا" (٧)، لأن قوم
(١) الجزم بذلك فيه نظر، فإن قوم أبي موسى لا ينحصر في ذريته وأصل ذريته قبل نشأة أبي الحسن رحمه الله، والأشعرية فرقة خالفت أهل السنة في كثير من مسائل العقيدة كالتأويل في الصفات وغير ذلك، على أن الأشاعرة لم يتابعوا الأشعري في جميع المسائل وإنما اشتهروا بالانتساب إليه!
(٢) هكذا في النسختين، وقد جاءت مشكولة في: (ش)، وفيها إشكال.
(٣) هكذا نسبه الذهبي وأن مولده سنة ٢٦٠ هـ وقيل ٧٠ هـ، وقال عنه العلامة، إمام المتكلمين، توفي سنة ٣٢٤ هـ كان على مذهب المعتزلة ثم رجع عنه ورد عليهم. وله مصنفات كثيرة.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١/ ٨٥ - ٩٠، والبداية والنهاية ١١/ ١٨٧.
(٤) انظر: "مقالات الإسلاميين" لأبي الحسن الأشعري ص ٢٢٧ - ٢٤٠.
(٥) انظر: "مقالات الإسلاميين" ص ١٩٥، ٢٣٨.
(٦) انظر: "مقالات الإسلاميين" ص ١٥٧، ٢١٧.
(٧) سبق تخريجه قريبًا.
431
الرجل أتباعه المقتدون به، لا أنسباؤه وأقاربه، ألا ترى أن في التنزيل كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به أتباعهم الذين آمنوا بهم، لا أنسباؤهم، كقوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ الآية [الأعراف: ١٥٩].
وقوله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.
قال ابن عباس: "تراهم للمؤمنين كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته" (١).
وهذا كقوله تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩].
وقال ابن الأعرابي فيما روى عنه أبو العباس (٢): معنى قوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ رحماء رفيقين بالمؤمنين ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ غلاظ شداد عليهم (٣).
وقال ابن الأنباري: أثنى الله تعالى على هؤلاء المؤمنين بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم، ويعنفون بالكافرين ويلقونهم بالغلظة والفظاظة، وقال أبو إسحاق في هذه الآية: الفاء في قوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ﴾ جواب الجزاء، أي إن ارتد أحد عن دينه الذي هو الإيمان فسوف يأتي الله بقوم مؤمنين غير منافقين (٤).
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي جانبهم لين على المؤمنين، ليس أنهم أذلة مهانون (٥).
(١) في "بحر العلوم" ١/ ٤٤٤ نسبه لعلي بن أبي طالب، في البغوي ٣/ ٧٢ لكن نسبه لعطاء! ولم أقف عليه عن ابن عباس.
(٢) الظاهر أنه المبرد، محمد بن يزيد.
(٣) من "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٩٠ مادة (ذل).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٢، ١٨٣.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٣، والكلام متصل للزجاج.
432
﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أي: جانبهم غليظ على الكافرين (١)، ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ لأن المنافقين كانوا يراقبون الكفار، ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم الله عز وجل أن صحيح الإيمان لا يخاف في نصرة الدين بيده ولسانه لومة لائم، ثم أعلم أن ذلك لا يكون إلا بتسديده وتوفيقه فقال: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي محبتهم لله عز وجل ولين جانبهم للمسلمين، وشدتهم على الكافرين، تفضل من الله عز وجل عليهم، لا توفيق لهم إلا به (٢).
٥٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ الآية، اختلفت الروايات عن ابن عباس في نزول هذه الآية، فقال في رواية العوفي: إنها نازلة في قصة عبد الله بن أبيّ حين تولى اليهودَ، وعبادةَ بنِ الصامت حين تبرأ منهم وقال: أنا أبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير، وأتولى الله ورسوله والذين آمنوا (٣).
وقال جابر بن عبد الله: إن اليهود هجروا من أسلم منهم، لم يجالسوهم، فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء (٤)، فعلى
(١) المرجع السابق.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ١٨٣، انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٤، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٢، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٢.
(٣) سبق تخريج سبب النزول عند تفسير الآية (٥١)، انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٢.
(٤) أخرجه المؤلف في أسباب النزول. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير ٢/ ٣٨٢.
433
هذا الآية عامة في جميع المؤمنين، فكل مؤمن ولي لكل مؤمن، لقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١].
والذي ذكر من قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ إلى آخر الآية صفة لكل مؤمن، وهو قول الحسن في هذه الآية والضحاك (١)، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾.
قال الزجاج: إقامتها: إتمامها بجميع فروضها، وأول فروضها صحة الإيمان بها (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: ٥٥].
قال ابن عباس: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ المفروضة ﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ يعني صلاة التطوع بالليل والنهار (٣)، وعلى هذا إنما أفرد الركوع بالذكر تشريفاً له (٤)، وقال بعض أهل المعاني: إنهم كانوا في وقت نزول الآية على هذه الصفة، منهم (من) (٥) قد أتم الصلاة، ومنهم من هو راكع في الصلاة (٦)، فهذا على قول من جعل الآية عامة في كل مؤمن، ومنهم من قال: الآية خاصة.
قال ابن عباس في رواية عكرمة: نزل قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
(١) نسبه الماوردي للحسن والسدي "النكت والعيون" ٢/ ٤٨، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٨٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٣.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٨٤، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٨٤.
(٥) ليست في (ج).
(٦) انظر "النكت والعيون" ٢/ ٤٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٤.
434
وَالَّذِينَ آمَنُوا} في أبي بكر - رضي الله عنه - (١).
وقال في رواية عطاء: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ يريد علي بن أبي طالب (٢).
وعلى هذا قوله: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ قال عبد الله بن سلام (٣): يا رسول الله: إنا رأينا علياً تصدق بخاتمه وهو راكع على محتاج، فنحن نتولاه (٤)، وقال أبو ذر: "أما إني صليت مع رسول الله - ﷺ - يوماً من الأيام صلاة الظهر، فسأل السائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم أُشهدك أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً. وعلي كان راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين النبي - ﷺ -، فلما فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: "اللهم إن أخي موسى سألك فقال: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ إلى قوله: ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ [طه: ٢٥ - ٣٢] فأنزلت فيه قرآناً ناطقاً: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾ [القصص: ٣٥] اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياً أشدد به ظهري"، قال أبو ذر:
(١) لم أقف عليه عن ابن عباس من رواية عكرمة، لكن من رواية الكلبي، وهو متروك. انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٧. وقد نسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ٣٨٣ لعكرمة.
(٢) وكذا هذا الأثر من رواية عطاء لم أقف عليه! لكن جاء من طرق أخرى كما في: "لباب النقول" ص ٩٣، "الدر المنثور" ٢/ ٥١٩ - ٥٢٠، وسيأتي الكلام على هذا الأثر عند آخر سياق المؤلف له.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ج).
(٤) لم أقف عليه.
435
فوالله ما استتم رسول الله - ﷺ - الكلمة حتى نزل جبريل فقال: يا محمد اقرأ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ﴾ إلى آخرها (١).
وهذا قول مجاهد والسدي وعتبة بن أبي حكيم (٢) والكلبي.
قال الكلبي: أذن بلال فخرج رسول الله - ﷺ - والناس بين ساجد وراكع، فإذا هو بسائل يطوف ومعه خاتم، فقال: "من أعطاك هذا" فأشار إلى علي وهو راكع، فنزلت هذه الآية، فلما قرأها رسول الله - ﷺ - قالوا: كلنا يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، فلما قرأ: ﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ علموا أنه خاص لعلي (٣).
وقال أهل العلم في هذه الآية: إنها تدل على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة، وأن دفع الزكاة إلى السائل في الصلاة جائز مع نية الزكاة، ونية الزكاة لا تنافي الصلاة (٤).
(١) لم أقف عليه، حتى المؤلف لم يذكره في أسباب النزول وفيه غرابة.
(٢) الآثار عن مجاهد والسدي وعتبة أخرجها الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٨٨ - ٢٨٩.
(٣) أخرجه ابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٠.
وانظر: "بحر العلوم" للسمرقندي ١/ ٤٤٥.
وهذا الأثر في سبب نزول الآية جاء بأسانيد ضعيفة بل بعضها واه كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق هذا الأثر:
وهذا إسناد لا يفرح به؛ لأنه من رواية الكلبي ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نفسه، وعمار بن ياسر، وأبي رافع، وليس يصح شيء منها بالكلية؛ لضعف أسانيدها وجهالة رجالها "تفسير ابن كثير" ٢/ ٨١.
(٤) قال ابن كثير رحمه الله: وأما قوله: ﴿وهم راكعون﴾ فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله ﴿ويؤتون الزكاة﴾ أي في حال ركوعهم، ولو كان كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء مما نعلمه من أئمة الفتوى... "تفسير ابن كثير" ٢/ ٨١.
436
وقال المفسرون: وهذا وإن كان نزوله وافق عليًّا، فإنه عام في كل مؤمن، كما روى هشام، عن عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي (١) عن قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ من هم؟ قال: هم المؤمنون. قلت: فإن ناساً يقولون: هو علي. قال: فعليٌّ من الذين آمنوا (٢).
٥٦ - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾.
معناه: من يتول القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين.
قال ابن عباس: "يريد المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من بعدهم" (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: ٥٦]، جملة واقعة موقع خبر المبتدأ، والعائد إلى الابتداء معناها، لأن المعنى: فهو غالب، وفيها جواب للشرط ولذلك دخلت الفاء (٤)، ومعنى الحزب في اللغة: أصحاب الرجل الذين معه على رأيه، فالمؤمنون حزب الله، والكافرون حزب الشيطان (٥)، وقال الفراء: الحزب: الصنف من الناس (٦).
وقال ابن الأعرابي: الحزب: الجماعة (٧)، هذا قول أهل اللغة في
(١) زين العابدين، محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
(٢) أخرجه الطبري ٦/ ٢٨٨، وذكره ابن كثير ٢/ ٨١.
(٣) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٠٢، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٣، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٣.
(٤) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٠٦.
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٨٠٠ (حزب) ونسبه لليث، انظر: "الصحاح" ١/ ١٠٩ (حزب).
(٦) من "تهذيب اللغة" نقلًا عن الفراء ١/ ٨٠١ (حزب).
(٧) "تهذيب اللغة" عنه ١/ ٨٠١ (حزب).
معنى الحزب، وقال الحسن: ﴿حِزْبَ اللَّهِ﴾ جند الله (١)، وقال غيره: أنصار الله (٢)، وقال أبو روق: "أولياء الله" (٣)، وقال أبو العالية: "شيعته" (٤)، وقال الأخفش: حزب الله الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم (٥).
وقال الكلبي في قوله: ﴿هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ "فقتلوا اليهود وأجلوهم من ديارهم، وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولوا الله ورسوله والذين آمنوا" (٦).
٥٧ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا﴾،
قال ابن عباس: "كان رجال من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكان ناس من المسلمين يوادونهم، فأنزل الله هذه الآية" (٧)، فعلى هذا معنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم: إظهارهم ذلك باللسان، واستبطانهم الكفر، كما وصف المنافقون بمثل هذا في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤].
ويجوز أن يكون استهزاؤهم من غير هذا الوجه، وهو تكذيبهم واستخفافهم به كاستهزاء الكفار، وهذا فيمن لم يظهر الإيمان باللسان، ذكرنا معنى الهزء عند قوله تعالى: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧]، والمراد
(١) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٠٢، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٤.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٣، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٤.
(٣) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٠٢.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) ليس في "معاني القرآن"، انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٥.
(٦) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٠٢.
(٧) أخرجه بمعناه الطبري ٦/ ٢٩٠، وابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر: تفسير "الدر المنثور" ٢/ ٥٢١.
438
بالمصدر ههنا: المفعول، وقوله تعالى: ﴿وَالْكُفَّارَ﴾، قرئ جراً ونصباً، فمن جر فلأن لغة التنزيل الحمل على أقرب العاملين، وقد بينا ذلك، فحمل على عامل الجر من حيث كان أقرب من عامل النصب (١)، فهذا من طريق الإعراب.
وأما من طريق المعنى فإن من جر (الكفار) عطفه (٢) على الصلة، وحَسُنَ ذلك، لأن فرق الكفار الثلاث: المشرك، والمنافق، والكتابي الذي لم يسلم، قد كان منهم الهزء جميعاً، فساغ لذلك أن يكون الكفار تفسيراً للموصول وموضحاً له، والدليل (٣) على استهزاء المشركين قوله: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الحجر: ٩٥ - ٩٦]. وذكرنا استهزاء المنافقين (٤)، والدليل على استهزاء الكتابي الذي لم يسلم هذه الآية، ولو فسر الموصول بالكفار لعم الفرق الثلاث، لأن اسم الكفر يشملهم بدليل قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [البينة: ١]. وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [الحشر: ١١]، ولكن (الكفار) (٥) كأنه على المشركين أغلب، فلذلك فصل ذكر الكتابي من الكافر.
وحجة هذه القراءة من التنزيل قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٣٤. ونسب القراءة لأبي عمرو والكسائي.
(٢) في (ج): (وعطفه).
(٣) في الحجة: "فالدليل".
(٤) تقدم قريبًا عند الكلام على أول تفسير الآية هذه، واستدلال المؤلف بآية البقرة. وقد ساقها في الحجة.
(٥) أي إطلاق لفظ "الكفار".
439
أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: ١٠٥] اتفقوا على جر (المشركين) عطفاً على أهل الكتاب، ولم يعطف على العامل الرافع، إن جاز ذلك (١).
وأما من نصب فحجته قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ [آل عمران: ٢٨] فكما وقع النهي عن اتخاذ الكفار في هذه الآية كذلك ههنا عطف الكفار على معمول الاتخاذ، فكأنه قال: لا تتخذوا الكفار أولياء (٢)، والمراد بالكفار كل كافر من غير أهل الكتاب، قال عطاء: "هم كفار مكة وغيرهم" (٣)، وقال الحسن: "هم مشركو العرب" (٤).
فالقول الأول عموم، وقول الحسن يدل على أن مشركي العرب هم المقصود بالكلام خصوصاً (٥)، ولكن يدخل غيرهم في حكمهم بما صحب الكلام من الدليل.
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٥٧]، أي إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده فاتقوا الله، ولا تتخذوا منهم أولياء. هذا قول ابن عباس فيما روى عنه عطاء (٦)، قال في قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: إذ يأمر الله سبحانه أولياءه وأهل طاعته بتركهم (٧)، وقال أهل المعاني: المعنى
(١) من "الحجة" ٣/ ٢٣٤ - ٢٣٦ بتصرف -ولا يزال ينقل منه في الكلام على قراءة النصب الآتية.
(٢) من الحجة ٣/ ٢٣٦ بتصرف يسير.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) اختار الطبري أنهم المشركون من عبدة الأوثان، واحتج بقراءة لابن مسعود - رضي الله عنه - انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩١.
(٦) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٥، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٥.
(٧) لم أقف على الأثر عن ابن عباس.
440
فيه أن من كان مؤمناً غضب لإيمانه على من طعن فيه، وكافأه بما يستحقه من المقت له (١).
٥٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا﴾.
أي: دعوتم الناس إليها بالأذان (٢).
والنداء: الدعاء برفع الصوت، وندى الصوت: بعد مذهبه (٣)، ومنه قوله - ﷺ - لصاحب الرؤيا بالأذان: "ألقها على بلال، فإنه أندى صوتاً منك" (٤).
وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا﴾، ذكر أهل المعاني فيه قولين: أحدهما: أنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون، تجهيلاً لأهلها وتنفيراً للناس عنها وعن الداعي إليها (٥).
وهذا معنى قول الكلبي قال: كان إذا نادي منادي رسول الله - ﷺ - إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم سجدوا أو ركعوا استهزؤوا وضحكوا منهم (٦).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩١.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩١، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٥.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٣٨ (ندأ).
(٤) هذا الحديث في كيفية الأذان ورؤيا عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - في ذلك. أخرجه، وأبو داود (٤٩٩) كتاب الصلاة، باب: كيف الأذان، والترمذي (١٨٩)، كتاب: الصلاة، باب: بدء الأذان، وابن ماجه (٧٠٦) كتاب: الأذان، باب: بدء الأذان، وأحمد في "مسنده" ٤/ ٤٣.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩١، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٦.
(٦) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٤، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٥، ٣٨٦، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" إلى البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهي طريق واهية "الدر المنثور" ٢/ ٥٢١.
القول الثاني: أنهم كانوا يرون المنادي إليها بمنزلة اللاعب أو الهازي الكاذب، جهلاً عنهم بها.
وهذا معنى قول السدي في هذه الآية: "أن رجلاً من النصارى بالمدينة كلما سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله. يقول: حُرِّق الكاذب، فدخل خادمه بنار ذات ليلة، فتطايرت منها شرارة في البيت، فاحترق هو وأهله (١).
وقوله تعالى: ﴿هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ مصدران يراد بهما المفعول.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: ٥٨] أي: لا يعقلون ما لهم في إجابتهم لو (٢) أجابوا إليها، وما عليهم في استهزائهم بها (٣)، وقيل: إنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح، ويردعه عن الفواحش، وقال الكلبي: لا يعقلون أمر الله (٤).
٥٩ - قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ الآية. قال ابن عباس: "إن نفراً من اليهود أتوا رسول الله - ﷺ - فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال: "أؤمن باللهِ وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٣] فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم،
(١) أخرجه الطبري ٦/ ٢٩١، وعزاه السيوطي أيضًا إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ "الدر المنثور" ٢/ ٥٢١. وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٤، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٦، "تفسير ابن كثير" ٢/ ٨٢.
(٢) في (ج): (ولو).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩١، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٦.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٨.
442
ولا ديناً شرًّا من دينكم، فأنزل الله هذه الآية وما بعدها" (١).
وقوله تعالى: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ يقال: نَقَمتُ على الرجل أَنْقِمُ ونَقِمْتُ عليه أَنْقَمُ، والأجود فتح الماضي، وهو الأكثر في القراءة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾ [البروج: ٨].
ومعنى نقَمت: بالغت في كراهة الشيء (٢)، فمعنى (تنقمون) أي: تكرهون وتنكرون.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٥٩]، فقال كيف ينقم اليهود على المسلمين فسق أكثرهم.
قال أبو إسحاق: المعنى: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقكم، أي إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق؛ لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرئاسة وكسبكم بها الأموال (٣).
وهذا معنى قول الحسن: لفسقكم نقمتم علينا ذلك (٤).
قال صاحب النظم (٥): فعلى هذا يجب أن يكون موضع "أنّ" في قوله: (وأن أكثركم) نصباً بإضمار اللام، على تأويل: ولأن أكثركم
(١) أخرجه الطبري ٦/ ٢٩٢ بنحوه، وعزاه السيوطي أيضًا إلى ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ كما في "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٢. وذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٠٣.
(٢) هذا الكلام من أوله للزجاج في: "معاني القرآن" ٢/ ١٨٦، ونقله الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٥٤ (نقم).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٦، ١٨٧، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٥، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٧.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٨٧.
(٥) أبو علي الجرجاني تقدمت ترجمته.
443
فاسقون، أي: تنقمون منا ذلك لأن أكثركم فاسقون. والواو زائدة (١) كما زيدت في غيرها من المواضع (٢).
وقال غيره: إنما نقموا على المسلمين فسقهم؛ لأنهم لم يتابعوهم عليه.
وقال بعضهم: لما ذكر ما نقم اليهود عليهم من الإيمان بجميع الرسل، وليس هو مما يُنقم، ذكر في مقابلته فسقهم وهو مما يُنقم، ومثل هذا حسن في الازدواج، يقول القائل: هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر، وإلا أني غني وأنت فقير، فحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة.
ومعنى: ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي خارجون عن أمر الله طلباً للرئاسة وحسداً على منزلة النبوة (٣).
والمراد بالأكثر: من لم يؤمن منهم؛ لأن قليلاً من أهل الكتاب آمن.
وذكر أبو علي الجرجاني قولاً آخر في قوله: ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ قال: تجعله منظوماً بقوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ على تأويل: آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون، فيكون موضع (أن) خفضاً بالياء.
٦٠ - قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً﴾، هذا جواب لليهود حين قالوا: ما نعرف ديناً شراً من دينكم. كما حكينا (٤)، يقول الله تعالى لنبيه قل لليهود: هل أخبركم بشر مما نقمتم من إيماننا ثواباً، أي:
(١) في (ج): (والوا زائدة).
(٢) تقدم أن بعض المحققين كالحافظ ابن كثير رحمه الله نبهوا على خطأ مثل هذا التعبير، فلا ينبغي أن يقال: إن في القرآن زائدًا.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٧.
(٤) في سبب نزول الآية السابقة.
444
جزاءً (١)، وقيل: شر من الذين طعنتم عليهم من المسلمين (٢)، و (مثوبةً) نصب على التمييز (٣)، ووزنها: مفعولة، كقولك: مَقُولة، ومَجُورة (٤)، وهي بمعنى المصدر، وقد جاءت مصادر على مفعول، كالمعقول والميسور. وقيل: هي مَفْعُلة مثل: مَكْرُمة.
مضى الكلام في المثوبة في غير هذا الموضع (٥)، وقوله تعالى: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ﴾، (من) يجوز أن يكون في موضع خفض بدلاً من (شر) والمعنى: أنبئكم بمن لعنه الله.
ويجوز أن يكون رفعاً بالاستئناف. قاله الفراء (٦)، وقال الزجاج: من رفع رفع بإضمار "هو" كأن قائلاً قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنة الله، كما قال عز وجل: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ﴾ [الحج: ٧٢] كأنه قال: هو النار (٧).
وقال الفراء: لو نصبت (من) بوقوع الإنباء عليه، كما تقول: أنبأتك خبراً، وأنبأتك زيداً قائماً، جاز، والوجه الخفض (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾، قال المفسرون: يعني بـ
(١) انظر:"تفسير البغوي" ٣/ ٧٥.
(٢) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٦.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٧، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٥.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩٢، "إعراب القرآن للنحاس" ١/ ٥٠٧.
(٥) يحتمل عند قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ (١٠٣) سورة البقرة.
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٣١٤، انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٨٧.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٧.
(٨) "معاني القرآن" ١/ ٣١٤.
445
(القردة) أصحاب السبت وبـ (الخنازير) كفار مائدة عيسى (١)، وروى الوالبي عن ابن عباس أن المسخين من أصحاب السبت؛ لأن شبابهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير (٢)، وقوله تعالى: ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾، قال الفراء: تأويله وجعل منهم القردة ومَن عبد الطاغوت (٣)، فعلى هذا الموصول محذوف، وذلك لا يجوز عند البصريين، وقال الزجاج: (عَبَدَ) نسق على (لعنه الله)، المعنى: من لعنه الله وعبد الطاغوت (٤).
قال ابن الأنباري: وتأخره بعد القردة والخنازير لا يُزيله عن معناه المعروف له، والعرب تقول: قد جعل منكم زيدٌ من بني (٥) الدور، واتخذ الأموال والعقار، وعَلِمَ فنون العلم، فيردون "علم" على الفعل الملاصق لِمَنْ وإن تطاول الكلام.
وقال أبو علي: قوله (عبد الطاغوت) عطف على مثال الماضي الذي في الصلة وهو قوله: (لعنه الله وغضب عليه)، وأفرد الضمير في (عَبَدَ) وإن كان المعنى على الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظ (مَنْ) دون معناه (٦)، قال ابن عباس في قوله: (وعبد الطاغوت): "يريد كفرهم بالله، وطاعنهم للشيطان، وهو الطاغوت" (٧)، قال الزجاج: تأويل (عبد الطاغوت) أطاعة
(١) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٥، "زاد المسير" ٢/ ٣٨٧.
(٢) "تفسير البغوي" ٣/ ٧٥، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٨٧.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٣١٤.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٩.
(٥) في (ج)، (ش): (بنا).
(٦) الحجة ٣/ ٢٣٨.
(٧) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٥.
446
فيما سول له وأغواه (به) (١). فلما أطاعوه طاعة المعبود جُعِلَ ذلك عبادة (٢)، وقرأ حمزة (وعَبُدَ) بضم الباء (الطاغوتِ) بالكسر (٣).
قال الفراء: وكان أصحاب عبد الله يقرأون: (وعَبُدَ الطاغوتِ) على (فَعَل) ويضيفونها إلي الطاغوت، ويفسرونها: خدم الطاغوت (٤).
قال الزجاج: وهذه القراءة ليس بالوجه، لأن (عَبُدَ) على: فَعُلَ، وليس هذا من أمثلة الجمع (٥)، وقال أبو بكر: عَبُدَ معناه عَبْدٌ، فضمت الباء للمبالغة، كقولهم للفَطِن فَطُنٌ، وللحَذِر: حَذُرٌ. يضمون العين للمبالغة.
قال أوس بن حُجْر:
أبني لُبَينَى إنَّ أُمَّكُمُ أَمةٌ وإن أباكُمُ عَبُدُ (٦)
أراد عبداً فضم الباء (٧)، قال الفراء: وذلك إنما يجوز في ضرورة الشعر، فأما في القراءة فلا (٨).
وقال نُصيَر الرازي (٩): عَبُدَ وهم ممن قرأه، ولسنا نعرف ذلك في العربية (١٠)، قال أبو إسحاق: ووجه قراءة حمزة: أن الاسم على: فَعُلَ،
(١) ليس في (ش).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٧.
(٣) الحجة ٣/ ٢٣٦، انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٨٧.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٣١٤.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٧، ١٨٨.
(٦) البيت في: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣١٥، و"تفسير الطبري" ٦/ ٢٩٤، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٠٢ (عبد)، "اللسان" ٥/ ٢٧٧٨ (عبد).
(٧) "الزاهر" لأبي بكر بن الأنباري ١/ ٣٧٤، انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٨٨.
(٨) "معاني القرآن" ١/ ٣١٥.
(٩) لم أقف على ترجمة له.
(١٠) من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٠٢ (عبد).
447
كما تقول: رجل حَذُر، وتأويله أنه مبالغ في الحذر، فتأويل: (عَبُدَ) أن بلغ الغاية في طاعة الشيطان، وكأن اللفظ لفظ واحد يدل على الجميع، كما تقول للقوم: منكم عَبُدُ العصا، تريد عَبِيدُ العصا (١).
وتتبع أبو علي هذا القول فشرحه وزاده بيانًا فقال: حجة حمزة أنه يحمله على ما عمل فيه جعل، كأنه: وجعل منهم عَبُدَ الطاغوت، وليس عَبُدَ لفظ جمع؛ لأنه ليس في أبنية المجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد، ومعناه الجمع، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ﴾ [النحل: ١٨] كذلك قوله: (وعبُدَ الطاغوت) جاء على: فَعُلَ، لأن هذا البناء يراد به المبالغة نحو: يَقُظ ونَدُس، فكأن تأويله أنه قد ذهب في عبادة الطاغوت والتذلل له كل مذهب، وجاء هذا البناء في (عبُدَ) لأنه في الأصل صفة وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يزيل عنه كونه صفة، كالأبرق والأبطح، فإنهما استعملا استعمال الأسماء حتى جمعا جمعها وهو: الأبارق والأباطح، كالأجادل في جمع الأجدل، ونحوه، ثم لم يُزِل عنه ذلك حكم الصفة، يدلك على ذلك تركهم لصرفه كتركهم صرف "أحمر"، إذ لم يخرج "العبد" عن أن يكون صفة لم يمتنع أن يُبنى بناء الصفات على: فَعُل، نحو: لَفُظ (٢) (٣).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾، أي: أهل هذه الصفة (٤).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٨.
(٢) هكذا في (ج) و (ش)، وفي الحجة: "يقظ".
(٣) الحجة ٣/ ٢٣٦ - ٢٣٨ بتصرف.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩٠، "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٩.
448
﴿شَرٌّ مَكَانًا﴾ من المؤمنين (١). قال ابن عباس: "لأن مكانهم سقر" (٢). ولا شر في مكان المؤمنين حتى يقال: اليهود شر مكانًا منهم، ولكن هذا على الإنصاف في الخطاب، والمظاهرة في الحجاج، كأنه مبني على كلام الخصم، وكذلك قوله: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً﴾ لأنهم قالوا: لا نعرف أهل دين شرًا منكم، فقيل لهم: شر منهم من كان بهذه الصفة، ومن كان بهذه الصفة فهو شر مكانًا ممن جعلتموهم شرًّا، ووصفتموهم به (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٦٠] قال الزجاج: أي: عن قصد السبيل (٤). وقال ابن عباس: "يعني دين الحنيفية" (٥). قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية عير المسلمون أهل الكتاب وقالوا: يا إخوان القردة والخنازير، فنكسوا رؤوسهم وافتضحوا.
٦١ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ الآية، قال الكلبي: "يعني اليهود، يقولون: صدقنا أنك رسول الله إذا دخلوا عليه، وهم يسرون الكفر" (٦).
وقال ابن زيد: هؤلاء هم الذين قالوا: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ [آل عمران: ٧٢]، (٧)، ومعنى: ﴿وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ﴾
(١) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩٠.
(٢) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٥.
(٣) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٥، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٠.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٩.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) ذكره في "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٥، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٨.
(٧) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٥.
449
و ﴿خَرَجُوا بِهِ﴾ أي: دخلوا وخرجوا كافرين، والكفر معهم في كلتي حاليهم (١)، وهذا كما تقول: خرج زيد بثيابه، أي: وثيابه عليه، وركب البعير بسيفه، أي: وسيفه معه، وكما أنشده الأصمعي:
ومُستنةٍ كاستِنَانِ الخروف قد قَطَعَ الحبلَ بالمِرْوَدِ (٢)
أي: قد قطع الحبل ومروده فيه، وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ: ﴿تُنْبِتُ (٣) بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون: ٢٠] أي تنبت ما تنبته والدهن فيه. وهذا معنى قول ابن عباس في هذه الآية (٤)، والجار في موضع نصب على الحال في هذا التقدير، أي يدخلون ويخرجون والكفر في قلوبهم (٥)، ومعنى قد في قلوبهم: ﴿وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ﴾ تقريب الماضي من الحال، يريد أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين (٦)، وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ أكد الكلام بالضمير تعيينًا إياهم بالكفر، وتمييزًا لهم عن غيرهم بهذه الصفة.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ [المائدة: ٦١]، أي: من نفاقهم إذا أظهروا (٧) بألسنتهم خلاف ما أضمروا في قلوبهم، فبين
(١) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٥، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٥، "زاد المسير" ٢/ ٣٩١.
(٢) البيت لرجل من بني الحارِث، وهو في الكامل للمبرد ٢/ ١٣٥، و"المحتسب" ٢/ ٨٨، و"اللسان" ٢/ ١١٤٠ (خرف) وفيه: "وقوله: مستنة يعني طعنة فاردمها باستنان. والاستنان والسن: المر على وجهه، يريد أن دمها مر على وجهه كما يمي المُهرُ الأرِن". والمرود: "حديدة توتد في الأرض يشد بها حبل الدابة، كما في حاشية الكامل.
(٣) بضم التاء (تُنْبِتُ) قراءة ابن كثير وأبي عمرو، انظر: "حجة القراءات" ص ٤٨٤.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٠٨.
(٦) انظر: "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٢/ ٣٣٣، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٧.
(٧) في (ج): (أظهروه).
450
أمرهم (١).
٦٢ - قوله تعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، قال الكلبي: لم يكن كلهم يفعل ذلك، كان بعضهم يسارع في ذلك، وبعضهم يستحي فيكف (٢)، ومعنى: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ﴾ يبادرون إليه كالمبادرة إلى الحق، قال أهل المعاني: أكثر ما تستعمل المسارعة في الخير، كقوله تعالى: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [الأنبياء: ٩٠]، وقوله: ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [المؤمنون: ٥٦]، وفائدة لفظ المسارعة ههنا وإن كان لفظ العجلة أدل على الذم أنهم يعملونه (٣) كأنهم محقون فيه، وقال ابن عباس في تفسيره: يجترفون على الخطأ (٤)، وجمع بين الإثم والعدوان؛ لأن الإثم الجرم كائنًا ما كان، والعدوان الظلم والتعدي على الناس بما لا يحل (٥)، وذكرنا معنى أكل السحت (٦).
٦٣ - قوله تعالى: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾، معنى لولا ههنا التحضيض والتوبيخ، وهو بمعنى: هلا (٧)، ومضى الكلام في الربانيين عند قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران: ٧٩]، والكلام في الأحبار قد ذكرناه (٨) في قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ﴾ [التوبة:
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩٦.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في (ج): (يعلمونه).
(٤) نسبه محقق "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٥ إلى تفسير ابن عباس ص ٩٧.
(٥) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٦، "زاد المسير" ٢/ ٣٩١.
(٦) عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ (٤٢) من هذه السورة.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩١.
(٨) في (ج): (ذكرنا) دون هاء الضمير.
٣١] (١)، قال الحسن: الربانيون: علماء أهل الإنجيل، والأحبار: علماء أهل التوراة (٢)، وقال غيره: كله في اليهود؛ لأنه متصل بذكرهم (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾، قال العلماء وأصحاب المعاني: أنزل الله العلماء بترك النكير على سفلتهم فيما صنعوا منزلتهم، لأنه ذم أولئك بقوله: ﴿ولبئس ما كانوا يعملون﴾ وذم هؤلاء بمثل تلك اللفظة، فالآية تدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه (٤)، والفرق بين الصنع والعمل من حيث اللغة أن الصنع بالجودة، يقال: سيف صنيع، إذا جود عمله، وصنع الله لفلان: أي أحسن، وفلان صنعة فلان، إذا استخلصه وأحسن إليه (٥).
٦٤ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: "يريد الإمساك عن الرزق" (٦)، وقال في رواية الوالبي: "ليسوا يعنون بذلك أن يده موثقة، ولكن يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده" (٧).
(١) قد يكون هذا سبقًا أو وهمًا، لأن هذه الآية متأخرة ولأن المؤلف رحمه الله تكلم عن الأحبار بالتفصيل عند قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ الآية ٤٤ من هذه السورة.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٦.
(٣) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٥.
(٤) قال الطبري رحمه الله: "وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها" ثم ساق ما يؤيد ذلك بسنده عن ابن عباس والضحاك، "تفسير الطبري" ٦/ ٢٩٨، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٧، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٤.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٦٦ (صنع).
(٦) "زاد المسير" ٢/ ٣٩٢، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٥.
(٧) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٠١، وعزاه في "الدهر المنثور" ٢/ ٥٢٥ أيضًا إلى ابن أبي حاتم.
452
قال المفسرون: إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية، فلما عصوا الله في محمد وكذبوا به، كف الله عنهم ما بسط عليهم من النعمة، فعند ذلك قالت اليهود: يد الله مغلولة، أي مقوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل، وهذا قول الضحاك وعكرمة وقتادة والكلبي (١) واختيار الفراء والزجاج وابن الأنباري.
قال الفراء: أرادوا ممسكة عن الإنفاق، والإسباغ علينا (٢).
وقال الزجاج: أخبر الله عز وجل بعظيم فريتهم فقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ أي: يده ممسكة عن الإسباغ علينا، كما قال الله جل وعز: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩]، تأويله: لا تمسكها عن الإنفاق (٣).
وقوله تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾، أي جعلوا بخلاء وألزموا البخل، فهم أبخل قوم، فلا يُلقى يهودي أبدًا غير لئيم راضع بخيل. وهذا قول الزجاج (٤) وابن الأنباري، قال أبو بكر: وهذا خبر أخبر الله تعالى به ودل على أن هذين الأمرين وهما الغل واللعن قد نزلا بهم، والتقدير: فغلت أيديهم، أو وغلت أيديهم، فأضمر حرف العطف لأن كلامهم تم، وكان هذا كلامًا مستأنفًا يشبه أول الفصول، والعرب تحذف حروف العطف من رؤوس الآيات ومواضع الفصول نحو قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: ٦٧] أرادت فقالوا، فأضمر
(١) "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٠، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٧، "النكت والعيون" ٢/ ٥١، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٦، "زاد المسير" ٢/ ٣٩١، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٥.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٣١٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٨٩.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٠.
453
الفاء، وقد ذكرنا مثل هذا فيما تقدم.
وقال الحسن: "غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة" (١) أي شدت إلى أعناقهم، وتأويله أنهم جوزوا على هذا القول بأن غلت أيديهم في جهنم، قال أبو بكر: ويجوز أن يكون قوله: (غلت أيديهم) دعاءً عليهم، معناه من الله تعالى التعليم لنا، فكأنه عز (٢) ذكره وقفنا على الدعاء عليهم، كما علمنا الاستثناء في غير هذا الموضع حين قال: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [الفتح: ٢٧] فجرى الدعاء من الله مجرى الاستثناء منه، وكلاهما توقيف وتأديب، كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: ١]، وقد علا وعز أن يكون فوقه مدعو.
وقوله تعالى: ﴿وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾، قال الحسن: عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار (٣).
وقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، حكى الزجاج عن بعض أهل اللغة أن هذا جواب لليهود، أجيبوا على قدر كلامهم فقيل: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾. أي هو جواد ينفق كيف يشاء. انتهى كلامه (٤)، وفي هذا يحتاج إلى شرح وإيضاح، اعلم أن اليد تذكر في اللغة على خمسة أوجه: الجارحة، والنعمة، والقوة، والمِلك، وتحقيق إضافة الفعل (٥)، تقول:
(١) "النكت والعيون" ٢/ ٥١، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٦، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩٢، وتفسير الحسن البصري ١/ ٣٣٣.
(٢) في (ج): (عن).
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥١، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٦، "زاد التفسير" ٢/ ٣٩٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٠.
(٥) انظر: تهذيب اللغة ٤/ ٣٩٧٥ (يدي).
454
لفلان عندي يد أشكره عليها، أي نعمة، قال عدي بن زيد (١):
ولن أذكُرَ النعمان إلا بصالحٍ فإن لهُ عِندي يَدِيًّا وأنعُما (٢)
جمع يدًا على: يديٍّ، كالكلِيْبِ والعبيد. فقوله: (يَدِيًّا وأنعُمًا) اليدي هي الأنعم في المعنى، وحسن التكرير لاختلاف اللفظين، كقوله:
أقوى وأفْقَرَ بعدَ أُمِّ الهَيْثَمِ (٣)
ويستعمل اليد للقوة (٤) وتُعنَى بها، قال الله تعالى: ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: ٤٥] فسروه: ذوي القوى والعقول (٥)، وعلى هذا ما أنشده الأصمعي للغنوي:
اعمِد لما تعلُو فما لَكَ بالذي لا تستطيعُ من الأمورِ يَدَانِ (٦)
يريد ليس لك به قوة، ألا ترى أنه لا مذهب للجارحة ولا للنعمة هنا، وعلى هذا ما ذكره سيبويه من قولهم: (لا يدينِ بها لك)، ومعنى هذه التثنية: المبالغة في نفي الاقتدار والقوة على الشيء، وليس المراد بالتثنية الاثنين الناقص عن الثلاثة، إنما هو الكثرة، ويستعمل بمعنى الملك،
(١) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أبو زيد، فإن البيت في النوادر لأبي زيد ص ٥٣ منسوبًا لضمرة النهشلي كما سيأتي في عزوه.
