تفسير سورة سورة المائدة من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المعروف بـتفسير أبي السعود
.
لمؤلفه
أبو السعود
.
المتوفي سنة 982 هـ
سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون آية.
ﰡ
(يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود) الوفاءُ القيامُ بموجَبِ العَقْد وكذا الإيفاء والعقد هو العهدُ الموَثَّقُ المشبَّه بعقد الحبل ونحوه والمراد بالعقود ما يعمّ جميعَ ما ألزمه الله تعالى عبادَه وعقَده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية وما يعقِدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسنُ دِيناً بأن يُحمل الأمرُ على معنىً يعمّ الوجوبَ والندبَ أُمرَ بذلك أولاً على وجهِ الإجمالِ ثم شُرِعَ في تفصيلِ الأحكام التي امر بالايفاء بها وبدء بما يتعلّق بضروريات مَعايشِهم فقيل (احلت بَهِيمَةُ الانعام) البهيمةُ كلُّ ذات أربع وإضافتُها إلى الأنعام للبيان كثوب الخزّ وإفرادُها لإرادة الجنس أي أحِلّ لكم أكلُ البهيمة من الأنعام وهي الأزواجُ الثَّمانيةُ المعدودة في سورة الانعام والحق بها الضباء وبقَرُ الوَحْش ونحوُهما وقيل هي المرادة بالبهيمة همنا لتقدّم بيان حِلِّ الأنعام والإضافةُ لما بينهما من المشابهةِ والممائلة في الاجترار وعد الأنياب وفائدتُها الإشعارُ بعِلة الحكم المشتركة بين المضافَيْن كأنه قيل أحلت لكم البهيمةُ الشبيهة بالأنعام التي بَيَّن إحلالَها فيما سبق الممائلة لها في مَناطِ الحُكم وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعلِ لما مرَّ مراراً من إظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيلِ المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ فانما حقَّه التقديمُ إذا أُخرَ تبقى النفسُ مترقبة إلى وروده فيتمكّن عندها فضلُ تمكن (ال مَا يتلى عَلَيْكُمْ) استثناء من بهيمة الانعام أي إلا مُحرَّمَ ما يتلى عليكم من قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة ونحوَه أو إلا ما يُتلى عليكم آيةُ تحريمه (غَيْرَ مُحِلّى الصيد) أي الاصطياد في البراء واكل صيده وهو نصبٌ على الحالية من ضمير لكم ومعنى عدمِ إحلالِهم له تقريرُ حرمته عملاً واعتقاداً وهو شائع في الكتاب والسنة وقوله تعالى (وَأَنتُمْ حرم) أي محرومون حال من الضمير في محلى وفائدة تقيد إحلالِ بهيمةِ الأنعام بما ذُكر من عدم إحلالِ الصيد حالَ الإحرام على تقدير كونِ المراد بها الظباءَ ونظائرَها ظاهرةٌ لما ان احلالها غي مُطلق كأنه قيل أحل لكم الصيدُ حالَ كونِكم ممتنعين عنه عند إحرامكم وأمَّا على التَّقديرِ الأوَّلِ ففائدته إتمامُ النعمة وإظهارُ الامتنان بإحلالها بتذكير احتياجهم إليه فإن حرمةَ الصيد في حالة الإحرام من
2
٥ سورة المائدة (٢) مظانِّ حاجتهم إلى إحلال غيرِه حينئذ كأنه قيل أحلت لكم الأنعام مطلقاً حالَ كونكم ممتنِعين عن تحصيل ما يُغنيكم عنها في بعض الأوقات محتاجين إلى إحلالها وفي إسناد عدم الإحلال إليهم بالمعنى المذكور مع حصول المراد بان يقال غي محلَّلٍ لكم أو محرماً عليكم الصيدُ حال إحرامكم مزيد تربية الامتنان وتقرير للحاجة ببيان علتها القريبة فإن تحريم الصيد عليهم إنما يوجب حاجتهم إلى إحلال ما يغنيهم عنه باعتبار تحريمهم له عملاً واعتقاداً مع ما في ذلك من وصفهم بما هو اللائق بهم (إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم البالغة فيدخُل فيها ما ذُكر من التحليل والتحريم دخولا او وليا ومعنى الإيفاء بهما الجرَيانُ على موجبهما عقداً وعملاً والاجتنابُ عن تحليل المحرمات وتحريم بعضِ المحلَّلاتِ كالبَحيرة والنظائرها التي سياتي بيانها
3
(يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ الا تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله) لمّا بيّن حُرمةَ إحلال الإحرام الذي هو من شعائر الحج عقّب ذلك ببيان حرمة إحلال سائر الشعائر واضافتها إلى الله عزَّ وجلَّ لتشريفها وتهويلِ الخطب في إحلالها وهي جمع شعيرةٍ وهي اسم لما أُشعِر أي جُعل شِعاراً وعَلَماً للنُسُك من مواقيت الحج ومرامي الجمار والمطافِ والمسعى والأفعالِ التي هي علاماتُ الحاج يُعرف بها من الإحرام والطوافِ والسعْي والحلق والنحر وإحلالُها أن يُتهاوَن بحرمتها ويحال بينهما وبين المتنسّكين بها ويُحدَثَ في أشهر الحج ما يصد به للناس عن الحج وقيل المراد بها دينُ الله لقوله تعالى وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله أي دِينه وقيل حرماتِ الله وقيل فرائضَه التي حدها العبادة وإحلالُها الإخلالُ بها والأول أنسبُ بالمقام (وَلاَ الشهر الحرام) أي لا تُحِلّوه بالقتال فيه وقيل بالنسي والاول هو الاولى بحال المؤمنين والمراد به شهر الحج وقيل الأشهر الأربعة الحرم والإفراد لإرادة الجنس (وَلاَ الهدى) بأن يُتعرَّضَ له بالغصب أو بالمنع عن بلوغِ مَحِلِّه وهو ما أُهدِيَ إلى الكعبة من إبل او بقر او شاة جمع هدية كجدي وجدية (وَلاَ القلائد) هي جمعُ قِلادة وهي ما يُقلَّد به الهدْيُ من نعلٍ أو لِحاءِ شجرٍ ليُعلم به أنه هدْيٌ فلا يُتعرَّضَ له والمراد النهيُ عن التعرض لذوات القلائد من الهدْي وهي البُدْن وعطفُها على الهدي مع دخولها فيه لمزيد التوصية بها لمزيتها على ما عداها كما عَطفَ جبريلَ وميكالَ على الملائكة عليهم السلام كأنه قيل والقلائدَ منه خصوصاً أو النهيُ عن التعرض لنفس القلائدِ مبالغةً في النهي عن التعرض لأصحابها على معنى لا تحلو قلائدَها فضلاً عن أن تحلوها كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ مبالغةً في النَّهيِ عن إبداءِ مواقعها (ولا امين البيت الحرام) أي لا تحلو قوما قاصدين زيارته بانه تصُدّوهم عن ذلك بأي وجه كان وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أي قتالَ قومٍ أو أذى قوم امين الخ وقرا ولا آمِّي البيتِ الحرامِ بالإضافة وقولُه تعالَى (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا
3
حال من المستكن في امين لاصفة له لأن المختار أن اسم الفاعل إذا وُصف بطَلَ عملُه أي قاصدين زيارته حال كونهم طالبين أن يُثيبَهم الله تعالى ويرضَى عنهم وتنكيرُ فضلاً ورضوانا للتفخيم ومن ربهم متعلق بنفس الفعل أو بمحذوف وقع صفة لفضلاً مُغنيةً عن وصفِ ما عُطف عليه بها أي فضلاً كائناً من ربهم ورضواناً كذلك والتعرُّضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعارِ بحصول مبتغاهم وقرىءتبتغون على الخطاب فالجملة حينئذ حالٌ من ضميرِ المخاطبينَ في لا تُحلوا على أنَّ المرادَ بيانُ منافاة حالهم هذه للمنهيِّ عنه لا تقييدُ النهي بها وإضافة الرب إلى ضمير الآمّين للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحِرمانِ المخاطَبين عنه وعن نيل المبتغى وفي ذلك من تعليلِ النهْي وتأكيدِه والمبالغة في استنكار المنهى عنه مالا يخفى ومن ههنا قيل ان المراد بالآمّين هم المسلمون خاصة وبه تمسك من ذهب إلى أن الآية وقد رُويَ أن النبيَّ ﷺ قال سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا احلالها وحرِّموا حرامَها وقال الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالَى ليس فيها منسوخ وعن أبي ميسرة فيها ثماني عشرةَ فريضةً وليس فيها منسوخ وقد قيل هم المشركون خاصة لأنهم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم دون المؤمنين على أن حرمة إحلالهم ثبتت بطريق دلالة النص ويؤيده أنَّ الآيةَ نزلتْ في الحطم بن ضبعة البَكْري وقد كان أتى المدينة فخلّف خيلَه خارجها فدخل على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وحده ووعده أن يأتيَ بأصحابه فيُسلموا ثم خرج من عنده عليه السلام فمر بسَرْح المدينة فاستاقه فلما كان في العام القابل خرج من اليمامة حاجاً في حُجّاج بكرِ بنِ وائل ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدْي فسال المسلمون النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أن يُخلِّيَ بينهم وبينه فاباه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فأنزل الله عزَّ وجلَّ يأَيُّهَا الذين امنوا لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله الآية وفُسِّر ابتغاءُ الفضل بطلب الرزق بالتجارة وابتغاءُ الرضوان بأنهم كانوا يزعُمون أنهم على سِدادٍ من دَيْنهم وأن الحج يقرّبهم إلى الله تعالى فوصفهم الله تعالى بظنهم وذلك الظنُّ الفاسد وإن كان بمعزل من استتباع رضوانِه تعالى لكن لا بُعدَ في كونه مداراً لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية وخلاصِهم عن المكاره العاجلة لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره وقال قتادة هو أن يُصلح معايشَهم في الدنيا ولا يعجّلَ لهم العقوبة فيها وقيل هم المسلمون والمشركون لما رُوي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ المسلمين والمشركين كانوا يُحجّون جميعاً فنهى الله المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله تعالى لاَ تُحِلُّواْ الآية ثم نزل بعد ذلك إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فلا تقربوا المسجد الحرام وقولُه تعالى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله وقال مجاهد والشعى لا تحلوا نُسخ بقوله تعالى اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ولا ريب في تناول الآمّين للمشركين قطعاً إما استقلالاً واما اشتراكا سيأتي من قوله تعالى ولا يجر منكم شَنَانُ قَوْمٍ الخ فيتعين النسخُ كُلاًّ أو بعضاً ولا بد في الوجه الأخير من تفسير الفضل والرضوان ان يناسب الفريقين فقيل ابتغاء الفضل أي الرزق للمؤمنين والمشركين عامة وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ويجوز أن يكون الفضلُ على إطلاقه شاملاً للفضل الأخروي أيضاً ويختص ابتغاؤه بالمؤمنين
﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ تصريح بما أشير إليه بقوله تعالى وَأَنتُمْ حُرُمٌ من انتهاء حرمة الصيد بانتفاء موجِبِها والأمر للإباحة بعد الحظر كانه قيل واذا حَلَلْتم فلا جُناح عليكم في الاصطياد وقرىء أَحْللتم وهو لغة في حلى وقُرىء بكسر الفاء بإلقاءِ حركة همزة الوصل عليها وهو
4
٥ سورة المائدة اية ٢ ضيعف جداً
﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ نهَى عن إحلال قومٍ من الآمِّين خُصّوا به مع اندراجهم في النَهْي عن إحلال الكلِّ كافة لاستقلالهم بأمور ربما يُتوهَّم كونُها مُصحِّحةً لإحلالهم داعيةً إليه وجَرَم جارٍ مَجْرى كَسَبَ في المعنى وفي التعدِّي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال جَرَم ذنباً نحوُ كسبَه وجرَمتُه ذنباً نحو كسبته الياه خلا أن جَرَم يستعمل غالباً في كسْبِ ما لا خيرَ فيه وهو السبب في ايثاره ههنا على الثاني وقد يُنقل الأولُ من كلَ منهما بالهمزة إلى معنى الثاني فيقال أجرمته ذنباً وأكسبته إياه وعليه قراءةُ مَن قرأ يجر منكم بضم الياء
﴿شَنَانُ قَوْمٍ﴾ بفَتْح النون وقرىء بسكونها وكلاهما مصدر ضعيف إلى مفعوله لا إلى فاعله كما قيل وهو شدة البغض وغاية المقت
﴿أَن صَدُّوكُمْ﴾ متعلق بالشنآن بإضمار لام العلة أي لان صدوركم عامَ الحُدَيْبية
﴿عَنِ المسجد الحرام﴾ عن زيارته والطواف به للعمرة وهده آية بيّنةٌ في عموم آمّين للمشركين قطعاً وقُرىء ان صدوركم على أنه شرط معترضٌ أغنى عن جوابه لا يجر منكم قد أبرز الصدَّ المحقّقَ فيما سبق في معرِض المفروض للتوبيخ والتنبيه على ان حقه ان لا يكون وقوعُه إلا على سبيل الفرض والتقدير
﴿أَن تَعْتَدُواْ﴾ أي عليهم وإنما حُذف تعويلاً على ظهوره وإيماءً إلى أن المقصِدَ الأصليَّ من النهْي منعُ صدورِ الاعتداء عن المخاطَبين محافظةً على تعظيم الشعائر لا منعُ وقوعِه على القوم مراعاة لجانبهم وهو ثاني مفعولي يجر منكم أي لا يكسبنكم شدو بغضِكم لهم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام اعتداءَكم عليهم وانتقامَكم منهم للتشفّي وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهياً للشنآن عن كسب الاعتداء للمخاطَبين لكنه في الحقيقة نهيٌ لهم عن الاعتداء على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النهي عن أسباب الشيءِ ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وإبطالٌ للسَّببيةِ وقد يُوجَّه النهيُ إلى المسبَّب ويراد النهيُ عن السَّببِ كما في قوله لا أرينك هَهُنا يريد به نهيَ مخاطِبَه عن الحضورِ لديهِ ولعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا مع ظهور تعلقِه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتُهم عن الشعائر بالكلية وبذلك يُعلم بقاءُ حرمة التعرضِ لسائر الآمّين بالطريق الأَوْلى
﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى﴾ لما كان الاعتداءُ غالباً بطريق التظاهرُ والتعاون أُمروا إِثْرَ ما نُهوا عنه بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى ومتابعةِ الأمر ومجانبةِ الهوى فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاءِ عما وقع منهم دخولاً أولياً ثم نُهُوا عن التعاون في كل ما هو من مَقولة الظلمِ والمعاصي بقوله تعالى
﴿وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾ فاندرج فيه النهيُ عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني وأصل لا تعاونوا لا تتعاونوا فحذَفَ منه إحدى التاءين تخفيفاً وإنما أَخَّر النهْي عن الأمر مع تقدم التخلية على التحلية مسارعةً إلى إيجاب ما هو مقصود بالذات فإن المقصود من إيجاب تركِ التعاونِ على الإثم والعدوان إنما هو تحصيلُ التعاون على البر والتقوى ثم أُمروا بقوله تعالى
﴿واتقوا الله﴾ بالاتقاء في جميعَ الأمورِ التي من جملتها مخالفةُ ما ذُكر من الأوامرِ والنَّواهِي فثبت وجوبُ الاتقاءِ فيها بالطريق البرهاني ثم علل ذلك بقولِهِ تعالَى
﴿أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي لمن لا يتقيه فيعاقبكم لا محالة إن لم تتقوه وإظهارُ الاسم الجليل لما مر مرارا من إدخال الرَّوْعة وتربية المهابةِ وتقويةِ استقلال الجملة
5
﴿حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ شروعٌ في بيان المُحرَّمات التي أشير إليها بقوله تعالى إِلاَّ مَا يتلى عليكم والميتة ما فارقه الروحُ من غير ذبح
﴿والدم﴾ أي المسفوحُ منه لقوله تعالى أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا وكان أهلُ الجاهلية يصُبّونه في الأمعاء ويشْوونه ويقولون لم يحرم من فزدله أي من فصْدٍ له
﴿وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ أي رفعُ الصوت لغير الله عند ذبحِه كقولهم باسم اللات والعزى
﴿والمنخنقة﴾ أي التي ماتت بالخنق
﴿والموقوذة﴾ أي التي قُتلت بالضرب بالخشب ونحوِه مِنْ وَقَذْتُه إذا ضربته
﴿والمتردية﴾ أي التي تردّت مِنْ علوَ أو إلى بئرٍ فماتت
﴿والنطيحة﴾ أي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء للنقل وقرىء والمنطوحة
﴿وَمَا أَكَلَ السبع﴾ أي وما أكل منه السبُعُ فمات وقرىء بسكون الباء وقرىء وأكيلُ السبع وفيه دليلٌ على أنَّ جوارحَ الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحِلّ
﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ إلا ما أدركتم ذَكاتَه وفيه بقيةُ حياةٍ يضطرِبُ اضطرابَ المذبوح وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع والذَكاةُ في الشرع بقطع الحُلقومِ والمَرِيء بمُحدَّد
﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ قيل هو منفرد وقيل جمع نِصاب وقرىء بسكون الصاد واياما كان فهو واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبةً حول البيت يَذبَحون عليها ويعدّون ذلك قُربة وقيل هي الأصنام
﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام﴾ جمع زَلَم وهو القدح أي وحرم عليكم الاستقسام بالاقداح وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة اقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى الثاني نهاني ربي وعلى الثالث فإن خرج الآمرُ مضَوا على ذلك وإن خرج الناهي اجتنبوا عنه وإن خرج الغافل أجالوها مرة أخرى فمعنى الاستقسام طلبُ معرفةِ ما قُسِم لهم بالأزلام وقيل هو اسقسام الجَزورِ بالأقداح على الأنْصِباء المعهودة
﴿ذلكم﴾ إشارة إلى الاستقسام بالأزلام ومعنى البعد فيه للإشارة إلى بُعد منزلتِه في الشرِّ
﴿فِسْقٌ﴾ تمرد وخروج عن الحدود دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أنه طريق إليه وافتراء على الله سبحانه إن كان هو المراد بقولهم ربي وشركٌ وجهالة إن كان هو الصنم وقيل ذلكم إشارةٌ إلى تناول المحرَّماتِ المعدودةِ لأن معنى تحريمها تحريمُ تناولِها
﴿اليوم﴾ اللام للعَهْد والمراد به الزمان الحاضرُ وما يتصل به من الأزمنة الماضية الاتية وقيل يومُ نزولِها وقد نزلت بعد عصر الجمعةِ يومَ عَرَفةَ في حَجةِ الوداع والنبي ﷺ واقفٌ بعَرَفاتٍ على العضباء فكادت عضُدُ الناقة تندق لثقلها فبركت واياما كان فهو منصوب على أنه ظرف لقوله تعالى
﴿يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ أي من إبطالِه ورُجوعِكم عنه بتحليل هذه لخبائث أو غيرِها أو مِنْ أن يغلِبوكم عليه لِمَا شاهدوا من أن الله عز وجل وفى بوعدِه حيث أظهره على الدِّينِ كلِّه وهُو الانسب بقوله
6
سورة المائدة اية ٤ تعالى
﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ﴾ أي أنْ يظهرَوا عليكم
﴿واخشون﴾ أي وأخْلِصوا إليّ الخشية
﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ بالنصر والإظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيفِ على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد وتقديمُ الجار والمجرور للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأن الإكمالَ لمنفعتهم ومصلحتهم كما في قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وعليكم في قوله تعالى
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ متعلِّقٌ بأتممت لا بنعمتي لأن المصدرَ لا يتقدم عليه معمولُه وتقديمُهُ على المفعولِ الصريحِ لمامر مراتٍ أي أتممتُها بفتح مكةَ ودخولِها آمنين ظاهرين وهدمِ منارِ الجاهلية ومناسكِها والنهْيِ عن حجِّ المشرك وطوافِ العُرْيان أو بإكمال الدينِ والشرائع أو بالهداية والتوفيق قيل معنى أتممت عليكم نعمتي أنجزتُ لكم وعدي بقولي وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ
﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً﴾ أي اخترتُه لكم من بين الأديان وهو الدينُ عند الله لا غيرُ عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالَى عنهُ إنَّ رجلاً من اليهود قال له يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرءونها لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذْنا ذلك اليوم عيداً قال أي آية قال اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى الآية قال عُمر رضي الله تعالى عنه عرفنا ذلك اليومَ والمكانَ الذي أنزلت فيه على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وهو قائم بعرفَةَ يومَ الجمعة أشار رضي الله تعالى عنه إلى أن ذلك اليومَ عيدٌ لنا وروي أنه لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ بكى عمرُ رضي الله تعالى عنه فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما يُبكيك يا عمر قال أبكاني أنا كنا في زيادةٍ من دينِنا فاذ اكمل فإنه لا يكملُ شيءٌ الا نقص فقال عليه الصلاة والسلام صدقت فكانت هذه الآيةُ نعى رسول الله ﷺ فما لبِثَ بعد ذلك إلا أحداً وثمانين يوماً
﴿فَمَنِ اضطر﴾ متصلٌ بذكر المحرمات وما بينهما اعتراضٌ بما يوجبُ أن يُجتنَبَ عنه وهو أن تناوُلَها فسوقٌ وحرمتُها من جملة الدين والنعمةِ التامةِ والإسلامِ المَرْضِيِّ أي فمن اضطُر إلى تناول شيءٍ من هذه المحرمات
﴿فِى مَخْمَصَةٍ﴾ أي مجاعة يَخافُ معها الموتَ أو مبادِيَه
﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ﴾ قيل غيرَ مائلٍ ومنحرفٍ إليه بأن يأكُلَها تلذذا او مجاوزا حدَّ الرُّخصة أو ينتزِعَها من مضطرٍ آخَرَ كقوله تعالى غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ
﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لا يؤاخذه بذلك
7
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ شروع في تفصيل المحلَّلاتِ التي ذَكَر بعضَها على وجه الإجمال إِثْرَ بيانِ المحرمات كأنهم سألوا عنها عند بيان أضدادِها ولِتَضَمُّنِ السؤال معنى القولِ أوقعُ على الجملة فماذا مبتدا واحل لهم خبرُه وضميرُ الغَيْبَة لِمَا أنّ يسألون بلفظ الغيبة فإنه كما يُعتبرُ حالُ المحكيِّ عنه فيقال أقسمَ زيدٌ لأفعلَنّ يُعتبرُ حالُ الحاكي فيقال أقسمَ زيدٌ ليفعَلَنّ والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم
﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ أي ما لم تستخبثْه الطّباعُ السليمة ولم تنفِرْ عنْهُ كما في قولِه تعالى وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات ويحرم عليهم الخبائث
﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح﴾ عطفٌ على الطيبات بتقدير المضاف على أن ما موصولةٌ والعائد محذوف أي وصيدُ ما علَّمتُموه أو مبتدا على ان
7
سورة المائدة اية ٥ ما شرطيةٌ والجوابُ فكلوا وقد جوَّزَ كونَها مبتدأً على تقدير كونها موصولة أيضاً والخبرُ كلوا وإنما دخلته الفاء تشبيهاً للموصول باسم الشرط ومن الجوارح حالٌ منَ الموصولِ أو ضميرِه المحذوف والجوارحُ الكواسبُ من سباع البهائم والطير وقيل سميت بها لأنها تجرَحُ الصيدَ غالباً
﴿مُكَلّبِينَ﴾ أي معلِّمين لها الصيدَ والمكلِّبُ مؤدّبُ الجوارحِ ومضربها بالصيد مشتقٌ من الكَلْب لأن التأديب كثيراً ما يقع فيه أو لأن كلَّ سبُعٍ يسمى كَلْباً لقوله عليه الصلاة والسلام في حق عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ حين أراد سفرَ الشأم فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم اللهمَّ سلِّطْ عليهِ كلباً من كلابك فأكلَه الأسد وانتصابُه عَلى الحاليةِ من فاعل علمتم وفائتها المبالغةُ في التعليم لما ان الاسم المكلّب لا يقع إلا على النحرير في علمِه وقرىء مُكْلِبين بالتخفيف والمعنى واحد
﴿تُعَلّمُونَهُنَّ﴾ حال ثانية منه أو حالٌ من ضميرِ مكلِّبين أو استئناف
﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله﴾ من الحِيَل وطُرُق التعليم والتأديب فإن العلمَ به إلهامٌ من الله تعالى أو مكتسَبٌ بالعقل الذي هو منحةٌ منه أو مما عرَّفَكم أن تعلموه من اتباعِ الصيدِ بإرسالِ صاحبِه وانزجارِه بزَجْرِه وانصرافِه بدعائه وإمساكِ الصيد عليه وعدمِ أكلِه منه
﴿فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ قد مر فيما سبق أن هذه الجملةَ على تقدير كونِ ما شرطيةً جوابُ الشرط وعلى تقدير كونِها موصولةً مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرٌ لها وأما على تقدير كونِها عطفاً على الطيبات فهي جُملةٌ متفرِّعةٌ على بيان حلِّ صيدِ الجوارح المُعْلَمة مبيِّنةٌ للمضاف المقدَّر الذي هو المعطوف وبه يتعلق الإحلالُ حقيقةً ومشيرةٌ إلى نتيجةِ التعليم وأثره داخلةٌ تحت الأمر فالفاء فيها كما في قولِه أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْت به ومِنْ تبعيضيةٌ لما أن البعضَ مما لا يتعلق به الاكل الجلود والعظامِ والريش وغير ذلك ومما موصولةٌ أو موصوفةٌ حذِفَ عائدها وعلى متعلقة بأمسكن أي فكلوا بعض ما أمسَكْنه عليكم وهو الذي لم يأكُلْن منه وأما ما أكلن منه فهو مما أمسَكْنه على انفسهن لقوله ﷺ لعديِّ بن حاتم وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمْسَكَ على نفسِهِ وإليه ذهب أكثرُ الفقهاء وقال بعضُهم لا يشترط عدمُ الأكل في سباعِ الطير لما أن تأديبَها إلى هذه الدرجة متعذِّر وقال آخرون لا يُشترط ذلك مطلقاً وقد رُوي عن سلمان وسعد ابن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم انه اذا الكلبُ ثلثيه وبقيَ ثلثُه وقد ذكرتَ اسم الله عليه فكُل
﴿واذكروا اسم الله عَلَيْهِ﴾ الضميرُ لما عَلَّمتم أي سمُّوا عليه عند إرسالِه أو لِما أمسكنه أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاتَه
﴿واتقوا الله﴾ في شأن محرماته
﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ أي سريع ائتيان حسابه أو سريعُ تمامِه واذا شرَعَ فيه يتِمُّ في أقربِ ما يكون من الزمان والمعنى على التقديرين أنه يؤاخِذُكم سريعاً في كلِّ ما جلَّ ودقَّ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربيةِ المهابةِ وتعليلِ الحُكْم
8
﴿اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾
8
قيل المرادُ بالأيام الثلاثة وقتٌ واحدٌ وإنما كرر للتاكيد ولا اختلاف الاحداث والواقعة فيه حَسُنَ تكريرُه والمراد بالطيبات ما مر
﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ أي اليهودُ والنَّصارَى واستثنى عليٌّ رضي الله تعالى عنه نصارَى بني تغلِبَ وقال ليسوا على النصرانية ولم يأخُذوا منها إلا شرْبَ الخمر وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه والمراد بطعامهم ما يتناولُ ذبائحهم وغيرها
﴿حل لكم﴾ أي حلال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهُمَا أنَّه سال عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأسَ وهو قول عامة التابعين وبه اخذ ابو حنيفة رضى الله عنه وأصحابُه وحُكمُ الصابئين حكْمُ أهلِ الكتاب عنده وقال صاحباه هما صنفان صنفٌ يقرؤون الزَّبورَ ويعبُدون الملائكة عليهم السلام وصنفٌ لا يقرؤون كتاباً ويعبُدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وأما المجوسُ فقد سُنَّ بهم سُنةَ أهلِ الكتاب في أخذ الجزيةِ منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لقوله عليه الصلاة والسلام سُنوا بهم سُنّةَ أهلِ الكتاب غيرَ ناكِحِي نسائِهم ولا اكلي ذبائحهم
﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ فلا عليكم أن تُطعِموهم وتَبيعوه منهم ولو حُرِّم عليهم لم يجز ذلك
﴿والمحصنات مِنَ المؤمنات﴾ رفع على أنه مبتدأ حُذف خبرُه لدلالةِ ما تقدم عليه أي حِلٌّ لكم أيضاً والمراد بهم الحرائرُ العفائِف وتخصيصُهن بالذكر للبعث على ما هو الاول لا لنَفْيِ ما عداهن فان نكاح الايماء المسلماتِ صحيحٌ بالاتفاق وكذا نكاحُ غيرِ العفائِفِ منهن واما الايماء الكتابياتُ فهن كالمسلمات عند أبي حنيفة رضى الله عنه خلافا للشافعي رضي الله عنه
﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي هن أيضاً حل لكم وإن كنّ حَرْبيات وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله تعالى عنهما لا تَحِلُّ الحربيات
﴿إذا آتيتموهن أجورهن﴾ أي مُهورَهن وتقييدَ الحِلِّ بإيتائِها لتأكيد وجوبها والحثِّ على الأولى وقيل المرادُ بايتاءها التزامُها وإذا ظرفيةٌ عاملُها حَلَّ المحذوف وقيل شرطية حُذِف جوابُها أي إذا آتيتموهن أجورهن حَلَلْنَ لكم
﴿محصنين﴾ حال من فاعل آتيتموهن أي حال كونِكم أعفّاءَ بالنكاح وكذا قوله تعالى
﴿غَيْرَ مسافحين﴾ وقيلَ هُو حالٌ من ضمير محصنين وقيل صفة لمحصِنين أي غيرَ مجاهِرين بالزنا
﴿وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ﴾ أي ولا مصرين به والخدم الصديق يقع على الذكر والأنثى وهو إما مجرورٌ عطفا على مسافحين وزيدة لا لتأكيدِ النَّفيِ المستفادِ من غير أو منصوبٌ عطفاً على غير مسافحين باعتبار اوجه الثلاثة
﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان﴾ أي ومن ينكرْ شرائعَ الإسلام التي من جملتها ما بين ههنا من الأحكام المتعلقة بالحِلِّ والحرمة ويمتنعْ عن قَبولها
﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ الصالح الذي عمل قبل ذلك
﴿لكم الدار الآخرة عِندَ الله﴾ وهو مبتدا من الخاسئين خبره وفي متعلقة بما تعلَّق بهِ الخبرُ من الكون المطلق وقيل بمحذوف دل عليه المذكور أي خاسرة بالاخرة وقيل بالخاسرين على أن الالف والللام للتعريف لا موصولة لأن ما بعدها لا يعملُ فيما قبلَها وقيل يُغتفرُ في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله ربيت حي إذا تمعددا كان جزائي بالعصا ان اجلدا
9
٦ - ﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ شروعٌ في بيان الشرائع المتعلقةِ بدِينهم بعد بيانِ ما يتعلقُ بدنياهم
﴿إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة﴾ أي أردتم القيامَ إليها كما في قوله تعالى فَإِذَا قرات القران فاستعذ بالله عبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبَّبِ عنها مَجازاً للإيجاز والتنبيهِ على أنَّ منْ أراد الصلاةَ حقُّه أن يبادِرَ إليها بحيث لا ينفك عن إرادتها أو إذا قصدتم الصلاةَ إطلاقاً لاسمِ أحدِ لازميها على لازمِها الآخَرِ وظاهرُ الآية الكريمةِ يوجبُ الوضوءَ على كل قائمٍ إليها وإن لم يكنْ محدِثاً لما أن الأمرَ للوجوب قطعاً والإجماعُ على خلافِه وقد رُويَ أن النبيَّ ﷺ صلى الصلواتِ الخمسَ يومَ الفتح بوُضوءٍ واحد فقال عمرُ رضي الله تعالى عنه صنعتَ شيئاً لم تكن تصنعه فقال عليه الصلاة والسلام عمداً فعلتُه يا عمر يعني بياناً للجواز وحُمل الأمرُ بالنسبة إلى غيرِ المحدثِ على الندب مما لا مَساغَ له فالوجهُ أن الخِطابَ خاصٌّ بالمُحْدِثين بقرينةِ دَلالةِ الحال واشتراطِ الحدَثِ في التيمم الذي هو بدلُه وما نُقل عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم والخلفاء من أنهم كانوا يتوضّؤون لكل صلاةٍ فلا دلالةَ فيه على أنهم كانوا يفعلونه بطريق الوجوبِ أصلاً كيف لا وما رُوي عنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام من قوله من توضَّأ على طُهْرٍ كتبَ الله له عشرَ حسنات صريحٌ في أن ذلك كان منهم بطريق الندب وما قيل كان ذلك أولَ الأمرِ ثم نُسخ يردُّه قوله عليه الصلاة والسلام المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها
﴿فاغسلوا وُجُوهَكُمْ﴾ أي أمِرُّوا عليها الماء ولا حاجةَ إلى الدلك خلافاً لمالك
﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق﴾ الجمهورُ على دخول المِرْفَقَين في المغسول ولذلك قيل إلى بمعنى مَعَ كما في قوله تعالى وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ وقيل هي إنما تُفيد معنى الغاية مطلقاً وأما دخولُها في الحُكْم أو خروجُها منه فلا دلالة لها عليه وإنما هو أمرٌ يدور على الدليلِ الخارجي كما في حفظة القرآنَ من أولِه إلى آخِرِه وقوله تعالى فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ فإن الدخولَ في الأول والخروجَ في الثاني مُتيقَّنٌ بناءً على تحقُّق الدليل وحيث لم يتحققْ ذلك في الآية وكانت الأيدي متناوِلةً للمرافِقِ حُكِمَ بدخولها فيها احتياطاً وقيل إلى من حيث إفادتُها للغاية تقتضي خروجَها لكن لما لم تتميَّزِ الغاية همنا عن ذي الغايةِ وجبَ ادخالها احتياطا
﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾ الباءُ مزيدةٌ وقيل للتبعيض فإنه الفارقُ بين قولِك مسَحْتُ المِنْديلَ ومسحتُ بالمنديل وتحقيقُه أنها تدل على تضمينِ الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل وألصِقوا المسحَ برؤوسِكم وذلك لا يقتضي الاستيعابَ كما يقتضيه ما لو قيل وامسحُوا رؤوسَكم فإنه كقوله تعالى فاغسلوا وُجُوهَكُمْ واختلف العلماء في القدر الواجب فأوجب الشافعيُّ أقلَّ ما ينطلِقُ عليه الاسمُ أخذاً باليقين وأبو حنيفةَ ببيانِ رسول الله ﷺ حيث مسح على ناصيته وقدرها
10
سورة المائدة اية ٧ برُبُعِ الرأس ومالكٌ مسَحَ الكُلَّ أخذاً بالاحتياط
﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين﴾ بالنْصب عطفاً على وجوهَكم ويؤيده السنةُ الشائعةُ وعَمَلُ الصحابةِ وقولُ اكثر الائمة والتحديد اذا المسْحُ لم يُعهَدْ محدوداً وقرء بالجرِّ على الجِوار ونظيرُه في القرآن كثير كقوله تعالى عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ونظائره وللنحات في ذلك بابٌ مفرَدٌ وفائدتُه التنبيهُ على أنه ينبغي أن يقتصِدَ في صبِّ الماء عليها ويغسِلَها غسلاً قريباً من المسح وفي الفصل بينه وبين أخواتِه إيماءٌ إلى أفضلية الترتيب وقرء بالرفع أي وأرجلُكم مغسولةٌ
﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا﴾ أي فاغتسلوا وقرء فاطْهُروا أي فطهِّروا أبدانَكم وفي تعليق الأمرِ بالطهارة الكبرى بالحدثِ الأكبر إشارةٌ إلى اشتراط الأمر بالطهارةِ الصغرى بالحدث الأصغر
﴿وَإِنْ كُنتُم مرضى﴾ مرضاً يُخاف به الهلاكُ أو ازديادُه باستعمال الماء
﴿أَوْ على سَفَرٍ﴾ أي مستقرِّين عليه
﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه﴾ من لا ابتداء الغاية وقيل للتبعيض وهي متعلقة بامسح وقرء فأمُوُّا صعيداً وقد مر تفسيرُ الآية الكريمة مشبَعاً في سورة النساء فليرجَعْ إليه ولعل التكريرَ ليتّصِلَ الكلامُ في أنواع الطهارة
﴿مَا يُرِيدُ الله﴾ أي ما يريدُ بالأمرِ بالطهارة للصلاة او بالمر بالتيمم
﴿لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ﴾ من ضيقٍ في الامتثال به
﴿ولكن يُرِيدُ﴾ ما يريد بذلك
﴿لّيُطَهّرَكُمْ﴾ أي ليُنظِّفَكم أو ليطهِّرَكم عن الذنوب فإن الوضوءَ مكفِّرٌ لها أو ليطهرَكم بالتراب اذا اعوذكم التطَهُّر بالماء فمفعولُ يريد في الموضعين محذوفٌ واللام للعلة وقيل مزيدة والمعنى ما يريد الله أن يجعلَ عليكم من حرجٍ في باب الطهارة حتى لا يُرَخَّصَ لكم في التيمم ولكن يريد أن يطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهّرُ بالماء
﴿وَلَّيْتُم﴾ بشرعه ما هو مطهرة لا لأبدانكم ومُكفِّرةٌ لذنوبكم
﴿نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ في الدين أو ليُتم برُخَصِه إنعامَه عليكم لعزائمه
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمته ومن لطائف الآية الكريمة أنها مشتملةٌ على سبعةِ أمور كلُّها مثنى طهارتانِ أصلٌ وبدلٌ والأصلُ اثنان مستوعَبٌ وغير مستوعب باعتبار الفعل غسلٌ ومسح وباعتبار المحلِّ محدودٌ وغيرُ محدود وأن آلتَهما مائعٌ وجامِد وموجِبُهما حدثٌ أصغرُ وأكبرُ وأن المبيحَ للعُدول إلى البدلِ مَرَضٌ وسفر وأن الموعودَ عليهما تطهيرُ الذنوب وإتمامُ النعمة
11
﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام لتُذكِّرَكم المنعِمَ وتُرغِّبَكم في شكره
﴿وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ﴾ أي عهدَه المؤكَّدَ الذي أخذه عليكم وقوله تعالى
﴿إِذْ قُلْتُمْ سمعنا وأطعنا﴾ ظرف لوثاقكم به او لمحذوف لمحذوفٍ وقع حالاً منَ الضميرِ المجرورِ في به أو مِنْ ميثاقه أي كائناً وقت قولِكم سمعنا وأطعنا وفائدةُ التقييدِ به تاكيد وجوب مراعاته بتذكير قبولهم والتزامهم بالمحافظة عليه وهو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في حال العُسر واليُسر والمنشَطِ والمَكْره وقيل هو الميثاقُ الواقعُ ليلةَ العقبة وفي بَيْعةِ الرضوان وإضافتُه إليه تعالى مع صدوره عنه عليه الصلاة والسلام لكون المرجِعَ إليه كما نطق به قولُه تعالى إِنَّ
11
سورة المائدة اية ٨ سورة المائدة اية ٩ سورة المائدة اية ١٠ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله وقال مجاهد هو الميثاقُ الذي أخذه الله تعالى على عباده حين أخرجهم من صُلْب آدمَ عليه السلام
﴿واتقوا الله﴾ أي في نِسيان نعمتِه ونقضِ ميثاقِه أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون فيدخُل فيه ما ذُكر دخولا اولياء
﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي بخفيّاتِها الملابِسةِ لها ملابَسةً تامة مصحِّحة لإطلاق الصاحبِ عليها فيجازيكم عليها فما ظنكم بحليات الأعمال والجُملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ وتعليل الامر بالاتقاءِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الاضمار لتريه المهابة وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة
12
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ شروعٌ في بيان الشرائع المتعلقةِ بما يجري بينهم وبين غيرِهم إثْرَ بيانِ ما يتعلق بأنفسهم ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ﴾ مقيمين لأوامره ممتثلين بها معظِّمين لها مراعين لحقوقها ﴿شُهَدَاء بالقسط﴾ أي بالعدل ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ أي لا يحمِلَنَّكم ﴿شَنَانُ قَوْمٍ﴾ أي شدةُ بغضِكم لهم ﴿عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ فلا تشهَدوا في حقوقهم بالعدل أو فتعتلوا عليهم بارتكاب ما لا يحِلُّ كَمُثلةٍ وقَذْفٍ وقتلِ نساءٍ وصِبْيةٍ ونقضِ عهدٍ تشفياً وغيرِ ذلك ﴿اعدلوا هُوَ﴾ أي العدلُ ﴿أَقْرَبُ للتقوى﴾ الذي أمرتم به صرح لهم بالأمر بالعدل وبيّن أنه بمكانٍ من التقوى بعد ما نهاهم عن الجَوْر وبيَّن أنه مقتضى الهوى وإذا كان وجوبُ العدل في حق الكفار في هذه المثابة فما ظنُّك بوجوبه في حق المسلمين ﴿واتقوا الله﴾ أمرَ بالتقوى إثْرَ ما بين أن العدلَ أقربُ له اعتناءً بشأنه وتنبيهاً على أنه مَلاكُ الأمر ﴿إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال فيجازيكم بذلك وتكريرُ هذا الحُكم إما لاختلاف السببِ كما قيل إن الأولَ نزل في المشركين وهذا في اليهود أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في اطفاء فائدة الغيظ والجملةُ تعليلٌ لما قبلها وإظهارُ الجلالة لما مر مرات وحيث كانت مضمونُها منبئاً عن الوعد والوعيد عقَّب بالوعد لمن يُحافظ على طاعته تعالى وبالوعيد لمن يُخِلُّ بها فقيل
﴿وعد الله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ التي من جملتها العدل والتقوى ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ حُذفَ ثاني مفعولا وَعَدَ استغناءً عنه بهذه الجملة فإنه استئنافٌ مبيِّنٌ له وقيل الجملةُ في موقع المفعول فإن الوعدَ ضربٌ من القول فكأنه قيل وعدَهم هذا القولَ
﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا﴾ التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر والعدل والتقوى
﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذُكر من الكفر وتكذيبِ الآيات
﴿أصحاب الجحيم﴾ ملابسوها ملابَسةً مؤبَّدة من السُنة السنية القرآنية شفْعُ الوعدِ بالوعيد والجمعُ بين الترغيب والترهيب ايفاء لحق الدعوى بالتبشير والانذار
12
١١ - ﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ تذكيرٌ لنعمة الإنجاءِ من الشرائر تذكيرِ نعمةِ إيصالِ الخير الذي هو نعمةُ الإسلام وما يتبَعُها من الميثاق وعليكم متعلِّقٌ بنعمة الله أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منها وقولُه تعالى
﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ﴾ على الأول ظرفٌ لنفس النعمة وعلى الثاني لِما تعلَّق به عليكم ولا سبيلَ إلى كونه ظرفا لا ذكروا التنافي زمانَيْهما أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم أو اذكروا نعمته كائنةً عليكم في وقت همِّهم
﴿أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ أي بأن يبطشوا بكنم بالقتل والاهلات يقال بسَطَ إليه يدَه اذا بطش به وبسط إليه لسانَه إذا شتمته وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصَّريحِ للمُسارعةِ إلى بيان رجوعِ ضررِ البسطِ وغائلتِه إليهم حملاً لهم منْ أولِ الأمرِ عَلى الاعتداد بنعمةِ دفعِه كما أن تقديم لكم في قولِه عزَّ وجلَّ هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض للمبادرة إلى بيان كونِ المخلوق من منافعِهم تعجيلاً للمَسَرّة
﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾ عطفٌ على هم وهو النعمة التي أُريد تذكيرُها وذكراً لهم للإيذان بوقوعها عند مزيدا لحاجة إليها والفاءُ للتعقيب المفيدِ لتمام النعمة وكما لها وإظهارُ أيديهم في موقع الإضمار لزيادة التقرير أي منَعَ أيديَهم أن تُمدَّ إليكم عقيب همِّهم بذلك لا أنه كفها عنكم بعد ما مدُّوها إليكم وفيه من الدلالة على كمالِ النعمة من حيثُ إنها لم تكن مشوبةً بضَرَر الخوف والانزعاجِ الذي قلما يعْرَى عنه الكفُّ بعد المد ما لا يخفى مكانُه وذلك ما روى ان المشركين راوا ارسول الله ﷺ وأصحابَه بعَسفانَ في غزوة ذي انما روها غزوةُ ذاتِ الرَّقاع وهي السابعة من مغازيه عليه الصلاة والسلام قاموا إلى الظهر معاً فلما صلَّوْا ندِمَ المشركون ألا كانوا قد أكبُّوا عليهم فقالوا إن لهم بعدها صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائِهم يعنون صلاةَ العصر وهمُّوا ان يوقعوا بهم اذ قاموا إليها فرد الله تعالى كيدَهم بأن أنزلَ صلاةَ الخوف وقيل هو ما رُوي أنَّ رسولَ الله ﷺ أتى بني قُرَيْظَةَ ومعه الشيخانِ وعليٌّ رضي الله تعالى عنهم يستقرِضُهم لدِيَةِ مسلمَيْن قتلهما عمْرُو بنُ أميةَ الضَّمُريُّ خطأً يحسَبُهما مشرِكَيْن فقالوا نعم يا أبا القاسم اجلِسْ حتى نُطعِمَك ونعطِيك ما سألت فأجلسوه في صُفَّةٍ وهمّوا بالفتك به وعمد عمروا بنُ جِحاش إلى رَحا عظيمةٍ يطرَحُها عليه فأمسك الله تعالى يده ونزل جبريلُ عليه السلام فأخبره فخرج عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل هو ما رُوي انه ﷺ نزل منزِلاً وتفرّق أصحابُه في العظاء يستظلون بها فعلّق رسولُ الله ﷺ سيفَه بشجرة فجاء أعرابيٌّ فاخذها وسله فقال مَنْ يمنعُك مني فقال ﷺ الله تعالى فاسقطع جبريلُ عليهِ السَّلامُ من يده فاخذه الرسول ﷺ فقال من يمنعك مني فقال لا أحدَ أشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأن محمداً رسولُ الله
﴿واتقوا الله﴾ عطفٌ على اذكُروا أي اتقوه في رعاية حقوقِ نعمتِه ولا تُخِلُّوا بشكرِها أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون فيدخُل فيه ما ذُكر دخول اولياء
﴿وَعَلَى الله﴾ أي عليهِ تعالى خاصَّة دونَ غيرِه استقلال واشتراكا
﴿فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ فإنه يكفيهم في إيصال كلِّ خيرٍ ودفع كل شر والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لمَا قبلَهُ وإيثارُ صيغة أمْرِ الغائبِ واسنادها إلى المؤمنين لإيجابِ التوكل على
13
سورة المائدة اية ١٢ المخاطبين بالطريق البرهاني ولايذان بأن ما وُصفوا به عند الخطابِ من وصف الإيمان داعٍ ألى مَا أُمروا بهِ من التوكل والتقوى وازعٌ عن الإخلال بهما وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتعليلِ الحُكمِ وتقوية استقلال الجملة التذييلية
14
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بني إسرائيل﴾ كلامٌ مستأنفٌ مشتمِلٌ على ذكر بعضِ ما صدَر عن بني إسرائيلَ من الخِيانة ونقضِ الميثاق وما أدّى إليه ذلك من التّبِعاتِ مَسوقٌ لتقرير المؤمنين على ذكر نعمةِ الله تعالى ومراعاةِ حقِّ الميثاقِ الذي اوثقهم به وتحذيرِهم من نقضِه أو لتقرير ما ذُكر من الهم بالبطش وتحقيقِه على تقدير كون ذلك من بني قريظة حسْبما مرّ من الرواية ببيان أن الغدرَ والخيانة عادةٌ لهم قديمة توار ثوها من أسلافهم وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ وتفخيمِ الميثاق وتهويلِ الخطبِ في نقضه مع ما فيه من رعاية حقِّ الاستئنافِ المستدعى لانقطاع عما قبله ولالتفات في قوله تعالى
﴿وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً﴾ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ أو لأن البعثَ كان بواسطة موسى عليه السلام كما سيأتي وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مرا مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر والنقيبُ فعيل بمعنى فاعل مشتقٌ من النَّقْب وهو التفتيش ومنه قوله تعالى فَنَقَّبُواْ فِى البلاد سُمِّيَ بذلك لتفتيشِه عن أحوال القومِ وأسرارِهم قال الزجاجُ وأصله من النقْب وهو الثقب الواسع رُوي إن بني إسرائيلَ لما استقروا بمصْرَ بعهد مَهْلِكِ فرعونَ أمرهم الله عز وجل بالمسير الى اريحا أرضِ الشام وكان يسكُنها الجبابرةُ الكَنعانيون وقال لهم إني كتبتُها لكم داراً وقراراً فاخرُجوا إليها وجاهِدوا من فيها وإني ناصِرُكم وأمر موسى عليه السلام أن يأخُذَ من كلِّ سِبطٍ نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به توثِقَةً عليهم فاختارَ النقباءَ وأُخذ الميثاقُ على بني إسرائيلَ وتكفَّلَ إليهم النُقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعانَ بعث النقباءُ يتجسسون فرءوا أجراماً عظيمةً وقوةً وشَوْكة فهابوا ورَجَعوا وحدَّثوا قومَهم بما رؤوا وقد نهاهم موسى عن ذلك فنكثوا الميثاقَ إلا كالبَ بنَ يوقنا نقيبَ سبط يهاذا ويُوشَعَ بنَ نونٍ نقيبَ سِبطِ أفراييمَ بن يوسُفَ الصديق عليه الصلاة والسلام قيل لما توجه النقباءُ إلى أرضهم للتجسس لقِيَهم عوجُ بنُ عنق وكان طوله ثلاثة الاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وقد عاش ثلاثة آلاف سنة وكان على رأسه حُزمةُ حطب فأخذهم وجعلهم في الحُزمة وانطلق بهم إلى امرأته وقال انظُري إلى هؤلاء الذين يزعُمون أنهم يريدون قتالنا فطرَحهم بين يدَيْها وقال ألا أطحَنُهم برِجْلي فقالت لا بل خلي عنهم حتى يُخبِروا قومَهم بما رؤوا ففعل فجعلوا يتعرّفون أحوالَهم وكان لا يحمِلُ عنقودَ عِنبِهم إلا خمسةُ رجال أو أربعة فلما خرج النقباءُ قال بعضُهم لبعض إن أخبرتم بني إسرائيلَ بخبر القومِ ارتدوا عن نبي الله ولكنِ اكتُموه
14
سورة المائدة اية ١٢ إلا عن موسى وهارونَ عليهما السَّلامُ فيكونان هما يَريانِ رأيَهما فأخذ بعضُهم على بعضٍ الميثاقَ ثم انصرفوا إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ وكان معهم حبةٌ من عنبِهم وِقْرَ رجل فنكثوا عهدَهم وجعل كلٌّ منهم ينهى سِبْطه عن قتالِهم ويُخبرهم بما رأى الا كالب ويشع وكان معسكرُ موسى فرسخاً في فرسخ فجاء اوج حتى نظر إليهم ثم رجع إلى الجبل فقور منه صخرة عظيمة على قدر العسكر ثم حملها على رأسه ليُطبِقَها عليهم فبعث الله تعالى الهُدُهُد فقوَّر من الصخرة وسَطَها المحاذِيَ لرأسه فانتقبت فوقعت في عُنُق عوج وطوقته فصرعته فاقبل موسى عليه السلام وطولُه عشرةُ أذرُعٍ وكذا طولُ العصا فتراما في السماء عشرةَ أذرع فما أصاب العصا إلا كعبا وهو مصروعٌ فقتله قالوا فأقبلت جماعةٌ ومعهم الخناجرُ حتى حزّوا رأسَه
﴿وَقَالَ الله﴾ أي لبني إسرائيل فقد اذاهم المحتاجون إلى ما ذُكر من الترغيب والترهيب كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيدِ ما يتضمنه الكلام من الوعد
﴿إِنّى مَعَكُمْ﴾ أي بالعلم والقدرة والنُّصرة لا بالنصرة فقط فإن تنبيهَهم على علمِه تعالى بكل ما يأتون وما يذرون وعلى كونهم تحت قدرته وملوته مما يحمله على الجد في الامتثال بما أمروا به والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ كأنه قيل إني معكم أسمع كلامَكم وأرى أعمالَكم وأعلم ضمائِرَكم فأجازيكم بذلك هذا وقد قيل المرادُ بالميثاق هو الميثاقُ بالإيمان والتوحيد وبالنقباءِ ملوكُ بني إسرائيلَ الذين ينقُبون أحوالَهم ويَلُون أمورَهم بالأمر والنهي وإقامةِ العدل وهو الأنسبُ بقولِه تعالى
﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وآتيتم الزكاة وَآمَنتُم بِرُسُلِي﴾ أي بجميعِهم والالام موطِّئةٌ للقسم المحذوفِ وتأخيرُ الامان عن إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ مع كونهما من الفروع المترتبةِ عليه لِما أنهم كانوا معترفين بوجوبِهما مع ارتكابِهم لتكذيبِ بعضِ الرسل عليهم السلام ولمراعاة المقارَنةِ بينه وبينَ قولِهِ تعالى
﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ أي نصرتموهم وقوَّيتموهم وأصله الذّبُّ وقيل التعظيمُ والتوقيرُ والثناءُ بخير وقرء وعزرتموهم بالتخفيف
﴿وَأَقْرَضْتُمُ الله﴾ بالإنفاق في سبيل الخير وبالتصدق بالصدقات المندوبة وقوله تعالى
﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ إما مصدرٌ مؤكّدٌ وارد على غير صيغة المصدر كما في قوله تعالى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بقبول حسن وانبتها نبات حسن او مفعول ثاني لأقرضتم على أنه اسم للمال المُقْرَض وقوله تعالى
﴿لأكفرن عنكم سيئاتكم﴾ جوابٌ للقسم المدلولِ عليه بالالام سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط
﴿وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار﴾ عطفٌ على ما قبله داخل معه في حُكم الجواب متأخرٌ عنه في الحصول أيضاً ضرورةَ تقدُّمِ التخلية على التحلية
﴿فَمَن كَفَرَ﴾ أي برسلي أو بشيءٍ مما عُدِّد في حيِّز الشرط والفاءُ لترتيب بيانِ حُكمِ من كفَر على بيان حُكمِ من آمن تقويةً للترغيب بالترهيب
﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الشرطِ المؤكّدِ المُعلَّقِ به الوعدُ العظيمُ الموجِبُ للإيمان قطعاً
﴿مّنكُمْ﴾ متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً من فاعل كفَرَ ولعل تغييرَ السبْكِ حيث لم يقل وإن كفرتم عطفا على االشرطية السابقة لإخراج كفرِ الكلِّ عن حيِّز الاحتمال وإسقاطِ من كفَرَ عن رُتبة الخطاب وليس المرادُ إحداثَ الكفر بعد الإيمان بل ما يعمُّ الاستمرارَ عليه أيضاً كأنه قيل فمن اتّصفَ بالكفر بعد ذلك خلا أنه قصَدَ بإيراد ما يدلّ على الحدوث بيانَ ترقِّيهم في مراتب الكفر فإن الاتصافَ بشيءٍ بعد ورود ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمرار عليه لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ
﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل﴾ أي وسَطَ الطريق الواضحَ ضلالاً بيناً وأخطأه خطأً فاحشا لا غذر معه أصلاً بخلافِ من كفر قبل ذلك إذْ ربما يمكن ان
15
سورة المائدة اية ١٣ ١٤ يكون له شُبْهةٌ ويُتَوهَّمُ له معذرةً
16
﴿فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم﴾ الباء سبيبة وما مزيدةٌ لتأكيد الكلام وتمكينِه في النفس أي بسبب نقضِهم ميثاقَهم المؤكَّدَ لا بشيءٍ آخرَ استقلالاً أو انضماماً ﴿لعناهم﴾ طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ومسخناهم قِرَدَةً وخنازيرَ أو أذللناهم بضرب الجزيةِ عليهم وتخصيصُ البيان بما ذُكر مع أن حقَّه أن يبيَّنَ بعد بيانِ تحققِ نفسِ اللعنِ والنقضِ بأن يقال مثلا فنقصوا ميثاقَهم فلعنّاهم ضرورةَ تقدّمِ هيئةِ الشيءِ البسيطةِ على هيئتِه المُركّبة للإيذانِ بأن تحققَهما أمرٌ جليٌّ غنيٌّ عن البيان وإنما المحتاجُ إلى ذلك ما بينهما من السبيبة والمُسبَّبية ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ بحيث لا تتأثرُ من الايات والنظر وقيل أملينا لهم ولم نعاجِلْهم بالعقوبة حتى قَسَتْ أو خذلناهم ومنعناهم الألطافَ حتى صارت كذلك وقرىء قسي وهي إما مبالغةُ قاسية وإما بمعنى رديئة من قولهم دِرْهمٌ قِسيٌّ أي ردى اذ إذا كان مغشوشاً له يبس وخشونة وقرا بكسر القاف إتباعاً لها بالسبيبة ﴿يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه﴾ استئنافٌ لبيان مرتبةِ قساوةِ قلوبهم فإنه لا مرتبةَ اعظم مما يصحح الا افتراء على تغيير كلامِ الله عز وجل والافتراءَ عليه وصيغةُ المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقيل حالٌ من مفعول لعناهم ﴿وَنَسُواْ حَظَّا﴾ أي تركوا نصيباً وافراً ﴿مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ من التوراة او من اتباع محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل حرفوا التوراةَ وزلَّتْ أشياءُ منها عن حفظهم وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قد ينسى المرىء بعض العلم بالمعصية وتلى هذه الآية ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ﴾ أي خيانةٍ على أنها مصدرٌ كلاغيةٍ وكاذبةٍ أو فَعْلةٍ خائنة أي ذاتِ خيانة أو طائفةٍ خائنة أو شخصٍ خائنةٍ على أن التاء للمبالغة أو نفس خائنة ومنهم متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لها خلى أن مِنْ على الوجهين الأولين ابتدائيةٌ أي على خيانةٍ أو على فعلةٍ خائنةٍ كائنةٍ منهم صادرةٍ عنهم وعلى الوجوه الباقيةِ تبعيضية والمعنى أن الغدرَ والخيانة عادةٌ مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يتركونها او يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ﴾ استثناء منَ الضميرِ المجرورِ في منهم على الوجوه كلِّها وقيل مِنْ خائنة على الوجوه الثلاثةِ الأخيرةِ والمرادُ بهم الذين آمنوا منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلام وأضرابِه وقيل من خائنة على الوجه الثاني فالمرادُ بالقليل الفعلُ القليل ومِنْ ابتدائيةٌ كما مر أي الا فعلى قليلاً كائناً منهم ﴿فاعف عَنْهُمْ واصفح﴾ أي إن تابوا وآمنوا أو عاهدُوا والتزموا الجزية وقيل مطلقٌ نُسخ بآيةِ السيف ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين﴾ تعليلٌ للأمر وحثٌّ على الامتثال به وتنبيهٌ على أنَّ العفوَ على الإطلاقِ من باب الإحسان
﴿وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم﴾
16
بيانٌ لقبائح النصارى وجناياتهم إثرَ بيان قبائحِ اليهود وخياناتهم ومن متعلقة بأخذنا إذِ التقديرُ وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم وتقديمُ الجار والمجرور للاهتمام به ولأن ذكرَ حال إحدى الطائفتين مما يوقعُ في ذهن السامع أن حالَ الأخرى ماذا فكأنه قيل ومن الطائفة الأخرى أيضاً أخذنا ميثاقهم وقيل هي متعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقع خبر المبتدا محذوفٍ قامت صفتُه أو صلتُه مَقامه أي ومنهم قومٌ أخذنا ميثاقهم أو مَنْ أخذنا ميثاقهم وضميرُ ميثاقَهم راجعٌ إلى الموصوف المقدر وأما في الوجه الأولِ فراجعٌ إلى الموصول وقيل راجع إلى بني إسرائيل أي أخذنا من هؤلاء ميثاق اؤلائك أي مثل ميثاقهم من الإيمان بالله والرسل وبما يتفرع على ذلك من أفعال الخير وإنما نَسَب تسميتَهم نصارى إلى أنفسهم دون أن يُقال ومن النصارى إيذاناً بأنهم في قولهم نحن أنصارُ الله بمعزلٍ من الصدق وإنما هو تقوّلٌ محْضٌ منهم وليسوا من نُصْرة الله تعالى في شيء أو إظهاراً لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وافعالهم فان ادعائهم لنُصْرته تعالى يستدعي ثباتَهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه
﴿فَنَسُواْ﴾ عَقيبَ أخذِ الميثاق من غير تلعثم
﴿حظا﴾ ووافرا
﴿مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك حسبما مرَّ آنفاً وقيل هو ما كُتب عليهم في الإنجيل من أن يؤمنوا بمحمد ﷺ فتركوه ونبذوه وراء ظهورهم واتبعوا اهوائهم فاختلفوا وتفرقوا نصطورية ويعقوبيةً وملكانية أنصاراً للشيطان
﴿فَأَغْرَيْنَا﴾ أي ألزمنا وألصَقنا من غراب الشيء اذ لزم ولصِق به وأغراه غيرُه ومنه الغِراء وقوله تعالى
﴿بَيْنَهُمْ﴾ إما ظرف لأغرينا أو متعلِّق بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعوله أي أغرينا
﴿العداوة والبغضاء﴾ كائنة بينهم ولا سبيل إلى جعله ظرفاً لهما لأنَّ المصدرَ لا يعملُ فيما قبلَهُ وقوله تعالى
﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ إما غاية للإغراء أو للعداوة والبغضاء أي يتعادَوْن ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبنا تقتضيه اهواؤهم المختلفة وارائهم الزائغة المؤدية إلى التفرق والى الفرق الثلاث فضمير بينهم لهم خاصة وقيل لهم ولليهود أي أغرينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى
﴿وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فَعَلت أي يجازيهم بما عملوا على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به وسوف لتأكيد الوعيد والالتفاتُ إلى ذكر الاسم الجديد لتربية المهابة وإدخال الروعة لتشديد الوعيد والتعبيرُ عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على أنهم لا يعلمون حقيقةَ ما يعملونه من الاعمال الشيئة واستتباعِها للعذاب فيكونُ ترتيبُ العذابِ عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها
17
﴿يَا أَهْلِ الكتاب﴾ التفاتٌ إلى خطاب الفريقين على أن الكتاب جنسٌ شاملٌ للتوراة والإنجيل إثرَ بيانِ أحوالهما من الخيانة وغيرها من فنون القبائح ودعوةٌ لهم إلى الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم والقرآن وإيرادُهم بعنوان أهلية الكتاب للانطواء كلام المصدَّر به على ما يتعلق بالكتاب
17
سورة المائدة اية ١٦ وللمبالغة في التشنيع فإن أهلية الكتاب من موجباتِ مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام وقد فعلوا من الكَتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون
﴿قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا﴾ للاضافة للتشريف والايذان بموجوب اتباعه وقوله تعالى
﴿يُبَيّنُ لَكُمْ﴾ حال من رسولنا وإيثارُ الجملة الفعلية على غيرها للدَلالة على تجدّد البيان أي قد جائكم رسولُنا حال كونه مبيناً لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة
﴿كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب﴾ أي التوراةِ والإنجيل كبِعثةِ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وآيةِ الرجم في التوراة وبشارةِ عيسى بأحمدَ عليهما السلام في الإنجيل وتأخيرُ كثيراً عن الجار والمجرور بما مر مراراً من إظهار عناية بالمقدم لما فيه من تعجيلِ المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ لأن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لا سيما الإشعار بكونه من منافع المخاطَب تبقَى النفسُ مترقبة إلى وروده فيتمكن عندها إذا ورد فضلُ تمكنٍ ولأن في المؤخر درب تفصيل ربما يُخِلُّ تقديمُه بتجاذب أطرافِ النظمِ الكريم فإن مما متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفة لكثيرا وما موصولة اسمية وما بعدها صلتُها والعائدُ إليها محذوف ومن الكتاب متعلق بمحذوف هو حال من العائد المحذوف والجمع بين صيغتين الماضِي والمستقبلِ للدِّلالةِ على استمرارهم على الكتم والإخفاء أي بين لكم كثيراً من الذي تخفونه على الاستمرار حال مونه من الكتاب الذي أنتم اهله والمتمسكون به
﴿ويعف عَن كَثِيرٍ﴾ أي ولا يُظهر كثيراً مما تخفونه إذا لم تدعُ إليه داعيةٌ دينية صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح كما يُفصحُ عنه التعبير عن عدم الإظهار بالعفو وفيه حثٌّ لهم على عدم الإخفاء ترغيباً وترهيباً والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ الحالية داخلةٌ في حكمها وقيل يعف عن كثيرٍ منكم ولا يؤاخذه في قوله تعالى
