معنى فاتحة الكتاب وأسمائها
الفاتحة في الأصل : أولُ ما من شأنه أن يُفتح، كالكتاب والثوب، أُطلقت عليه لكونه واسطةً في فتحِ الكل، ثم أُطلقت على أول كلِّ شيء فيه تدريجٌ بوجه من الوجوه كالكلام التدريجي حصولاً، والسطور والأوراق التدريجية قراءةً وعداً والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، أو هي مصدر بمعنى الفتح، أطلقت عليه تسميةً للمفعول باسم المصدر، إشعاراً بأصالته كأنه نفس الفتح، فإن تعلقه به بالذات، وبالباقي بواسطته، لكن لا على معنى أنه واسطة في تعلقه بالباقي ثانياً. حتى [ لا ]١ يرد أنه لا يتسنى في الخاتمة، لما أن خَتْم الشيء عبارة عن بلوغ آخره، وذلك إنما يتحقق بعد انقطاع الملابسة عن أجزائه الأُوَل، بل على معنى أن الفتح المتعلق بالأول فتح له أولاً وبالذات، وهو بعينه فتح للمجموع بواسطته، لكونه جزءاً منه، وكذا الكلامُ في الخاتمة فإن بلوغَ آخِرِ الشيء يعرِضُ للآخر أولاً وبالذات، وللكل بواسطته، على الوجه الذي تحقَّقْتَه.
والمراد بالأول ما يعُم الإضافيَّ فلا حاجة إلى الاعتذار بأن إطلاقَ الفاتحة على السورة الكريمة بتمامها باعتبار جزئها الأول، والمرادُ بالكتاب هو المجموع الشخصي، لا القدر المشترك بينه وبين أجزائه، على ما ( هو )٢ اصطلاحُ أهل الأصول، ولا ضيرَ في اشتهار السورة الكريمة بهذا الاسم في أوائل عهد النبوة، قبل تحصيل المجموع بنزول الكل، لما أن التسمية من جهة الله عزَّ اسمه أو من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإذن ؛ فيكفي فيها تحصُّلُهُ باعتبار تحققه في علمه عزَّ وجل أو في اللوح أو باعتبار أنه أُنزل جُملةً إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثم كان يُنزِله على النبي صلى الله عليه وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنةٍ كما هو المشهور. والإضافة بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى مِنْ كما في خاتم فضة، لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه، لا جزئي له، ومدار التسمية كونه مبدأً للكتاب على الترتيب المعهود، لا في القراءة في الصلاة، ولا في التعليم ولا في النزول كما قيل.
أما الأول فبيِّنٌ، إذ ليس المرادُ بالكتاب القدرَ المشترك الصادقَ على ما يقرأ في الصلاة حتى تُعتبرَ في التسمية مبدئيتَها له. وأما الأخيران فلأن اعتبار المبدئية من حيث التعليمُ، أو من حيث النزولُ يستدعي مراعاةَ الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين، ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والنزولي ليسا على نسق الترتيب المعهود.
- وتسمى أمَّ القرآن لكونها أصلاً ومنشأً له، إما لمبدئيتها له، وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عز وجل، والتعبُّدِ بأمره ونهيه، وبيانِ وعدِه ووعيده، أو على جملةِ معانيه من الحِكَم النظرية، والأحكام العملية، التي هي سلوكُ الصراط المستقيم، والاطلاعُ على معارج السعداء، ومنازلِ الأشقياء، والمرادُ بالقرآن هو المراد بالكتاب.
- وتسمى أمَّ الكتاب أيضاً كما يسمَّى بها اللوحُ المحفوظ، لكونِهِ أصلاً لكل الكائنات، والآياتُ الواضحةُ الدالة على معانيها - لكونها بينةً - تُحْمل عليها المتشابهاتُ، ومناطُ التسمية ما ذُكر في أم القرآن، لا ما أورده الإمامُ البخاري في صحيحه من أنه يُبدأ بقراءتها في الصلاة، فإنه مما لا تعلق له بالتسمية كما أشير إليه، وتسمى سورةَ الكنز، لقوله عليه السلام :« إنَّها أُنْزِلَتْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ » أو لِمَا ذُكِرَ في أُمِّ القُرآن، كما أنه الوجهُ في تسميتها الأساسَ، والكافية، والوافية، وتسمى سورةَ الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة، لاشتمالها عليها، وسورةَ الصلاة لوجوب قراءتها فيها، وسورةَ الشفاء والشافية لقوله عليه السلام :« هي شفاءٌ من كُلِّ داءٍ »، والسبع المثاني لأنها سبعُ آيات تُثَنَّى في الصلاة، أو لتكرّر نزولِها على ما رُوي أنها نزلت مرة بمكَّة حين فرضت الصلاة وبالمدينة أخرى حين حُوِّلت القبلة، وقد صح أنها مكيةٌ لقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني ﴾ [ الحجر، الآية ٨٧ ] وهو مكي بالنص.
