ﰡ
مكية. وهى سبع وأربعون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ «١» وهو يوم القيامة، وهو الذي أقسم عليه بقوله:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالطُّورِ، هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بمَدين، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ وهو القرآن العظيم، ونكّر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب، أو: اللوح المحفوظ، أو: التوراة، كتبه الله لموسى، وهو يسمع صرير القلم، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، الرَق: الجلد الذي يُكتب فيه، والمراد: الصحيفة، وتنكيره للتفخيم والإشعار بأنها ليست مما يتعارفه الناس، والمنشور: المفتوح لا ختم عليه، أو: الظاهر للناس، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وهو بيت في السماء السابعة، حِيَال الكعبة، ويقال له: الضُراح «٢»، وعُمرانه بكثرة زواره من الملائكة، رُوي: أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، يطوفون به، ويخرجون، ومَن دخله لا يعود إليه أبداً «٣»، وخازنه ملَك يُقال له: «رَزين». وقيل: الكعبة، وعمارته بالحجاج والعُمَّار والمجاورين.
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ أي: السماء، أو: العرش، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي: المملوء، وهو البحر المحيط، أو الموقد، من قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ «٤»، والمراد الجنس، رُوي «أنَّ الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة
(٢) روى ذلك عن ابن عباس، مرفوعا، فيما ذكره السيوطي فى الدر (٦/ ١٤٤) وعزاه للطبرانى وابن مردويه، بسند ضعيف.
وأخرجه ابن جرير، عن سيدنا علىّ رضي الله عنه.
(٣) أخرجه مسلم فى (الإيمان) باب الإسراء برسول الله ﷺ ح رقم ٥٩، ح ١٦٢) عن أنس بن مالك رضي الله عنه فى حديث الإسراء، وفيه:
«فإذا أنا بإبراهيم عليه السّلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه... » الحديث.
(٤) الآية ٦ من سورة التكوير.
والواو الأولى للقسم، والتوالي للعطف، والمقسم عليه: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ لنازل حتماً، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أي: لا يمنعه مانع، والجملة: صفة لواقع، أي: وقع غير مدفوع. و «من» مزيدة للتأكيد، وتخصيص هذه الأمور بالإقسام بها لأنها أمور عظام، تُنبئ عن عِظم قدرة الله تعالى، وكما علمه، وحكمته الدالة على إحاطته تعالى بتفاصيل أعمال العباد، وضبطها، الشاهدة بصدق أخباره، التي من جملتها: الجملة المُقسَم عليها.
الإشارة: أقسم الله تعالى بجبل العقل، الذي أرسى به النفس أن تميل إلى ما فيه هلاكها، وبما كتب في قلوب أوليائه من اليقين، والعلوم، والأسرار، قال تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ»
وذلك حين رقَّت وَصَفَت من الإغيار، ثم أقسم أيضاً بذلك القلب، وهو البيت المعمور لأن القلب بيت الرب، «يا داوود طَهرّ بيتاً أَسْكُنه... »
الحديث «٣»، وهو معمور بالمعارف والأنوار، وأقسم بسماء الأرواح المرفوعة عن خوض عالم الأشباح، وهو سقف بيت القلب، وبحر الأحدية الذي عمر كلَّ شيء، وأحاط بكل شيء، وأفنى كل شيء، فالوجود كله بحر متصل، أوله وآخره، وظاهره وباطنه. إنَّ عذاب ربك لأهل العذاب، وهم أهل الحجاب، لواقع، وأعظم العذاب: غم الحجاب وسوء الحساب. ومن دعاء السري السقطي: اللهم مهما عذبتني فلا تعذبني بذل الحجاب. هـ. ما له من دافع لا يدفعه أحد من الخلق، إلا مَن رحم الله، أو: مَن أهّله الله لذلك من أهل التربية النبوية.
