تفسير سورة الشمس

اللباب
تفسير سورة سورة الشمس من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية، وهي خمس عشرة آية، وأربع وخمسون كلمة، ومائتان وسبعون حرفا.

مكية، وهي خمس عشرة آية، وأربع وخمسون كلمة، ومائتان وسبعون حرفا. قوله تعالى: ﴿والشمس وَضُحَاهَا﴾، وقد تقدَّم أنَّ جماعة من أهل الأصول؛ قالوا: التقدير: ورب الشمس، ورب سائر ما ذكر إلى تمام القسم.
واحتج قوم على بطلان هذا القول، بأن في جملة هذا القسم: ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا﴾، وذلك هو الله تعالى، لا يجوز أن يكون المراد منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه، فإذن لا بد من تأويل، وهو أن «ما» مع ما بعده في حكم المصدر، فيكون التقدير: والسَّماءِ وبنائها.
واعترض الزمخشريُّ عليه، فقال: لو كان الأمر على هذا الوجه، لزم من عطف قوله: «فألهمها» عليه فساد النظم.
قوله: ﴿وَضُحَاهَا﴾.
قال المبرِّدُ: إن الضُّحى، والضَّحوة، مشتقان من الضحّ، وهو النور فأبدلت الألف، والواو من الحاء، تقول: ضَحْوة، وضَحَوات، وضُحى فالواو من «ضَحْوة» مقلوبة عن الحاء الثانية، والألف في «ضُحَى» مقلوبة عن الواو.
وقال أبو الهيثم: الضحُّ نقيض الظل، وهو نور الشمس على ظهر وجه الأرض وأصله: الضحى، فاستثقلوا الياء مع سكون الواو فقلبوها ألفاً.
والضُّحَى: مؤنثة، يقال: ارتفعت الضُّحى فوق الصخور، وقد تذكر، فمن أنَّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكَّر ذهب إلى أنَّه اسم على «فُعَل» نحو «صُرَد،
354
ونُغَر» وهو ظرف غير متمكن مثل: سحر، تقول: لقيته ضحًى، وضُحَى إذا أردت به ضحى يومك لم تنونه.
وقال الفراء: الضُّحَى، هو النهار، كقول قتادة، والمعروف عند العرب أنَّ الضحى إذا طلعت الشمس، وبُعَيْدَ ذلك قليلاً، فإذا زاد فهو الضّحاء بالمد.
ومن قال: الضحى، النهار كله، فذلك لدوام نور الشمس، ومن قال: إنه نور الشَّمس أو حرها، فنور الشمس لا يكون إلاَّ مع حرِّ الشمس، وقد استدل من قال: إن الضحى حر الشمس بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تضحى﴾ [طه: ١١٩] أي: لا يؤذيك الحر.

فصل في تفسير الآية


قال مجاهد: «وضُحَاهَا» أي: ضوؤها وإشراقها، وأضاف الضحى إلى الشمس؛ لأنه إنما يكون بارتفاع الشمس.
وقال قتادةُ: بهاؤها.
وقال السدي: حرها.
وقال اليزيدي: انبساطها.
وقيل: ما ظهر بها من كل مخلوق، فيكون القسم بها، وبمخلوقات الأرض كلها. حكاه الماوردي.
قال ابن الخطيب: إنَّما أقسم بالشمس، وضحاها، لكثرة ما يتعلق به من المصالح، فإنَّ أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر الصبحُ في المشرق، صار ذلك الضوء، كالروح الذي تنفخ فيه الحياة، فصارت الأموات أحياء، ولا تزال تلك الحياة في القوة، والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحى، وذلك شبيه استقرار أهل الجنة.
قوله: ﴿والقمر إِذَا تَلاَهَا﴾، أي: تبعها، وذلك إذا سقطت رؤيا الهلال.
[قال الليث: تلوت فلاناً إذا تبعته.
وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر، يتلوها بالغروب].
355
قال الفراء: «تَلاَهَا» : أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس.
وقال الزجاجُ: «إذا تَلاهَا» أي: حين استوى، واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور.
وقال قتادةُ والكلبيُّ: معناه: أن الشمس، إذا قربت، فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب.
وقيل: يتلوها في كبر الجرم، بحسب الحسّ في ارتباط مصالح هذا العالم بحركته.
قوله: ﴿والنهار إِذَا جَلاَّهَا﴾، الفاعل: ضمير النهار.
وقيل: عائد على الله تعالى، والضمير المنصوب، إمَّا للشمس، وإما للظُّلمة، وإما للأرض.
ومعنى «جلاها» أي: كشفها، فمن قال: هي «الشمس»، فالمعنى: أنه يبين بضوئه جرمها، ومن قال: هي «الظلمة»، فهي ون لم يجر لها ذكر، كقولك: أضحتْ باردةً، تريد: أضحت غداتنا باردة، وهو قول الفراء والكلبي وغيرهما.
ومن قال: هي الدنيا والأرض، وإن لم يجر لهما ذكر، كقوله: ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ [ص: ٣٢].
قوله: «إذَا تَلاهَا»، وما بعده فيه إشكال؛ لأنه إن جعل شرطاً اقتضى جواباً، ولا جواب لفظاً، وتقديره غير صالح، وإن جُعِلَ محضاً استدعى عاملاً وليس هنا عامل إلا فعل القسم حال؛ لأنه إنشاء، و «إذا» ظرف مستقبل، والحال لا يعمل في المستقبل.
ويخص «إذا» وما بعدها إشكال آخر ذكره الزمخشري، قال: فإن قلت: الأمر في نصب «إذَا» معضل، لأنك لا تخلو إمَّا أن تجعل الواو عاطفة، فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك: «مررت أمس بزيد واليوم عمرو»، وإمَّا أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه.
قلت: الجواب فيه: أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحاً كلياً، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادة مسدهما معاً، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو، فحقهن أن يكنّ عوامل على الفعل، والجار جميعاً، كما تقول: «ضَرب زيد بكراً وعمرو خالداً»، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام «ضرب» الذي هو عاملهما انتهى.
وقال أبُو حيَّان: أما قوله في واوات العطف: «فتنصب وتجر»، فليس هذا
356
بالمختار على أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه، ثم إن الإنشاء حجة في ذلك.
وقوله: «فتقع في العطف على عاملين»، ليس ما في الآية من العطف عاملين، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب، على اسمين مجرور ومنصوب، فصرف العطف لم ينب مناب عاملين، وذلك نحو قولك: مررت بزيد قائماً وعمرو جالساً؛ وأنشد سيبويه في كتابه: [الطويل]
٥٢١٩ - فَلَيْسَ بِمعروفٍ لَنا أنْ نَرُدَّهَا صِحَاحاً ولا مُسْتنكَرٌ أن تُعَقَّرَا
فهذا من عطف مجرور ومرفوع؛ والعطف على عاملين فيه أربعة مذاهب، ونسب الجواز إلى سيبويه.
وقوله في نحو قولك: «مررت أمس بزيد واليوم عمرو»، هذا المثال مخالف لما في الآية، بل وزان ما في الآية: «مررت بزيد أمس وعمرو اليوم» ونحن نجيز هذا.
وأمَّا قوله: «على استكراه»، فليس كما ذكر، بل كلام الخليل على المنع.