٢ ورد في الأصل "على ما عليه"..
و ﴿الله﴾ أصله الإله فحذفت همزته على غير قياس كما يُنْبِىءُ عنه وجوب الإدغام وتعويض الألف واللام عنها حيث لزماه وجردا عن معنى التعريف ولذلك قيل يالله بالقطع فإن المحذوف القياسيَّ في حكم الثابت فلا يحتاج إلى التدارك بما ذُكِرَ من الإدغام والتعويض وقيل على قياس تخفيف الهمزة فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسمّاه عما سواه بمالا يوجد فيه من نعوت الكمال والإله في الأصل اسمُ جنسٍ يقع على كل معبود بحقٍ أو باطل أي مع قطع النظرِ عن وصف الحقية والبطلان لا مع اعتبارِ احدهما لا بعينه ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصَّعِقْ وأما الله بحذف الهمزة فعلمٌ مختصٌّ بالمعبود بالحقِّ لم يطلق على غيره أصلاً واشتقاقه من الإلاهة والأُلوهَة والأُلوهِية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري على أنه اسمٌ منها بمعنى المألوه كالكتاب لا على أنه صفة منها بدليل أنه يوصف ولا يوصف به حيث يُقال إله واحد ولا يُقال شيء إلهٌ كما يُقال كتاب مرقوم ولا يقال شيء كتاب والفرق بينهما أن الموضوع له في الصفة هو الذاتُ المبهمةُ باعتبار اتصافِها بمعنىً معيّنٍ وقيامِهِ بها فمدلولها مركبٌ من ذاتٍ مُبهمةٍ لم يُلاحظ معها خصوصية أصلاً ومِن معنىً معينٍ قائمٍ بها على أن مَلاك الأمرِ تلك الخصوصية فبأيِّ ذاتٍ يقومُ ذلك المعنى يصحّ إطلاقُ الصفة عليها كما في الأفعال ولذلك تَعْمَلُ عملها كاسمي الفاعلِ والمفعول والموضوع له في الاسم المذكور هو الذاتُ المعينة والمعنى الخاص فمدلوله مركب من ذَيْنِكَ المعنيين من غيرِ رجحانٍ للمنى على الذات كما في الصفة ولذلك لم يعمل عملها وقيل اشتقاقه من إلِهَ بمعنى تحير لأنه سبحانه يحارُ في شأنه العقول والأفهام وأما أَلَهَ كعَبَدَ وزناً ومعنىً فمشتق من الإلَه المشتق من إلِهَ بالكسر وكذا تألَّه واستَأْلَه اشتقاق استنوق واستحجر من الناقة والحَجَر وقيل من أَلِهَ إلى فلان أي سكن إليه لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الأرواح إلى معرفته وقيل من أَلِهَ إذا فزِع من أمرٍ نزل به وآلَهَهُ غيرُه إذا أجاره إذ العائذُ به تعالى يفزَع إليه وهو يُجيره حقيقة أو في زعمه وقيل أصله لاهٌ على أنه مصدرٌ من لاهَ يَلِيهُ بمعنى احتجب وارتفع أطلق على الفاعل مبالغة وقيل هو اسمُ علمٍ للذات الجليل ابتداء وعليه مدار أمر التوحيد في قولنا لا إله إلاَّ الله ولا يخفى أن اختصاصَ الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن إطلاقُه على غيره أصلاً كافٍ في ذلك ولا يقدَح فيه كونُ ذلك الاختصاصِ بطريق الغَلَبة بعد أن كان اسمَ جنسٍ في الأصل وقيل هو وصف الأصل لكنه لما
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ صفتان مبنيتان من رَحِمَ بعد جعله لازماً بمنزلة الغرائز بنقله إلى رَحُمَ بالضمِّ كما هُوَ المشهورُ وقد قيل إن الرحيم ليس بصفة مشبَّهة بل هي صيغة مبالغة نص عليه سِيبَويه في قولهم هو رحيمٌ فلاناً والرحمة في اللغة رقة القلب والانعطاف ومنه الرَّحِمُ لانعطافها على ما فيها والمراد ههنا التفضل والإحسان وإرادتهما بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسَبّبِهِ البعيد أو القريب فإنَّ أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادىء التي هي انفعالات والأولُ من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى وإنما امتنع صرفُه إلحاقاً له بالأغلب في بابه من غير نظر الى الاختصاص العارض فإنه كما حظِر وجود فعلى حُظِر وجود فعلانة فاعتبارُه يوجب اجتماعَ الصرف وعدمَه فلزم الرجوع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص بأن تقاس إلى نظائرها من باب فعل يفعل فإذا كان كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فَعْلى فيها علم أن هذه الكلمة أيضاً في أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى فتُمنع من الصرف وفيه من المبالغة ما ليس في الرحيم ولذلك قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياسِ تأخيرَه رعايةً لأسلوب الترقي إلى الأعلى كما في قولهم فلانٌ عالمٌ نِحْرير وشجاعٌ باسل وجَوَادٌ فيَّاض لأنه باختصاصه به عز وجل صار حقيقاً بأن يكون قريناً للاسم الجليل الخاص به تعالى ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحقُّ بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها وإفراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة
﴿رَبّ العالمين﴾ بالجر على أنه صفةٌ لله فإن إضافته حقيقيةً مفيدةٌ للتعريف على كل حال ضرورةَ تعيُّن إرادة الاستمرار وقرئ منصوباً على المدح أو بما دلَّ عليهِ الجملةُ السابقة كأنه قيل نحمد الله ربَّ العالمين ولا مساغَ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المُحلى باللام وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر والرب في الأصل مصدرٌ بمعنى التربية وهي تبليغُ الشئ إلى كمالِه شيئاً فشيئاً وُصف به الفاعل مبالغة كالعدل وقيل صفة مشبهة من ربَّه يرُبُّه مثل نمَّه يُنمُّه بعد جعله لازماً بنقله إلى فعُل بالضمِّ كما هو المشهور سُمّي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملِكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيد كربُّ الدار وربُّ الدابة ومنه قوله تعالى فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وقوله تعالى ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ وما في الصحيحين من أنه ﷺ قال لا يَقُل أحدُكم أطعم ربك وضئ ربَّك ولا يَقُلْ أحدُكم ربِّي ولْيَقُل سَيّدي ومولاي فقد قيل إن النهيَ فيه للتنزيه وأما الأ رباب فحيث لم يكن إطلاقُه على الله سبحانه جاز في إطلاقه الإطلاق والتقييد كما في قوله تعالى أأرباب متفرقون خير الآية والعالم اسمٌ لما يُعْلَم به كالخاتَم والقالَب غلب فيما يُعْلَم به الصانعُ تعالى من المصنوعات أي في القَدْرِ المشترك بين أجناسها وبين مجموعِها فإنه كما يُطلق على كل جنسٍ جنسٌ منها في قولهم عالم الأفلاك وعالمُ العناصر وعالمُ النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك يطلق على المجموع أيضاً كما في قولنا العالم بجميع أجزائه مُحْدَث وقيل هو اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين وتناولُه لما سواهم بطريق الاستتباع وقيل أريد به الناسُ فقط فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم من حيث اشتمالُه على نظائِر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعلم بها الصانع كما يعلم بما فيه عالَم على حِيالِه ولذلك أمُر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق فقيل وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ والأول هو الأحق الأظهر وإيثارُ صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع
وإيا ضميرٌ منفصلٌ منصوبٌ وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروفٌ زيدت لتعيين الخطاب والتكلمُ والغَيبةُ لا محلَّ لها من الإعراب كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشواب فما لا يعول عليه وقيل هي الضمائر وإيا دِعامةٌ لها لتُصيرَها منفصلة وقيل الضمير هو المجموع وقرئ إَيَّاك بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد وهياك بقلب الهمزة هاء والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع ومنه طريقٌ معبّدٌ أي مذَلَّل والعبوديةُ أدنى منها وقيل العبادةُ فعلُ ما يرضَى بهِ الله والعبوديةُ
﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ﴾ صفةٌ للموصول على أنه عبارةٌ عن إحدى الطوائفِ المذكورةِ المشهورةِ بالإنعام عليهم وباستقامة المسْلك ومن ضرورة
﴿أَمِينٌ﴾ اسم فعلٍ هو استجبْ وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسول الله ﷺ عن معنى آمِين فقال افعل بُني على الفتح كأينَ لالتقاء الساكنين وفيه لغتان مدُّ ألفه وقصرُها قال ويرحم الله عبداً قال آمينا وقال أمينَ فزاد الله ما بيننا بعداً عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم لقّنني جبريلُ آمينَ عند فراغي من قراءة فاتحةِ الكتاب وقال إنه كالختم على الكتاب وليست من القرآن وِفاقاً ولكن يسن ختمُ السورة الكريمة بها والمشهورُ عن أبي حنيفةَ رحمَهُ الله أن المصلّيَ يأتي بها مخافتةً وعنه أنه لا يأتي بها الإمامُ لأنه الداعي وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله مثلُه وروَى الإخفاءَ عبدُ اللَّه بنُ مغفّل وأنسُ بنُ مالك عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم
وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله يُجهر بها لما روى وائلُ بنُ حجر أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كان اذا قرأولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته عن رسول الله ﷺ أنه قال لأبيّ بنِ كعب ألا أخبرك بسورة لم ينزِلْ في التوراة والإنجيل والقرآن مثلُها قلت بلى يا رسولَ الله قالَ فاتِحةُ الكتاب إنها السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيتُه وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال إن القومَ ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضياً فيقرأ صبيٌّ من صبيانهم في الكتاب الحمدُ للَّهِ رَبّ العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفعُ عنهم بذلك العذابَ أربعين سنة
سورة البقرة مدنية وهى مائتان وسبع وثمانون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