ثم ذكر وقت ما أقسم عليه، فقال:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٩ الى ١٦]
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر يَوْمَ تَمُورُ أو: لواقع يوم تمور السَّماءُ أي: تدور كالرحى مضطربة مَوْراً عظيماً تتكفأ بأهلها كالسفينة، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي: تزول عن وجه الأرض، فتصير في الهواء
(٢) من الآية ٢٢ من سورة المجادلة.
(٣) ذكره ابن القيسرانى فى تذكرة الموضوعات (٥٣٦).
أَفَسِحْرٌ هذا، توبيخ وتقريع لهم، حيث كانوا يُسمون الوحي الناطق بذلك العذاب سحراً، كأنه قيل: كنتم تقولون للقرآن الناطق بهذا سحراً، أفهذا أيضاً سحر؟. وتقديم الخبر لأنه محط الإنكار ومدار التوبيخ. أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أم أنتم عُميٌ عن المخبر عنه، كما كنتم عُمياً عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكُّم، اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي: ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه، سَواءٌ عَلَيْكُمْ الأمران الصبر وعدمه، ف «سواء» : مبتدأ حُذف خبره. وعلل استواء الصبر وعدمه بقوله: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي، فالصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يُجازى عليه الصابر جزاءَ الخير، وأما الصبر على العذاب، الذي هو الجزاء، ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزيّة له على الجزع. نعوذ بالله من موارد الهوان.
الإشارة: يوم تمور سماء الأرواح، أي: تتحرك الأرواح وتهيج بالواردات الإلهية، شوقاً إلى اللقاء، فإذا حصل اللقاء وقع لها السكون والطمأنينة، ولذلك قيل: «المحبة أولها جنون، ووسطها فنون، وآخرها سكون». وسبب هذا الاضطراب الذي يظهر على المريد في أول بدايته: أنَّ جند الأنوار إذا أراد أن يدخل على جند الأغيار، ويُخرجه من وطنه- الذي هو باطن العبد- وقع بينهما تجارب وتضارب، فجند الأنوار يريد أن يقلع جند الأغيار من باطن العبد، ويسكن هو، وجند الأغيار يريد المقام في وطنه، فلا يزال القتال بينهما، حتى يغلب واحد منهما، فإذا غلب جند الأنوار سكن في الباطن، وسكن الظاهر، ولم تقع فكرة العبد إلا في التوحيد، أو ما يقرب إلى الحق تعالى، وإذا غلب جند الأغيار، ولم يترك جند الأنوار يدخل إلى الباطن، سكن الظاهر أيضاً، ويبقى باطن العبد محشوّاً بالخواطر والوساوس الدنيوية كما كان، ورجع العبد إلى مقام العمومية.
وقوله تعالى: وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي: تزول جبال وجود العبد عند إشراق أنوار الحقائق، فويل يومئذ للمكذِّبين، أي: بُعْدٌ لأهل الإنكار عن حضرة الأسرار، حين ظفر الطالب بالمطلوب، ووصل المحب إلى المحبوب،
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ الشرك والمعاصي فِي جَنَّاتٍ عظيمة وَنَعِيمٍ أيّ نعيم، فالتنكير للتفخيم، أو: للتنوع، أي: جناتٍ مخصوصة بهم، ونعيمٍ مخصوص، فاكِهِينَ ناعمين متلذذين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ بما أتحفهم، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ، عطف على «آتاهم» على أن «ما» مصدرية، أي:
فاكهين بإتيانهم وبوقايتهم، أو: على «في جنات النعيم» أي: استقروا في جنات ووقاهم، أو: حال، إما من المستكن في الخبر، أو: من فاعل «آتى»، أو: مفعوله بإضمار «قد». وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافاً إلى ضمير (هم) لتشريفهم، ويقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا ما شئتم هَنِيئاً أي: أكلاً وشرباً هنيئاً، أو: طعاماً وشراباً هنيئاً، لا تنغيص فيه بخوف انقطاعه أو فواته، بِما كُنْتُمْ أي: عوض ما كنتم تَعْمَلُونَ في الدنيا من الخير، أو جزاءه.