قال الخليل في قوله تعالى: ﴿والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى﴾ [الليل: ١ - ٣] :«الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء».
وأما قوله: «إن واو القسم ليس يطرح معها إبراز الفعل إطراحاً كلياً» فليس هذا الحكم مجمعاً عليه، بل أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو، فتقول: «أقسم، أو أحلف والله لزيد قائم».
وأما قوله: «والواوات العواطف نوائب عن هذا» إلى آخره، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل، وليس هذا بالمختار.
قال: والذي يقول: إن المُعضلَ هو تقدير العامل في «إذا» بعد الإقسام، كقوله تعالى: ﴿والنجم إِذَا هوى﴾ [النجم: ١]، ﴿والليل إِذْ أَدْبَرَ والصبح إِذَآ أَسْفَرَ﴾ [المدثر: ٣٣، ٣٤]، ﴿والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا﴾ [الشمس: ٢ - ٤]، وما أشبهها ف «إذا» ظرف مستقبل، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف؛ لأنه فعل إنشائي، فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه أي وطلوع النجم، ومجيء الليل، لأنه فعل إنشائي، فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه أي وطلوع النجم، ومجيء الليل، لأنه
357
معمول لذلك الفعل [فالطلوع حال، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل، سيما إن كان جزماً]، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه، ويكون ذلك العامل في موضع الحال، وتقديره: والنجم كائناً إذا هوى والليل كائناً إذا يغشى، لأنه لا يلزم كائناً منصوباً بالعامل، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً، وأيضاً، فقد يكون المقسم به جثة، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث كما لا تكون أخباراً. انتهى ما رد به أبو حيان وما استشكله من أمر العامل في «إذا».
قال شهاب الدين: المختار أن حرف العطف لا يعمل لقيامه مقام العامل، فلا يلزم أبا القاسم لأنه يختار القول الآخر، وقوله «ليس ما في الآية من العطف على عاملين» ممنوع بل فيه العطف على عاملين ولكنه في غموض، وبيان أنه من العطف على عاملين، أن قوله: ﴿والنهار إِذَا جَلاَّهَا﴾ - ها هنا - معمولان، أحدهما مجرور وهو «النهار» والآخر منصوب وهو الظرف عطفاً على معمول عاملين والعاملان هنا في فعل المقسم به، الناصب ل «إذا» الأولى، وواو القسم الجارة، فقد تحقق معك عاملان، لهما معمولان، فإذا عطفت مجروراً على مجرور، وظرفاً على ظرف، معمولين لعاملين، لزم ما قاله أبو القاسم، وكيف يجهل هذا مع التأمل والتحقيق؟!.
وأما قوله: «وأنشد سيبويه» إلى آخره، فهو اعتراف منه بأنه من العطف على عاملين، غاية ما في الباب أنه استند إلى حكمه لسيبويه، وأما قوله: أجاز ابن كيسان، فلا يلزم مذهبه، وأما قوله: فالمثال ليس كالآية بل وزانها، إلى آخره، فصحيح لما فيه من تقديم الظرف الثاني على المجرور والمعطوف والآية والظرف فيها متأخر، وإنما مراد الزمخشري وجود معمول عاملين، وهو موجود في المثال المذكور إلا أن في الآية إشكالاً آخر، وهو كالتكرير للمسألة، وأما قوله: بل كلام الخليل يدل على المنع، إلى آخره، فليس فيه ردٌّ عليه بالنسبة إلى قصده بل فيه تقوية لما قال، غاية ما في الباب أنه عبر بالاستكراه عن المنع، ولم يفهم المنع، وقوله: ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف، إلى آخره، فأقول: بل يجوز تقديره، وهو العامل، ولا يلزم ما قاله من اختلاف الزمانين، لأنه يجوز أن يقسم [الآن بطلوع النجم في المستقبل، فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل، ويجوز أن يقسم] بالشيء الذي سيوجد وقوله «ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه» إلى آخره، ليس بممنوع بل يجوز ذلك ويكون حالاً
358
مقدرة، وقوله «ويلزم ألاَّ يكون له عامل» ليس كذلك بل له عامل وهو فعل القسم، ولا يضر كونه إنشائياً، لأن الحال مقدرة كما تقدم، وقوله «وقد يكون المقسم به جثة» جوايه: يقدر حينئذ حدث، يكون الظرف الزماني حالاً عنه وسئل ابن الحاجب عن هذه المسألة، فأجاب بنحو ما ذكرناه والله اعلم، ولا يخلو الكلام فيها من بحث.
قوله: ﴿والليل إِذَا يَغْشَاهَا﴾. المفعول «الشمس» : أي: يغشى الشمس فيذهب بضوئها عند سقوطها، قاله مجاهد.
وقيل: للأرض أي: يغشى الدنيا بالظلمة، فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور. وجيء ب «يَغْشَاهَا» مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب «إذ غشيها» فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.
قوله: ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا﴾. في «ما» هذه وجهان:
أحدهما: أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» وبه استشهد من يجوز وقوعها على العقلاء، ولأن المراد به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسن ومجاهد وأبو عبيدة، واختاره ابن جرير.
والثاني: مصدر، أي وبنائها، وإليه ذهب الزجاج والمبرد، وهذا منهما بناء على أنها مختصة بغير العقلاء.
واعترض على هذا القول بأنه يلزم أن يكون القسم بنفس المصادر: بناء السماء وطحو الأرض، وتسوية النفس، وليس المقصود إلاَّ القسم بفاعل هذه الأشياء، وهو الرب تعالى، وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أن يكون على حذف مضاف، أي: ورب بناء السماء ونحوه.
والثاني: أنه لا غرو لا يجوز في الإقسام بهذه الأشياء، كما أقسم سبحانه وتعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمخشري: «جعلت» ما «مصدرية في قوله» وما بناها «،» وما طحاها «،» وما سواها «، وليس بالوجه، لقوله» فألهمها «، وما يؤدي إليه من فساد النظم، والوجه أن تكون موصولة، وإنما أوثرت على» من «لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفسٍ والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم: سبحان من سخركن لنا» انتهى.
[يعني أن الفاعل في «فألهمها» عائد على الله تعالى، فليكن في بنائها كذلك].
359
وحينئذ يلزم عوده على شيء، وليس هنا ما يمكن عوده عليه غير «ما» فتعين أن تكون موصولة.
قال أبو حيان: «أما قوله» وليس بالوجه «، لقوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا﴾ يعني من عود الضمير في ﴿فَأَلْهَمَهَا﴾ على الله تعالى، فيكون قد عاد على مذكور، وهو» ما «المراد به» الذي «، قال: ولا يلزم ذلك، لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام، في» بَنَاهَا «ضمير عائد على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً، فتقول: عجبت مما ضرب عمرو، تقديره: من ضرب عمرو هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعود الضمير على ما يفهمُ من سياق الكلام كثير.
وقوله»
وما يؤدي إليه من فساد النظم «ليس كذلك، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر.
وقوله»
وإنما أوثرت «إلى آخره، لا يراد ب» ما «ولا» من «الموصولتين، معنى الوصلية، لأنهما لا يوصف بهما» ما «دون» من «.
وقوله»
في كلامهم «إلى آخره، تأوله أصحابنا على أن» سبحان «علم، و» ما «مصدرية ظرفية».
