تفسير سورة الإنسان

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الإنسان
مكية، عددها إحدى وثلاثون آية

قوله: ﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ ﴾ يعني قد أتى على الإنسان ﴿ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾ [آية: ١] يعني به آدم لا يذكر، وذلك أن الله خلق السماوات وأهلها، والأرض وما فيها من الجن قبل أن يخلق آدم، عليه السلام، بواحد وعشرين ألف سنة، وهي ثلاثة أسباع، فكانوا لا يعرفون آدم، ولا يذكرونه، وكان سكان الأرض من الجن زماناً ودهراً، ثم إنهم عصوا الله تعالى وضر بعضهم بعضاً، فأرسل الله عليهم قبيلة من الملائكة، يقال لهم: الجن وإبليس فيهم، وكان اسم إبليس الحارث، أرسلهم الله على الجن، فطردوهم حتى أخرجوهم من الأرض إلى الظلمة خلف الحجاب، وهو جبل تغيب الشمس خلفه، وفى أصله، وفيما بين ذلك الجبل وبين جبل قاف مسيرة سنة كلها ظلمة وماىء قائم، ثم إن إبليس وجنده طهروا الأرض وعبدوه زماناً، فلما أراد الله تعالى أن يخلق آدم، صلى الله عليه، أوحى إليهم أنى جاعل في الأرض خليفة يعبدوننى ويطهرون الأرض، فردوا إلى الله قوله، وإبليس منهم: فقالوا: ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها، يعني من يعصي فيها، ويسفك الدماء، كفعل الجن، لا أنهم علموا الغيب، ولكن قالوا ما عرفوا عن الجن الذين عصوا ربهم، وقالوا: نحن نسبح بحمدك ونقدس لك، يعني ونطهر لك الأرض، فأوحى الله إليهم أني أعلم ما لا تعلمون، ثم إن الله تبارك وتعالى، قال: يا جبريل ائتنى بطين، فهبط جبريل، عليه السلام، إلى الأرض فأخذ تراباً من تحت الكعبة وهو أديم الأرض وصب عليه الماء، فتركه زماناً، حتى أنتن الطين فصار فوقها طين حر، وأسفلها حمأة. حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل بن سليمان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" ما كان من الحر منها فهم أصحاب اليمين، وما كان من الحمأة فهم من أصحاب الشمال "، وذلك أن امرأ القيس بن عابس الكتمي، ومالك بن الضيف اليهودي اختصما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر آدم، عليه السلام، وخلقه، فقال مالك بن الضيف: إنما نجد في التوراة أن الله خلق آدم حين خلق السماوات والأرض، فأنزل الله عز وجل يكذب مالك بن الضيف اليهودى: فقال: ﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ ﴾ يعني واحداً وعشرين ألف سنة، وهي ثلاثة أسباع، بعد خلق السموات والأرض ﴿ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾ يذكر، ثم خلق ذريته، فقال: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ﴾ يعني ماء مختلطاً، وهوماء الرجل، وماء المرأة، فإذا اختلطا، فذلك المشج، فماء الرجل غليظ أبيض، فمنه العصب، والعظم، والقوة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة، فمنها اللحم، والدم، والشعر، والظفر، فيختلطان فذلك الأمشاج، فيها تقديم، يقول: جعلناه سمعياً بصيراً لنبتليه. ثم قال: ﴿ فَجَعَلْنَاهُ ﴾ بعد النطفة ﴿ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [آية: ٢] لنبتليه، أي جعلناه نطفة، علقة، مضغة، ثم صار إنساناً بعد ماء ودم ﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ من بعد ما كان نطفة ميتة، ثم قال: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ ﴾ يعني سبيل الضلالة والهدى ﴿ إِمَّا شَاكِراً ﴾ أن يكون ﴿ شَاكِراً ﴾ يعني موحداً في حسن خلقه لله تعالى ﴿ وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ [آية: ٣] فلا يوحده، وأيضاً إما شاكراً لله في حسن خلقه وإما كَفُوراً، يجعل هذه النعم لغير الله، ثم ذكر مستقر من أحسن من خلقه، ثم كفر به وعبد غيره.