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ مصطفة، وهو حال من الضمير في «كلوا واشربوا»، وَزَوَّجْناهُمْ أي:
قرنّاهم بِحُورٍ جمع حوراء عِينٍ: جمع عيناء، أي: عظام الأعين حِسانها. وفي الكشّاف: وإنما دخلت
وَالَّذِينَ آمَنُوا: مبتدأ، وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ: عطف على (آمنوا)، وبِإِيمانٍ متعلق بالاتباع، والخبر:
أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «١» أي: تلحق الأولاد بدرجات الآباء إذ شاركوهم في الإيمان، وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء، وكذلك الآباء تلحق بدرجة الأبناء لتقرّ بذلك أعينهم، فيلحق بعضهم ببعض، إذا اجتمعوا في الإيمان من غير أن ينقص أجر مَنْ هو أحسن عملاً شيئاً، بزيادته في درجة الأنقص، ولا فرق بين مَنْ بلغ مِن الذرية، أو لم يبلغ، إذا كان الآباء مؤمنين. انظر الثعلبي.
وفي حديث ابن عباس: «إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة الجنة، يسأل الرجلُ عن أبويه، وزوجته، وولده، فيُقال: إنهم لم يُدركوا ما أدركتَ، فيقول: لقد عملتُ لي ولهم أجمعين، فيؤمر بإلحاقهم به» «٢». قال القشيري: ليكمل عليهم سرورهم بذلك فإنّ الانفراد بالنعمة والقلب مشتغل بالأهل والذرية ينغص العيش، وكذلك كلّ مَن يلاحظ قلباً من صديق وقريب ووليّ وخادم، قال تعالى في قصة يوسف: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ «٣». هـ.
قال في الحاشية: وربما يستأنس بما ذُكر في الجملة بقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ... الآية «٤»، وما قيل في سبب نزولها «٥»، وكذلك حديث: «المَرءُ مَعَ مَن أحب» «٦»، وحال الجنة مما لا يخطر على بال، فيجوز أن يكون الأدنى مع الأعلى بمنازلته معه، مع مباينته له بحقيقته، كما أنّ حَيطة الحق تعالى شاملة للكل، وكل يتعرّف له على قدره، فالكل معه بمطلق التعرُّف، مع تحقُّق التفاوت، وأهل الجنة فيها على حكم الأرواح، وأحكامها لا تكيف، واعتبر بالفروع مع الأصول، مع تفاوتها. والله أعلم. هـ.
انظر الإتحاف ٢/ ٤٩٥- ٤٩٦.
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٦/ ١٤٨) للطبرانى وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا..
(٣) من الآية ٩٣ من سورة يوسف.
(٤) الآية ٦٩ من سورة النّساء. [.....]
(٥) راجع سبب نزول الآية فى (١/ ٥٢٥).
(٦) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب علامة الحب فى الله، ح ٦١٦٩ وح ٦١٧٠) عن ابن مسعود، وأبى موسى- رضي الله عنهما، ومسلم فى (البر والصلة، باب المرء مع مَن أحب، ح ٢٦٤٠) عن ابن مسعود.
وَما أَلَتْناهُمْ أي: ما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق مِنْ عَمَلِهِمْ من ثواب عملهم مِنْ شَيْءٍ بأن أعطينا بعض مثوباتهم لأبنائهم، فتنقص مثوبتهم، وتنحط درجتهم، وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضُّل والإحسان. والألت: البخس. وقرأ المكي: (أَلِتناهم) بكسر اللام، من: ألِت يألَت، كعلم يعلم «٢»، و «مِن» الأولى متعلقة ب «ألتناهم»، والثانية زائدة لتأكيد النفي. كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي: كل امرئ مرهون عند الله تعالى بعمله، فإن كان صالحاً فله، وإلا أهلكه. والجملة: استئناف بياني، كأنه لمّا قال: ما نقصناهم من عملهم شيئاً نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم على سبيل التفضُّل، قيل: لِمَ كان الإلحاق تفضُّلاً؟ قال: لأن كل امرئ بما كسب رهين، وهؤلاء لم يكن لهم عمل يلحقوا بسببه بهم، فأُلحقوا تفضُّلاً.