(٢) البيت في "النوادر في اللغة" لأبي زيد ص ٥٣ نسبه لضمرة بن ضمرة النهشلي. وأفاد منه في "المسائل الحلبيات" ص ٣٠، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٤٠، و"اللسان" ٣/ ١٨٧٤ (زنم).
(٣) لم أقف على قائله.
(٤) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٢٧ - ٩٧.
(٥) "النكت والعيون" ٢/ ٥١.
(٦) البيت في "الأضداد" للأصمعي (ثلاثة كتب في "الأضداد" ص٧)، و"المسائل الحلبيات" ص ٢٨.
455
يقال: هذه الضيعة في يد فلان، أي في ملكه (١)، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٧]، ويستعمل بمعنى التولي للشيء وتحقيق إضافة الفعل، كقوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] أي لما توليت خلقه (٢) تخصيصًا لآدم وتشريفًا بهذا، وإن كان جميع المخلوقات هو خالقها لا غير، ويقال: يدي لك رهن بالوفاء، إذا ضمنت له شيئًا (٣)، وكأن معنى هذا اجتهادي وطاقتي، ويستعمل أيضًا حيث يراد النصرة، وذلك فيما روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "وهم يد على من سواهم" (٤) أي نصرتهم واحدة وكلمتهم مجتمعة على من شق عصاهم (٥).
وكذلك قوله عليه السلام: "أنا وبنو (٦) المطلب يدٌ واحدةٌ، لم نفترق في جاهلية ولا إسلام" (٧) كأنه أهل نصرة واحدة وكلمة واحدة، وقال أحمد بن يحيى: اليد الجماعة، ومنه الحديث: "وهم يد عَلَى مَنْ سواهم" (٨)، وتستعمل اليد
(١) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٢٩.
(٢) هنا تعسف ظاهر، والتثنية لليدين تدل على إثبات صفة اليد لله عز وجل، بل تؤكد ذلك!.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٧٥ (يدي).
(٤) أخرجه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الإمام أحمد في مسنده ١/ ١٢٢، وأبو داود (٤٥٣٠) كتاب: الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟.
وأخرجه ابن ماجه (٢٦٨٣) كتاب: الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم من حديث ابن عباس ومعقل بن يسار - رضي الله عنه -.
(٥) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٣٠، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٧٧ (يدي).
(٦) في (ج): (بني).
(٧) أخرجه بنحوه الإِمام أحمد في مسنده ٤/ ٨١ من حديث جبير بن مطعم، والنسائي ٧/ ١٣٠ - ١٣١ كتاب قسم الفيء.
(٨) تقدم تخريجه قريبًا.
456
للشىء الذي لا يد له تشبيهًا بمن له اليد، قال ابن الأعرابي: يد الدهر: الدهر كله، يقال: لا آتيه يد الدهر، ولد المسند، وكقول ذي الرمة:
أَلاَ طَرَقَت ميٌّ هَيُومًا بِذكرِها وأيدي الثُّريا جُنَّحٌ في المَغَاربِ (١)
فقوله: "أيدي الثُّريا" استعارة واتساع، وذلك أن اليد إذا مالتَ نحو الشيء ودنت إليه، دلل على قربها منه، ودَنوِّها نحوه، وإنما أراد قرب الثريا من المغرب لأفولها، فجعل له يدِيًّا جُنَّحًا نحوها، وأصل هذه الاستعارة لثعلبة بن صُعَير (٢) في قوله:
ألقت ذُكَاءُ يمِينَهَا في كافِرِ (٣)
فجعل للشمس يدًا في المغيب لما أراد أن يصفها بالغروب. ثم للبيد في قوله: حتى إذا ألقت يدًا في كافر.
يعني الشمس بدأت في المغيب، واعلم أن يدًا وزنها: (فَعْلٌ)، يدل على ذلك قولهم: أَيْدٍ، وجمعهم على أفعُل يدل على أنه: (فَعْلٌ)، لأنه أفْعُلًا جمع فَعْل المختص (٤) به كأَفلُس وأكلُب، كما دل آباء وآخاء على وزن: أخِ وأبِ فَعَلٌ لجمعهم لهما على: أفعال، نحو: أجبال وأجمال، وأفعال جمع فَعَل في الأمر الشائع وإن كان قد جاء نادرًا في جمع فَعْل، نحو: زيد وأزياد، وأنف وآناف، والدال التي هي عين الفعل في يد وإن
(١) "ديوانه" ص ٥٥.
(٢) ثعلبة بن صُعَير بن خزاعي المازني المري، شاعر جاهلي من شعراء المفضليات، "الأعلام" ٢/ ٩٩.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في (ج): (المختصر).
457
كانت متحركة بالكسر فأصلها الضم، كما أنها في أكلب وأكعُب (١) كذلك (.......) (٢) حركت بالضم لانقلبت الياء التي هي لام الفعل واوًا لانضمام ما قبلها، فأبدل من الضمة كسرة، فقالوا: حقوٍ وأحقِ، وظبي وأضبٍ، وجِرْوِ وأجر، والياء التي هي لام تحذف لالتقاء الساكنين هي والتنوين، واللام من يَديًا، يدل على ذلك قولهم: يديت إليه يدًا وأيديت. قال بعض بني أسد:
يديت على حُسحَاس بن وَهْبِ (٣)
فيد في الأصل يَدْيٌ (٤)، والفاء واللام من جنس واحد، وهو من باب سلس وقلق، قال أبو علي: ولا نعلم لذلك في الكلام نظيرًا. هذا قوله في أصل يدِ (٥)، وقال أبو الهيثم: أصله يدًا مثل قفًا ورحًا، ثم ثَنَّوا على الأصل فقالوا: يديان، وأنشد:
يديان بيضاوان عند مُحُلَّم قد تمنعانك بينهم أن تهضما (٦)
وقال آخر في الواحد:
يا رُبَّ سارٍ سار ما توَسَّدَا إلا ذرع العنس أو كف اليدا (٧)
هذا هو الكلام في أصل هذا الحرف ومعانيه في اللغة على حد الاختصار، وقد تستعمل اليد وتستعار في مواضع كثيرة يطول بذكرها
(١) في (ج): (ألعب).
(٢) بياض في (ج)، (ش).
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "الممتع في التصريف" ٢/ ٦٢٤.
(٥) لم أقف على كلام أبي علي، وانظر: "الممتع في التصريف" ١/ ٦٠، ٤٠٩، ٢/ ٥٦٢، ٦٢٤.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) لم أقف عليه.
458
الكلام، ولما كان الجواد يفرق المال وينفقه بيده، والبخيل يمسك اليد عن الانفاق أسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل، فقيل للجواد: فيَّاض الكف، مبسوط اليد، سبي البنان، ثرة الأنامل، في ألفاظ كثير معروفة في أشعارهم. ويقال في ضد ذلك للبخيل: كزّ الأصابع، مقبوض الكف، جعد الأنامل في أشباه لهذا كثيرة.
واليهود لعنهم الله وصفوا الله تعالى بالبخل فقالوا: يد الله مغلولة. على ما بينا في تفسيره في أول الآية، فأجيبوا (١) على قدر كلامهم، ورد عليهم بضد ذلك فقيل: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل، بل هو جواد، فليس لذكر اليد في الآية على هذا المعنى معنًى إلا إفادة معنى الجود والبخل (٢)، ومعنى التثنية في قوله: {بَلْ
(١) سقطت بعض أحرف هذه الكلمة في (ج).
(٢) المؤلف عفا الله عنه أول اليد هنا بالجود، والذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة إثبات صفة اليد لله عز وجل حسبما دلت عليه هذه الآية وغيرها على ما يليق بجلال الله وعظمته، قال الطبري رحمه الله في تفسيره: "ففي قول الله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع ما ينبىء عن خطأ قول من قال: معنى اليد في هذا الموضع النعمة وصحة قول من قال: إن "يد الله" هي له صفة... وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله وقال به العلماء وأهل التأويل "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٢، وقال البغوي في "تفسيره" ٣/ ٧٦، ٧٧: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ ويد الله صفة من صفاته كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، وقال النبي - ﷺ -: "كلتا يديه يمين" والله أعلم بصفاته فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم".
وسيأتي في سياق المؤلف كلام أبي عبيد والزجاج وأبي بكر بن الأنباري في إثبات صفة اليد والرد على من أولها، وإن كان المؤلف لم يأبه بتقريرهم، وتعلق بما عليه الأشاعرة من التعسّف في التأويل.
459
يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ} المبالغة في الجود والإنعام، وهذا طريق في معنى الآية صحيح.
وذهب بعض أهل اللغة أن معنى اليد في هذه الآية النعمة (١) قال في قوله: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ معناه: نعمة الله مقبوضة، وأنكر أبو عبيد والزجاج وابن الأنباري هذا القول، فقال أبو عبيد: من قال هذا فقد زعم أنه ليس لله على العباد إلا نعمتان، لأنه يلزمه أن يقول في قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي: نعمتاه.
وقال الزجاج: هذا القول خطأ، ينقضه ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، فيكون المعنى: نعمتاه مبسوطتان، ونعم الله أكثر من أن تحصى.
وقال أبو بكر: هذا القول محال في هذه الآية، لأن نعم الله تعالى لا يحاط بعددها، وآلاؤه تفوق الإحصاء، فكيف يقول: نعمتاه مبسوطتان، فيوقع التثنية في الشيء الذي يُقَصِّر كل جمع عنه. الدليل على ما نَصِف قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [ابراهيم: ٣٤، النحل: ١٨] (٢). انتهت الحكاية عنهم.
فهؤلاء الأئمة أنكروا هذا القول، وهو صحيح، وإن أنكروا وذهب عليهم وجه صحته.
قال أبو علي فيما أصلح علي أبي إسحاق: قد دل كلام أبي إسحاق في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ على أن المراد به الإمساك، لأنه شبه ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾
(١) هذا مذهب الأشاعرة!! وسبق من كلام الأئمة كالطبري، والبغوي ما يبين ضعفه ورده.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩٣.
460
[الإسراء: ٢٩]، وإذا كان ما حكى عن اليهود من هذا المراد به تبخيل الله تعالى عن ذلك فقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ رد لم افتروه وإبطال لما بهتوا فيه ونفي له، يدلك على ذلك عطفه بالحرف الدال على الإضراب عما قبله والإثبات لما بعده، فإذا كان المراد بالأول التبخيل والإمساك وكان هذا الثاني نفيًا للأول، وجب أن يكون المراد به إثبات النعمة التي أنكروها وادعوا أنها مقبوضة عنهم، فإنكاره على من قال: إن معنى ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ نعمته مقبوضة عني (١) هو الإنكار لما اعترف به، وقوله: وهذا القول خطأ ينقضه ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ فيكون المعنى: نعمتاه مبسوطتان، ونعم الله أكثر من أن تحصى، فقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ لا يدل على تقليل النعمة وعلى أن نعمته نعمتان ثنتان ليس غيرهما، ولكنه يدل على الكثرة والمبالغة، وقد جاء التثنية يراد بها الكثرة والمبالغة وتعداد المَثْنَى، لا المعنى الذي يشفع الواحد المفرد، ألا ترى أن قولهم: "لبّيك" إنما هو إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك: "سعديك" إنما هو مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد بذلك طاعتين ثنتين، ولا مساعدتين ثنتين (٢)، فكذلك الآية، المعنى فيها أن نعمته متظاهرة متتابعة، ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة، وهذا الذي ذكرناه في: "لبيك وسعديك" وأن المراد به الكثرة قول الخليل وسيبويه ومن وراءهما، فهذا وجه.
وإن شئت حملت المثنى على أنه تثنية جنس، لا تثنية واحد مفرد، ويكون أحد جنسي النعمة نعمة الدنيا والآخر نعمة الآخرة ونعمة الدين، فلا
(١) في النسختين: (عنا).
(٢) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥١، "تفسير القرطبي" ٦/ ٢٣٩.
461
تكون التثنية على هذا مرادًا بها اثنتين، وقد جاء تثنية اسم الجنس في كلامهم مجيئًا واسعًا (١)، قال الفرزدق:
وكُلُّ رفيقي كُلِّ رحلٍ وإن هُما تعاطَى القَنَا قوماهما أخوَانِ (٢)
فتأويل الرفيقين في البيت العموم والإشاعة، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون رفيقان اثنان لكل رحل.
وبعد، فإذا كانوا قد استجازوا تثنية الجمع الذي على بناء الكثرة كقوله:
لأصْبَحَ القومُ أوتادًا ولم يجِدوا عندَ التفرُّق في الهيجَا جمَالينِ
وكقول أبي النجم:
بين رماحي مالك ونهشل
ونحو ما حكاه سيبويه من قولهم: "لقاحان سوداوان" فأن يجوز تثنية اسم الجنس أجدر، لأنه على لفظ الواحد، فالتثنية فيه أحسن، إذ هو أشبه بألفاظ الأفراد، فإذا بان أن هذه التثنية لا تقتضي قول هذا القائل: نعمة الله مقبوضة ولا تنافيه، ولم ينكر اليد في اللغة بمعنى النعمة صح قوله الذي أنكره أبو إسحاق (٣)، وبأن تحامله عليه (٤)، انتهى كلام أبي علي (٥)،
(١) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٦٨،"تفسير القرطبي" ٦/ ٢٣٩.
(٢) البيت في "المسائل الحلبيات" ص ٦٨ ونسبه المحقق إلى: "ديوان الفرزدق" ٢/ ٣٢٩.
(٣) يعني الزجاج، وقد تقدم إنكاره لتفسير اليد هنا بالنعمه، وأن الزجاج ذهب مذهب أهل السنة وهو منهم في إثبات صفات اليد لله عز وجل على ما وصف به نفسه كما في هذه الآية، ووصفه بها رسوله - ﷺ -.
(٤) بل إن المؤلف ومن أخذ عنه كأبي علي الفارسي هم المتحاملون على أهل السنة في تفسير هذه الآية الجلية في إثبات صفة اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته.
(٥) لم أقف عليه فيما بين يدي من مؤلفات لأبي علي الفارسي، وكذا ما نسبه لسيبويه والخليل.
462
وذهب إلى هذا القول من المفسرين محمد بن مقاتل الرازي (١) فقال: أراد: نعمتاه مبسوطتان، نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة.
وقوله تعالى: ﴿يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾، أي: يرزق كما يريد، إن شاء قتر وإن شاء وسع (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾، قال أبو إسحاق: أي كلما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، أي بين اليهود والنصارى عن الحسن (٤) ومجاهد (٥)، لأنه قد جرى ذكرهم في قوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: ٥١] (٦).
وقيل: أراد طوائف اليهود (٧)، وهو اختيار الزجاج، قال: جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين، كما قال جل وعز: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: ١٤] وهو أحد الأسباب التي أذهب الله بها جَدَّهم
(١) المتوفى سنة ٢٤٢ هـ وهو حنفي فاضل، حدث عن وكيع لكنه غير مشهور، ولم أقف له على تفسير، انظر: "ميزان الاعتدال" ٥/ ١٧٢، "معجم المؤلفين" ٣/ ٧٣٠.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٩٠، "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٠، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٠.
(٤) "النكت والعيون" ٢/ ٥٢، انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧.
(٥) أخرجه عن مجاهد "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٢، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٧، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٤.
(٦) "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٢، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٤.
(٧) "النكت والعيون" ٢/ ٥٢، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧.
463
وشوكتهم (١).
وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾، أي لحرب محمد - ﷺ - (٢)، وقال ابن عباس: "يريد كلما أرادوا محاربتك ردهم الله وألزمهم الخوف منك ومن أصحابك" (٣)، وهو قول الحسن ومجاهد (٤)، واختيار أبي إسحاق، قال: هذا مثل، أي: كلما جمعوا على النبي - ﷺ - والمسلمين، وأعدوا لحربهم، فرق الله جمعهم وأفسد ذات بينهم (٥).
قال قتادة: هذا عام في كل حرب طلبته اليهود، فلا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾، قال ابن عباس: "يريد سفكوا الدماء، واستحلوا المحارم" (٧).
وقال الزجاج: أي يجتهدون في دفع الإسلام، ومحو ذكر النبي - ﷺ - من كتبهم (٨).
٦٥ - قوله (٩) تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾، قال ابن
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٠.
(٢) "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٤.
(٣) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٧، ونسبه محققه إلى تفسير ابن عباس ص ٩٧، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٤.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٠.
(٦) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٣، "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٣٦، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩٤، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٨.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩١.
(٩) في (ش): (وقوله).
عباس: صدقوا محمدًا - ﷺ - واتقوا اليهودية والنصرانية (١).
وقال عطاء: واتقوا من الله (٢)، ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾، وقال عطاء: يريد كل ما كانوا صنعوا قبل أن تأتيهم (٣)، ومعنى التكفير: تغطية السيئة بالحسنة حتى تصير بمنزلة مالم يُعْمَل (٤).
٦٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾، قال ابن عباس: "يريد عملوا بما فيهما من التصديق بك، والوفاء لله بما عاهدوا فيهما" (٥).
وقال أهل المعاني في معنى ﴿أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ قولين:
أحدهما: أقاموا أحكامهما وحدودهما، كما يقال: أقام الصلاة، إذا قام بحقوقها، ولا يقال لمن لم يوف شرائطها: أقامها.
والثاني أقاموها نصب أعينهم؛ لئلا يزلوا في شيء من حدودها (٦)، والأول الوجه، ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، يعني القرآن في قول ابن عباس وغيره (٧).
وقيل: يعني كتب أنبيائهم (٨)، أي لو عملوا بما في هذه الكتب
(١) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٨، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٩.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) لأن الكُفْر بمعنى الستر.
(٥) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٩.
(٦) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥٢.
(٧) انظر: معاني القرآن للنحاس ٢/ ٣٣٧، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٨، "النكت والعيون" ٢/ ٥٢، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
(٨) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
465
وأظهروا ما فيها من ذكر النبي - ﷺ -، ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾، قال ابن عباس: يريد لأنزلت عليهم القطر وأخرجت لهم من نبات الأرض كل ما أرادوا (١)، وهذا قول المفسرين (٢).
وقال أهل المعاني: هذا على وجه التوسعة، لا على أن هناك فوق أو تحت، والمعنى: لأكلوا أكلًا متصلًا كثيرًا، فذكر فوق وتحت للمبالغة فيما ينالون وما يفتح عليهم من الدنيا، كما يقول القائل: فلان في خير من قرنه إلى قدمه، يريد تكاثف الخير وكثرته عنده (٣)، وهذا قول الفراء (٤)، والزجاج (٥)، وابن الأنباري.
قال الزجاج: قد دل الله تعالى بهذا على ما أصابهم من الجدب مما عاقبهم به حتى شكوا ذلك بقولهم: يد الله مغلولة. وأعلم أن التقى سبب التوسعة في الرزق، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ الآية [الأعراف: ٩٦] وقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢]، وقال في قصة نوح: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾ [نوح: ١٠ - ١١] (٦).
(١) أخرجه بمعناه الطبري ٦/ ٣٠٥، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٥، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
(٣) ذكر الطبري ٦/ ٣٠٦، هذا القول واستبعده قائلًا: "وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول، وكفى بذلك شهيداً على فساده".
(٤) معاني القرآن ١/ ٣١٥، "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٣٧، ٣٣٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩١، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩١، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
466
وقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾، قال عطاء: يريد قومًا أسلموا من اليهود والنصارى (١).
وقال السدي: ﴿أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ مؤمنة (٢).
وقال ابن عباس: هم العادلة غير الغالية ولا الجافية (٣)، ومعنى الاقتصاد في اللغة: الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير (٤)، وأصله من القصد، وذلك أن القاصد إلى الشيء الذي يعرف مكانه، خلاف الطالب المتحير في طلبه، فهو يمر على الاستقامة إليه، وليس كالمتحير فيه، فالاقتصاد الاستواء في العمل المؤدي إلى الغرض (٥).
وقوله تعالى: ﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾، يقول: بئس شيئًا عملهم (٦)، قال ابن عباس: "عملوا القبيح وما لا يرضي الله مع التكذيب بالنبي - ﷺ -" (٧).
٦٧ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ الآية، روى الحسن أن النبي - ﷺ - قال: "إن الله بعثني برسالته، وضقت به ذرعًا، وعرفت أن الناس مكذّبي" وكان يهاب قريشًا واليهود والنصارى، فأنزل الله هذه
(١) لم أقف عليه عن عطاء، وهو قول كثير من المفسرين كمجاهد وابن زيد، انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٦، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٨، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
(٢) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٦، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥٣، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٧.
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥٣، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٧٢ (قصد)، "اللسان" ٦/ ٣٦٤٢ (قصد).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٢.
(٧) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨.
467
الآية (١)، قال ابن الأنباري: كان النبي - ﷺ - يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة، ويخفي بعضه إشفاقًا على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه، فلما أعزه الله وأيده بالمؤمنين قال له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (٢).
وقال أبو إسحاق: أي لا تراقبن أحدًا ولا تتركن شيئًا مما أنزل إليك تخوفًا من أن ينالك مكروه (٣)، قالا (٤): والمعنى في قوله: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهرًا به، فإن أخفيت منه شيئًا في وقت لخوف يلحقك فما بلغت رسالته، فذلك وله: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (٥).
قال ابن عباس: يقول إن كتمت آية مما أنزلت عليك لم تبلغ رسالاتي (٦)، يعني: إنه إن ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ، لأن تركه البعض محبط لإبلاغ ما بلغ، وجرمه في كتمان البعض كجرمه لو لم يبلغ شيئًا مما أنزل الله، في أنه يستحق العقوبة من ربه (٧)، وحاشا لرسول الله أن
(١) انظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص ٢٠٤، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٦، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٨، وعزاه السيوطي لأبي الشيخ عن الحسن.
(٢) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، ٢٠٩.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٢، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩٧.
(٤) أي الزجاج وابن الأنباري.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٢، انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٩.
(٦) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٧، وانظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٧.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٩، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٩، "النكت والعيون" ٢/ ٥٣، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٩.
468
يكتم شيئًا مما أوحي إليه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "من زعم أن رسول الله - ﷺ - كتم شيئًا من الوحي، فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ﴾ ولو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم قوله تعالى: ﴿وَتُخْفِي في نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧] " (١).
قال مقاتل بن حبان: هذا تحريض من الله نبيه على تبليغ الرسالة (٢).
وقال مجاهد: لما نزلت ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ قال: "يا رب كيف أصنع؟ أنا واحد، أخاف أن يجتمعوا علي" فأنزل الله: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (٣).
فكل هذه الأقوال في تفسير هذه الآية تدل على أن النبي - ﷺ - كان يشفق على نفسه غائلة اليهود والكفار، فكان لا يجاهرهم بعيب دينهم وسب آلهتهم، حتى أمنه الله تعالى بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، واختلفوا في قوله: ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ فقرىء (رسالته) (٤) على (٥) واحدة، و (رسالاته) على الجمع (٦)، فمن جمع قال: إن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام في الشريعة مختلفة، وكل آية أنزلها (٧) الله على رسوله
(١) أخرجه البخاري (٤٦١٢) كتاب التفسير، باب: يا أيها الرسول بلغ، بنحوه، وبلفظه مسلم (١٧٧) كتاب الإيمان: باب ٧٧ معنى قول الله عز وجل ﴿ولقد رآه نزلة أخرى﴾، ولكن دون: "ولو كنتم... "، "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٩.
(٢) بمعناه في تفسير مقاتل بن سليمان ١/ ٤٩٢.
(٣) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٧.
(٤) قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي "ابن كثير" وحفص عن عاصم. انظر: "الحجة" ٣/ ٢٣٩.
(٥) تكرر هذا الحرف في (ج).
(٦) قراءة نافع وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. انظر: "الحجة" ٣/ ٢٣٩.
(٧) في (ج): (أنزله) بالتذكير.
469
فهي رسالة، فحسن لفظ الجمع (١)، ومن أفرد قال: القرآن كله رسالة واحدة، وأيضًا فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله تعالى: ﴿وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ١٤] فوقع الاسم الواحد على الجمع كما يقع على الواحد، فكذلك الرسالة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، أي: يمنعك أن ينالوك بسوء من قتل أو أسر أو قهر (٣)، وقالت عائشة: كان رسول الله - ﷺ - يُحرس حتى نزلت هذه الآية: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ وكان سعدٌ وحذيفة يحرسانه، فأخرج رسول الله رأسه من قبة أدم وقال: "انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله" (٤).
وقال الزجاج في قوله: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾: أي يحول بينهم وبين أن يصيبك منهم مكروه (٥)، فإن قيل: أليس قد شج جبينه وكسرت رباعيته؟، قلنا: كان هذا قبل نزول الآية؛ لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا، أو نقول: المراد بالعصمة: أن يعصمه من قتله وأسره على ما ذكرنا أولاً (٦).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٧]، قال
(١) انظر: "الحجة" ٣/ ٢٤٥.
(٢) "الحجة" ٣/ ٢٤٥، ٢٤٦.
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥٣.
(٤) أخرجه بنحوه الترمذي (٣٠٤٦) كتاب: التفسير، باب: من تفسير سورة المائدة، "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٨، وعزاه في "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٩ أيضًا إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٢.
(٦) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٧.
470
ابن عباس: يريد لا يرشد من كذبك وأعرض عن ذكري (١)، وقد روى ابن عباس عن النبي - ﷺ - مثل ما روى الحسن، وهو أن رسول الله - ﷺ - "قال: "بعثني الله برسالاته، فضقت بها ذرعًا، فأَوحَى إلى: "إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك، وضمن لي العصمة" (٢).
٦٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾، ذهب بعض المفسرين إلى أن الذي أُمر رسول الله بتبليغه هذه الآية (٣)، قال مقاتل: لما نزل: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ أمن النبي - ﷺ - فأخبره الله ما يبلغ فقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ (٤).
قال ابن عباس: يقول لستم على شيء من الدين حتى تعملوا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد، وبيان صفته ونعته، تبينونه للناس ولا تكتمونه (٥)، وقد سبق في هذه السورة تفسير هذه الآية في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ (٦)، وفي قوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا﴾ (٧) الآية.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٨]، تسلية
(١) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١٠، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٤٩، "النكت والعيون" ٢/ ٥٤، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٩.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٣٨، ٣٣٩.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٤٩٢.
(٥) أخرجه بمعناه الطبري ٦/ ٣٠٩، وانظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١٠.
(٦) الآية ٦٦ من هذه السورة.
(٧) الآية ٦٤ من هذه السورة.
للنبي - ﷺ - يقول: لا تحزن على أهل الكتاب إن كذبوك (١).
٦٩ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾، قد مضى تفسير هذه الآية مشروحًا مستقصًى في البقرة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾، اختلفوا في وجه ارتفاعه، فقال الكسائي: هو نسق على ما في ﴿هَادُوا﴾ كأنه قيل: هادوا هم والصابئون (٣)، قال الزجاج: وهذا خطأ من جهتين: إحداهما أن الصابىء على هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية، وليس كذلك، فإن الصابىء غير اليهودي، وإن جعل ﴿هَادُوا﴾ بمعنى: تابوا، من قوله: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] لا من اليهودية، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسير قد جاء بغير ذلك، لأن معنى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في هذه الآية إنما هو إيمان بأفواهم، لأنه يعني به المنافقون؛ لأنه وصف الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ثم ذكر اليهود والنصارى فقال: من آمن منهم بالله فله كذا، فجعلهم يهودًا ونصارى، فلو كانوا مؤمنين لم يُحتج أن يقال: (من آمن منهم فلهم أجرهم) (٤)، وهذا قول الفراء (٥) والزجاج في الإنكار عليه، وقال الفراء: ارتفع الصابئون بالنسق على الذين، وإنما نُسِقَ على المنصوب بالمرفوع؛ لأن (إن) ضعيفة العمل، وضعفه أنه يقع على
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٠، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٩، "تفسير البغوي" ٣/ ٨١.
(٢) عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾ الآية (٦٢) البقرة.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٤.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٤ بتصرف.
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٢، ١٩٣
472
الاسم ولا يقع على خبره، يعني أنها تغير الاسم ولا تغير الخبر، وأيضًا فإن (الذين) حرف على جهة واحدة في الرفع والنصب والخفض، فلما لم يبين فيه عَملُ (إن) وكان عملها أيضًا ضعيفًا (١) رفع الصابئين بأن يرجع إلى أصل الكلام وهو الرفع قبل دخول (إن).
أجاز الكسائي: "إنّ عبد الله وزيد قائمان" لضعف إن (٢).
قال الفراء: ولا أستحب ذلك لتبيين الإعراب في عبد الله، وأجازا معًا: (أنك نفسُك عالم)، (وأنا أنفسنا عالمان)، (وأنه نفسه متكلم)، (وأنهم أجمعون منطلقون)، (وأنك ومحمد في الدار)، وعند الفراء إذا دخلت (إن) على اسم لم يتبين عملها فيه يجوز أن ينسق عليه بالرفع والنصب جميعًا، وكذلك التوكيد، من ذلك أن تقول: إن قطام وهندٌ عندنا، وإن هؤلاء وإخوتُك يكرموننا، وإن هذا نفسه عالم، وذلك أن هذه الأسماء لا يتغير إعرابهنَّ ولا يظهر فيها عمل (إن)، فإذا دخلت إن على اسم يتبين عملها فيه وولي الاسم التوكيد والنعت والنسق، لم يكن فيها إلا النصب عند الفراء، كقولك: (إن زيدًا نفسه عالم)، (وإن محمدًا وأخاك منطلقان)، (وإن القوم وعبد الله عندنا)، ويجوز الرفع عند الكسائي، ومما جاء في أشعار العرب يشهد لمذهب الفراء قول بشر بن أبي خازم (٣):
وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم بُغاةٌ ما حيينا في شِقَاقِ (٤)
(١) في (ج): (ضعيف).
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٢، ١٩٣.
(٣) هو: بشر بن أبي خازم عمرو بن عوف الأسدي، شاعر جاهلي شجاع من أهل نجد، توفي سنة ٢٢ قبل الهجرة. "الأعلام" ٢/ ٥٤.
(٤) البيت في الكتاب ٢/ ١٥٦، "معاني الزجاج" ٢/ ١٩٣.
473
رفع أنتم بالنسق على النون والألف، إذ لم يتبين عمل (إن) فيهما، ولو نصب لقال: وإياكم. وقال آخر:
يا ليتني وأنتِ بالميسُ ببلدةٍ ليس بها أنيسُ (١)
رفع (أنتِ) وهو نسق على الياء إذ لم يتبين فيها الإعراب، وقال آخر:
يا ليتنا وهما نخلوا بمنزلة حتى يرى بعضنا بعضًا ويأتلف (٢)
وأنشدوا أيضًا لضابىء البرجُمي (٣) على هذا المذهب:
فمن يكُ أمسى بالمدينة رحلُهُ فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ (٤)
هذا كله مذهب الكوفيين، وأنكر البصريون جميع ذلك، أما قول الكسائي فقد ذكرنا وجه بطلانه، وأما قول الفراء: نصب (إن) ضعيف، لأنها إنما تغير الاسم ولا تغير الخبر "فقال أبو إسحاق: هذا غلط، لأن (إن) قد عملت عملين: النصب والرفع، وليس في العربية ناصب ليس معه مرفوع؛ لأن كل منصوب مشبه بالمفعول، والمفعول لا يكون بغير فاعل إلا فيما لم يُسَمَّ فاعله، وكيف يكون نصب (إن) ضعيفًا وهي تتخطى الظروف فتنصب ما بعدها نحو قولك: إن أمامك زيدًا، وإن عندك عمروًا، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢] ونصب (إنَّ) من أقوى المنصوبات (٥)، ومذهب الخليل وسيبويه في هذا التقديم والتأخير، ويكون
(١) لم أقف عليه.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) هو ضابئ بن الحارث بن أرطأة التميمي البُرجمي شاعر جاهلي أدرك الإسلام، حبسه عثمان - رضي الله عنه - حتى مات نحو سنة ٣٠ هـ "الأعلام" ٣/ ٢١٢.
(٤) البيت في الكتاب ١/ ٧٥، "الإنصاف" لابن الأنباري ص ٨٥.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٣.
474
(الصابئون) مرتفعًا بالابتداء، المعنى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله" إلى آخر الآية، والصابئون والنصارى كذلك أيضًا (١).
إن عبد الله ومحمد قائم، تريد: إن عبد الله قائم ومحمد كذلك أيضًا (٢)، وأنشدوا:
عقاب عقبناه كأن وظيفها وخرطومُها الأعلى بنار مُلَوّح (٣)
أراد كأنَّ وظيفها مُلوِّح وخرطومها كذلك أيضاً، وعلى هذا حملوا أيضًا ما أنشده الكوفيون، أما قول بشر فالمعنى فيه: فاعلموا أنا بغاة ما بغينا في شقاق وأنتم أيضًا كذلك، وكذلك سائر الأبيات.
وأما قوله: فإني وقيَّارٌ فإن رواية البصريين: "وقَيَّارًا" بالنصب، وإن رفع كان محمولًا على التقدير الذي ذكرنا، وأما ما أجازه الفراء من قولهم: إنهم أجمعون ذاهبون، فحمله سيبويه على الغلط، وقال: إن قومًا من العرب يغلطون فيقولون إنك وزيدٌ ذاهبان، وإنهم أجمعون منطلقون، فجعله غلطًا (٤).
وحكى أبو بكر بن الأنباري في الآية قولًا رابعًا لأبي عبد الله هشام بن معاوية (٥)، وهو أن يضمر خبر (إن) ويبتدأ (الصابئون) والتقدير: إن الذين
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٣.
(٢) هذا تمثيل، وليس عند الزجاج.
(٣) لم أقف على قائله.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٣.
(٥) هو أبو عبد الله هشام بن معاوية الكوفي الضرير، نحوي، صحب الكسائي وأخذ عنه كثيرًا من النحو، وله تصانيف، توفي سنة ٢٠٩ هـ انظر: "الفهرست" ص ١٠٥، "معجم المؤلفين" ٤/ ٦٤.
475
آمنوا والذين هادوا يُرحَمون على قول من قال هم مسلمون، ويعذبون على قول من قال هم كفار، فيحذف الخبر إذا عرف موضعه، كما حذف من قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ [فصلت: ٤١] (والمعنى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) (١) يعذبون ويعرضون على ربهم، فحذف استغناء بمعرفة المخاطبين به. ثم يرتفع (الصابئون) بمن وما بعدها، ومن حرف جزاء يرتفع بما عاد إليه (من آمن) والفاء جواب الجزاء، وهذا القول قريب من قول البصريين، غير أنهم يضمرون خبر الابتداء، ويجعلون (من آمن) خبر (إن)، وهذا على العكس من ذلك؛ لأنه جعل (من آمن) خبرًا للابتداء وأضمر خبر (إن) (٢).
٧٠ - قوله تعالى: ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾، إن قيل: لم عطف المستقبل على الماضي؟، الجواب: ليدل على أن ذلك من شأنهم، ففيه معنى: كذبوا وقتلوا، ويكذبون ويقتلون، مع أن قوله: (يقتلون) فاصلة يجب أن يكون موافقًا لرؤوس الآي. ويمكن أن يقال التقدير فيه: فريقًا كذبوا لم يقتلوه، وفريقًا كذبوا يقتلون، فيكون (يقتلون) صفة للفريق، فلم يكن فيه عطف المستقبل على الماضي، وفي الجواب الأول لم يكن (كذبوا) ولا (يقتلون) صفة للفريق؛ لأن التقدير كذبوا فريقًا ويقتلون فريقًا، والفريق غير موصوف، وفي الجواب الثاني الفريق موصوف، وذكرنا تفسير الفريقين في البقرة عند قوله تعالى: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ﴾ [البقرة: ٨٧].
٧١ - قوله تعالى: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، قال عطاء عن ابن
(١) ما بين القوسين متكرر في النسختين.
(٢) انظر: "البحر المحيط" ٣/ ٥٣١ - ٥٣٣.
476
عباس: "يريد وظنوا أن الله لا يعذبهم" (١).
وقال الكلبي: "أي ألا يُبْتَلَوا بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل" (٢).
وقال قتادة: "وحسب القوم أن لا يكون بلاء" (٣).
وقال مقاتل: "وحسبوا أن لا يكون بلاءً، وقحط المطر" (٤)، فحصل في الفتنة ههنا: العقوبة والعذاب عن ابن عباس، والبلية عن الكلبي وقتادة، والشديدة والقحط عن مقاتل، وقال الزجاج: وحسبوا فعلهم غير فاتن لهم، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه (٥).
وقال ابن الأنباري: قدروا أن لا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر، وظنوا أن ذلك لا يكون موبقًا لهم (٦).
واختلفوا في إعراب: (ألا تكون) فنصبه بعضهم، ورفعه آخرون، والأصل في هذا الباب أن تعرف أن الأفعال على ثلاثة أضرب:
فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره، نحو: العلم والتيقن والتبين، فما كان مثل هذا وقع بعده (إنّ) الثقيلة ولم يقع بعده الخفيفة الناصبة للفعل، وذلك أن الثقيلة معناها ثبات الشيء واستقراره، والعلم كذلك أيضًا، فإذا وقع على الثقيلة واستعمل معه كان وفقه وملائمًا له، وذلك قوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ [النور: ٢٥] ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾
(١) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١١، ونسبه المحقق إلى تفسير ابن عباس ص ٩٨.
(٢) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥٥، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١١، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٢، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٠.
(٣) أخرجه الطبري ٦/ ٣١٢.
(٤) تفسيره ١/ ٤٩٤.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٥.
(٦) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٤٠١.
477
[التوبة: ١٠٤]، و ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: ١٤] والباء زائدة (١)، وكذلك ما كان معناه العلم كالتبين والتيقن، وهذا ضرب.
والضرب الثاني: فعل يدل على خلاف الاستقرار والثبات نحو: أطمع وأخاف وأخشى وأشفق وأرجو، فهذا ونحوه لا يستعمل بعده إلا الخفيفة الناصبة للفعل، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ [الشعراء: ٨٢]، و ﴿تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ [الأنفال: ٢٦] ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا﴾ [الكهف: ٨٠] ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا﴾ [المجادلة: ١٣].