﴿قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ﴾ جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان أن فائدةَ مجيءِ الرسول ليست منحصرةً فيما ذُكر ومن بيانِ ما كانوا يُخفونه بل له منافعُ لا تحصى ومن الله متعلق بجاء ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً او محذوف وقع حالا من نور وأيا ما كان فهو تصريحٌ بما يشعر به إضافةُ الرسول من مجيئه من جنابِه عزَّ وجلَّ وتقديم الجار والجرور على الفاعل للمصارعة إلى بيان كون المجيء من جهته العالية والتشويق إلى الجائي ولأن فيه نوعَ تطويلٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم كما في قوله تعالى وجائك فِى هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ وتنوين نور للتفخيم والمراد به وبقوله تعالى
﴿وكتاب مُّبِينٌ﴾ القرآنِ لما فيهِ من كشف ظلمات الشرْك والشك وإبانة ما خفِيَ على الناس من الحق والإعجاز البيِّن والعطف لتنزيل المغايَرَة بالعنوان منزلة المغايرة وبالذات وقيل المرادُ بالأول هو الرسول ﷺ وبالثاني القرآن
18
﴿يَهْدِى بِهِ الله﴾ توحيد الضمير المجرور لاتحاد المرجِع بالذات أو لكونهما في حكم الواحد أو أريد يهدي بما ذُكر وتقديم الجار والمجرور للاهتمام وإظهارُ الجلالة لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية ومحل الجملة الرفع على أنها صفةُ ثانية لكتاب أو النصبُ على الحالية منه لتخصصه بالصفة
﴿مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ﴾ أي رضاه بالإيمان به ومن موصوله او
18
سورة المائدة اية ١٧ موصوفة
﴿سُبُلَ السلام﴾ أي طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب أو سبل الله تعالى وهي شريعتُه التي شرعها للناس وقيل هو مفعول ثاني ليهدي والحقُّ أن انتصابه بنزع الخافض على طريقة قوله تعالى واختار موسى قَوْمَهُ وإنما يُعدَّى إلى الثاني بالى او بالام كما في قوله تعالى ان هذا القران يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ
﴿وَيُخْرِجُهُمْ﴾ الضمير لمن والجمع باعتبارِ المَعْنى كَما أنَّ الإفراد في اتبع اعتبار اللفظ مِنَ
﴿الظلمات﴾ أي ظلمات فنون الكفر والظلال
﴿إِلَى النور﴾ إلى الإيمان
﴿بِإِذْنِهِ﴾ بتيسيره أو بإرادته
﴿وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ هو أقرب الطرق إلى الله تعالى وموؤدي إليه لا محالة وهذه الهداية عينُ الهداية إلى سبل السلام وإنما عُطفت عليها تنزيلاً للتغاير الوَصْفيِّ منزلةَ التغايرِ الذاتيِّ كما في قوله تعالى وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
19
﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ أي لا غيرُ كما يقال الكرمُ هو التقوى وهم اليعقوبيةُ القائلون بأنه تعالى قد يحِلُّ في بدن إنسان معين أو في روحه وقيل لم يصرِّح به أحدٌ منهم لكن حيث اعتقدوا اتصافَه بصفاتِ الله الخاصة وقد اعترفوا بأن الله تعالى موجود فلزِمهم القول بان المسيح لا غير وقيل لما زعموا أن فيه لا هوتا وقالوا لا إله إلا واحدٌ لزمهم أن يكونَ هو المسيح فنُسب إليهم لازمُ قولِهم توضيحاً لجهلهم وتفضيحاً لمعتَقَدِهم
﴿قُلْ﴾ أي تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان قولِهمِ الفاسد وإلقاماً لهم الحجَرَ والفاء في قوله تعالى
﴿فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شيئا﴾ فصيحة ومن اتفهامية الانكار والتوبيخ والملك الضبض والحِفظُ التامُّ عن حزم ومن متعلقةٌ به على حذفِ المضافِ أي إنْ كانَ الأمرُ كَما تزعُمون فمن يمنَعُ من قدرته تعالى وإرادته شيئاً وحقيقتُه فمن يستطيعُ أن يُمسك شيئاً منها
﴿إن أراد أن يهلك المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً﴾ ومن حق مَنْ يكون الها ان لا يتعلقَ به ولا بشأنٍ من شؤونه بل بشيءٍ من الموجودات قدرةُ غيرِه بوجهٍ من الوجوه فضلاً عن أن يعجِزَ عن دفع شيءٍ منها عند تعلقِها بهلاكه فلما كان عجزه بينة لا ربي فيه ظهرَ كونُه بمعزل مما تقوَّلوا في حقه والمراد بالاهلاك الايمانة والإعدامُ مطلقاً لا بطريق السُخْط والغضب وإظهارُ المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية في مقام الإضمارِ لزيادة التقرير والتنصيصِ على أنه من تلك الحيثية بعينها داخلٌ تحت قهره وملوكته تعالى ونفْيِ المالكيةِ المذكورة بالاستفهام الإنكاري عن كل أحدٍ مع تحقق الإلزامِ والتبكيتِ بنفيها عن المسيح فقط بأن يقال فهل يملِك شيئاً مّنَ الله إِنْ أَرَادَ الخ لتحيقيق الحقِّ بنفيِ الألوهية عن كل ما عداه سبحانه وإثباتُ المطلوب في ضمنه بالطريق البرهان فإن انتفاءَ المالكيةِ المستلزِمَ باستحالة الألوهية متى ظهر بالنسبة إلى الكلِّ ظهر بالنسبة إلى المسيح على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه فيظهر استحالةُ الالوهية قطعاً وتعميمُ إرادةِ الإهلاك للكل مع حصول ما ذكر من التحقيق نقصرها عليه بأن يقال فمن يملك من الله شيئا ان
19
سورة المائدة اية ١٨ أراد أن يهلك المسيح لتهويل الخطب وإظهارِ كمالِ العجز بيان أن الكلَّ تحت قهره تعالى وملَكوته لا يقدِرُ أحدٌ على دفع ما أريد به فضلاً عن دفه ما اريد بغيره وايذان لان المسيحَ أُسوةٌ لسائر المخلوقات في كونه عُرْضةً للهلاك كما أنه أُسوة لها فيما ذُكر من العجز وعد استحقاقِ الألوهية وتخصيصُ أمِّه بالذكر مع اندراجها في ضمن مَنْ في الأرض بزيادة تأكيدِ عجْز المسيح ولعل نَظْمَها في سِلْك من فَرضَ إرادةَ إهلاكهم مع تحقيق هلاكها قبل ذلك لتأكيد التبكيت وزيادة ترير مضمون الكلام يجعل حالها أُنموذجاً لحال بقيةِ مَنْ فرَضَ إهلاكَه كأنه قيل قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح وأمه ومن فى الارض وقد أهلك أمَّه فهل مانَعَه أحد فكذا حال مَنْ عداها من الموجودين وقوله تعالى
﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي ما بين قُطْرَي العالم الجسماني لا بين وجهِ الأرض ومُقعَّرِ فَلك القمر فقط فيتناول ما في السَّمواتِ من الملائكة عليهم السلام وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات تنصيصٌ على كون الكلِّ تحت قهره تعالى وملكوته إثرَ الإشارة إلى كون البعض أي من في الأرض كذلك أي له تعالى وحَدهُ ملك جميع الموجودات والتصرُّفُ المطلقُ فيها إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة لا لاحد سواه استقلال ولا اشتراكاً فهو تحقيقٌ لاختصاص الألوهية به تعالى إثرَ بيانِ انتفائها عن كلِّ ما سواهُ وقوله تعالى
﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاء﴾ جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان بعض أحكام المُلك والألوهية على وجه يزيح معتراهم من الشبهة في أمر المسيح لولادته من غير أب وخَلْقِ الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أي يَخْلُقُ مَا يَشَاء من أنواع الخلق والإيجاد على أن ما نكرة وصوفة محلها النصب على المصدر به لا على المفعولية كأنه قيل يخلق أيَّ خلق يشاء فتارةً يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض وأخرى من أصلٍ كخلق ما بينهما فيُنشىء من أصلٍ ليس من جنسه كخلق آدمَ وكثيرٍ من الحيوانات من أصلٍ يجانسه إما مِنْ ذكرٍ وحده كخلق حواءَ أو أنثى وحدها كخلق عيسى عليه السلام أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلُق بتوسط مخلوق آخرَ كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزةً له وإحياءِ الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك فيجب أن يُنسَبَ كلُّه إليهِ تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده
﴿والله على كل شىء قدير﴾ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل للتعليل وتقويةِ استقلال الجملة
20
﴿وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ حكايةٌ لِما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة وبيانٌ لبطلانها بعد ذكر ما صدر عن أحدهما وبيانِ بطلانه أي قالت اليهود نحن أشياعُ ابنِه عُزَيْرٍ وقالت النصارى نحن أشياعُ ابه المسيحِ كما قيل لأشياع أبي خُبيب وهو عبدِ اللَّه بن الزبير الخُبيبيّون وكما يقول أقاربُ الملوك عند المفاخرة نحن الملوك وقال ابن
20
سورة المائدة اية ١٩ عباس رضي الله تعالى عنهما ان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوَّفهم بعقاب الله تعالى فقالوا كيف تخوِّفُنا به ونحن أبناء الله وأحباؤه وقيل ان النصارى يتلوون في الإنجيل أَنَّ المسيح قال لهم اني ذاهي إلى أبي وأبيكم وقيل أرادوا أن الله تعالى كالأب لنا في الحُنُوِّ والعطف ونحن كالأبناء له في القُرب والمنزلة وبالجملة أنهم كانوا يدّعون أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق فردّ عليهم ذلك وقيل لرسول الله ﷺ
﴿قُلْ﴾ إلزاماً لهم وتبكيتاً
﴿فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ أي إن صح ما زعمتم فلأيِّ شيءٍ يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد عرفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة بالنار أياماً بعدد أيامِ عبادتِكم العجلَ ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع وقولُه تعالى
﴿بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ﴾ عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي لستم كذلك بل أنتم بشر
﴿مّمَّنْ خَلَق﴾ أي من جنس مَنْ خَلقه الله تعالى مِنْ غَيْرِ مزيةٍ لكُم عليهم
﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء﴾ أنْ يغفر له من أولئك المخلوقين وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله
﴿وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء﴾ أنْ يعذبه منهم وهم الذين كفروا به وبرسله مثلَكم
﴿ولله ملك السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ منْ الموجودات لا ينتمي إليه سبحانه شيء منها إلا بالملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرّف فيهم كيف يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وايماتة وايثابة وتعذيباً فأنى لهم ادعاءُ ما زعموا
﴿وَإِلَيْهِ المصير﴾ في الآخرة خاصَّة لا إلى غيرِه استقلال أو اشتراكاً فيجازِي كلاًّ من المحسن والمسيء بما يستدعيه عملُه من غير صارف يَثْنيه ولا عاطفٍ يَلْويه
21
﴿يَا أَهْلِ الكتاب﴾ تكريرٌ للخطاب بطريق الالتفات ولطفٌ في الدعوى
﴿قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ﴾ حال من رسولنا وإيثارُه على مبيِّناً لما مر فيما سبق أي يبين لكم الشرائعَ والأحكامَ الدينية المقرونة بالوعد والوعيد من جملتها ما بُيِّن في الآيات السابقة من بطلان أقاويلِكم الشنعاء وما سيأتي من أخبار الأمم السالفة وإنما حُذف تعويلاً على ظهور أن مجيءَ الرسول إنما هو لبيانها أو يفعلُ لكم البيانَ ويبذُله لكم في كل ما تحتاجون فيه إلى البيان من أمور الدين وأما تقديرُ مثل ما سبق في قوله تعالى كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب كما قيل فمع كونه تكريراً من غير فائدة يرده قوله عز وجل
﴿على فترة من الرسل﴾ فان فتور الارسال ونقطاع الوحي انما يحودج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه وعلى فترة متعلق بجائكم على الظرفية كما في قوله تعالى واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان أي جاءكم على حين فتور الإرسال وانقطاع من الوحي ومزيدِ احتياج إلى بيان الشرائع والأحكام الدينية أو بمحذوف وقع حال من ضمير يبين أو من ضمير لكم أي يبين لكم ما ذُكر حال كونه على فترة من الرسل أو حال كونكم عليها أحوجَ ما كنتم الى البيان ومن الرسل متعلق بمحذوفٍ وقع صفة لفترة أي كائنةٍ من الرسل مبتدا من جهتهم وقوله تعالى
﴿أَن تَقُولُواْ﴾ تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذفِ المضافِ أي كراهةَ أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعات أحكام الدين
﴿مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ﴾
21
وقد انطمست آثارُ الشرائع السابقة وانقطعت أخبارُها وزيادة مِنْ في الفاعل للمبالغة فى نفى المجى وتنكير بشير ونذير للتقليل وهذا كما ترى يقتضي أن المقدر أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والاحكام لاكيفما كانت بل مشفوعة بما ذكر من الوعد والوعيد وقوله تعالى
﴿فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ متعلق بمحذوف ينبى عنه الفاء الفصيحة وتُبيِّنُ أنه مُعلَّل به وتنوينُ بشيرٌ ونذيرٌ للتفخيم أي لاتعتذروا بذالك فقد جاءكم بشير أيُّ بشيرٍ ونذير أيُّ نذير
﴿والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ﴾ فيقدِرُ على الإرسال تترى كما فعله بين مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ حيث كان بينهما ألفٌ وسبعُمائة سنة وألفُ نبيَ وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ كان يبينهما ستُمائة سنةٍ أو خمسُمائةٍ وتسعة وستون سنةً أو خمسُمائةٍ وستة وأربعون سنةً وأربعةُ أنبياءَ على ما روى الكلي ثلاثةٌ من بني إسرائيلَ وواحدٌ من العرب خالد بن سنان العبسي وقيل لم يكن بعد عيسى عليه السلام إلا رسولُ الله ﷺ وهُو الأنسبُ بَما في تنوين فترةٍ من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بُعث إليهم عند كمالِ حاجتهم اليه بسبب مضي دهر طويل بعد انقطاعِ الوحي ليهشو إليه ويعُدّوه أعظمَ نعمةٍ من الله تعالَى وفتحَ بابٍ إلى الرحمة وتلزَمُهم الحجةُ فلا يَعتلُّوا غداً بأنه لم يُرسَلْ إليهم من بينهم من غفلتهم
22
﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ﴾ جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان ما فعلت بنوا إسرائيلَ بعد أخذِ الميثاق منهم وتفصيلِ كيفيةِ نقضِهم له وتعلّقِه بما قبله من حيث إن ما ذُكر فيه من الأمور التي وصف النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ببيانها ومن حيث اشتمالُه على انتفاء فترة الرسل فيما بينهم واذ نصب على أنه مفعولٌ لفعل مقدرٍ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بطريق تلوين الخطابِ وصرفِه عن أهل الكتاب ليعدِّدَ عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات أي واذكرهم وقت قولِ موسى لقومه ناصحاً لهم ومستميلاً لهم باضافتهم اليه
﴿يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتملٌ على ما وقع فيه تفصيلاً فإذا استُحضِر كان ما وقع فيه حاضرا بتفاصيل كانه مشاهد عيانا وعليكم متعلق بنفس النعمة إذا جُعلت مصدراً وبمحذوف وقع حالاً منها إذا جُعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا نعمة كائنة عليكم وكذا إذ في قوله تعالى
﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء﴾ أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم في وقت جَعْله أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جهله فيما بينكم من أقربائكم أنبياءَ ذوِي عددٍ كثير وأُولي شأنٍ خطير حيث لم يَبْعثْ مِنْ أُمَّةٍ من الأممِ ما بَعَث من بني إسرائيلَ من الأنبياء
﴿وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً﴾ عطفٌ على جعل فيكم داخلٌ في حُكمهِ أيْ جعل فيكم أو منكم ملوكاً كثيرة فإنه قد تكاثر فيهم الملوكُ تكاثرَ الأنبياء وإنما حذف الظرف تعويلاً على ظهور الأمرِ أو جَعْل الكلِّ في مقام الامتنان عليهم ملوكاً لما أن أقاربَ الملوك يقولون
22
سورة المائدة اية ٢١ ٢٢ عند المفاخر نحن الملوك وإنما لم يسلُكْ ذلك المسلكَ فيما قبله لما أن منصِبَ النبوةِ مِنْ عِظَم الخطر وعِزَّة المطلب وصعوبة المنال ليس بحيث يليقُ أن يُنْسبَ إليه ولو مجازاً مَنْ ليس ممن اصطفاه الله تعالى له وقيل كانوا مملوكين في أيدي القِبْط فأنقذهم الله تعالى فسمَّى إنقاذهم مُلْكاً وقيل المَلِكُ مَنْ له مسكنٌ واسع فيه ماء جار وقيل من له بيت وخدم وقيل من له مال لا يَحتاج معه إلى تكلف الاعمال وتحمل المشاق
﴿وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين﴾ من فلْق البحر وإغراقِ العدو وتظليلِ الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهُم الله تعالى من الأمور العِظام والمرادُ بالعالمين الأممُ الخالية إلى زمانهم وقيل مِنْ عالَمِي زمانهم
23
﴿يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ كرر النداء بالاضافة التشريفية اهتمام بشأن الأمر ومبالغةً في حثهم على الامتثال به والأرضُ هي أرضُ بيت المقدس سُمِّيت بذلك لأنها كانت قرارَ الأنبياء ومسكنَ المؤمنين وقيل هي الطورُ وما حوله وقيل دمشقُ وفِلَسطينُ وبعضُ الأردن وقيل هي الشام ﴿الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي كتَبَ في اللوح المحفوظ أنها تكونُ مسكناً لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى له بعض ما عصَوْا فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ وقولِه تعالى ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين﴾ فإن ترتيبَ الخَيبة والخُسران على الارتداد يدل على اشتراط الكَتْب بالمجاهدة المترتِّبة على الإيمان والطاعة قطعاً أي لا ترجِعوا مُدبرين خوفاً من الجبابرة فالجار والمجرور متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل ترتدوا ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل قيل لما سمعوا أحوالهم من النقباء بكوا وقالوا يا ليتنا مِتْنا بمصر تعالَوْا نجعلُ لنا رأساً ينصرِفْ بنا الى مصر اولا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى وقوله فتنقلبوا إما مجزومٌ عطفا على ترتدوا أو منصوبٌ على جواب النهي والخُسران خُسرانُ الدين والدنيا لا سيما دخولُ ما كتب لهم
﴿قالوا﴾ استئناف مبنى نشىء من مَساق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا بمقابلة أمرِه عليه السلام ونهيِه فقيل قالوا غيرَ ممتثِلين بذلك
﴿يا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ متغلبين لا ياتي منازعتهم ولا يتسنى مناصبتهم والجبارُ العاتي الذي يُجبرُ الناس ويقصرهم كائناً مَن كانَ على ما يريده كائناً ما كان فعّال من جبرَه على الأمر أي أجْبَره عليه
﴿وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ من غير صُنْع مِنْ قِبَلِنا فان لا طاقة لنا بإخراجهم مِنْهَا
﴿فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ بسببٍ من الأسباب التي لا تعلق لنابها
﴿فَإِنَّا داخلون﴾ حينئذ أتَوْا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوماً مما سبق من توقيت عدمِ الدخول وخروجهم منها تصريحاً بالمقصود وتنصيصاً على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيما وأتَوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بحرف التحقيق دلالة على تقرر
23
سورة المائدة اية ٢٣ ٢٤ الدخول وثباتِه عند تحقّق الشرط لا محالة وإظهاراً لكمال الرغبة فيه وفي الامتثال بالأمر
24
﴿قَالَ رَجُلاَنِ﴾ استئنافٌ كما سبق كأنه قيل هل اتفقوا على ذلك أو خالفهم البعض فقيل قال رجلان ﴿مِنَ الذين يَخَافُونَ﴾ أي يخافون الله تعالى دون العدوِّ ويتّقونه في مخالفة أمرِه ونهيِه وبه قرأ ابنُ مسعود وفيه تعريضٌ بأن مَنْ عداهما لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو وقيل من الذين يخافون العدو أي منهم في النسَب لا في الخوف وهما يوشَعُ بنُ نون وكالب بن يوقنا من النقباء وقيل هما رجلان من الجبابرة اسلما وصارا مِن موسى عليه السَّلام فالو او حينئذ لبني إسرائيلَ والموصول عبارة عن الجبابرة وإليهم يعود العائد المحذوف أي من الذين يخافهم بنو اسرائيل ويعضه قرات من قراء يُخافون على صيغة المبني للمفعول أي المَخُوفين وعلى الأول يكون هذا من الاخافة أي من الذين يخوِّفون من الله تعالى بالتذكير أو يخوِّفهم الوعيدُ ﴿أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا﴾ أي بالتثبيت وربْطِ الجأش والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده أو بالإيمان وهو صفة ثانيةٌ لرجلان أو اعتراض وقيلَ حالٌ من الضميرِ في يخافون أو من رجلان لتخصّصه بالصفة أي قال مخاطِبين لهم ومشجعين ﴿ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب﴾ أي بابَ بلدهم وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ للاهتمام به لأن المقصودَ إنما هو دخولُ الباب وهم في بلدهم أي باغتوهم وضاغضوهم في المضيق وامنعوهم في البُروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالاً ﴿فَإِذَا دخلتموه﴾ أي بلدهم وهم فيه ﴿فَإِنَّكُمْ غالبون﴾ منْ غيرِ حاجةٍ إلى القتال فان قد رأيناهم وشاهدنا أن قلوبَهم ضعيفة وإن كانت أجسادُهم عظيمة فلا تخشَوْهم واهجُموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر وقيل إنما حَكَما بالغَلَبة لما عَلِماها من جهة موسى عليه السلام ومن قوله تعالى كَتَبَ الله لَكُمْ أو لِما علِما من سنّته تعالى في نَصْره رسله وما عهِدا من صُنعه تعالى لموسى عليه السلام من طهر أعدائه والأول أنسبُ بتعليق الغلَبةِ بالدخول ﴿وَعَلَى الله﴾ تعالى خاصةً ﴿فَتَوَكَّلُواْ﴾ بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزلٍ من التأثير وإنما التأثير من عند الله العزيز القدير ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي مؤمنين به تعالى مصدِّقين لوعده فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ التوكل عليه حتماً
﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ كما سبق أي قالوا غيرَ مبالين بهما وبمقالتهما مخاطِبين لموسى عليه السلام إظهاراً لإصرارهم على القول الأول وتصريحاً بمخالفتهم له عليه السلام
﴿يا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا﴾ أي أرضَ الجبابرة فضلاً عن دخول بابهم وهم في بلدهم
﴿أَبَدًا﴾ أي دهراً طويلاً
﴿مَّا دَامُواْ فِيهَا﴾ أي في أرضهم وهو بدل من أبداً بدلَ البعض أو عطفُ بيان
﴿فاذهب﴾ الفاء فصيحة أي فإذا كان الأمرُ كذلك فاذهب
24
سورة المائدة اية ٢٥ ٢٦
﴿أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا﴾ أي فقاتلاهم إنما قالوا ذلك استهانة واستهزاء بع سبحانه وبرسوله وعدمَ مبالاةٍ بهما وقصدوا ذهابَهما حقيقةً كما يُنْبىء عنْهُ غايةُ جهلهم وقصوة قلوبهم وقيل اراد وارادتهما وقصْدَهما كما تقول كلمتُه فذهب يجيبني كأنهم قالوا فاريد قتالَهم واقْصِداهم وقيل التقدير فاذهبْ أنت وربُك يُعينُك ولا يساعده قوله تعالى فَقَاتِلا ولم يذكروا هارون ولا الرجلين كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم وقوله تعالى
﴿إنا ها هنا قاعدون﴾ يؤيد الوجه الأول وأرادوا بذلك عدمَ التقدم لا عدمَ التأخر
25
﴿قَالَ﴾ عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العِناد على طريقة البثِّ والحُزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلبِ التي بمثلها تُستجلبُ الرحمةُ وتُسْتَنزَلُ النُّصرة ﴿رَبّ إنى لا أملك إلا نَفْسِى وَأَخِى﴾ عطف على نفسي وقيل على الضَّميرِ في إني على معنى إنى لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملِكُ إلا نفسَه وقيل على الضَّميرِ في لا أملك للفصل ﴿فافرق بَيْنَنَا﴾ يريد نفسه وأخاه والفاء لترتيب الفرق أو الدعاءِ به على ما قبلَه ﴿وَبَيْنَ القوم الفاسقين﴾ الخارجين عن طاعتك المُصِرّين على عِصيانك بأن تحكُم لنا بما نستحقّه وعليهم بما يستحقونه وقيل بالتعبيد بيننا وبينهم وتخليصِنا من صحبتهم
﴿قَالَ فَإِنَّهَا﴾ أي الأرض المقدسة والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء
﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ تحريمَ منعٍ لا تحريمَ تعبُّد لا يدخُلونها ولا يملِكونها لأن كتابتها لهم كانت مشروطةً بالإيمان والجهاد وحيث نكصوا على أدبارهم حُرموا ذلك وانقلبوا خاسرين وقوله تعالى
﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ إن جُعل ظرفاً لمحرمةٌ يكون التحريم موقتا لا مؤبداً فلا يكون مخالفاً لظاهر قولِه تعالى كَتَبَ الله لَكُمْ فالمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم في هذه المدة لكن لا بمعنى أن كلَّهم يدخلونها بعدها بل بعضهم ممن بقي حسب ما رُوي أن موسى عليه السلام صار بمن بقيَ من بني إسرائيلَ إلى أريحا وكان يوشعُ بنُ نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قُبض عليه السلام وقيل لم يدخلها أحد ممن قال لن ندخُلها أبداً وإنما دخلها معَ مُوسى عليهِ السَّلامُ النواشي من ذرياتهم فالموقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جُعل تحريمُها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة المتاخمة للاتحاد وقوله تعالى
﴿يَتِيهُونَ فِى الارض﴾ أي يتحيرون في البرية استئناف لبيان كيفية حِرْمانهم أو حالٌ من ضميرِ عليهم وقيل ظرف متعلق بيتهون فيكون التيه موقتا والتحريم مطلقاً قيل كانوا ستمائة ألف مقاتل وكان طول البرية تسعون فرسخاً وقد تاهوا في ستة فراسخَ أو تسعة فراسخَ في ثلاثين فرسخاً وقيل في ستة فراسخَ في اثنى عشرَ فرسخاً روي أنهم كانوا كلَّ يوم يسيرون جادّين حتى إذا أمسَوا إذا هم بحيث ارتحلوا وكان الغمامُ يُظلُّهم من حر الشمس ويطلُع بالليل عمودٌ من نور يضيء لهم ويَنزِلُ عليهم المن والسلوى ولا تطول شعورُهم وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوبٌ كالظُفُر يطول بطوله وهذه الإنعاماتُ عليهم مع أنهم معاقَبون لِما أن عقابهم كان بطريق العرك والتأديب قيل كان موسى وهارون معهم ولكن
25
سورة المائدة اية ٢٧ كان ذالك لهما روحاوسلامه كالنار لاءابراهيم وملائكت العذاب عليهم السلام وروي أن هارون مات في النيه ومات موسى بعده بسنة ودخل يوشعُ أريحا بعد موته بثلاثة اشهرولا يساعده ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ فإنَّه تعالى بعد ما قبل دعوته على بني اسراءيل وعذبهم بالتيه بعيدان ينجِّيَ بعضَ المدعوِّ عليهم اوذراريهم ويقدّر وفاتَهما في محل العقوبه ضاهرا وان كان ذالك لهما منزِلَ رَوْحٍ وراحةٍ وقد قيل إنهما لم يكونا معهم في التيه وهو الأنسب بتفسير الفرق با لمباعده ومن قال بأنهما كانا معهم فيه فقد فسر الفَرْقَ بما ذُكر من الحُكْمِ بما يستحقّه كلُّ فريق
﴿فَلاَ تَأْسَ﴾ فلا تحزن
﴿عَلَى القوم الفاسقين﴾ روي أنه عليه السلام ندم على دعاءه عليهم فقيل لاتندم ولاتحزن فانهم احقاء بذالك لفسقهم
26
﴿واتل عَلَيْهِمْ﴾ عطفٌ على مقدّر تعلق به قولُه تعالى وَإِذَا قَالَ موسى الخ وتعلُقه به من حيث إنه تمهيدٌ لما سيأتي من جنايات بنى اسراءيل بعد ماكتب عليهم ما كُتب وجاءتهم الرسلُ بما جاءت به من البينات
﴿نَبَأَ ابْنَي آدَم﴾ هما قابيلُ وهابيلُ ونُقل عن الحسن والضحاك أنهما رجلان من بني اسراءيل بقرينه اخر القسه وليس كذلك أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى آدمَ أن يزوج كلاًّ منهما توأمةَ الآخر وكانت توأمةُ قابيلَ أجملَ واسمها اقليما فحسد عليها أخاه وسخِط وزعم ان ذالك ليس من عند الله تعالى بل من جهة آدمَ عليه السلام فقال لهما عليه السلام قرِّبا قُرباناً فمِنْ أيِّكما قُبل تزوّجها ففعلا فنزلت نارٌ على قُربانِ هابيلَ فأكلتْه ولم تتعرَّضْ لقُربانِ قابيلَ فازداد قابيل حسَداً وسُخْطاً وفعل ما فعل
﴿بالحق﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي تلاوه ملتبسه با لحق والصِّحة أو حالاً من فاعلِ اتْلُ أو من مفعولِه أي ملتبساً أنت او نبأَهما بالحق والصدقِ حسبما تقرّر في كتب الأولين
﴿إِذْ قَرَّبَا قربانا﴾ منصوب بالنبأ ظرفٌ له أي اتلُ قصتهما ونبأهما في ذالك الوقت وقيل بدلٌ منه على حذفِ المضافِ أي اتلُ عليهم نبأهما نبأَ ذلك الوقت ورُد عليه بان اذ لايضاف اليهما غير الزمان كوقتذ وحينذ والقُربان اسمٌ لما يُتقرَّب بهِ إلى الله تعالى من نسُكٍ أو صَدَقةٍ كا لحلوان اسمٌ لما يُحْلى أي يعطى وتوحيدُه لما أنه في الأصل مصدرٌ وقيل تقديره إذ قرّب كلٌّ منهما قرباناً
﴿فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا﴾ هو هابيلُ قيل كان هو صاحبَ ضَرْعٍ وقرب جَملاً سميناً فنزلت نارٌ فأكلتْه
﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر﴾ هو قابيل قيل كان هو صاحبَ زرع وقرّب أردأَ ما عنده من القمح فلم تتعرضْ له النارُ أصلاً
﴿قال﴾ استناف مبني على سوال نشأ من سوق الكلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ من لم يُتقبَّلْ قُربانه فقيل قال لأخيه لِتضاعُفِ سَخَطِه وحسَدِه لما ظهر فضلُه عليه عند الله عز وجل
﴿لاَقْتُلَنَّكَ﴾ أي والله لأقتلنَّك بالنون المشددة وقرىء بالمخففة
﴿قال﴾ استناف كما قبله أي قال الذي تُقُبِّل قُربانُه لمّا رأى أن حسَدَه لقَبول قربانه وعدم قبول قربانه نفسِه
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله﴾ أي القربانَ
﴿مِنَ المتقين﴾ لامن غيرهم وإنما تقبَّلَ قُرباني وردّ قُربانَك لما فينا من التقوى وعدمِه أي إنما أُتيتَ من قِبَل نفسك لا من
26
سوره المائدة ايه ٢٨ سوره الماءده ايه ٢٩ قِبَلي فلم تقتلني خلا أنه لم يصرِّحْ بذلك بل سلك مسلكَ التعريضِ حذراً من تهييج غضبه وحملاً له على التقوى والإقلاعِ عما نواه ولذلك أُسند الفعلُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة ثم صرح بتقواه على وجهٍ يستدعي سكونَ غيظِه لو كان له عقلٌ وازعٌ حيث قال بطريق التوكيد
27
﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ﴾ حيث صدر الشرطيه باللام المؤ طه للقسم وقدم الجارَّ والمجرورَ على المفعول الصريح إيذانا من أول الأمر برجوعِ ضرر البسط وغاءلته إليه ولم يُجْعلْ جوابُ القسمِ السادُّ مسدَّ جوابِ الشرط جملةً فعليةً موافقة لما في الشرط بل اسميه مصدرت بما الحجازية المفيدةِ لتأكيدِ النفي بما في خبرها من الباء للمبالغة في إظهار براءتِه عن بسْطِ اليد ببيانِ استمراره على نفي البسط كما في قوله تعالى وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ وقوله وَمَا هُم بخارجين منها فاءن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تدل بمعونة المقام على دوامَ الثبوت كذلك السلبيةُ تدل بمعونته على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوام وذلك با عتبار الدوام والاستمرار بعد اعتبارِ النفى لاقبله حتى يردَ النفيُ على المقيّدِ بالدوام فيرفعَ قيدَه اى والله لءن باشرتَ قتلي حسبما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعلٍ مثلَه لك في وقتٍ من الأوقاتِ ثم علل ذالك بقوله ﴿إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ وفيه من إرشادِ قابيلَ إلى خشية الله تعالى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مالا يخفى كأنه قال إني أخافه تعالى إن بسطتُ يدِيَ إليك لأقتلك أن يعاقبَني وإن كان ذلك مني لدفع عداوتِك عني فما ظنُّك بحالك وأنت البادى العادي وفي وصفه تعالى بربوبية العالمين تأكيدٌ للخوف قيل كان هابيل اقوا منه ولكن تحرَّج عن قتله واستسلم خوفاً من الله تعالى لأن القتلَ للدفع لم يكن مباحا حينذ وقيل تحرِّياً لما هو الأفضلُ حسبما قال عليه السلام كن عبدَ الله المقتول ولا تكنْ عبدَ الله القاتل ويا باه التعليلُ بخوفه تعالى إلا أن يدعى أن تركَ الأَوْلى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة مبالغةً في التنزه وقوله تعالى
﴿إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ﴾ تعليل آخرُ لامتناعه عن المعارضة على أنه غرَضٌ متأخِّرٌ عنه كما أن الأولَ باعثٌ متقدِّمٌ عليه وإنما لم يُعطفْ عليه تنبيهاً على كفاية كل منها في العِلّية والمعنى إني أريد باستسلامي لك وامتناعي عن التعرّض لك أن ترجِعَ بإثمي أي بمثل إثمي لو بسطتُ يدي اليك وباثمك ببسط يدِك إِلى كَما في قولِه عليه السلام المُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ فَعَلَى البادى مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُوم اى على البادى عينُ إثمِ سبِّه ومثلُ سبِّ صاحبه بحكم كونه سَبَباً له وقيل معنى بإثمي إثمِ قتلي ومعنى باثمك الذي لأجله لم يُتقبَّلْ قربانك وكلا هما نُصب على الحالية أي ترجع ملتبساً بالإثمين حاملاً لهما ولعل مرادَه بالذات إنما هو عدمُ ملابستِه للاثم لاملابسة أخيه له وقيل المراد بالإثم عقوبتُه ولا ريب في جواز إرادة عقوبةِ العاصي ممن عَلِم أنه لا يرعوي عن المعصية أصلاً ويأباه قولُه تعالى
﴿فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار﴾ فإن كونَه منهم إنما يترتّب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلائِه بعقوبتهما وحملُ العقوبة على نوعٍ اخر يترتب عليها
27
سورة المائدة ايه ٣٠ سورة الماءده ايه ٣١ العقوبةُ النارية يردّه قوله تعالى
﴿وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين﴾ فإنه صريحٌ في أن كونه من أصحاب النار تمامُ العقوبة وكمالُها والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها ولقد سلك في صَرْفه عما نواه من الشر كلَّ مسلك من العظة والتذكير بالترغيب تارةً والترهيب أخرى فما أورثه ذلك إلا الإصرارَ على الغيِّ والانهماك في الفساد
28
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ أي وسَّعَتْه وسهّلته من طاعَ له المرتَعُ إذا اتسع وترتيبُ التطويع عَلى ما حُكي من مقالات هابيلَ مع تحققه قبلها أيضاً كما يُفصح عنهُ قولُه لاَقْتُلَنَّكَ لِما أن بقاءَ الفعل بعد تقرّر ما يُزيله من الدواعي القوية وإن كان استمرار عليه بحسَب الظاهر لكنه في الحيقيقة أمرٌ حادث وصُنع جديد كما في قولك وعظتُه فلم يتَّعظ أو لأن هذه المرتبةَ من التطويع لم تكن حاصلةً قبلَ ذلك بناءً على تردُّده في قُدرته على القتل لما أنه كان أقوى منه وإنما حصلت بعد وقوفه على استسلام هابيلَ وعدم معارضتِه له والتصريحُ بأُخوَّته لكمال تقبيحِ ما سوَّلته نفسُه وقرىء فطاوعت على أنه فاعَلَ بمعنى فعل أو على أن قتل اخيه كلانه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع وله لزيادة الربطِ كقولك حفظتُ لزيد مالَه ﴿فَقَتَلَهُ﴾ قيل لم يدر قابيلُ كيف يقتل هابيلَ فتمثل إبليسُ وأخذ طائراً ووضع رأسه على حجر ثم شدَخها بحجر آخرَ فتعلّم منه فرضخَ رأسَ هابيلَ بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصي عليه وقيل اغتالَه وهو نائم وكان لهابيلَ يوم قُتل عشرون سنة واختلف في موضِع قتلِه فقيل عند عقبةِ حِراء وقيل بالبصرة في موضع المسجدِ الأعظم وقيل في جبل بود ولما قتله تركه بالعَراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جِراب على ظهره أربعين يوماً وقيل سنة حتى أروح وعكفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمي به فتأكلَه ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين﴾ ديناً ودنيا
﴿فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الارض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾ رُوي أنَّه تعالى بعثَ غرابين فاقتتلى فقتل أحدهما الآخرَ فحفر له بمنقاره ورجليه حُفرة فألقاه فيها والمستكنُّ في يريه الله تعالى او للغراب والالام على الأول متعلقة ببعَثَ حتما وعلى الثاني يبحث ويجوز تعلُّقها ببعث أيضاً وكيف حال من ضمير يُواري والجملةُ ثاني مفعولي يري والمراد بسواة أخيه جسدُه الميْتُ
﴿قَالَ﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عند مشاهدةِ حال الغراب فقيل قال
﴿يا ويلتى﴾ هي كلمةُ جَزَعٍ وتحسّرٍ والالاف بدلٌ من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتي احضرا فهذا أوانك والويلُ والويلةُ الهلَكة
﴿أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ﴾ أي عن أن أكون
﴿مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِى﴾ تعجبٌ من عدم اهتدائِه إلى ما اهتدى إليه الغرابُ وقولُه تعالى فَأُوَارِيَ بالنصب عطفٌ على أن أكونَ وقرا بالرفع أي فأنا أواري
﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين﴾ أي على قتله لِما كابد فيه من التحيّر في أمره وحملِه على رقبته مدةً طويلة روي أنه لما قتله اسودّ جسدُه وكان أبيضَ فسأله آدمُ عن اخيه فقال
28
سورة المائدة اية ٣٢ ما كنت عليه وكيلاً قال بل قتله ولذلك اسود جسدُك ومكث آدمُ بعده مائةَ سنةٍ لا يضحك وقيل لما قتل قابيلُ هابيلَ هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليسُ فقال له إنما أكلت النارُ قربانَ هابيلَ لأنه كان يخدُمها ويعبُدها فإن عبدتَها أيضاً حصل مقصودُك فبنى بيتَ نارٍ فعبدها وهو أولُ مَنْ عبد النار
29
﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾ شروعٌ فيما هو المقصودُ من تلاوة النبأ من بيان بعض آخر من جنايات بني إسرائيل ومعاصيهم وذلك إشارةٌ إلى عِظم شأنِ القتلِ وإفراطِ قُبحِه المفهومَين مما ذكر في تضاعيف القِصّةِ مَن استعظام هابيلَ له وكمالِ اجتنابه عن مباشرته وإن كان ذلك بطريق الدفعِ عن نفسه واستسلامه لأن يُقتلَ خوفاً من عقابه وبيانِ استتباعِه لتحمل القاتلِ لإثم المقتول ولكون قابيلَ بمباشرته من جُملة الخاسرين دينَهم ودنياهم ومن ندامته على فعله مع ما فيه من العتوّ وشدة الشكيمةِ وقساوةِ القلب والأجْلُ في الأصل مصدر أجَل شراً إذا جناه استعمل في تعليل الجناياتِ كما في قولهم من جرّاك فعلتُه أي من أن جرَرْتَه وجنيتَه ثم اتُّسع فيه واستُعمل في كل تعليل وقرا من إِجْل بكسرِ الهمزةِ وهي لُغةٌ فيه وقرا مِنَ اجْل بحذف الهمزة والقاء فتحها على النون ومن لا ابتداء الغايةِ متعلقةٌ بقوله تعالى
﴿كتبنا على بني إسرائيل﴾ وتقديمُها عليه للقصر أي من ذلك ابتداءُ الكَتْب ومنه نشأ لا من شيء آخرَ أي قضينا عليهم وبيّنا
﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً﴾ واحدةً من النفوس
﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أي بغير قتلِ نفسٍ يوجب الاقتصاص
﴿أَوْ فَسَادٍ فِى الارض﴾ أي فساد يوجب إهدارَ دمِها وهو عطفٌ على ما أضيفَ إليهِ غير على معنى نفي كلا الامرين معاً كما في قولكَ من صلى بغير وضوء أو تيمُّمٍ بطلت صلاتُه لا نفيِ أحدِهما كما في قولك من صلى بغير وضوء أو ثوب بطلت صلاته ومذار الاستعمالين اعتبارُ ورودِ النفي على ما يُستفاد من كلمة أو من الترديد بين الامرين المنبا عن التخيير والإباحة واعتبارِ العكس ومناطُ الاعتبارين اختلافُ حالِ ما أضيف إليه غير من الأمرين بحسب اشتراط نقيض الحكم بتحقق أحدِهما واشتراطِه بتحققهما معاً ففي الأول يرد النفيُ على الترديد الواقعِ بين الامرين قبل ورود فيفيد نفيَهما معاً وفي الثاني يرد الترديدُ على النفي فيفيد نفيَ أحدهما حتماً إذ ليس قبل ورودِ النفيِ ترديدٌ حتى يُتصَوَّر عكسُه وتوضيحُه أن كلَّ حكمٍ شُرِطَ بتحقق أحدِ شيئين مثلاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفائهما معاً وكلَّ حكمٍ شرُط بتحققهما معاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفاء أحدِهما ضرورةَ النقيض كلِّ شيءٍ مشروطٌ بنقيض شرطِه ولا ريب في النقيض الإيجابِ الجزئي كما في الحكم الأول هو السلبُ الكليُّ ونقيضَ الإيجابِ الكليِّ كما في الحكم الثاني هو رفعُه المستلزِمُ للسلب الجزئي فثبت اشتراطُ نقيضِ الأولِ بانتفائهما معاً واشتراطُ نقيضِ الثاني بانتفاء أحدِهما ولمّا كان الحكمُ في قولك من صلى بوضوء أو تيممٍ صحت صلاتُه مشروطا بتحقق احدهما مهما كان نقيضا في قولك من صلى بغير وضوء او
29
المائدة آية ٣٢
تيمم بطلتْ صلاتُه مشروطاً بنقيض الشرطِ المذكور البتةَ وهو انتفاؤهما معاً فتعين ورورد النفي المستفادِ من غير على الترديد الواقعِ بين الوضوء والتيمّمِ بكلمة أو فانتفى تحققُهما معاً ضرورةَ عمومِ النفي الواردِ على المبهم وعلى هذا يدور ما قالوا إنه إذا قيل جالس العلماءَ أو الزهار قم أُدخل عليه لا الناهية امتنع فعلُ الجميع نحو ولا تطع منهم آثما أكفورا إذ المعنى لا تفعلْ أحدَهما فأيُّهما فعله فهو أحدُهما وأما قولُك من صلى بوضوء أو ثوبٍ صحت ثلاته فحيث كان الحكمُ فيه مشروطاً بتحقق كِلا الأمرين وهو انتفاءُ أحدِهما فتعين ورودُ الترديد على النفي فأفاد نفيَ أحدِهما ولا يخفى أن إباحةَ القتلِ مشروطةٌ بأحد ما ذكر من القتل والفساد ومن ضرورته اشتراطُ حرمتِه بانتفائهما معاً فتعين ورودُ النفي على الترديد لا محالة كأنَّه قيل
مَنْ قتل نفساً بغير أحدِهما
﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً﴾ فمن قال في تفسيره أو بغير فساد فقد أبعد عن توفية النظم الكريم حقَّه وما في كأنما كافةٌ مهيئةٌ لوقوع الفعلِ بعدها وجميعاً حالٌ من الناس أو تأكيد ومناطُ التشبيهِ اشتراكُ الفعلين في هتك حرمةِ الدماء والاستعصاء على الله تعالى وتجسيرِ الناس على القتل وفي
استتباع القَوَد واستجلابِ غضبِ الله تعالى وعذابِه العظيم
﴿وَمَنْ أحياها﴾ أي تسبب لبقاء نفس واحدةٍ موصوفةٍ بعدم ما ذُكر من القتل والفساد في الأرض إما بنهي قاتلها عن قتلها أو استنقاذِها من سائر أسبابِ الهلَكة بوجهٍ من الوجوه
﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ وجهُ التشبيهِ ظاهرٌ والمقصود تهويل أمر التقل وتفخيمُ شأن الإحياءِ بتصوير كلَ منهما بصورة لائقة به في إيجاب الرهبةِ والرغبة لذلك صدر النظمُ الكريمُ بضمير الشأنِ المنبىء عن كمال شهرته ونابهته وتبادره إلى الأذهان عند ذكر الضمير الموجب لزيادة تقريرِ ما بعده في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكن عند وروده فضلُ تمكن كأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا
﴿وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رسلنا بالبينات﴾ جملة مستقرة غيرُ معطوفةٍ على كتبنا أكدت بالتأكيد القسمي وحرفِ التحقيقِ لكمال العنايةِ بتحقق مضمونِها وإنما لم يُقَلْ ولقد أرسلنا إليهم الخ للتصريح بوصول الرسالةِ إليهم فإنه أدلُّ على تناهيهم في العتوّ والمكابرة أي وبالله لقد جاءتهم رسلنا حسبما أرسلناهم بالآيات الواضحةِ الناطقةِ بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاتِه وتأييداً لتحتم المحافظةِ عليه
﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك﴾ أي بعد ما ذكر من الكَتْب وتأكيدِ الأمر بإرسال تترى وتجديدِ العهدِ مرة أخرى ووضعُ اسمِ الإشارةِ موضع الضمير للإيذان بكمال تميّزِه وانتظامِه بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعدِ للإيماء إلى علو درجتِه وبُعد منزلتِه في عظ الشأنِ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ والاستبعاد
﴿فِى الارض﴾ متعلقٌ بقوله تعالى
﴿لَمُسْرِفُونَ﴾ وكذا الظرفُ المتقدم ولا يقدح فيه توسط اتللام بينه وبينهما لأنها لامُ الابتداءِ وحقُّها الدخولُ على المبتدأ وإنما دخولُها على الخبر لمكان إنّ فهي في حيزها الأصلي حكما والإسرافُ في كل أمر التباعدُ عن حد الاعتدالِ مع عدم مبالاة به أي مسرفون في القتل غيرُ مبالين به ولما كان إسرافُهم في أمر القتلِ مستلزِماً لتفريطهم في شأن الإحياء وذكراً وكان هو أقبحَ الأمرين وأفظعَهما اكتفي بذكره في مقام التشفيع
30
﴿إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حكمِ نوع من أنواع القتلِ وما يتعلق به من الفساد بأخذ المالِ ونظائرِه وتعيينِ موجبِه العاجلِ والآجلِ إثرَ بيان أعظم شأن القتلِ بغير حق وأُدرج فيه بيانُ ما أشير إليه إجمالاً من الفساد المبيحِ للقتل قيل أي يحاربون رسولَه وذكرُ الله تعالى للتمهيد والتنبيه على ما رفعه عنده عز وجل ومحاربةُ أهلِ شريعتِه وسالكي طريقتِه من المسلمين محاربةٌ له ﷺ فيعم الحكمُ من يحاربهم ولو بعد أعصارٍ بطريق العبارة دون الدِلالةِ والقياس لأن ورود النصِّ ليس بطريق خكاب المشافهةِ حتى يختصَّ حكمُه بامكلفين عند النزول فيُحتاجَ في تعميمه لغيرهم إلى دليل آخرَ وقيل جعلُ محاربة المسلمين محاربةً لله تعالى ورسولِه تعظيماً لهم والمعنى يحاربون أولياءَهما وأصل الحربِ السلب والمراد هههنا قطعُ الطريق وقيل المكابرة بطريق اللصوصية وإن كانت في مِصْرٍ
﴿وَيَسْعَوْنَ فِى الارض﴾ عطف على يحاربون والجار المجرور متعلقٌ به وقولُه تعالى
﴿فَسَاداً﴾ إما مصدرٌ وقعَ موقعَ الحالِ من فاعلِ يسعون أي مفسدون أو مفعول له أي للفساد أو مصدر مؤكد ليسعون لأنه في معنى مفسدون على أنه مصدرٌ من أفسد بحذف الزوائد أو اسمُ مصدر قيلَ نزلتِ الآيةُ في قوم هلال بنِ عويمرٍ الأسلمي وكان وادعه رسول الله ﷺ على أن لا يُعينُه ولا يُعينُ عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن لا يُهاج ومن مر بهلال إلى رسول الله ﷺ فهو آمن لا يهاج فمر قومٌ من بني كنانةَ يريدون الإسلام بناس من قوم هلالٍ ولم يكن هلال يومئذ شاهداً فقطعوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم وقيل نزلت في العُرَنيين وقصتُهم مشهورة وقيل في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسولِ الله ﷺ عهدٌ فنقضوا العهدَ وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض ولما كانت المحاربةُ والفسادُ على مراتبَ متفاوتةٍ ووجوه شتى من القتل بدون أخذ المال ومن التق مع أخذه وأخذِه بدون القتل ومن الإخافة بدون قتلٍ وأخذ شُرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبةٌ معينة بطريق التوزيعِ فقيل
﴿أَن يُقَتَّلُواْ﴾ أي حداً من غير صلبٍ إن أفرد القتلَ ولو عفا الأولياءُ لا يلتفت إلى ذلك لأنه حقُّ الشرعِ ولا فرقَ بين أنْ يكون القتلُ بآلة جارحةٍ أو لا
﴿أَوْ يُصَلَّبُواْ﴾ أي مع القتل إن جمعوا بين القتلِ والأخذِ بأن يصلّبوا أحياءً وتُبعَجَ بطونُهم برمح إلى أن يموتوا وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديَهم وأرجلَهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وصيغةُ التفعيل في الفعلَين للتكثير إن اقتصروا على أخذ المالِ من مسلم أو ذمي وكان المقدر بحيث لو قسم عليهم أصاب كلاًّ منهم عشرةُ دراهمَ أو ما يساويها قيمتُه أما قطعُ أيديهم فلأخذ المالِ وأما قطعُ أرجلهم فلإخافة الطريقِ بتفويت أمْنِه
﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الارض﴾ إن لم يفعلوا غيرَ الإخافةِ والسعي للفساد والمرادُ بالنفي عندنا هو الحبس
31
المائدة آية ٣٤ ٣٥
فإنه نفيٌ عن وجه الأرضِ لدفع شرِّهم عن أهلها ويُعزّرون أيضاً لمباشرتهم منكر الإخافة وإزالة الأمن وعند الشافعي رضي الله عنه النفي من بلدٍ إلى بلدٍ لا يزال يُطلب وهو هاربٌ فزعاً وقيل هو النفي عن بلده فقط وكانوا ينفونهم إلى دَهْلَك وهو بلد في أقصى تِهامة وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة
﴿ذلك﴾ أي من فضل من الأحكام والأجزية قيل هو مبتدأٌ وقوله تعالى
﴿لَهُمْ خِزْىٌ﴾ جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ على المبتدأ وقوله تعالى
﴿فى الدنيا﴾ متعلق بمحذوب وقع صفةً لخزيٌ أو متعلق بخزيٌ على الظرفية والجملةُ في محل الرفع الرفعِ على أنها خبرٌ لذلك وقيل خزيٌ خبرٌ لذلك ولهم متعلق بمحذوب وقع حالاً من خزي لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قدم انتصب حالاً وفي الدنيا إما صفة لخزي أو متعلق به على ما مر والخزيُ الذلُّ والفضيحة
﴿وَلَهُمْ فِى الآخرةِ﴾ غيرُ هذا
﴿عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ لا يقادَرُ قدرُه لغاية عِظمِ جنايتِهم فقوله تعالى لَهُمْ خبرٌ مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفي الآخرة متعلقٌ بمحذوف وفع حالاً من عذاب لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قدم انتصب حالا أي كائناً في الآخرة
32
﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ استثناءٌ مخصوصٌ بما هو من حقوق الله عزَّ وجلَّ كما ينبىء عنه قوله تعالى ﴿فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أما ما هو من حقوق الأولياءِ من القصاص ونحوِه فإليهم ذلك إن شاءوا عفَوْا وإن أحبوا استوفَوْا وإنما يسقطُ بالتوبة وجوبُ استيفائِه لا جوازُه وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أن الحرثَ بن بدر جاءه تائباً بعد ما كان يقطع الطريقَ فقبِلَ توبته ودرأ عنه العقوبة
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله﴾ لما ذُكِرَ عِظَمُ شأنِ القتلِ والفساد وبيَّن حُكمَهما وأُشير في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب من جنايته أُمِرَ المؤمنون بأن يتقوه تعالى في كلِّ ما يأتُون وما يذرون بترك ما يجب بقاؤه من المعاصي التي من جملتها ما ذكر من القتل والفساد وبفعل الطاعات التي من زُمرتها السعيُ في إحياء النفوس ودفعِ الفساد والمسارعة إلى التوبة والاستغفار
﴿وابتغوا﴾ أي اطلُبوا لأنفسكم
﴿إِلَيْهِ﴾ أي إلى ثوابه والزلفى منه
﴿الوسيلة﴾ هي فعيلةٌ بمعنى ما يُتوسّل به ويُتقرَّب إلى الله تعالى من فعل الطاعات وتركِ المعاصي من وسَّل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء وإليه متعلقٌ بها قُدّم عليها للاهتمام به وليست بمصدرٍ حتى لا تعملَ فيما قبلها ولعل المراد بها الاتقاءُ المأمورُ به فإنه مَلاكُ الأمر كلِّه كما أشير إليه وذريعةٌ لنيل كلِّ خير ومنجاةٌ من كل ضَيْر فالجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيانِ والتأكيد أو مطلقُ الوسيلة وهو داخل فيها دخولاً أولياً وقيل الجملةُ الأولى أمرٌ بترك المعاصي والثانية أمرٌ بفعل الطاعات وحيث كان في كلَ من ترك المعاصي المشتهاةِ للنفي وفعلِ الطاعات المكروهة لها كُلفة ومشقة عقّب الأمرَ بهما بقوله تعالى
﴿وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ﴾ بمحاربة أعدائِه البارزةِ والكامنة
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بنيلِ مرضاتِه والفوزِ بكراماته
32
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأوامر السابقة وترغيبِ المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز وجل قبل انقضاءِ أوانِه ببيان استحالةِ توسُّلِ الكفار يومَ القيامة بأقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلاً عن نيلِ الثواب
﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ﴾ أي لكل واحد منهم كما في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ الخ لا لجميعهم إذ ليس في ذلك هذه المرتبةُ من تهويل الأمر وتفظيع الحال
﴿مَّا فِى الأرض﴾ أي من أصناف أموالِها وذخائها وسائرِ منافعِها قاطبةً وهو اسمُ أن ولهم خبرُها ومحلُّها الرفعُ بلا خلاف خلا أنه عند سيبويه رفعٌ على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتِها على المُسنَدِ والمُسنَد إليه وقد اختصَّتْ منْ بينِ سائرِ ما يُؤوّل بالاسم بالوقوع بعد لو ولو قيل الخبرُ محذوفٌ ثم قيل يُقدّر مقدّماً أي لو ثابتٌ كونُ ما في الأرض لهم وقيل بقدر مؤخراً أي لو كونُ ما في الأرض لهم ثابتٌ وعند المبرِّد والزجّاج والكوفيين رُفعَ على الفاعلية والفعلُ مقدرٌ بعد لو أي لو ثبَتَ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض وقولُه تعالى
﴿جَمِيعاً﴾ توكيد للوصول أو حال منه
﴿وَمِثْلَهُ﴾ بالنصب عطفٌ عليه وقوله تعالى
﴿مَعَهُ﴾ ظرفٌ وقع حالاً من المعطوفِ والضميرُ راجعٌ إلى الموصول وفائدتُه التصريحُ بفرض كينونَتِهما لهم بطريق المعيّة لا بطريق التعاقُب تحقيقاً لكمال فظاعةِ الأمر مع ما فيه من نوع إشعارٍ بكونهما شيئاً واحداً وتمهيداً لإفراد الضمير الراجع إليهم واللام في قوله تعالى
﴿لِيَفْتَدُواْ بِهِ﴾ متعلقةٌ بما تعلق به خبرُ أن أعني الاستقرارَ المقدَّرَ في لهم وبالخبر المقدّر عند من يرى تقديرَ الخبرِ مقدماً أو مؤخراً وبالفعل المقدّر بعد لو على رأي المبرد ومن نحاه ولا ريب في أن مدارَ الافتداءِ بما ذُكر هو كونُه لهم لا ثبوت لهم وإن كان مستلزِماً له والباء في به متعلقةٌ بالافتداء والضميرُ راجعٌ إلى الموصول ومثله معاً وتوحيدُه إما لما أشير إليه وإما لإجرائه مُجرى اسمِ الإشارة كأنه قيل بذلك كما في قوله كأنه في الجلد توقيع البَهَق أي كأن ذلك وقيل وهو راجعٌ إلى الموصول والعائدُ إلى المعطوف أعني مثله محذوفٌ كما حُذف الخبرُ من قيارٌ في قوله فإني وقيارٌ بها لغريبُ أي وقيار أيضاً غريبُ وقد جوز أن يكون نصب ومثله على أنَّه مفعولٌ معه ناصِبُه الفعلُ المقدر بعد لو تفريعاً على مذهب المبرد ومن رأى رأيَه وأنت خبير بأن يؤدِّي إلى كونِ الرافعِ للفاعل غيرَ الناصب للمفعول معه لأن المعنى على اعتبار المعية ما في الأرض ومثله في الكينونة لهم لا ثبوت تلك الكينونة وتحقيقها ولا مَساغَ لجعل ناصبِه الاستقرار المقدر في لهم لِما أن سيبويهِ قد نص على غسم الإشارةِ وحرفَ الجر المتضمِّنَ للاستقرار لا يعمَلانِ في المفعول معه وأن قوله هذا لك وأباك قبيحٌ وإن جوزه بعضُ النحاة في الظرف وحرف الجر وقولُه تعالى
﴿مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامةِ﴾ متعلقٌ بالافتداء أيضاً أي لو أَنَّ مَّا فِى الأرض ومثله ثابتٌ لهم ليجعلوه فديةً لأنفسِهم من العذاب الواقعِ يومئذ
﴿مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ﴾ ذلك وهو جواب لو وترتيبُه على كون ذلك لهم لأجل افتدائِهم به من غير
33
المائدة آية ٣٧ ٣٨
ذكرِ الافتداءِ بأن يقال وافتدَوْا به مع أن الردَّ والقَبولَ إنما يترتب عليه لا على مباديه للإيذانِ بأنه أمرٌ محقَّقُ الوقوع غنيٌّ عن الذكر وإنما المحتاجُ إلى الفَرْض قدرتُهم على ما ذُكر او للمبالغة في تحقق الردِّ وتخييلِ أنه وقع قبل الافتداءِ على منهاج ما في قوله تعالى أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه حيث لم يقل فأتى به فرآه فلما الخ وما في قوله تعالى وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ من غير ذكر خروجِه عليه السلام عليهن ورأيتهن له والجملة الامتناعية بحالها خبرُ إن الذين كفروا والمرادُ تمثيلُ لزوم العذاب لهم واستحالةُ نجاتِهم منه بوجهٍ من الوجوهِ المحققةِ والمفروضة وعن النبي عليه الصلاةَ والسلام يقالُ للكافر أرأيت لو كان لك ملءُ الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سُئلتَ أيسرَ من ذلك وهو كلمة السهادة وقوله تعالى
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تصريحٌ بما أشير إليه بعدم قَبول فِديتِهم لزيادة تقريرِه وبيانِ هَوْلِه وشدّتِه قيل محلُّه النَّصبُ على الحاليَّةِ وقيل الرفعُ عطفاً على خبر إِن وقيل عطفٌ على إن الذين فلا محلَّ له كالمعطوف عليه
34
﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ حالِهم في أثناء مكابدة العذاب مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ مما قبله كأنه قيل فكيف يكون حالُهم أو ماذا يصنعون فقيل يريدون الخ وقد بين تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار قيل إنهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرَج فيلفَحُهم لهم النار ويرفعُهم إلى فوق فهناك يريدون الخروج ولاتَ حين مناصٍ وقيل يكادون يخردون منها لقوة النار وزيادةِ رفعِها إياهم وقيل يتمنّونه ويريدون بقلوبهم وقولُه عزَّ وجلَّ ﴿وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا﴾ إما حالٌ من فاعل يريدون أو اعتراض وأياما كان فإيثارُ الجملة الاسمية على الفعلية مصدّرةً بما الحجازية الدالة بما في خبرها من البناء على تأكيد النفي لبيان كمالِ سوءِ حالهم باستمرار عدم خروجبهم منها فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تفيدُ بمعونة المقام دوامَ الثبوت تفيد السلبية ايضا بمعونته دوامِ النفي لا نفْيِ الدوام كما مر في قوله تعالى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ الخ وقرىء أن يُخرَجوا على بناء المفعول من الإخراج ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ تصريح بما أشير إليه آنفاً من عدم تناهي مدتِه بعد بيان شدتِه
﴿والسارق والسارقة﴾ شروعٌ في بيان حكم الشرقة الصُّغرى بعد بيان أحكام الكبرى وقد عرفت اقتضاءَ الحال لإيراد مكا توسّط بينهما من المقال ولمّا كانت السرقة معهودةً من النساء كالرجال صرح بأن السارقة أيضاً مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراجُ النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة لمزيد الاعتناءِ بالبيان والمبالغةِ في الزجْر وهو مبتدأ خبرُه عند سيبويه محذوفٌ تقديرُه وفيما يتلى عليكم أو وفيما فُرِضَ عليكم السارقُ والسارقةُ أي حكمُهما وعند المبرِّد قوله تعالى
﴿فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط إذ المعنى الذي سرق والتي سرقة وقُرىء بالنصب وفضَّلها سيبويه على قراءة الرفع لأن الإنشاء لا يقع خبراً إلا بتأويلٍ وإضمار والسرقةُ أخذُ مال الغير خُفْيةً وإنما توجب القطعَ إذا كان الأخذ من حِرزٍ
34
المائدة آية ٣٩ ٤٠
والمأخوذُ يساوي عشرةَ دراهِمَ فما فوقها مع شروط فُصِّلت في موقعها والمراد بأيديَهما أيمانُهما كما يُفصحُ عنه قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه والسارقون والسارقاتُ فاقطعوا أيمانهم ولذلك ساغ وضعُ الجمْع موضعَ المثنى كما في قوله تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا اكتفاءً بتثنية المضاف إليه واليد اسمٌ لتمام الجارحة ولذلك ذهب الخوارجُ إلى أن المقطَعَ هو المنكب والجمهورُ على أنه الرُّسُغ لأنه عليه الصلاة والسلام أُتيَ بسارقٍ فأمر بقطع يمينِه منه
﴿جَزَاء﴾ نُصبَ على أنَّه مفعولٌ له أي فاقطعوا للجزاء أو مصدرٌ مؤكِّد لفعله الذي يدل عليه فاقطعوا أي فجازوهما جزاء وقوله تعالى
﴿بِمَا كَسَبَا﴾ على الأول متعلّقٌ بجزاء وعلى الثاني باقطعوا وما مصدريةٌ أي بسبب كسْبِهما أو موصولةٌ أي ما كسباه من السرقة التي تباشَر بالأيدي وقوله تعالى
﴿نكالا﴾ مفعولٌ له أيضاً على البدلية من جزاء لأنهما من نواع واحد وقيل القطعُ معلَّلٌ بالنكال وقيل وهو منصوبٌ بجزاءً على طريقة الأحوال المتداخِلَة فإنه علةٌ للجزاء والجزاءُ علةٌ للقطع كما إذا قلتَ ضربتُه تأديباً له إحساناً إليه فإن الضربَ معلَّلٌ بالتأديب والتأديبُ معللٌ بالإحسان وقد أجازوا في قولِه عزَّ وجلَّ أن يكفر بِمَا أنزَلَ الله بَغْيًا أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أن يكون بغياً مفعولاً له ناصبُه أن يكفروا ثم قالوا إن قوله تعالى إن يُنَزّلُ الله مفعولٌ له ناصبُه بغياً على أن التنزيلَ عَلةٌ للبغي والبغْيَ علةٌ للكفر وقولُه تعالى
﴿مِنَ الله﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي نكالا كائناً منه تعالى
﴿والله عَزِيزٌ﴾ غالبٌ على أمره يُمضيه كيف يشاءُ من غير نِدَ ينازعُه ولا ضدَ يمانعُه
﴿حَكِيمٌ﴾ في شرائعه لا يَحكُم إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحة ولذلك شرَعَ هذه الشرائعَ المنطويةَ على فنون الحِكَمِ والمصالح
35