وَأَمْدَدْناهُمْ أي: وزوّدناهم في وقت بعد وقت بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ من فنون النعماء وألوان اللآلئ، وإن لم يطلبوا ذلك. يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي: يتعاطون ويتعاورون «٣» هم وجلساؤهم من أقربائهم كأساً فيها خمر، يتناول هذا الكأسَ من يد هذا، وهذا من يد هذا، بكمال رغبة واشتياق، لا لَغْوٌ فِيها أي: في شربها، فلا يتكلمون في أثناء الشراب إلا بكلام طيب، فلا يجري بينهم باطل، وَلا تَأْثِيمٌ أي: لا يفعلون ما يُوجب إثماً لصاحبه لو فعله في دار التكليف، كما هو شأن المُنادمين في الدنيا، وإنما يتكلمون بالحِكَم واحاسِن الكلام، ويفعلون ما يفعله الكرام.
قال القشيري: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ لا يجري بينهم باطل ولا ما فيه لوم، كما يجري من الشَّرْب «٤» اليوم في الدنيا، ولا تذهب عقولهم، فيجري بينهم ما يُخرج عن حدّ الأدب والاستقامة، وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة، وعلى المعلوم مَن يسقيهم بمشهد من مجلوسهم، وعلى رؤية من شربهم، والقوم عن الدار وعن ما فيها مختطفون باستيلاء ما يستغرقهم، فالشراب يؤنسهم، ولكن لا يمر بحاستهم. هـ.
وقرأ المكي والبصري بالفتح «٥» فيها على إعمال «لا» النافية للجنس.
(٢) والأول (ألتناهم) بفتح اللام، من: ألِت يألَت، كضرب يضرب.
(٣) تعوروا الشيء وتعاوروه: تداولوه فيما بينهم. انظر اللسان (عور ٤/ ٣١٦٨).
(٤) الشّرب: جمع شارب، كراكب، وركب. وهم القوم يشربون ويجتمعون للشراب، انظر اللسان (شرب، ٤/ ٢٢٢٢).
(٥) فى «لا لغوٌ فيها ولا تأثيم» وقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح بلا تنوين، وقرأ الباقون بالرفع والتنوين. انظر الإتحاف ١/ ٤٩٦.
وإذا جلست إلى المدام وشربه... فاجعل حديثك كله في الكأس
فالخمرة التي يشوبها شيء من حديث النفْس ليست بصافية من الأكدار. ولا تأثيم بنزوع الروح إلى طبع النفس، إذا نزلتَ إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ، بل تكون في ذلك بالله، ومن الله، وإلى الله، تنزل بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، جعلنا الله من ذلك القبيل بمنّه وكرمه.
وقال الورتجبي: يَتَنازَعُونَ... الآية، وصفهم الله في شربهم كاسات شراب الوصلة بالمسارعة والشوق إلى مزيد القُربة، ثم وصف شرابَهم أنه يورثهم التمكين والاستقامة في السُكْر، لا يزول حالهم إلى الشطح والعربدة، وما يتكلم به سكارى المعرفة في الدنيا عند الخلق، ولا يشابِهُ حالُ أهل الحضرة حالَ أهل الدنيا من جميع المعاني. هـ.
ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٤ الى ٢٨]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
مماليك مخصصون بهم، قيل: أولاد الكفار الذين ماتوا صِغاراً، وقيل: تُوجدهم القدرةُ من الغيب، وفي الحديث: «إن أدنى أهل الجنة منزلة مَن يُنادِي الخادِمَ مِن خدامه، فيجيبه ألفٌ، كلهم يُناديه: لبيك لبيك» «١». قلت: هذا في مقام أهل اليمين، ولما المقربون فإذا اهتمُّوا بشيء حضر، بغلامٍ أو بغير غلام، من غير احتياج إلى نداء. وقال ابن عمر رضي الله عنه: (ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه) «٢».