والضرب الثالث: فعل يجذب مرة إلى ذاك القبيل، ومرة إلى هذا القبيل، نحو: حسبت وظننت وزعمت، وهذا النحو يجعل مرة بمنزلة: أرجو وأطمع، من حيث كان أمرًا غير مستقر، ومرة يجعل بمنزلة العلم، من حيث استعمل استعماله، وفي هذه الآية أجري مجرى العلم، لأنهم عملوا عليما حسبوا، فكأنه أجري مجرى العلم، (ويمكن) (٢) أن يقال: إنما جعل بمنزلة العلم من حيث كان خلافه، والشيء قد يجري مجرى الخلاف في كلامهم، نحو: عطشان وريان، وكلا (٣) الأمرين قد جاء به القرآن، فمثل قول من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾ [العنكبوت: ٤] ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ﴾ [الجاثية: ٢١] ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾ [العنكبوت: ٢]. ومثل قراءة من رفع: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ﴾ [الزخرف: ٨٠] {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا
(١) سبق التنبيه أن مثل هذا التعبير غير لائق في جانب كلام الله عز وجل، لئلا يتوهم أن في القرآن زائدًا.
(٢) هذه الكلمة ساقطة من (ج).
(٣) في (ج): (وكلي).
478
نُمِدُّهُمْ} [المؤمنون: ٥٥] ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ﴾ [القيامة: ٣].
فهذه مخففة من الثقيلة، لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها (أن)، ومثل المذهبين في الظن قوله تعالى: ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا﴾ [القيامة: ٢٥] ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا﴾ [البقرة: ٢٣٠]. ومن الرفع قوله تعالى: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ [الجن: ٥] ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا﴾ [الجن: ٧] فأنْ ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ﴾ [المزمل: ٢٠] لأن (أن) الناصبة للفعل لا تجتمع مع (لن) ومع السين؛ لاجتماع الحرفين في الدلالة على الاستقبال، كما لا يجتمع الحرفان لمعنى واحد، فمن رفع قوله: (أن لا تكون) كان المعنى: أنَّه لا تكون، ثم خففت المشددة وجعلت (لا) عوضًا من حذف الضمير، ولو قلت: علمت أن يقول، بالرفع، لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضًا من حذف الضمير، نحو قد والسين وسوف، كما قال تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ﴾ [المزمل: ٢٠] ووجه النصب ظاهر.
وقوله تعالى: ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾، أي عن الهدى فلم يعقلوه (١)، قال الزجاج: هذا مثل، تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ولا ما رأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصم (٢).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، قال الحسن: "فاستنقذهم بمحمد فكذبوه" (٣).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٢، "بحر العلوم" ١/ ٤٥١، "النكت والعيون" ٢/ ٥٥، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٢.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٥، انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٥١.
(٣) لم أقف عليه عن الحسن، انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٤١، "بحر العلوم" ١/ ٤٥١، "زاد المسير" ٢/ ٤٠١.
479
قال (١) أبو إسحاق: أي أرسل إليهم محمدًا - ﷺ - يعلمهم أن الله عز وجل قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا (٢).
وقال أبو بكر: ثم تاب الله عليهم بإرساله محمدًا - ﷺ - داعياً إلى الصراط المستقيم، فكانوا بذلك معرضين للتوبة وإن لم يتوبوا.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾، أي بعد تبيّن الحق لهم بمحمد - ﷺ - عمي كثير منهم، خص الله تعالى بعضهم بالفعل الآخر من العمى والصمم، إذ لم يكونوا أجمعوا على خلاف النبي - ﷺ - (٣)، وارتفع ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ بإضمار فعل مقدر يدل عليه: ﴿عَمُوا وَصَمُّوا﴾، كأنه قيل: عمي وصم كثير منهم. قاله الفراء (٤) وابن الأنباري. وأجازاهما والزجاج أيضًا أن يكون جمع الفعل متقدمًا، كما حكي عن العرب أكلوني البراغيث (٥).
وذكر الزجاج وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ بدلاً من الواو، كأنه لما قال: ﴿عَمُوا وَصَمُّوا﴾ أبدل الكثير منهم، والثاني أن يكون ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ خبر ابتداء محذوف، والمعنى: والعمي والصم كثير منهم (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾، أي: من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل، قاله مقاتل (٧).
(١) في (ج): (فقال).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٥.
(٣) انظر: "النكت والعيون" ١/ ٤٧٨.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٣١٦.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣١٦، "معاني الزجاج" ٢/ ١٩٥، ١٩٦.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٥، ١٩٦.
(٧) تفسيره ١/ ٤٩٤.
480
٧٣ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾، (قال الفراء: ﴿ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾) (١) لا يكون إلا مضافًا، ولا يجوز التنوين في (ثالث) فتنصب الثلاثة، وكذلك قوله: (ثاني اثنين) لا يكون (اثنين إلا) (٢) مضافًا، لأن المعنى مذهب اسم (٣)، كأنك قلت: واحد من اثنين، وواحد من ثلاثة، ولو قلت: أنت ثالث اثنين، جاز الإضافة وجاز التنوين ونصب الاثنين، وكذلك: رابعُ ثلاثةٍ، ورابعٌ ثلاثةً؛ لأنه فعل واقع (٤).
وزاد أبو إسحاق لهذا بيانًا فقال: لا يجوز في (ثلاثةٍ) إلا الخفض؛ لأن المعنى: أحد ثلاثة، فإن قلت: زيد ثالث اثنين، أو: رابع ثلاثة، جاز الخفض والنصب، أما النصب فعلى قولك: كان القوم ثلاثة فربعتهم وأنا رابعهم غدًا، ومن خفض فعلى حذف التنوين، كما قال الله عز وجل: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] (٥)، وذكرنا هذه المسألة مشروحة عند قوله تعالى: ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٧].
فأما معنى قول النصارى لعنهم الله: (ثالث ثلاثة) ففيه طريقان: الأظهر والأوفق للفظ طريق المفسرين، وهو أنهم قالوا: أرادت النصارى بقولهم: (ثالث ثلاثة) الله ومريم وعيسى، زعموا أن الإلهية بين الثلاثة، وأن كل واحد من هؤلاء إله، يؤكد هذا القول من مذهبهم قوله تعالى للمسيح: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ﴾ [المائدة: ١١٦]
(١) ما بين القوسين ساقط من (ج).
(٢) ما بين القوسين ساقط من (ج)، وهكذا هو في (ش)، ولعل الصواب: "ثاني".
(٣) هكذا في النسختين، ولم يتضح الأسلوب لهذه اللفظة.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٣١٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٦.
481
ففي هذا بيان أنهم كانوا يشركون مريم وعيسى في الإلهية (١)، وهذا القول اختيار الزجاج، لأنه قال في معنى قوله: (ثالث ثلاثة): أنهم قالوا: الله أحد ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة آلهة. هذا كلامه (٢).
وعلى هذا المعنى لا بد من أن يكون في الآية إضمار واختصار، لأن المعنى أنهم قالوا: إن الله ثالث ثلاثة آلهة، أو ثالث ثلاثة من الآلهة، فحذف ذكر الآلهة، لأن المعنى مفهوم، ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد الآلهة، ومطلق ثالث ثلاثة لا يكون كفرًا، فإنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم، كقوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] (٣)، والذين يحقق أنهم أرادوا بالثلاثة الآلهة قوله تعالى في الرد عليهم: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ هذا طريق في الآية.
والمتكلمون حكوا عن النصارى في قولهم التثليث أنهم يقولون إن الباري سبحانه جوهر واحد، وأنه ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح قدس، وهذه الثلاثة إله واحد، قالوا: واسم الإله يتناول هذه الثلاثة الأشياء، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب: الذات وبالابن الكلمة وبالروح القدرة، فأثبتوا الذات والكلام والقدرة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر واختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله، وهو إله
(١) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٥١، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٢، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٦.
(٣) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٢.
482
واحد (١)، وكل هذا فاسد لأنه يعرف ببديهة العقل فساد أن يكون ثلاثة واحدًا، ولو جاز هذا، لجاز أن يكون الواحد أربعة، والأربعة واحداً.
وليس هذا موضع بسط الكلام في الرد عليهم، وعلى هذا فالذي أخبر الله تعالى عنهم في قوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ هو معنى مذهبهم؛ لأنهم وإن لم يصرحوا بأنه واحد من ثلاثة آلهة فذلك لازم لهم، وإنما يمتنعون من العبارة، لأنهم إذا قالوا: إن كل واحد (٢) من الأقانيم إله، فقد جعلوه ثالث الآلهة، وقولهم بعد هذا وهو إله واحد مناقضة لما قالوا، وإذا كان كذلك صح أن يُخْبَر عنهم من مذهبهم ما يلزمهم، وذهب من المفسرين إلى هذا الطريق: الكلبي (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ (مِنْ) دخلت مؤكدة، المعنى: وما إله إلا إله واحد (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أي الذين أقاموا على هذا الدين، وعلى هذا القول. قاله الزجاج (٥).
٧٤ - قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ﴾، قال الفراء: هذا أمر في لفظ الاستفهام، وقد يرد الأمر بلفظ الاستفهام كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١] (٦)، في آية تحريم الخمر. وإذا انتهينا إليها ذكرنا هذا إن شاء الله.
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٣ - ٣١٤، "ابن كثير" ٢/ ٩٢.
(٢) في (ج): (واحدة) بالتأنيث.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٦، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٤٠٣.
(٦) ليس في معاني القرآن، انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٨٢، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٣.
٧٥ - قوله تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾، أي أنه رسول ليس بإله، كما أنهم رسل ليسوا آلهة، وإنما أتى بالمعجزات من قبل ربه كما أتوا بها من قبل ربهم، فمن ادعى له الإلهية فهو كمن ادعى لهم الإلهية؛ لتساويهم في المنزلة. وهذا معنى قول أبي إسحاق (١).
وقوله تعالى: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾، ذكرنا معنى الصديق فيما سبق (٢)، وقيل لمريم (صديقة) لتصديقها بآيات ربها، ومنزلة ولدها، وتصديقها ما أخبرها. قال الله تعالى في صفتها: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾ [التحريم: ١٢] (٣).
وقال الفراء: ووقع عليها التصديق (٤) كما وقع على الأنبياء، وذلك قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ [مريم: ١٧] فلما كلمها جبريل وصدقته وقع عليها اسم الرسالة، فكانت كالنبي (٥).
وقوله تعالى: ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾، قال أهل المعاني: هذه الآية احتجاج على النصارى بأن من ولَده النساء وهو يأكل الطعام لا يكون إلهًا للعباد؛ لأن سبيله سبيلهم في الحاجة إلى الصانع المدبر، والمعنى أنهما كانا يعيشان بالغذاء كما يعيش سائر الآدميين، فكيف يكون إله لا
(١) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٦.
(٢) عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: ٦٩].
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥٦، "تفسير البغوي" ٢/ ٨٣.
(٤) في (ج): (الصديق).
(٥) معاني القرآن ١/ ٣١٨.
484
يقيمه إلا أكل الطعام؟ (١)، وكل هذا معنى قول ابن عباس في تفسير قوله: ﴿يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ يريد هما لحم ودم، يأكلان ويشربان، ويبولان ويتغوطان (٢).
قال عبد الله بن مسلم (٣): هذا ألطف ما يكون من الكناية، لأنه عبر عن الحدث بالطعام، لأن من أكل الطعام لا بد له من أن يحدث (٤)، فلما ذكر أكل الطعام صار كأنه أخبر عن عاقبته، والطعام والحدث ليسا من أوصاف الإلهية، وأنكر عمرو بن يحيى (٥) أن يكون هذا كناية عما ذكر، وقال: كأنه لم يعلم أن في الجوع وما ينال أهله من الذلة والعجز والفاقة أدل دليل على أنهم مخلوقون، حتى ادعى على الكلام شيئًا قد أغناه الله عنه.
وقوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ﴾، قال ابن عباس: نفسر لهم أمر ربوبيتي (٦).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: ٧٥]، يقال: أفكه يأفكه أفكًا، إذا صرفه. والإفك: الكذب؛ لأنه صرف عن الحق، وكل مصروف عن شيء مأفوك عنه (٧)، وأنشد ابن السكيت:
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٥، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٣.
(٢) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١٣.
(٣) ابن قتيبة.
(٤) "غريب القرآن" ص ١٤٤، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٤٠٤.
(٥) لم يتبين من عمرو بن يحيى هذا، ويحتمل أن عمرو تصحفت عن: (أحمد)، فيكون المقصود: أحمد بن يحيى المعروف بثعلبَ، والمؤلف كثير ما ينقل عنه. والله أعلم.
(٦) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١٣.
(٧) انظر:"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٤٤، "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٥، "معاني =
485
إن تكُ عن أحسنِ المروءة مأ فوكًا ففي آخرين قد أُفِكُوا (١)
وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر، وأرض مأفوكة لم يصبها مطر (٢)، ومعنى: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أي يصرفون عن الحق الذي يؤدي إليه تدبر الآيات (٣).
وقال أبو عبيدة: أي يحرمون الحق، من قولهم: أرض مأفوكة، إذا حرمت (٤) المطر (٥)، وهذا كالأول؛ لأن الأرض التي حرمت المطر فقد صرف عنها المطر، وفي هذا دليل أنهم صدوا عن الإيمان وصرفوا عنه بصرفٍ لا من قبلهم.
٧٦ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾، في هذه الآية إلزام النصارى على اتخاذ المسيح إلهًا عبادة ما لا ينفع ولا يضر، لأنه لا يملك ذلك إلا الله تعالى (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، قال ابن عباس: يريد سميع لكفركم، عليم بضميركم (٧)، وفي هذا تحذير من الجزاء بالسيئة، لأنه يعلم
= الزجاج" ٢/ ١٩٧، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٢، و"الصحاح" ٤/ ١٥٧٣ (أفك)، "النكت والعيون" ٢/ ٥٧.
(١) البيت لعروة بن أذينة كما في الصحاح ٤/ ١٥٧٣ (أفك)، و"معجم شواهد العربية" ص ٢٥٧، ونسبه في "اللسان" ١/ ٩٧ (أفك) لعمرو بن أذينة، ولعل الأول أقرب.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٥، "تهذيب اللغة" ١/ ١٧٤ (أفك)، "النكت والعيون" ١/ ٤٧٩.
(٣) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٥٧.
(٤) في (ج): (حرم) بالتذكير.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٧٤، ١٧٥، "تهذيب اللغة" ١/ ١٧٤ (أفك).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٥ - ٣١٦.
(٧) في "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١٤ دون نسبة لابن عباس، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٠.
الأعمال، ويعلم الإسرار والإعلان.
٧٧ - قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾، ذُكر معنى الغلو في النساء (١)، وهو نقيض التقصير، ومعناه الخروج عن الحد (٢)، قال ذو الرمة.
وما زال (٣) يغلو حب مية عندنا ويزداد حتى لم نجد ما يزيدها (٤)
قال الحسن: ودين الله بين الغلو والتقصير (٥)، واختلفوا في المعني بأهل الكتاب ههنا: فقال عطاء عن ابن عباس: يريد اليهود والنصارى (٦)، وغلو اليهود في عيسى: تكذيبهم إياه، ونسبته إلى أنه لغير رشدة، وغلو النصارى: ادعاؤهم الإلهية له (٧)، وقال آخرون: الخطاب للنصارى دون اليهود (٨)، وانتصاب (غيرَ الحق) من وجهين: أحدهما (٩) على الحال والقطع من الدين، كأنه قيل: لا تغلوا في دينكم مخالفًا للحق؛ لأنهم خالفوا الحق في دينهم، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه، والثاني أن يكون منصوبًا على الاستثناء، بمعنى: لا تغلوا في دينكم إلا الحق، فيكون الحق مستثنى من المنهي عن الغلو فيه بأن يجوز الغلو فيما هو حق، على معنى اتباعه والثبات
(١) عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ (١٧١) النساء.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٦.
(٣) في (ج): (وما زاد)، وفي ديوان ذي الرمة: فما زال.
(٤) "ديوانه" ص ١٦٤.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٦.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٩٦، "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٥.
(٩) في (ج): (أحدها) بالإفراد.
487
عليه، قال مقاتل: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ أي في عيسى.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ﴾ الأهواء جمع هوى، وهوى فَعَلٌ، وجمعه أفعال (١)، ومعنى الأهواء هنا: المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، وقد يشق على الإنسان النظر ويميل طبعه إلى بعض المذاهب فيعتقده فيكون ذلك هوى (٢)، قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى هوى في القرآن إلا ذمَّهُ (٣) كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ﴾ [ص: ٢٦] ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ [طه: ١٦] ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم: ٣]، ومثله كثير (٤).
قال أبو عبيد: لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر، لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال في الخير: يريد ويحب، وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون الله، قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: ٢٣]، وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشدوا في ذم الهوى:
إن الهوان هو الهوى حرم اسمه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
ومثل ذلك أيضًا:
نون الهوان من الهوى مسروقة وأسير كل هوى أسير هوان
وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي هواي على هواك. فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة (٥)، ويعني بالقوم الذين ضلوا من قبل رؤساء
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٩٧.
(٢) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١٤، ٣/ ٨٣.
(٣) في (ج): (ذمة) بالتاء.
(٤) لم أقف عليه عن الشعبي، معناه في "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٤٦.
(٥) لم أقف عليه.
488
الضلالة من فريقي اليهود والنصارى.
والآية خطاب للذين كانوا في عصر النبي - ﷺ -، نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم، وأن يقلدوهم فيما هووا (١)، وقال الحسن ومجاهد: (الذين ضلوا من قبل) هم اليهود (٢)، وعلى هذا (الخطاب) (٣) للنصارى فقط، يقول: لا تؤثروا الشهوات على البيان كما فعلت اليهود حين كذبوا الرسل ونقضوا العهد، والمراد بالنهي عن اتباع اهوائهم: النهي عن اتباع (أهواء) (٤) مثل أهوائهم في التكذيب والمخالفة على الرسل، ففي القول الأول وقع النهي على اتباع غير ما هووا، وفي هذا الثاني وقع النهي على اتباع مثل أهوائهم، والتقدير في اللفظ: لا تتبعوا مثل أهواء قوم، أي أهواء مثل أهوائهم، ثم حذف الأهواء الأول وأقيم الثاني مقامه؛ لأنه هوى مثله. والأول أظهر.
وقوله تعالى: ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٧٧]، إن قيل: أي فائدة لهذا بعد قوله ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ﴾؟، قيل: معناه: ضلوا عن سواء السبيل بإضلالهم الكثير، فالمعنى: أنهم ضلوا بإضلال غيرهم، فيكون معنى هذا الثاني (٥)، " (٦) غير معنى الأول، وهذا معنى قول الزجاج (٧)، ويجوز أن يكون معنى: ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ تفسيرًا
(١) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١٤، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٣، "زاد التفسير" ٢/ ٤٠٥.
(٢) أخرجه عن مجاهد الطبري ٦/ ٣١٦، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٤٠٥.
(٣) سقطت هذه الكلمة من (ج).
(٤) في (ج): (هوا).
(٥) بعد هذه الكلمة وجد سقط في نسخة (ج) بمقدار لوحتين تقريبًا.
(٦) بداية السقط.
(٧) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٨.
489
لقوله: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ﴾ لأنه بين في الثاني أن ضلالهم عمَّاذا كان.
٧٨ - قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾، قال أكثر المفسرين: يعني: أصحاب السبت وأصحاب المائدة، أما أصحاب السبت: فإنهم لما اعتدوا قال داود: اللهم العنهم، واجعلهم آية ومثلًا لخلقك، فمسخوا قردة، وأما أصحاب المائدة: فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا، قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت، وأصبحوا خنازير. وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة (١).
وقال ابن عباس: يريد في الزبور من يكفر من بني إسرائيل، وكذلك في الإنجيل (٢).
وقيل: ﴿عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى﴾؛ لأن الزبور لسان داود، والإنجيل لسان عيسى، وقال الزجاج: وجائز أن يكون عيسى وداود أعلما أن محمدًا نبي مبعوث، وأنهما لعنا من يكفر به (٣)، والقول هو الأول.
٧٩ - قوله تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ الآية، للتناهي ههنا معنيان: أحدهما: وهو الذي عليه الجمهور، أنه مفاعل من النهي، أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضًا (٤)، قال عطاء عن ابن عباس: "كان بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة اعتدوا في السبت، وفرقة نهوهم ولكن لم يدعوا مجالستهم ولا مؤاكلتهم، وفرقه لما رأوهم يعتدون ارتحلوا عنهم،
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٧ - ٣١٨، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٢، ٤٥٣، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١٤، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٤، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٥، ٤٠٦.
(٢) أخرجه الطبري ٦/ ٣١٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٨، انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٤٥٣.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣١٩، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٤، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٦.
وبقيت الفرقتان المعتدية والناهية المخالطة، فلعنوا جميعًا" (١) ولذلك قال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ويلعنكم كما لعنهم" (٢).
وروى ابن مسعود أن النبي - ﷺ - قال: "من رضي عمل قوم فهو منهم، ومن كثر سواد قوم فهو منهم" (٣).
والمعنى الثاني للتناهي أنه بمعنى الانتهاء، يقال: انتهى عن الأمر وتناهى عنه، إذا كف عنه. وهو قول ابن عباس في هذه الآية: "ليس ينتهون، ولكن كانوا قومًا يعتدون" (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾، أي لبئس شيئًا فعلهم (٥)، ويجوز أن تكون (ما) ههنا كافة لبئس كما تكف في: إنما وبعدما وربما ولكنما وكأنما وليتما ولعلّما، واللام في (لبئس) لام القسم، كأنه قيل: أقسم لبئس ما كانوا يفعلون (٦).
٨٠ - قوله تعالى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أي: من اليهود يتولون كفار مكة، يعني كعب بن الأشرف وأصحابه حين
(١) لم أقف عليه.
(٢) أخرجه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أبو داود برقم ٤٣٣٦، ٤٣٣٧ ومن حديث حذيفة بنحوه أخرجه الإمام أحمد ٥/ ٣٨٨، والترمذي وحسنه برقم ٢١٦٩.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢١.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٨.
(٦) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٩، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٧.
استجاشوا المشركين على رسول الله - ﷺ -، وذكرنا ذلك في قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النساء: ٥١] (١).
وقوله تعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾، أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، محل (أن) رفعٌ، كما تقول: بئس رجلاً زيدٌ، ورفعه كرفع زيد، وفي رفع زيد وجهان: أحدهما: الابتداء، وتكون بئس وما عملت فيه خبره، والثاني: أن يكون خبر ابتداء محذوف، كأنه لما قال: بئس رجلاً، قيل: من هو؟ فقال: زيد، أي هو زيد (٣)، وذهب ابن عباس ومجاهد والحسن إلى أن هذه الآية في المنافقين، والكناية في قوله تعالى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾ عائدة إلى المنافقين (٤)، وهذا القول يؤكده ما بعد هذه الآية.
٨١ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ﴾، إن قلنا: نزلت هذه الآية في المنافقين فالأمر ظاهر، ويجب أن يكون في المنافقين من اليهود؛ لاتصالها بما قبلها، وقبلها في ذكر اليهود لا المشركين، ويكون في هذا جمعًا بين القولين في نزول الآية الأولى، وإن قلنا: إنها
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٦/ ٣٢٠، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٣، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٤، ٨٥.
(٢) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٥٣، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٥، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٧.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٩، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٧.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٠/ ٤٩٨، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٣، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢١٦، "تفسير البغوي" ٣/ ٨٥، "زاد المسير" / ٤٠٧.
نزلت في الذين جاهروا من اليهود بالعداوة لرسول الله - ﷺ - والتولي للمشركين، فمعنى قوله: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ﴾ فالمراد بالنبي: موسى عليه السلام ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾ كتابه، أي: لو آمنوا بموسى وما أنزل إليه ما اتخذوا الكافرين أولياء.
٨٢ - قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً﴾ الآية، اللام في (لتجدن) لام القسم، والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال، عند الخليل وسيبويه (١)، قال المفسرون: إن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدًا للنبي - ﷺ -، وكان ينبغي أن يكونوا أقرب إلى المؤمنين، لأنهم يؤمنون بموسى والتوراة، والكفار كانوا يكذبون بهما، لكنهم حسدوا المؤمنين ومحمدًا عليه السلام (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾، قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: يعني: النجاشي ووفده الذين قدموا من الحبشة على رسول الله - ﷺ - فآمنوا به، ولم يُرِد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للدين والمسلمين، وهذا قول مجاهد والكلبي ومقاتل (٣)، وقال قتادة: هؤلاء قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام، فلما جاء محمد - ﷺ - آمنوا به (٤).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٩، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٨.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٩، "الوسيط" ٢/ ٢١٦.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٤٩٧، و"معاني القرآن" للفراء ١/ ٣١٨، والطبري ٧/ ٢، و"بحر العلوم" ١/ ٤٥٣، و"النكت والعيون" ٢/ ٥٨، والبغوي ٣/ ٨٥، و"زاد المسير" ٢/ ٤٠٨.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٣، "النكت والعيون" ٢/ ٥٨، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٨.
493
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾، قال الزجاج: القس والقسيس رؤساء النصارى (١).
وقال الفراء في كتاب "الجمع": يجمع القسيس قسيسين كما قال الله، ولو جمع قسوسًا كان صوابًا؛ لأنهما في معنى واحد، يعني القس والقسيس، قال: ويجمع القسيس قساوسة، جمع على مثال مَهَالبَة، وكان قساسية، فكثرت السينات فأبدلوا إحداهن واوًا (٢)، والقسوسة مصدر القس والقسيس، وقد تكلمت العرب بالقس والقسيس، أنشد المازني:
لو عَرضتْ لأِيبُليٍّ قَسِّ أشعثَ في هيكلِه مُنْدسَّ
حَنَّ إليها كحنينِ الطَّسِّ (٣)
وقال أمية:
لو كان مُنفَلتٌ كانت قساوسةٌ يُحييهم اللهُ في أيديهم الزُّبُرُ (٤)
وقساوسة جمع قسيس، على ما ذكرنا، هذا كلام أهل اللغة في القسيس، وقال ابن زيد: "القسيسين: العُبَّاد" (٥).
وقال عروة بن الزبير: ضيعت النصارى الإنجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه، وبقي واحد من علمائهم على الحق والاستقامة وهو قسّيسا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس" (٦).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٠، و"بحر العلوم" ١/ ٤٥٤، و"الصحاح" ٣/ ٩٦٣ (قس).
(٢) كلام الفراء من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٩ (قس)، و"تفسير الطبري" ٧/ ٣.
(٣) الرجز منسوب للعجاج، وقد سبق ذكره عند تفسير المؤلف للآية الأول من سورة النساء.
(٤) البيت في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٩ (قس).
(٥) أخرجه الطبري ٧/ ٣.
(٦) لم أقف عليه.
494
وقال قطرب: القس والقسيس: العالم بلغة الروم (١).
وقال ورقة (٢):
بما خبَّرتنا مِن قولِ قَسٍّ من الرهبانِ أكرهُ أنْ يعوجا
وعلى هذا فالقس والقسيس مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين، وأما الرهبان فهو جمع راهب، مثل راكب وركبان، وفارس وفرسان، قال الليث: الرهبانية مصدر الراهب، والترهيب التعبد في صومعة (٣)، وقال أبو الهيثم: الرهبان يكون واحدًا وجمعًا، فمن جعله واحداً جعله بناء على فُعلان (٤)، وأنشد:
لو عاينت رُهبان ديْرٍ في القُلَلْ لأقبلَ الرُّهبانُ يعْدُو ونَزَلْ (٥)
قال: ووجه الكلام: أن يكون جمعًا بالنون، قال: وإن جمع الرهبان الواحد رهابين ورهابنة جاز، وإن قلت: رهبانيون، كان صوابًا، ينسبه إلى الرهبانية (٦)، وأصل الرهبانية من الرهبة بمعنى المخافة (٧).
وقال جرير:
رهبانُ مديَن لو رأوك تنزَّلوا والعُصمُ من شَعَفِ العَقُول الفادِرِ (٨)
(١) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢١٧، والبغوي ٣/ ٨٧، و"زاد المسير" ٢/ ٤٠٨.
(٢) الظاهر أنه ورقة بن نوفل المشهور، من أهل الكتاب. وتقدمت ترجمته.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٨ (رهب)، "اللسان" ٣/ ١٧٤٩ (رهب).
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٨٣ (رهب)، "اللسان" ٣/ ١٧٤٨ (رهب).
(٥) البيت دون نسبة في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٨٣ (رهب)، "اللسان" ٣/ ١٧٤٨ (رهب).
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٨٣ (رهب)، "اللسان" ٣/ ١٧٤٨ (رهب).
(٧) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٨٣ (رهب)، "تفسير الطبري" ٧/ ٣.
(٨) البيت في الطبري ٧/ ٣، و"اللسان" ٣/ ١٧٤٨ (رهب)، وقال موضحًا البيت: "وعِلٌ عاقل: صعد الجبل، والفادر: المسن من الوعول.
495
فهذا جمع، ويقال: كيف مدحهم الله عز وجل بأن منهم قسيسين ورهبَانًا وليس هذان من أمور المسلمين، وقد نهى النبي - ﷺ - عنهما فقال: "إني لا آمركم أن تكونوا قسيسين ولا رهبانًا" (١)؟، والجواب عن هذا ما ذكره أبو بكر محمد بن القاسم (٢) رحمه الله فقال: إنما مدحهم الله تعالى بالتمسك بدين عيسى، وبأنهم استعملوا في أمر محمد - ﷺ - ما أخذ عليهم في التوراة والإنجيل، وكانت الرهبانية مستحسنة في دينهم، ولذلك كانوا يسمون الرئيس في دينهم قسًا وقسيسًا، فذكر الله تبارك وتعالى أسماءهم وألقابهم على سبيل ما يُعرف لهم، ومدح منهم تصديق النبي - ﷺ - (٣)، فكان تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾، ذلك بأن منهم عليما أوصاه عيسى عليه السلام، الدليل على هذا قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ فلما دخلوا في الإِسلام [...] (٤) ما كان قبله وألزمهم الأخذ بما يأمر رسول الله - ﷺ - ورفض ما كانوا يستعلمونه في شريعتهم.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي عن اتباع الحق والإذعان به كما يستكبر اليهود وعبدة الأوثان) (٥) (٦).
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٩ بسنده عن أبي عبد الرحمن (وقد يكون ابن مسعود). وقد أخرج الإِمام أحمد في مسنده ٦/ ٢٢٦ من حديث عائشة في قصة عثمان بن مظعون قوله - ﷺ -: "يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا"، والدارمي في كتاب النكاح/ باب ٣ النهي عن التبتل ٣/ ١٣٨٦ - ١٣٨٧ برقم (٢٢١٥) من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: (يا عثمان إني لم أومر بالرهبانية).
(٢) ابن الأنباري.
(٣) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢١٧، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٨، ٤٠٩.
(٤) بياض في (ش) بمقدار كلمة.
(٥) "تفسير الطبري" ٧/ ٤، و"زاد المسير" ٢/ ٤٠٩.
(٦) إلى هنا نهاية السقط الذي سبقت الإشارة إلى بدايته من نسخة (ج).
496
٨٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾، قال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه، قرأ عليهم جعفر الطيار في الحبشة ﴿كهيعص﴾، فأخذ النجاشي شيئًا من الأرض فقال: والله ما زاد على ما قال الله في الإنجيل هذا. فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة، ﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ يريد الذي نزل على محمد - ﷺ - وهو الحق ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا﴾ صدقنا ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ يريد مع أمة محمد - ﷺ - الذين يشهدون بالحق من قوله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣]، هذا كله كلام ابن عباس وتفسيره (١).
وقال أبو إسحاق: أي: مع من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك (٢).
٨٤ - قوله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾، قال المفسرون: إن هؤلاء الوفد لما رجعوا إلى قومهم لاموهم على ترك دينهم، فأجابوهم بهذا (٣).
قال أبو إسحاق: موضع (لا نؤمن) نصب على الحال، المعنى أي شيء لنا تاركين للإيمان؟ (٤)، وأراد بالقوم الصالحين أمة محمد - ﷺ - (٥)، دليله قوله تعالى: ﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] (٦).
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٥ - ٦، "الوسيط" ٢/ ٢١٧، ٢١٨، البغوي ٣/ ٨٧، "زاد المسير" ٢/ ٤٠٩، وابن كثير ٢/ ٩٨.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٠.
(٣) "بحر العلوم" ١/ ٤٥٤، "الوسيط" ٢/ ٢١٩، البغوي ٣/ ٨٨.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٠.
(٥) هذا تفسير ابن زيد أخرجه الطبري ٧/ ٧، "زاد المسير" ٢/ ٤١٠.
(٦) "تفسير البغوي" ٣/ ٨٨، "الوسيط" ٢/ ٢١٩،"زاد المسير" ٢/ ٤١٠.
٨٥ - قوله تعالى: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا﴾، قال الكلبي: أي بالتوحيد (١)، وعلى هذا إنما علق الثواب بمجرد القول؛ لأنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة في قوله: (مما عرفوا من الحق) والبكاء المؤذن بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب ومعرفتة، والقول إذا اقترن به المعرفة والإخلاص فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب (٢).
وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: (بما قالوا): "يريد بما سألوا" يعني قولهم: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، وقولهم: ﴿وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا﴾ الآية وهذا يدل على مسألتهم الجنة (٣)، فعلى هذا التفسير، القول معناه: المسألة.
وقوله تعالى: ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال ابن عباس: الموحدين (٤)، وقال الكلبي: المؤمنين (٥).
٨٦ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا﴾، قال أهل المعاني: لما ذكر الله الوعد لمؤمني أهل الكتاب، ذكر الوعيد لمن كفر منهم وكذب (٦)، وأطلق اللفظ به ليكون لهم ولمن جرى مجراهم في الكفر.
٨٧ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾، الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب (٧)،
(١) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٢.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٥ - ٦، والبغوي ٣/ ٨٨.
(٣) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢١٩.
(٤) "تفسير البغوي" ٣/ ٨٨، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٢.
(٥) نسبه لابن عباس في زاد المسير ٢/ ٤١٠ "الوسيط" ٢/ ٢١٩.
(٦) هذا وجه المناسبة لهذه الآية وما قبلها، وذكره في الوسيط ٢/ ٢١٩.
(٧) الطبري ٧/ ٨، "الوسيط" ٢/ ٢١٩، البغوي ٣/ ٩٠.
498
قال المفسرون. هم قوم من أصحاب النبي - ﷺ - أن يرفضوا (١) الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل، وأن لا يناموا على الفرش، ويخصوا أنفسهم (٢)، فأُخِبر النبي - ﷺ - بذلك فقال: "إن لأنفسكم عليكم حقًّا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا؛ (فإني) (٣) أقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني" فأنزل الله عز وجل هذه الآية (٤).
واعلم أن شريعة نبيه عليه السلام غير ذلك، وأن الطيبات لا ينبغي أن تجتنب، وسمى الخصاء اعتداء فقال: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ أي لا تجبوا أنفسكم، وهذا
(١) هكذا في النسختين، ولعل الكلام ناقص، فقد يكون الصواب: أرادوا أن يرفضوا.
(٢) من الخصاء وهو وجاء الخصيتين وجبهما.
(٣) ساقط من (ج).
(٤) بهذا السياق وهذه التفاصيل الواردة في القصة وأنها سبب لنزول هذه يروى هذا الأثر مرسلًا فقد أخرجه الطبري من طرق عن التابعين كقتادة وغيره. "تفسير الطبري" ٧/ ٨ - ١٢، وذكره المؤلف في أسباب النزول ص ٢٠٧ - ٢٠٨، والسيوطي في كتاب: النقول ص ٩٦، ٩٧، قال محقق أسباب النزول: "ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة وقتادة وأبي قلابة بمعناه، وهي مراسيل صحيحة الإسناد، إلا أن تفصيل القصة والأشخاص وما رد عليهم الرسول - ﷺ - عليهم لم يذكر في أثر مسند صحيح وكذا أصلها، والله أعلم.
قلت: لكن لهذه القصة أجل في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس - رضي الله عنه - في أمر الثلاثة الذين سألوا عن عبادته - ﷺ - فكأنهم تقالوها فعزموا على القيام والصيام واعتزال النساء فقال - ﷺ -: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
أخرجه البخاري واللفظ له رقم (٥٠٦٣)، ومسلم برقم ١٤٠١.
499
قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وإبراهيم (١).
٨٨ - قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، قال ابن عباس: يريد من طيبات الرزق، اللحم وغيره (٢)، وقال عبد الله بن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه والطيب ما غَذَّا ونمَّا (٣).
٨٩ - قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾، قال ابن عباس والمفسرون: إن القوم لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حلفوا على ذلك، فلما نزل: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله هذه الآية (٤).
وقد مضى الكلام في معنى لغو اليمين وحكمه مستقصى في سورة البقرة (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾، اختلف القراء في (عقدتم) فقرؤوا مخففًا، ومشددًا، وبالألف من عاقد (٦)، يقال: عقد فلان
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ١٠ - ١١، "الوسيط" ٢/ ٢١٩، البغوي ٣/ ٩٠، "زاد المسير" ٢/ ٤١٢، "الدر المنثور" ٢/ ٥٤٤ - ٥٤٨.
(٢) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢٠، وعزاه المحقق للترمذي في كتاب التفسير من سورة المائدة ولم أجده.
(٣) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٠.
(٤) أخرجه الطبري عن ابن عباس ٧/ ١٣، "الوسيط" ٢/ ٢٢٠، البغوي ٣/ ٩٠، "زاد المسير" ٢/ ٤١٢.
(٥) الظاهر أنه عند تفسير قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ (٢٢٥) سورة البقرة.
(٦) قال أبو علي: "... فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (بما عقَّدتُمْ) بغير ألف مشددة القاف، وكذا روى حفص عن عاصم. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (بما عَقَدتُمْ) بغير ألف خفيفة، وكذلك قرأ حمزة والكسائي".
وقرأ ابن عامر: (عاقدتم) بألف. "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٥١.
500
اليمين والعهد والحبل عقدًا، إذا وكده وأحكمه، ومثل ذلك أيضًا عقَّد بالتشديد إذا وكَّد، وعاقد بالألف (١)، قال الحطيئة:
وإن عاهدوا أوفوا وإن عاقدوا شدوا (٢)
وقال في عقد:
قومٌ إذا عَقَدوا عقدًا لجارِهُم (٣)
فقال في بيت: عاقدوا، وفي بيت: عقدوا، فمن قرأ بالتشديد احتمل أمرين: أحدهما أن يكون لتكثير الفعل، لأنه خاطب بهذا الجماعة، فصار كقوله تعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ [يوسف: ٢٣]، والآخر أن يكون عَقَّد مثل عقد في أنه لا يراد به التكثير (٤)، وزيَّف أبو عبيد هذه القراءة فقال: التشديد للتكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن توجب هذه القراءة سقوط الكفارة في اليمين الواحدة، لأنها لم تكرر، ووهم فيما قال؛ لأن معنى تعقيد اليمين أن يعقدها في قلبه ولفظه، ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدًا، ومتى ما جمع بين اللسان والقلب في قصد اليمين فقد عَقَّد اليمين، ومن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للكثير والقليل، يقال: عقدوا أيمانهم، وعقد زيد يمينه (٥).
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥١٢ (عقد).