﴿فَمَن تَابَ﴾ أي من السرق إلى الله تعالى ﴿من بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ الذي هو صرقته والتصريحُ به مع أن التوبةَ لا تُتصوَّرُ قبلَه لبيان عِظَم نعمتِه تعالى بتذكير عِظمِ جنايتِه ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أي أمره بالتقصِّي عن تبعات ما باشرَه والعزمِ على ترك المعاودةِ إليها ﴿فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ أي يقبل توبتَه فلا يعذّبه في الآخرة وأما القطعُ فلا تُسقطُه التوبةُ عندنا لأن فيه حقَّ المسروقِ منه وتُسقطُه عند الشافعيِّ في أحد قوليه ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ مبالغ غفي المغفرة والرحمة ولذلك يَقبلُ توبتَه وهو تعليلٌ لما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعارِ بعِلَّة الحُكْم وتأييدِ استقلالِ الجملة وكذا في قولِه عزَّ وجلَّ
﴿ألم تعلمَ إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ فإن عنون الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأٌ والجملةُ خبرٌ لإن وهي مع ما غفي حيِّزِها سادّةٌ مَسدَّ مفعوليْ تعلم عند الجمهور وما فيه من تكرير الإسناد لتقويةِ الحُكْم والخطاب لرسول الله ﷺ بطريق التلوين وقيل لكل أحدٍ صالحٍ للخطاب والاستفهامُ الإنكاريُّ لتقرير العلم والمرادُ به الاستشهادُ بذلك على قدرته تعالى
35
المائدة آية ٤١
على ما سيأتي من التعذيب والمغفرةِ على أبلغ وجهٍ وأتمِّه أي ألم تعلمَ أَنَّ الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرُّفِ الكليِّ فيهَما وفيمَا فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة إلى غير ذلك حسْبما تقتضيهِ مشيئتُه
﴿يُعَذّبُ مَن يَشَآء﴾ أنْ يعذَبهُ
﴿وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء﴾ أنْ يغفرَ له من غير نِدَ يساهمُه ولا ضدَ يزاحمُه وتقديمُ التعذيبِ على المغفرة لمراعات ما بين سببيهما من الترتيب والجملة إما تقريرٌ لكون ملكوتِ السموات والأرضِ له سبحانه أو خبرٌ لأن
﴿والله على كُلّ شىء قدير﴾ فيقدر على ما ذكر من التعذيب والغفرة والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لما مرَّ مراراً والجملة تدييل مقررلما قبلها
36
﴿يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر﴾ خُوطب عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ للتشريفِ والإشعارِ بما يوجب عدمَ الحزن والمسارعةُ في الشيء الوقوعُ فيه بسرعة ورَغبةً وإيثارُ كلمةُ في على كلمة إلى الواقعة في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن ربكم وجنة غلخ للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرَحونه وإنما ينتقِلون بالمسارعة عن بعض فنونِه وأحكامِه إلى بعضٍ آخرَ منها كإظهارِ موالاةِ المشركين وإبرازِ آثارِ الكيدِ للإسلام ونحوِ ذلك كما في قولِه تعالى أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات فإنهم مستمروه على الخير مسارعون في أنواعِه وأفرادِه والتعبيرُ عنهم بالموصول للإشارة بما في حيِّز صلتِه إلى مدار الحزن وهذا وإن كان بحسب الظاهرِ نهياً للكَفَرة عن أن يحزنوه عليه الصلاة والسلام بمسارعتهم في الكفر لكنه في الحقيقة نهيٌ له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاةِ بهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النهي عن أسباب الشيءِ ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وقلعٌ له من أصله وقد يوجَّه النهيُ إلى المسبب ويزاد به النهيُ عن السَّببِ كما في قوله لا أرينك ههنا يريد نهْيَ مخاطَبه عن الحضورِ بين يديه وقرىء لا يُحزِنْك من أحزنه منقولاً من حزِن بكسر الزاء وقرىء يُسرعون يقال أسرع فيه الشيبُ أي وقع فيه سريعاً أي لا تحزَنْ ولا تُبالِ بتهافتهم في الكفر بسرعة وقوله تعالى
﴿مّنَ الذين قالوا آمنا بأفواههم﴾ بيان للمسارعين في الكفر وقيل متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يسارعون وقيل من الموصول أي كائنين من الذين الخ والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا وقوله تعالى
﴿وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ جملةٌ حالية من ضمير قالوا وقيل عطف على قالوا وقوله تعالى
﴿وَمِنَ الذين هِادُواْ﴾ عطف على من الذين قالوا الخ وبه يتم بيانُ المسارعين في الكفر بتقسيمهم إلى قسمين المنافقين واليهود فقوله تعالى
﴿سماعون للكذب﴾ خبر لمبنتدأ محذوفٍ راجعٍ إلى الفريقين أو إلى المسارعين وأما رجوعُه إلى الذين هادوا فمخل بعموم
36
المائدة آية ٤١
الوعيد الآتي ومباديه للكل كما ستقف عليه وكذا جُعل قولُه وَمِنَ الذين الخ خبراً على أن قولَه سماعون صفةٌ لمبتدأ محذوف أي ومنهم قومٌ سماعون الخ لأدائه إلى اختصاص ما عُدِّد من القبائح وما يترتبُ عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم فالوجهُ ما ذُكِرَ أولاً أي هم سماعون واللامُ إما لتقوية العمل وإما لتضمين السماعِ معنى القبول وإما لامُ كي والمفعولُ محذوف والمعنى هم مبالغون في سماع الكذب أو في قَبول ما يفتريه أحبارهمن من الكذب على الله سبحانه وتحريفِ كتابه أو سماعون أخبارَكم وأحاديثَكم ليكذبوا عليكم بأن يمسَخوها بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير أو أخبارَ الناس وأقاويلَهم الدائرة فيما بينهم ليكذبوا فيها بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسارِ سراياهم ونحو ذلك مما يُضَرُّ بهم وأيَّا ما كان فالجملةُ مستأنفةٌ جارية مَجرى التعليل للنهي فإن كونهم سماعين للكذب على الوجوه المذكورة وابتناءَ أمورهم على ما لا أصلَ له من الأباطيل والأراجيف مما يقتضي عدمَ المبالاة بهم وتركَ الاعتداد بما يأتون وما للقطع بظهور بطلان أكاذيبهم واختلالِ ما بَنَوْا عليها من الأفاعيل الفاسدة المؤدِّية إلى الخزيِ والعذاب كما سيأتي وقرىء سمّاعين للكذب بالنصب على الذم وقوله تعالى
﴿سماعون لِقَوْمٍ آخَرِين﴾ خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ مقرِّرٌ للأول ومبينٌ لما هو المراد بالكذب على الوجهين الأولين واللام مثلُ ما في سمع الله لمن حمِده في الرجوع إلى معنى من أي قبِلَ منه حَمْدَه والمعنى مبالِغون في قبول كلام قومٍ آخرين وأما كونُها لامَ التعليل بمعنى سماعون منه عليه الصلاة والسلام لأجل قومٍ آخرين وجَّهوهم عُيوناً ليُبلِّغوهم ما سمعُوا منه عليه الصَّلاةُ والسلام أو كونُها متعلقةً بالكذب على أن سماعون الثانيَ مكررٌ للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقومٍ آخرين فلا يكاد يساعدُهُ النظمُ الكريمُ أصلاً وقوله تعالى
﴿لَمْ يَأْتُوكَ﴾ صفة أخرى لقوم أي لم يُحضروا مجلسك وتجافَوْا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء قيل هم يهودُ خيبر والسماعون بنو قُريظة وقوله تعالى
﴿يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه﴾ صفةٌ أخرى لقوم وصِفوا أولاً بمغايَرَتِهم للسماعين تنبيهاً على استقلالهم وأصالتهم وأصالتهم في الرأي والتدبير ثم بعدم حضورِهم مجلسَ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلام إيذاناً بكمال طغيانهم في الضلال ثم باستمرارهم على التحريف بياناً لإفراطهم في العتوِّ والمكابرةِ والاجتراء على الافتراءِ على الله تعالى وتعييناً للكذب الذي سمعه السماعون أي يُميلونه ويُزيلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها إما لفظاً بإهمالِه أو تغييرِ وضعه وإما معنى بحَمْلِه على غير المراد وإجرائِه في غير موردِه وقيل الجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب ناعيةٌ عليهم شنائعَهم وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ راجع إلى القوم وقوله تعالى
﴿يَقُولُونَ﴾ كالجملة السابقة في الوجوه المذكورة ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من ضمير يحرفون وأما تجويزُ كونها صفةً لسماعون أو حالاً من الضمير فيه فما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وإن مقولَ القول ناطقٌ بأن قائلَه ممن لا يحضرُ مجلسَ الرسول ﷺ والمخاطَب به ممن يحضُره فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه ﷺ لمن لا يحومُ حوله قطعاً وادعاءُ قولِ السماعين لأعقابهم المخالِطين للمسلمين تعسّفٌ ظاهرٌ مُخلٌّ بجزالة النظم الكريم والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أن المحرِّفين والقائلين هم القومُ الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلَهم الباطلةَ مشيرين إلى كلامهم الباطل
﴿إِنْ أُوتِيتُمْ﴾ من جهة الرسول ﷺ
﴿هذا فَخُذُوهُ﴾ واعملوا بموجَبه فإنه الحق
﴿وَإِن لَّمْ تؤتوه﴾ بل أوتيتم
37
المائدة آية ٤١
غيرَه
﴿فاحذروا﴾ أي فاحذروا قبوله وإياكم وإياه في ترتيب الأمر بالحذَر على مجردِ عدمِ إيتاء المحرَّف من المبالغة في التحذير ما لا يخَفْى رُوي أن شريفاً من خَيْبرَ زنى بشريفةٍ وهما مُحصَنان وحدُّهما الرجمُ في التوراة فكرِهوا رجمَهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسولَ الله ﷺ عن ذلك وقالوا إن أمرَكم بالجلد والتحميم فاقبَلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيَيْن معهم فأمرهم بالرَّجْم فأَبوْا أن يأخُذوا به فقال جبريلُ عليه السَّلامُ اجعل بينك وبينهم ابنَ صوريا ووصفه له فقال ﷺ هل تعرفون شاباً أبيضَ أعورَ يسكن فَدَك يقال له ابن صوريا قالوا نعم وهو أعلمُ يهوديَ على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بنِ عِمرانَ في التوراة قال فأرسولا إليه ففعلوا فأتاهم فقال له النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال ﷺ وأنت أعلم اليهود قال كذلك يزعُمون قال لهم أترضَوْن به حكماً قالوا نعم فَقَالَ له رسولُ الله ﷺ أنشُدك الله الذى لاَ إله إلا هو الذي فلق البحرَ وأنجاكم وأغرق آلَ فرعون وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المنّ والسلوى ورفعَ فوقكم الطورَ وأنزل عليكم التوراةَ فيها حلالُه وحرامُه هل تجدون في كتابكم الرجْمَ على من أُحصِن قال نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت أن يحرقني التوراةُ إن كذبتُ أو غيَّرتُ ما اعترفت لك ولكن كيف هي في كتابك يا محمد قال ﷺ إذا شهد أربعةُ رهطٍ عدول أن أَدخَل فيها كما يُدخَلُ الميلُ في المُكحُلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا والذي أنزل التوراةَ على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فوثب عليه سَفَلةُ اليهود فقال خفتُ إن كذَبتُه أن ينزِل علينا العذاب ثم سأل رسول الله ﷺ عن أشياءَ كان يعرِفها من أعلامه فقالَ أشهدُ أَن لاَّ إله إِلاَّ الله وأنك رسول اله النبيُّ الأمي العربي الذي بشر به المرسلون وأمر رسول الله ﷺ بالزانيين فرُجما عند باب المسجد
﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ﴾ أي ضلالته أو فضيحته كائناً من كان فيندرج فيه المذكورون اندراجاً أولياً وعدمُ التصريح بكونهم كذلك للإشعار بكمال ظهورِه واستغنائه عن ذكره
﴿فَلَن تَمْلِكَ لَهُ﴾ فلن تستطيع له
﴿مِنَ الله شَيْئاً﴾ في دفعها والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها ومبينةٌ لعدم انفكاكِهم عن القبائح المذكورة أبداً
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى المذكورين من المنافقين واليهود وما في اسْم الإشارةِ من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى
﴿الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ أي من رجْسِ الكفر وخَبَثِ الضلالة لأنهِماكِهم فيهما وإصرارِهم عليهما وإعراضِهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية بالكلية كما ينبىء عنه وصفُهم بالمسارعة في الكفر أولاً وشرحُ فنون ضلالاتهم آخراً والجملة استئنافٌ مبينٌ لكون إرادتِه تعالى لفتنتِهم مَنوطةً بسوء اختيارِهم وقُبح صنيعِهم الموجبِ لها لا واقعةً منه تعالى ابتداءً
﴿لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ﴾ أما المنافقون فخزيُهم فضيحتُهم وهتكُ سِترتِهم بظهور نفاقِهم فيما بين المسلمين وأما خزيُ اليهود فالذلُ والجزيةُ والافتضاحُ بظهور كَذِبهم في كِتمان نصِّ التوراة وتنكيرُ خزيٌ للتفخيم وهو مبتدأ ولهم خبرُه وفي الدنيا متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ من الاستقرار وكذا الحالُ في قولِه تعالى
﴿وَلَهُمْ فِى الاخرة﴾ أي من الخزي الدنيوي
﴿عذاب أليم﴾ هو الخلودُ في النار وضميرُ لهم في الجملتين للمنافقين واليهود جميعاً لا اليهة ود خاصة كما قيل وتكريرُ لهم مع اتحاد المرجِع لزيادة التقرير والتأكيد والجملتنان استئناف مبني على سؤال نشأ من تفصيل أفعالِهم وأحوالهم الموجبةِ للعقاب كأنه قيل فما لهم من العقوبة فقيل لهم في الدنيا الآية
38
﴿سماعون لِلْكَذِبِ﴾ خبرٌ آخرُ للمبتدأ المقدّر كُرِّر تأكيداً لما قبله وتهيدا لما بعده من قوله تعالى
﴿أكالون لِلسُّحْتِ﴾ وهو أيضاً خبرٌ آخرُ للمقدَّر واردٌ على طريقة الذم أو بناء على أنَّ المراد بالكذِب ما يفتعله الراشون عند الأكّالين والسُحْت بضم السين وسكون الحاء في الأصل كل ما لا يحِلُّ كسبُه وقيل هو الحرام مطلقاً من سَحَتَه إذا استأصله سمي به لأنه مسحوتُ البركة والمراد به ههنا إما الرِّشا التي كان يأخذها المحرِّفون على تحريفهم وسائرِ أحكامِهم الزائغة وهو المشهور أو ما كان يأخذه فقراؤهم من أغنيائهم من المال ليُقيموا على اليهودية كما قيل وإما مطلقُ الحرام المنتظِمِ لَما ذُكر انتظاماً أولياً وقرىء للسُحُت بضم السين والحاء ووبفتحهما وبفتح السين وسكون الحاء وبكسر السين وسكون الحاء وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كلُّ لحمٍ أنبتَه السُّحْتُ فالنار أولى به
﴿فَإِن جاؤوك﴾ لما بيَّن تفاصيلَ أمورِهم الواهية وأحوالَهم المختلفةَ الموجبة لعدم المبالاة بهم وبأفاعليهم حسبما أمر به ﷺ خوطب ﷺ ببعض ما يتبنى عليه من الأحكام بطريق التفريع والفاء فصيحة أيْ وإذَا كانِ حالُهم كما شُرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجَرَ بينهم من الخصومات
﴿فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ غيرَ مبالٍ بهم ولا خائفٍ من جهتهم أصلاً وهذا كما ترى تخييرٌ له ﷺ بين الأمرين فقيل هو في أمر خاص هو ما ذُكر من زنا المحصَن وقيل في قتيل قُتل من اليهود في بني قُريظةَ والنضيرِ فتحاكموا إلى رسول الله ﷺ فقال بنو قريظة إخوانُنا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد وإذا قَتَلوا منا قتيلاً لم يرضَوْا بالقَوَد وأعطَوْنا سبعين وَسْقاً من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتلَ وأخذوا منا الضِّعفَ مائة وأربعين وسقاً من تمر وإن كان القتيلُ امرأةً قتلوا بها الرجلَ منا وبالرجل منهم الرجلين منه وبالعبدِ منهم الحرَّ منا فاقض بيننا فجعل ﷺ الدية سواء وقيل وهو عام في جميع الحكومات ثم اختلفوا فمن قائل إنه ثابت وهو المرويُّ عن عطاءٍ والنَخَعيِّ والشَعْبيِّ وقَتادةَ وأبي بكرٍ الأصمِّ وأبي مسلم وقائلٍ إنه منسوخ وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ والحسن ومجاهد وعِكْرِمة قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يُنسخْ من المائدة إلا آيتان قولُه تعالى لاَ تحلوا شعائر الله وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وعليه مشايخُنا
﴿وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ بيانٌ لحال الأمرين إثْرَ تخييرِه ﷺ بينهما وتقديمُ حالِ الإعراض للمُسارعةِ إلى بيانِ أنَّ لا ضررَ فيه حيث كان مظِنةُ الضرر لِما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه ﷺ لآ لطلبِ الأيسر والأهونِ عليهم فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومةَ بينهم شق ذلك عليهم فتشتد عداوتهم ومضاراتهم له ﷺ فأمنه الله عزَّ وجلَّ بقولِهِ
﴿فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً﴾ من الضرر فإن الله عاصمُك من الناس
﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط﴾ بالعدل الذي أُمرت به كما حكمت بالرجم
﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ ومن ضرورته أن يحفَظَهم عن كل مكروه ومحذور
39
﴿وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فيها حكم الله﴾ تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه والحالُ أن الحكم منصوصٌ عليه في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به وتنبيهٌ على أنهم ما قصَدوا بالتحكيم معرفةَ الحق وإقامةَ الشرع وإنما طلبوا به ما هو أهونُ عليهم وإن لم يكن ذلك حكمَ الله على زعمهم فقوله تعالى وعندهم التواراة حالٌ من فاعل يحكّمونك وقوله تعالى فِيهَا حُكْمُ الله حالٌ من التوراة إن جُعِلت مرتفعةً بالظرف وإن جُعلت مبتدأ فهو حالٌ من ضميرها المستكنِّ في الخبر وقيل استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ أن عندهم ما يُغنيهم عن التحكيم وتأنيثه الكونها نظيرةَ المؤنث في كلامِهم كموماة ودوداة ﴿ثم يتلون﴾ عطفٌ على يحكمونك داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ وقوله تعالى ﴿مِن بَعْدِ ذلك﴾ أي بعدما حكّموك تصريحٌ بما عُلم قطعا لتأكيد الاستبعاد والتعجيب أي ثم يُعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد ما رضوُا بحكمك وقوله تعالى ﴿وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ تذييلٌ مقرِّرٌ لفحوى ما قبله ووضع اسمُ الإشارةِ موضعَ ضميرِهم للقصد إلى إحضارِهم في الذهن بما وُصفوا به من القبائح إيماءٌ إلى علة الحُكم وإلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهمن أكملَ تمييز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ ببُعد درجتِهم في العتو والمكابرة أي وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين أي بكتابهم لإعراضهم عنه أولاً وعن حُكمِك الموافقِ له ثانياً أو بهما وقيل وما أولئك بالكاملين في الإيمان تهكماً بهم
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة﴾ كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان علوِّ شأن التوراةِ ووجوبِ مراعاة أحكامِها وأنها لم تزل مَرْعيّةً فيما بين الأنبياء ومَنْ يقتدي بهم كابراً عن كابر مقبولةً لكل أحد من الحكام والمتحاكمين محفوظةً عن المخالفة والتبديل تحقيقاً لما وُصف به المحرِّفون من عدم إيمانهم بها وتقريراً لكفرهم وظلمهم وقوله تعالى
﴿فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ حالٌ من التوراة فإن ما فيها من الشَّرائعِ والأحكامِ من حيث إرشادُها للناس إلى الحق الذي لا محيد عنه هدىً ومن حيث إظهارُها وكشفها ما استَبْهَم من الأحكام مي حيث إرشادُها للناس إلى الحق الذي لا محيد عنه هدىً ومن حيث إظهارها وكشفها ما استَبْهَم من الأحكام وما يتعلق بها من الأمور المستورةِ بظلمات الجهل نور وقوله تعالى
﴿يَحْكُمُ بِهَا النبيون﴾ أي أنبياءُ بني إسرائل وقيل موسى ومَنْ بعده من الأنبياء جملةٌ مستأنفة مبينةٌ لرِفعةِ رتبتِها وسُمُوِّ طبقتها وقد جوَّز كونَه حالاً من التوراة فيكون حالاً مقدرة أي يحكُمون بأحكامها ويحمِلون الناس عليها وبه تمسك من ذهب إلى أن شريعةَ مَنْ قبلَنا شريعةٌ لنا ما لم تُنْسَخْ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاعتناء بشأن المقدمِ والتَّشويق إلى المؤخَّر ولأنَّ في المؤخَّر وما يتعلق به نوعَ طولٍ ربَّما يُخِلّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم وقوله
40
المائدة آية ٤٤
تعالى
﴿الذين أسلموا﴾ صف أجريت على النبيين على سبيل المدح دون التخصيص والتوضيح لكن لا للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعاً فيكون وصفُهم به بعد وصفِهم بها تنزلاً من الأعلى إلى الأدنى بل لتنويه شأن الصفة فإن إبرازَ وصفٍ في معرض مد ح العظماء مُنبىءٌ عن عِظَم قدرْ الوصْفِ لا محالة كما في وصف الأنبياءِ بالصلاحِ ووصفِ الملائكة بالإيمان عليهم السلام ولذلك قيل أوصافُ الأشراف أشرافُ الأوصاف وفيه رفع لشأن المسلمين وتعريضٌ باليهود وأنهم بمعزِل من الإسلام والاقتداءُ بدين الأنبياء عليهم السَّلامُ لا سيما مع ملاحظة ما وُصفوا به في قوله تعالى
﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ وهو متعلق بيحكم أي يحكمون فيما بينهم واللام ما لبيان اختصاصِ الحُكم بهم أعمُّ من أن يكون لهم أو عليهم كأنه قيل لأجل الذين هادوا وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط النبعة عنه وإنا للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادِهم له كأنه أمرٌ نافع لكلا الفريقين ففيه تعريضٌ بالمحرِّفين وقيل التقديرُ للذين هادوا وعليهم فحُذِفَ ما حُذف لدلالة ما ذكر عليه وقيل ما هو متعلق بأنزلنا وقيل بهدىً ونور وفيه فصلٌ بين المصدر ومعموله وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لهما ونورٌ كائنان للذين هادوا
﴿والربانيون والاحبار﴾ أي الزهاد والعلماء من ولد هرون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دجين اليهود وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الربانيون الذي يوسوسون الناسَ بالعلم ويربُّونهم بصغاره قبل كباره والأحبارُ هم الفقهاء واحده حبر بالفتح والكسر والثاني أفصح وهو رأي الفراء مأخوذ من الحبير والتحسين فإنهم يُحبِّرون العلمَ ويزينونه ويُبيِّنونه وهو عطفٌ على النبيون أي هم أيضاً يحكمُون بأحكامها وتوسيطُ المحكومِ لهم بين المعطوفين للإيذان بأن الصل في الحُكم بها وحَمْلِ الناس على ما فيها هم النبيون وإنما الربانيون والأحبارُ خلفاءُ ونوابٌ لهم في ذلك كما يُنبىء عنه قوله تعالى
﴿بِمَا استحفظوا﴾ أي بالذي استُحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفَظُوها من التغيير والتبديل على الإطلاق ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام استخلافٌ لهم في إجراء أحكامِها من غير إخلالٍ بشيء منها وفي إبهامها أولاً ثم بيانِها ثانياً بقوله تعالى
﴿مِن كتاب الله﴾ من تفخيمها وإجلالِها ذاتاً وإضافةً وتأكيد غيجاب حفظِها والعملِ بما فيها ما لا يخفى وإيرادهابعنوان الكتاب للإيماء إلى إيجاب حفظِها عن التغييرِ من جهة الكتابة والباءُ الداخلة على الموصول متعلقةٌ بيحكم لكنْ لاَ على أنَّها صلة له كالتي في قولِه تَعالَى بِهَا ليلزَمَ تعلقُ حرفي جرٍ متحدَّيْ المعنى بفعلٍ واحد بل على أنها سببية أي ويحكم الربانيون والأحبارُ أيضاً بسبب ما حفِظوه من كتاب الله حسْبما وصاهم به أنبياؤُهم وسألوهم أن يحفظوه وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذاتُ بل من حيث كونُه محظوظا فإن تعليقَ حكمِهم بالموصول مُشعرٌ بسببية الحفظِ المترتب لا محالة على مَا في حيزِ الصِّلةِ من الاستحفاظ له وقيل الباء صلةٌ لفعلٍ مقدر معطوفٍ على قوله تعالى يَحْكُمُ بِهَا النبيون عطفَ جُملةٍ على جملة أي ويحكم الربانيون والأحبارُ بحكم كتابِ الله الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير
﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾ أي رُقباءَ يحمُونه مِنْ أنْ يحومَ حولَه التغييرُ والتبديلُ بوجه من الوجوه فتغييرُ الأسلوب لما ذُكر من المزايا وقيل بما استحفظوا بدل من
41
المائدة آية ٤٥
قوله تعالى بِهَا بإعادة العامل وهو بعيد وكذا تجويزُ كونِ الضمير في استُحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبارِ جميعاً على أن الاستحفاظَ من جناب الله عزَّ وجلَّ أي كلفهم الله تعالى أن يحفظوه ويكونوا عليه شهداء وقوله تعالى وتقدَّسَ
﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس﴾ خطابٌ لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات وأما حكامُ المسلمين فيتناولهم النهْيُ بطريق الدلالة دون العبارة والفاءُ لترتيبِ النهْيِ على ما فُصِّل من حال التوراة وكونها معنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام ومَنْ يقتدى بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملاً وحفظاً فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ الاجتنابَ عن الإخلال بوظائف مراعاتِها والمحافظةِ عليها بأي وجهٍ كان فضلاً عن التحريف والتغيير ولمّا كان مدارُ جراءتهم على ذلك خشيةَ ذي سلطان أو رفبة في الحظوظ الدنيوية نُهوا عن كل منهما صريحاً أي إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناسَ كائناً من كان واقتدوا في مراعاة أحكامها بالتعرُّض لها بسوء
﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي﴾ الاشتراء استبدالُ السلعة بالثمن أي أخذها بدلاً منه لا بذلُ الثمن لتحصيلها كما قيل ثم استعير لأخذ شيء بدلاً مما كان له عيناً كان أو معنى أخذاً منوطاً بالرغبة فيما أُخذ والإعراضِ عما أُعطِيَ ونبذكما فصل في تفسيرِ قولِه تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فالمعنى لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تُخرجوها منها أو تتركوا العملَ بها وتأخذوا لأنفسكم بدلاً منها
﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ من الرِّشوة والجاهِ وسائرِ الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها وإنما عبر عن المشتري الذي هو العمدة في عقود المعاوضة والمقصِدُ الأصليُّ بالثمن الذي شأنُه أن يكونَ وسيلةً إلى تحصيله وأُبرزَتِ الآياتُ التي حقُّها أنْ يتنافسَ فيها المتنافسون في معرض الآلات والوسايط حيث قُرنت بالباء التي تصحب الوسائل ايذنا بمبالغتهم في التعكيس بأ جَعلوا المقصِدَ الأقصى وسيلةً والوسيلةَ الأدنى مقصِداً
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله﴾ كائناً مَنْ كان دون المخاطبين خاصة فإنهم مُندرجون فيه اندراجاً أوليَّاً أي من لم يحكم بذلك مستهيناً به منكِراً له كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاءً بيناً
﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ باعتبار لفظِها
﴿هُمُ الكافرون﴾ لاستهانتهم به وهم إما ضمير الفصل أو مبتدأٌ وما بعده خبرُه والجملةُ خبرُ لأولئك وقد مر تفصيله في مطلعِ سورةِ البقرةِ والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها أبلغَ تقريرٍ وتحذيرٌ عن الإخلال به أشدَّ تحذير حيث علّق فيه الحكمَ بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى فكيف وقد انضم إليه الحكمُ بخلافه لا سيما مع مباشرة ما نُهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضِعَه وادعاءِ أنَّه من عندِ الله ليشتروا به ثمناً قليلاً
42
﴿وَكَتَبْنَا﴾ عطفٌ على أنزلنا
42
المائدة آية ٤٦ ٤٧
التوارة
﴿عَلَيْهِمْ﴾ أي على الذين هادوا وقرىء وأنزل الله على بني إسرائل
﴿فِيهَا﴾ أي في التوراة
﴿أن النفس بالنفس﴾ أن تقاد بها ذا قتلها بغير حق
﴿والعين﴾ تُفقأ بالعي إذا فُقئَتْ بغير حق
﴿والانف﴾ يُجدَع
﴿بالانف﴾ المقطوعِ بغير حق
﴿والاذن﴾ تُصْلَم
﴿بالاذن﴾ المقطوعة ظلماً
﴿والسن﴾ تُقلعُ
﴿بالسن﴾ المقلوعة بغير حق
﴿والجروح قِصَاصٌ﴾ أي ذاتُ قصاص إذا كانت بحيث تُعرف المساواة وعن ابن عباس رضي تعالى عنهما أنهم كانوا لا يقتُلون الرجلَ بالمرأة فنزلت وقرىء وإنّ الجروحَ قصاص وقرىء العين إلى آخره بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ أن النفس لأن المعنى كتبنا عليهم النفسُ بالنفس إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك النفسُ بالنفس مما يقع عليه الكَتْبُ كما يقع عليه القراءة تقول كتبت الحمدُ لله وقرأتُ سُورَةٌ أنزلناها
﴿فَمَن تَصَدَّقَ﴾ أي من المستحقين
﴿بِهِ﴾ أي بالقصاص أي فما عفا عنه والتعبيرُ عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب فيه
﴿فهو﴾ أي التصدق
﴿كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ أي للمتصدق يكفّر الله تعالى بها ذنوبَه وقيل للجاني إذا تجاوزت عنه صاحب الحقِّ سقطَ عنه ما لزِمه وقُرىء فهو كفارته له أي فالمتصدقُ كفارتُه التي يستحقُّها بالتصدق له لا ينقُصُ منها شيء وهو تعظيمٌ لكما فَعَل كقوله تعالى فَأَجْرُهُ عَلَى الله
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم﴾ كائناً من كان فيتناول من لا يرى قتلَ الرجل بالمرأة من اليهود تناولاً بيناً
﴿بِمَا أنزَلَ الله﴾ مِن الأحكام والشرائع كائنا ماكان فيدخل فيها الأحكامُ المحكية دخولاً أولياً
﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون﴾ المبالغون في الظلم المتعدُّون لحدودِه تعالى الواضعون للشيء في غير موضعِه والجملة تذييلٌ مقرِّر لإيجاب العمل بالأحكام المذكورة
43
﴿وقفينا على آثارهم﴾ شروعٌ في بيان أحكام الإنجيلِ إثْرَ بيانِ أحكام التوراة وهو عطفٌ على أنزلنا التوراة أي آثارِ البيين المذكورين يقال قَفَّيتُه بفلان إذا أتبعتُه إياه فحذَفَ المفعولَ لدلالة الجارِّ والمجرورِ عليهِ أيْ قفيناهم ﴿بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ أي أرسلناه عقبهم ﴿مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة﴾ حالٌ من عيسى عليه السلام ﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيل﴾ عطفٌ على قفَّينا وقرىء بفتح الهمزة ﴿فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ كما في التوراة وهو في محل النصبِ على أنه حال من الإنجيل أي كائناً فيه ذلك كأنه قيل مشتملا على هجى ونور وتنوينُ هدىً ونورٌ للتفخيم ويندرج في ذلك شواهد نبوته عليه السلام ﴿وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة﴾ عطفٌ عليهِ داخلٌ في حكم الحالية وتكريرُ ما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة لزيادة التقرير ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ﴾ عطفٌ على مصدقاً منتظمٌ معه في سلك الحالية جُعل كلُّه هدىً بعد ما جُعل مشتملاً عليه حيث قيل هدى وتخصيصُ كونِه هدىً وموعظةً بالمتقين لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بحدواه