قال شهاب الدين: أما ما رد به عليه من كونه يعود على ما يفهم من السياق، فليس يصلح رداً؛ لأنه إذا دار الأمر بين عوده على ملفوظ وبين غير ملفوظ به، فعوده على الملفوظ به أولى؛ لأنه الأصل وأما قوله: فلا ينفرد به «ما» دون «من»، فليس مراد الزمخشري أنها توصف بها وصفاً صريحاً، بل مراده أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته، ولذلك مثل النحويون بقوله تعالى:
﴿فانكحوا
مَا طَابَ لَكُمْ﴾
[النساء: ٣].
وقالوا: تقديره: فانكِحُوا الطَّيِّب من النِّساءِ، ولا شك أن هذا الحكم تنفرد به «ما» دون «من».
قوله: ﴿والأرض وَمَا طَحَاهَا﴾. أي: وطحوها، وقيل: من طحاها: أي بسطها، قال عامة المفسرين: أي دحاها.
قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد، أي: بسطها من كل جانب.
والطَّحْوُ: البسطُ، طحا، يطحو، طحواً، وطحى يطحى طحياً، وطحيت:
360
اضطجعت، عن أبي عمرو، وعن ابن عباس: طحاها: أي قسمها، وقيل: خلقها؛ قال الشاعر: [الوافر]
٥٢٢٠ - ومَا تَدْرِي جَذيمةُ مَنْ طَحاهَا ولا مَنْ سَاكِنُ العَرْشِ الرَّفيعِ
قال الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز؛ لأنه حياة لما خلق عليها.
ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي، أي: المشرق المرتفع.
قال أبو عمرو: طحا الرجل إذا ذهب في الأرض، يقال: ما أدري أين طحا؟.
ويقال: طحا به قلبه، إذا ذهب به كلِّ شيء؛ قال علقمة: [الطويل]
٥٢٢١ - طَحَا بِكَ قَلبٌ في الحِسانِ طَرُوب......................................
قال ابن الخطيب: وإنما أخر هذا عن قوله تعالى: ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا﴾ لقوله: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠].
قوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾. قيل: المعنى، وتسويتها، ف «ما» مصدرية.
وقيل: المعنى، ومن سواها، وهو الله تعالى، قيل: المراد بالنفس: آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: كلُّ نفس منفوسةٍ، فما التنكير إلا لتعظيمها، أي نفس عظيمة، آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإما للتكثير، كقوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ [التكوير: ١٤]، و «سوَّى» بمعنى هيأ.
وقال مجاهد: سوَّى خلقها وعدَّل، وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم، أي أقسم الله تعالى بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه - سبحانه وتعالى -.
قوله: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا﴾ أي: عرَّفها طريقَ الفجور والتقوى، قاله ابن عباس ومجاهد.
361
وعن مجاهد أيضاً: عرفها الطاعة والمعصية.
[وعن محمد بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إذا أراد الله تعالى لعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشرّ فعمل به.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: ألهم المؤمن التقي تقواه وألهم الكافر فجوره، وعن قتادة: بين لها فجورها وتقواها، والفجور والتقوى مصدران في موضع المفعول].
قال الواحدي: الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً، وإذا أوقع في قلبه فقد ألزمه إياه، من قولهم: لهم الشيء وألهمه: إذا بلغه، وألهمته ذلك الشيء، أي أبلغته، هذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ.
قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أنه جواب القسم، والأصل: لقد وإنما حذفت لطول الكلام، والثاني: أنه ليس بجواب، وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، فالجواب محذوف، تقديره [ليدمرن] الله عليهم، أي: على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال معناه الزمخشري. وقدر غيره: لتبعثن.
وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها.
وفاعل «زكّاها» و «دسّاها»، الظاهر أنه ضمير «مَنْ».
وقيل: ضمير الباري تعالى، أي: أفلح وفاز من زكاها بالطاعة، وقد خاب من دساها أي: خسرت نفسٌ دسها الله تعالى بالمعصية، وأنحى الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه.
قال شهاب الدين: والحق أنه خلاف الظاهر، لا لما قال الزمخشري، بل لمنافرة نظمه للاحتياج إلى عود الضمير على النفس مقيدة بإضافتها إلى ضمير «من».
362
وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها الله وأغواها.
وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، «وخاب» خسر من دس نفسه في المعاصي. قاله قتادة.
وأصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه تزكى الزَّرع إذا كثر معه، ومنه تزكية القاضي الشاهد، لأنه يرفعه بالتعديل.
وقيل: دساها: أغواها، قال: [الطويل]
٥٢٢٢ - وأَنْتَ الَّذِي دسَّيْتَ عَمْراً فأصْبَحتَ حَلائِلهُ مِنْهُ أرَامِلَ ضُيَّعَا
قال أهل اللغة: والأصل، دسها، من التدسيس فكثرت الأمثال فأبدل من ثالثها حرف علة كما قالوا: قصيت أظفاري، وأصله قصصت، وتقضي البازي، والتدسية: الإخفاء يعني أخفاه بالفجور، وقد نطق بالأصل الشاعر المتقدم. وقال آخر: [الكامل]
٥٢٢٣ - ودَسَسْتَ عَمْراً في التُّرَابِ فأصْبَحَتْ...........................................
[وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت سينه ياءً. وقال ابن الأعرابي: «وقَدْ خَابَ من دسَّاهَا» أي: دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم].
قال الواحدي: فكأنه - تعالى - أقسم على فلاح من طهره وخسارة من خذله لئلا يظن أن المراد بتولي ذلك من غير قضاء سابق، فقوله: «قَدْ أفلَحَ» : هو جواب القسم.
363
قوله :﴿ والقمر إِذَا تَلاَهَا ﴾، أي : تبعها، وذلك إذا سقطت رؤيا الهلال.
[ قال الليث : تلوت فلاناً إذا تبعته.
وقال ابن زيد : إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر، يتلوها بالغروب١ ]٢.
قال الفراء :«تَلاَهَا » : أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس.
وقال الزجاجُ :«إذا تَلاهَا » أي : حين استوى، واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور.
وقال قتادةُ والكلبيُّ : معناه : أن الشمس، إذا قربت، فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب٣.
وقيل : يتلوها في كبر الجرم، بحسب الحسّ في ارتباط مصالح هذا العالم بحركته.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٩٩) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وينظر تفسير الماوردي (٦/٢٨٢) والقرطبي (٢٠/٤٩)..

٢ سقط من: ب..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٠٠) عن ابن زيد..
قوله :﴿ والنهار إِذَا جَلاَّهَا ﴾، الفاعل : ضمير النهار.
وقيل : عائد على الله تعالى، والضمير المنصوب، إمَّا للشمس، وإما للظُّلمة، وإما للأرض.
ومعنى «جلاها » أي : كشفها، فمن قال : هي «الشمس »، فالمعنى : أنه يبين بضوئه جرمها، ومن قال : هي «الظلمة »، فهي ون لم يجر لها ذكر، كقولك : أضحتْ باردةً، تريد : أضحت غداتنا باردة، وهو قول الفراء والكلبي وغيرهما.
ومن قال : هي الدنيا والأرض، وإن لم يجر لهما ذكر، كقوله :﴿ حتى تَوَارَتْ بالحجاب ﴾ [ ص : ٣٢ ].