كَأَنَّهُمْ من بياضهم وصفائهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون في الصدف لأنه حينئذ يكون أصفى وأبهى، أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثِمن الغالي القيمة. قيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم» «٣».
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله، وما استحق به نيل ما عند الله، ف كل بعض سائل ومسئول. قالُوا أي: المسئولون في جوابهم، وهم كل واحد منهم في الحقيقة: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا أي: في الدنيا مُشْفِقِينَ أرِقَّاء القلوب من خشية الله، أو: خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان، أو: من ردّ الحسنات والأخذ بالسيئات، أو: واجلين من العاقبة، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة والرحمة وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ وهي الريح الحارة، التي تدخل المسامّ، فسمّيت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة. إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي: من قبل لقاء الله والمصير إليه- يعنون: في الدنيا، نَدْعُوهُ نعبده ولا نعبد غيره، أو نسأله الوقاية، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ المحسن الرَّحِيمُ الكثير الرحمة، الذي إذا عُبد أثاب، وإذا سُئل أجاب، وقرأ نافع والكسائي بالفتح «٤»، أي: لأنه، أو بأنه.
الإشارة: ويطوف على قلوبهم علومٌ وهبية، وحِكَمٌ غيبية، تزهو على اليواقيت المكنونة. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: كيف سلكوا طريق الوصول، وكيف كانت مجاهدة كل واحد ومسيره إلى الله، إما تحدُّثاً بالنعم، أو:
للاقتداء بهم، وفي الحِكَم: «عبارتهم إما لفيضان وَجدٍ، أو: لهداية مريد» «٥». إنَّا كنا قبلُ الوصول في أهلنا، أي: في عالم الإنسانية مشفقين من الانقطاع والرجوع، خائفين من سَموم صفات البهيمية والشيطانية، والشهوات الدنيوية، فإنها تهب بسموم قهر الحق، قهر بها جُلّ عباده فانقطعوا عنه، فمنَّ الله علينا، ووصلنا بما منه إلينا، لا بما منا إليه،
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٧/ ٣٩٠).
(٣) أخرجه عبد الرّزّاق فى التفسير (٢/ ٢٤٨) والطبري (٢٧/ ٢٩) عن قتادة، مرسلا.
(٤) فى «ندعوه أنه» على التعليل، وقرأ الباقون «إنه» بالكسر على الاستئناف. انظر الإتحاف (٢/ ٤٩٧).
(٥) حكمة رقم ١٨٦ انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ ٣٦).
ثم أمر نبيّه باستمراره على ما أمره به من التذكير فيما سلف، فقال:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٩ الى ٤٣]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨)
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
يقول الحق جلّ جلاله: فَذَكِّرْ أي: فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي: بحمده وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ كما زعموا، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي: حوادث الدهر، أي: ننتظر به نوائب الزمان حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله، زهير والنابغة. و «أم» في هذه الآي منقطعة بمعنى «بل».
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربّص هلاككم، كما تتربصون هلاكي. وفيه عِدة كريمة بإهلاكهم.
وقد جرب أنّ مَن تربص موت أحد لِينال رئاسته، أو ما عنده، لا يموت إلا قبله.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي: عقولهم بِهذا التناقض في المقالات، فإنَّ الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر في الأمور، والمجنون مُغطى عقله، مختل فكره، والشاعر يقول ما لا يفعل، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ اختلقته من تلقاء نفسه، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، ردّ عليهم، أي: ليس الأمر كما زعموا، بل لكفرهم وعنادهم يقذفون بهذه الأباطيل، التي لا يخفى بطلانها على أحد، فكيف يقدر البشر أن يأتي بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي: مثل القرآن في البلاغة والإعجاز إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أن محمداً تقوّله من تلقاء نفسه لأنه بلغاتهم، وهم فصحاء، مشاركون له ﷺ في العربية والبلاغة، مع ما لهم من طُول الممارسة للخطب والأشعار، وكثرة المقاولة للنظم والنّثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام، ولا ريب في أنَّ القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به مع دواعي الأمر بذلك من تعجيزهم وإفحامهم وطلب معارضتهم.