(٢) "ديوانه" ص ١٤٠ وصدره:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البُنى
وهو في تهذيب اللغة ٣/ ٢٥١٢ (عقد).
(٣) صدر بيت للحطيئة في ديوانه ص ١٢٨، وعجزه:
شدوا العِنَاج وشدوا فوقه الكربا
وهو في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥١٢ (عقد)، و"الحجة" ٣/ ٢٥٢.
(٤) "الحجة للقراءة السبعة" ٣/ ٢٥١.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٥٢.
501
قال أبو عبيد: على هذا وجدنا الآثار كلها، يقال: الأيمان ما عُقِدتَ عليه القلوب، وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل: عافاه الله، وطارقت النعل، وعاقبت اللص، فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف (١)، و (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، وليست الموصولة التي تقتضي راجعًا، والتقدير: ولكن يؤاخذكم بعقدكم أو بتعقيدكم أو بمعاقدتكم الإيمان (٢).
وأما التفسير قال عطاء: "هو أن يضمر الأمر، ثم يحلف بالله لا إله إلا هو، فيعقد عليه اليمين (٣).
وقال مجاهد: ما عقد عليه قلبك وتعمدته، يعني كفارة عقدكم (...) (٤) العقد (٥).
قال الكلبي: هو أن يحلف على اليمين، وهو يعلم أنه فيها كاذب (٦).
وقال الزجاج: أعلم الله عز وجل أن اليمين يؤاخذ بها العبد، ويجب في بعضها الكفارة، وهو ما جرى على عقد (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾، أي: كفارة ما عقدتم يكون حنثًا، فلا
(١) "الحجة" ٣/ ٢٥٢.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٥٣، ٢٥٤.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) بياض في (ج) فقط بمقدار كلمة.
(٥) أخرجه بمعناه الطبري ٧/ ١٤، "الوسيط" ٢/ ٢٢١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٣.
(٦) لم أقف عليه، وفي هذا نظر لأن اليمين الكاذبة، وهي الغموس، لا تكفر.
انظر: بحر العلوم ١/ ٤٥٦ وما نقله عن وهب بن منبه، "الدر المنثور" ٢/ ٥٥١ وما رواه عن أبي مالك.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠١، ٢٠٢.
502
يحتاج إلى الإضمار، وقد يكون موقوفًا على الحنث والبر فيحتاج إلى إضمار إذا حنثتم، ويستغنى عنه أنه مدلول عليه.
وقوله تعالى: ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾، نصيب كل مسكين مُدّ، وهو ثلثا منٍّ (١)، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والقاسم والحسن (٢)، ومذهب الشافعي (٣)، وعند أبي حنيفة يطعم نصف صاع من حنطة، وصاعًا من غير الحنطة كالشعير والتمر والزبيب (٤)، وهو قول مجاهد، قال: كل إطعام في القرآن للمساكين فهو على نصف صاع (٥)، وإن كان المساكين ذكورًا وإناثًا جاز ذلك، ولكن وقع لفظ التذكير لأنه مغلب في كلام العرب.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾، قال ابن عباس: كان الرجل يقوت أهله قوتًا فيه سعة، وقوتًا وسطًا، وقوتًا دون ذلك، فأمر بالوسط (٦)، وهذا يعود إلى ما ذكرنا من قدر المد؛ لأنه وسط في طعام الواحد، وليس بسرف ولا تقتير.
(١) الصالح أربعة أمداد، مقدارها بالوزن الحاضر كيلوان ونصف تقريبًا، فيكون المد أقل من الكيلو.
(٢) انظر: الطبري ٧/ ١٨ - ٢١، والبغوي ٣/ ٩١، وابن كثير ٢/ ١٠١.
(٣) "الأم" للشافعي ٧/ ٦٤، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٦١، والوسيط ٢/ ٢٢١، وابن كثير ٢/ ١٠٢.
(٤) "بحر العلوم" ١/ ٤٥٦، "النكت والعيون" ٢/ ٦١، والبغوي ٣/ ٩١، وابن كثير ٢/ ١٠٢.
(٥) لم أجده بهذا اللفظ أو قريب منه، والذي أخرج الطبري ٧/ ١٩ عن مجاهد بلفظ: مدان من طعام لكل مسكين. والمدان: نصف صاع، فهو بمعناه.
(٦) أخرجه الطبري بمعناه ٧/ ٢٢، وانظر: زاد المسير ٢/ ٤١٤.
503
ومثل هذا قال سعيد بن جبير: كان أهل المدينة يفرضون للصغير على قدره، وللكبير على قدره، وللوسط على قدره، فأمروا بأوسط ما يطعمون (١)، وهذا وسط في الشبع، لا يكون فوق الحاجة ولا دون المغني من الجوع، ويحتمل أن يريد بالأوسط ما هو أوسط في القيمة، لا يكون غاليًا كالسكر وما يغلو ثمنه من المطعومات، ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة. والأوسط على هذا: الحنطة والتمر والزبيب والخبز، وهذا قول الأسود وعبيدة وشريح (٢)، ويحتمل أن يريد الأوسط في الجنس، وهذا كالأوسط في القيمة، قال ابن عباس في رواية عطاء: كل شيء في كتاب الله أوسط فهو أفضل (٣)، فعلى هذا يريد: من خير قوت عيالكم، فلو أنه يطعم عياله الحنطة ويقتاتها، لم يجز له أن يعطي الشعير.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾، الكسوة في اللغة معناها: اللباس، وهي كل ما يكتسي به (٤)، وأما الذي يجزئ في الكفارة، فهو أقل ما وقع عليه اسم الكسوة: إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة، ومقنعة، ثوب واحد لكل مسكين، وهو قول ابن عباس، والحسن ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وإبراهيم (٥)، ومذهب الشافعي - رضي الله عنه - (٦).
(١) أخرجه بنحوه الطبري ٧/ ٢٢، انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٦١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٣.
(٢) "تفسير البغوي" ٣/ ٩١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٤.
(٣) لم أقف عليه، وانظر: القرطبي ٦/ ٢٧٦.
(٤) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٣٩ (كسو).
(٥) انظر: الطبري ٧/ ٢٣ - ٢٤، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٦، "النكت والعيون" ٢/ ٦١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٤.
(٦) "النكت والعيون" ٢/ ٦١، والبغوي ٣/ ٩١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٤.
504
وقوله تعالى: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾، قيل: (رقبة) والمراد الجملة؛ لأنه مشبه بالأسير الذي يفك عن رقبته ويطلق (١)، والرقبة المحررة في الكفارة: كل رقبة سليمة من عيب وعاهة تمنع من العمل، صغيرة كانت أو كبيرة، ذكرًا أو أنثى، بعد أن تكون مؤمنة، ولا يجزئ إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات (٢).
قال ابن عباس في رواية عطاء: (أو تحرير رقبة) يريد مؤمنة (٣).
وهو قول الحسن أيضًا ومذهب الشافعي (٤)، واحتج بأن الله تعالى قيد بالإيمان في كفارة القتل، وأطلق في غيرها، والمطلق يحمل على المقيد (٥).
قال أبو إسحاق: خُيِّر الحالف بين هذه الثلاثة، وأفضلها عند الله أكثرها نفْعًا وأحسنها موقعًا من المساكين أو من المعتق، فإن كان الناس في جدب لا يقدرون على المأكول إلا بما هو أشد تكلفًا من الكسوة والإعتاق فالإطعام أفضل؛ لأن به قوام الحياة، وإلا فالإعتاق والكسوة أفضل (٦).
وهذا إجماع من العلماء أن المكفر مخير بين هذه الثلاث (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾، قال الحسن: من كان عنده عشرة دراهم
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٢٦.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٢٨ - ٢٩، البغوي ٣/ ٩٢، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٣) أخرج الطبري ٧/ ٢٧ عن عطاء قال: يجزئ المولود في الإِسلام من رقبة.
(٤) "الأم" ٧/ ٦٥.
(٥) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٢، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٢.
(٧) حكى الإجماع هنا الطبري ١٠/ ٥٥٥.
505
فعليه أن يطعم في الكفارة (١).
وقال عطاء الخراساني: عشرون درهما (٢).
وقال قتادة: من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته فهو غير واجد، وجاز له الصيام (٣)، وهو مذهب الشافعي (٤)، وعليه دل كلام ابن عباس فيما روى عنه عطاء، لأنه قال: فمن لم يجد من هذه الثلاثة شيئًا (٥).
وقال الزجاج: من كان لا يقدر على شيء مما حد في الكفارة (٦).
قال الشافعي: إذا كان عنده قوته وقوت عياله، يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين، لزمته الكفارة بالإطعام، وإن لم يكن عنده هذا القدر فله الصيام (٧).
وعند أبي حنيفة: يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة (٨)، فجعل من لا زكاة عليه عادمًا (٩).
(١) المروي عن الحسن درهمان، كما أخرجه الطبري ٧/ ٢٩، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٦٢، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٤) "الأم" ٧/ ٦٦، الطبري ٧/ ٢٩، "النكت والعيون" ٢/ ٦٢، "الوسيط" ٢/ ٢٢١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٥) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٢.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٢.
(٧) "الأم" ٧/ ٦٦، "الوسيط" ٢/ ٢٢١، ٢٢٢، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٨) "النكت والعيون" ٧/ ٦٣، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٩) وهذا القول مخالف لظاهر الآية، وما عليه جمهور العلماء.
506
وقوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾، أي: فعليه، أو فكفارته ثلاثة أيام، قال ابن عباس والحسن: متتابعات (١)، وهو قول قتادة وأبي بن كعب والثوري، ومذهب أبي حنيفة (٢)، وقال مجاهد: يخير فيهن (٣).
وقال عطاء وإبراهيم: ما لم يذكر في كتاب الله متتابعًا فصمه كيف شئت (٤)، وهو مذهب مالك (٥)، وللشافعي فيه قولان (٦):
أحدهما: أن التتابع يجب قياسًا على الصيام في كفارة الظهار، ولأن في قراءة عبد الله وأُبي: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) (٧).
والثاني: أنه مخير، إن شاء فرق، وإن شاء تابع (٨).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾، يعني: أيمانكم الكاذبة، التي حنثتم بها، فحذف النعت لأنه مدلول عليه، وإن شئت قلت: ذلك كفارة
(١) أخرجه عن ابن عباس الطبري ٧/ ٣٠ - ٣١، "الوسيط" ٢/ ٢٢٢. أما الحسن فقد نسب إليه ابن الجوزي في زاد المسير ٢/ ٤١٥ القول بجواز التفريق بين صيام الأيام، والله أعلم.
(٢) "بحر العلوم" ١/ ٤٥٦، والبغوي ٣/ ٩٣، و"زاد المسير" ٢/ ٤١٥، وزاد ابن الجوزي: وهو قول أصحابنا -يعني الحنابلة-.
(٣) هكذا نسب المؤلف لمجاهد رحمه الله القول بالتخيير وكذا في الوسيط ٢/ ٢٢٢ إلا أن المعروف عن مجاهد عند عامة المفسرين القول بلزوم التتابع، كما أخرج ذلك عنه الطبري ٧/ ٣٠، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٦، "النكت والعيون" ٢/ ٦٣، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٣٠.
(٥) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٣، و"زاد المسير" ٢/ ٤١٥، وابن كثير ٢/ ١٠٣.
(٦) "الأم" ٧/ ٦٦، والبغوي ٣/ ٩٣، و"زاد المسير" ٢/ ٤١٥، وابن كثير ٢/ ١٠٣.
(٧) "الأم" ٧/ ٦٦، والبغوي ٣/ ٩٣، وابن كثير ٢/ ١٠٣.
(٨) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٣، وابن كثير ٢/ ١٠٣.
507
حنث أيمانكم، ثم حذف المضاف، وقال أبو إسحاق: أي ذلك الذي يغطي على آثامكم (١).
وقوله تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد لا تحلفوا (٢)، وقال غيره: واحفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا (٣)، وحفظ اليمين يحتمل الأمرين (٤).
٩٠ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾، قد ذكرنا في سورة البقرة معنى الخمر والميسر وأصلهما واشتقاقهما (٥)، وقد قال ابن عباس في هذه الآية: "يريد الخمر من جميع الأشربة التي تخمر حتى تشتد وتسكر" (٦).
وقد قال - ﷺ -: "الخمر من تسع: من البِتْع وهو العسل، ومن العنب، ومن الزبيب، ومن التمر، ومن الحنطة، ومن الذرة، والشعير، والسُلت" (٧)، وقال في الميسر: "يريد القمار، وهو في أشياء كثيرة" (٨). انتهى كلامه،
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٣.
(٢) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢٢، ونسبه محققه لتفسير ابن عباس ص ١٠٠، والبغوي ٣/ ٩٣، و"زاد المسير" ٢/ ٤١٦.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ٣١، "النكت والعيون" ٢/ ٦٣، "زاد المسير" ٢/ ٤١٦.
(٤) "النكت والعيون" ٢/ ٦٣. ورجح البغوي ٣/ ٩٣ القول الثاني.
(٥) الظاهر أن ذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: ٢١٩].
(٦) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢٣، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٣.
(٧) أخرجه بمعناه أبو داود (٣٦٧٦ - ٣٦٧٧) في الأشربة، باب الخمر ما هي؟ من حديث النعمان بن بشيرِ، والترمذي (١٨٧٢) في الأشربة، باب ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر، وابن ماجه (٣٣٧٩) في الأشربة، باب مما يكون منه الخمر.
(٨) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٣.
508
وقال الزجاج: (والميسر: القمار) (١) كله، وأصله أنه كان قمارًا في الجزور، وكانوا يقسمون الجزور في قول الأصمعي على ثمانية وعشرين جزءًا، وفي قول أبي عمرو الشيباني على عشرة أجزاء، وقال أبو عبيدة: لا أعرف عدد الأجزاء. وكانوا يضربون عليها بالقداح (٢).
فهذا أجل الميسر، والقمار كله كالميسر (٣)، ويطول الكلام في كيفية قمار العرب على الجزور، فتركت ذلك، قال أبو إسحاق: وقد بينتها على حقيقتها في كتاب "الميسر".
وقوله تعالى: ﴿وَالْأَنْصَابُ﴾، قال ابن عباس: يريد أنصبتهم التي نصبوها يعبدونها، وواحدها نَصْبٌ (٤)، وقال في الأزلام: إنها سهام مكتوب عليها خير وشر (٥)، ومثل ذلك قال الفراء والزجاج وغيرهما في الأنصاب والأزلام (٦).
وقد ذكرنا معنى الأنصاب والأزلام في أول السورة عند قوله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ [المائدة: ٣].
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأزلام ههنا: قداح الميسر، قال
(١) في (ج): (والميسر والقمار).
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٧٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٣، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٥٦.
(٤) انظر: غريب القرآن لابن قتيبة ص ١٤٥، "النكت والعيون" ٢/ ٦٤، "الوسيط" ٢/ ٢٢٦، ونسبه المحقق لتفسير ابن عباس ص ٨٨، والبغوي ٣/ ٩٤.
(٥) "النكت والعيون" ٢/ ٦٤، "الوسيط" ٢/ ٢٢٦، وعزاه المحقق لتفسير ابن عباس ص ٨٨، والبغوي ٣/ ٩٤.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣١٩، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٤٥، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٢٠٣.
509
الأزهري: ومن قال ذلك فقد وهم.
وقوله تعالى: ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾، الرجس في اللغة: اسم لكل ما استقذر من عمل، يقال: رَجِسَ الرجل رَجَسًا ورَجُسَ، إذا عمل عملًا قبيحًا، وأصل من الرَّجَس بفتح الراء وهو شدة الصوت، يقال: سحاب رجاس، إذا كان شديد الصوت بالرعد، قال الراجز:
وكل رجَّاس يَسُوق الرُّجَّسَا (١)
فكان الرجس العمل الذي يقبح ذكره جدًا ويرتفع في القبح (٢)، قال الزجاج (٣): بالغ الله في ذم هذه الأشياء فسماها رجسًا، وأعلم أن الشيطان يسول ذلك لبني آدم (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾، أي: كونوا جانبًا منه (٥)، والهاء عائدة على الرجس (٦)، والرجس واقع على الخمر وما ذكر بعدها، وقد قرن الله تعالى تحريم الخمر بتحريم عبادة الأوثان تغليظًا وإبلاغًا في النهي عن شربها، ولذلك قال رسول الله - ﷺ -: "مدمن الخمر كعابد الوثن" (٧).
(١) هذا الرجز منسوب للعجاج كما في حاشية "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٤، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٦٧ (رجس).
(٢) الكلام من أوله من "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٢٠٣، ٢٠٤، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٦٧ (رجس)، "زاد المسير" ٢/ ٤١٧
(٣) في (ج): (الزجاجي)، وهو تصحيف لأن الكلام للزجاج.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٣.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٦، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٣٥٦.
(٦) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٤.
(٧) أخرجه البخاري في تاريخه ١/ ١٢٩، ٣/ ٥١٥، والبيهقي في "شعب الإيمان" ٥/ ١٢، وصححه الألبانى. انظر: "صحيح الجامع الصغير" ٥/ ٢٠٥ برقم ٥٧٣٧.
510
وقال - ﷺ -: "أكثر ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان شرب الخمر وملاحاة الرجال" (١). يعني: عداوة الرجال.
٩١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، قال ابن عباس: يريد سعد بن أبي وقاص ورجلاً من الأنصار كان مواخيًا لسعد، فدعاه إلى طعام فأكلوا وشربوا نبيذًا مسكرًا، فوقع بين الأنصاري وسعدٍ مراءً ومفاخرة، فأخذ الأنصاري لَحي بَعير فضرب به سعدًا حتى أثر في وجهه، فأنزل الله ذلك فيهما (٢).
قال أهل المعاني: إن الشيطان يزين لهم ذلك، حتى إذا سكروا وزالت عقولهم أقدموا من المكاره والمقابح على ما كانت تمنعه منه عقولهم (٣)، وأما العداوة في الميسر فقال قتادة: كان الرجل يقامر في أهله وماله، فيقمر فيبقى (٤) حريبًا (٥) سليبًا، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾، وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر والقمار ألهاه ذلك عن ذكر الله جل وعز بالتعظيم، والشكر على آلائه، وعن عبادته.
وقوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]، قال ابن عباس:
(١) لم أقف عليه.
(٢) القصة من حديث سعد في صحيح مسلم (١٧٤٨) كتاب فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص، والطبري ٧/ ٣٣ - ٣٤ من طرق، و"أسباب النزول" للمؤلف ص ٢٠٩.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ٣٢.
(٤) في (ج): (ويبقى).
(٥) في ش: (حربيًا).
(٦) أخرجه الطبري ٧/ ٣٥، "الوسيط" ٢/ ٢٢٧.
قالوا - رضي الله عنهم - انتهينا ربنا (١)، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا حتى نزلت هذه الآية فقال: انتهينا انتهينا (٢).
قال ابن الأنباري: بُيِّن تحريم الخمر في قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ إذ كان معناه: فانتهوا (٣).
قال الفراء: ردد علي أعرابي: هل أنت ساكت؟ هل أنت ساكت؟ وهو يريد: سكت (٤)؟.
وقال غيره: إنما جاز في صيغة الاستفهام أن يكون على معنى النهي؛ لأن الله تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها، وإذا ظهر قبح الفعل للمخاطب، ثم استفهم عن تركه، لم يسعه إلا الإقرار بالترك، فكأنه قيل: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما ظهر، فصار المنهي بقوله: (فهل أنتم منتهون) في محل قد عقد عليه ذلك بإقراره، فكان هذا أبلغ في باب النهي من أن لو قيل: انتهوا ولا تشربوا (٥).
ولما ذكر الأمر باجتناب الخمر وما بعدها، أمر بالطاعة فيه وفي غيره من أمر الله عز وجل (٦) فقال:
٩٢ - ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا﴾، أي: المحارم والمناهي (٧)،
(١) الأثر عن بريدة أخرجه الطبري ٧/ ٣٤، "الوسيط" ٢/ ٢٢٧.
(٢) أخرجه أبو داود (٣٦٧٠) كتاب: الأشربة، باب: في تحريم الخمر، والترمذي (٣٠٤٩) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة، والطبري ٧/ ٣٣ - ٣٤.
(٣) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢٧.
(٤) ليس في "معاني القرآن"، "الوسيط" ٢/ ٢٢٧، "زاد المسير" ٢/ ٤١٩.
(٥) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٤، "زاد المسير" ٢/ ٤١٩.
(٦) وجه المناسبة للآية وما بعدها.
(٧) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٤.
وقال عطاء: يريد احذروا سخطي (١)
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾، معناه: الوعيد، كأنه قيل: فاعلموا أنكم قد استحققتم العقاب لتولِّيكم عما أدى رسولنا من البلاغ المبين، فوضع كلامَ موضع كلام للإيجاز، ولو كان على غير هذا التقدير لم يصح؛ لأن عليهم أن يعلموا ذلك تولوا أو لم يتولوا، وإنما صار هذا وعيدًا لأنهم إذا علموا أن الرسول قد بلغ ولم يطيعوه استحقوا العقاب (٢).
وأجراه بعضهم على ظاهره، وقال: معناه فاعلموا أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، فأما توفيق الطاعة والخذلان للمعصية، والثواب والعقاب فذلك ما لا يملكه الرسول (٣).
٩٣ - قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ الآية، قال ابن عباس: لما نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة: يا رسول الله ما نقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فأنزل الله هذه الآية (٤).
وقال عطاء: قالوا في أنفسهم: ليت شعرنا ما فعل الله في أصحابنا الذين قتلوا في سبيل الله وهي في بطونهم، وهم شهداء بدر واحد وغير ذلك.
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٣٥ - ٣٦.
(٢) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢٧، "زاد المسير" ٢/ ٤١٩.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ٣٥ - ٣٦.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٣٧، ونحوه في الصحيحين عن أنس وسيأتي تخريجه قريبًا.
513
ونحو هذا من القول في سبب النزول، قال أنس (١) والبراء بن عازب (٢) ومجاهد وقتادة (٣) والضحاك (٤).
وقوله تعالى: ﴿فِيمَا طَعِمُوا﴾، يعني: من الخمر والميسر (٥)، وهذه اللفظة صالحة للأكل والشرب جميعًا.
وقوله تعالى: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾، يعني: المعاصي والشرك (٦)، ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾ الخمر والميسر بعد تحريمها (٧)، ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾ يعني: جميع المحرمات، هذا قول المفسرين (٨).
وقال أصحاب المعاني: الأول: عمل الاتقاء، والثاني: دوام الاتقاء والثبات عليه، والثالث: اتقاء ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه (٩).
وقال ابن كيسان: لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا القمار؟ وكيف بالقتلى في سبيل الله؟ وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر
(١) أخرجه البخاري كتاب: المظالم، باب: ٢١ صب الخمر في الطريق، ومسلم (١٩٨٠) كتاب الأشربة، باب: تحريم الخمر، والمؤلف في أسباب النزول ص ٢١١ - ٢١٢.
(٢) أخرج الترمذي (٣٠٥٠) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة، والطبري ٧/ ٣٧، والمؤلف في أسباب النزول ص ٢١٢.
(٣) أخرج عن مجاهد وقتادة الطبري ٧/ ٣٧، وعن قتادة المؤلف في الوسيط ٢/ ٢٢٨.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٣٩.
(٥) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢٧، والبغوي ٣/ ٩٦.
(٦) "بحر العلوم" ١/ ٤٥٨، "الوسيط" ٢/ ٢٢٧، البغوي ٣/ ٩٦.
(٧) "تفسير الطبري" ٧/ ٣٩.
(٨) "تفسير الطبري" ٧/ ٣٩، "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٥٨، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٠.
(٩) "تفسير الطبري" ٧/ ٣٦، "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٥٨.
514
وهم يطعمونها؟ فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ من الأموات والأحياء في البلدان ﴿جُنَاحَ﴾ إثم فيما طعموا من الخمر والقمار ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾ ما حرم الله عليهم ﴿وَآمَنُوا﴾ بالله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ في إيمانهم ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾ إن أحدث الله لهم تحريم شيء مما أحل لهم ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ فيما تعبدهم الله به (١).
٩٤ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾ الآية، قد ذكرنا معنى ابتلاء الله في قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٨٦]، والواو في ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ﴾ مفتوحة لالتقاء الساكنين، ومعناه: ليختبرن طاعتكم من معصيتكم، أي: ليعاملنكم معاملة المختبر (٢)، قال مقاتل بن حيان (٣): كان هذا عام الحديبية، كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم كثيرة وهم محرمون، لم يروها قط فيما خلا، فنهاهم الله عنها ابتلاء (٤).
وقوله تعالى: ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾ إنما بَعَّض لأنه عني صيد البر دون صيد البحر (٥)، وهو قول الكلبي، قال: أراد صيد البر خاصة (٦).
(١) هذا الأثر بمعنى ما تقدم عن أنس والبراء وابن عباس وغيرهما، وسبق تخريجها، ولم أقف عليه بهذا السياق.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٣٩، "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٦، "النكت والعيون" ٢/ ٦٥، "زاد المسير" ٢/ ٤٢١.
(٣) قد يكون مقاتل بن سليمان، فإن نحو هذا القول في تفسيره، كما سيأتي في عزوه.
(٤) "تفسير مقاتل" بن سليمان ١/ ٥٠٣ بنحوه.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٦.
(٦) "النكت والعيون" ٢/ ٦٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٢١، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٣.
515
قال الزجاج: ويحتمل التبعيض أن ينصرف إلى صيد الإحرام دون صيد الإحلال، فكان ذلك بعض الصيد، وجائز أن يكون قوله: ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾ للتجنيس، فتكون (من) ههنا تُبيِّن جنسًا من الأجناس، كما تقول: لأمتحنَنَّك بشيء من الوَرِق، أي بالجنس الذي هو وَرِق، ومن هذا قوله تعالى: ﴿الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: ٣٠]، والأوثان كلها رجس، والمعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو وثن (١)، وأراد بالصيد المفعول بدليل قوله تعالى: ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾ والصيد إذا كان بمعنى المصدر يكون حدثًا، وإنما يوصف بنيل اليد والرماح ما يكون عينًا، والذي تناله الأيدي من الصيد الفراخ والبيض وصغار الوحش، والذي تناله الرماح الكبار، وهذا قول ابن عباس والكلبي ومجاهد (٢) والفراء (٣) والزجاج (٤).
وقوله تعالى: ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾، قال المفسرون: ليرى الله (٥)، وقد مضى بيان ذلك في قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: ١٤٣].
وقوله تعالى: ﴿مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾، قال الكلبي: أي من يخاف الله ولم يره (٦)، والجار في محل النصب بالحال، والمعنى: من يخافه غائبًا عن رؤية الله تعالى، ومثل هذا قوله تعالى: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ [ق: ٣٣]
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٦.
(٢) أخرجه عن ابن عباس ومجاهد: الطبري ٧/ ٣٩، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٨، "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٥٩، "النكت والعيون" ٢/ ٦٦، البغوي ٣/ ٩٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٢١.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٣١٩.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٦.
(٥) "النكت والعيون" ٢/ ٦٦، و"تفسير البغوي" ٣/ ٩٦، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ١١٠.
(٦) هذا قول مقاتل بن سليمان في "تفسيره" ١/ ٥٠٣، ٥٠٤ "زاد المسير" ٢/ ٤٢٢.
516
﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ [الأنبياء: ٤٩]، وقد أحكمنا هذا ومعنى الغيب في قوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣].
وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾، قال ابن عباس: يريد بعد نهي (١)، ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٩٤].
قال ابن عباس: يوسع ظهره وبطنه جلدًا، ويسلب ثيابه (٢).
هذا قول أكثر أهل التفسير في هذه الآية (٣)، وقال عطاء: ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾ يريد حمام مكة ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾ يريد أنها تفرخ في بيوت أهل مكة في الكِواء (٤) على الطرق وقدر القامة وأدنى من القامة وأكثر من القامة وقدر رمح، فنُهي من أخذها وأكلها ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ يريد يأخذها سرًّا عن السلطان، وعن أهل الفضل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٥).
٩٥ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ الآية.
حرم الله تعالى قتل الصيد على المحرم، فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرمًا، لا بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطير، سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم (٦)، وأما الحلال فله أن يصيد في الحل
(١) "النكت والعيون" ٢/ ٦٦.
(٢) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢٨، وعزاه المحقق "لتفسير ابن عباس" ص ١٠١، و"تفسير البغوي" ٣/ ٩٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٢.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ٤٠، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٨، "النكت والعيون" ٢/ ٦٦، و"تفسير البغوي" ٣/ ٩٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٢.
(٤) الكِواء: جمع كوَّة وهي الخرق في الحائط والثقب في البيت ونحوه. انظر: "اللسان" ٧/ ٣٩٦٤ (كوي)
(٥) لم أقف عليه.
(٦) "تفسير الطبري" ٧/ ٧٤، "النكت والعيون" ٢/ ٦٦.
517
وليس له أن يصيد في الحرم، والآية هل تدل على هذا أم لا؟
أما عند المفسرين فالآية واردة في المحرمين (١)، وعند أهل المعاني يجوز حمل الآية على الحكمين جميعا، فإن قوله ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ يصلح للمحرمين وللداخلين في الحرم، وإذا شمل اللفظ المعنيين جميعًا فهما منه (٢)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا﴾، قال مجاهد والحسن وابن جريج وإبراهيم وابن زيد: هو الذي يتعمد القتل ناسيًا لإحرامه، وعليه الجزاء، فأما إذا تعمد القتل ذاكرًا لإحرامه فلا جزاء عليه، لأنه أعظم من أن يكون له كفارة (٣)، وقال ابن عباس وعطاء والباقون: يحكم عليه بالجزاء وإن تعمد القتل مع ذكر الإحرام (٤)، وهذا مذهب عامة الفقهاء (٥)، فأما إذا قتل الصيد خطأ، بأن قصد غيره بالرمي فأصابه، فهو كالمتعمد في وجوب الجزاء عند عامة أهل التفسير والفقه، وذلك أنهم ألحقوا المخطىء بالعامد في وجوب الكفارة، كما ألحقوا العامد بالمخطىء في كفارة القتل (٦)، وقال سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئًا (٧)، وهذا قول شاذ لا يؤخذ به، وقال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة في الخطأ (٨).
وقوله تعالى: ﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾، ارتفع ﴿فَجَزَاءٌ﴾ بإضمار:
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٧٤، "النكت والعيون" ٢/ ٦٦.
(٢) "النكت والعيون" ٢/ ٦٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٢.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ٤٣، "النكت والعيون" ٢/ ٦٧، البغوي ٣/ ٩٧.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٤٢، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٢.
(٥) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٧، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٢.
(٦) "تفسير الطبري" ٧/ ٤٢، "الوسيط" ٢/ ٢٢٩، البغوي ٣/ ٩٧.
(٧) أخرجه الطبري ٧/ ٤٣ بمعناه.
(٨) أخرجه الطبري ٧/ ٤٣، "الوسيط" ٢/ ٢٢٩.
518
فعليه (١)، أو: فاللازم له، أو: فالواجب عليه.
وقال الزجاج: ويجوز أن يُرفَع (جزاء) على الابتداء، ويكون (مثل ما قتل) خبر الابتداء، ويكون المعنى: فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل (٢)، واختلف القراء في هذا، فقرأ بعضهم بالتنوين ورفع المثل (٣)؛ لأن المعنى: فعليه جزاء مماثلٌ للمقتول من الصيد، فمثل مرفوع لأنه صفة لقوله: (فجزاء) ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل، ألا ترى أنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة، إنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، ولا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله. وإذا كان كذلك علمت أن الجزاء لا ينبغي أن يضاف إلى (مثل) لأنه يوجب جزاء المثلِ، والموجَبُ جزاءُ المقتول من الصيد، لا جزاءُ مثله الذي ليس بمقتول (٤).
وقوله تعالى: ﴿مِنَ النَّعَمِ﴾، يجوز أن يكون صفة للنكرة التي هي (فجزاء) والمعنى: فجزاء من النعم مثلٌ لما قتل، ويجوز أن يكون متعلقًا بمثل، أي: مثلٌ لما قتل من النعم (٥).
وأما من أضاف الجزاء إلى مثل فقال: فجزاء مثل ما قتل، فإنه وإن كان عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، فإنهم قد يقولون: أنا نكرم مثلك، يريدون: أنا أكرمُك، وإذا كان كذلك كانت الإضافة في المعنى كغير
(١) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٤٧٦.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٧.
(٣) قراءة عاصم وحمزة والكسائي، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (فجزاءُ مثل ما) مضافة بخفض مثل. "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٥٤.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٥٤، ٢٥٥.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٥٥، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٨.
519
الإضافة، لأن المعنى: فعليه جزاءُ ما قتل، ومما يؤكد أن المثل وإن كان قد أضيف إليه الجزاء فالمعنى: فعليه جزاء المقتول لا جزاءُ مثله الذي لم يقتل قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنعام: ١٢٢] والتقدير: كمن هو في الظلمات، والمِثْلُ والمَثَلُ والشِّبْهُ والشَبَهُ واحدٌ، فإذا كان مَثلُه في الظلمات فكأنه هو أيضًا فيها (١).
واختلفوا في هذه المماثلة أهي في القيمة أو بالخلقة: فالذي عليه عُظْم أهل العلم والتأويل: أن المماثلة في الخِلقَه، ففي النعامة بدنة، ، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الضبع كبش، وفي الظبي شاة، وفي الغزال والأرنب حَمَل، وفي الضب سخلة، وفي اليَربُوع جَفْرة (٢).
قال الشافعي بعد ما ذكر هذا الفصل: ينظر إلى أقرب ما يقتل من الصيد شبهًا من النعم بالخلقة لا بالقيمة (٣)، وكل دابة من الصيد لم يسمها ففداؤها ما يقرب منها في الخِلقَة من النَعَم قياسًا على ما سميناه، هذا في الدواب، فأما في الطائر: فقال الشافعي: الطائر صنفان: حمام، وغير حمام، فكل ما عَبّ وهدر كالفواخت وذوات الأطواق والقُمري والدُّبسي فهو حمام، وفيه شاة، وما سواه من الطير ففيه قيمته في المكان الذي أصيب فيه (٤)، وهذا قول عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس
(١) الحجة ٣/ ٢٥٦، ٢٥٧، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٨.
(٢) "الأم" للشافعي ٢/ ٢٠٦، والطبري ٧/ ٤٤ - ٥٠، و"النكت والعيون" ٢/ ٦٧، والبغوي ٣/ ٩٧، ٩٨، والقرطبي ٦/ ٣١٠، و"الدر المنثور" ٢/ ٥٧٩ - ٥٨١.
(٣) "الأم" ٢/ ٢٠٦، ٢٠٧.
(٤) "الأم" ٢/ ٢٠٧، و"تفسير البغوي" ٣/ ٩٧.
520
وابن عمر والسدي ومجاهد وعطاء والضحاك (١).
وقال إبراهيم النخعي: يُقوم الصيد المقتول بقيمة عادلة، ثم يشترى بثمنه مثله من النعم (٢) فاعتبر المماثلة بالقيمة.
والصحيح القول الأول (٣)؛ لأن أولئك القوم حكموا في النعامة ببدنة وهي لا تساوي هناك بدنه، وفي حمار الوحش ببقرة (وهو لا يساوي) (٤) هناك بقرة.
وعند أبي حنيفة لا يجوز أن يهدى (في) (٥) جزاء الصيد إلا ما يجوز أن يضحى به، فإذا لم يبلغ قيمة الصيد هديًا أطعم أو صام (٦)، وهذا خلاف قول الإجماع من الصحابة.
وقوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان (منكم) أي من أهل ملتكم ودينكم، فقيهان عدلان، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به (٧).
قال ميمون بن مهران: جاء أعرابي إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا، فسأل أبو بكر أبي بن كعب، فقال الأعرابي: أتيتك
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٤٤ - ٥٠، والبغوي ٣/ ٩٧، ٩٨، و"الدر المنثور" ٢/ ٥٧٩ - ٥٨١.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٥٠.
(٣) وهو اختيار الطبري ٧/ ٥٠.
(٤) في (ج): (وهي لا تساوي).
(٥) ليس في (ج).
(٦) "بحر العلوم" ١/ ٤٥٨، "النكت والعيون" ٢/ ٦٧، القرطبي ٦/ ٣١٠.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٧، "النكت والعيون" ٢/ ٦٧، "الوسيط" ٢/ ٢٢٩، ونسبه المحقق لتفسير ابن عباس ص ١٠١، والبغوي ٣/ ٩٧، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٣.
521
أسألك وأنت تسأل غيرك، فقال أبو بكر: وما أنكرت من ذلك؟ قال الله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ فشاورت صاحبي، فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به (١).
وأخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم رحمه الله، أخبرنا أبو بكر محمَّد بن أحمد بن عبدوس الحيري، أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا علي بن عبد العزيز، حدثنا القاسم بن سلام، قال: حدثني ابن أبي أمية، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حُجاجًا، فكنَّا إذا صلينا الغداةَ اقتدنا رواحلنا نتماشى ونتحدث، فبينا نحن ذات غداة إذ (٢) سنح لنا ظبي فابتدرنا، فابتدرته ورميته فأصاب خُشَّاءَه (٣) فركب رَدْعَهُ (٤) فمات، فلما قدمنا مكة سألنا عمر بن الخطاب، وكان حاجًا وكان جالسًا إلى جنبه عبد الرحمن بن عوف، فسألته عن ذلك، فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة، قال: وأنا أرى ذلك، فقال: اذهب فاذبح (٥) شاة، فخرجت إلى صاحبي فقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: فلم يفجأنا إلا عمر ومعه الدِّرة فعلاني بالدرة وقال: أتقتل في الحرم وتُسَفِّه الحكم؟ قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا
(١) أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد جيد. انظر: ابن كثير ٢/ ١١٢، كما أخرجه عبد بن حميد أيضاً. "الدر المنثور" ٢/ ٥٨١.
(٢) في (ش): (إذ).
(٣) بضم الخاء وتشديد الشين، والخشاء: هو العظم الدقيق العاري من الشعر الناتىء خلف الأذن (تحقيق شاكر للطبري).
(٤) ركب ردعه: إذا خر لوجهه على دمه، وأصل الردع ما تلطخ به الشيء من زعفران وغيره، وهو أثر دمه (تحقيق شاكر للطبري).
(٥) في (ش): (فاهد).
522
عَدْلٍ مِنْكُمْ} فأنا عمر وهذا عبد الرحمن (١).
وجوز عمر - رضي الله عنه - أن يكون الجاني على الصيد أحد الحكمين فيما روي أن أربد (٢) أوطأ فرسه (٣) ففزر ظهر، فسأل عمر بن الخطاب فقال له عمر: احكم، فقال: أنت أعدل يا أمير المؤمنين فاحكم، فقال: إنما أمرتك بأن تحكم وما أمرتك بأن تزكيني، فقال: أرى فيه جَدْيًا جمع الماء والشجر، فقال: افعل ما ترى (٤).