قوله :«إذَا تَلاهَا »، وما بعده فيه إشكال ؛ لأنه إن جعل شرطاً اقتضى جواباً، ولا جواب لفظاً، وتقديره غير صالح، وإن جُعِلَ محضاً استدعى عاملاً وليس هنا عامل إلا فعل القسم حال ؛ لأنه إنشاء، و«إذا » ظرف مستقبل، والحال لا يعمل في المستقبل.
ويخص «إذا » وما بعدها إشكال آخر ذكره الزمخشري، قال١ : فإن قلت : الأمر في نصب «إذَا » معضل، لأنك لا تخلو إمَّا أن تجعل الواو عاطفة، فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك :«مررت أمس بزيد واليوم عمرو »، وإمَّا أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه.
قلت : الجواب فيه : أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحاً كلياً، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادة مسدهما معاً، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو، فحقهن أن يكنّ عوامل على الفعل، والجار جميعاً، كما تقول :«ضَرب زيد بكراً وعمرو خالداً »، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام «ضرب » الذي هو عاملهما انتهى.
وقال أبُو حيَّان٢ : أما قوله في واوات العطف :«فتنصب وتجر »، فليس هذا بالمختار على أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه، ثم إن الإنشاء حجة في ذلك.
وقوله :«فتقع في العطف على عاملين »، ليس ما في الآية من العطف عاملين، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب، على اسمين مجرور ومنصوب، فصرف العطف لم ينب مناب عاملين، وذلك نحو قولك : مررت بزيد قائماً وعمرو جالساً ؛ وأنشد سيبويه في كتابه :[ الطويل ]
٥٢١٩- فَلَيْسَ بِمعروفٍ لَنا أنْ نَرُدَّهَا صِحَاحاً ولا مُسْتنكَرٌ أن تُعَقَّرَا٣
فهذا من عطف مجرور ومرفوع ؛ والعطف على عاملين فيه أربعة مذاهب، ونسب الجواز إلى سيبويه.
وقوله في نحو قولك :«مررت أمس بزيد واليوم عمرو »، هذا المثال مخالف لما في الآية، بل وزان ما في الآية :«مررت بزيد أمس وعمرو اليوم » ونحن نجيز هذا.
وأمَّا قوله :«على استكراه »، فليس كما ذكر، بل كلام الخليل على المنع.
قال الخليل في قوله تعالى :﴿ والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى ﴾ [ الليل : ١-٣ ] :«الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء ».
وأما قوله :«إن واو القسم ليس يطرح معها إبراز الفعل اطراحاً كلياً » فليس هذا الحكم مجمعاً عليه، بل أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو، فتقول :«أقسم، أو أحلف والله لزيد قائم ».
وأما قوله :«والواوات العواطف نوائب عن هذا » إلى آخره، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل، وليس هذا بالمختار.
قال : والذي يقول : إن المُعضلَ هو تقدير العامل في «إذا » بعد الإقسام، كقوله تعالى :﴿ والنجم إِذَا هوى ﴾ [ النجم : ١ ]، ﴿ والليل إِذْ أَدْبَرَ والصبح إِذَآ أَسْفَرَ ﴾ [ المدثر : ٣٣، ٣٤ ]، ﴿ والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [ الشمس : ٢-٤ ]، وما أشبهها ف «إذا » ظرف مستقبل، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف ؛ لأنه فعل إنشائي، فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه أي وطلوع النجم، ومجيء الليل، لأنه معمول لذلك الفعل [ فالطلوع حال، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل، سيما إن كان جزماً ]٤، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه، ويكون ذلك العامل في موضع الحال، وتقديره : والنجم كائناً إذا هوى والليل كائناً إذا يغشى، لأنه لا يلزم كائناً منصوباً بالعامل، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً، وأيضاً، فقد يكون المقسم به جثة، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث كما لا تكون أخباراً. انتهى ما رد به أبو حيان وما استشكله من أمر العامل في «إذا ».
قال شهاب الدين٥ : المختار أن حرف العطف لا يعمل لقيامه مقام العامل، فلا يلزم أبا القاسم لأنه يختار القول الآخر، وقوله «ليس ما في الآية من العطف على عاملين » ممنوع بل فيه العطف على عاملين ولكنه في غموض، وبيان أنه من العطف على عاملين، أن قوله :﴿ والنهار إِذَا جَلاَّهَا ﴾ - هاهنا - معمولان، أحدهما مجرور وهو «النهار » والآخر منصوب وهو الظرف عطفاً على معمول عاملين والعاملان هنا في فعل المقسم به، الناصب ل «إذا » الأولى، وواو القسم الجارة، فقد تحقق معك عاملان، لهما معمولان، فإذا عطفت مجروراً على مجرور، وظرفاً على ظرف، معمولين لعاملين، لزم ما قاله أبو القاسم، وكيف يجهل هذا مع التأمل والتحقيق ؟ !.
وأما قوله :«وأنشد سيبويه » إلى آخره، فهو اعتراف منه بأنه من العطف على عاملين، غاية ما في الباب أنه استند إلى حكمه لسيبويه، وأما قوله : أجاز ابن كيسان، فلا يلزم مذهبه، وأما قوله : فالمثال ليس كالآية بل وزانها، إلى آخره، فصحيح لما فيه من تقديم الظرف الثاني على المجرور والمعطوف والآية والظرف فيها متأخر، وإنما مراد الزمخشري وجود معمول عاملين، وهو موجود في المثال المذكور إلا أن في الآية إشكالاً آخر، وهو كالتكرير للمسألة، وأما قوله : بل كلام الخليل يدل على المنع، إلى آخره، فليس فيه ردٌّ عليه بالنسبة إلى قصده بل فيه تقوية لما قال، غاية ما في الباب أنه عبر بالاستكراه عن المنع، ولم يفهم المنع، وقوله : ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف، إلى آخره، فأقول : بل يجوز تقديره، وهو العامل، ولا يلزم ما قاله من اختلاف الزمانين، لأنه يجوز أن يقسم [ الآن بطلوع النجم في المستقبل، فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل، ويجوز أن يقسم ]٦ بالشيء الذي سيوجد وقوله «ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه » إلى آخره، ليس بممنوع بل يجوز ذلك ويكون حالاً مقدرة، وقوله «ويلزم ألاَّ يكون له عامل » ليس كذلك بل له عامل وهو فعل القسم، ولا يضر كونه إنشائياً، لأن الحال مقدرة كما تقدم، وقوله «وقد يكون المقسم به جثة » جوابه : يقدر حينئذ حدث، يكون الظرف الزماني حالاً عنه وسئل ابن الحاجب عن هذه المسألة، فأجاب بنحو ما ذكرناه والله اعلم، ولا يخلو الكلام فيها من بحث.
١ الكشاف ٤/٧٥٨..
٢ البحر المحيط ٨/٣٧٤..
٣ البيت للنابغة الجعدي ينظر ديوانه ص ٥٠، وأمالي المرتضى ١/٢٦٨ وجمهرة أشعار العرب ٢/٧٨٥، وشرح أبيات سيبويه ١/٢٤١، والكتاب ١/٦٤ وخزانة الأدب ٧/١٨١، والمقتضب ٤/١٩٤، ٢٠٠..
٤ سقط من أ..