فقال: ﴿ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ ﴾ في الآخرة يعني يسرنا للكافرين يعني لمن كفر بنعم الله تعالى ﴿ سَلاَسِلاً ﴾ يعني سلسلة طولها سبعون ذراعاً بذراع الرجل الطويل من الخلق الأول. حدثني أبي، رحمه الله، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم الخراساني، عن علي بن أبي طالب، عليه السلام، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" لو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص، فكيف يا ابن آدم، وهي عليك وحدك ". ثم قال: ﴿ وَأَغْلاَلاً ﴾ فأما السلاسل ففي أعناقهم، وأما الأغلال ففي أيديهم، ثم قال: ﴿ وَسَعِيراً ﴾ [آية: ٤] يعني وقوداً لا يطفأ، ثم ذكر ما أعد للشاكرين من نعمة، فقال: ﴿ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ ﴾ يعني الشاكرين المطيعين لله تعالى، يعني أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسلمان الفارسي، وأبا ذر الغفاري، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبا عبيدة بن الجراح، وأبا الدرداء، وابن عباس ﴿ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ﴾ يعني الخمر، وأيضاً إن الأبرار، يعني علي بن أبي طالب وأصحابه الأبرار الشاكرين لله تعالى يشربون من كأس، سعنى من خمر ﴿ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ [آية: ٥].
ثم ذكر الكافور، فقال: ﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ﴾ يعني الخمر ﴿ عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ [آية: ٦] يعني أولياء الله يمزجون ذلك الخمر، ثم جاء بذلك الماء، فهو على برد الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك لا بمسك أهل الدنيا، ولا زنجبيلهم، ولا كافورهم، ولكن الله تعالى وصف ما عنده بما عندهم لتهتدى إليه القلوب، ثم ذكر محاسنهم، فقال: ﴿ يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ ﴾ يعني من نذر الله نذراً، فقضى الله حاجته فيوفي لله بما قد نذره، قال: ﴿ وَيَخَافُونَ يَوْماً ﴾ يعني يوم القيامة ﴿ كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾ [آية: ٧] يعني كان شراً فاشياً في أهل السماوات والأرض، فانشقت السماء، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكورت الشمس، والقمر، فذهب ضوءهما وبدلت الأرض ونسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شىء على الأرض من جبل، أو بناء، أو شجر، ففشى شر يوم القيامة فيها. وأما قوله: ﴿ وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ ﴾ أى على حبهم الطعام ﴿ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ [آية: ٨] نزلت في أبي الدحداح الأنصاري، ويقال: في علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وذلك أنه صام يوماً، فلما أراد أن يفطر دعا سائل، فقال: عشونى بما عندكم، فإني لم أطعم اليوم شيئاً، قال أبو الدحداح، أو على: قومي فاثردى رغيفاً وصبي عليه مرقة، وأطعميه، ففعلت ذلك فما لبثوا أن جاءت جارية يتيمة، فقالت: أطعمونى، فإني ضعيفة لم أطعم اليوم شيئاً، قال: يا أم الدحداح قومي فاثردى رغيفاً وأطعميها، فإن هذه والله أحق من ذلك المسكين، فبينما هم كذلك إذ جاء على الباب سائل أسير ينادي، عشوا الغريب في بلادكم، فإني أسير في أيديكم وقد أجهدني الجوع، فبالذي أعزكم وأذلني لما أطعمتموني، فقال أبو الدحداح: يا أم الدحداح، قومي ويحك فاثردى رغيفاً وأطعمي الغريب الأسير، فإن هذا أحق من أولئك فأطعموا ثلاث أرغفة، وبقى لهم رغيف واحد، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم يمدحهم بما فعلوا، فقال: ﴿ وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ يعني باليتيم من لا أب له ولا أم.