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي: أم أُحدثوا وقُدّروا هذا التقدير البديع، الذي عليه فطرتهم، من غير محدث ومقدّر. أو: أم خُلقوا من غير شيء من الحكمة، بأن خُلقوا عبثاً، فلا يتوجه عليهم حساب ولا عقاب؟ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ المُوجدون لأنفسهم؟ فيلزم عليه الدور، وهو تقدُّم الشيء على نفسه وتأخُّره عنها، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فلا يعبدون خالقِهما بَلْ لا يُوقِنُونَ لا يتدبرون في الآيات، فيعلمون خالقهم، وخالق السموات والأرض، فيُفردونه بالعبادة.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ من النبوة والرزق وغيرهما، فيخصّوا بما شاءوا من شاءوا، أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي: الأرباب الغالبون، المُسلَّطون على الأمور يدبرونها كيف شاءوا، حتى يُدبروا أمر الربوبية، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم. وقرأ المكي والشامي بالسين على الأصل.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ منصوب يرتقون به إلى السماء، يَسْتَمِعُونَ فِيهِ كلامَ الملائكة، وما يُوحى إليهم من علم الغيب، حتى يعلموا أن ما هم عليه حق، وما عليه غيرهم باطل، أو ما هو كائن من الأمور التي يتفوّهون بها رجماً بالغيب، ويعلّقون بها أطماعهم الفارغة من هلاكه صلّى الله عليه وسلم قبلهم، وانفرادهم بالرئاسة. و «في» : سببية، أي:
يستمعون بسبب حصولهم فيه، أو: ضمّن «يستمعون» يعرجون. وقال الزجاج: (يستمعون فيه) أي: عليه، فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة، تصدق استماع مستمعهم.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً هو كيدهم برسول الله ﷺ في دار الندوة، فَالَّذِينَ كَفَرُوا وهم المذكورون، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر، أي: ف هُمُ الْمَكِيدُونَ الذين يحيق بهم كيدهم، ويعود عليهم وبالُه، لا مَن أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر وغيره. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يمنعهم من عذابه، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: تنزيهاً له عن إشراكهم، أو: عن شركة ما يُشركونه به. وحاصل ما ذكر الحق وتعالى من الإضرابات: أحد عشر، ثمانية طعنوا بها في جانب النبوة، وثلاثة في جانب الربوبية، وهو قوله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ ذكرها الحق تعالى تسلية لرسول الله ﷺ أي: كما طعنوا في جنابك طعنوا في جانبي، فاصبر حتى نأخذهم.
الإشارة: فذكِّر أيها الخليفة للرسول، فما أنت بحمد الله بكاهنٍ ولا مجنونٍ، وإن رموك بشيء من ذلك. قال القشيري: قد علموا أنه صلّى الله عليه وسلم بريء من الكهانة والجنون، ولكنهم قالوه على جهة الاشتفاء، كالسفيه إذا بسط لسانه فيمن يشنأُه «١» بما يعلم أنه بريء مما يقوله. هـ. وكل ما قيل في جانب النبوة يُقال مثله في جانب الولاية، سُنَّة ماضية. قال القشيري: طبع الإنسان متنفرة من حقيقة الدين، مجبولة على حب الدنيا والحظوظ، لا يمكن الخروج منها إلا بجهد جهيد، على قانون الشريعة، ومتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلم وخلفائه، وهم العلماء الربانيون، الراسخون في العلم بالله، من المشايخ المُسلِّكين في كل زمان، والخلق مع دعوى إسلامهم يُنكرون على سيرهم في الأغلب، ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة، والانقطاع عن الخلق، والتبتُّل إلى الله، وطلب الأمن. كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيَّدهم بروح منه، وهو الصدق في الطلب، وحسن الإرادة المنتجَة من بذر يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. هـ مختصراً.