﴿وليحكم أهل الإنجيل بما أَنزَلَ الله فِيهِ﴾ أمرٌ مبتدأٌ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته عليه الصلاة
43
المائدة آية ٤٨
والسلام وشواهد نبوته وما قررته الشريعة الشريفةُ من أحكامه وما أحكامُه المنسوخةُ فليس الحكمُ بها حكماً بما أنزل الله فيه بل هو إبطالٌ وتعطيلٌ له إذ هو شاهدٌ بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسَخُها من الشريعة شهادة ينسخها وبأن أحكامَه ما قرَّرتْه تلك الشريعةُ التي شهد بصحتها كما سيأتي في قوله تعالى يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَىْء حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل الآية وقيل هو حكايةٌ للأمر الوارد عليهم بتقدير فعلٍ معطوف على آتيناه أي وقلنا ليحكم أهلُ الإنجيل الخ وقرىء وأن ليحكم على أنّ أنْ موصولةٌ بالأمر كما في قولك أمرته بأن قم كأنه قيل وآتيناه الإنجيل وأمَرْنا بأن يحكُمَ أهلُ الإنجيل الخ وقرىء على صيغة المضارع ولام التعليل على أنها متعلقةٌ بمقدَّر كأنه قيل ولِيَحْكُمَ أهلُ الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه وإياه وقد عطف على هجى وموعظة على أنهما مفعول لهما كأنه قيل وللهدى والموعظة آتيناه إياه وللحُكْم بما أنزل الله فيه
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله﴾ منكراً له مستهيناً به
﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون﴾ المتمردون الخارجون عن الإيمان والجُملة تذييلٌ مقرِّر لمضمونِ الجملة السابقة ومؤكِّد لوجوب الامتثال بالأمر وفيه دلالة على أن الإنجيلَ مشتملٌ على الأحكام وأن عيسى عليه السلام كان مستقلاً بالشرع مأموراً بالعمل بما فيهِ من الأحكامِ قلَّت أو كثُرت لا بما في التوراة خاصة وحملُه على معنى وليحكم بما أنزل الله فيه من إيجابِ العملِ بأحكام التوراة خلافُ الظاهر
44
﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب﴾ أي الفردَ الكاملَ الحقيقيَّ بأن يسمى كتاباً على الإطلاق لحيازته جميعَ الأوصافِ الكمالية لجنس الكتابِ السماويِّ وتفوقِه على بقية أفراده وهو القرآنُ الكريم فاللام للعهد والجملةُ عطف على أنزلنا وما عُطِف عليه وقوله تعالى
﴿بالحق﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً مؤكّدة من الكتاب أي ملتبساً بالحق والصدق وقيل من فاعل أنزلنا وقيل من الكاف في إليك وقوله تعالى
﴿مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ حال من الكتاب أي حالَ كونِه مصدقاً لما تقدَّمَه إما من حيث أنه نازل حسبما نعت فيه أو من حيث إنه موافقٌ له في القصص والمواعيد والدعوة إلى الحق والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفتِه له في بعض جزئياتِ الأحكام المتغيِّرة بسبب تغيُّرِ الأعصارِ فليست بمخالفةٍ في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيثُ إنَّ كلاًّ من تلك الأحكام حقٌّ بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليَها يدورُ أمرُ الشريعة وليس في المتقدم دلالةٌ على أبديةِ أحكامِه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخرون وإنما يدل على مشروعيتها مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطقٌ بزوالها لما أن النطقَ بصحة ما ينسخها نطق ينسخها وزوالِها وقوله تعالى
﴿مّنَ الكتاب﴾ بيانٌ لِما واللام للجنس إذ المراد هو الكتاب السماوي وهو
44
المائدة ٤٨ بهذا العنوان جنسٌ برأسه وإن كان في نفسه نوعاً مخصوصاً من مدلول لفظ الكتاب وعن هذا قالوا اللام للعهد إلا أن ذلك لا ينتهي إلى خصوصية الفردية بل إلى خصوصية النوعية التي هي أخصُّ من مُطلقِ الكتاب وهو ظاهر ومن الكتاب السماوي أيضاً حيث خُصَّ بما عدا القرآن
﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ أي رقيباً على سائر الكتبِ المحفوظة من التغيير لأنه يشهد لها بالصحة والثبات ويقررأصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعيِّن أحكامَها المنسوخةَ ببيان انتهاءِ مشروعيتها المستفادة من تلك الكتاب وانقضاءِ وقت العمل بها ولا ريب في أن تمييزَ أحكامِها الباقيةِ على المشروعية أبداً عما انتهى وقتُ مشروعيتِه وخرج عنها من أحكام كونِه مهيمناً عليه وقرىء ومُهيمَناً عليه على صيغةِ المفعولِ أي هو من عليه وحُوفظ من التغيير والتبديل كقوله عز وجل ولا يأتيه الباطلُ من بينِ يديه ولا من خلفه والحافظُ إما من جهتِه تعالى كما في قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون أو الحفاظُ في الأعصار والأمصار والفاء في قوله تعالى
﴿فاحكم بَيْنَهُمْ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَ شأنِ القرآن العظيم حقاً مصدِّقاً لما قبله من الكتب المنزلة على الأمم مهيمناً عليه من مُوجباتِ الحكم المأمور به أي إذا كان القرآن كما ذُكِر فاحكمْ بين أهل الكتابين عند تحاكُمِهم إليك
﴿بِمَا أنزَلَ الله﴾ أي بما أنزله إليك فإنه مشتملٌ على جميع الأحكام الشرعية الباقيةِ في الكتب الإلهية وتقديم بينهم لفعتناء ببيانِ تعميمِ الحكم لهم ووضوع الموصول موضعَ الضمير للتنبيه على عِلِّيَّةِ ما في حين الصلة للحكم والالتفات بإظهار الإسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بعِلَّة الحكم
﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾ الزائغة
﴿عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق﴾ الذي لا محيد عنه وعن متعلقة بلا تتَّبعْ على تضمين معنى العُدول ونحوِه كأنه قيل ولا تعدِلْ عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم وقيل بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما ججاءك وفيه أن ما وقع حالاً لا بد أن يكون فعلاً عاماً ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة من مجيء الحق إلى ما يوجب كمالَ الاجتناب عن اتباع الأهواء وقولِه تعالى
﴿لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا﴾ كلام مستأنَفٌ جيءَ به لحمل أهل الكتابين من معاصريه ﷺ على الانقياد لحُكمه بما أُنزل إليه من القرآن الكريم ببيان أنه هو الذي كُلِّفوا العملَ به دون غيره من الكتابين وإنما الذين كلفوا العملَ بهما مَنْ مَضَى قبل نسخهما من الأمم السالفة والخطابُ بطريق التلوين والالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب واللام متعلقة بجعلنا المتعدي لواحد وهو إخبارٌ بجَعَلَ ماضٍ لا إنشاءٌ وتقديمها عليه للتخصيص ومنكم متعلق بمحذوف وقع صفة لِما عُوِّض عنه تنوينُ كلَ ولا ضيرَ في توسط جعلنا بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السموات الخ والمعنى لكل أمة كائنةٍ منكم أيها الأمم الباقية والخالية جعلنا أي عيّنّا ووضعنا شرعةً ومنهاجاً خاصَّين بتلك الأمة لا تكاد أمةٌ تتخطى شرعتها التي عُيِّنت لها فالأمةُ التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتهم التوارة والتي كانت من مَبعثِ عيسى إلى مبعثِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم شرعتهم الإنجيل وأما أنتم أيها الموجودون فشِرْعتُكم القرآنُ ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه والشِّرْعةُ والشريعة هي الطريقة إلى الماء شُبِّه بها الدينُ لكونه سبيلاً موصولاً إلى ما هو سببٌ للحياة الأبدية كما أن سببٌ للحياة الأبدية كما أن الماء سببٌ للحياة الفانية والمنهاجُ الطريق الواضح في الدين من نهَجَ الأمر إذا وضح
45
المائدة آية ٤٩
وقرىء شَرْعة بفتح الشين قيل فيه دليلٌ على أنا غيرُ مُتعبَّدين بشرائِعِ مَنْ قبلنا والتحقيق أنا متعبَّدون بأحكامها الباقية من حيث إنها أحكامُ شرعتِنا لا من حيث إنها شرعة للأولين
﴿وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة﴾ وتفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الأممِ في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخَ ولا تحويل ومفعول المشيئة محذوفٌ تعويلاً على دِلالة الجزاء عليه أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم الخ وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه
﴿ولكن لّيَبْلُوَكُمْ﴾ متعلِّقٌ بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يسأ ذلك أي لأن يجعلكم أمةً واحدة بل شاء ما عليه السنةُ الإلهية الجاريةُ فيما بين الأمم ليعامِلَكم معاملةَ من يبتليكم
﴿في ما آتاكم﴾ من الشرائع المختلفة المناسبة لأعصارها وقرونِها هل تعملون بها مذعِنين لها معتقدين أن اختلافَها بمقتضى المشيئةِ الإلهيةِ المبنيةِ على أساس الحِكَم البالغةِ والمصالحِ النافعة لكم في معاشكم ومعادِكم أو تزيغون عن الحق وتتبعون الهوَى وتستبدلون المضَرَّة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدى وبهذا اتَّضحَ أنَّ مدارَ عدمِ المشيئةِ المذكورة ليس مجرد إلا بتلاء بل العمدةُ في ذلك ما أشيرَ إليهِ من انطواءِ الاختلاف على ما فيه مصلحتُهم معاشاً ومعاداً كما ينبىء عنه قوله عز وجل
﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خيرٌ لكم في الدارين من العقائد الحَقَّة والأعمالِ الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهاز للفرصة وإحرازاً لسابقةِ الفَضْل والتقدم ففيه من تأكيد الترغيبِ في الإذعان للحق وتشديدِ التحذير عن الزيغ ما لا يخفى ووقوله تعالى
﴿إلى الله مَرْجِعُكُمْ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ مَساقَ التعليل لاستباق الخيرات بما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ وقوله تعالى
﴿جَمِيعاً﴾ حالٌ من ضمير الخطاب والعامل فيه إما المصدرُ المنحلُّ إلى حرفٍ مصدريَ وفعل مبني للفاعل أو مبني للمفعول وإما الاستقرارُ المقدَّر في الجار
﴿فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المُحِقّ والمُبطل ما لا يبقى لكم معه شائبةُ شكٍ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا وإنما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإخبار
46
﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾ عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتابَ والحُكْمَ بما فيه والتعرُّضُ لعنوان إنزاله تعالى غياه لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم وحكايةُ إنزال الأمر بهذا الحكم بعد ما مر من الأمر الصريح بذلك تأكيد له وتمهيدٌ لما يعقُبه منْ قولِه تعالى
﴿واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إليك﴾ أي يصرفوك عن بعضه ولو كان أقلَّ قليلٍ بتصوير الباطل بصورة الحق وإظهارُ الاسمِ الجليل لتأكيدِ الأمر بتهويل الخطب وأن بصلته بدلُ اشتمالٍ من ضميرهم أي احذر فتنتهم أو مفعول له أي
46
المائدة آية ٥٠ ٥١
احذرهم مخافة أن يفتنوك وإعادة ما أنزل الله لتأكيد التحذير بتهويل الخطب رُوي أن أحبارَ اليهودِ قالوا اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتِنُه عن دينه فذهبوا إليه ﷺ وقالوا يا أبا القاسم قد عرفت أنّا أحبارُ اليهود وأنا من اتبعناك اتبعنا البهود كلهم وإن بيننا وبين قومنا خصومةً فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بط ونصدقك فأبى ذلك رسول الله ﷺ فنزلت
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي أعرَضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره
﴿فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ أي بذنب تولِّيهم عن حكم الله عزَّ وجلَّ وإنَّما عبّر عنه بذلك إيذاناً بأن لهم ذنوباً كثيرة هذا مع كمال عَظَمةِ واحدٍ من جملتها وفي هذا الإبهام تعظيمٌ للتولِّي كما في قول لبيد أو يرتبطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها يريد به نفسه أي نفساً كبيرة ونفساً أيَّ نفس
﴿وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ لفاسقون﴾ أي متمردين في الكفر مصرُّون عليه خارجون عن الحدود المعهودة وهو اعتراض تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قوله
47
﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ إِنْكارٌ وتعجيبٌ منْ حالِهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي يتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية وتقديمُ المفعول للتخصيص المفيدِ لتأكيد الإنكار والتعجيب لأن التولَّيَ عن حكمه ﷺ وطلبَ حكمٍ آخرَ منكرٌ عجيب وطلبُ حكم الجاهلية أقبح وأعجب والمراد بالجاهلية إما المِلةُ الجاهلية التي هي متابعو الهوى الموجبةُ للميل والمداهنةُ في الأحكام فيكون تعييراً لليهود بأنهم مع كونهم أهلَ كتاب وعلمٍ يبغون حكمَ الجاهلية التي هي هوى وجهلٌ لا يصدُر عن كتاب ولا يرجِعُ إلى وحي وإما أهلُ الجاهلية وحكمُهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى حيث رُوي أن بني النضيرِ لما تحاكموا إلى رسول الله ﷺ في خصومةِ قتلِ وقعت بينهم وبين بني قريظة طلبوا إليه ﷺ أن يحكم بينهم بما كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ من التفاضل فقال ﷺ القتلى سواءٌ فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت وقرىء برفع الحكم على أنه مبتدأ ويبغون خبرُه والراجعُ محذوفٌ حذْفَه في قوله تعالى أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً وقد استُضعف ذلك في غير الشعر وقرىء بقاء الخطاب إما بالالتفات لتشديد التوبيخ وإما بتقدير القول أي قل لهم أفحكم الخ وقرىء بفتح الحاء والكاف أي أفحاكماً كحكام الجاهلية يبغون ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً﴾ إنكار لأن يكون أحدٌ حكمُه أحسنُ من حكمه تعالى أو مساوله وإنْ كانَ ظاهرُ السَّبكِ غيرَ متعرِّضٍ لنفي المساواة وإنكارِها وقد مر تفصيله في تفسير قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي عندهم واللام كما في هَيْتَ لك أي هذا الاستفهام لهم فإنهم الذين يتدبرون الأمور بأنظارهم فيعلمون يقيناً أن حكم الله عز وجل أحسن الأحكام وأعد لها
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ خطاب يعُمّ حكمُه كافةَ المؤمنين من المخلصين وغيرهم وإن كان سببُ ورودِه بعضاً منهم كما سيأتي
47
المائدة آية ٥٢
ووصفُهم بعنوان الإيمان لحملَهم منْ أولِ الأمرِ عَلى الانزجار عما نُهوا عنه بقوله عز وجل
﴿لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء﴾ فإن تذكيرَ اتصافِهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتِهما أي لا يتخذْ أحدٌ منكم أحداً منهم ولياً بمعنى لا تُصافوُهم ولا تعاشروهم مصافاة الحباب ومعاشرَتَهم لا بمعنى لا تجعلوهم أولياءَ لكم حقيقة فإنه أمرٌ ممتنِعٌ في نفسه لا يتعلق به النهي
﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ أي بعضُ كلِّ فريق من ذَيْنِك الفريقَيْن أولياءُ بعضٍ آخَرَ من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر وإنما أوثر الإجمالُ في البيان تعويلاً على ظهور المُراد لوضوح انتفاءِ الموالاة بين فريقَي اليهود والنصارى رأساً والجملة مستأنفةٌ مَسوقة لتعليل النهي وتأكيدِ غيجاب الاجتناب عن المنهي عنه أي بعضُهم أولياءُ بعضٍ متفقون على كلمة واحدة في كلِّ ما يأتُون وما يذرون ومن ضرورته إجماعُ الكل على مُضادَّتكم ومضارَّتِكم بحيث يسومونكم السوءَ ويبغونكم الغوائل فكيف يُتصورُ بينكم وبينهم موالاة وقوله تعالى
﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ حكمٌ مستنتَجٌ منه فإن انحصارَ الموالاة فيما بينهم يستدعي كونَ من يوابيهم منهم ضرورةَ أن الاتحادَ في الدين الذي عليه يدورُ أمرُ الموالاة حيث لم يكن بكونهم ممن يواليهم من المؤمنين تعيّنَ أنْ يكونَ ذلك بكَوْنِ من يواليهم منهم وفيه زظجر شديد للمؤمنين عن إظهار صورةِ الموالاة لهم وإن لم تكن موالاةً في الحقيقة وقوله تعالى
﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين﴾ تعليلٌ لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنَهم فيقعون في الكفر والضلالة وإنما وَضعَ المُظْهَرَ موضعَ ضميرِهم تنبيهاً على أن تولِّيهم ظلمٌ لما أنه تعريضٌ لأنفسهم للعذاب الخالد ووضعٌ للشيء في غير موضعخه وقوله تعالى
48
﴿فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ بيان لكيفية توليهم وإشعارٌ بسببه وبما يؤول إليه أمرُهم والفاء للإيذان بترتُّبه على عدم الهداية والخطاب إما للرسول ﷺ بطريق التلوين وإما لكل أحدٍ ممن له أهليةٌ له وفيه مزيدُ تشنيع للتشنيع أي لا يهديهم بل يذرهم وشأنَهم فتراهم الخ وإنما وُضع موضعَ الضميرِ الموصولُ ليُشارَ بما في حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما في قلوبِهِم منَ مرض النفاق ورَخاوة العَقْد في الدين وقوله تعالى
﴿يسارعون فِيهِمْ﴾ حال من الموصول والرؤية بصرية وقيل مفعولٌ ثانٍ والرؤية قلبية والأول هو الأنسبُ بظهور نفاقهم أي تراهم مسارعين في موالاتهم وإنما قيل فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها وإيثارُ كلمةُ في على كلمة إلى الدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله تعالى أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيراتِ لا أنَّهم خارجُون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ وقرىء فيَريَ بياءِ الغَيْبة على أنَّ الضمير لله سبحانه وقيل لمن تصِحُّ منه الرؤية وقيل الفاعل هو الموصولُ والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية والرؤية قلبية أن ويرى القومُ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أن يسارعوا فيهم فلما حُذفت أنْ
48
المائدة آية ٥٣
انقلب الفعلُ مرفوعاً كما في قول من قالَ أَلاَ أيُهذَا الزَّاجِرِي أحضر الوغى والمراد بهم عبدُ اللَّهِ بنُ أبي وأضر به الذين كانوا يسارعون في مُوادَّةِ اليهود ونَصارى نجرانَ وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبَهم صروفُ الزمان وذلك قوله تعلى
﴿يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ وهو حال من ضمير يسارعون والدائرةُ من الصفات الغالبة التي لا يُذكر معها موصوفُها أي تدور علينا دائرةٌ من دوائر الدهر ودَوْلةٌ من دُولِه بأن ينقلبَ الأمرُ وتكون الدولةُ للكفار وقيل يخشى أن يصيبنا مكروهٌ من مكاره الدهر كالجدْب والقَحْط فلا يعطونا المِيرةَ والقَرْض روي أن عبادة بنَ الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله ﷺ إن لي مواليَ من اليهود كثيراً عددُهم وإني أبرأ إلى ى الله ورسولِه من وَلايتهم وأُوالي الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي إني رجل أخاف الدوائرَ لا أبرأ من وِلاية موالي وهو يهود بني قينقاع ولعله يُظهرُ للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخيرَ ويُضمِرُ في نفسه المعنى الأول وقوله تعالى
﴿فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح﴾ رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطعٌ أطماعهم الفارغة وتبشيرٌ للمؤمنين بالظفر فإن عسى منه سبحانه وعدٌ محتوم لما أن الكريمَ إذا أطْمَعَ أطعم لا محالة فما ظنُّك بأكرم الأكرمين وأن يأتي في محل النصب على أنه خبرُ عسى وهو رأي الأخفش أو على أنَّه مفعولٌ به وهو رأيُ سيبويه لئلا يلزَمَ الإخبارُ عن الجُثَّة بالحدَث كما في قولك عسى زيدا أن يقوم والمراد بالفتح فتحُ مكةَ قاله الكلبي والسُّديّ وقال الضحاك فتحُ قُرى اليهودِ من خيبرَ وفَدَك وقال قَتادة ومقاتِلٌ هو القضاءُ الفصلُ بنصره ﷺ على من خالفه وإعزازِ الدين
﴿أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ﴾ بقطع شأفةِ اليهود من القتل والإجلاء
﴿فَيُصْبِحُواْ﴾ أي أولئك المنافقون المتعلَّلون بما ذُكر وهو عطفٌ على يأتي يأتي داخلٌ معه في حيزِ خبر عيسى وإن لم يكن فيه ضميرٌ يعود إلى اسمها فإن فاء السببية مغنيةٌ عن ذلك فإنها تجعل الجملتين جملة واحدة
﴿على مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نادمين﴾ وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر والشك في أمره ﷺ وتعليقُ الندامة به لا بما كانوا يُظهرونه من موالاة الكفر لِما أنه الذي كان يحمِلُهم على الموالاة ويُغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها
49
﴿ويقول الذين آمنوا﴾ كلام مبتدأ مَسوقٌ لبيان كمالِ سوءِ حال الطائفة المذكورة وقُرىء بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق كأنه قيل فماذا يقول المؤمنون حينئذ و ٥ قرىء ويقولَ بالنصب عطفاً على يصبحوا وقيل على يأتيَ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ فعسى أن يأتيَ الله بالفتح ويقولَ الذين آمنوا والأولُ أوجهُ لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامةِ المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطِبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتَهم ويُظهرون لهم غاية المحبة وعدمَ المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاعدتهم لخَيْبة رجائِهم وانعكاسِ تقديرهم بوقوع ضدِّ ما كانوا يترقبونه ويتعللون به تعجيباً للمخاطَبين من حالهم وتعريضاً بهم
﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لمعكم﴾
49
أي بالنصرة والمعونة كما قالوا فيما حُكيَ عنهم وإن قوتلتم لننصُرَنَّكم واسمُ الإشارة مبتدأٌ وما بعده خبرُه والمعنى إنكارُ ما فعلوه واستبعادُه وتخطئتُهم في ذلك أو يقولُ بعضُ المؤمنين لبعضٍ مشيرين إلى المنافقين أيضاً أهؤلاء الذين أقسموا للكَفَرة إنهم لمعكم فالخطابُ في معكم لليهود على التقديرين إلا أنه على الأول من جهةِ المؤمنين وعلى الثاني من جهة المُقْسِمين وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإعراب لأنها تفسيرٌ وحكايةٌ لمعنى أقسَموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل إنا معكم وجَهدُ الأيْمان أغلظُها وهو في الأصل مصدرٌ ونصبُه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يَجْهَدون جَهدَ أيمانهم فحُذِفَ الفعلُ وأقيم المصدرُ مُقامَه ولا يبالى بتعريفه لفظاً لأنه مؤوَّلٌ بنكرة أي مجتهدين في أيْمانهم أو على المصدرِ أيْ أقسمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين وقوله تعالى
﴿حَبِطَتْ أعمالهم فَأَصْبَحُواْ خاسرين﴾ إما جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان مآلِ ما صنعوه من ادِّعاء الولاية والإقسام على المعيَّةِ في المنشَطِ والمكره إثرَ الإشارة إلى بُطلانه بالاستفهام الإنكاري وإما خبرٌ ثانٍ للمبتدأ عندَ مَنْ يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى أو هو الخبرُ والموصول مع ما في حيز صلتِه صفةٌ لاسم الإشارة فالاستفهامُ حينئذٍ للتقرير وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أحبَطَ أعمالَهم فما أخسرَهم والمعنى بطلت أعمالِهم التي عمِلوها في شأن موالاتكم وسعو في ذلك سعياً بليغاً حيث لم تكن لكم دولةٌ فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحمَّلوا من مكابدة المشاق وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطَبين ما لا يخفى وقيل قاله بعضُ المؤمنين مخاطِباً لبعض تعجباً من سوء حال المنافقين واغتباطاً بما من الله تعالَى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص أهؤلاءِ الذين أقسموا لكم بإغلاظ الأيْمان أنهم أولياؤُكم ومعاضِدوكم على الكفار بطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يكلفونها في رأيِ أعينِ الناس وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ الكلامَ من المؤمنين إنما يليقُ بما لو أظهرَ المنافقون حينئذ خلافَ ما كانوا يدَّعونه ويُقسِمون عليه من ولاية المؤمنين ومعاضَدَتِهم على الكفار فظهر كذِبُهم وافتضحوا بذلك على رءوس الأشهاد وبطَلتْ أعمالُهم التي كانوا ينكلفونها في رأس أعين لمؤمنين ولا ريبَ في أنَّهم يومئذ أشدُّ ادعاءً وأكثر إقساماً منهم قبل ذلك فضلاً عن أن يظهروا خلافَ ذلك وإنما الذي يظهر منهم الندامةُ على ما صنعوا وليس ذلك علامةً ظاهرةَ الدلالة على كفرهم وكذبهم في ادعائهم فإنهم يدّعون أنْ ليست ندامتُهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكَفَرةِ خشية إصابة الدائرة
50
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾ وقرىء يرتدِدْ بالفك على لغة الحجاز والإدغام لغة تميم لمّا نهيَ فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى وبيّن أن موالاتَهم مستدعيةٌ للارتداد عن الدين وفصَّل مصيرَ أمْرِ من يواليهم من المنافقين شَرَع في بيان حالِ المرتدين على الإطلاق وهذا من الكائنات التي أخبر
50
المائدة آية ٥٤
عنها القرآنُ قبل وقوعِها روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فِرقةً ثلاثٌ في عهد رسولِ الله عليه الصلاة والسلام بنو مدلج ورئيسُهم ذو الخِمار وهو الأسود العنْسي كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عُمّالَ رسول الله ﷺ فكتب عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معاذِ بنِ جبلٍ وإلى ساداتِ اليمنِ فأهلكه الله تعالى على يَدَيْ فيروزَ الدَّيْلمي بيَّته فقتله وأخبر رسول الله ﷺ بقتلِه ليلةَ قُتل فسُرَّ به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغدِ وأتى خبرُه في آخرِ شهرِ ربيع الأول وبنو حنيفةَ قومُ مسيلِمَةَ الكذابِ تنبأ وكتب إلى رسول الله ﷺ من مسليمة رسولِ الله إلى محمدٍ رسولِ الله أما بعد فإن الأرضَ نصفُها لي ونصفها لك فأجاب عليه الصلاة والسلام من محمدٍ رسولِ الله مسيلِمَةَ الكذاب أما بعد فإن الأرضَ لله يورثُها مَن يَشَاء مِنْ عباده والعاقبةُ للمتقين فحاربه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه بجنودِ المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل خمزة رضي الله عنه وكان يقول قتلتُ في جاهليتي خيرَ الناس وفي إسلامي شرَّ الناس وبنو أسد قومُ طليحةَ بنِ خويلد تنبأ فبعث إليه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه خالدَ بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشامِ فأسلم وحسُنَ إسلامُه وسبعٌ في عهد أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ فَزارةُ قومُ عيينةَ بنِ حِصْن وغطَفانُ قوم قرَّةَ بنِ سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة ابن عبد يا ليل وبنو يَرْبوعٍ قومُ مالكِ بننويرة وبعضُ تميم قومُ سَجاح بنتِ المنذر المتنبّئة التي زوَّجَتْ نفسها من مسيلِمة الكذاب وفيها يقول أبو العلاء المعري في كتاب استغفرْ واستغفري آمتْ سَجاحِ ووالاها مسيلِمة كذابةٌ في بني الدنيا وكذّابُ وكِندةُ قومُ الأشعث بن قيس وبنو بكر بنِ وائل بالبحرَيْن قومُ الحطَمِ بنِ زيد وكفى بالله تعالى أمرَهم على يد أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ وفِرقة واحدةٌ في عهد عمر رضي الله عنه غسانُ قومُ جَبَلةَ بنِ الأيهم نصَّرتْه اللطمة وسيَّرتْه إلى بلاد الروم وقصاه مشهورة وقوله تعالى
﴿فَسَوْفَ يَأْتِى الله﴾ جواب الشرط والعائد إلى اسم الشرط محذوفٌ أي فسوف يأتي الله مكانهم بعد إهلاكهم
﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ أي يريد بهم خيري الدنيا والآخرة ومحلُّ الجملةُ الجرُّ على أنها صفةٌ لقوم وقوله تعالى
﴿وَيُحِبُّونَهُ﴾ أي يريدون طاعته ويتحرّزون عن معاصيه معطوفٌ عليها داخلٌ في حكمها قيل أهم أهلُ اليمن لما رُوي أن النبي عليه الصلاةَ والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال قومُ هذا وقيل هم الأنصار رضي الله عنهم وقيل هم الفرسُ لما روي أنه عليه السلام سئل عنهم فضرب بيده الكريمة على عاتق سَلمان رشي الله عنه وقال هذا وذوُوه ثم قال لو كان الإيمانُ معلقاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارسَ وقيل هم ألفان من النخَع وخمسةُ آلافٍ من كِندةَ وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين﴾ جمع ذليلٍ لا ذلول فإن جمعه ذُلُلٌ أي أرِقّاءَ رحماءَ متذللين ومتواضعين لهم واستعماله بعلى إما لتضمين معنى العطف والحُنُوّ أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتِهم وفضلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتَهم أو لرعاية المقابلة بينه وبين ما في قوله تعالى
﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ أي أشداء متغلبين عليهم من عزَّه إذا غلبَه كمنا في قوله عز وعلا أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ وهما صفتان أُخريان لقوم ترك بينها العاطفُ للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليلٌ على صحَّة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة من الجملة والظرف كما في قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ وقوله تعالى مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ من رَّبّهِمْ محدَثٌ وقوله تعالى
51
المائدة آية ٥٥ ٥٦
مَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ مّن الرحمن مُحْدَثٍ وما ذهب إليه من لا يجوِّزه مِنْ أنَّ قولَه تعالى يحبهم ويحبونه كلام معترِضٌ وأن مبارك خبرٌ بعد خبر أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وأن من ربهم ومن الرحمن حالان مقدمتان من ضمير محدث تكلف ولا يخفى وقرىء أذلة أعزةً بالنَّصبِ على الحاليَّةِ من قوم لتخصصه بالصفة