﴿ وَأَسِيراً ﴾ من أسارى المشركين ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ ﴾ يعني لمرضات الله تعالى ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ﴾ [آية: ٩] يعني أن تثنوا به علينا ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ﴾ يعني يوم الشدة. قال الفراء، وأبو عبيدة: هو المنتهى في الشدة ﴿ قَمْطَرِيراً ﴾ [آية: ١٠] يعني إذا عرق الجبين فسال العرق بين عينيه من شدة الهول، فذلك قوله: ﴿ قَمْطَرِيراً ﴾ فشكر الله أمرهم، فقال: ﴿ فَوَقَاهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ ﴾ يعني يوم القيامة شر جهنم ﴿ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾ [آية: ١١] نضرة في الوجوه وسروراً في القلوب، وذلك أن المسلم إذا خرج من قبره يوم القيامة نظر أمامه، فإذا هو بإنسان وجهه مثل الشمس يضحك طيب النفس، وعليه ثياب بيض، وعلى رأس تاج، فينظر إليه حتى يدنو منه، فيقول: سلام عليك، يا ولي الله، فيقول: وعليك السلام من أنت يا عبد الله أنت ملك من الملائكة؟ فيقول: لا، والله، فيقول: أنت نبى من الأنبياء؟ فيقول: لا والله، فيقول: أنت من المقربين؟ فيقول: لا والله، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح أبشرك بالجنة، والنجاة من النار، فيقول له: يا عبدالله، والله أبعلم تبشرنى؟ فيقول: نعم، فيقول: ما تريد منى؟ فيقول له: اركبنى، فيقول: سبحان الله، ما ينبغى لمثلك أن يركب عليه، فيقول: بلى فإني طال ما ركبتك في دار الدنيا، فإني أسألك بوجه الله، إلا ما ركبتني، فيقول: لا تخف أنا دليلك إلى الجنة فيعم ذلك الفرح في وجهه حتى يتلألأ، ويرى النور والسرور في قلبه، فذلك قلبه: ولقاهم نضرة وسروراً، وأما الكافر، فإنه إذا خرج من قبره نظر أمامه، فإذا هو برجل قبيح الوجه أزرق العينين أسود الوجه أشد سواداً من القبر في ليلة مظلمة، وثيابه سود يجر أنيابه في الأرض تدهده دهدهة الرعد، ريحه أنتن من الجيفة، فيقول: من أنت يا عدو الله؟ ويريد أن يعرض بوجهه عنه، فيقول: يا عدو الله إلى إلى، وإنا لك اليوم، فيقول: ويحك أشيطان أنت؟ فيقول: لا والله، ولكني عملك، فيقول: ويحك، ما تريد مني؟ فيقول: أريد أن أركبك، فيقول: أنشدك الله، مهلاً فإنك تفضحني على رءوس الخلائق، فيقول: والله ما منك بد فطال ما ركبتنى فأنا اليوم أركبك، قال فيركبه، فذلك قوله:﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾[الأنعام: ٣١].
ثم ذكر أولياءه، فقال: ﴿ وَجَزَاهُمْ ﴾ بعد البشارة ﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ على البلا ء ﴿ جَنَّةً وَحَرِيراً ﴾ [آية: ١٢]، فأما الجنة فيتنعمون فيها، وأما الحرير فليبسونه ﴿ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ ﴾ يعني على السرر عليها الحجال ﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً ﴾ لا يصيبهم حر الشمس ﴿ وَلاَ زَمْهَرِيراً ﴾ [آية: ١٣] يعني ولا يصيبهم برد الزمهرير لأنه ليس فيها شتاء ولا صيف، فأما قوله: ﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا ﴾ يعني ظلال الشجر، وذلك أن أهل الجنة يأكلون من الفواكه إن شاءوا نياماً، وإن شاءوا قعوداً، وإن شاءوا قياماً، إذا أرادوا دنت منهم حتى يأخذوا منها، ثم تقوم قياماً، فذلك قوله: ﴿ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ﴾ [آية: ١٤] يعني أغصانها تذليلاُ. قوله: ﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ ﴾ فهى الأكواز مدورة الرءوس التى ليس لها عرى، قال: ﴿ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ ﴾ [آية: ١٥] ولكنها من فضة، وذلك أن قوارير الدنيا من ترابها وقوارير الجنة من فضة، فذلك قوله: ﴿ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ ﴾ ثم قطعها، ثم استأنفن فقال: ﴿ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾ [آية: ١٦] يعني فدرت الأكواب على الإناء وقدر الإناء على كف الخادم ورى القوم، فذلك قوله: ﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾.