وقوله تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا... الآية، قال القشيري: ولا ينبغي لأحد أن يتمنى نفاق سوقه بموت أحد، لتنتهي النوبة إليه، قَلَّ ما تكون هذه صفته إلا سَبَقَته منيتُه، ولا يدرك ما تمناه. هـ. وقال في مختصره: الآية تُشير إلى التصبُّر في الأمور، ودعوة الخلق إلى الله، والتوكُّل على الله فيما يجري على يد عباده، والتسليم لأحكامه فى
ثم هددهم بعد تبيين عنادهم، فقال:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة مِنَ السَّماءِ ساقِطاً عليهم لتعذيبهم، يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم: هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ أي: تَرَاكَم بعضها على بعض لمطرنا، ولم يُصدقوا أنه ساقط عليهم لعذابهم، يعني: أنهم بلغوا من الطغيان بحيث لو أسقطناه عليهم حسبما قالوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «١» لعاندوا وقالوا سحاب مركوم. فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ «٢»، وهو اليوم الذي صُعقوا فيه بالقتل يوم بدر، لا عند النفخة الأولى، كما قيل إذ لا يصعق بها إلا من كان حيا حينئذ «٣». وقرأ عاصم والشامي بضم الياء، يقال: صعقه، فصُعق، أو: من أصعقه.
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً من الإغناء، بدل من «يومهم» ولا يخفى أن التعرُّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له في الانتفاع به، وليس ذلك إلا ما دبّروه في أمره صلّى الله عليه وسلم من الكيد يوم بدر، من
(٢) قرأ عاصم وابن عامر «يصعقون» بضم الياء، مبنيا للمفعول. وقرأ الباقون بفتحها، مبنيا للفاعل. انظر الإتحاف (٢/ ٤٩٨).
(٣) على هامش النّسخة الأم مايلى:
هذا باطل بداهة، بل المراد به عند النّفخة، كما فى آية المعارج:... حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ... الآية: ٤٢- ٤٣. وقوله: لا يصعق بها إلا مَن كان حيّاً حينئذ، أبطل من الذي قبله، فإن الله تعالى يقول: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ... ومن فى الأرض عام، بدليل الحديث المخرّج فى الصحيح: «يصعق النّاس فأكون أول من أفاق، فإذا موسى باطش بالعرش، فلا أدرى أكان ممن صعق فأفاق قبلى، أو كان ممن استثنى الله، فصرح صلّى الله عليه وسلم النبي بأن جميع الخلق يصعقون، فمن أين جاء هذا الوهم فى تخصيص ذلك بالأحياء، بل قوله تعالى: فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ نص فى ذلك أيضا لأن الضمير عائد على مَن في السموات ومَن فى الأرض. وأيضا: فإن يوم بدر لم يكن فيه صعق، وإنما كان فيه قتل، وليس هو بصعق. ثم إن الله يخاطب كفار قريش كلهم، ولم يمت منهم يوم بدر إلا سبعون... هـ.
قلت: حديث الصعق الذي ذكره المحشى، أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب نفخ الصعق ح ٦٥١٧) ومسلم فى (الفضائل، باب من فضائل موسى، رقم ٢٣٧٣، ح ١٦٠) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من جهة الغير في دفع العذاب عنهم.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: لهم، ووضع الموصول موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم، أي: وإنَّ لهؤلاء الظلمة عَذاباً آخر دُونَ ذلِكَ دون ما لا قوة من القتل، أي: قبله، وهو القحط الذي أصابهم، حتى أكلوا الجلود والميتة. أو: وإنَّ لهم عذاباً دون ذلك، أي: وراءه، وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كما ذكر، وفيه إشارة إلى أنَّ فيهم مَن يعلم ذلك، وإنما يصر على ذلك عناداً أو: لا يعلمون شيئاً أصلاً إذ هم جاهلية جهلاء.