﴿يجاهدون فِى سَبِيلِ الله﴾ صفة أخرى لقو مترتبةٌ على ما قبلها مبنية مع ما بعدها لكيفية عزتهم أو حالٌ من الضمير في أعزة
﴿وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ عطف على يجاهدون بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين وفيه تعريضٌ بالمنافقين فإنهم كانوا إذا خردوا في جيش المسلمين خافوا أولياءَهم اليهودَ فلا يكادون يعملون شيئاً يلحقهم فيه لومٌ من جهتهم وقيلَ هُو حالٌ من فاعل يجاهدون بمعنى أنهم يجاهدون وحالُهم خلافُ حال المنافقين واعتراض عليه بأنهم نصُّوا على أن المضارعَ المنفيَّ بلا أو كالمُثْبَت في عدم جواز مباشرة واو الحال له واللَّوْمةُ المرةُ من اللوم وفيها وفي تنكيرِ لائمٍ مبالغة لا تخفى
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلةِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعد منزلتها في الفضل
﴿فَضَّلَ الله﴾ أي لطفُه وإحسانُه لا أنهم مستقلون في الاتصاف بها
﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشَآء﴾ إيتاءَهُ إيَّاهُ ويوقفه لكسبه وتحصيلِه حسبما تقتضيه الحِكْمةُ والمصلحة
﴿والله واسع﴾ كثيرُ الفواضل والألطاف
﴿عَلِيمٌ﴾ مبالِغٌ في العلمِ بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها مَنْ هو أهلٌ للفضل والتوفيق والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية
52
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمنوا﴾ لما نهاهم الله عزَّ وجلَّ عن موالاة الكفرة وعلّله بأن بعضَهم أولياءُ بَعْضٍ لا يُتصوَّرُ ولايتُهم للمؤمنين وبين أن من يتولاهم يكون من جملتهم بيَّن ههنا من هو وليُّهم بطريقٍ قصَرَ الولايةَ عليه كأنه قيل لا تتخذوهم أولياءَ لأن بعضَهم أولياءُ بعضٍ وليسوا بأوليائكم إنما أوليائكم الله ورسولُه والمؤمنون فاختصُّوهم بالموالاة ولا تتخطّوهم إلى غيرعم وإنما أفرد الوليَّ مع تعدده للإيذان بأن الولايةَ أصالةً لله تعالى وولايتُه عليه السلام وكذا ولايةُ المؤمنين بطريقِ التبعية لولايتِه عز وجل ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾ صفة للذين آمنوا لجرَيانه مجرى الاسمِ أو بدلٌ منه أو نصْبٌ على المدحِ أو رفعٌ عليه ﴿وهم راكعون﴾ حال مع فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى وقيل هو حال مخصوصةٌ بإيتاء الزكاة والركوعُ ركوعُ الصلاة والمراد بيانُ كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه ورُوي أنها نزلت في عليَ رضيَ الله عنه حين سأله سائل وهو راكع فطرح غليه خاتمه كأنه كان مرجاً في خنصر غيرَ محتاجٍ في إخراجه إلى كثير عمل يؤدِّي إلى فساد الصلاة ولفظ الجمع حينئذ لترغيب الناس في مثل فعله رضي الله عنه وفيه دَلالةٌ على أن صدقة التطوُّع تسمّى زكاةً
﴿وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمنوا﴾
52
أُوثرَ الإظهارُ على أن يقال ومن يتولَّهم رعايةً لما مر من نُكتةِ بيانِ أصالتِه تعالى في الولاية كما ينبىء عنه قوله تعالى
﴿فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون﴾ حيث أضيفَ الحِزبُ إليه تعالى خاصة وهو أيضاً من باب وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ العائد إلى من أي فإنهم الغالبون لكنهم جُعِلوا حزبَ الله تعالى تعظيماً لهم وإثباتاً لغَلَبتهم بالطريقِ البرهانيِّ كأنه قيلَ ومن يتولى هؤلاء فإنهم حزبُ الله وحزبُ الله هم الغالبون
53
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً﴾ رُوي أن رُفاعةَ بنَ زيد وسويد بن الحرث أظهرا افسلام ثم نافقا وكان رجالٌ من المؤمنين يُوادُّونهما فنُهوا عن موالاتهما ورُتِّب النهيُ على وصف يعمُّهما وغيرَهما تعميماً للحكم وتنبيهاً على العلة وإيذاناً بأن مَنْ هذا شأنُه جديرٌ بالمعاداة فكيف بالموالاة ﴿مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ﴾ بيان للمستهزئين والتعرّضُ لعنوان إيتاءِ الكتاب لبيان كمال شناعتِهم وغايةِ ضلالتهم لِما أنَّ إيتاءَ الكتاب وازعٌ لهم عن الاستهزاء بالدلين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابهم ﴿والكفار﴾ أي المشركين خُصّوا به لتضاعُفِ كفرهم وهو عطفٌ على الموصول الأولِ ففيه إشعارٌ بأنهم ليسوا بمستهزئين كما يُنبىءُ عنه تخصيصُ الخطاب بأهل الكتاب في قوله تعالى ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا الآية وقُرىء بالجرِّ عطفا على الموصول الأخير ويعضُده قراءةُ أُبيَ وَمِنْ الكفار وقراءةُ عبدِ اللَّه وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ فهم أيضاً من جملة المستهزئين ﴿أَوْلِيَاء﴾ وجانبوهم كلَّ المجانبة ﴿واتقوا الله﴾ في ذلك بترك موالاتهم أو بترك المَناهي على الإطلاق فيدخل فيه تركُ موالاتِهم دخولاً أولياً ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أيحقا فإن قضيةَ الإيمان توجب الاتقاءَ لا محالة ﴿وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها﴾ أي الصلاةَ أو المناداةَ ففيه دلالة على شرعية الأذان
﴿هُزُواً وَلَعِباً﴾ بيان لاستهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهاراً لكمال شقاوتهم رُوي أن نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أنَّ محمداً رسولُ الله يقول أحرق الله الكاذب فدخل خادمُه ذاتَ ليلة بنار وأهله نيام فتطايرة منه شرارةٌ في البيت فأحرقَتْه وأهلَه جميعاً ﴿ذلك﴾ أي الاستهزاء المذكور ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسببِ أنَّهُم ﴿قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ فإن السَّفَه يؤدِّي إلى الجهل بمحاسِنِ الحق والهُزُؤ به ولو كان لهم عقلٌ في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة
﴿قُلْ﴾ أمرٌ لرسولِ الله صد بطريق تلوين الخطاب بعد نهْيِ المؤمنين عن تولِّي المستهزئين بأن يخاطِبَهم ويبيِّنَ أن الدين منزه عما يصحِّحُ صدورَ ما صدرَ عنهُم من الاستهزاء ويُظهرَ
53
المائدة آية ٦٠
لهم سببَ ما ارتكبوه ويُلْقِمَهم الحجرَ أي قل لأولئك الفجرة
﴿يَا أَهْلِ الكتاب﴾ وُصفوا بأهلية الكتاب تمهيدا بما سيأتي من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم
﴿هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا﴾ من نقَم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه وينقمه من حدِّ ضرب وقُرىء بفتح القاف من حد علِمَ وهي أيضاً لغة أي ما تَعيبون وما تُنكرون منا
﴿إِلاَّ أَنْ آمنا بالله وما أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ من القُرآنِ المجيد
﴿وما أنزل مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل المنزَّلَيْن عليكم وسائرِ الكتبِ الإلهية
﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون﴾ أي متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم للكفر بما يصدِّقُه لا محالة وهو عطف على أن آمنا على أنَّه مفعولٌ له لتنقمون والمفعول الذي هو الدينُ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ وما بعده عليه دلالةً واضحة فإن اتخاذ الدين هزواً ولعباً عينُ نِقَمِه وإنكارِه والإيمانُ بما فُصِّل عينُ الدين الذي نقَموه خلا أنه أبرَزَ في معرِض علةِ نقمِهم له تسجيلاً عليهم بكمال المكابرةِ والتعكيس حيث جعلوه موجِباً لنقمه مع كونِه في نفسِه موجباً لقَبوله وارتضائه فالاستثناءُ من أعمِّ العللِ أي ما تنقِمون منا دينَنا لعلة من العلل إلا لأن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبلُ من كتُبكم ولأن أكثركم متمردون غيرُ مؤمنين بواحدٍ مما ذُكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطقِ بصحة كتابِنا لآمنتم به وإسنادُ الفسق إلى أكثرِهم لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرُّد والعناد وقيل عطفٌ عليه على أنه مفعول لتنقمون منا لكن لا على أن المستثنى مجموعُ المعطوفَيْن بل هو ما يلزَمهما من المخالفة كأنه قيل ما تنقمون منا إلا مخالفتَكم حيث دخلنا الإيمانَ وأنتم خارجون عنه وقيل على حذف المضاد أي واعتقادَ أن أكثركم فاسقون وقيل عطف على ما أي ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وبأنكم فاسقون وقيل عطفٌ على علة محذوفةٍ أي لقلة إنصافِكم ولأن أكثركم فاسقون وقيل الواو بمعنى مع أي ما تنقِمون منا إلا الإيمانَ مع أن أكثركم الخ وقيل هو منصوبٌ بفعل مقدر دل عليه المذكورُ أي لا تنقمون أن أكثركم فاسقون وقيل هو مرفوعٌ على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي وفِسقُكم معلوم أي ثابت والجملةُ حالية أو معترضة وقرىء بأن المكسورة المكسورة والدجملة مستأنَفة مبيّنةٌ لكون أكثرهم فاسقين متمرِّدين
54
﴿قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك﴾ لما أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بإلزامهم وتبكيتهم ببيان أن مدارَ نقمِهم للدين إنما هو اشتمالُه على ما يوجب ارتضاءَه عندهم أيضاً وكفرُهم بما هو مُسلَّم لهم أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ عَقيبَه بأن يُبكتَهم ببيان أن الحقيقَ بالنقم والعيبَ حقيقةً ما هم عليه من الدين المحرَّف وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتِهم وما حاق بهم من تبعانها وعقوباتِها على منهاج التعريض لئلا يحمِلَهم التصريحُ بذلك على ركوب متن المكابرةِ والعنادِ ويخاطِبَهم قبل البيانِ بما يُنبىء عن عِظَم شأن المبيَّنِ ويستدعي إقبالَهم على تلقّيه من الجملة الاستفهامية المُشَوِّقة إلى المخبِر به والتنبئةِ المُشعرة بكونه أمراً خطيراً لما أن النبأ هو الخبرُ الذي له شأنٌ وخطَرٌ وحيث كان مناطُ النقم شَرِّيَّةَ المنقوم حقيقة او اعتقاد وكان مجردُ النقم غيرَ مفيد
54
المائدة آية ٦٠
لشَرِّيته البتّةَ قيل بشرَ من ذلك ولم يقُل بأنقَمَ من ذلك تحقيقاً لشرية ما سيذكر وزيادى ة تقرير لها وقيل إنما قيل لذلك وقوعه في عبارة المخاطَبين حيث أتى نفرٌ من اليهود فسألوا رسول الله ﷺ عن دينه فقال عليه الصلاة السلام أو من بالله وما أنزل إلينا إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا لا نعلم شراً من دينكم وإنما اعتَبَر الشَّرِّيةَ بالنسبة إلى الدين وهو منزَّه عن شائبةِ الشرّية بالكلية مجاراةً معهم على زعمهم الباطِلِ المنعقدِ على كمال شريتِه ليثبِتَ أن دينهم شرٌ من كل شر أي هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شراً وإن كان في نفسه خيراً محضاً
﴿مَثُوبَةً عِندَ الله﴾ أي جزاءً ثابتاً في حكمه وقرىء مثوبةً وهي لغة فيها كمشورة ومشورة وهي مختصةٌ بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر وإنما وضعت ههنا موضعها على طريقةِ قولِه تحيَّةَ بينهم ضربٌ وجميع ونصبُها على التمييز من بشر وقوله عز وجل
﴿مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ خبر لمبتدأ محذوفٍ بتقدير مضافٍ قبله مناسبٍ لما أشير إليه بكلمة ذلك أي دينُ مَنْ لعنه الخ أو بتقدير مضافٍ قبلها مناسبٍ لمن أي بشرّ مِنْ أهل ذلك والجملة على التقديرين استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الجملة الاستفهامية إما على حالها وهو الظزاهر المناسب لسياق النظم الكريم وإما باعتبار التقدير فيها فطكأنه قيل ما الذي هو شرٌّ من ذلك فقيل هو دينُ مَنْ لعنه الله الخ أو قيل في السؤال من ذا الذي هو شرٌّ من أهل ذلك فقيل هو مَنْ لعنه الله ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويلِ أمر اللعن وما تبعه والموصولُ عبارةٌ عن المخاطبين حيث أبعدهم الله تعالى من رحمته وسخِط عليهم بكفرهم وانْهماكِهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسُنوحِ البينات
﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير﴾ أي مسخ بعضَهم قردةً وهم أصحابُ السبْت وبعضَهم خنازيرَ وهم كفار مائدةِ عيسى عليه السلام وقيل كلا المسخين في أصحاب السبْت مُسِخت شبانُهم قردةً وشيوخُهم خنازيرَ وجمعُ الضميرِ الراجع إلى الموصول في منهم باعتبار معناه كما أنَّ أفرادَ الضميرينِ الأولين باعتبار لفظه وإيثارُ وضعه موضعَ ضمير الخِطاب المناسب لأنبئكم للقصدِ إلى إثبات الشرِّية بما عدد في حين صلتِه من الأمورِ الهائلة الموجبةِ لها على الطريقة البرهانية مع ما فيه من الاحتراز عن تهييج لَجاجِهم
﴿وَعَبَدَ الطاغوت﴾ عطفٌ على صلةِ مَنْ وإفراد الضمير لما مر وكذا عُبد الطاغوتُ على قراءة البناء للمفعول ورفع الطاغوتَ وكذا عبد الطاغوت بمعنى صار معبوداً فالراجع إلى الموصول محذوف على القراءتين أي عُبد فيهم أو بينهم وتقديم أوصافِهم المذكورة بصدد إثباتِ شرّية دينِهم على وصفهم هذا مع أنه الأصلُ المستتبِعُ لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوتِ عينُ دينهم البيّنِ البطلان ودلالتُها عليها بطريق الاستدلال بشرِّيَّة الآثار على شرِّية ما يوجبُها من الاعتقاد والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيلَ لهم إلى الجحود لا بشرِّيته وفظاعته ولا باتصافهم به وإما للإيذان باستقلال كلَ من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرِّية ولو روعيَ ترتيبُ الوجود وقيل مَنْ عَبَدَ الطاغوتَ ولعنه الله وغضب عليه الخ لربما فهم أن علة الشرية هو المجموعُ وقد قرىء عابدَ الطاغوت وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه نعتٌ كفطِنٍ ويقِظٍ وكذا عبدَةَ الطاغوتِ وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه جمع عابد كخَدَمٍ أو على أن أصله عبدةَ حذفت تاؤه للإضافة بالنصب في الكل عطفا على
55
المائدة آية ٦١
االقردة والخنازير وقرىء عَبَدِ الطاغوتِ بالجر عطفاً على مَنْ بناءً على أنه مجرور بتقدير المضاف وقد قيل إن مَنْ مجرور على أنه بدلٌ من شرَ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في تقدير المضاف وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ مع اقتضائه إخلاء النظم الكريم عن المزايا المنذكورة بالمرة مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ أن المقصود الأصلي ليس مضمونَ الجملة الاستفهامية بل هو كما مر مقدّمة سيقت أمام المقصود لهزؤء المخاطبين وتوجيه أذهانهم تنحو تلقي ما يلقى إليهم عَقيبها بجملة خبرية موافقةٍ في الكيفية للسؤال الناشىء عنها وهو المقصودُ إفادتُه وعليه يدور ذلك الإلزام والتبكيتُ حسبما شُرح فإذا جُعل الموصولُ بما في حيز صلتِه من تتمة الجملة الاستفهامية فأين الذي يلقى إليهم عقيبها جواباً عما نشأ منها من السؤال ليحصُلَ به الإلزامُ والتبكيت وأما الجملة الآنية فبمعزلٍ من صلاحية الجواب كيف لا ولا بد من موافقته في الكيفية للسؤال الناشىء عن الجملة الاستفهامية وقد عرفت أن السؤال الناشىءَ عنها يستدعي وقوعَ الشر من تتمة المخبَرِ عنه لا خبراً كما في الجملة المذكورة وسيتضح ذلك مزيدَ اتضاحٍ بإذن الله تعالى والمراد بالطاغوت العِجْلُ وقيل هو الكهنة وكلُّ من أطاعوه في معصية الله عز وجل فيعم الحكمُ دينَ النصارى أيضاً ويتضح وجه تأخيرِ ذكرِ عبادتِه عن العقوبات المذكورة إذ لو قُدِّمت عليها لتُوُهِّم اشتراكُ الفريقين في تلك العقوبات ولما كان مآلُ ما ذُكرَ بصدد التبكيت أن ماهو شرٌّ مما نقَموه دينُهم أو أن من هو شرٌّ من أهل ما نقموه أنفسُهم بحسَب ما قدِّر من المضافين وكانت الشرِّيةُ على كلا الوجهين من تتمة الموضوع غيرَ مقصودة الإثبات لدينهم أو لأنفسهم عقِبَ ذلك بإثباتها لهم على وجهٍ يُشعر بعِلِّية ما ذُكر من القبائح لثبوتها لهم بجملةٍ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته سبحانه شهادةً عليهم بكمال الشرارة والضلال أو داخلةٍ تحت الإمر تأكيدا للإلزان وتشديد للتبكيت فقيل
﴿أُوْلَئِكَ شَرٌّ مكانا﴾ فاسم الإشارة عبارةٌ عمَّن ذُكرتْ صفاتُهم الخبيثة وما فيه من معنى البعيد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشرارة أي أولئك وقيل شر مكاناً أي مُنصَرَفاً
﴿وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل﴾ عطف على شر مقرِّرٌ له أي أكثرُ ضلالاً عن الطريق المستقيم وفيه دلالة على كون دينهم شراً محضاً بعيداً عن البحق لأن ما يسلُكونه من الطريق دينُهم فإذا كانوا أضلَّ كان دينُهم ضلالاً بينا لا غايةَ وراءه وصيغةُ التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى من يشاركهم في أصلِ الشرارة والضلال
56
﴿وإذا جاؤوكم قالوا آمنا﴾ نزلتْ في ناسٍ من اليهود كانوا يدخُلون على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم ويُظهرون له الإيمان نفاقاً فالخطاب لرسول الله ﷺ والجمع للتعظيم أوله مع ما عنده من المسلمين أي إذا جاءوكم أظهروا الإسلام
﴿وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾ أي يخرجون من عندك ملتبسين بالكفر كما دخلوا لم يؤثِّرْ فيهم ما سمعوا منك والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعل دخلوا
56
المائدة آية ٦٢ ٦٤
وخرجوا وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالات أفادت أيضاً بما فيها من معنى التوقع أن أمارات النفاق كانت لائحة وكان الرسول ﷺ يظنه ويتوقع أن يظهره الله تعالى ولذلك قيل
﴿والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ﴾ أي من الكفر وفيه وعيد شديد لهم
57
وَتَرَى خطاب لرسول الله ﷺ أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب والرؤية بصرية كَثِيراً مّنْهُمْ من اليهود والمنافقين وقولُه تعالى ﴿يسارعون فِى الإثم﴾ حال من كثيراً وقيل مفعول ثانٍ والرؤيةُ قلبية والأول أنسبُ بحالهم وظهور نفاقهم والمسارعة المبادرة والمباشرة للشيء بسرعة وإيثار كلمةُ في على كلمة إلى الواقعة في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ الخ لِما ذُكر في قوله تعالى فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يسارعون فِيهِمْ والمرادُ بالإثم الكذبُ على الإطلاق وقيل الحرام وقيل كلمةُ الشرك وقولُهم عزيرٌ ابنُ الله وقيل هو ما يختصُّ بهم من الآثام ﴿والعدوان﴾ أي الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في المعاصي ﴿وَأَكْلِهِمُ السحت﴾ أي الحرام خصه بالذكر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي لبئس شيئاً كانوا يعملونه والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار
﴿لَوْلاَ ينهاهم الربانيون والاحبار﴾ قال الحسن الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة وقيل كلهم في اليهود وهو تحضيضٌ للذين يقتديْ بهم أفناؤهم ويَعْلمون قَباحةَ ما هم فيه وسوءَ مغبَّته على نهْيِ أسافلِهم عن ذلك مع توبيخ لهم على تركه ﴿عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت﴾ مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ وهذا أبلغ مما قيل في حق عامتهم لما أن العمل لا يبلُغ درجة الصنع ما لم يتدرَّبْ فيه صاحبُه ولم يحصُلْ فيه مهارة تامة ولذلك ذَمَّ به خواصَّهم ولأن ترك الحسنة أقبحُ من مواقعة المعصية لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك تركُ الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغِ ذم وفيه مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لاَ يخفي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما أشد آية في القرآن وعن الضحاك ما في القرآن آية خوف عندي منها
﴿وَقَالَتِ اليهود﴾ قال ابن عباس وعكرمة والضحاك إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس
57
المائدة آية ٦٤
مالاً وأخصبَهم ناحيةً فلما عصَوا الله سبحانه بأن كفروا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسَطَ عليهم فعند ذلك قال فنخاص بنُ عازوراء
﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضُوا به نُسبت تلك العظيمةُ إلى الكل كما يقال بنُو فلان قتلُوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم وأرادوا بذلك لعنهم الله أنه تعالى مُمسك يقتِّر بالرزق فإن كلاًّ من غَلِّ اليد وبسْطِها مجازٌ عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يدٍ وغَلَ أو بسطٍ ألا يُرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما في قولِه جاد الحمى بَسْطَ اليدين بوابل شكَرتْ نداهُ تِلاعُه ووِهادُهُ وقد سلك لبيد هذا المسلكَ السديد حيث قال وغداةِ ريحٍ قد شهِدْتُ وقره غذ اصبحت بيد السمال زِمامُها فإنه إنما أراد بذلك إثباتَ القدرة التامة للمشال على التصرفِ في القَرَّة كيفما تشاء على طريقة المجاز من غير أن يخطُرَ بباله أن يثبِتَ لها يدا ولا للقة زماماً وأصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي كما مر في قوله تعالى وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة في سورة آل عمران وقيل أرادوا ما حُكيَ عنُهم بقولِه تعالى لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء
﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكَنة أو بالفقر والنَّكَد أو بغَلِّ الأيدي حقيقة بأن يكونوا أسارى مغلولين في الدنيا ويُسحبوا إلى النار بأغلالِها في الآخرة فتكون المطابقةُ حينئذ من حيث اللفظُ وملاحظةُ المعنى الأصلي كما في سبّني سبّ الله دابرَه
﴿وَلُعِنُواْ﴾ عطف على الدعاء الأول أي أُبعدوا من رحمة الله تعالى
﴿بِمَا قَالُواْ﴾ أي بسبب ماقالوا من الكلمة الشنعاء وقيل كلاهما خبر
﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي كلاّ ليس كذلك بل هو في غايةِ ما يكونُ من الجود وإليه أُشير بتثنية اليد فإن أقصى ما ينتهِي إليه هممُ الأسخياء أن يُعطوا ما يعطونه بكلتا يَدَيْهم وقيل التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدجنيا والآخرة وقيل على إعطائه إكراماً وعلى إعطائه استدراجاً
﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده وللتنبيه على سرِّ ما ابتُلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالِهم ذريعةً إلى الاجتراء على تلك الكَفْرة العظيمة والمعنى والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تالبع لمشيئته المبنيَّةِ على الحُكم التي عليَها يدورُ أمرُ المعاش والمعاد وقد اقتضتِ الحكمةُ بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيِّقَ عليهم كما يشير إليه ما سيأتِي من قولِه عز وجل ولو أنهم أقاموا التواراة والإنجيل الآية وطكيف ظرفٌ ليشاء والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير ينفق أي ينفق كائناً على أي حال يشاء أي كائناً على مشيئته أي مريداً وتركُ ذكرِ ما ينفقه لقصد التعميم
﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً منهم﴾ وهم علماؤهم ورؤساهم
﴿مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ مِن القرآن المستمل على هذه الآيات وتقديمُ المفعول للاعتناء به وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لِما أن بعضهم ليس كذلك
﴿مِن رَبّكَ﴾ متعلق بأنزل كما أن إليك كذلك وتأخيره عنه مع أن حق المبدا أن يتقدم على المنتهي لاقتضاء المقامِ الاهتمامَ ببيان المنتهي لأن مدجار الزيادة هو النزولُ إليه عليهِ السَّلامُ كَما في قوله تعالَى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام
﴿طغيانا وَكُفْراً﴾ مفعول ثان للزيادة أي ليزييدنهم كغيانا على طغيانهم وكفراً على كفرهم القديمين إما من حيث الشدةُ والغلوُّ وإما من حيث الكمُ والكثرة إذ كلما نزلة ى ية كفروا بها فيزداد طغيانُهم وكفرهم بحسب المقدار
58
المائدة آية ٦٥ ٦٦
كما أن الطعامَ الصالح للأصِحّاء يزيد المرضى مرضاً
﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ﴾ أي بين اليهود فإن بعضَهم جبْريةٌ وبعضهم قدرية زوبعضهم مُرْجئة وبعضهم مشبِّهة
﴿العداوة والبغضاء﴾ فلا يكاد تتوافق قلوبُهم ولا تتطابق أقوالهم والجملة مبتدأ مَسوقة لإزاحة ما عسى يُتوهَّمُ من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمرٍ يؤدِّي إلى الإضرار بالمسلمين قيل العداوة والبغضاء أخصُّ من البغضاء لأن كل عدوَ مبغضٌ بلا عكسٍ كليَ
﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ متعلقٌ بألقينا وقيل بالبغضاء
﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾ تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلةِ ما هم فيه إلى المسلمين أي كلما أرادوا محاربة الرسول ﷺ ورتبوا مبادِيَها وركِبوا في ذلك متنَ كلِّ صعب وذَلولٍ ردهم الله تعالى وقهرهم أو كلما أرادوا حرب أحد غُلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بُخْتَ نَصَّرَ ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرُسَ الروميّ ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وللحرب إما صل لأوقدوا أو متعلِّق بمحذوف وقع صفة لنار أي كائنة للحرب
﴿وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً﴾ أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثار الشر والفتنة فيما بينهم مما يُغايرُ ما عبَّر عنه بإيقاد نارِ الحرب وفسادا إما مفعول له أو في موقعِ المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد
﴿والله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾ ولذلك أطفأ ثائرةَ إفسادهم واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد ووضعُ المُظْهَرِ مَقام الضمير للتعليل وبيانِ كونِهم راسخين في الإفساد
59
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب﴾ أي اليهودُ والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيداً للتشنيع فإنّ أهليةَ الكتاب توجب إيمانهم به وإقامتَهم له لا محالة فكفرُهم به وعدمُ إقامتهم له وهم أهلهخ أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأشنعُ من كل شنيع فمفعول قوله تعالى ﴿آمنوا﴾ محذوف ثقةً بظهوره مما سبقَ من قولِه تعالى هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون وما لَحِقَ من قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة الخ أي ولو أنهم مع صدور ما صدَرَ عنهُم من فنون الجنايات قولاً وفعلاً آمنوا بما نُفِيَ عنهم الإيمانُ به فيندرج فيه فرضُ إيمانهم برسول اللله ﷺ وأما إرادةُ إيمانهم به ﷺ خاصة فيأباها المقام لأن ما ذُكر فيما سبَقَ وما لَحِق من كفرهم به ﷺ إنما ذُكر مشفوعاً بكفرهم بكتابهم أيضا قصدجا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به ﷺ مستلزم الكفر بكتابهم فحمل الإيمان ههنا على الإيمان به ﷺ خحاصة مُخِلٌّ بتجاوُب أطرافِ النظمِ الكريم ﴿واتقوا﴾ ما عددجنا من معاصيهم التي من جُملتها مخالفةُ كتابهم ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم﴾ التي اقترفوها وإنْ كانتْ في غايةِ العِظَم ونهايةِ الكثرة ولم تؤاخذهم بها ﴿ولادخلناهم﴾ مع ذلك ﴿جنات النعيم﴾ وتكرير اللام لتأكيدِ الوعد وفيه تنبيه على كمال عِظَم ذنوبهم وكثرةِ معاصيهم وأن الإسلام يجبُّ ما قبله من السيئات وإن جلَّتْ وجاوزت كلَّ حدَ معهود
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل﴾ بمراعاة
59
المائدة آية ٦٧
ما فيهما من الأحكامِ التي من جُملتها شواهدُ نبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ومبشراتُ بِعثتِه فإن إقامتهما إنما تكون بلك لا بمراعاة جميعِ ما فيهما من الأحكام لانتساخِ بعضِها بنزول القرآن فليست مراعات الكلِّ من إقامتهما في شيء
﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ﴾ من القرآن المجيد المصدِّق لكتبهم وإيرادُه بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدّعونه من عدم نزوله إلى بني غسرائيل وتقديمُ إليهم لما مر من قبل وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة وقيل المراد بما أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيل مثلُ كتاب شعياءوكتاب حتقوق وكتاب دانيال فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه ﷺ
﴿لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ أي لوسَّع عليهم أرزاقَهم بأن يُفيض عليهم بركاتِ السماء والأرض أو بأن يكثر ثمراتِ الأشجار وغلالَ الزروع أو بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنوا ما تهدّل منها من رءوس الأشجار ويلتقطوا ما تساقط منها على الأرض وقيل المراد المبالغة في شرح السَّعَة والخِصْب لا تعيينُ الجهتين كأنه قيل لأكلوا من كل جهة ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ كما في قوله فلان يعطي ويمنع ومن في الموضعين لابتداء الغاية في هاتين الشرطيتين من حثِّهم على ما ذكر من الإيمان والتقوى والإقامةِ بالوعد بنيل سعادة الدارين وزجرِهم عن الإخلال بما ذُكر ببيان إفضائِه إلى الحِرْمان عنها وتنبيههم على أنَّ ما أصابَهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصورٍ في فيض الفياض ما لا يخفى
﴿مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ﴾ جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدّرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاءِ وإقامةِ الكتب المُنْزلة من أهل الكتاب كأنه قيل هل كلُّهم كذلك مصرّون على عدم الإيمان الخ فقيل منهم أمة مقتصدة إما على أن منهم مبتدأ باعتبار مضمونه أي بعضهم أمة وإما بتقدير الموصوف أي بعضٌ كائنٌ منهم كما مر في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله الآية أي طاتفة معتلده وهم المؤمنون منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وأضرابه وثمانيةٌ وأربعون من النصارى وقيل طائفة حالُهم أَممٌ في عدجاوة رسول الله ﷺ