٥ ينظر: الدر المصون ٦/٥٢٩..
٦ سقط من ب..
قوله :﴿ والليل إِذَا يَغْشَاهَا ﴾. المفعول «الشمس » : أي : يغشى الشمس فيذهب بضوئها عند سقوطها، قاله مجاهد١.
وقيل : للأرض أي : يغشى الدنيا بالظلمة، فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور. وجيء ب «يَغْشَاهَا » مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل ؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب «إذ غشيها » فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٥٠) عن مجاهد..
قوله :﴿ والسمآء وَمَا بَنَاهَا ﴾. في «ما » هذه وجهان :
أحدهما : أن «ما » موصولة بمعنى «الذي » وبه استشهد من يجوز وقوعها على العقلاء، ولأن المراد به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسن ومجاهد وأبو عبيدة، واختاره ابن جرير١.
والثاني : مصدر، أي وبنائها، وإليه ذهب الزجاج والمبرد، وهذا منهما بناء على أنها مختصة بغير العقلاء.
واعترض على هذا القول بأنه يلزم أن يكون القسم بنفس المصادر : بناء السماء وطحو الأرض، وتسوية النفس، وليس المقصود إلاَّ القسم بفاعل هذه الأشياء، وهو الرب تعالى، وأجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أن يكون على حذف مضاف، أي : ورب بناء السماء ونحوه.
والثاني : أنه لا غرو لا يجوز في الإقسام بهذه الأشياء، كما أقسم سبحانه وتعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمخشري٢ :«جعلت «ما » مصدرية في قوله «وما بناها »، «وما طحاها »، و«ما سواها »، وليس بالوجه، لقوله «فألهمها »، وما يؤدي إليه من فساد النظم، والوجه أن تكون موصولة، وإنما أوثرت على «من » لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفسٍ والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم : سبحان من سخركن لنا » انتهى.
[ يعني أن الفاعل في «فألهمها » عائد على الله تعالى، فليكن في بنائها كذلك ]٣.
وحينئذ يلزم عوده على شيء، وليس هنا ما يمكن عوده عليه غير «ما » فتعين أن تكون موصولة.
قال أبو حيان :«أما قوله «وليس بالوجه »، لقوله تعالى :﴿ فَأَلْهَمَهَا ﴾ يعني من عود الضمير في ﴿ فَأَلْهَمَهَا ﴾ على الله تعالى، فيكون قد عاد على مذكور، وهو «ما » المراد به «الذي »، قال : ولا يلزم ذلك، لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام، في «بَنَاهَا » ضمير عائد على الله تعالى، أي : وبناها هو، أي : الله تعالى، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً، فتقول : عجبت مما ضرب عمرو، تقديره : من ضرب عمرو هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعود الضمير على ما يفهمُ من سياق الكلام كثير.
وقوله «وما يؤدي إليه من فساد النظم » ليس كذلك، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر.
وقوله «وإنما أوثرت » إلى آخره، لا يراد ب «ما » ولا «من » الموصولتين، معنى الوصلية٤، لأنهما لا يوصف بهما «ما » دون «من ».
وقوله «في كلامهم » إلى آخره، تأوله أصحابنا على أن «سبحان » علم، و «ما » مصدرية ظرفية ».
قال شهاب الدين٥ : أما ما رد به عليه من كونه يعود على ما يفهم من السياق، فليس يصلح رداً ؛ لأنه إذا دار الأمر بين عوده على ملفوظ وبين غير ملفوظ به، فعوده على الملفوظ به أولى ؛ لأنه الأصل وأما قوله : فلا ينفرد به «ما » دون «من »، فليس مراد الزمخشري أنها توصف بها وصفاً صريحاً، بل مراده أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته، ولذلك مثل النحويون بقوله تعالى :﴿ فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ ﴾ [ النساء : ٣ ].
وقالوا : تقديره : فانكِحُوا الطَّيِّب من النِّساءِ، ولا شك أن هذا الحكم تنفرد به «ما » دون «من ».
١ ينظر: جامع البيان ١٢/٦٠٠-٦٠١..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٧٥٩..
٣ سقط من ب..
٤ في أ: الوصفية..
٥ ينظر الدر المصون ٦/٥٣١..
قوله :﴿ والأرض وَمَا طَحَاهَا ﴾. أي : وطحوها، وقيل : من طحاها : أي بسطها، قال عامة المفسرين : أي دحاها.
قال الحسن ومجاهد وغيرهما : طحاها ودحاها : واحد، أي : بسطها من كل جانب١.
والطَّحْوُ : البسطُ، طحا، يطحو، طحواً، وطحى يطحى طحياً، وطحيت : اضطجعت، عن أبي عمرو، وعن ابن عباس : طحاها : أي قسمها٢، وقيل : خلقها ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
٥٢٢٠- ومَا تَدْرِي جَذيمةُ مَنْ طَحاهَا ولا مَنْ سَاكِنُ العَرْشِ الرَّفيعِ٣
قال الماوردي : ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز ؛ لأنه حياة لما خلق عليها.
ويقال في بعض أيمان العرب : لا، والقمر الطاحي، أي : المشرق المرتفع.
قال أبو عمرو : طحا الرجل إذا ذهب في الأرض، يقال : ما أدري أين طحا ؟.
ويقال : طحا به قلبه، إذا ذهب به كلِّ شيء ؛ قال علقمة :[ الطويل ]
٥٢٢١- طَحَا بِكَ قَلبٌ في الحِسانِ طَرُوب***. . . ٤
قال ابن الخطيب٥ : وإنما أخر هذا عن قوله تعالى :﴿ والسمآء وَمَا بَنَاهَا ﴾ لقوله :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٠١) عن مجاهد وابن زيد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠١) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٠٦) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
٣ ينظر القرطبي ٢٠/٥..
٤ صدر بيت لعلقمة الفحل، وعجزه:
*** يعيد الشباب عصر حان مشيب ***
ينظر ديوانه ص ٣٣، والأضداد ص ١٤٩، وخزانة الأدب ٤/٣٩٢، ١١/٢٨٩، وجمهرة اللغة ص ٩٩، ورصف المباني ص ٣٥٤، والمفضليات ص ٣٩١، وابن الشجري ٢/٢٦٧، ومعاهد التنصيص ١/٦٣، والدر المصون ٦/٥٣١..

٥ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٧٤..
قوله :﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾. قيل : المعنى، وتسويتها، ف «ما » مصدرية.
وقيل : المعنى، ومن سواها، وهو الله تعالى، قيل : المراد بالنفس : آدم عليه الصلاة والسلام.
وقيل : كلُّ نفس منفوسةٍ، فما التنكير إلا لتعظيمها، أي نفس عظيمة، آدم عليه الصلاة والسلام وإما للتكثير، كقوله تعالى :﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ ﴾ [ التكوير : ١٤ ]، و«سوَّى » بمعنى هيأ.
وقال مجاهد : سوَّى خلقها وعدَّل، وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم، أي أقسم الله تعالى بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه - سبحانه وتعالى -.
قوله :﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا ﴾ أي : عرَّفها طريقَ الفجور والتقوى، قاله ابن عباس ومجاهد١.
وعن مجاهد أيضاً : عرفها الطاعة والمعصية٢.