قال العلماء: في هذه الآية دلالة على صحة الاجتهاد في الأحكام، لأن الله تعالى جعل الحكم إلى العدلين، وقد يقع في ذلك الاختلاف، فيحكم عدلان في جزاء صيد بشيء، ويحكم عدلان آخران لإنسان آخر في جزاء مثله من الصيد بشيءآخر، وكله حق وصواب.
وقوله تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ﴾، قال الزجاج: (هديًا) منصوب على الحال، المعنى يحكم به مقدّرًا أن يهدي (٥)، قال أبو علي: ومثله قولك: معه صقر صائدًا به غدًا، أي مقدرًا الصيد (٦)، وقد سبق بيان هذا في مواضع من الكتاب، و ﴿بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ لفظه لفظ معرفة، ومعناه النكره، لأن المعنى:
(١) أخرجه من طريق عبد الملك بن عمير عن قبيصة. الطبري ٧/ ٤٥ - ٤٨، وكذا ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه. "الدر المنثور" ٢/ ٥٨١.
(٢) هو أربد بن عبد الله البجلي، أدرك الجاهلية، ترجمه ابن حجر في الإصابة من القسم الثالث، وذكر قصته هذه. انظر: "الإصابة" ١/ ١٠١.
(٣) أي حمل دابته حتى وطئت الصف، أي داسته (تحقيق شاكر للطبري).
(٤) أخرجه الشافعي في "الأم" ٢/ ٢٠٦، والطبري ٧/ ٤٩، وقال ابن حجر: إسناده صحيح. الإصابة ١/ ١١١.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٨، انظر: "الطبري" ٧/ ٥٠.
(٦) "الحجة للقراء السبعة" ١/ ٢٦٨.
523
بالغًا الكعبة، إلا أن التنوين حذف استخفافًا (١)، ومثله قوله تعالى: ﴿عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ (٢) [الأحقاف: ٢٤]، وقد شرحنا هذه المسألة في قوله تعالى: ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ في سورة النساء [٩٧]، والكعبة: البيت الحرام، سمي كعبة لارتفاعه وتربيعه، والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة (٣)، قال ابن عباس: يريد إذا أتى مكة ذبحه وتصدق به (٤)،
وقوله تعالى: ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾، اختلف القراء ههنا، فنون بعضهم الكفارة، ولم يضف الكفارة إلى الطعام؛ لأن الكفارة ليست للطعام وإنما الكفارة لقتل الصيد (٥)، وأضاف الآخرون الكفارة إلى الطعام (٦)؛ لأنه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء: الهدي والطعام والصيام، استجاز الإضافة لذلك، فكأنه قيل: كفارة طعام، لا كفارة هدي ولا كفارة صيام، فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء (٧).
واختلفوا في (أو) في هذه الآية هل هي للتخيير أم لا؟ فقال ابن عباس في بعض الروايات ومجاهد وعامر وإبراهيم والسدي: إن (أو) ليس
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٨، "تفسير الطبري" ٧/ ٥٠.
(٢) في (ج): (ممكرنا).
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٥٢ (كعب)، والصحاح ١/ ٢١٣ (كعب).
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٥١.
(٥) "الحجة" ٣/ ٢٥٧، ٢٥٨، ونسب القراءة هذه لابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي.
(٦) بعد هذه الكلمة وجد زيادة في (ج) وهي: "لأن الكفارة ليست للطعام وإنما الكفارة لقتل الصيد"، ولعل هذا سهو من الناسخ؛ لأن هذه الجملة من الكلام تقدمت في تعليل القراءة الأولى، فليتنبه.
(٧) "الحجة" ٣/ ٢٥٧، ٢٥٨ ونسب هذه القراءة لنافع وابن عامر.
524
على التخيير ولكن على الترتيب، لأنه لا يخرج حكم الجزاء عن أحد الثلاثة، إن لم يجد الجزاء بالهدي إما لعدم (الثمن) (١) أو لعوز النعم فالإطعام، وإن لم يجد الإطعام فالصيام، وقال ابن عباس في بعض الروايات وعطاء والحسن وإبراهيم: إن (أو) للتخيير (٢). وإليه ذهب الشافعي (٣).
قال الزجاج: الذي يوجبه اللفظ التخيير، وهو الاختيار على مذهب اللغة (٤)، قال الشافعي: إذا قتل صيدًا فإن شاء جزاه بمثله، وإن شاء قوم المثل دراهم، ثم الدراهم طعامًا، ثم يتصدق به، وإن شاء صام عن كل مُدٍّ يومًا (٥)، واختلفوا كيف يقوم الصيد طعامًا، فمذهب الشافعي ما ذكرنا وهو أن يقوم مثله من النعم دراهم، ثم الدراهم طعامًا، وهو قول عطاء (٦).
وقال قتادة: يقوم نفس الصيد المقتول حيًّا، ثم يجعل طعامًا (٧)، واختلفوا في أي موضع يعتبر قيمة الصيد، فمذهب الشافعي وأكثر الفقهاء أنه يقوم بالمكان الذي أصابه فيه، وهذا مذهب إبراهيم وحماد وأبي حنيفة (٨).
(١) ساقط من (ج).
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٥٣، "الدر المنثور" ٢/ ٥٨٣.
(٣) "الأم" ٢/ ٢٠٧.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٨.
(٥) "الأم" ٢/ ٢٠٧.
(٦) "الأم" ٢/ ٢٠٧، والطبري ٧/ ٥٣ عن عطاء.
(٧) أخرجه الطبري ٧/ ٥٤.
(٨) "تفسير الطبري" ٧/ ٥٤.
525
وقال الشعبي: يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يكفر بها (١).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾، قال الفراء: العدل ما عادل الشيء من غير جنسه، والعِدْل المثل، تقول: عندي عِدلُ غلامك وشاتك، إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلام يعدل غلامًا، وإذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين فقلت: عَدْل، وربما قال بعض العرب: عِدْله وكأنه منهم غلط، لتقارب معنى العَدْل من العِدْل ولفظه (٢).
وقال أبو الهيثم: العِدلُ المثل، هذا عِدْلُه أي مثله، والعَدْل القيمة، تقول: خُد عَدْله منه كذا، أي قيمته. قال: والعِدل اسم حمْلِ معدول يحمل، أي مَسَوَّى به، والعَدْل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه حتى تجعله له مثلًا (٣).
وقال الزجاج: العَدْل والعِدلُ واحد في المعنى، وهما بمعنى المثل، كان المثل من الجنس أو من غير الجنس، ولا تقول: إن العرب غلطت وليس إذا أخطأ مخطئ وجب أن تقول: إن العرب غلطت (٤).
وقال ابن الأعرابي: عَدْل الشيء وعِدله سواء، أي مثله (٥).
قال الزجاج: وقوله تعالى: ﴿صِيَامًا﴾ منصوب على التمييز. المعنى: ومثل ذلك من الصيام (٦).
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٥٥.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٣٢٠، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٥٨ (عدل).
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٥٨ (عدل).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٨، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٥٨ (عدل).
(٥) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٥٨ (عدل).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٨.
526
وقال الفراء: ونصبك الصيام على التفسير، كما تقول: عندي رطلان عسلاً، وملء بيت قَتّا. قال: والأصل فيه أن تنظر إلى (مِنْ)، فإن حسنت فيه ثُمَّ أُلقيت نصبت، ألا ترى أنك تقول: عليه عَدْل ذلك من الصيام، وكذلك قوله تعالى: ﴿مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ [آل عمران: ٩١] (١)، قال عطاء: يصوم لكل مُدٍّ يومًا (٢)، وهو مذهب الشافعي (٣)، وعند أبي حنيفة يصوم لكل نصف صاع يومًا (٤).
قال الشافعي: ولا يجزئه أن يتصدق بشيء من الجزاء إلا بمكة أو بمنى، وأما الصوم حيث شاء، لأنه لا منفعة فيه لمساكين الحرم (٥)، واعلم أن الجزاء إنما يجب فيما يؤكل لحمه من الدواب، وأما السباع غير المأكولة فلا جزاء في قتلها (٦)، وكذلك الفواسق وهن خمس.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يزيد، حدثنا إبراهيم شريك، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - ﷺ - قال: "خمسٌ من الدوابِّ ليس على المحرم في قتلهن جناح، الغُرابُ والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" (٧).
(١) "معاني القرآن" ١/ ٣٢٠، "تفسير الطبري" ٧/ ٥٧، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٥٨ (عدل).
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٥٧.
(٣) "الأم" ٢/ ٢٠٧، "النكت والعيون" ٢/ ٦٨.
(٤) "بحر العلوم" ١/ ٤٥٩، والبغوي ٣/ ٩٨.
(٥) "الأم" ٢/ ٢٠٧.
(٦) "الوسيط" ٢/ ٢٣٠. عموم السباع فيها خلاف وتفصيل. ذكره القرطبي ٦/ ٣٠٣، ٣٠٤ فلينظر إليه.
(٧) أخرجه البخاري (١٨٢٦) كتاب: جزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من =
527
وقوله تعالى: ﴿لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾، قال ابن عباس: يريد جزاء ما صنع وعاقبته (١)، والوبال في اللغة: ثقل الشيء في المكروه، يقال: مرعى وبيل، إذا كان يستوخم، وماء وبيل، إذا لم يستمرأ. يقال: رعينا كلأً وبيلاً، وقال أبو زيد: استوبلت الأرض إذا لم يستمرىء بها الطعام (٢).
وقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ﴾، قال الحسن وعطاء والسدي: عما مضى في الجاهلية (٣)، وقال آخرون: عما سلف قبل التحريم في الإسلام (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾، اختلفوا في حكم من عاد: فقال عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير: إذا عاد إلى قتل الصيد محرمًا بعدما حُكِمَ عليه في المرة الأولى حكم عليه ثانيًا وهو بصدد الوعيد لقوله تعالى: ﴿فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ (٥)، وعلى هذا مذهب الفقهاء، وهو قول مجاهد (٦)، وقال ابن عباس وشريح والحسن: إن عاد لم يلزم الجزاء، ويقال له: اذهب فسينتقم الله منك (٧).
قال ابن عباس: إذا عاد في المرة الثانية لقتل الصيد لم يحكم عليه،
= الدواب ٢/ ٢١٢، ومسلم (١١٩٨) كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب وغيرهما.
(١) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٨.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٨، و"اللسان" ٨/ ٤٧٥٥ (وبل).
(٣) أخرجه عن عطاء الطبري ٧/ ٥٨، و"تفسير البغوي" ٣/ ٩٨، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٦ ورجح ابن الجوزي هذا القول.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٥٨ - ٥٩، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٩، "النكت والعيون" ٢/ ٦٨.
(٥) "تفسير الطبري" ٧/ ٥٩.
(٦) "تفسير الطبري" ٧/ ٦١، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٩، "النكت والعيون" ٢/ ٦٨.
(٧) "تفسير الطبري" ٧/ ٦٠ - ٦١، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٩.
528
ولكن يملأ بطنه وظهره بالسياط ضربًا وجيعًا (١)، وكذلك حكم رسول الله - ﷺ - في "وج" وهو وادٍ بالطائف، جعله حرامًا كحرمة البلد الحرام، فمن قتل صيده ملىء ظهره وبطنه جلدًا وسلب ثيابه (٢).
والفاء في قوله تعالى: ﴿فَيَنْتَقِمُ﴾ جواب الشرط، والتقدير: ومن عاد فإن الله ينتقم منه (٣)، قال سيبويه في قوله تعالى: ﴿فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ وفي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ﴾ [البقرة: ١٢٦] وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ﴾ [الجن: ١٣] إن في هذه الآي إضمارًا مقدرًا، كأنه: ومن عاد فهو ينتقم الله منه، ومن كفر فأنا أمتعه، ومن يؤمن فهو لا يخاف، لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط على الفعل إذا كان مستغنًى عنه مع الفعل، وإنما يحتاج إلى الفاء مثل قولك: إن تأتني فأنت مكرم (٤).
قال أبو علي: وموضع الفاء مع ما بعدها جزم، وعلى هذا قرأ بعض القراء: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٨٦] بالجزم، يحمل إياه على موضع: (فلا هادِي) (٥)، ويقال: انتقمت منه إذا كافأه عقوبة بما صنع والنِّقمَة والنَّقْمة العقوبة والإنكار (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾، قال عطاء: منيع ذو انتقام من
(١) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٨، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٧.
(٢) أخرج أبو داود (٢٠٣٢) كتاب: المناسك، باب: ٩٧ عن الزبير - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "إن صيد وج وعضاهه حرام محرم لله". و"تفسير البغوي" ٣/ ٩٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٩.
(٤) انظر: "الكتاب" ٣/ ٦٩
(٥) "الحجة" ٤/ ١٠٩، ١١٠.
(٦) "تفسير الطبري" ٧/ ٦٣، "النكت والعيون" ٢/ ٦٨.
529
أهل معصيته" (١).
٩٦ - قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: يريد بصيده ما أصاب من داخل البحر (٢).
وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس: الحيتان وأنواعها، وكلها حلال، والضفادع وأنواعها، وكلها حرام (٣).
واختلفوا فيما سوى هذين، فقال بعضهم: إنه حرام وهو مذهب أبي حنيفة (٤)، وقال بعضهم: حلال (٥)، وعنى بالبحر جميع المياه، والأنهار داخلة في هذا، والعرب تسمي النهر بحرًا، والقرية التي فيها ماء جارٍ عندهم بحر، ومنه قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الروم: ٤١] (٦)، وهذا الإحلال عام لكل أحد، محرمًا كان أو محلًا (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُهُ﴾، اختلفوا في طعام البحر ما هو، فقال عطاء عن ابن عباس: هو ما لفظه البحر، وقال أيضًا: هو ما حسر عنه الماء وألقاه إلى الساحل (٨)، ونحو ذلك قال الكلبي (٩) وعكرمة (١٠).
(١) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٣٠.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٦٣ بمعناه من طرق أخرى.
(٣) "تفسير البغوي" ٣/ ١٠٠، ١٠١، وعند مالك يباح كل ما فيه من ضفدع وغيره. "زاد المسير" ٢/ ٤٢٨.
(٤) "تفسير البغوي" ٣/ ١٠١، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٨.
(٥) وهذا قول الجمهور. "تفسير البغوي" ٣/ ١٠١.
(٦) "تفسير الطبري" ٧/ ٦٤.
(٧) "تفسير الطبري" ٧/ ٦٤.
(٨) أخرجه بنحوه من طرق: الطبري ٧/ ٦٥، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٠٠، و"الدر المنثور" ٢/ ٥٨٦.
(٩) "النكت والعيون" ٢/ ٦٩، و "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٣.
(١٠) أخرجه الطبري ٧/ ٦٦.
530
وقال أبو بكر الصديق: طعامه ميتته (١)، وعلى هذا فالصيد ما صيد بعلاج حيًا، والطعام ما يؤخذ مما لفظه البحر، أو نضب عنه الماء، أو طفا ميتًا من غير معالجة في أخذه، واختلفوا في السمك الطافي، فعند أهل الكوفة لا يحل أكله، لأنه مات حتف أنفه (٢)، وعند غيرهم يجوز أكله (٣)، لقوله - ﷺ -: "أحلت لنا ميتتان ودمان" (٤)، وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤُه الحل ميتته" (٥).
وقال سعيد بن جبير وإبراهيم وابن المسيب ومقاتل وقتادة: (صيد البحر) الطبري (وطعامه) المليح منه (٦)، فسمى الطبري صيدًا لأنه صيد، وسمي المليح طعامًا؛ لأنه لما ملح وصار عتيقًا سقط عنه اسم الصيد، وحكى الزجاج عن بعضهم: (وطعامه) قال: هو كل ما يسقي الماء فنبت
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٦٥، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. "الدر المنثور" ٢/ ٥٨٥.
(٢) "تفسير البغوي" ٣/ ١٠٠، والقرطبي ٦/ ٣١٨.
(٣) هذا هو المرجح. وانظر: البغوي ٣/ ١٠١، والقرطبي ٦/ ٣١٩، وابن كثير ٢/ ١١٤ - ١١٦.
(٤) أخرجه الإمام أحمد ٢/ ٩٧، وابن ماجه (٣٢١٨) كتاب: الصيد، باب: صيد الحيتان والجراد ولفظه "أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد"، والبغوي في "شرح السنة" ١١/ ٢٤٤.
(٥) أخرجه أبو داوود (٨٣) كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر، والترمذي (٦٩) كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في ماء البحر، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، (٣٨٦) كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر. وصححه الألباني: "صحيح الجامع" ٦/ ٦١ رقم ٦٩٢٥.
(٦) "تفسير الطبري" ٧/ ٦٦ - ٦٨، "النكت والعيون" ٢/ ٦٩، البغوي ٣/ ١٠٠.
531
عن ماء البحر فهو طعام البحر. أعلمهم الله أن الذي أُحِلّ لهم كثير في البر والبحر، وأن الذي حُرِّمَ عليهم هو صيد البر في حال الإحرام، وصيد الحرم بسنة النبي - ﷺ - ليكون قد أعذر إليهم في الانتقام ممن عاد فيما حرم (عليه) (١) مع كثرة ما أحل له (٢)، والاختيار أن المراد بالطعام ما نضب عنه الماء ولم يُصَد؛ لأن المملح صيد وإن عتق (٣).
وقوله تعالى: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾، قال عطاء: يريد منافع لكم تأكلون وتبيعون ويتزود عابر السبيل (٤)، وقال ابن عباس والحسن وقتادة: منفعة للمقيم والمسافر، فالطري للمقيم، والمالح للمسافر (٥).
قال أبو إسحاق: و (مَتَاعًا) منصوب مصدر مؤكد؛ لأنه لما قيل: (أحل لكم) (كان دليلًا على متعتم به) (٦)، كما أنه لما قال ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣]، كان دليلًا على أنه كتب عليهم ذلك فقال: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤].
وقوله تعالى: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾،
ذكر في هذه السورة تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع: قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ (٧). وقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
(١) ساقطة من (ج).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٩، "زاد المسير" ٢/ ٤٢٨.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ٦٨، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٩، ٤٦٠.
(٤) "الوسيط" ٢/ ٢٣١.
(٥) "تفسير الطبري" ٧/ ٦٩، "النكت والعيون" ٢/ ٦٩.
(٦) هكذا في النسختين، وفي "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٩: (كان دليلاً على أنه قد متعهم به).
(٧) الآية الآولى من السورة.
532
حُرُمٌ} (١) وقوله تعالى: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ (٢)، فكل صيد صاده المحرم أو صيد له بأمره لم يحل له أكله، فإن صاده حلال بغير أمره ولا له، ولم يوجد من المحرم سبب في إتلافه بإشارة أو دلالة أو إعانة أو دفع سلاح، حل أكله عند عامة الفقهاء (٣)، لما روي عن جابر أن النبي - ﷺ - قال: "صيد البحر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يُصَد لكم" (٤).
وكرهه بعضهم لحديث الصَّعْب بن جَثًامة، حيث أهدى للنبي - ﷺ - رِجْلَ حمار وحشي، فرده وقال: إنا محرمون (٥)، وهذا يحمل على أنه صيد لأجله، فلذلك رده، وفي هذا مسائل كثيرة يذكرها الفقهاء في أماكنها، وشرطنا أن نشرح ما دل عليه لفظ الكتاب.
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [المائدة: ٩٦]، قال عطاء: يريد خافوا الله الذي إليه تبعثون (٦)، وقال غيره: (واتقوا الله) فلا تستحلوا الصيد في الإحرام (٧)، لم حذرهم بقوله: {الَّذِي إِلَيْهِ
(١) الآية السابقة (٩٥).
(٢) هذه الآية التي يفسرها.
(٣) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٩.
(٤) أخرجه أبو داود (١٨٥١) كتاب: المناسك، باب: لحم الصيد للمحرم، والترمذي (٨٤٦) كتاب: الحج، باب: ما جاء في أكل الصيد للمحرم، كتاب: الحج، باب: ٢٥ ما جاء في أكل الصيد للمحرم ٣/ ١٩٥ رقم ٨٤٦، والنسائي ٥/ ١٨٧، كتاب: الحج، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد.
(٥) أخرجه البخاري (١٨٢٥) كتاب: جزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا ولفظه: "إنا لم نرده إلا أنا حرم"، وكذا مسلم (١١٩٣)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم وغيرهما.
(٦) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٣١.
(٧) "تفسير الطبري" ٧/ ٧٥.
533
تُحْشَرُونَ} أي: فيجزيكم بأعمالكم.
٩٧ - قوله تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ الآية. قال مجاهد: سمي البيت كعبة لتربيعها (١)، وقال مقاتل: سميت الكعبة كعبة لانفرادها من البنيان (٢)، والقولان يرجعان إلى أصل واحد وهو الكعوبه بمعنى النتوّ والخروج، ويقال للجارية إذا نتا ثديها وخرج كَعَبَ وكَعاب، وكعب الإنسان سمي كَعبًا لنتوه من موضع. فالمربع كعبة لنتو زوايا التربيع، والمنفرد من البنيان كعبة لنتوه من الأرض (٣).
والبيت الحرام معناه: أن الله تعالى: حرم أن يصاد عنده وأن يختلى ما عنده من الخلا، وأن يعضد شجره وما عظم من حرمته (٤)، واختلف المفسرون وأصحاب المعاني في هذه الآية: فقال ابن عباس في بعض الروايات في قوله: ﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ قيامًا لدينهم، ومعالم لحجهم (٥).
وقال سعيد بن جبير: ﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ صلاحًا لدينهم (٦)، فعلى هذا القيام مصدر قولك: قام قيامًا، والمعنى أن الله تعالى جعل الكعبة سببًا لقيام الناس إليها للحج وقضاء النسك، فيصلح بذلك دينهم؛ لأنه تحط عنهم الذنوب والأوزار عندها، ويغفر لهم ما اقترفوه قبل حجها، ويكون
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٧٦ عن مجاهد وعكرمة، "معاني الزجاج" ٢/ ٢١٠.
(٢) "تفسيره" ١/ ٥٠٧.
(٣) "النكت والعيون" ٢/ ٦٩، والبغوي ٣/ ١٠٣، ١٠٤، و"اللسان" ١/ ٧١٨، ٧١٩ (كعب).
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٧٦، "النكت والعيون" ٢/ ٦٩.
(٥) أخرجه الطبري ٧/ ٧٧، و"الدر المنثور" ٢/ ٥٨٨.
(٦) أخرجه الطبري ٧/ ٧٧، و"النكت والعيون" ٢/ ٦٩.
534
هذا من باب حذف المضاف على معنى: جعل الله نَصبَ الكعبة قيامًا للناس، أي نصبها ليقوموا إليها لزيارتها (١).
ويؤكد هذا التفسير قول عطاء في هذه الآية: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ ولو تركوا عامًا واحداً لا يحجونه ما نوظروا أن يهلكوا (٢)، فهذا يدلك على أن معنى الآية: أن الله تعالى حث الناس على القيام إليها، وحكى أبو إسحاق هذا المعنى عن بعضهم فقال: أي مما أمروا أن يقوموا بالفرض فيه (٣).
وقال جماعة من المفسرين وأكثر أصحاب المعنى: القيام ههنا يراد به القِوام، وهو العماد الذي يقوم به الشيء، والتقدير فيه: جعل الله حج الكعبة البيت الحرام قيامًا لمعاش الناس ومكاسبهم، فاستتبت معايشهم به واستقامت أحوالهم لما يحصل لهم في زيارتها من التجارة وأنواع البركة (٤)، ولهذا قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئًا للدنيا والآخرة أصابه (٥)، فالقيام على هذا يجوز أن يكون بمعنى القوام، قلبت واوه ياء لانكسار ما قبلها، وقد ذكرنا هذا مستقصى في قوله تعالى: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ في سورة النساء (٦)، ووجه اختلاف القراء هناك، ويجوز
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٧٦ - ٧٨، "النكت والعيون" ٢/ ٦٩.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٠.
(٤) انظر: الطبري ٧/ ٧٦، "بحر العلوم" ١/ ٤٦٠، "الوسيط" ٢/ ٢٣١، "زاد المسير" ٢/ ٤٣٠.
(٥) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٣١.
(٦) الآية رقم (٥) من النساء.
535
أن يكون مصدر القيام، أي قام به معاشهم قيامًا (١).
وقوله تعالى: ﴿وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ﴾، ذكر هذه الجملة بعد ذكر البيت؛ لأنها من أسباب حج البيت، فدخلت في جملته وذكرت معه. وهذا طريق في تفسير الآية، وقال كثير من المفسرين: هذا إخبار عما جعله الله تعالى في الجاهلية من أمر الكعبة (٢).
قال ابن عباس: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ أي أمنًا للناس، وكان أهل الجاهلية يأمنون فيه، فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم ما قتله ولا هيَّجه، وكانوا لا يغزون في الشهر الحرام، وكانوا ينضلون فيه الأسنة، ويبذعز (٣) الناس فيه إلى معايشهم، وكان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحا شجر الحرم فلا يخاف، وكانوا توارثوه من دين إسماعيل، فبقوا عليه رحمة من الله لخلقه إلى أن قام الإِسلام، فحجزهم عن البغي والظلم (٤).
وقال قتادة: وكان هذا في الجاهلية، لو جنى الرجل كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتَنَاول ولم يُطْلب، ولو لقي قاتل أبيه في الحرم ما مسه، ولو لقي الهدي مقلدًا وهو يأكل العصب من الجوع ما مسه (٥)، ونحو هذا قال مقاتل (٦).
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٧٦.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٧٧.
(٣) هكذا هذه الكلمة في النسختين. وقد تكون: وينبعث.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٧٨ نحوه عن قتادة وابن زيد، "زاد المسير" ٢/ ٤٣٠.
(٥) أخرجه الطبري ٧/ ٧٧ - ٧٨ بمعناه.
(٦) تفسيره ١/ ٥٠٧.
536
وعلى هذا التفسير القيام مصدر، والمعنى أن الكعبة جعلها الله أمنًا للناس، بها يقومون أي يأمنون، ولولاها لفنوا وهلكوا وما قاموا. ذكره أبو إسحاق (١).
وشرح عبد الله بن مسلم (٢)، هذا التفسير الثاني في معنى الآية، وأوضحه بأبلغ بيان، فقال: إن أهل الجاهلية كانوا يتغاورون، ويسفكون الدماء بغير حقها، ويأخذون الأموال بغير حلها، ويخيفون السبيل (٣)، ويطلب الرجل منهم الثأر فيقتل غير قاتله، ويصيب غير الجاني عليه، ولا يبالي من كان بعد أن يراه كفؤًا لوليه، ويسميه الثأر المُنِيم، فجعل الله الكعبة البيت الحرام وما حولها من الحرم والشهر الحرام والهدي والقلائد قيامًا للناس أي أمنًا لهم، فكان الرجل إذا خاف على نفسه لجأ إلى الحرم فأمن يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧]، وإذا دخل الشهر الحرام تقسمتهم الرِّحَل وتوزعتهم النُّجَعُ وانبسطوا في متاجرهم فأمنوا على أموالهم وأنفسهم. وإذا أهدى الرجل هديًا أو قلد بعيره من لحاء شجر الحرم أمن كيف تَصَرَّف (٤) وحيث سلك، ولو تُرِكَ الناس على جاهليتهم وتغاورهم في كل موضع وكل شهر لفسدت الأرض، وفَنِيَ الناس، وتقطعت السبل، وبطلت المتاجر (٥)، ونحو هذا قال أبو بكر بن الأنباري، فقد حصل في الآية
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٠.
(٢) ابن قتيبة في المشكل.
(٣) في المشكل: السبل.
(٤) في (ش): يصرف. وما أثبته من (ج) موافق لما في المشكل.
(٥) "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص ٧٣، ٧٤.
537
طريقان:
أحدهما: أن الله امتن على المسلمين بأن جعل الكعبة صلاحًا لدينهم ودنياهم، وقيامًا لهما بها.
والثاني: أنه أخبر عما فعله من أمر الكعبة في الجاهلية، قال أبو بكر: والقيام يقال في تفسيره غير وجه: منها: الأمن، لأن الناس يقومون بالأمن ويصلح شأنهم من جهته، ويقال للقيام: العصمة، من قولهم: فلان يقوم على القوم إذا كان يكفل بمؤوناتهم، وهذا قول الربيع بن أنس في قوله: ﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ قال: عصمة لهم (١)، قال: والقيام: إصلاح، من قوله عز وجل: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: ٥] أي صلاحًا ومعاشًا (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، أراد الأشهر الحرم الأربعة، وخرج مخرج الواحد؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس، وهو عطف على المفعول الأول لجعل، ومثل ذلك: ظننت زيدًا منطلقًا وعمرًا، وذكرنا معنى الهدي والقلائد في أول السورة (٣).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا﴾ إلى آخرها، لم أر للمفسرين فيه شيئًا، وذكر أصحاب المعاني فيه قولين:
أحدهما: أن الإشارة في قوله: (ذلك) إلى ما ذُكِر في هذه الآية من جعل الكعبة صلاحًا وأمنًا وقوامًا للناس، وهو قول ابن قتيبة (٤)، وأبي
(١) لم أقف عليه.
(٢) "زاد المسير" ٢/ ٤٣٠، ٤٣١.
(٣) عند تفسير الآية الثانية من هذه السورة (المائدة).
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ٧٣، ٧٤.
538
علي (١)، وأحد قولي الزجاج (٢)، وابن الأنباري، أما ابن قتيبة فقال: جعل الله ذلك لعلمه بما فيه من صلاح شؤونهم، وليعلموا أنه كما علم ما فيه من الخير لهم، أنه يعلم أيضًا ما في السماوات وما في الأرض من مصالح العباد ومرافقهم (٣)، وأنه بكل شئ عليم (٤).
وقال أبو علي: أي فعل ذلك ليعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السماوات والأرض، وما يجري عليه شأنهم ومعايشهم، وغير ذلك مما يصلحهم، وأن الله بكل شيء يصلحهم، ويقيمهم عليه (٥).
وقال الزجاج في أحد القولين: إن الله جل وعز لما آمن من الخوف في البلد الحرام، والناس يقتل بعضهم بعضًا وجعل الشهر الحرام يُمتنع فيه من القتل، والقوم أهل جاهلية، دل بذلك أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض إذ (٦)، جعل في أعظم الأوقات فسادًا ما يؤمن به (٧)، وأراد الزجاج بقوله: أعظم الأوقات فسادًا إذا اجتمعوا بالموسم للحج.
وقال أبو بكر: جعل الله هذا الوقت يؤمن فيه، وهذا البلد لا يسفك فيه دم عند المشركين الذين لا يقرؤون كتابًا ولا يدينون بدين، فيعظمونهما غير عابدين لله عز وجل ولا مصدقين لأنبيائه، يدل على أنه يعلم ما في السموات
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٦٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٠.
(٣) في (ش): (ومنافعهم) وما أثبته هو المطابق لما في "تأويل مشكل القرآن".
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ٧٤.
(٥) "الحجة" ٣/ ٢٦٠.
(٦) في (ج): (إذا).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٠.
539
وما في الأرض، وأنه لا يخفى عليه خافية في أرض ولا في سماء (١)، فهذه أقوالهم باختلاف ألفاظها مع اتفاق معانيها.
والقول الثاني: أن الإشارة في قوله: (ذلك) يعود إلى ما ذكر في هذه السورة من الأنباء والقصص، قال ابن الأنباري: إن الله تعالى خبرَّ في هذه السورة من أخبار الأنبياء وتُبَّاعهم بغيوب كثيرة، وأطع نبيه - ﷺ - والمسلمين على أشياء من أحوال المنافقين واليهود كانت مستورة عنهم، مثل قوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ [المائدة: ٤١] وغير ذلك، فلما دل على غيوب لم تكن تُعلَم قبل نزول السورة قال: (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض) أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم عن الله تعالى، ويدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، وأنه لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه عازبة (٢)، ونحو هذا قال الزجاج، وحكاية قوله يطول، قال: وهذا القول عندي أبين (٣).
٩٩ - قوله تعالى: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾، لما أنذر الله تعالى في قوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الآية، بشدة العقاب، وبشر بالعفو والغفران قال: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾، والبلاغ: اسم من التبليغ كالسراح والأداء.
١٠٠ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾، قال بعض أهل المعاني: لما ذكر الله تعالى أن على الرسول البلاغ، بين على لسانه أنه لا يستوي عند الله تعالى الحلال والحرام.
وقال المفسرون: نزلت الآية في الحجاج من المشركين الذين أراد
(١) "زاد المسير" ٢/ ٤٣١.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢١٠، "زاد المسير" ٢/ ٤٣١.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٠.
المؤمنون أن يغيروا عليهم، شريح بن ضبيعة وأصحابه (١)، وقد ذكرنا ذلك في أول السورة عند قوله تعالى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٢]، ويقدم عليه حديث عقبة (٢).
وقوله تعالى: ﴿الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ قال عطاء والحسن والكلبي: الحرام والحلال (٣)، وسمي الحرام خبيثًا؛ لسوء عاقبته، وذكرنا لما سمي الحلال طيبًا في قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ [سورة المائدة: ٤]، وقال السدي: الخبيث المشركون، والطيب المؤمنون (٤).
١٠١ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ الآية، قال ابن عباس وأنس وأبو هريرة والحسن وطاوس وقتادة والسدي وعلي بن أبي طالب وأبو أمامة الباهلي - رضي الله عنهم - دخل كلام بعضهم في بعض: أن رسول الله - ﷺ - سئل حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضباً خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا إلا أخبرتكموه" فقام رجل من بني سهم كان يُطعن في نسبه، والرجل عبد الله بن حذافة، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: "أبوك حذافة بن قيس"، وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أنا؟ ويروى: "أين أبي؟ " فقال: "في النار" (٥).
(١) ذكره مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٠٧، و"بحر العلوم" ١/ ٤٦١، "زاد المسير" ٢/ ٤٣٢.
(٢) "البحر الرائق" ١/ ٤٣٤.
(٣) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦١، "النكت والعيون" ٢/ ٧٠، "تفسير البغوي" ٣/ ١٠٤، "زاد المسير" ٢/ ٤٣٣، ونسبه لابن عباس.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٧٩.
(٥) أخرجه بنحوه من حديث أنس البخاري (٧٠٨٩) كتاب الفتن، باب: التعوذ من الفتن، (٧٢٩٤) وكتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال، ومسلم (٢٣٥٩) كتاب: الفضائل، باب: توقيره - ﷺ -، والطبري ٧/ ٨٠.
541
وقال سراقة بن مالك، ويروى عكاشة بن محصن: يا رسول الله الحج علينا في كل عام" فأعرض عنه رسول الله، حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله - ﷺ -: "ويحك، وما يؤمنك أن أقول: نعم؟! والله لو قلتُ نعم لوجبتْ، ولو وجبتْ ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" فأنزل الله هذه الآية (١).
هذا قول المفسرين في سبب نزول الآية، وقال أصحاب المعاني: أما سؤال من سأل عن موضعه أو موضع أبيه فقال رسول الله: "في النار" فهو مما يسوء السائل بيانه، وأما من سأل عن أبيه من هو، فإنه لم يأمن أن يلحقه النبي - ﷺ - بغير أبيه فيفتضح، ويكون قد جنى على نفسه بسؤاله فضيحةً تبقى عليه أبداً في أمر لم يكلف ذلك، ولم يؤمر بالسؤال عنه، فقد عرض نفسه بهذا السؤال لما سكوته عنه خير له، فهو منهي بهذه الآية عن مثل سؤاله في المؤتنف، إذ لا يأمن أن يكون الجواب بما يسوءه (٢).
وأما السائل عن الحج فقد كاد أن يكون ممن قال النبي - ﷺ -: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من كان سببًا لتحريم حلال" (٣)، إذ لم
(١) أصل الحديث في الصحيح، دون إشارة إلى أنه سبب لنزول الآية فقد أخرج مسلم (١٣٣٧)، كتاب: الحج، باب: فرض الحج من حديث أبي هريرة، وأخرجه على أنه سبب نزول للآية الترمذي (٣٠٥٥) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة وحسنه، والطبري في "تفسيره" من طرق ٧/ ٨ والمؤلف في "أسباب النزول" ص ٢١٣ - ٢١٤.
(٢) "فتح الباري" ١٣/ ٢٧٠.
(٣) أخرجه البخاري حديث سعد بن أبي وقاص (٧٢٨٩) كتاب: الاعتصام، باب: ما =
542
يؤمن أن ينزل في الحج إيجاب في كل عام لتكلف السؤال عما كان مرفوعاً عنه وغير مكلف إياه؛ لأنه كان له في ظاهر ما نزل من فرض الحج كفاية، ولو كان العدد في الوجوب مراداً لبُيِّن في التنزيل، أو على لسان الرسول، فسؤاله عن شيء كان عفا الله عنه (١).
قالوا: وقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ مؤخر في النظم مقدم في المعنى؛ لأن التقدير: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم عفا الله عنها، وإن شئت قلت: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم (٢)، فقوله: ﴿إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ وقوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ جملتان صفتان لأشياء، وهي نكرة، ومعنى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ أي كف وأمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكماً، وكلام أبي إسحاق دل على هذه الجملة التي ذكرنا، لأنه قال: أعلم الله عز وجل أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، فإنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك، ولا إن ظهر وجه في المسألة عما عفا الله عنه، وفيه إن ظهر فضيحةٌ على السائل (٣).
وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل الله فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله، ثم يتلو هذه الآية (٤)، وقال مجاهد: كان ابن عباس إذا سئل عن
= يكره من كثرة السؤال بلفظ: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وكذا مسلم (٢٣٥٨) في كتاب: الفضائل، باب: توقيره - ﷺ -.
(١) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٣٤.
(٢) "بحر العلوم" ١/ ٤٦٢.
(٣) معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١١.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٨٥، وقد قالت عائشة رضي الله عنها لجبير بن نفير: هل تقرأ =
543
الشيء لم يجىء فيه أمر يقول: هذا من العفو، ثم يقرأ هذه الآية (١).
وقال أبو ثعلبة الخشني (٢): إن الله تعالى فرض فرائض فلا تستبقوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها (٣).
وأجمع النحويون على أن (أشياء) جمع شيء، وأنها غير مُجراة، واختلفوا في العلة، فقال الكسائي: هو على وزن أفعال، ولكنها كثرت في الكلام فأشبهت: فَعْلاء، فلم تصرف كما لم تصرف حمراء، قال: وجمعوها أشاوَى، كما جمعوا عَذْراء عذارى، وصَحْراء صحارى، وأشْياوات، كما قيل: حَمْراوات (٤)، واعترض عليه الفراء والزجاج، فقال
= سورة المائدة؟ قال: قلت: نعم. قالت: فإنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.. " أخرجه أحمد في مسنده ٦/ ١٨٨.
(١) لم أقف عليه. وقد أخرج الطبري ٧/ ٨٥ عن ابن عباس أنه قال: "لا تسألوا عن أشياء إن نُزِّل القرآن فيها بتغليظ ساءكم، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه".