الإشارة: أهل الحسد والعناد لا ينفعهم ما يرونه من المعجزات والكرامات، أو الحسد يُغطي نور البصيرة، فذرهم في غفلتهم وحيرتهم، وكثافة حجابهم، حتى يُصعقوا بالموت فيعرفون الحق، حين لا تنفع المعرفة فيقع الندم والتحسُّر. وإنَّ لهم عذاباً دون ذلك، وهو عيشهم في الدنيا عيش ضنك في هَم وغم وجزع وهلع، ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون ذلك لأنهم لا يرون إلا مَن هو مثلهم. ومَن توسعت دائرة معرفته، فعاش في روح وريحان، فهو غائب عنهم، لا يعرفون مقامه، ولا منزلته.
ثم أمر بالصبر، الذي هو عنوان الظفر بكلّ مطلوب، فقال:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه ﷺ ولمَن كان على قدمه: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى اليوم الموعود مع مقاساتك آذاهم، أو: واصبر لِمَا حكم به عليك من شدائد الوقت، وإذاية الخلق، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي:
حفظنا وحمايتنا، بحيث نراقبك ونكلؤك. والمراد بالحُكم: القضاء السابق، أي: لما قُضي به عليك، وفي إضافة الحُكم إلى عُنوان الربوبية تهييج على الصبر، وحمل عليه، أي: إنما هو حُكم سيدك الذي يُربيك ويقوم بأمورك وحفظك، فما فيه إلا نفعك ورفعة قدرك. وجمع العين والضمير للإيذان بغاية الاعتناء بالحفظ والرعاية. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: نزِّهه ملتبساً بحمده على نعمائه الفائتة للحصر، حِينَ تَقُومُ أي: من أيّ مكان قمت، أو: من
صلاة الفجر. وقرأ زيدٌ عن يعقوب بفتح الهمز «٢»، أي: أعقابها إذا غربت.
الإشارة: في هذه تسلية لأهل البلاء والجلال، فإنّ مَن عَلِمَ أن ما أصابه إنما هو حُكم ربه، الذي يقوم به ويحفظه، وهو بمرئً منه ومسمَعٍ، لا يهوله ما نزل، بل يزيده غبطةً وسروراً لعلمه بأنه ما أنزله به إلا لرفعة قدره، وتشحير «٣» ذهب نفسه، وقطع البقايا منه، فهو في الحقيقة نعمة لا نقمة، وفي الحِكَم: «مَن ظن انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره». «٤»
قال القشيري: أي: اصبر لما حكم به في الأزل، فإنه لا يتغير حكمنا الأول إن صبرت وإن لم تصبر، لكن إن صبرت على قضائي جزيت ثواب الصابرين بغير حساب. وفيه إشارة أخرى، أي: اصبر فإنك بأعيننا نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ «٥». هـ. وقيل المعنى: فإنك من جُملة أعيننا، وأعيان الحق الكُمل من الأنبياء، والرسل، والملائكة، وأكابر أوليائه، فإنهم أعيان تجلياته، ولذلك الإشارة بقول عمر رضي الله عنه في شأن عليّ- كرّم الله وجهه، حين ضرب شخصاً فشكاه: «أصابته عين من عيون الله»، وذلك لما تمكنوا من سر الحقيقة، صاروا عين العين. ومن ذلك قولهم: ليس الشأن أن تعرف الاسم، إنما الشأن أن تكون عين الاسم، أي: عين المُسمّى، وهو سر التصرُّف بالهوية عند التمكين فيها، وتمكُّن غيبة الشهود في الملك المعبود، وقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ... الخ، فيه إشارة إلى مداومة الذكر، والاستغراق فيه، ودوام التنزيه لله تعالى عن رؤية شيء معه. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(٢) وقرأ بها أيضا الأعمش، كما فى مختصر ابن خالويه (ص ١٤٧) وسالم بن أبى الجعد، ومحمد بن السميفع، كما فى القرطبي (٧/ ٦٤٣٨).
(٣) أي: تنقية وتصفية.
(٤) حكمة رقم (١٠٦) انظر تبويب الحكم (ص/ ٢١).
(٥) من الآية ١٢٧ من سورة النّحل.