[ وعن محمد بن كعب - رضي الله عنه - إذا أراد الله تعالى لعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشرّ فعمل به٣.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ألهم المؤمن التقي تقواه وألهم الكافر فجوره٤، وعن قتادة : بين لها فجورها وتقواها٥، والفجور والتقوى مصدران في موضع المفعول ]٦.
قال الواحدي : الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً، وإذا أوقع في قلبه فقد ألزمه إياه، من قولهم : لهم الشيء وألهمه : إذا بلغه، وألهمته ذلك الشيء، أي أبلغته، هذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠١) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٠٢) عن ابن عباس ومجاهد والضحاك..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٥١)..
٤ ينظر المصدر السابق..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٠٢) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٦ سقط من ب..
قوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾. فيه وجهان :
أحدهما : أنه جواب القسم، والأصل : لقد وإنما حذفت لطول الكلام، والثاني : أنه ليس بجواب، وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى :﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، فالجواب محذوف، تقديره [ ليدمرن ]١ الله عليهم، أي : على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحاً - عليه الصلاة والسلام - قال معناه الزمخشري٢. وقدر غيره : لتبعثن.
١ في ب: فدمدم..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٧٦٠..
وقيل : هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى : قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها.
وفاعل «زكّاها » و «دسّاها »، الظاهر أنه ضمير «مَنْ ».
وقيل : ضمير الباري تعالى، أي : أفلح وفاز من زكاها بالطاعة، وقد خاب من دساها أي : خسرت نفسٌ دسها الله تعالى بالمعصية، وأنحى الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه١.
قال شهاب الدين٢ : والحق أنه خلاف الظاهر، لا لما قال الزمخشري، بل لمنافرة نظمه للاحتياج إلى عود الضمير على النفس مقيدة بإضافتها إلى ضمير «من ».
وقال ابن عباس : خابت نفس أضلها الله وأغواها.
وقيل : أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، «وخاب » خسر من دس نفسه في المعاصي. قاله قتادة.
وأصل الزكاة : النمو والزيادة، ومنه تزكى الزَّرع إذا كثر معه، ومنه تزكية القاضي الشاهد، لأنه يرفعه بالتعديل.
وقيل : دساها : أغواها، قال :[ الطويل ]
٥٢٢٢- وأَنْتَ الَّذِي دسَّيْتَ عَمْراً فأصْبَحتَ حَلائِلهُ مِنْهُ أرَامِلَ ضُيَّعَا٣
قال أهل اللغة : والأصل، دسها، من التدسيس [ فكثرت الأمثال فأبدل من ثالثها حرف علة كما قالوا : قصيت أظفاري، وأصله قصصت، وتقضي البازي، والتدسية : الإخفاء يعني أخفاه بالفجور، وقد نطق بالأصل الشاعر المتقدم. وقال آخر :[ الكامل ]
٥٢٢٣- ودَسَسْتَ عَمْراً في التُّرَابِ فأصْبَحَتْ***. . . ٤ ]٥
[ وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت سينه ياءً. وقال ابن الأعرابي :«وقَدْ خَابَ من دسَّاهَا » أي : دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم ]٦.
قال الواحدي : فكأنه - تعالى - أقسم على فلاح من طهره وخسارة من خذله لئلا يظن أن المراد بتولي ذلك من غير قضاء سابق، فقوله :«قَدْ أفلَحَ » : هو جواب القسم.
١ ينظر السابق..
٢ الدر المصون ٦/٥٣٢..
٣ ويروى الشطر الثاني:
*** نساؤهم منهم أرامل ضيع ***
ينظر القرطبي ٢٠/٥٢، والبحر ٨/٤٧٢، والدر المصون ٦/٥٣١..

٤ تقدم..
٥ سقط من ب..
٦ سقط من أ..
قوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ﴾. في هذه الباء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها للاستعانة مجازاً، كقولك: «كتبت بالقلم»، وبه بدأ الزمخشري، يعني فعلت التكذيب بطغيانها، كقولك: ظلمني بجرأته على الله تعالى.
والثاني: أنها للتعدية، أي كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغيان، كقوله تعالى: ﴿فَأُهْلِكُواْ بالطاغية﴾ [الحاقة: ٥] قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وكان اسم
363
العذاب الذي جاءها الطغوى، لأنه طغى عليهم. قال ابن الخطيب: وهذا لا يبعد لأن الطغيان مجاوزة [الحد فسمي عذابهم طغوا لأنه كالصيحة مجاوزة] للقدر المعتاد.
والثالث: أنها للسببية، أي: بسبب طغيانها، وهو خروجها عن الحدّ في العصيان قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.
وقال محمد بن كعب: بأجمعها.
وقيل: مصدر، وخرج على هذا المخرج، لأنه أشكل برءوس الآي.
وقيل: إن الأصل «بطُغيانِهَا» إلا أن «فُعلَى» إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واو ليفصل بين الاسم والوصف.
وقرأ العامة: «بطغواها» بفتح الطاء، وهو مصدر بمعنى الطغيان، وإنما قلبت الياء واواً لما تقدم، من الفرق بين الاسم والصفة، يعني أنهم يقرون ياء «فَعْلى» - بالفتح - صفة، نحو جريا، وصديا، ويقلبونها في الاسم، نحو «تَقْوى، وشَرْوى»، وكان الإقرار في الوصف، لأنه أثقل من الاسم والياء أخف من الواو، فلذلك جعلت في الأثقل.
وقرأ الحسن ومحمد بن كعب والجحدري، وحماد: بضم الطاء، وهو أيضاً مصدر، كالرُّجعى والحسنى، إلا أن هذا شاذ، إذ كان من حقه بقاء الياء على حالها، كالسُّقيا، وبابها، وهذا كله عند من يقول: «طغيت طغياناً» بالياء، فأما من يقول: «طغوت» بالواو فالواو أصل عنده. قاله أبو البقاء، وقد تقدم الكلام على اللغتين في البقرة.
قوله: ﴿إِذِ انبعث أَشْقَاهَا﴾. يجوز في «إذ» وجهان:
أحدهما: أن تكون ظرفاً ل «كذبت».
والثاني: أن تكون ظرفاً للطغوى.
و «انبعثت» مطاوع بعثت فلاناً على الأمر فانبعث له، و «أشْقَاهَا» فاعل «انبعَثَ» أي: نهض، والانبعاث: الإسراع، وفيه وجهان:
أحدهما: ان يراد به شخص معين، روي أن اسمه: قدار بن سالف.
364
والثاني: أن يراد به جماعة قال الزمخشري: ويجوز أن يكونوا جماعة للتسوية في «أفعل» التفضيل، إذا أضيف بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وكان يجوز أن يقول: «أشْقَوها». وكان ينبغي أن يقيد، فيقول: إذا أضيف إلى معرفة، لأن المضاف إلى النكرة حكمه الإفراد والتذكير مطلقاً كالمقترن ب «من».

فصل


قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذ انبَعَثَ أشْقَاهَا: انبعث لهَا رجلٌ عزيزٌ عارمٌ، منيعٌ في أهلِه، مثلُ أبي زمعة»
الحديث.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال له: «» أتَدْرِي من أشْقَى الأوَّلينَ «؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» عَاقرُ النَّاقَةِ «، ثم قال:» أتَدْرِي من أشْقَى الآخرينَ «؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال:» قَاتِلُكَ «».