قال: ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً ﴾ يعني خمراً، وكل شراب في الإناء ليس بخمر، وليس هو بكأس، فقال: ﴿ كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ﴾ [آية: ١٧] يعني كأنما قد مزج فيه الزنجبيل، قوله: ﴿ عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً ﴾ [آية: ١٨] تسيل عليهم من جنة عدن، فتمر على كل جنة، ثم ترجع لهم الجنة كلها. وأما قوله: ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ فأما الولدان فهم الغلمان الذين لا يشيبون أبداً مخلدون، يعني لا يحتملون، ولا يشيبون أبداً هم على تلك الحال لا يختلفون ولا يكبرون، قال: ﴿ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ [آية: ١٩] في الحسن والبياض، يعني في الكثرة، مثل اللؤلؤ المنثور الذي لا يتناهى عدده، قوله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ ﴾ يعني هنالك في الجنة رأيت ﴿ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾ [آية: ٢٠] وذلك أن الرجل من أهل الجنة له قصر، في ذلك القصر سبعون قصراً، في كل قصر سبعون بيتاً، كل بيت من لؤلؤة مجوفة طولها في السماء فرسخ، وعرضها فرسخ، عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب، في ذلك البيت سرير منسوج بقضبان الدر والياقوت، عن يمين السرير، وعن يساره أربعون ألف كرسى من ذهب قوائمها ياقوت أحمر، على ذلك السرير سبعون فراشاً، كل فراش على لون، وهو جالس فوقها، وهو متكىء على يساره عليه سبعون حلة من ديباج، الذى بلى جسده حريرة بيضاء، وعلى جبهته إكليل مكلل بالزبرجد، والياقوت، وألوان الجواهر كل جوهرة على لون. وعلى رأسه تاج من ذهب فيه سبعون ذؤابة، في كل ذؤابة درة، تساوى مال المشرق والمغرب، وفى يديه ثلاث أسورة، سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ، وفى أصابع يديه ورجليه خواتيم من ذهب وفضة فيه ألوان الفصوص، وبين يديه عشرة آلاف غلا لا يكبرون ولا يشيبون أبداً، ويوضع بين يديه مائدة من ياقوتة حمراء، طولها ميل في ميل، ويوضع على المائدة سبعون ألف إناء من ذهب وفضة في كل إناء سبعون لوناً من الطعام، يأخذ اللقمة بيديه، فما يخطر على باله حتى تتحول اللقمة عن حالها التى يشتهيها، وبين يديه غلمان بأيديهم أكواب من ذهب، وإناء من فضة معهم الخمر والماء، فيأكل على قدر أربعين رجلاً من الألوان كلها، كلما شبع من لون من الطعام سقوه شربة مما يشتهى من الأشربة فيتجشى. فيفتح الله تعالى عليه ألف باب من الشهوة من الشراب، فيدخل عليه الطير من الأبواب، كأمثال النجائب فيقومون بين يديه صفاً، فينعت كل نقسه بصوت مطرب لذيذ ألذ من كل غناء في الدنيا، يقول: يا ولي الله، كلنى إنى كنت أرعى في روضة كذا وكذا، من رياض الجنة، فيحلون عليه أصواتها، فيرفع بصره فينظر إليهم، فينظر إلى أزهاها صوتاً، وأجودها نعتاً، فيشتهيها، فيعلم الله ما وراء شهوته في قلبه من حبه، فيجىء الطير فيقع على المائدة بعضه قديد، وبعضه شواء، أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل، فيأكل حتى إذا شبع منها، واكتفى طارت طيراً كما كانت، فتخرج من الباب الذى كانت دخلت منه. فهو على الأرائك وزوجته مستقبلة، يبصر وجهه في وجهها من الصفاء والبياض، كلما أراد أن يجامعها ينظر إليها، فيستحى أن يدعوها، فتعلم ما يريد منها زوجها، فتدنو إليه، فتقول: بأبى وأمى، ارفع رأسك فانظر إلى فإنك اليوم لى، وأنا لك فيجامعها على قوة مائة رجل من الأولين، وعلى شهوة أربعين رجلاً كلما أتاها وجدها عذراء، لا يغفل عنها مقدار أربعين يوماً، فإذا فرغ وجد ريح المسك منها، فيزداد حباً لها، فيها أربعة آلاف وثمان مائة زوجة مثلها لك زوجة سبعون خادماً وجارية. حدثنا عبدالله بن ثابت، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل، عن الضحاك بن مزاحم، عن علي بن أبي طالب، عليه السلام، قال: لو أن جارية أو خادماً خرجت إلى الدنيا لا قتتل عليها أهل الأرض كلهم، حتى يتفانوا. ولو أن الحور العين أرخت ذؤابتها في الأرض لأطفأت الشمس من نورها،" قيل: يا رسول الله، وكم بين الخادم والمخدوم؟ قال: والذى نفسى بيده، إن بين الخادم والمخدوم كالكوكب المضىء إلى جنب القمر في النصف، قال: فبينما هو جالس على سريره إذ يبعث الله عز وجل إليه مالكاً معه سبعون حلة كل حلة على لون واحد، ومعه التسليم، والرضا، فيجىء الملك حتى يقوم على بابه، فيقول لحاجبه: ائذن لي على ولي الله، فإني رسول رب العالمين إليه، فيقول الحاجب: والله، ما أملك منه المناجاة، ولكن سأذكرك إلى من يلينى من الحجبة، فلا يزالون يذكرون بعضهم إلى بعض حتى يأتيه الخبر بعد سبعين باباً، يقول: يا ولي الله، إن رسول رب العزة على الباب، فيأذن له بالدخول عليه، فيقول: السلام عليك، يا ولي الله، إن الله يقرئك السلام، وهو عنك راض، فلولا أن الله تعالى لم يقض عليه الموت لمات من الفرح "، فذلك قوله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ ﴾ يا محمد، ثم يعني هناك رأيت نعيماً، يعني بالنعيم الذى هو فيه وملكاً كبيراً حين لا يدخل عليه رسول رب العزة إلا بإذن. ثم قال: ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ يعني الديباج، وإنما قال: عاليهم لأن الذى يلي جسده حريرة بيضاء، قال: ﴿ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ﴾ وقال في آية أخرى يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا، فهى ثلاث أسورة، قوله: ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ [آية: ٢١] وذلك أن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان، فإذا جاز الرجل الصراط إلى العين، يدخل في عين منها فيغتسل فيها، فيخرج وريحه أطيب من المسك طوله سبعون ذراعاً في السماء على طول آدم عليه السلام، وميلاد عيسى ابن مريم، أبناء ثلاث وثلاثين سنة، فأهل الجنة كلهم رجالهم ونساؤهم على قدر واحد يكبر الصغير حين يكون ابن ثلاث وثلاثين سنة، وينحط الشيخ عن حاله إلى ثلاث وثلاثين سنة، كلهم رجالهم ونساؤهم على قدر واحد في حسن يوسف بن يعقوب، عليهما السلام، ويشرب من العين الأخرى فينقى ما في صدره من غل، أو هم، أو حد، أو حزن، فيظهر الله قلبه بذلك الماء، فيخرج وقلبه على قلب أيوب، عليه السلام، ولسان محمد صلى الله عليه وسلم عربى، ثم ينطلقون حتى يأتوا الباب، فتقول لهم الخزنة: طبتم، يقولون: نعم، فتقول: ادخلوها خالدين يبشرونهم بالخلود قبل الدخول، بأنهم لا يخرجون منها أبداً، فأول ما يدخل من باب الجنة، ومعه الملكان اللذان كانا معه في دار الدنيا الكرام الكاتبين، فإذا هو بملك معه بختية من ياقوتة حمراء زمامها ياقوتة خضراء، فإذا كانت البختية من ياقوتة خضراء كان زمامها من ياقوتة حمراء، عليها راحلة مقدمها ومؤخرها در وياقوت، صفحتها الذهب والفضة، ومعه سبعون حلة فيلبسه ويضع على رأسه التاج، ومعه عشرة آلاف غلام كاللؤلؤ المكنون، فيقول: يا ولي الله، اركب فإن هذا لك، ولك مثلها فيركبها، ولها جناحان، خطوة منها منتهى البصر فيسير على بختيته وبين يديه عشرة آلاف غلام، ومعه الملكان اللذان كانا معه في دار الدنيا حتى يأتي إلى قصوره فينزلها.
﴿ إِنَّ هَـٰذَا ﴾ الذى قضيت لكم ﴿ كَانَ لَكُمْ جَزَآءً ﴾ لأعمالكم ﴿ وَكَانَ سَعْيُكُم ﴾ يعني عملكم ﴿ مَّشْكُوراً ﴾ [آية: ٢٢] يعني شكر الله أعمالهم فأثابهم بها الجنة.