(٢) صحابي مشهور، قيل اسمه: جرهم، وقيل: جرثم، وقيل غير ذلك، وأبوه قيل: عمرو وقيل: قيس، وقيل غير ذلك. منسوب إلى بني خشين. روى أحاديث. انظر: "الإصابة" ٤/ ٢٩، ٣٠.
(٣) هكذا أخرجه الطبري ٧/ ٨٥، ونسبه كالمؤلف لأبي ثعلبة موقوفاً، وقد أخرج مرفوعاً الدارقطني في "سننه" ضمن الموسوعة الحديثية بإشراف د. التركي ٥/ ٣٢٦ برقم ٤٣٩٦، وكذا ساقه القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٣٤ مرفوعاً، وصححه ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٢٠ مرفوعاً حيث قال: "وفي الحديث الصحيح" ثم ساقه وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر والحاكم الذي صححه مرفوعاً. انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٥٩٣، فالأقرب والله أعلم أنه مرفوع.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" للفراء ١/ ٣٢١، ومعاني الزجاج ٢/ ٢١٢.
544
الفراء: لو كان كما قال لكان أملك الوجهين أن يُجرَى، لأن الحرف (١) إذا كثر به الكلام خف، وجاز أن يُجرَى كما كثرت التسمية بيزيد فأجروه في النكرة، وفيه ياء زائدة تمنع من الإجراء (٢)، وقال الزجاج: أجمع البصريون وأكثر الكوفيين على أن قول الكسائي خطأ في هذا، وألزموه ألا يصرف أبناء وأسماء.
وقال الأخفش والفراء: أشياء جمعت على أفعلاء، كما يقال: هَيْن وأهونا، ولَيْن وأليناء، وكان في الأصل أشيئاء على وزن أشبعاع، فاجتمعت همزتان بينهما ألف فحذفت الهمزة الأولى وفتحت الياء لتبقى ألف الجمع صحيحة فصار: أشياء، ووزنه عندهما: أفعِلاء (٣)، قال الزجاج: وهذا القول أيضاً غلط؛ لأن شيئاً فَعْلٌ، وفَعْلٌ لا يجمع أَفِعلاء، فأما هَيّن ولَيّن فأصله: هَيين ولَيين، فجُمع أفعِلاء كما يُجمع فعيل على أفْعلاء، مثل: نصيب وأنصباء.
(وقال الخليل: (أشياء) اسم للجمع كان أصله فعلاء شيئاء، فاستثقلت الهمزتان فقلبت الهمزة الأولى التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فجعلت لفعاء، كما قلبوا أَنْوق فقالوا أنيق، وكما قلبوا قُووس فقالوا: قِسي) (٤)، قال الزجاج: وهذا مذهب سيبويه والمازني وجميع
(١) في (ج): (الحروف).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢١.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٢ بتصرف. وانظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٥١ (شيء).
(٤) جاء قول الخليل في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج مقتضباً جداً، فيحتمل السقط، أو أن المؤلف اعتمد على واسطة وهو "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٥١ (شيء).
545
البصريين، وحكي (١) أن المازني ناظر الأخفش في هذا فسأله في هذا فسأله عن تصغير أشياء فقال: أقول أُشَيّاء، فقال المازني: ولو كانت أفعلاء لردت في التصغير إلى واحدها فقيل: شُيَيْئات مثل: شعيعات، وإجماع البصريين أن تصغير أصدقاء إن كان للمؤنث: صُدَيَّقات، وإن كان للمذكر صُدَيّقون (٢)، فقطع المازني الأخفش، هذا مما ذكره النحويون في هذا الحرف، وحكى الزجاج أكثره في كتابه.
ويُحتاج في هذا الحرف إلى بيان أكثر من هذا، فالذي ذهب إليه الخليل وسيبويه وأبو عثمان أن أشياء مقلوبة من شيئاء على وزن فعلاء نحو حمراء، ووزنه الآن لفعاء، والعلة المانعة للصرف بناء الحرف على همزة التأنيث، فلحق الحرف بصفراء وحمراء وبابه، والذي ذهب إليه أبو الحسن (٣) أن وزنه أفعلاء، ثم حذفت الهمزة الأولى استخفافاً، والذي قوَّى عزمه على هذا دون أن يجعله أفعالاً ترك العرب صرفها نكرة، فلما رآها غير مصروفة جعل همزتها للتأنيث كما هي في صفراء، وأفعلاء لا ينصرف نحو أصدقاء وبابه، كذلك أشياء، فمذهب الخليل القلب، ومذهب الأخفش الحذف، والأشياء عند وزنه بعد الحذف أَفْعاء، والعلة المانعة عنده أيضًا همزة التأنيث المبني عليها الكلمة، وفي القولين جميعاً أشياء جمع على غير لفظ الواحد؛ لأن شيئاً فَعْلٌ، وفَعْلٌ لا يجمع على فعلاء ولا على أفعلاء، والجمع كثيراً ما يأتي على غير لفظ الواحد، كما قالوا في
(١) لا يزال الكلام للزجاج.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٢، ٢١٣، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٥١ (شيء).
(٣) الظاهر أنه الأخفش، وليس في "معاني القرآن وإعرابه" له كلام حول هذه الآية.
546
جمع شاعر: شعراء، وليس قياس فاعل أن يجمع على فُعَلاء، وكذلك قالوا في جمع جمل وبقر: جامل وباقر.
ويمكن أن يقال: إن أشياء لفظ وضع للجمع لا على بناء الواحد، وأما الكسائي فإنه يقول: أشياء أفعال، ولكنها لما جمعت أشياوات أشبه فعلاء التي تجمع على فعلاوات نحو: صحراء وصحراوات، ونظير أشياء في أنها أفعال أحياء في جمع حي، كذلك أشياء أفعال في جمع شيء، والعلة المانعة لصرفها شبهها بفعلاء من حيث جمعت جمعها، ويلزم على هذا القول ترك صرف أبناء وأسماء، لأنهم قالوا في جمعها: أسماوات وأبناوات، وذهب الفراء في هذا الحرف مذهب الأخفش غير أنه خلط حين ادعى أنها (كهَيّن ولَيّن) (١) حين جمعا أهوناء وأليناء (٢)، وهَيْن تخفيف هَيِّن، فلذلك جاز جمعه على أفعلاء، وشيء ليس بتخفيف عن شيِّءٍ حتى يجمع على أفعلاء، وإنما زدت في البيان عن هذا الحرف؛ لأن علمه من غامض النحو ومشكله.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾، لم أر للمفسرين في هذا بياناً، وقال صاحب النظم: الكناية في (عنها) ليست تعود على أشياء المذكورة في قوله: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ﴾ ولكنها تعود على أشياء وأُخَر سواها لا هي، وجاز ذلك لأن المذكورة دلت عليها من حيث اجتمعتا في اللفظ، ومثل هذا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] يعني: آدم، ثم قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
(١) في (ج): (لهين لين).
(٢) "معانى القرآن وإعرابه" للفراء ١/ ٣٢١.
547
مَكِينٍ} [المؤمنون: ١٣] يعني: ابن آدم؛ لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار، ولكنه لما ذكر الإنسان والمراد به آدم دل ذلك على إنسان مثله وعرف ذلك بفحوى الكلام، والمعنى: (وإن تسألوا عنها) أي: عن أشياء حين ينزل القرآن فيها من فرض أو إيجاب أو نهي أو حكم أو ندب، ومست حاجتكم إلى ما هو من جملة ما نزل فيه القرآن، وليس في ظاهر ما نزل ولا في باطنه دليل على شرح ما بكم إليه حاجة، فإذا سألتم عنها حينئذٍ تبد لكم (١)، ومثال هذا: أن الله تعالى لما بين عدة المطلقة، والمتوفى عنها زوجها، والحامل لم يكن في عدد هؤلاء دليل على عدة التي ليست بذات قرءٍ ولا حامل فسألوا عنها، فأنزل الله تعالى (٢) قوله: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾ [الطلاق: ٤]، فأما ما سوى هذا وأشباهه فما لم ينزل فيه قرآن وكان مرفوعاً عنهم، ولم يكلفوه، ولم تكن بهم حاجة إليه، فالسؤال عنه محظور بحكم هذه الآية، هذا معنى كلامه وبعض لفظه.
وقوله تعالى: في ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾، قد ذكرنا أنه على التقديم، وقال بعضهم: ليس على التقديم، والمعنى: قد عفا الله عن مسألتها، أي عن مسألتكم عنها، فيكون العفو عن مسألتهم التي سلف منهم مما كرهه النبي - ﷺ - نهاهم الله أن يعودوا إلى مثلها، وأخبر أنه عفا عما فعلوا (٣)، وجازت الكناية عن المسألة لأن (لا تسألوا) دليل عليها. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (٤).
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٨٤.
(٢) ساقط من (ج).
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ٨٥، "النكت والعيون" ٢/ ٧١.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٨٥، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٤.
548
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾، قال عطاء: يريد لما كان في الجاهلية (حليم) عن عقابكم منذ آمنتم وصدقتم (١)، وقال أهل العلم في هذه الآية: الذي يجوز أن يسأل عنه هو ما يجوز أن يعمل عليه في أمر دين أو دنيا، والذي لا يجوز أن يسأل عنه هو ما لا يجوز أن يعمل عليه في أمر دين أو دنيا، ولهذا لم يجز أن يسأل: من أبي؟ لأنه لا يجوز أن يعمل في هذا إلا على أن الولد للفراش.
١٠٢ - قوله تعالى: ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾، قال ابن عباس والمفسرون: يعني قوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها، وقوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها (٢).
فالكناية على هذا التفسير في قوله (سألها) تعود إلى الآيات. وهذا السؤال في هذه الآيات يخالف معناه معنى السؤال في قوله: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ﴾ وقوله: ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا﴾، ألا ترى أن السؤال في الآية الأولى قد عدي بالجار، وههنا عدي بغير الجار؛ لأن معنى السؤال ههنا طلب لعين الشيء، كما تقول: سألتك درهما، أي: طلبته منك، والسؤال في الآية الأولى سؤال عن حال الشيء، كما تقول: سألتك عن شيء، أي عن حاله وهيئته وكيفيته. وإنما عطف عز وجل بقوله: ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ﴾ علي ما قبلها وليست بمثل نظمها في التأويل؛ لأنه عز وجل إنما نهاهم عن تكلف ما لم يكلفوا وهو مرتفع عنهم، وأعلمهم أنهم في هذا التكلف مثل أولئك على موسى وعيسى في تكلف (٣) ما لم يكلفوا، وطلب ما لم يعْنِهم مما كان الإعراض
(١) لم أقف عليه.
(٢) أخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٨٥، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٤٣٦.
(٣) في (ج): (تكليف).
عنه أولى بهم، وأصلح لهم (١)، وذلك مثل سؤال قوم موسى: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] وقول بني إسرائيل: ﴿لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قال الله عز وجل: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٢٤٦] وقالوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ [البقرة: ٢٤٧] ألا تراهم قد سألوا ثم كفروا، وهذا معنى كلام أبي علي الجرجاني (٢) وبعض لفظه.
١٠٣ - قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾، روى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الجعل له معان في اللغة، يقال: جعل: صير، وجعل: أقبل، وجعل: خلق، وجعل: قال، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣] (٣)، وقال غيره: صيرناه. ويكون الجعل بمعنى القول والحكم على الشيء، تقول: قد جعلت زيداً على الناس، أي: قد وصفته بذلك وحكمت به، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف: ١٩].
وقال بعض أصحاب المعاني: جعل أحد الكلمات المشتركات التي هن أمهات الأحداث مثل: فعل وعَمِل وجعل وطفق وأنشأ وأقبل، إلا أن بعضها أعم من بعض، وأكثرها عموماً "فعل"؛ لأنه يقع على كل حركة من الإنسان قولاً أو عملاً أو هماً يهم به، والدليل على أنه يقع على القول قوله تعالى: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] ثم قال:
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٨٦.
(٢) صاحب كتاب النظم، يأخذ عنه المؤلف كثيراً، وهو غير متوفر.
(٣) "تهذيب اللغة" ١/ ٦١٦ (جعل).
550
﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ (١) [الأنعام: ١٤٨] فهذا حكايته عن القول، وعَمِلَ دون فَعَل في العموم؛ لأنه لا ينتظم معنى النية والهم والعزم والقول، ولا يقع إلا على عمل البدن، وأما (جعل) فله أحوال، منها: (جعل): صير مثل قوله تعالى: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ﴾ [الحج: ٢٥] أي صيرناه، ومنها: (جعل): أوجب، كقرله عز وجل: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٣] أي: وما أوجبنا القبلة التي أنت عليها، ومنها: (جعل): خلق، مثل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] أي خلق، وأما قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣] أي: صيرناه؛ لأن من القرآن العبراني والسرياني، فما نقل منه إلى العرب صار عربياً (بالتصيير والنقل) (٢)، ومنها: (جعل): صلة لما بعده، مثل قوله: جعل يصرفه، نحو: طلق وأنشأ وأقبل، كلٌ منها صلة لما بعده من الفعل، فقوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ أي: ما أوجبها ولا أمر بها، والبحيرة: فعيلة من البحر وهو الشق، يقال: بحر ناقته، إذا شق أذنها، وهي بمعنى المفعولة، وخرجت مخرج النطيحة والذبيحة والنسيكة. وقد مضى الكلام في النطيحة (٣).
قال أكثر أهل اللغة والتفسير: البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن،
(١) في (ج)، (ش): (فعل) والظاهر أنه تصحيف، فإن هذه آية الأنعام، أما (فعل) ففي سورة النحل الآية ٣٣ وتختلف عن هذه حيث قال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.
(٢) في (ج): (لتصييره النقل).
(٣) عند تفسير الآية الثالثة من هذه السورة.
551
وكان آخرها سَقْباً (١) ذكراً شقوا أذن الناقة، وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسيبوها لآلهتهم، لا يجز لها وبر، ولا يحمل على ظهرها، ولا تطرد من ماء، ولا تمنع من مرعى، ولا ينتفع بها، إذا لقيها المُعْيي لم يركبها تحرجاً، وهذا قول أبي عبيدة (٢) والزجاج (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا سَائِبَةٍ﴾، قال أبو عبيد (٤): كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر ونذر نذراً أو شكر نعمة سيَّب بعيراً، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها، وهذا القول اختيار القتيبي (٥) والزجاج (٦).
وقال الفراء: قال بعضهم: السائبة: إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سُيِّبت، فلم تركب، ولم يُجَزّ لها وبر، ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف (٧)، والسائبة في اللغة: فاعلة من: ساب، إذا جرى على وجه الأرض، يقال: ساب الماء، وسابت الحية، وقيل: هي بمعنى المسَّيبة، لأنها تُسيَّب، ومنه قولهم للعبد أعتقتك سائبة، أي سيبتك فلا ولاء لي عليك (٨).
(١) السقب: ولد الناقة، وقيل: الذكَر من ولد الناقة.. وقيل: هو سقبٌ ساعة تضعه أمه. "اللسان" ٤/ ٢٠٣٥ - ٢٠٣٦ (سقب).
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ١٧٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٣.
(٤) هكذا في النسختين، وفي الوسيط للمؤلف ٢/ ٢٣٥ (أبو عبيدة).
والظاهر أن الكلام لأبي عبيدة كما في "مجاز القرآن" ١/ ١٨٠ ونحوه في "النكت والعيون" ٢/ ٧٣.
(٥) في "غريب القرآن" ص ١٤٧.
(٦) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٣، وانظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٨٥ (ساب)
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢٢.
(٨) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٨٥ (ساب).
552
وقال: ابن عباس في السائبة: هي التي تسيب للأصنام، أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء، فيجيء إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيُطِعْمون من لبنها أبناء السبيل (١)، ونحو ذلك قال ابن مسعود (٢). وقال سعيد بن المسيب: السائبة: من الإبل، كانوا يسيبونها لطواغيتهم (٣).
وقال عكرمة في السائبة: كان الرجل إذا طلب الضالة، أو تبع النادّة، وأراد الحاجة قال: كذا وكذا (٤) من مالي سائبة إن أدركت حاجتي (٥).
وقال علقمة: السائبة: من العبيد والنَّعَم وما نذر الرجل لئن عافاه الله من مرض أوْ ردَّه من سفر سالماً ليسيبن ناقة أو جملاً أو شاة للأصنام، فإذا سيبها حرم أكلها، لا يجز وبرها ولا يركب ظهرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، وما ولدت فهو بمنزلتها، شقت أذنها وسميت بحيرة (٦).
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٩٠ مختصرا من طريق علي بن أبي طلحة، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦٢، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٣٥ وعزاه المحقق لتفسير ابن عباس ص ١٠٢، "تنوير المقباس بهامش المصحف" ص ١٢٤، "زاد المسير" ٢/ ٤٣٧، وعزاه السيوطي إضافة إلى ابن جرير إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. "الدر المنثور" ٢/ ٥٩٦ بمعناه.
(٢) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٣٥.
(٣) أخرجه بنحوه البخاري (٤٦٢٣) كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة المائدة، باب: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ﴾، والطبري ٧/ ٩٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٠٨، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٤٣٨.
(٤) في (ج): (كذى وكذى).
(٥) لم أقف عليه، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٤٣٨.
(٦) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٤٧، والطبري في "تفسيره" ٧/ ٨٩ - ٩١، و"بحر العلوم" ١/ ٤٦٢، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٧١، "النكت والعيون" ١/ ٤٦٣، "تفسير البغوي" ٣/ ١٠٧.
553
وقال محمد بن إسحاق في السائبة مثل ما قال الفراء في قوله: قال بعضهم، ثم قال محمد: والبحيرة ولد السائبة (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا وَصِيلَةٍ﴾، قال ابن عباس وأكثر المفسرين: الوصيلة: من الغنم (٢)، وقال مقاتل: إذا ولدت الشاة سبعة أبطن عمدوا إلى السابع، فإن كان جدياً ذبحوه للآلهة، ولحمه للرجال دون النساء، وإن كان عناقاً استحيوها فكانت من عرض الغنم، وإن ولدت في البطن السابع جدياً وعناقاً قالوا: إن الأخت وصلت أخاها فحرمته علينا، فحرما جميعاً، فكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء (٣)، ونحو ذلك قال ابن مسعود (٤)، وقال الزجاج في الوصيلة: كانت الشاة إذا ولدت انثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم (٥).
فالوصيلة بمعنى الموصولة، كأنها وصلت بغيرها، ويجوز أن تكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها. وهذا أظهر الآية.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا حَامٍ﴾، قال ابن عباس وابن مسعود: إذا نُتَجَت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حُميَ ظهره وسيب لأصنامهم، فلا
(١) "معاني القرآن وإعرابه" للفراء ١/ ٣٢٢، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٨٥ (ساب)، "زاد المسير" ٢/ ٤٣٩.
(٢) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٤٧، و"تفسير الطبري" ٧/ ٩٠، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢١٣.
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٥١٠.
(٤) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٣٥.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٣.
554
يحمل عليه (١)، وهذا قول أبي عبيدة (٢) والزجاج (٣) وأكثر أهل التفسير (٤)، ونحو ذلك قال سعيد بن المسيب: كان الفحل يضرب الضراب المعدود، فإذا بلغ ذلك قالوا: قد حمي ظهره فترك (٥)، وقال الفراء: الحامي الفحل من الإبل: كان إذا لقح ولد ولدِه حمى ظهره فلا يركب (٦)، أعلم الله عز وجل أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئاً.
قال ابن عباس والمفسرون، وروي ذلك عن النبي - ﷺ -: إن عمرو بن لُحي الخزاعي كان قد ملك مكة، وكان أول من غير دين إسماعيل، فاتخذ الأصنام، ونصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحامي، قال رسول الله - ﷺ -: "فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قُصْبِه" ويروى "يجز قُصْبه في النار" (٧)، وقال قتادة: كان هذا كله تشديداً شدده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم وتغليظاً (٨)، وأنشد
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ٩٠، و"بحر العلوم" ١/ ٤٦٢، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٣٥، "تفسير البغوي" ٣/ ١٠٨، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ١٢٢.
(٢) في "مجاز القرآن" ١/ ١٧٩.
(٣) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٣.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٨٦ - ٩٣.
(٥) أخرجه البخاري (٤٦٢٣)، كتاب: التفسير، من تفسير سورة المائدة باب: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ﴾، والطبري ٧/ ٩٠.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢٢.
(٧) أخرجه من حديث أبي هريرة مختصرًا: البخاري (٤٦٢٣)، كتاب: التفسير، من تفسير سورة المائدة، ومسلم (٢٨٥٦) كتاب: الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون. لكن في البخاري جاءت تسميته: عمرو بن عامر، وكذا عند الإِمام أحمد في مسنده ٢/ ٢٧٥، وأخرجه الطبري ٧/ ٨٨ وغيرهم.
(٨) أخرجه الطبري ٧/ ٩٠.
555
أهل اللغة في هذه الأنواع من النعم، فأنشدوا في البحيرة:
مُحرَمةٌ لا يأكلُ الناسُ لحمَها ولا نحن في شيءٍ كذلك البحائِرُ
وأنشدوا في الوصيلة لتأبط شرًا:
أجِدَّك أمَّا كنت في الناس ناعقًا تراعي بأَعْلى ذي المجازِ الوصائلا
وأنشدوا في السائبة:
وسائبةٍ مالي تشكُّرا إن (١) اللهُ عافا (٢) عامرًا ومجاشعًا
وأنشدوا في الحامي:
حَماها أبو قابُوسَ في عزِّ مُلْكه كما قد حَمَى أولادَ أولادِه الفحلُ
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾، قال ابن عباس: يريد عمرو بن لُحي وأصحابه، يتقولون على الله الأباطيل في تحريمهم هذه الأنعام، وهم جعلوها محرمة لا الله تعالى (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: ١٠٣]، قال الشعبي وقتادة: يعني الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب وافتراء على الله من الرؤساء الذين حرموا هذه الأنعام (٤) (٥).
١٠٤ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ الآية،
(١) في (ش): (وإن).
(٢) في (ج): (عافى).
(٣) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٣٦، وعزاه المحقق لتفسير ابن عباس ص ١٠٢، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٥.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٩٣، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٧٣، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٣٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٤٠، "تفسير ابن كثير" ٢/ ١٢٣.
(٥) من: "وقوله تعالى: (وأكثرهم لا يعقلون).. " إلى هنا ليس في نسخة (ش).
قال ابن عباس: يعني: تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من تحليل ما حرمتم على أنفسكم ﴿قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ من الدين والمنهاج (١).
وقوله تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾، مضى الكلام في نظيره في سورة البقرة (٢).
١٠٥ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ الآية، قال النحويون: قوله: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أمر من الله، تأويله: احفظوا أنفسكم عن ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب. قاله الفراء (٣) وابن الأنباري (٤).
ونحو ذلك قال الزجاج؛ لأنه قال: إذا قلت: عليك زيدًا، فتأويله الزم زيدًا، و ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ معناه: الزموا أنفسكم فإنما ألزمكم الله أمرها (٥)، وهذا موافق لما قال ابن عباس في تفسيره؛ لأنه قال في قوله
(١) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦٢، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٣٦، "تفسير البغوي" ٣/ ١٠٩، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٥.
(٢) الظاهر أنه عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠].
(٣) في "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢٢.
(٤) أبو بكر، وقد وهم محقق "الوسيط" ٢/ ٢٣٧ فنسب هذا "القول للبيان في غريب إعراب القرآن" ١/ ٣٠٧، وهذا الكتاب لأبي البركات بن الأنباري المتوفى سنة ٥٧٧ هـ وهو متأخر عن المؤلف بقرن تقريبًا.
وكلام ابن الأنباري أبي بكر هنا بمعنى ما عند أبي بركات في البيان، ولم أجده في الزاجر لأبي بكر، والذي يعتمد عليه المؤلف كثيراً.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٣.
557
﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾: يقول: أطيعوا أمري، واحفظوا وصيتي (١)، والعرب تأمر من الصفات بعليك وعندك ودونك، فتعديها إلى المفعول، وتقيمها مقام الفعل، فتنصب بها على الإغراء (٢)، تقول: عليك زيدًا (٣)، كأنه قيل: خذ زيدًا فقد عداك وأشرف عليك، وعندك زيدًا، أي حضرك فخذه، ودونك، أي: قرب منك.
فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها، وقد تقيم العرب غير هذه الأحرف مقام الفعل، ولكن لا تعديه إلى مفعول، وذلك نحو قولهم: إليك عني (٤)، أي تأخر، كما يقولون، وراءك وراءك، بهذا المعنى.
قالوا: لا يجوز أن يأمر بهذه الظروف إلا المخاطب، لو قلت عليك زيدًا، لم يحسن، وإنما كان كذلك لأن المخاطب لا يحتاج في الأمر بالفعل إلى أكثر من حروف ذلك الفعل الذي يأمره به نحو: قم واذهب، وفي الأمر للغائب يحتاج إلى إدخال اللام نحو: ليقم فلان، فكرهوا أن يقيموا هذه الظروف مقام الفعل واللام، فتكون نائبة عن شيئين، وفي المخاطبة تكون نائبة عن شيء واحد وهو الفعل وحده، وقد حكى عن العرب سماعًا: عليه رجلاً، ليس إغراءً للغائب، وهو شاذ لا يقاس عليه، وأجاز الكسائي وحده الإغراء بالظروف كلها.
قال الفراء: زعم الكسائي أنه سمع: بينكما البعيرَ فخذاه، فأجاز ذلك
(١) لم أقف عليه.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٩٧.
(٣) انظر: كتاب سيبويه ١/ ١٣٨.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٩٤.
558
في كل الصفات، وسمع العرب تقول: كما أنت زيدًا، ومكانك زيدًا، قال الفراء: وسمعت بعض بني سليم يقول: مكانكني، يريد انتظرني في مكانك (١)، ولا يجوز تقديم ما نصبته حروف الإغراء عليها نحو: زيدًا عليك، لأنها طروف أقيمت مقام الأفعال وليست أفعالاً، فلا تقوى على العمل فيما قبلها (٢).
وأما سبب نزول الآية: فروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - لما قبل من أهل الكتاب الجزية وأبى من العرب إلا الإسلام أو السيف، عيَّر المؤمنين منافقوا مكة قبول رسول الله - ﷺ - الجزية من بعض دون بعض، فنزلت هذه الآية (٣)، يقول: لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على هدى، وقال سعيد بن جبير: نزلت في أهل الكتاب، يعني: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، قال الزجاج: الأجود أن يكون رفعًا على جهة الخبر، والمعنى: ليس يضركم من ضل، قال: ويجوز أن يكون موضع ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ جزمًا على الجواب لقوله: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ لأنه أمر، ويكون الأصل: لا يضرركم إلا أن الراء الثانية أدغمت فيها الأولى وضمت لالتقاء الساكنين (٥)، وشبه الفراء هذا بقوله
(١) "معاني القرآن" ١/ ٣٢٣.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٢٣.
(٣) ذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢١٤، و"بحر العلوم" ١/ ٤٦٣، و"تنوير المقباس" - الذي هو من رواية الكلبي ورواياته منكرة بهامش المصحف ص ١٢٥.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٩٤، و"معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٧٤.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٤.
559
تعالى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ (لَا تَخَفُ) ولا تخافُ [طه: ٧٧] جائزان (١).
ويقال: هل تدل هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قيل: في هذا وجوه:
أحدها: وهو الذي عليه أكثر الناس أن الآية لا تدل على ذلك، دل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذًا بذنوب العاصي، فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمعقول بالآيات في ذلك (٢)، وخطب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ وتضعونها غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب" (٣).
الوجه الثاني في تأويل الآية: ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا: قوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ يكون هذا في آخر الزمان، قال ابن مسعود وقرئت عليه هذه الآية: ليس هذا بزمانها ما
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢٣، ولا تخف ولا تخافُ، قراءتان سبعيتان.
انظر: "حجة القراءات" ص ٤٥٨، ٤٥٩، و"النشر" ٢/ ٣٢١.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٩٩، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٧٣، و"بحر العلوم" ١/ ٤٦٣.
(٣) أخرجه الترمذي (٣٠٥٧) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة وقال: حديث حسن صحيح، والطبري ٧/ ٩٨ من طرق، قال ابن كثير ٢/ ١٢٣. وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم، من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة.. متصلًا مرفوعًا ومنهم من رواه موقوفًا على الصديق، وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره، وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولًا في مسند الصديق رضي الله عنه".
560
دامت قلوبكم واحدة، ولم تُلبَسوا شِيَعًا، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شِيعًا، فامرؤٌ ونفسُه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية قال: ومن الآيات آيٌ وقع تأويلهن في آخر الزمان (١).
وروي عن ابن عمر أنه قال: "هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم" (٢)، ويؤكد هذا الوجه: ما روي أن أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله - ﷺ - عن هذه الآية فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة، وشحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، وذر عوامهم (٣).
الوجه الثالث في تأويل الآية: ما ذهب إليه عبد الله بن المبارك، فقال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين جميعًا، وأغراهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ يعني: عليكم أهل دينكم ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ﴾ من الكفار، وهذا كقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] يعني:
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٩٦، وذكره ابن كثير ٢/ ١٢٤، وعزاه إخراجه إلى أبي جعفر الرازي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٥٩٩ إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٩٦ وأخذه عنه ابن كثير ٢/ ١٢٤، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٥٩٩ إلى ابن مردويه أيضًا.
(٣) أخرجه الترمذي (٣٠٥٨) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة وقال حسن غريب، وأبو داود (٤٣٤١)، كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، والطبري ٧/ ٩٧، البغوي في "شرح السنة" ١٤/ ٣٤٧.
561
أهل دينكم، وقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] بهذا المعنى (١)، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء عنه، قال في قوله: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾: يريد يعِظُ بعضكم بعضًا، وينهى بعضكم بعضًا، ويعلّم بعضكم بعضًا ما يقربه إلى الله ويبعده من الشيطان، و ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ﴾ من غيركم، يريد من المشركين وأهل الكتاب، والمنافقين (٢).
الوجه الرابع: أن الآية نازلة في أهل الأهواء، لأنه لا ينفعهم الوعظ ولا يتركون هواهم بالأمر بالمعروف، فإذا رأيتهم أو كنت فيهم فعليك نفسك وذرهم وما اختاروه لأنفسهم، فلن يضرك ضلالهم. وهذا الوجه يروى عن صفوان بن مُحْرِز (٣)، ونحو ذلك قال الضحاك (٤).
والذي ذكرنا من سبب النزول يدل على أن الآية نازلة فيمن لا يؤمر بالمعروف ولا يُنْهى عن المنكر، وهم المنافقون واليهود والنصارى، فأما المسلمون فليسوا من هذا في شيء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فيما بينهم.
قال أبو عبيد: والذي أذن الله في إقراره والإمساك عن تغييره بقوله: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ إنما هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم أهل ملل يدينون بها، فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإِسلام فلا يدخل في هذه الآية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(١) "تفسير القرطبي" ٦/ ٣٤٤.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) هو صفوان بن مُحْرز المازني البصري، العابد، أحد الأعلام، أخذ عن الصحابة وروى عنه جماعة. كان واعظًا قانتًا، توفي سنة ١٧٤ هـ انظر: "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٢٨٦، "تقريب التهذيب" ص ٢٧٧ (٢٩٤١).
(٤) لم أقف عليه، "تفسير الطبري" ٧/ ٩٧١، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٠.
562
واجبان في أهل المعاصي من المسلمين على الأبد، كذلك وجدنا أكثر أهل الحديث بلا توقيت (١)، وكان (٢) ابن شبرمة (٣)، يحد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، وذلك أنه حدث بحديث ابن عباس في الجهاد: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفر (٤)، فقال: (أما أنا) (٥) فأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا، لا يعجز الرجل عن اثنين أن يأمرهما وينهاها (٦)، قال أبو عبيد: ولا أعلم هذا يوجد فيه أجل أحسن من الذي ذهب إليه ابن شبرمة (٧).
وقوله تعالى: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾، قال عطاء: يريد مصيركم ومصير من خالفكم ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يريد يجازيكم بأعمالكم (٨).
١٠٦ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ الآية، قال المفسرون كلهم في سبب نزول هذه الآية وما بعدها: أن تميمًا الداري (٩)
(١) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" في القرآن العزيز - لأبي عبيد (القاسم بن سلام) ص ٢٩٠.
(٢) لا يزال الكلام لأبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص ٢٩٤.
(٣) لم يتبين من هو.
(٤) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٣ عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ (٦٥) سورة الأنفال.
(٥) في (ج): (أنا) بدون (أما).
(٦) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص ٢٩٤.
(٧) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص ٢٩٤.
(٨) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٦٠، "زاد المسير" ٢/ ٤٤٣.
(٩) هو أبو رقية، تميم بن أوس الداري، مشهور في الصحابة، كان نصرانيا فأسلم سنة ٩ هـ، كان كثير التهجد، قام ليلة بآية حتى أصبح وهي: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ﴾ [الجاثية: ٢١] انظر: "الإصابة" ١/ ١٨٦.
563
وأخاه عديًّا (١) وكانا نصرانيين خرجا إلى الشام ومعهما بُدَيْل مولى عمرو بن العاص، وكان مسلمًا مهاجرًا، خرجوا تجارًا، فلما قدموا الشام مرض بُدَيْل، فكتب كتابًا فيه نسخة جميع ما معه وطرحه في جوالقه، ولم يخبر صاحبيه بذلك، وأوصى إليهما، وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشًا بالذهب، ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، ففتشوا، فأصابوا الصحيفة بذكر ما كان معه، وفيها ذكر الإناء، فقالوا لتميم وعدي: إنا فقدنا من متاعه إناء من فضة فيها ثلاثمائة مثقال، قالا: ما ندري، إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم، فدفعناه، وما لنا بالإناء من علم، فرفعوهما إلى رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله هذه الآية (٢).
وهذه الآية وما بعدها من أعوص ما في القرآن من الآيات معنًى وإعرابًا، وسأسوقهما بعون الله مشروحتين مُبَيَّنتين إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾، اختلف النحويون في تقديره، فقال الفراء: وقوله: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ﴾ رفع الاثنين بالشهادة، أي ليشهدكم اثنان (٣)، وذكر الزجاج فيه قولين: أحدهما: مثل قول الفراء، والثاني: انفرد فقال: (شهادةُ) مرتفع بالابتداء
(١) هو عدي بن بداء، قال ابن حبان: له صحبة، وأنكر أبو نعيم ذلك، وجاء في "تفسير مقاتل" أنه مات نصرانيًا. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥١٤، و"الإصابة" ٢/ ٤٦٧.
(٢) أخرجه البخاري (٢٧٨٠) كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ مختصرًا، والترمذي (٣٠٥٩) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة، وأبو داود (٣٦٠٦) كتاب: الأقضية، باب: شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر، والطبري ٧/ ١٠١ - ١١٢ من طرق والمؤلف في "أسباب النزول" ص ٢١٤.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢٣.
564
وخبرها (اثنان)، والمعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فحذف المضاف، قال: ويجوز أن يكون المعنى فيما فَرضَ عليكم في شهادتكم أن يشهد اثنان، فيرتفع (اثنان) بشهادة والمعنى أن يشهد اثنان (١)، واختار أبو علي القول الأول من قولي الزجاج (٢).
وقال صاحب النظم: (شهادة) مصدر وضع موضع الأسماء، يريد بالشهادة الشهود، كما يقال: رجل عدلٌ ورضا، ورجال عدل ورضا وزَوْرٌ، وإذا جعلت الشهادة بمعنى الشهود قدرت معه حذف المضاف، ويكون المعنى: عدد شهود بينكم اثنان، واستشهد على هذا بقوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] أراد وقت الحج، ولولا هذا التأويل لكان قوله: (أشهر) منصوبًا على تأويل: الحج في أشهر معلومات، فقدر صاحب النظم حذف المضاف من الابتداء، وقدره الزجاج من الخبر.
وقوله تعالى: ﴿بَيْنِكُمْ﴾، قال أبو علي: اتسع في (بين) وهي ظرف فجعل اسمًا، وأضيف إليه المصدر، وهذا يدل على أنه يجوز الاتساع في الظروف بجعلها اسمًا في غير الشعر، كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] في قول من رفع، فجاء في غير الشعر، كما جاء في الشعر نحو قوله:
فصادفَ بين عَيْنَيه (الجنونا) (٣) (٤)
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٤.
(٢) انظر: "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي ٣/ ٢٦٢.
(٣) هكذا في النسختين (ج)، (ش) بالنون، وفي "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٦٢ (الجبوبا) وكذا في اللسان ١/ ٥٣٢ (جبب) قال في شرحه: "الجبوب وجه الأرض ومتنها" ولعل ما في "الحجة" هو الأصوب فهو الأصل، وقد نسب البيت في اللسان لأبي خراش الهذلي.
(٤) "الحجة" ٣/ ٣٦٢.
565
وقال أبو علي الجرجاني في قوله: ﴿بَيْنِكُمْ﴾ بمعنى: لما بينكم، وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر، ثم أضاف الشهادة إلى التنازع، لأن الشهود إنما يحتاج إليها في التنازع الواقع في ما بين القوم، والعرب تضيف الشيء إلى الشيء إذا كان منه بسبب كقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [الرحمن: ٤٦] أي: مقامه بين يدي ربه. ثم حذف (ما) من قوله: ما بينكم، والعرب تحذف كثيراً ذكر (ما) و (من) في الموضع الذي يحتاج إليهما فيه كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ﴾ [الإنسان: ٢٠] أي: ما ثِّم، وكما قال: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] على معنى: ما بيني وبينك، ومثله قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] في قول من نصب، وهذا الذي ذكره الجرجاني شرح ما أجمله أبو علي، لأنه إذا حُذف (ما) وأضيف إليه فقد جعل الظرف اسمًا متسعًا فيه، فأبو علي أجمل، والجرجاني فسر.
وقوله تعالى: ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾، (إذا) ظرف يتعلق بالشهادة، وهو معمولها على تقدير: يشهدان (١) إذا حضر أحدكم الموت اثنان، ولا يجوز أن يتعلق بالوصية على تقدير: حين الوصية إذا حضر، أي الوصية تكون عند حضور الموت لأمرين:
أحدهما: أن الوصية مصدر، ولا يتعلق بالمصدر ما يتقدم عليه، لأنه ليس له قوة الفعل، فلا يجوز: زيدًا ضربًا، بمعنى: اضرب زيدًا، كما يجوز: ضربًا زيدًا.
والثاني: أن الوصية مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف؛ لأنه لو عمل فيما قبله لجاز تقديره في ذلك الموضع، وإذا قُدر
(١) قد تكون: يشهد أن؛ لأن الفاعل: اثنان.