قوله: ﴿فَقَالَ لَهُمْ﴾. إن كان المراد ب «أشْقَاهَا» جماعة، فعود الضمير من «لهم» عليهم واضح وإن كان المراد به علماً بعينه، فالضمير من «لهم» يعود على «ثمود»، والمراد برسول الله يعني: صالحاً.
وقوله تعالى: ﴿نَاقَةَ الله﴾ منصوب على التحذير، أي احذروا ناقة الله فلا تقربوها، وأضمار الناصب هنا واجب لمكان العطف، فإن إضمار الناصب يجب في ثلاثة مواضع:
أحدها: أن يكون المحذر نفس «إياك» وبابه.
الثاني: أنه يجب فيه عطف.
الثالث: أنه يوجد فيه تكرار، نحو «الأسد الأسد والصبيََّ الصبيَّ، والحذرَ الحذرَ».
وقيل: ذروا ناقة الله، كقوله تعالى: ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله﴾ [هود: ٦٤]. وقرأ زيد بن علي: «ناقَةُ اللهِ» رفعاً، على إضمار مبتدأ مضمر، أي: هذه ناقة الله فلا تتعرضوا لها.
365
قوله: ﴿وَسُقْيَاهَا﴾. أي ذروها وشربها، فإنهم لما اقترحوا الناقة، أخرجها لهم من الصخرة وجعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق عليهم، فكذبوه يعني صالحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في وعيدهم بالعذاب.
﴿فَعَقَرُوهَا﴾ أي: عقرها الأشقى، وأضاف إلى الكل، لأنهم رضوا بفعله.
قال قتادة: بلغنا أنه لم يعقر حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم.
وقال الفراء: عقرها اثنان، والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذا خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم، فلهذا لم يقل: أشقياها.
قوله: ﴿فَدَمْدمَ﴾. الدمدمة: قيل: الإطباق، يقال: دمدمت عليه القبر، أي: أطبقته عليه، أي: أهلكهم وأطبق عليهم العذاب ﴿بِذَنبِهِمْ﴾ الذي هو الكفر والتكذيب والعقر.
وقال المؤرج: الدمدمة: الإهلاك باستئصال.
وروى الضحاك عن ابن عباس: «دمدم عليهم، دمر عليهم ربهم» بذَنبِهم «أي: بجرمهم.
وقال الفراء:»
فدَمْدَمَ «أي: أرجف. وحقيقة الدمدمة: تضعيف العذاب وترديده، ويقال: دممت على الشيء: أي: أطبقت عليه، فإذا كرر الإطباق قلت: دمدمت. وفي» الصحاح «: ودمدمت الشيء: إذا ألصقته بالأرض وطحطحته.
[قال القشيري: وقيل دمدمت على الميت التراب أي سويته عليه، والمعنى على هذا فجعلهم تحت التراب فسواها أي فسوى عليهم الأرض، وعلى الأول: فسواها: أي فسوى الدمامة، وقيل: الدمدمة حكاية صوت الهدة، وذلك أن الصيحة أهلكتهم فأتت على صغيرهم وكبيرهم].
وقال ابن الأنباري: دمدم: أي: غضب، والدمدمة: الكلام الذي يزعج الرجل ودمدمت الثوب طليته بالصيغ والباء في بذنبهم للسببية.
وقرأ ابن الزبير: «فدهدم»
بهاء بين الدالين بدل الميم، وهي بمعنى القراءة المشهورة.
قال القرطبي: «وهما لغتان، كما يقال: امتقع لونه، وانتقع».
366
قوله: ﴿فَسَوَّاهَا﴾. الضمير المنصوب يجوز عوده على «ثمود» باعتبار القبيلة كما أعاده في قوله تعالى ﴿بِطَغْوَاهَآ﴾ ويجوز عوده على «الدمدمة» والعقوبة أي: سواها بينهم، فلم يفلت منهم أحد.
قوله: ﴿وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾. قرأ نافع وابن عامر: «فَلاَ» بالفاء، والباقون: بالواو، ورسمت في مصاحف المدينة والشام بالفاء، وفي غيرها بالواو، فقد قرأ كل بما يوافق رسم مصحفه.
وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقرأ: ولم يخف، وهي مؤيدة لقراءة الواو. ذكره الزمخشري.
فالفاء تقتضي التعقيب، وهو ظاهر، والواو يجوز أن تكون للحال، وأن تكون لاستئناف الإخبار.
قال القرطبي: روي أن ابن وهب وابن القاسم قالا: أخرج إلينا مالك مصحفاً لجده، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين كتب المصاحف، وفيه: «ولاَ يَخافُ» بالواو وكذا هي في مصاحف أهل مكة والعراق: بالواو، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم.
وضمير الفاعل في «يَخَافُ» الأظهر عوده على الرب تبارك وتعالى، لأنه أقرب مذكور، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، والهاء في «عُقْبَاهَا» ترجع إلى الفعلة، وذلك لأنه تعالى يفعل ذلك بحق، وكل من فعل فعلاً بحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله.
وقيل: المراد تحقيق ذلك الفعل والله تعالى أجل من أن يوصف بذلك.
وقيل: المعنى أنه بالغ في الإعذار إليهم مبالغة من لا يخاف عاقبة عذابهم.
وقيل: يرجع إلى رسول الله، أي: لا يخاف صالح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عقبى هذه العقوبة لإنذاره إياهم، ونجاه الله حين أهلكهم.
وقال السديُّ والضحاك والكلبي: إن الضمير يرجع إلى «أشْقَاهَا»، أي: انبعث لعقرها والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء، وهو مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أيضاً.
في الكلام تقديم وتأخير: إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها، وعقبى الشيء: خاتمته.
وروى الثعلبي عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ ﴿والشمس وَضُحَاهَا﴾ فكَأَنَّمَا تصدَّق بِكُلِّ شيءٍ طَلعتْ عليْهِ الشَّمْسُ والقَمرُ».
367
سورة الليل
368
قوله :﴿ إِذِ انبعث أَشْقَاهَا ﴾. يجوز في «إذ » وجهان :
أحدهما : أن تكون ظرفاً ل «كذبت ».
والثاني : أن تكون ظرفاً للطغوى.
و«انبعثت » مطاوع بعثت فلاناً على الأمر فانبعث له، و«أشْقَاهَا » فاعل «انبعَثَ » أي : نهض، والانبعاث : الإسراع، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يراد به شخص معين، روي أن اسمه : قدار بن سالف.
والثاني : أن يراد به جماعة قال الزمخشري١ : ويجوز أن يكونوا جماعة للتسوية في «أفعل » التفضيل، إذا أضيف بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وكان يجوز أن يقول :«أشْقَوها ». وكان ينبغي أن يقيد، فيقول : إذا أضيف إلى معرفة، لأن المضاف إلى النكرة حكمه الإفراد والتذكير مطلقاً كالمقترن ب «من ».

فصل


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذ انبَعَثَ أشْقَاهَا : انبعث لهَا رجلٌ عزيزٌ عارمٌ، منيعٌ في أهلِه، مثلُ أبي زمعة » الحديث٢.
وروي عن علي - رضي الله عنه - : أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال له :«أتَدْرِي من أشْقَى الأوَّلين »َ ؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال عليه الصلاة والسلام : عَاقرُ النَّاقَةِ، ثم قال :«أتَدْرِي من أشْقَى الآخرينَ » « ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال :«قَاتِلُكَ »٣.