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ يعني حتى يحكم الله بينك وبين أهل مكة، ولا تشتم إذا شتمت، ولا تغتظ إذا ضربت ﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [آية: ٢٤] وهو الوليد بن المغيرة ابن هشام المخزومي، قال: أو كفوراً، أو هاهنا صلة، والكفور: هو عتبة بن ربيعة، وذلك أنهم خلوا به في دار الندوة، وفيهم عمرو بن عمير بن مسعود الثقفي، فقالوا: يا محمد، أخبرنا لم تركت دين آبائك وأجدادك؟ فقال الوليد بن المغيرة: إن طلبت مالاً أعطيتك نصف مالي على أن تدع مقالتك هذه، وقال أبو البخترى بن هشام: واللت والعزى إن ارتد عن دينه لأزوجنه ابنتي، فإنها أحسن النساء، وأجملهن جمالاً، وأفصحهن قولاً، وأبلغهن علماً، وقد علمت العزى بذلك، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم يجبهم شيئاً، فقال ابن مسعود الثقفي: ما لك لا تجيبنا إن كنت تخاف عذاب ربك وذمه أجرتك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وقبض ثوبه وقام عنهم، وقال: أقوال وأضعف أعمال، فأنزل الله عز وجل ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً ﴾ فيها تقديم وتأخير ﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ يعني الوليد بن المغيرة وأبا البحترى بن هشام. وقال في قول عمرو بن عمير بن مسعود الثقفى:﴿ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾[الجن: ٢٢] يعني لا يؤمننى من عذابه أحد، ولن أجد من دونه مهرباً،﴿ إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ ﴾[الجن: ٢٣].
وأما قوله: ﴿ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [آية: ٢٥] يعني إذا صليت صلاة الغداة وهو بكرة، فكبر واشهد أن لا إله إلا هو، وأصيلا إذا أمسيت وصليت صلاة المغرب، فكبره واشهد أن لا إله إلا هو، فهو براءة من الشرك، فذلك قوله: ﴿ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ ﴾ بشهادة أن لا إله إلا هو، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الغداة، ثم يكبر ثلاثاً، وإذا صلى المغرب كبر ثلاثا ﴿ وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ ﴾ يعني صلاة العشاء الآخرة يقول: صل له قبل أن تنام ﴿ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾ [آية: ٢٦] يعني وصل له بالليل، وكان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم، فتهجد به نافلة لك. ثم رجع إلى قوله عز وجل الأول: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾، فقال: ﴿ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ ﴾ الذين يأمرونك بالكفر ﴿ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ ﴾ يعني الدنيا، لا يهمهم شىء إلا أمر الدنيا الذهب والفضة والبناء والثياب والدواب ﴿ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ ﴾ يعني أمامهم وكل شىء في القرآن وراءهم، يعني أمامهم ﴿ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾ [آية: ٢٧] لأنها تثقل على الكافرين إذا حشروا وإذا وقفوا وإذا حاسبوهم، وإذا جازوا الصراط فهي مقدار ثلاث مائة سنة وأربعين سنة، فأما المؤمن، فإنه ييسر الله خروجه من قبره، وإذا حشره، وإذا حاسبه، وإذا جاز الصراط، فذلك قوله:﴿ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾[المدثر: ٩، ١٠].
وأما قوله: ﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ ﴾ في بطون أمهاتهم وهم نطفة ﴿ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ ﴾ حين صاروا شباناً يعني أسرة الشباب، وما خلق الله شيئاً أحسن من الشباب، منور الوجه أسود الشعر واللحية قوى البدن، وقال: ﴿ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ ﴾ ذلك السواد والنور بالبياض والضعف ﴿ تَبْدِيلاً ﴾ [آية: ٢٨] من السواد حتى لا يبقى شىء منه إلا البياض، فعلم الله عز وجل، فقال: ﴿ إِنَّ هَـٰذِهِ ﴾ إن هذا السواد والحسن والقبح ﴿ تَذْكِرَةٌ ﴾ يعني عبرة ﴿ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ [آية: ٢٩] يعني فمن شاء اتخذ في هذه التذكرة فيعتبر، فيشكر الله ويوحده، ويتخذ طريقاً إلى الجنة، ثم رد المشيئة إليه، فقال: ﴿ وَمَا تَشَآءُونَ ﴾ أنتم أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾ فهو عليكم عمل الجنة ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً ﴾ يعني بأهل الجنة ﴿ حَكِيماً ﴾ [آية: ٣٠] إذ حكم على الشقاء النار. ثم ذكر العلم والقضاء بأنه إليه، فقال: ﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ يعني في جنته ﴿ وَٱلظَّالِمِينَ ﴾ يعني المشركين ﴿ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [آية: ٣١] يعني وجعياً.
Icon