566
ذلك لزم تقديم المضاف إليه على المضاف، بيان هذا: أنك لو قدرت أن يكون (إذا) متعلقًا بالوصية جعلت التقدير: الوصية إذا حضر أحدكم الموت، فيحتاج أن تقدم الوصية على ما أضيف إليه وهو حين (١)، ومن ثَمّ لم يجز أن تقول: القتال زيدًا حين تأتي، على معنى أن يكون (زيدًا) منصوبًا بتأتي، لأنه مضاف إليه، فلا يعمل فيما قبل المضاف وهو حين. هذا معنى كلام أبي علي الفارسي (٢)، وقد أديت المعنى وشرحت بعض ألفاظه.
وقال في قوله: ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾: لا يجوز أن يتعلق حين بالشهادة، لأن الشهادة قد عمل في ظرف من الزمان، فلا يعمل في ظرف آخر منه، وكان تحمله على أحد ثلاثة أوجه: أحدها: أن تعلقه بالموت، كأنه: الموت في ذلك الحين، والآخر: أن تحمله على حضر، أي: إذا حضر في هذا الحين، ويراد بالموت: حضوره في الوجهين قربه لا نزوله، كقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء: ١٨] ولا يسند إليه القول بعد الموت، الوجه الثالث: أن تحمله على البدل من (إذا) لأن ذلك الزمان في المعنى هو ذلك الزمان، فتبدله منه كما تبدل الشيء من الشيء إذا كان إياه (٣).
وقوله تعالى: ﴿اثْنَانِ﴾، ذكرنا أنه خبر المبتدأ.
وقوله تعالى: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾، جملة مرتفعة لأنها صفة لقوله: ﴿اثْنَانِ﴾ (٤).
(١) أي ظرف زمان.
(٢) "الحجة" ٣/ ٢٦٣.
(٣) "الحجة" ٢/ ٢٦٣، ٢٦٤.
(٤) "الحجة" ٣/ ٢٦٤.
567
وقوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ﴾، قال ابن عباس وعامة أهل التفسير: منكم يا معشر المؤمنين، أي من أهل دينكم وملتكم (١).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾، تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم، أي: من غير أهل ملتكم في قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح وإبراهيم وعَبِيدة وابن سيرين ومجاهد وابن زيد (٢).
قال شريح: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلمًا يُشهِده على وصيته، فأشهد يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيَّا، أو عابد وثن، أو أي كائن كان، فشهادتهم جائزة (٣)، ولا تجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذا الموضع الواحد، وهو في الوصية في السفر، فإن شهد مسلمان بخلاف شهادتهما، أُجيزت شهادة المسلمين، وأُبطلت شهادة الكافرين.
وقال الشعبي: حضر رجلاً من المسلمين الموت وهو بدَقُوقَا (٤)، فلم يجد أحدًا من المسلمين يُشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري وكان عليها فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول
(١) أخرج معناه عنه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٠١، وهذا قول الجمهور "بحر العلوم" ١/ ٢٦٤، "النكت والعيون" ٢/ ٧٥، "زاد المسير" ٢/ ٤٤٦.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ١٠٣، "بحر العلوم" ١/ ٤٦٤، "النكت والعيون" ٢/ ٧٥، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٢، "زاد المسير" ٢/ ٤٤٦.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ١٠٤، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٢.
(٤) قال محقق الطبري: "دَقُوقا: مدينة بين إربل وبغداد معروفة، لها ذكر في الأخبار والفتوح، كان بها وقعة للخوارج" "تفسير الطبري" ١١/ ١٦٢ (ط. شاكر).
568
الله - ﷺ - فأحلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر بالله ما بدلا ولا كذبا، وأجاز شهادتهما (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، الشرط متعلق بقوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ والمعنى: أو شهادة آخرين من غيركم إن أنتم سافرتم، قال أبو علي: وهو وإن كان على لفظ الخبر، فالمعنى على الأمر، تأويله: ينبغي أن تُشْهِدوا إذا ضربتم في الأرض آخرين من غير أهل ملتكم (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ مع قوله: ﴿فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ فصلان معترضان بين الصفة والموصوف؛ لأن قوله: (تحبسونهما) من صفة قوله: (أو آخران)، والفاء في قوله: (فأصابتكم) لعطف جملة على جملة (٣).
وقوله تعالى: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ﴾ قال صاحب النظم: أي تقيمونهما وتقفونهما، كما يقول الرجل: مر بي فلان على فرس فحبس على دابته، أي: وقفه، وحبست الرجل في الطريق أكلمه، أي: وقفته. قال: ويقال إن معنى قوله: (تحبسونهما) تعبرونهما على اليمين، وهو أن يحمل الإنسان على اليمين وهو غير متبرع بها.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ﴾، أي من بعد صلاة أهل دينهما، عن
(١) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص ١٥٧، ١٥٨ رقم ٢٩٠ مختصرًا، وأبو داود (٣٦٠٥) كتاب: الأقضية، باب: شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر، والطبري ٧/ ١٠٥، وانظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص ٣٧٩.
(٢) "الحجة" ٣/ ٢٦٥.
(٣) انظر: "الحجة" ٣/ ٢٦٤.
569
ابن عباس والسدي (١)، وقال عامة المفسرين: من بعد صلاة العصر (٢)، وعلى هذا قال ابن قتيبة: خص هذا الوقت؛ لأنه قبل وجوب الشمس، وأهل الأديان يعظمونه، ويذكرون الله فيه، وَيتَوقَّون الحلف الكاذب وقول الزور، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها (٣).
وقال ابن الأنباري: قالوا: إنما أمرنا باستحلاف الشاهِدَين بعد صلاة العصر، لأنه وقت تعظمه اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الملل، فندبنا الله إلى استحلافهم في الوقت الذي يشرفونه، ويعظمونه، ويتجنبون فيه الأكاذيب.
وقوله تعالى: ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾، الفاء لعطف جملة على جملة، قال أبو علي: وإن شئت جعلت الفاء للجزاء كقول ذي الرُّمة:
وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ مرَّةً فيبدو وتاراتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ (٤)
تقديره إذا حَسَرَ بدا، وكذلك إذا حبستموهما أقسما (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾، أي في قول الآخَرين الّذَين ليسا من أهل من ملتكم، وغلب على ظنكم خيانتهما.
قال أبو بكر (٦): والشرط متعلق بـ (تحبسونهما)، كأنه قال: إن ارتبتم
(١) أخرجه عن السدي: الطبري ٧/ ١٠٩، وعزاه لهما الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٧٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ٤٤٨، وقد استبعد الطبري هذا القول.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ١١١، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢١٦، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٧٨، و"بحر العلوم" ١/ ٤٦٥، "النكت والعيون" ٢/ ٧٦، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٢، ١١٣.
(٣) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٧٨، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٤٤٨.
(٤) "ديوانه" ص ٣٩١، وفيه (تارة) بدل (مرةً). وانظر: "المحتسب" ١/ ١٥٠.
(٥) "الحجة" ٣/ ٢٦٥.
(٦) ابن الأنباري.
570
وقدرتم أن الرجلين الذين أوصى إليهما كذبا وخانا حبستموهما بعد صلاة العصر.
وقوله تعالى: ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾، قال أبو علي: (لا نشتري) جواب ما يقتضيه قوله: (فيقسمان بالله) لأن أقسمُ ونحوه يتلقى بما يتلقى به الأيمان (١).
وقال صاحب النظم: تأويله فيقسمان بالله ويقولان هذا القول في أيمانهما. والعرب تضمر القول كثيراً كقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤]، أي: يقولون: سلام.
وقوله تعالى: ﴿بِهِ ثَمَنًا﴾ قال أبو علي: المعنى: لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمنًا، فحُذِفَ المضاف وذُكِّر الشهادةٌ لأن الشهادة قول. قال: وتقدير لا نشتري به ثمنًا: لا نشتري به ذا ثمنٍ، ألا ترى أن الثمن لا يُشترى وإنما يُشترى ذو الثمن. قال: وليس الاشتراء ههنا بمعنى البيع وإن جاز في اللغة، لأن بيع الشيء إبعاد له من البائع، وليس المعنى ههنا على الإبعاد، وإنما هو على التمسك به والإيثار له على الحق (٢).
وقال غيره: معنى: ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾ أي لا نبيع عهد الله بعرض نأخذه (٣)، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران: ٧٧] فمعنى ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾ أي لا نأخذ ولا نستبدل، ومن باع شيئًا فقد اشترى ثمنه، ومعنى الآية: لا نأخذ بعهد الله ثمنًا بأن نبيعه بعرض من الدنيا، ونستغني في هذا عن كثير من تكلف أبي علي. وهذا معنى قول
(١) "الحجة" ٣/ ٢٦٦.
(٢) "الحجة" ٣/ ٢٦٦.
(٣) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص ٣٧٨.
571
القتيبي (١) والجرجاني.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾، التقدير: ولو كان المشهود له ذا قربى، وخص ذو القربى بالذكر لميل الناس إلى قراباتهم ومن يناسبونه (٢)، وهذا مقتص من قوله عز وجل: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين﴾ [النساء: ١٣٥].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ﴾، أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه لأمره بإقامتها والنهي عن كتمانها في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: ٢] (٣)
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ﴾ أي: إنا إن كتمناها كنا من الآثمين، وهذا الذي ذكرنا في الآية قول أكثر المفسرين واختيار أعظم أصحاب المعاني (٤).
قال عبد الله بن مسلم وذكر معنى الآية على الوجه: أراد الله عز وجل أن يعرفنا كيف نشهد بالوصية عند حضور الموت فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ أي: رجلان عدلان من المسلمين تشهدونهما على الوصية، وعلم جل ثناؤه أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت فلا يجد من يشهده من
(١) أي ابن قتيبة. انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٧٨، ٣٧٩.
(٢) من "الحجة" لأبي علي ٣/ ٢٦٦.
(٣) "الحجة" ٣/ ٢٦٦.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٨١، الطبري ٧/ ١١١، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٧٨، "بحر العلوم" ١/ ٤٦٥.
572
المسلمين فقال: (أو آخران من غيركم) أي: من غير دينكم، إذا (ضربتم في الأرض) أي: سافرتم (فأصابتكم مصيبة الموت) وتم الكلام، فالعدلان من المسلمين للحضَر والسفَر إن أمكن إشهادهما في السفر، والذميان في السفَر خاصة إذا لم يوجد غيرهما.
ثم قال: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ من بعد صلاة العصر ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ في شهادتهما وشككتم وخشيتم أن يكونا قد غيرا وبدلا وكتما وخانا، ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾ أي: لا نبيعه بعرض، ولا نحابي في شهادتنا أحدًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة علمناها، فإذا حلفا بهذه اليمين على ما شهدا به قبلت شهادتهما: وأمضي الأمر على قولهما (١).
وقال ابن الأنباري: تلخيص الآية: يا أيها الذين آمنوا ليشهدكم في سفركم إذا حضركم الموت وأردتم الوصية، اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غير دينكم.
فإن قيل: إن أهل الذمة لا يكونون عدولًا ولا تقبل شهادتهم، قيل: هذا من مواضع الضرورات التي يجوز فيها ما لا يجوز في مواضع الاختيارات، وقد أجاز الله تعالى في الضرورة التيمم وقصر الصلاة في السفر والجمع، والإفطار في شهر رمضان، وأكل الميتة في حال الضرورة، ولا ضرورة أعظم من ضرورة تبطل حقوقا وتضيع أمورًا على الميت من زكوات وكفارات أيمان وودائع للناس من ديون وحقوق، متى لم يبينها بطلت، فجاز (٢) عند الضرورة الإيصاء إلى أهل الذمة، كما جاز في الأشياء التي وصفناها، وكما يجوز شهادة نساء لا رجل معهن في الحيض،
(١) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٧٧، ٣٧٨.
(٢) في (ج): (فجازت).
573
والحبَل، والولادة، والاستهلال.
وقال أبو عبيد (١): مما يدل على صحة هذا القول قوله في أول الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فعم في خطابه المؤمنين، فلما قال بعد ذلك ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ لم يغلب عليه إلا معنى: من غير أهل دينكم، إذ كان لم يخصص في أول الآية، ولم يخاطب قومًا مختصين من المؤمنين دون قوم (٢).
وذهب آخرون، إلى أنه لا يجوز شهادة أهل الذمة في شيء من أحكام المسلمين، ولا يقبل قولهم، ولا يثبت بشهادتهم حكم، وعليه الناس اليوم، فقالوا في قوله تعالى: ﴿اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ أي: من حَيِّكم وقبيلتكم ورفقتكم ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ أي: من غير قبيلتكم ورفقتكم، وهو قول الحسن والزهري وأبي موسى، قالوا: ولا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر (٣)، واختاره الزجاج فقال: قال الله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: ٢] وقال: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، والشاهد إذا عُلِمَ أنه كذاب لم تقبل شهادته، وقد علمنا أن النصارى زعمت أن الله تعالى: ﴿ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣] وأن اليهود قالت: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] فعلمنا أنهم يكذبون، فكيف تجوز شهادة من هو مقيم على الكذب؟ (٤).
فهؤلاء جعلوا الآية في المسلمين.
(١) ينظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص ١٥٥ - ١٦٥.
(٢) ينظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص ١٦٣، ١٦٤.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ١٠٦، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٧٧، "النكت والعيون" ١/ ٤٩٤، "زاد المسير" ٢/ ٤٤٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٦.
574
وذهب جماعة إلى أن الآية كانت في شهادة أهل الذمة ثم نسخت، وقد بين أبو عبيد هذه المذاهب (١) وذكر أقواها فقال: في هذه الآية ثلاثة أقاويل: فجلّ العلماء وعظمهم يتأولونها في أهل الذمة ويرونها محكمة، وقالت طائفة أخرى: في أهل الذمة غير أنها قد نسخت، وقالت طائفة أخرى: هي لأهل الإسلام جميعًا، ولا حظ لأهل الذمة فيها (٢).
ثم ذكر بإسناده إجازة شهادة أهل الذمة، وأن الآية نزلت في ذاك عن أبي موسى وشريح والشعبي ومجاهد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم (٣).
وقال: هذا مذهب الذين رأوا الآية محكمة، ومما يزيد قولهم قوة تتابع الآثار في سورة المائدة بقلة المنسوخ وأنها من محكم القرآن وآخر ما نزل (٤).
وأما الآخرون (٥) الذين رأوا الآية منسوخة، احتجوا بقوله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] قال: ولست أدري إلى من يسند هذا القول؟ غير أنه قول مالك بن أنس وأهل الحجاز وكثير من أهل العراق غير سفيان، فإنه أخذ بالقول الأول، وأما الذين تأولوا الآية في أهل الإِسلام وأخرجوا المشركين منها فشيء يروى عن أبي موسى والحسن وابن شهاب. روى خالد عن أبي قلابة عن أبي موسى في قوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ
(١) ينظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص ١٥٥ - ١٦٥.
(٢) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص ١٥٥.
(٣) انظر: "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص ١٥٥ - ١٦٠.
(٤) "الناسخ والمنسوح في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص ١٦٠.
(٥) لا يزال الكلام لأبي عبيد.
575
مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال: كلهم مسلمون.
وقال الحسن: ﴿ذَوَا عَدْلٍ﴾ من قبيلتكم ﴿أَوْ آخَرَانِ﴾ من غير قبيلتكم.
وقال ابن شهاب في هذه الآية: هي في الرجل يموت في السفر فيحضره بعض ورثته ويغيب بعضهم (١)
قال أبو عبيد: أما حديث أبي موسى فلا أراه حَفِظَ، لأن الشعبي حدث عنه إجازة شهادة أهل الذمة على الوصية. وقد ذكرناه (٢) قبل، وأما تأول الحسن: من قبيلتكم ومن غير قبيلتكم، فقد بينا أنه لا يحتمل لعموم المؤمنين بالخطاب في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فلم يبق أحد منهم إلا وقد خوطب بها، وكيف يجوز أن يقال ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ إلا من كان خارجًا منهم، وأما قول ابن شهاب: إنها في أهل الميراث، فأنى يكون هذا؟ وإنما (سما الله بشهادة) (٣) ثم أعاد ذكرها في الآية مرارًا فقال: ﴿لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾ وقال: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ﴾. وهو تناولها (٤) في الادعاء من بعض الورثة على بعض، وإنما هم مدعون ومدعى عليهم، فأين الشهادة من هذه الدعوى؟ وكيف يقال للمدعي شاهد؟
فهذان نوعان من التأويل لا أعرف لهما وجهًا، مع أن فيهما أمرين لا يجوزان في أحكام المسلمين، قال: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾ فهل يُعرف في حكم الإِسلام أن يُحَلَّف الشاهدان أو يجب عليهما يمين؟ أم هل يعرف في حكم الإسلام أن لا يقبل الحاكم شهادتهما ولا
(١) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" لأبي عبيد ص ١٦٢، ١٦٣.
(٢) في (ج): (وقد ذكرنا).
(٣) في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز": (سماها الله لنا شهادة).
(٤) في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز": وهذا يتأولها.
576
ينفذها إلا بعد صلاة العصر؟ هذا ما لا يجب على شهود المسلمين، وليس الأمر عندنا إلا القول الأول عن من سمينا من الصحابة والتابعين (١) مع ما يروى عن ابن مسعود (٢) أن رجلاً من المسلمين خرج في سفر فمر بقرية، فمرض ومعه رجلان من المسلمين فدفع إليهما ماله ثم قال: ادعوَا من أشهده على ما قبضتما، فلم يجدوا أحدًا من المسلمين في تلك القرية، فدعوا أناسًا من اليهود والنصارى فأشهدهم على ما دفع إليهما، ثم إن المسلِمَيْنِ قدما بالمال إلى أهله فقالوا: لقد كان معه من المال أكثر مما أتيتمونا به، قال: فاستحلفوهما بالله ما دفع إليهما غير هذا، ثم قدم ناس من اليهود والنصارى فسألهم أهل المتوفى فأخبروهم أنه هلك بقريتهم، وترك كذا وكذا من المال، فعلم أهل المتوفى أن قد عُثِروا على أن المسلمين قد استحقا إثمًا، فانطلقوا إلى ابن مسعود فأخبروه بالذي كان، فأمر المسلمين أن يحلفا بالله ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ إلى آخر الآية، ثم أمر اليهود والنصارى أن يحلفوا بالله لقد ترك من المال كذا، ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلِمَيْنِ، ثم أمر أهل المتوفى أن يحلفوا بالله ما شهدت به اليهود والنصارى، فحلفوا، فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلِمَيْنِ ما شهدت به اليهود والنصارى. قال: وكان ذلك في خلافة عثمان. انتهى كلام أبي عبيد (٣).
والذين يتأولون الآية في غير أهل الذمة يقولون إنما استُحلِف
(١) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص ١٦٣.
(٢) هذا الأثر متقدم في "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" على ما نقله المؤلف فهو في ص ١٥٧.
(٣) "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز" ص ١٥٧ - ١٦٣.
577
الشاهدان لأنهما صارا مدَّعى عليهما، ادَّعى الورثة انهما خانا في المال، وأما الحبس بعد الصلاة فهو من تغليظ الأيمان، ومذهب أهل الحجاز أن الأيمان تغلَّط في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان واللفظ، أما الزمان: فهو ما قال الله تعالى في هذه الآية، وهي صلاة العصر، وكان الناس يكثرون في المساجد بالحجاز بعد صلاة العصر.
وأما المكان: فعند المقام بمكة، وعلى المنبر بالمدينة، وسائر البلاد.
وأما الألفاظ: فما يؤدي إليه اجتهاد القضاة، رجعنا إلى حديث تميم وعدي وقصتهما: ولما رفعوهما إلى رسول الله - ﷺ -، ونزلت الآية، أمرهم رسول الله - ﷺ - أن يستحلفوهما بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضا له غير هذا ولا كتما، فحلفا على ذلك، وخلى رسول الله - ﷺ - سبيلهما، فكتما الإناء ما شاء الله أن يكتما، ثم اطُّلِعَ على إناء من فضة منقوش من ذهب معهما، فقالوا هذا من متاعه، فقالا: اشتريناه منه فارتفعوا إلى النبي - ﷺ -.
١٠٧ - فنزل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ الآية (١).
قال الليث: عثر الرجل يعثرُ عُثُورًا: إذا هجم على أمرِ لم يهجُم عليه غيره، وأعثرت فلانًا على أمري، أي: أطلعته، وعَثَر الرجل يَعْثُر عَثْرة، إذا وقع على شيء (٢).
قال أهل اللغة: وأصل عثر بمعنى اطلع، من العثرة التي هي الوقوع، وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، ثم إذا عثر به اطلع عليه ونظر
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ١١٧، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٣.
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٢٧ (عثر).
578
ما هو، فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفيًا عنه: قد عثر عليه. وأعثر غيره إذا أطلعه عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الكهف: ٢١]، أي: أطلعنا عليهم، ومعنى الآية: فإن ظُهِر أنهما أتيا خيانة واستحقا الإثم أي: استوجباه بقصدهما في شهادتهما إلى غير الاستقامة، ولم يتحريا الحق وحنثا في اليمين، ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾، أي: مقام الشاهدين الذين هما من غيرنا.
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ﴾، قال الزجاج: هذا موضع من أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ صفة للآخرين، وقوله: ﴿اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ صلة الذين. ومعنى ﴿اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ أي: استحقت الوصية عليهم، أو استحق الإيصاء عليهم، وهم ورثة الميت. ويجوز أن يكون المعنى من الذين استحق عليهم الإثم، كأن المعنى من الذين جنى عليهم الإثم (١)، وقال بعضهم: معنى (على) ههنا معنى (في) والمعنى: من الذين استحق فيهم الإثم، أي: بسببهم استحق الحالفان اللذان من غيرنا فيهم الإثم بيمينهما الكاذبة. وقامت (على) مقام (في) كما قامت (في) مقام (على) في قوله تعالى: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١] وقال بعضهم: معنى (على) معنى (من) كأنه قيل: من الذين استحق منهم الإثم، وكانت (على) بمنزلة (من) كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ﴾ [المطففين: ٢] أي: من الناس (٢).
قال صاحب النظم مختارًا لهذا القول: ﴿الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ أي: نيل منهم ظلم بالخيانة وهم ورثة المتوفى الموصي. انتهى كلامه، والمسند إليه
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٦، ٢١٧.
(٢) "معانى القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٧.
579
استحق الإيصاء والإثم على ما بينا، وحذف ذلك لتقدم ذكر الوصية والإثم في قوله: ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾ وقوله: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾، وقوله تعالى: ﴿الْأَوْلَيَانِ﴾ لا يخلو ارتفاعه من أن يكون على الابتداء، وقد أُخِّر كأنه في التقدير: فالأوليان بأمر (١) الميت آخران من أهله يقومان مقام الخائنين الذين عُثِر (٢) على خيانتهما، كقولك: تميمي أنا، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في (يقومان)، فيصير التقدير: فيقوم الأوليان (٣).
وقد أجاز أبو الحسن الأخفش أن يكون (الأوليان) صفة لقوله (فآخران) لأنه لما وُصف (آخران) اختص بما وُصفَ به فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له بما يوصف به المعارف (٤).
وقال صاحب النظم: النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة كقوله عز وجل: ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ [النور: ٣٥] فمصباح نكرة، ثم قال: ﴿الْمِصْبَاحُ﴾ ثم قال: ﴿فِي زُجَاجَةٍ﴾ ثم قال ﴿الزُّجَاجَةُ﴾ وهذا مثل قولك: رأيت رجلاً، فاستفهمك إنسان فقال: من الرجل؟ فصار العود إلى ذكره معرفة، قال: ويجوز أن يكون (الأوليان) بدلاً من قوله: (آخران) وإبدال المعرفة من النكرة سائغ كثير، ومعنى الأوليان: أي: الأقربان إلى الميت. ويجوز أن يكون المعنى: الأوليان باليمين (٥)، وإنما كانا أوليين
(١) في (ج): (بالأمر).
(٢) في (ج): (عثرا).
(٣) "الحجة" لأبي علي الفارسي ٣/ ٢٦٧، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢١٦، ٢١٧.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" للأخفش ٢/ ٤٧٩، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٢٦٧.
(٥) انظر: "الحجة" ٣/ ٢٦٨.
580
باليمين؛ لأن الوصيين ادعيا أن الميت باع الجام (١) فانتقل اليمين إلى الوليين؛ لأنهما صار مُدَّعًى عليهما أن مورثهما باع الإناء، وهذا كما لو أقر إنسان لآخر بدين وادعى قضاءه حُكِمَ برد اليمين إلى الذي ادعى الدين، لأنه صار مُدَّعى عليه أنه استوفى، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر: (الأوَّلِينَ) على الجمع (٢)، وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ وتقديره: من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء أو الإثم. وإنما قيل لهم: الأولين فمن حيث كانوا أولين في الذكر، ألا ترى قد تقدم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ وكذلك: ﴿اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ ذكرا في اللفظ قبل قوله: (أو آخران من غيركم) (٣)، وكان ابن عباس يختار هذه القراءة ويقول: أرأيت إن كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مقامهما (٤)، أراد أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقام الجانيين، وقرأ حفص وحده (اسْتَحَقَ) بفتح التاء والحاء، (الأوليان) على
(١) في (ش): (الجازم) والأقرب ما أثبته. "تفسير الطبري" ٧/ ١١٥، و"الإصابة" ١/ ١٨٤.
والمقصود بالجام ما أخذه تميم وأخوه من مال الميت وهو الإناء، والجام قال الأزهري في تعريفه: "عن ابن الأعرابي: الجام الفاثور من اللجين". "تهذيب اللغة" ١/ ٥٢٥ (جام).
والفاثور: الخوان أو المائدة. قال محقق الطبري ١١/ ١٨٥: (ط. شاكر) "الجام إناء من فضة، وهو عربي فصيح مخوص بالذهب".
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ١١٤، و"الحجة" ٣/ ٢٦٠، والنشر في القراءات العشر ٢/ ٢٥٦.
(٣) انظر: "الحجة" ٣/ ١٦٩، و"حجة القراءات" ص ٢٣٨.
(٤) أخرجه الفراء في "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢٤، و"معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٨١، و"حجة القراءات" ص ٢٣٨.
581
التثنية (١)، واستحق ههنا: بمعنى حق، أي: وجب، والمعنى: فآخران من الذين وجب عليهم الإيصاء بتوصية ميتهم وهم ورثته.
وقوله تعالى: ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾، قال ابن عباس: يريد ليميننا أحق من يمينهما (٢).
وهذا ملتقى به ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾ لأن معناه: فيقولان: والله لشهادتنا، وسميت اليمين ههنا شهادة؛ لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف أنه كذلك، وقد يقول القائل: أشهد بالله، أي: أقسم عليه.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا اعْتَدَيْنَا﴾، قال ابن عباس: أي: فيما طلبنا من حقنا (٣)، وقيل: وما اعتدينا فيما قلناه من أن شهادتنا أحق من شهادتهما (٤)، وكل ما ذكرنا في هذه الآية أكثره قول أبي علي (٥) وأبي إسحاق (٦).
وقال عبد الله بن مسلم في ذكر معنى هذه الآية على سياق واحد موافق لما قدمنا: ﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ بعد ما حلف الوصيان ﴿عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ أي: حنثًا في اليمين بكذبٍ في قولٍ أو خيانةٍ في وديعةٍ، قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت، فيحلفان بالله لقد ظُهِر على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما، وما اعتدينا عليهما (٧).
(١) فى رواية حفص عنه، "الحجة" ٣/ ٢٦٠ - ٢٦١. و"حجة القراءات" ص ٢٣٨، و"النشر" ٢/ ٢٥٦.
(٢) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦٥، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٤.
(٣) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٥.
(٤) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦٥، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٤.
(٥) انظر: "الحجة" ٣/ ٢٦١ - ٢٧٠.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٤ - ٢١٧.
(٧) "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص ٣٧٩، ٣٨٠ باختصار.
582
رجعنا إلى قصة تميم وعدي، قالوا: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو ابن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان، فحلفا بالله أنهما خانا وكذبا، فدفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت، وغرم تميم وعدي ما أخذاه من ثمنه، فكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي - ﷺ - يقول: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء، فأتوب إلى الله وأستغفره (١)، وروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام (٢).
١٠٨ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا﴾، أشار بقوله: (ذلك) إلى ما حكم به في هذه القصة وبينه من رد اليمين، والمعنى: ذلك الذي حكمنا به أدنى إلى الإتيان بالشهادة وأقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على ما كانت، يعني تميمًا وصاحبه وكل من قام مقامهما من الخصوم، ولهذا المعنى جمع.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَخَافُوا﴾، أي: أقرب إلى أن يخافوا (٣)، ﴿أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ﴾ على أولياء الميت (٤) ﴿بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا وُيغرّموا، فربما لا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم (٥)، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، أن تحلفوا أيمانًا كاذبة وتخونوا أمانة (٦)، ﴿وَاسْمَعُوا﴾،
(١) أخرجه الطبري ٧/ ١١٥ - ١١٦ عن عكرمة، وكذا ابن المنذر، انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٦٠٣.
(٢) "القرطبي" ٦/ ٣٥٨.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢١٧، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٥.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥١٤، الطبري ٧/ ١٢٢، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٣.
(٥) "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٢ - ١٢٣، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٥.
(٦) "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٣، "بحر العلوم" ١/ ٤٦٦، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٥.
الموعظة (١)، ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لا يرشد من كان على معصيته (٢).
١٠٩ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾، انتصاب اليوم يجوز أن يكون بفعل محذوف وهو: احذروا أو اذكروا، وقال الزجاج: وهو محمول على قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا﴾ (٣)، ثم قال: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ﴾ أي: واتقوا ذلك اليوم، فدل ذكر الاتقاء في الآية الأولى على الاتقاء في هذه الآية، ولم ينصب اليوم على الظرف للاتقاء؛ لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم، ولكن على المفعول به كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨].
وقوله تعالى: ﴿مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾، قال الكلبي: ماذا أجابكم قومكم في التوحيد (٤).
قال أهل المعاني: ومعنى المسألة من الله للرسل التوبيخ للذين أرسلوا إليهم كما قال عز وجل: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨، ٩] وإنما تُسأل ليُوبَّخ قاتلوها (٥).
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: إن للقيامة زلازل وأهوالًا حتى تزول القلوب من مواضعها، فإذا رجعت القلوب إلى مواضعها، شهدوا لمن صدقهم وشهدوا على من كذبهم، يريد
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٣، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٣.
(٢) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٦.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٨.
(٤) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٦.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢١٨، "النكت والعيون" ٢/ ٧٨، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٣.
584
أنه عزبت عنهم أفهامهم من هول يوم القيامة فقالوا: لا علم لنا (١)، وهو قول الحسن، ومجاهد، والسدي، قالوا: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم (٢)، واختار الفراء هذا القول (٣).
ونحو هذا قال الكلبي: من شدة هذه المسألة وهول ذلك الموطن، قالوا: لا علم لنا، ثم رجعت إليهم عقولهم، فشهدوا على قومهم أنهم بلغوهم الرسالة، وكيف ردوا عليهم (٤).
ومثل هذا قال مقاتل (٥)، وسفيان الثوري (٦).
قال ابن عباس في رواية الوالبي (٧): إنهم قالوا: لا علم لنا كعلمك، لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا (٨)، وعلى هذا إنما نفوا العلم عن أنفسهم؛ لأن علمهم كلا علم عند علم الله تعالى، وحكى ابن الأنباري عن جماعة أنهم قالوا: معنى الآية: لا حقيقة لعلمنا، إذ كنا نعلم جوابهم وما كان من أفعالهم وقت
(١) أخرجه الخطيب في تاريخه كما في "الدر المنثور" ٢/ ٦٠٧ - ٦٠٨، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٣.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٥، "بحر العلوم" ١/ ٤٦٦، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٤، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٣.
(٣) في "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢٤.
(٤) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٦.
(٥) في "تفسيره" ١/ ٥١٥.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) علي بن أبي طلحة وهي من أصح الطرق عن ابن عباس.
(٨) أخرجه الطبري ٧/ ١٢٦ بمعناه، "النكت والعيون" ٢/ ٧٨، البغوي ٣/ ١١٥، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٣.
585
حياتنا، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا. وإنما الجزاء والثواب يُستحقان بما تقع به الخاتمة مما يموتون عليه، فلما خفي عليهم الذي ماتت عليه الأمم لم يكن لعلمهم حقيقة، فقالوا: لا علم لنا (١).
وذكر الزجاج هذا القول فقال: وقال بعضهم: معنى قول الرسل: لا علم لنا، أي: لا علم لنا بما غاب عنا ممن أُرسِلنا إليه، وأنت تعلم باطنهم، فلسنا نعلم غيبهم، أنت علام الغيوب (٢)، فعلى هذا معنى قولهم: (لا علم لنا) أي: بباطن أمرهم.
يدل على صحة هذا التأويل:
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: ١٠٩]، أي: أنت تعلم ما غاب، ونحن نعلم ما نشاهده، ولا نعلم ما في البواطن (٣).
١١٠ - قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ الآية، موضع (إذ) يجوز أن يكون رفعًا بالابتداء على معنى: ذاك إذ قال الله، ويجوز أن يكون المعنى: اذكر إذ قال الله (٤).
وقوله تعالى: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ يجوز أن يكون (عيسى) في محل الرفع (٥) لأنه منادى مفرد وصف بمضاف، فيكون كقول الشاعر:
يا زبرقانُ أخا بني خَلفٍ
ويجوز أن يكون في محل النصب؛ لأنه في نية الإضافة، ثم جعل
(١) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٤، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٨.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٦.
(٤) "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٢٨.
(٥) انظر: المرجع السابق.
586
الابن توكيداً له (١)، وكل ما كان مثل هذا جاز فيه الوجهان، نحو: يا زيدُ ابن عمروٍ، ويا زيدَ بن عمروٍ، وأنشد النحويون:
يا حَكمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ
برفع الأول ونصبه على ما بينا، وقوله تعالى: ﴿نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ أراد الجمع كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ﴾ [النحل: ١٨، إبراهيم: ٣٤]، وإنما جاز ذلك لأنه مضاف فصلح للجنس، ثم فسر نعمته عليه بقوله: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ إلى آخر الآية.
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾، قال ابن عباس: يريد إذ أنبتها نباتًا حسنًا وطهرتها واصطفيتها على نساء العالمين، وكان يأتيها رزقها من عندي وهي في محرابها (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ مضى تفسيره في سورة البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧]. وقوله تعالى: ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ﴾ (تكلم) في موضع الحال، أي: أيدتك به مكلما الناس في المهد، قاله الزجاج (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَكَهْلًا﴾ عطف على موضع (تكلم)، كأن المعنى: وأيدتك به مخاطبًا الناس في صغرك ومخاطبًا الناس كهلًا (٤). وجائز أن يكون عطفًا على موضع ﴿الْمَهْدِ﴾ فيكون المعنى: وأيدتك به مكلمًا الناس صغيرًا وكهلًا (٥).
(١) "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٢٨.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٩.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢١٩.
(٥) "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٢٨.
587
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قيل: الكتابة (١) يعني الخط، وقيل: أراد الكتب، فيكون الكتاب اسم الجنس ثم فصل بذكر التوراة والإنجيل، وأما الحكمة فالعلم بما في تلك الكتب (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾ وقرأ نافع: (فتكون طائرًا) (٣)، وأما الطير فواحده طائر، مثل: ضائن وضأن، وراكب وركب، والطائر كالصفة الغالبة.
ولو قال قائل: إن الطائر قد يكون جمعًا مثل الحامل والباقر والسامر كان ذلك قياسًا (٤)، ويكون على هذا معنى القراءتين واحداً. ويقوي هذا الوجه ما حكاه أبو الحسن الأخفش: طائرة فيكون طائرة وطائر من باب شعيرة وشعير.
وأما قوله تعالى: ﴿فَتَنْفُخُ فِيهَا﴾ وفي آل عمران: ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٤٩]، والقول في ذلك أن الضمير في قوله: ﴿فِيهَا﴾ يعود إلى الهيئة وتجعلها مصدرًا في موضع المهيأ، كما يقع الخلق موضع المخلوق، وذلك لأن النفخ لا يكون في الهيئة، إنما يكون في المهيأ ذي الهيئة (٥). ويجوز أن يعود إلى الطير؛ لأنها مؤنثة، قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ﴾ [الملك: ١٩]، وأما تذكير الضمير في آل عمران فقد مضى الكلام فيه مستقصى.
(١) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الكتاب.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٧.
(٣) انظر: "السبعة" ص ٢٤٩.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٠ (طار)، "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٧٦، ٢٧٧.
(٥) "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٧، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٤، ٤٥٥.
588
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ﴾. قال ابن عباس: يريد عن قتلك (١).
وقوله تعالى: ﴿فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: ١١٠]، وقرأ حمزة والكسائي. (ساحر) بالألف (٢)، فمن قرأ ﴿سِحْرٌ﴾ جعله إشارة إلى ما جاء به، كأنه قال: ما هذا الذي جئت به إلا سحر، ومن قرأ: (إلا ساحر) أشار إلى الشخص لا إلى الحدث الذي أتى به، وكلاهما حسن لاستواء كل واحد منهما في أن ذكره قد تقدم (٣)، غير أن الاختيار ﴿سِحْرٌ﴾ لجواز وقوعه على الحدث والشخص، أما وقوعه على الحدث فسهل كثير، ووقوعه على الشخص تريد به: ذو سحر، كما جاء: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ [البقرة: ١٧٧] أي: ذا البر، وقالوا: إنما أنت سيرٌ وما أنت إلا سيرٌ، وإنما هي إقبال وإدبار، فيجوز أن يريد بسحر ذا سحر، ولا يجوز أن تريد بساحر السحر. وقد جاء فاعل يراد به المصدر في حروف ليست بالكثير، نحو: عائذ بالله من شره، أي: عياذًا، ونحو العافية (٤)، ولم تصر هذه الحروف من الكثرة بحيث يسوغ القياس عليها (٥).
١١١ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ قد ذكرنا طرفًا من معاني الوحي والإيحاء في قوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [النساء: ١٦٣]، وقال
(١) "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٨، و"تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٤، والبغوي ٣/ ١١٦، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٦.
(٢) "الحجة" ٣/ ٢٧٠.
(٣) "الحجة" ٣/ ٢٧١.
(٤) في "الحجة" ٣/ ٢٧٢ (العاقبة).
(٥) من "الحجة" لأبي علي ٣/ ٢٧١، ٢٧٢ بتصرف.
عامة المفسرين في ﴿أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ ألهمتهم، كما قال جل وعز: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: ٦٨] أي: ألهمها وقذف في قلوبها (١)، ومضى الكلام في الحواريين (٢)، وتفسير الآية ظاهر.
١١٢ - قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾، قال أهل المعاني: هذا على المجاز كما يقول القائل: هل تستطيع أن تنهض معنا، أي: هل تفعل، وذلك أن المانع من جهة الحكمة قد يُجعَل بمنزلة المنامي للاستطاعة.