١ الكشاف ٤/٧٦٠..
٢ أخرجه البخاري (٨/٥٧٥) كتاب التفسير: باب سورة الشمس رقم (٤٩٤٢) ومسلم (٤/٢١٩١) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب النار يدخلها الجبارون حديث (٤٩/٢٨٥٥) وأحمد (٤/١٧) والترمذي (٥/٤١٠) رقم (٣٣٤٣) والنسائي في "الكبرى" (٦/٥١٥) والطبري في "تفسيره" (١٢/٦٠٥) من حديث عبد الله بن زمعة وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٧٠٢) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه..

٣ له شاهد من حديث عمار بن ياسر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠٢) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والبغوي وأبي نعيم في "الدلائل"..
قوله :﴿ فَقَالَ لَهُمْ ﴾. إن كان المراد ب «أشْقَاهَا » جماعة، فعود الضمير من «لهم » عليهم واضح وإن كان المراد به علماً بعينه، فالضمير من «لهم » يعود على «ثمود »، والمراد برسول الله يعني : صالحاً.
وقوله تعالى :﴿ نَاقَةَ الله ﴾ منصوب على التحذير، أي احذروا ناقة الله فلا تقربوها، وإضمار الناصب هنا واجب لمكان العطف، فإن إضمار الناصب يجب في ثلاثة مواضع :
أحدها : أن يكون المحذر نفس «إياك » وبابه.
الثاني : أنه يجب فيه عطف.
الثالث : أنه يوجد فيه تكرار، نحو «الأسد الأسد والصبيََّ الصبيَّ، والحذرَ الحذرَ ».
وقيل : ذروا ناقة الله، كقوله تعالى :﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله ﴾ [ هود : ٦٤ ]. وقرأ زيد بن علي :«ناقَةُ اللهِ » رفعاً، على إضمار مبتدأ مضمر، أي : هذه ناقة الله فلا تتعرضوا لها.
قوله :﴿ وَسُقْيَاهَا ﴾. أي ذروها وشربها، فإنهم لما اقترحوا الناقة، أخرجها لهم من الصخرة وجعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق عليهم،
فكذبوه يعني صالحاً - عليه الصلاة والسلام - في وعيدهم بالعذاب.
﴿ فَعَقَرُوهَا ﴾ أي : عقرها الأشقى، وأضاف إلى الكل، لأنهم رضوا بفعله.
قال قتادة : بلغنا أنه لم يعقر حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم١.
وقال الفراء : عقرها اثنان، والعرب تقول : هذان أفضل الناس، وهذا خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم، فلهذا لم يقل : أشقياها.
قوله :﴿ فَدَمْدمَ ﴾. الدمدمة : قيل : الإطباق، يقال : دمدمت عليه القبر، أي : أطبقته عليه، أي : أهلكهم وأطبق عليهم العذاب ﴿ بِذَنبِهِمْ ﴾ الذي هو الكفر والتكذيب والعقر.
وقال المؤرج : الدمدمة : الإهلاك باستئصال.
وروى الضحاك عن ابن عباس :«دمدم عليهم، دمر عليهم ربهم «بذَنبِهم » أي : بجرمهم »٢.
وقال الفراء :» فدَمْدَمَ «أي : أرجف. وحقيقة الدمدمة : تضعيف العذاب وترديده، ويقال : دممت على الشيء : أي : أطبقت عليه، فإذا كرر الإطباق قلت : دمدمت. وفي «الصحاح »٣ : ودمدمت الشيء : إذا ألصقته بالأرض وطحطحته.
[ قال القشيري : وقيل دمدمت على الميت التراب أي سويته عليه، والمعنى على هذا فجعلهم تحت التراب فسواها أي فسوى عليهم الأرض، وعلى الأول : فسواها : أي فسوى الدمامة، وقيل : الدمدمة حكاية صوت الهدة، وذلك أن الصيحة أهلكتهم فأتت على صغيرهم وكبيرهم ]٤.
وقال ابن الأنباري : دمدم : أي : غضب، والدمدمة : الكلام الذي يزعج الرجل ودمدمت الثوب طليته بالصيغ والباء في بذنبهم للسببية.
وقرأ ابن الزبير :«فدهدم » بهاء بين الدالين بدل الميم٥، وهي بمعنى القراءة المشهورة.
قال القرطبي٦ :«وهما لغتان، كما يقال : امتقع لونه، وانتقع ».
قوله :﴿ فَسَوَّاهَا ﴾. الضمير المنصوب يجوز عوده على «ثمود » باعتبار القبيلة كما أعاده في قوله تعالى ﴿ بِطَغْوَاهَآ ﴾ ويجوز عوده على «الدمدمة » والعقوبة أي : سواها بينهم، فلم يفلت منهم أحد.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٠٦) عن قتادة..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٥٣)..
٣ ينظر الصحاح ٥/١٩٢١ (دمم)..
٤ سقط من ب..
٥ ينظر : المحرر الوجيز ٥/٤٨٩، والبحر المحيط ٨/٤٧٦، والدر المصون ٦/٥٣٣..
٦ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٥٣..
قوله :﴿ وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾. قرأ نافع١ وابن عامر :«فَلاَ » بالفاء، والباقون : بالواو، ورسمت في مصاحف المدينة والشام بالفاء، وفي غيرها بالواو، فقد قرأ كل بما يوافق رسم مصحفه.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ : ولم يخف، وهي مؤيدة لقراءة الواو. ذكره الزمخشري٢.
فالفاء تقتضي التعقيب، وهو ظاهر، والواو يجوز أن تكون للحال، وأن تكون لاستئناف الإخبار.
قال القرطبي٣ : روي أن ابن وهب وابن القاسم قالا : أخرج إلينا مالك مصحفاً لجده، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حين كتب المصاحف، وفيه :«ولاَ يَخافُ » بالواو وكذا هي في مصاحف أهل مكة والعراق : بالواو، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم.
وضمير الفاعل في «يَخَافُ » الأظهر عوده على الرب تبارك وتعالى، لأنه أقرب مذكور، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، والهاء في «عُقْبَاهَا » ترجع إلى الفعلة، وذلك لأنه تعالى يفعل ذلك بحق، وكل من فعل فعلاً بحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله.
وقيل : المراد تحقيق ذلك الفعل والله تعالى أجل من أن يوصف بذلك.
وقيل : المعنى أنه بالغ في الإعذار إليهم مبالغة من لا يخاف عاقبة عذابهم.
وقيل : يرجع إلى رسول الله، أي : لا يخاف صالح - عليه الصلاة والسلام - عقبى هذه العقوبة لإنذاره إياهم، ونجاه الله حين أهلكهم.
وقال السديُّ والضحاك والكلبي : إن الضمير يرجع إلى «أشْقَاهَا »، أي : انبعث لعقرها والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً٤.
في الكلام تقديم وتأخير : إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها، وعقبى الشيء : خاتمته.
١ ينظر: السبعة ٦٨٩، والحجة ٦/٤٢٠، وإعراب القراءات ٢/٤٩١، وحجة القراءات ٧٦٦..
٢ الكشاف ٤/٧٦١..
٣ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٥٣..
٤ ينظر القرطبي (٢٠/٥٣)..
Icon