وقال ابن الأنباري: لا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله عز وجل، ولا يدل قولهم ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ على أنهم شكوا في استطاعة الله (٣)، إذ كان العربي يقول لصحابه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع للقيام، إنما يقصد بتستطيع معنى: هل يسهل عليك ويخف عليك، فكذلك هو في الآية هل يقبلُ ربُّك دعاءَك، وهل يسهل لك إنزال هذه المائدة علينا (٤)، وهذا الذي ذكرنا معنى قول الفراء (٥).
وقال أبو علي الفارسي: ليس هذا على أنهم شكوا في قدرة القديم (٦)
(١) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٢٩، الطبري ٧/ ١٢٨، "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٨٣، "بحر العلوم" ١/ ٤٦١.
(٢) الظاهر أنه عند تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٥٢].
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٩.
(٤) "زاد المسير" ٢/ ٤٥٦.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٣٢٥.
(٦) القديم: مما أدخله المتكلمون في أسماء الله تعالى، وليس هو من الأسماء الحسنى الواردة في الكتاب والسنة. انظر: "الطحاوية" ص ٦٧.
590
سبحانه على ذلك، لأنهم كانوا مؤمنين عارفين، ولكن كأنهم قالوا: نحن نعلم قدرته على ذلك، فليفعله بمسألتك إياه؛ ليكون علَمًا لك ودلالةً على صدقك، وكأنهم سألوه ذلك ليعرفوا صدقة وصحة أمره بحيث لا يعترض عليهم منه إشكال ولا ينازعهم فيه شبهة؛ لأن علمَ الضرورة لا تعترض فيه الشبه التي تعترض في علم الاستدلال، فأرادوا علم أمره من هذا الوجه، ومن ثم قالوا: ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ [المائدة: ١١٣]، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠] بأن أعلمُ ذلك، من حيث لا يكون لشبهة ولا إشكال عليّ طريقٌ (١).
وقرأ الكسائي: (تَسْطِّيع) (٢) بالتاء مدغمًا (رَبَّكَ) نصبًا، أما الإدغام فإن التاء قريب المخرج من اللام؛ لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا، وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام، وإذا جاز إدغام اللام في الشين مع أنها أبعد منها من التاء، فأن يجوز في التاء ونحوها من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا أجدر، وأنشد سيبويه:
تقولُ إذا استهلكتُ مالاً للذَّةٍ فُكَيهَةُ هشَّئٌ بكفَّيك لائقُ (٣)
وأنشد أيضاً:
فذَرْ ذا ولكن هَتُّعينُ مُتَيَّمًا على ضوء برقٍ آخِرَ الليلِ ناصِبِ (٤)
أي هل تعين، فأدغم (٥).
(١) "الحجة" ٣/ ٢٧٣، ٢٧٤ بتصرف.
(٢) "الحجة" ٣/ ٢٧٥.
(٣) في الكتاب ٤/ ٤٥٨، ونسبة لطريف بن تميم العنبري، قال سيبويه: يريد: هل شيء؟ فأدغم اللام في الشين.
(٤) في "الكتاب" ٤/ ٤٥٩ ونسبه لمزاحم العقيلي.
(٥) "الكتاب" ٤/ ٤٥٨، ٤٥٩، "الحجة" لأبي علي ٣/ ٢٧٣ بتصرف.
591
وأما معنى ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ هل تستطيع سؤال ربك (١)، وذكر الاستطاعة في سؤاله لا لأنهم شكوا في استطاعته، ولكن كأنهم ذكروه على وجه الاحتجاج عليه منهم، كأنهم قالوا: إنك مستطيع فما يمنعك؟ ومثل ذلك قولك لصحابك: أتستطيع أن تذهب عني فإني مشغول، أي: اذهب لأنك غير عاجز عن ذلك (٢).
و (أنْ) في قوله: ﴿يُنَزِّلَ عَلَيْنَا﴾ متعلق بالمصدر المحذوف على أنه مفعول (٣)، واختار أبو عبيد هذه القراءة (٤)؛ لأن الأولى تشبه أن يكون الحواريون شاكين، وهذه القراءة لا توهم ذلك، والمعنى في الاستفهام عن استطاعة عيسى السؤال طلب المعجزة منه، أرادوا هل تستطيع بسؤالك إظهار هذه المعجزة التي نطلبها؟
ويحتمل أن يكون مرادهم بالاستفهام التلطف في استدعاء السؤال كما تقول لصحابك: هل تستطيع أن تفعل كذا؟ وأنت عالم أنه يستطيع، ولكن قصدك بالاستفهام التلطف (٥)، وهذه القراءة (٦) قراءة ابن عباس، وعائشة (٧) يروى عنها أنها قالت: كان القوم أعلم بالله من أن يقولوا: (هل يستطيع ربك) (٨).
(١) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٢٥.
(٢) "الحجة" ٣/ ٢٧٣.
(٣) "الحجة" ٣/ ٢٧٣.
(٤) أي قراءة نصب "رَبَكَ" وهي للكسائي كما تقدم قريبًا.
(٥) "تفسير الطبري" ٧/ ١٣٠.
(٦) أي نصب "ربك".
(٧) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٢٥.
(٨) أخرجه بمعناه الطبري ٧/ ١٣١، "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٢٥.
592
وقال السدي في معنى القراءة الأولى: هل يطيعك ربك إن سألته (١)، وهذا على أن استطاع بمعنى أطاع على زيادة السين.
وقال أبو إسحاق في معنى القراءة الثانية: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ هل تستدعي طاعته وإجابته فيما تسأله من هذا (٢)، قال: ويحتمل وجه مسألة الحواريين عيسى المائدة ضربين:
أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن يزدادوا تبيينا (٣) كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: ٢٦٠].
والثاني: أن يكون مسألتهم المائدة قبل علمهم أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى (٤)، وأما معنى المائدة فقال الزجاج: الأصل عندي أنها فاعلة من ماد يميد إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها (٥)، وقال ابن الأنباري: ويقال: إنما سميت مائدة؛ لأنها غياث وعطاء من قول العرب: ماد فلان فلانًا يميده ميدًا، إذا أحسن إليه وأفضل عليه، وأنشد:
إلى أمير المؤمنين المُمتاد (٦)
أراد الذي يميد الناس أي: يعطيهم ويحسن إليهم (٧)، فالمائدة على هذا القول فاعلة من الميد بمعنى: معطية، وقال أبو عبيدة: المائدة فاعلة
(١) أخرجه الطبري ٧/ ١٣١.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٠.
(٣) في "معاني الزجاج": تثبيتًا.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢١.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٠.
(٦) لرؤبة، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٥٩، ١٨٢، ١٨٣.
(٧) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٤٩، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٧.
593
في معنى مفعولة مثل: عيشة وراضية، وأصلها مَمْيَدة، مِيدَ بها صاحبُها أي: أُعطيها وتُفضل عليه بها، وتقول العرب: مادَني فلان يميدني، إذا أحسن إليه (١).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قال المفسرون: اتقوا الله أن تسألوه شيئًا لم تسأله الأمم قبلكم (٢)، وقال بعض أصحاب المعاني: أمرهم عيسى بالتقوى مطلقًا، كما أمر الله المؤمنين بها في قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: ٣٥]، وقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨]، ونحوها من الآي. قاله أبو علي، وقول المفسرين أشبه لتعلقه بما قبله من المعنى.
١١٣ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا﴾ أي: نريد السؤال من أجل هذا الذي ذكرناه (٣)، ويحتمل أن تكون الإرادة ههنا بمعنى المحبة التي هي ميل الطباع، أي: نحب ذلك (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ قال عطاء: نزداد يقينًا (٥) وذلك أن الدلائل كلما كثرت مكنت المعرفة في النفس.
وقوله تعالى: ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي: لله بالتوحيد لأجل الدليل الذي نراه في المائدة، ولك بالنبوة من جهة ذلك الدليل أيضًا، وقال
(١) "مجاز القرآن" ١/ ١٨٢.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ١٣٠، "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٣٨٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٧.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ١٣١.
(٤) "زاد المسير" ٢/ ٤٥٧.
(٥) انظر: البغوي ٣/ ١١٨.
عطاء: يريد شهودًا (١) على بني إسرائيل (٢).
١١٤ - قوله تعالى: ﴿أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا﴾ (تكون) صفة للمائدة وليس بجواب الأمر (٣)، وفي قراءة عبد الله: (تكن) لأنه جعله جواب الأمر (٤).
قال (الفراء) (٥): وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع (٦)، ومثال هذا قوله تعالى: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي﴾ [سورة مريم: ٥ - ٦] بالجزم والرفع (٧) و ﴿فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي﴾ [القصص: ٣٤] بالجزم والرفع (٨).
وقوله تعالى: ﴿عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ أي: نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيدًا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا وهذا قول السدي وقتادة وابن جريج (٩)، قال كعب: نزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدًا (١٠).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: يقول عطية: (لأولنا) يريد من معه،
(١) في (ش): (شهودًا لك).
(٢) "زاد المسير" ٢/ ٤٥٨.
(٣) انظر: القرطبي ٦/ ٣٦٧.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٢٥.
(٥) سقط من (ج).
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٢٢٥، وما بعده ليس عند الفراء في المطبوع.
(٧) بجزم "يرث" ورفعه. قراءتان سبعيتان، انظر: "حجة القراءات" ص ٤٣٨.
(٨) بجزم (يصدق) ورفعه. قراءتان سبعيتان أيضًا، انظر: "حجة القراءات" ص ٥٤٥، ٥٤٦.
(٩) "تفسير الطبري" ٧/ ١٣٢، "النكت والعيون" ٨٤، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٨.
(١٠) "زاد المسير" ٢/ ٤٥٨.
595
(وآخرنا) يريد من يأتي بعده (١)، وعلى هذا التفسير معناه عائدة فضل من الله علينا ونعمة لنا، والعيد في اللغة: اسم لما عاد إليك من شئ في وقت معلوم، حتى قالوا للخيال: عيد، ولما يعود إليك من الحزن عيد، قال الأعشى:
فواكبدي من لا عجِ الحُبِّ والهَوَى إذا اعتاد قَلْبي من أُمَيمَةَ عِيدُها
قال الليث: العيد كل يومِ مَجْمَع، قال: واشتقاقه من عاد يعود كأنهم عادوا إليه، وقال العجاج:
كما يعود العيد نصراني (٢)
قال: وتحولت الواو في العيد ياء لكسرة العين.
وقال المفضل: يقال: عاد في عيدي، أي: عادتي، وأنشد:
عاد قلبي من الطويلة عيد
وقول تأبط شرًّا:
يا عيد مالك من شوق وإيراق (٣)
فإنه أراد الخيال الذي يعتاده.
وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: يسمى العيد عيدًا؛ لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد.
(١) أخرجه بمعناه من طريق آخر: الطبري ٧/ ١٣٢.
(٢) عجز بيت يصف فيه الثور الوحشي، وصدره:
واعتاد أرباضها لها آريّ
انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٧٠ - ٢٢٧١ (عاد).
(٣) صدر بيت له، وعجزه:
ومرَّ طيف من الأهوال طَراَّق
596
وقال أبو بكر (١): قال النحويون: يوم العيد معناه اليوم الذي يعود فيه الفرح والسرور. والعيد عند العرب الذي يعود فيه الفرح والحزن، قال: وكأن الأصل في العيد العود؛ لأنه من عاد يعود، فلما سكنت الواو انكسر ما قبلها صارت ياء (٢) كقولهم: ميزان، وميقات وميعاد (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَآيَةً مِنْكَ﴾ أي: دلالة على توحيدك وصحة نبوة نبيك (٤). وقوله تعالى: ﴿وَارْزُقْنَا﴾ قال ابن عباس: وارزقنا عليها طعامًا نأكله (٥).
١١٥ - قوله تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ وقرئ بالتشديد (٦)، فمن خفف فلقوله: ﴿أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ فقال: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا﴾ ليكون الجواب كالسؤال، ومن شدد فلأن نَزَّل وأنزل في القرآن قد استعمل كل واحد منهما موضع الآخر (٧)؛ ولأنها نزلت مرات كما يروى في القصة، فكأن التشديد دل على التكرير.
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ﴾ بعد إنزال المائدة.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا﴾ إلى أخر الآية قال، ابن عباس:
(١) ابن الأنباري كما في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٧١ (عاد).
(٢) إلى هنا انتهى كلام ابن الأنباري حسب ما في "تهذيب اللغة".
(٣) الكلام من قوله: "قال الليث.. " إلى هنا من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٧٠ - ٢٢٧١ (عاد).
(٤) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦٨.
(٥) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٦.
(٦) قرأ بالتشديد نافع وعاصم وابن عامر، وقرأ الباقون بالتخفيف. "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٨٢، و"حجة القراءات" ص ٢٤٢.
(٧) "الحجة" ٣/ ٣٨٢.
597
يعني: مسخهم خنازير (١)، وقال قتادة: إنهم مسخوا قردة (٢).
وقيل: أراد جنسًا من العذاب لا يعذب به غيرهم (٣)، وقيل في قوله تعالى: ﴿مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ يعني عالمي زمانهم (٤).
قال الزجاج: جائز أن يكون هذا العذاب يعجل لهم في الدنيا، وجائز أن يكون في الآخرة (٥).
واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟: فقال الحسن: والله ما نزلت المائدة، وإن القوم لما سمعوا الشرط في قوله: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ﴾ استعفوا وقالوا: لا نريدها ولا حاجة لنا فيها. ولو نزلت لكانت عيدًا لنا إلى يوم القيامة (٦)، وهذا أيضًا قول مجاهد أن الآية لم تنزل (٧)، وابن عباس والباقون من العلماء على أنها نزلت (٨)، ولكنهم مختلفون في كيفية نزولها والطعام الذي كان عليها، والذي نقتصر عليه هنا ما روى عمار ابن ياسر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "نزلت المائدة من السماء خبزًا ولحمًا، وأمروا أن لا يخونوا ولا يُخبِّئوا ولا يدّخروا، فخان القوم وخّباوا وادّخروا
(١) "زاد المسير" ٢/ ٤٦٢.
(٢) أخرج ابن جرير عنه كقول ابن عباس: حولوا خنازير، الطبري ٧/ ١٣٦. "النكت والعيون" ٢/ ٨٦.
(٣) "النكت والعيون" ٢/ ٨٦، "زاد المسير" ٢/ ٤٦٢.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ١٣٦، "النكت والعيون" ٢/ ٨٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٧/ ١٣٦.
(٦) أخرجه الطبري ٧/ ١٣٦، "النكت والعيون" ٢/ ٨٥.
(٧) أخرجه الطبري ٧/ ١٣٥.
(٨) "تفسير الطبري" ٧/ ١٣٣، "النكت والعيون" ٢/ ٨٥، "زاد المسير" ٢/ ٤٥٩، ونسب هذا القول للجمهور.
598
فمسخوا قردة وخنازير" (١)، والصحيح المختار قول من قال إنها نزلت، لتظاهر الآثار بذلك، ولكثرة من قال بها من العلماء (٢).
قال أبو بكر بن الأنباري: والذي نختاره تصحيح نزول المائدة لتتابع الأخبار بذلك، ولأن قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ كلام تام وليس بجواب لشرط، وجواب الشرط قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا﴾، ولا يلزم قول الحسن: أنها لو نزلت لكانت عيدًا لنا إلى يوم القيامة؛ لأن وجه السؤال أن يكون يوم نزولها عيدًا لهم ولمن بعدهم ممكن كان على شريعتهم.
١١٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾ الآية. قال النحويون: هذا عطف جملة على جملة، والجملة الأولى قوله: (إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر) (٣).
وعامة المفسرين على أن هذا القول لعيسى إنما يكون في القيامة؛ إلا السدي (٤) وقطرب، فإنهما ذهبا إلى أن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه، وتعلقا بظاهر قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ﴾ وإذ تستعمل لما مضى.
والصحيح ما عليه العامة؛ لأن الله تعالى عقب هذه القصة بقوله
(١) أخرجه الترمذي (٣٠٦١) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة مرفوعًا وموقوفًا ورجح الوقف ثم قال: "ولا نعلم للحديث المرفوع أصلاً"، وأخرجه الطبري ١١/ ٢٢٨، ٢٢٩.
(٢) وهذا اختيار الطبري ٧/ ١٣٥، والبغوي ٣/ ١١٩، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ٤٦٢، وابن كثير ٢/ ١٣٥ وغيرهم.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ١٣٦ - ١٣٨.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ١٣٧، "زاد المسير" ٢/ ٤٦٣.
599
تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ وأراد به يوم القيامة، وإنما خرج هذا مخرج المضي وهو للمستقبل؛ تحقيقًا لوقوعه كقوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ﴾ [الأعراف: ٤٤] ولم ينادوا بعد، ولكنه بمنزلة ما قد مضى وفعلوا ذلك، من حيث أنه لا يعترض الشك في وقوعه (١).
وقوله تعالى: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ﴾ هذا الاستفهام معناه: التوبيخ لمن ادعى ذلك على المسيح عليه السلام، قال الزجاج: وذلك أن النصارى مجمعون على أن صادق الخبر، وإذا كذبهم الصادق كان ذلك أوكد للحجة عليهم، وأبلغ في توبيخهم (٢).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: من غير الله، كقوله تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣] و (من) زائدة مؤكدة للمعنى.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد جل جلالك وتعظمت وتعاليت (٣). وقال الزجاج: أي: برأتك من السوء (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ قال أبو علي: المعنى إن أكن الآن قلته فيما مضى. وليس كان فيه على المضي؛ لأن الشرط والجزاء لا يقعان إلا فيما يستقبل، والحروف في الجزاء تحيل معنى المضي إلى الاستقبال لا محالة، قال: وهذا الذي ذكرناه من هذا التأويل كان أبو بكر (٥) يذهب إليه ويحكيه عن أبي عثمان.
(١) ما رجحه المؤلف اختيار أكثر المفسرين، انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦٩، "النكت والعيون" ٢/ ٩٠، البغوي ٣/ ١٢١، "زاد المسير" ٢/ ٤٦٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٢
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٢.
(٥) لعله أبو بكر الأنباري.
600
وقوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ قال ابن عباس: تعلم ما في غيبي، ولا أعلم ما في غيبك (١).
وقال عبد العزيز بن يحيى (٢): تعلم سري ولا أعلم سرك؛ لأن السر من صفة الأنفس (٣).
وقال أهل المعاني: تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي، إلا أنه ذكرت النفس على مزواجة الكلام، لأن ما تخفيه كأنه إخفاء في النفس، وهذا شرح قول ابن عباس وعبد العزيز، لأن ما يخفيه الإنسان يكون في نفسه كالسر الذي يكتمه فقال عيسى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ أي: ما أخفيه من سري وغيبي أي: ما غاب ولم أظهره ﴿وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ أي: ما تخفيه أنت ولم تطلعنا عليه، فلما كان سر عيسى يخفيه في نفسه، جعل أيضًا سر الله مما يخفيه الله تعالى في نفسه؛ ليزدوج الكلام ويحسن النظم. هذا طريق في شرح هذا اللفظ.
وقال الزجاج: النفس في اللغة: تقع عبارة عن حقيقة الشيء، فمعنى ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ أي: تعلم ما أضمر ﴿وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ أي: لا أعلم ما في حقيقتك وما عندك علمه، والتأويل أنك تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم، ويدل على هذا قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾، قال: وهذا راجع إلى توكيد أن الغيب لا يعلمه إلا الله (٤).
وروى ثعلب عن أبي الأعرابي في معاني النفس في اللغة: أن النفس
(١) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٧، والبغوي ٣/ ١٢٢.
(٢) لعله الكناني، تقدمت ترجمته.
(٣) انظر: البغوي ٣/ ١٢٢.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٢، ٢٢٣.
601
تكون بمعنى (عند) فقوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ أي: ما عندي ﴿وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ أي: ما عندك (١).
والنفس عند المتكلمين في صفة الله تعالى عبارة عن ذاته وحقيقة وجوده، والموجود يقال له: عين وذات ونفس، وهذا لا يوجب تشبيهًا (٢).
١١٧ - قوله تعالى: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ ذكر أبو إسحاق في محل (أن) وجوهًا: النصب على البدل من ما، والخفض على البدل من الضمير في (بِهِ)، قال: ويجوز أن يكون بمعنى (أي) مفسِّرة لما أمره به في قوله: ﴿إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أي: اعبدوا الله، وعلى هذا لا موضع لها من الإعراب (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ أي: كنت أشهد على ما يفعلون ما كنت مقيمًا فيهم ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ قال ابن عباس والحسن والقرظي: رفعتني (٤)، يعنون وفاة الرفع إلى السماء من قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
(١) انظر "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٢٩ (نفس).
(٢) اختلف أهل السنة في إثبات النفس لله هل هي صفة للذات؟ أم أنها الذات؟ قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه.. وقد قال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦].. فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء الله نفسه، التي هي ذاته المتصفة بصفاته، ليس المراد ذاتًا منفكة عن الصفات ولا المراد بها صفة للذات. وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ. "مجموع الفتاوى" ٩/ ٢٩٢، ٢٩٣، وانظر: "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات" للمغراوي ١/ ٣٩٣ - ٣٩٦.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٣ بتصرف.
(٤) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦٩، البغوي ٣/ ١٢٢، "النكت والعيون" ٢/ ٨٩.
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: ٥٥] وقوله تعالى: ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ﴾ قال ابن عباس والسدي وابن جريج وقتادة: الحفيظ عليهم (١).
وقال الزجاج: أي: الحافظ عليهم (٢)، وقال عطاء: يريد القاهر لهم (٣) وهذا معنى وليس بتفسير، وذلك أن الحافظ على الشيء قاهر له، ولو لم يكن قاهرًا لم يصح الحفظ منه.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: ١١٧]، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد شهدت مقالتي فيهم وبعدما رفعتني إليك شهدت ما يقولون بعدي (٤)، فالشهيد على هذا معناه: المشاهد لما يكون، ويجوز أن يكون الشهيد في هذه الآية بمعنى العلم، فيكون معنى ﴿وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي: شاهد عليه لعلمك به (٥).
١١٨ - قوله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ الآية، تفسير هذه الآية واضح على قول من يقول إن هذه المخاطبة جرت بين الله تعالى وبين عيسى حين رفعه إلى السماء، يقول عيسى لله تعالى: (إن تعذبهم) على كفرهم ومعصيتهم (فإنهم عبادك وإن تغفر لهم) بتوبة تكون منهم، وهذا مذهب السدي، وقال في هذه الآية: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ فتميتهم بنصرانيتهم فإنهم عبادك، ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ فتخرجهم من النصرانية وترشدهم إلى الإِسلام (٦)، وتفسير
(١) أخرجه عن السدي وابن جريح الطبري ٧/ ١٣٩، وعن ابن عباس ابن المنذر وعن قتادة عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٦١٦.
(٢) ليس في معانيه.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "تفسير الوسيط" ١/ ٢٤٨ وعزاه المحقق لتفسير ابن عباس ص ١٠٥.
(٥) "النكت والعيون" ٢/ ٨٩
(٦) أخرجه الطبري ٧/ ١٤٠، وكذا ابن حاتم وأبو الشيخ،"الدر المنثور" ٢/ ٦١٦.
603
ابن عباس لهذه الآية في رواية عطاء موافق لهذا المذهب؛ لأنه قال في قوله: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ يريد تدعهم على المعاصي ﴿فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾، ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ يريد تعصمهم فلا يتخذوا من دونك وليًّا ولا إلهًا ولا ربًا (١).
﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨] (العزيز) في ملكه (الحكيم) في أوليائه وأعدائه بالثواب والعقاب (٢)، وسقط بهذا التفسير سؤال من اعترض على نظم هذه الآية بأن العزيز الحكيم لا يليق بهذا الموضع، إنما يليق به الغفور الرحيم كالذي في مصحف ابن مسعود (٣)، وهذا التفسير الذي ذكره ابن عباس إنما يصح فيما يستقبل من الشرط على تقدير: إن تعذبهم تعذب عبادك، وإن تغفر لهم تغفر فإنك العزيز الحكيم. والشرط يكون في المستقبل دون الماضي، وإذا كان كذلك دل على أن هذه المخاطبة تكون قبل القيامة.
وأما الذين قالوا إن هذه المخاطبة تكون يوم القيامة يُسأَلُ عليهم فيقال: كيف جاز لعيسى أن يقول: (وان تغفر لهم) والله تعالى لا يغفر الشرك؟ والجواب عن هذا ما قال الحسن وأبو العالية: إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم (٤)، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية أبي الجوزاء عنه (٥).
وأما أهل المعاني فإنهم مختلفون في الجواب عن هذا: فقال أبو بكر
(١) انظر: البغوي ٣/ ١٢٢.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٠.
(٣) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦٩، والبغوي ١/ ١٢٣.
(٤) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٨.
(٥) عزاه في "الدر المنثور" ٢/ ٦١٦ لأبي الشيخ، "زاد المسير" ٢/ ٤٦٥.
604
الأنباري: لما قال الله تعالى لعيسى: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ لم يقع له إلا أن النصارى حكت عنه الكذب فقال: ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الحكاية ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ لأنه ليس الحاكي للكفر كافرًا إذا لم يأخذ به، وليس في الآية أنهم اتخذوا عيسى وأمه إلهين، إنما هو استفهام عن عيسى هل أمر بذلك؟ وهل قال ذلك أم لا؟ وظاهر هذا الاستفهام يوجب أن النصارى حكوا عنه أنه أمر بذلك، فقال عيسى على اقتضاء هذا السؤال: ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ ما حكوه كذبا (١)، وهذا قول المبرد، وقد حكاه الزجاج عنه فقال: قال بعضهم: إن تغفر لهم كذبهم عليّ، ثم قال: وهذا قول المبرد، ولا أدري أسمعه أم استخرجه؟ (٢).
وقال ابن الأنباري أيضاً: هذا على التبعيض، أي: إن تعذب بعضهم الذين أقاموا على الكفر فهم عبادك، وإن تغفر لبعضهم الذين انتقلوا عن الكفر إلى الإِسلام، فأنت في ذلك قاهر غالب عادل، لا يعترض عليك فيه معترض (٣).
والقول بالتبعيض في هذه الآية مذهب جماعة من المفسرين واختيار أبي إسحاق؛ لأنه قال: والذي عندي أن عيسى قد علم أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر، فقال عيسى في جملتهم: إن تعذب من كفر بك فإنهم عبادك، أنت العادل عليهم، ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ أي: لمن أقلع منهم وآمن فأنت في مغفرتك لهم (عزيز) لا يمتنع عليك ما تريد (حكيم) في ذلك (٤).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٢٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٣، ٢٢٤.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٤.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٤.
605
وذهب جماعة من أصحاب المعاني أن هذا على طريق تفويض الأمر إلى الله، إذ هو العالم بباطن أمرهم وظاهره، ومن أخلص التوبة منهم ومن أقام على كفره، ولم يشك عيسى في أنه يعذب الكفار، ولكن رد الأمر إلى مالكهم وإلههم، وتبرأ مما كان منهم؛ ليخرج نفسه من حالات المعترضين المقترحين، أي: إن عذبتهم يا رب لم يكن لي ولا لأحد الاعتراض عليك، وإن غفرت لهم ولست فاعلًا فذلك غير مردود عليك (١)، ولهذا المعنى قال: ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ دون الغفور الرحيم؛ لأنه ليس قوله: ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ على معنى مسألة الغفران لهم، وإنما هو على تسليم الأمر إلى من كان أملك بهم، ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم؛ لأوهم أنه دعا بالمغفرة، وهذا الذي ذكرنا من أن هذا على معنى التفويض مذهب الكلبي، فقد روى حبان عنه في هذه الآية قال: غبت عنهم وتركتهم على الحق فما أدري ما أحدثوا (٢).
١١٩ - قوله تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ﴾ في الدنيا ﴿صِدْقُهُمْ﴾ في الآخرة؛ لأنه يوم الإثابة والجزاء، وما تقدم في الدنيا من الصدق إنما يتبين نفعه في هذا اليوم الذي نيل فيه جزاؤه (٣).
والدليل على أن المراد بالصادقين الذين صدقوا في الدنيا لا الصادقين في ذلك اليوم، أن الكفار لا ينفعهم الصدق في ذلك اليوم بما يكون من الإقرار على أنفسهم بالمعصية.
قال المفسرون: هذا تصديق لعيسى بما يقول من قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ﴾ الآية، وذلك أنه كان صادقًا في الدنيا ولم يقل للنصارى اتخذوني إلهًا،
(١) "زاد المسير" ٢/ ٤٦٥، ونسب نحو هذا القول لابن الأنباري.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ١٤١.
606
فنفعه صدقه (١)، وأما إبليس فإنه يصدق أيضًا في ذلك اليوم في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ [إبراهيم: ٢٢] فلم ينفعه صدقه؛ لأنه كان كاذبًا في الدنيا. وهذا معنى قول قتادة (٢).
والذي ذكرنا من أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة قول عامة المفسرين إلا ما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال: يريد يومًا من أيام الدنيا؛ لأن الآخرة ليس فيها عمل، إنما فيها الثواب والجزاء (٣)، وذهب في هذا القول إلى ظاهر الآية من أن الصدق النافع يكون في الدنيا، فلما وصف اليوم بأنه ينفع فيه الصدق جعله من أيام الدنيا، ويكون معنى الآية: (قال الله هذا) أي: هذا الكلام الذي جرى ذكره (يوم ينفع الصادقين)، أي: في يوم ينفع الصادقين صدقهم، وهذا القول يوافق مذهب السدي في أن هذه المخاطبة جرت مع عيسى حين رفع إلى السماء (٤)، واختلف القراء في نصب ﴿يَوْمُ يَنْفَعُ﴾ ورفعه، فقرأ الأكثرون بالرفع، وقرأ نافع بالنصب (٥)، واختاره أبو عبيد.
فمن قرأ بالرفع قال الزجاج: فعلى خبر هذا، المعنى: قال الله تعالى اليوم يوم منفعة الصادقين (٦). هذا كلامه، وشرحه أبو علي فقال: من رفع اليوم جعل الخبر المبتدأ الذي هو ﴿هَذَا﴾ وأضاف يومًا إلى ﴿يَنْفَعُ﴾ والجملة التي هي المبتدأ والخبر في موضع نصب بأنه مفعول القول، كما تقول: قال زيد: عمرو أخوك، وما بعد القول حكايته، ومن نصب {يَوْمَ
(١) معنى قول السدي عند الطبري ٧/ ١٤١.
(٢) انظر: البغوي ٣/ ١٢٤.
(٣) انظر: البغوي ٣/ ١٢٤.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ١٤١.
(٥) النصب قراءة نافع وحده، والرفع للباقين. "الحجة" ٣/ ٢٨٢.
(٦) "معانى القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٤.
607
يَنْفَعُ} فعلى أن (يومَ) منصوب على الظرف، المعنى: قال الله هذا، وهو إشارة إلى ما تقدم ذكره من قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾، في ﴿يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ﴾ أي: ما قال الله هذا في القيامة، وجاء على لفظ المضي وإن كان المراد به الآتي كما قال تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٥٠] (١)، وقد مر قُبَيْل، وليس ما قبل القول حكايته في هذا الوجه كما كان في وجه القراءة الأولى، وهذا في موضع نصب يقال: واليوم منصوب على الظرف، والعامل فيه قال، كما تقول: قال زيد هذا يوم الخميس، أي: قال زيد هذا القول في يوم الخميس.
وهذا معنى قول الزجاج (٢) وابن الأنباري وأبي علي (٣)، وعلى هذا اليوم ظرف للقول، وأجاز أبو علي أن يكون ظرفًا لفعل مضمر غير القول، ويكون التقدير: قال الله هذا يقع أو يحدث يوم ينفع الصادقين، فيكون هذا المبتدأ وخبره يوم ينفع وإن كان منصوبًا على الظرف؛ لأن ظروف الزمان يجوز أن تكون أخبارًا من الأحداث كما تقول: القتال يوم السبت، والحج يوم عرفة، أي: واقع في ذلك اليوم، وقوله: (هَذَا) إشارة إلى حدث يحدث في ذلك اليوم، وتكون الجملة في موضع نصب بأنها في موضع مفعول، قال: ويكون المعنى على الحكاية كما ذكرنا في قراءة من قرأ بالرفع (٤)، وأجاز الفراء والكوفيون وجها آخر في القراءة بالنصب.
قال الفراء: ويجوز أن تنصبه؛ لأنه مضاف إلى غير اسم، كما قالت العرب: مضى يومئذٍ بما فيه، ويفعلون ذلك به في موضع الخفض،
(١) "الحجة" ٣/ ٢٨٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٤، ٢٢٥.
(٣) "الحجة" ٣/ ٢٨٣.
(٤) "الحجة" ٣/ ٢٨٣، ٢٨٤.
608
وأنشد:
رددنا بشعثاء (١) الرسول ولا أرى كيومئذ شيئًا ترد رسائله (٢)
قال: وكذلك وجه القراءة في قوله: ﴿مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ﴾ [المعارج: ١١]، و ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ [هود: ٦٦] قال: وما أضيف إلى كلام ليس فيه مخفوض فافعل به هكذا، كقول الشاعر:
على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا وقلتُ ألمَّا تَصحُ والشيبُ وازعُ (٣) (٤)
وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا المذهب فقال: يجوز أن يكون ﴿يَوْمُ﴾ رفعًا بهذا، ولا يتبين الرفع في لفظ اليوم لأن إضافته غير محضة، والعرب إذا أضافت أسماء الزمان إلى الأفعال الماضية والمستقبلة فتحوها في حال إضافتها لبعدها عن معنى الاسم، وأشبه الزمان عندهم الأداة فجعلوا اليوم مع الفعل بمنزلة الشيء الواحد، واختاروا له الفتحة لأنها أخف الحركات، فيقولون: أعجبني يوم قام أخوك، ويوم يقوم أخوك؛ لأن الإضافة إلى الفعل غير صحيحة فألزم الوقت الفتح، فعلى هذا القول ﴿يَوْمُ﴾ رفع لأنه خبر المبتدأ، ولكنه نُصِب لأنه مضاف إلى الفعل، فنصب كما يضاف إلى ما هو مبني مثل: يومئذ، وهذا لا يصح عند البصريين.
قال الزجاج: زعم بعضهم: يعني: الفراء، أن يوم منصوب بأنه مضاف إلى الفعل، وهو في موضع رفع بمنزلة: يومئذٍ، مبني على الفتح في
(١)..............
(٢) البيت لجرير في "شرح ديوانه" ص ٣٨٥.
(٣) البيت للنابغة الذبياني كما في "الكتاب" ص ٥٣ وهو من "شواهد الإنصاف" لأبي البركات ابن الأنباري ٢/ ٢٩٢ "شذور الذهب" ص ١١٢ رقم (٢٥).
(٤) "معاني القرآن للفراء" ١/ ٣٢٦، ٣٢٧.
609
كل حال، وهذا خطأ عند البصريين، لا يجيزون: هذا يومَ آتيك، يريدون هذا يومُ آتيك؛ لأن آتيك فعل مضارع، فالإضافة إليه لا تزيل الإعراب عن جهته، ولكنهم يجيزون: ذلك يومَ نفعَ زيدًا صدقه؛ لأن الفعل الماضي غير مضارع، فهي إضافة إلى غير متمكن وإلى غير مضارع (١).
وقال أبو علي منكرًا على الكوفيين: لا يجوز أن يكون ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ﴾ في موضع رفع وقد فتح، لإضافته إلى الفعل؛ لأن المضاف إليه مُعَرب وإنما يكتسي المضاف البناء من المضاف إليه، إذا كان المضاف إليه مبنيًا والمضاف مبهمًا، كما يكون في هذا الضرب من الأسماء إذا أضيف إلى ما كان مبنيًا نحو: ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ [هود: ٦٦] وصار في المضاف البناء للإضافة إلى المبني كما صار فيه الاستفهام للإضافة إلى المستفهم به، نحو: غلامُ من أنت؟ وكما صار فيه الجزاء نحو: غلامُ من تضربْ أضرِبْ. وليس المضارع في هذا كالماضي في نحو:
على حين عاتبتُ المشيبَ (٢)
لأن الماضي مبني والمضارع معرب، فإذا كان معربًا، لم يكن شيء يحدث من أجله البناء في المضاف (٣).
وقوله تعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ قال عطاء ومقاتل: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ بطاعتهم (ورضوا عنه) بثوابه وما تفضل به عليهم من الكرامة سوى الثواب (٤).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٢٤، ٢٢٥.
(٢) صدر بيت النابغة المتقدم قريبًا.
(٣) "الحجة" ٣/ ٢٨٣، ٢٨٥.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٢٢، و"تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٩، والبغوي ٣/ ١٢٤، و"زاد المسير" ٢/ ٤٦٧.
610
﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: ١١٩] قال الحسن: فازوا بالجنة ونجوا من النار (١).
١٢٠ - قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال مقاتل: عظَّم نفسه عما قالت النصارى من البهتان أن معه إلهًا فقال: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ دون كل من سواه لقدرته عليه وحده (٢)، وقيل: إن هذا جواب (لسؤال مضمر) (٣) في الكلام، كأنه قيل: من يعطيهم ذلك الفوز العظيم؟ فقيل: الذي له ملك السموات والأرض، قال الحسن: يريد خزائن السموات: وهي المطر، وخزائن الأرض: وهي النبات (٤)، وجمع السموات ووحد الأرض تفخيمًا لشأن السموات على الأرض، والجمع قد يدل به على تفخيم الشأن كقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ [الحجر: ٩]، و ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سورة القمر: ٤٩]، والآية تشير إلى أن الآمال يجب أن تتعلق بالله تعالى لعظم ملكه وسعة مقدرته (٥).
(١) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٩.
(٢) "تفسيره" ١/ ٥٢٢.
(٣) في (ج): (مضمن).
(٤) "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٤٩.
(٥) هذا آخر تفسير سورة المائدة، وقد أعقبه المصنف مباشرة بتفسير سورة الأنعام، وذلك في نسخة (ج) (جامعة الإمام) لوحة ٩٧ ب، ونسخة (ش) (شستربني) لوحة ٨٨ ب.
611
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة الأنعام
تحقيق
د. محمد بن منصور الفايز
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركى بن سهو العتيبي
الجزء الثامن
1
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة الأنعام
تحقيق
د. محمد بن منصور الفايز
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركى بن سهو العتيبي
الجزء الثامن
2
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤٣٠هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الواحدي، على بن أحمد
التفسير البسيط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)./ على بن أحمد الواحدي، محمد بن منصور الفايز،
الرياض١٤٣٠ هـ.
٢٥مج. (سلسلة الرسائل الجامعية)
ردمك: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٩ - ٨٦٥ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ٨)
١ - القرآن تفسير... ٢ - الواحدي، على بن أحمد
أ- العنوان... ب- السلسة
ديوي ٢٢٧. ٣... ٨٦٨/ ١٤٣٠
رقم الإيداع: ٨٦٨/ ١٤٣٠ هـ
ردمك ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٩ - ٨٦٥ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج٨)
3
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
[٨]
4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

5
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
6
Icon