﴿وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ﴾ مبتدأٌ لتخصُّصِه بالصفةِ خبرُه
﴿سَاء مَا يَعْمَلُونَ﴾ أي مقولٌ في خقهم هذا القولُ أي بئسما يعملون وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملَهم من العِناد والمكابرةِ وتحريفِ الحق والإعراض عنه والإفراطِ في العداوة وهم الأجلافُ المتعصبون ككعب من الأشرف وأشباهه والروم
60
﴿يا أيها الرسول﴾ نودي ﷺ بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذانا بأنها موجبات الإتيانِ بما أُمر به من متبليغ ما أُوحِيَ إليه
﴿بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي جميع مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن الأحكام وما يتعلق بها كائناً ما كان وفي قولِه تعالى
﴿مِن رَبّكَ﴾ أي مالِكِ أمورِك ومبلِّغِك إلى كمالك اللائقِ بك عِدَةٌ ضِمْنية بحفظه ﷺ وكَلاءته أي بلِّغْه غيرَ مراقب في ذلك أحد ولا خائف أن ينالك مكروهٌ أبداً
﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ﴾ ما أُمرت به من تبليغ الجميع بالمعنى المذكور كما ينبىء عنه قوله تعالى
﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ فإن ما لا تتعلق به الأحكام
60
المائدة آية ٦٨
أصلاً من الأسرار الخفية ليست مما يُقصَدُ تبليغه إلى الناس أي فما بلغت شيئاً من رسالته وانسلخْتَ مما شَرُفتَ به من عنوان الرسالة بالمرة لِما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤدِّ بعضها فكأنك أغفلتَ أداءَها جميعاً كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كلَ منها بما يُدليه غيرها وكونُها لذلك في حكم شيءٍ واحد ولا ريب في أن الواحد لا يكونُ مُبلَّغاً غيرَ ميبلغ مؤمَناً به غيرَ مؤمَنٍ به ولأن كتمان بعضها إضاعةٌ لما أُدِّيَ منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض بذلك وقيل فكأنك ما بلغت شيئاً منها كقوله تعالى فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً من حيث أن كتمنان البعض والكل سواءٌ في الشناعة واستجلاب العقاب وقرىء فما بلغت رسالاتي وعن ابن عباس رشي الله عنهما إن كتمت ى ية لم تبلِّغْ رسالاتي وروي عن رسول الله ﷺ بعثني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذرعاً فأوحَى الله إلي إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عذبتُك وضمِن لي العصمة فقوِيْتُ وذلك قوله تعالى
﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ فإنَّه كما ترى عِدَةٌ كريمةٌ بعصمته من لُحوق ضررهم بروحه العزيزِ باعثة له ﷺ على الجد في تحقيق ما أُمر بهِ من التبليغ غير مكترث بعجاوتهم وكيدهم وعن أنسٌ رضيَ الله عنه أنه ﷺ كان يُحرَسُ حتى نزلت فأخرج رأسَه من قُبّةٍ أدم فقال انصرفوا يأيها الناس فقد عصمني الله من الناس وقوله تعالى
﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين﴾ تعليل لعصمته تعالى له ﷺ أي لا يمكنهم مما يريدون بك من الإضرار وإيرادُ الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب لِما أن الكل قوارعُ يسوء الكفارَ سماعُها ويشُقّ على الرسول ﷺ مشافهتُهم بها وخصوصاً ما يتلوها من النصِّ الناعي عليهم كمالَ ضلالتهم ولذلك أعيد الأمر فقيل
61
﴿قل يا أهل الكتاب﴾ مخاكبا للفريقين
﴿لستم على شيء﴾ أي دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بُطلانه ووضوح فساده وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غايةَ وراءَه
﴿حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل﴾ اي تراعواهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة الرسول ﷺ وشواهدُ نبوته فإن إقامتهما إنما تكون بذلك وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست من إقامتهما في شيء بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثته وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة من الأحكام كما يفصحُ عنه قولُه تعالى
﴿وما أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ﴾ أي القرآن المجيد بالإيمان به فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك وتقديم غقامة الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق وإيرادُه بعنوان الإنزال إليهم لما مرّ من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به كما لا يزعُمون من اختصاصه بالعرب وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم ما أشيرَ إليهِ من اللطف في الدعوة وقيل امراد بما
61
المائدة آي ٦٩
أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيلَ كما مر وقيل الكتبُ الإلهية فإنها بأسرها آمرةٌ بالإيمان لمن صدَّقَتْه المعجزةُ ناطقةٌ بوجوب الطاعة له رُوي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ جماعةً من اليهود قالوا لرسول الله ﷺ ألست تقرأ أن التوراة حقٌّ من عند الله تعالى فقال ﷺ بلى فقالوا فإنا مؤمنون بها ولا نؤمنُ بغيرها فنزلت وقوله تعالى
﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً﴾ جملة مستأنَفةٌ مبيِّنةٌ لشدة شكيمَتِهم وغُلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ وعدمِ إفادة التبليغ نفعاً وتصدريها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولِها والمرادُ بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم ونسبةُ الإنزال إلى رسول الله ﷺ مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخِهم عن تلك النسبة
﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين﴾ أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم في الطغيان والكفر بما تُبلّغه إليهم فإن غائلتَه آيلةٌ إلهم وتبعته حائقة بهم لا تتخطاهم وفي المؤمنين مندوحةٌ لك عنهم ووضعُ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر
62
﴿إن الذين آمنوا﴾ كلام مستأنَفٌ مسوق لترغيب مَنْ عدا المذكورين في الإيمان والعمل الصالح أي الذين آمنوا بألسنتهم فقد وهم المنافقون وقيل أعمُّ من أن يُواطِئَها قلوبُهم أولا
﴿والذين هَادُواْ﴾ أي دخلوا في اليهودية
﴿والصابئون والنصارى﴾ جمعُ نَصْرانَ وقد مر تفصيله في سورةِ البقرةِ وقوله تعالى الصابئون رفعٌ على الابتداء وخبرُه محذوف والنيةُ به التأخرُ عما في حيّز إنّ والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كيتَ وكيتَ والصابئون كذلك كقوله فإني وقيارٌ بها لغريبُ وقوله وإلا فاعلموا أَنّا وأنتم بُغاةٌ ما بقِينا في شقاق خلا أنه وسَطٌ بين اسْمِ إنَّ وخبرِها دلالةً على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلِّها حيث قُبلت توبتُهم إن صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالح فغيرُهم أولى بذلك وقيل الجملة الآتية خبرٌ للمبتدأ المذكور وخبرُ إن مقدر كما في قوله نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأْيُ مختلِفُ وقيل النصارى مرفوع على الابتداءِ وقولُه تعالَى والصابئون عطفاً عليه وهو مع خبره عطفٌ على الجملة المصدَّرة بإن ولا مَساغَ لعطفه وحده على محلِّ إنَّ واسمِها لاشتنراط ذلك بالفراغ عن الخبر وإلا لارتفع الخبر بإن والابتداء معاً واعتُذر عنه بأن ذلك إذا كان المذكورُ خبراً لهما وأما إذا كان خبرُ المعطوف محذوفاً فلا محذورَ فيه ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ولاستلزامه كونَ الصابئين هُوداً وقرىء والصابيون بيان صريحة وبتخفيف الهمزة وقرىء والصابون وهو من صبا يصبوا لأنهم صبَوْا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم وقرىء والصابئين وقرىء يأيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون وقوله تعالى
﴿مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صالحا﴾ إما في محلِ الرفعِ على أنه مبتدأ خبره
﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفرادَ ما في صلته باعتبار لفظه والجملة
62
المائدة آية ٧٠
خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف أي من آمن منهم وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إن وما عُطف عليه والخبر قوله تعالى فَلاَ خَوْفٌ والفاء كما في قوله عز وعلا إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ الآية فالمعنى على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المنافقين وهو الأظهر من أحدث من هذه الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من أن يكون إيماناً بهما وَعَمِلَ عملاً صالحا حسبما يقتضيه الإيمانُ بهما فلا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب ولا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان جوام انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارِعاً لما مر مراراً لأن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا مطلقَ المتدينين بدين الإسلام المخلِصين منهم والمنافقين فالمرادُ بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواءٌ كان بطريق الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كما هو حالُ من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدةُ التعميم للمخلصين المبالغةُ في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غيرُ مُخلَ بكونهم أسوةً لأولئك الأقدمين الأعلام وأما ما قيل المعنى من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعه غمما لا سبيل إليه أصلا كما مرَّ تفصيلُه في سورة البقرة
63
﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسرائيل﴾ كلام مبتدأ مسوقٌ لبيان بعضٍ آخرَ من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة
﴿وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً﴾ ذوي عدد كثير وأولي شأن خطير ليقررهم على مرعاة حقوق الميثاق ويُطْلعوهم على ما يأتون ويذرون في دينهم ويتعهدوهم بالعظة والذكير وقولُه تعالى
﴿كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ﴾ جملة شرطيةٌ مستأنَفةٌ وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل وجواب الشرط محذوف كأنه قيل فمذا فعلوا بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تُحبه أنفسهم المنهمكة في الغنى والفساد من الأحكام الحَقّة والشرائعِ عَصَوْه وعادَوْه وقوله تعالى
﴿فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ﴾ جواب مستأنَفٌ عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال كأنه قيل كيف فعلوا بهم فقيل فريقاً منهم كذبوهم من غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخرَ من المَضارِّ وفريقاً آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم أيضاً وإنما أُوثر عليه صيغة المضارعِ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها الهائلة للتعجيب منها وللتنبيه على أن ذلك دَيْدنُهم المستمرُّ وللمحافظة على رءوس الآي الكريمة وتقديم فريقاً في الموضعين للاهتمام به وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر هذا وأما
63
المائدة آية ٧١
جعلُ الشرطية صفةً لرسلاً كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده المقام أصلاً ضرورةَ أن الجملة الخبرية إذا جُعلتْ صفةً أو صلةً يُنسخ ما فيها من الحُكم وتُجعل عنواناً للموصوف تتمةً له في إثباتِ أمرٍ آخَرَ له ولذلك يجب أن يكون الوصفُ معلومَ الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفاً له ومن ههنا قالُوا إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعد العلم بها أوصافٌ ولا ريب في أن ما سيق له النظمُ إنما هو بيانُ أنهم جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عُرضةً للقتل أو التكذيب حسبما يفيده جعلُها استئنافاً على أبلغِ وجه وآكله لا بيانُ أنه تعالى أرسل إليهم رسلاً موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلِها صفةً
64
﴿وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي حسِب بنو إسرائيلَ أن لا يصيبَهم من الله تعالى بما أتَوْا من الداهية الدهياء والخُطة الشنعاء بلاءٌ وعذاب وقرىء لا تكونُ بالرفع عَلى أنَّ أنْ هيَ المخففةُ من أنّ واسمُها ضميرُ الشأن المحذوف وأصله أنه لا تكون فتنةٌ وتعليقُ فعل الحُسْبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته وأن بما في حيِّزها سادٌّ مَسدَّ مفعوليه
﴿فَعَمُواْ﴾ عطف على حسِبوا والفاء للدِلالة على ترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي أمِنوا بأسَ الله تعالى فتمادَوْا في فُنون الغيِّ والفساد وعمُوا عن الدين بعد ما هداهم الرسلُ إلى معالمه الظاهرة ويبنوا لهم مناهجه الواضحة
﴿وَصَمُّواْ﴾ عن استماع الحق الذي ألقَوْه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرّتَيْ إفساد بني إسرائيلَ حين خالفوا أحكام التوراة وركِبوا المحارم وقتلوا شعياء وقيل حبسوا أرمياء عليهما السلام لا إلى عبادتهم العجلَ كما قيل فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كماال العمَى والصمَم لكنها في عصر موسى عليه السلام ولا تعلُّقَ لها بما حُكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءهم بعده عليه السلام بأعصار
﴿ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ﴾ حين تابوا ورجعوا عمَّا كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابلَ دهراً طويلاً تحت قهر بُخْتَ نَصَّرَ أسارى في غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقس ليعمُرَه ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختَ نصَّرَ بعد مهلكه وردَّهم إلى وطنهم وتراجَعَ من تفرق منهم في الأكتاف فعَمَروه ثلاثين سنة فكثُروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه وقيل لما ورث بهمن ابن اسفنديارَ المُلك من جدِّه كستاسف ألقى الله عزَّ وجلَّ في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام فاستولَوا على من كان فيها من أتباع بختَ نصّر فقامت فيهم الأنبياءُ فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وأمَّا ما قيل من أن المراد قبولُ توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلُّق له بالمقامِ ولم يُسنِد التوبةَ إليهم كسائر احوالهم من الحسابن والعمَى والصمم تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى
﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرّتيْ إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدُهم قتلَ عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لِما عرفت سره فإن فنون
64
المائدة آية ٧٢
الجناياتِ الصادرةِ عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حُكي عنهم ههنا في المرتين وترتّبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب وقرىء عُموا وصُمّوا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم كما يقال نَزَكتَهُ إذا ضربتَه بالنَّيْزَك ورَكَبتَهُ إذا ضربتَه بركبتك وقوله تعالى
﴿كَثِيرٌ مّنْهُمْ﴾ بدلٌ من الضمير في الفعلين وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي أولئك كثير منهم
﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي بما عملوا وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعايةً للفواصل والجملة تذييلٌ أشير به إلى بطلان حُسْبانهم المذكور ووقوع العذاب مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ إشارةٌ إجمالية اكتُفيَ بها تعويلاً على ما فُصِّل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيلَ والمعنى حسبوا أن لا يصيبهم عذابٌ ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة لأشد العقوبات والله بصيرٌ بتفاصيلها فكيف لا يؤاخذهم بها ومن أين لهم ذلك الحسبانُ الباطل ولقد وقع ذلك في المرة الأولى حيث سلط الله تعالى بُخْتَ نصَّر عامل لهراسِبَ على بابل وقيل جالوتَ الجزري وقيل سنجاريبَ من أهل نينوى والأول هو الأظهر فاستولى على بيت المقدس فقتل من أهله أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرضه فبقُوا هناك على أقصى ما يكونُ من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبةً صحيحة فردهم الله عزَّ وجلَّ إلى ما حكي عنهم من حسنِ الحال ثم عادوا إلى المرة الآخرة من الإفساد فبعث الله تعالى عليهم الفرسَ فغزاهم ملكُ بابلَ من ملوك الطوائف اسمُه خيدرود وقيل خيدروس ففعل بهم ما فعل قيل دخل صاحب الجيش مذبحَ قرابينَهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم فقالوا دمُ قربانٍ لم يقبل منا فقال ما صَدَقوني فقتل عليه ألوفاً منهم ثم قال إنْ لم تصدُقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا إنه دمُ يحيى عليه السلام فقال بمثل هذا بنتقم الله تعالى منكم ثم قال يحيى قد علم ربي وربُّك ما أصاب قومَك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقيَ أحداً منهم فهدأ
65
﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مريم﴾ شروع في تفصيل قبائح النصارى وإبطالِ أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء هم الذين قالوا إن مريم ولدت غلها قيل هم الملكانية والمار يعقوبية منهم وقيل هم اليعقوبية خاصة قالوا ومعنى هذا أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذاته تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً
﴿وَقَالَ المسيح﴾ حالٌ من فاعل قالوا بتقدير قد مفيدةٌ لمزيد تقبيحِ حالهم ببيان تكذبيهم للمسيح وعدم انزجارِهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به أي قالوا ذلك وقد قال المسيح مخاطباً لهم
﴿يا بني إسرائيل اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ﴾ فإني عبدٌ مربوبٌ مثلُكم فاعبدوا خالقي وخالقَكم
﴿إٍِنَّهُ﴾ أي الشأنَ
﴿مَن يُشْرِكْ بالله﴾ أي شيئاً في عبادته أو فيما يختص به من صفات الألوهية
﴿فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة﴾ فلن يدخلها أبداً كما لا يصل المحرم عليه إلى
65
المائدة آية ٧٣
المحرم فإنها دار الموحدين وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة
﴿وَمَأْوَاهُ النار﴾ فإنها هي المعدّة للمشركين وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب غثر بيانِ حرمانِهم الثوابَ
﴿وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ﴾ أي مالهم من أحد ينصُرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظهار وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً ووضعه على الأول موضع الضمير للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لمَا قبلَهُ وهُو إمَّا من تمامِ كلامِ عيسى عليه السلامُ وأما واردٌ من جهته تعالى لمقالته عليه السلام وتقريراً لمضمونها وقد قيل إنه من كلامه عز وجل على معنى أنهم ظلموا وعجلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا عَلَى عيسَى عليهِ السَّلامُ فلذلك لم يساعدْهم عليه ولم ينصُرْ قولهم ورده أنكره وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره أو من قول عيسى عليه السلام على معنى لا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبُعْده عن المعقول وأنت خبير بأن التعبيرَ عما حُكي عنه عليه السلام من مقابلته لقولهم الباطل بصريح الرد والإنكار والوعيد بحرمان الجنة ودخول النار بمجرد عدم مساعدته على ذلك ونفْي نُصْرته له مع خُلوِّه عن الفائدة تصوير للقوي ل = بصورة الضعيف وتهوين للخطب من مقام تهويله بل ربما يوهم ذلك بحسب الظاهر ما لا يليق بشأنه عليه السلام من توهم المساعدةِ والنُصرة لا سيما مع ملاحظة قوله وإن كانوا معظمين له الخ إلا أن يحمل الكلامُ على التهكم بهم كذا وكذا الحالُ على تقديرِ كونِه من تمام كلامِه عليه السلام فإن زجْرَه عليه السلام إياهم عن قولهم الفاسد بما ذكره من عدم الناصرِ والمساعدِ بعد زجره إياهم بما مر من الرد الأكيدِ والوعيدِ الشديد بمعزِلٍ من الإفادة والتأثير ولا سبيل ههنا إلا الاعتذار بالتهكم
66
﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة﴾ شروع في بيان كفر طائفة أخرة منهم ومعنى قوله ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحوُ ذلك أحدُ هذه الأعدادِ مطلقاً لا الثالثُ والرابعُ خاصة ولذلك منع الجمهورُ أن ينصِبَ ما بعده بأن يقال ثالثٌ ثلاثة ورابع أربعة وغنما ينصبه إذا كان ما بعده دونه بمرتبة كما في قولك عشر تسعةً وتاسعٌ ثمانيةً قيل إنهم يقولون إن الإلهية مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وعيسى ومريم وكلُّ واحد من هؤلاء إله ويؤكده قوله تعالى للمسيح أأنت قلت للناس اتخذونمي وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله فقوله تعالى ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثةِ آلهة وهو المتبادر من ظاهرِ قولِه تعالى
﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد﴾ أي والحالُ أنه ليس في الوجود ذاتُ واجبٍ مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأُ جميعِ الموجودات إلا إله موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن قَبول الشِرْكة ومن مزيدة للاستغراق وقيل إنهم يقولون الله جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل
66
المائدة ٧٤ ٧٥
الوجود وبالثاني العلم وبالثالث الحياة فمعنى قوله تعالى وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد إلا إله واحد بالذات منزه عن شائبةِ التعدد بوجهٍ من الوجوه
﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ﴾ من الكفر الشنيع ولم يوحّدوا وقوله تعالى
﴿لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ جوابُ قسمٍ محذوف سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط أي وبالله إن لم ينتهوا لميسنهم وإنَّما وضعَ موضعَ ضميرِهم الموصولُ لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن في قوله تعالى
﴿منهم﴾ بيانية أو ليمسن الذين بقُوا منهم على ما كانُوا عليهِ من الكفر فمن تبعيضية وإنما جيء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيهاً على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ينحى عليه بالقلع من نص عيسى عليه السلام وغيره وكفر جديد وغلوٌّ زائد على ما كانُوا عليهِ من أصل الكفر
﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي نوع شديد الألم من العذاب وهمزة الاستفهام في قوله تعالى
67
﴿أفلا يتوبون إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ لإنكار الواقع واستبعاده لا لإنكار الوقوع وفيه تعجيب من إصرارهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول فمدارُ الإنكار والتعجيب عدمُ الانتهاء وعدم التوبة معاً أو أيَسْمعون هذه الشهاداتِ المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك فمدارُهما عدم التوبة عَقيبَ تحقُّق ما يوجبها من سماع تلك لقوارع الهائلة وقوله عز وجل ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ يستغفرونه مؤكِّدةٌ للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار أي والحالُ أنَّه تعالَى مبالغٌ في المغفرة فيغفرُ لهم عند استغفارهمويمنحهم من فضله
﴿مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ﴾ استئناف مَسوقٌ لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه وبيانِ حقيقة حاله عليه السلام وحالِ أمه بالإشارة أولاً إلى أشرفِ ما لهما من نعوت الكمالِ التي بها صارا من زمرة أكمل أفراد الجنس وآخراً إلى الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفرادِ البشر بل أفراد الحيوان استنزالهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار على ما تقوّلوا عليهما وإرشاداً لهم إلى التوبة والاستغفار أي هو مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها وقوله تعالى
﴿قد خلت من قبله الرسل﴾ صفة لرسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية فإن خلو الرسلِ السالفةِ عليهم السلام منذر بخلوِّه المقتضي لاستحالة ألوهيته أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية من قبله خصه الله تعالى ببعضٍ من الآيات كما خص كلاًّ منهم ببعضٍ آخر منها فإن أحيى الموتى على يده فقد أحيى العصا في يد موسى عليه السلام وجعلت حية تسعى وهو أعجب منه وإن خُلق من غير أبٍ فقد خَلَق آدمَ من غير أب ولا أم وهو أغرب منه وكل ذلك من جنابِه عزَّ وجلَّ وإنما موسى وعيسى مظاهرُ لشئونه وأفعاله
﴿وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ﴾ أي وما أمه أيضا كسائر النساء اللاتي يلازِمْن الصدق أو التصديق ويبالغْن في الاتصاف به فما رتبتهما
67
المائدة آية ٧٦ ٧٧
إلا رتبةُ بشرَيْن أحدُهما نبي والآخر صحابي فمن اين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواصم
﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام﴾ استئناف مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر في الاحتياج إلى ما يحتاج إليه كُلُّ فردٍ من أفرادِه بل من أفراد الحيوان وقوله تعالى
﴿انظر كَيْفَ نبين لهم الايات﴾ تعجيب من حال الذين يدّعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بيَّن لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبةُ ريب وكيف معمول لنبينُ والجملة في حين النصب معلقة لا نظر أي انظر كيف نبين لهم الآيات الباهر المناديةَ ببطلان ما تقوّلوا عليهما نداءً يكاد يسمعه صمُّ الجبال
﴿ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ﴾ أي كيفَ يُصرفون عن استماعها والتأمل فيها والكلام فيه كما فيما قبله وتكريرُ الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغٌ لأقاصي الغايات القاصيةِ من التحقيق والإيضاح وإعراضُهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضُدِ ما يوجب قبولَها أعجبُ وأبدع
68
قل أمرٌ له عليه الصَّلاةُ والسلام بالإلزامهم وتبكيتِهم إثْرَ تعجيبه من أحوالهم ﴿أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي متجاوزين إياه وتقديمُه عَلى قولِه تعالَى ﴿مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والموصول عبارةٌ عن عيسى عليه السلام وإيثاره على كلمة مَنْ لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزلٍ من الألوهية رأساً ببيان انتظامه عليه السلام في سلك الأشياء التي لا قُدرةَ لها على شيء أصلاً وهو عليه السلام وإن كان يملك ذلك بتمليكه تعالى إياه لكنه لا يملِكه من ذاته ولا يملك مثل ما يُضِرُّ به الله تعالى من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصِّحة وتقديم الضرر على النفع لأن التحرز عنه أهمُ من تحرّي النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الحير وقوله تعالى ﴿والله هُوَ السميع العليم﴾ حال من فاعل أتعبدون مؤكِّد للإنكار والتوبيخ ومقررللإلزام والتبكيت والرابط هو الواو أي تشركون بالله تعالى ما لا يقدرُ على شيءٍ من ضُرِّكم ونفعكم والحال أن الله تعالى هو المختص بالإحاطة التامةِ بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة والأعمال السيئة وبالقدرة اللباهرة على جميعِ المقدُورات التي من جملتها مَضارُّكم ومنافعُكم في الدنيا والآخرة
﴿قل يا أهل الكتاب﴾ تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى فريقي أهل الكتاب بطريق الالتفات على لسان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بعد إبطال مسلك كل منهما للمبالغة في زجرهم عما سلكوه من المسلك الباطل وإرشادهم إلى الأَمَم المنئاة
﴿لا تغلوا فى دينكم﴾ أي لا تتجاوزا الحد وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عن رتبة الرسالة إلى ما تقوَّلوا في حقه من العظيمة ولليهود عن وضعهم له عليه السَّلامُ عن رتبته العلية إلى ما تقوَّلوا عليه من الكلمة الشنعاء وقيل هو خاص بالنصارى كما في سورة النساء فذكَرَهم بعنوان أهلية الكتاب لتذكير أن
68
المائدة آية ٧٨ ٧٩
الإنجيل أيضاً ينهاهم عن الغلو وقوله تعالى
﴿غَيْرَ الحق﴾ نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا تغلوا فى دينكم غلواً غيرَ الحق أي غلواً باطلاً أو حالٌ من ضميرِ الفاعل أي لا تغلوا مجاوزين الحق أو من دينكم أي لا تغلوا فى دينكم حال كونه باطلاً وقيل نُصب على الاستثناء المتصل وقيل على المنقطع
﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ﴾ هم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى على القولين قبل مبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فير شريعتهم
﴿وَأَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ أي قوماً كثيراً ممن شايعهم في الزيغ والضلال أو إضلالاً كثيراً والمفعولُ محذوف
﴿وَضَلُّواْ﴾ عند بعثةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتوضيح محجة الحق وتبين مناهجِ الإسلام
﴿عَن سَوَاء السبيل﴾ حين كذبوه وحسدوه وبغَوْا عليه وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني إلى ضلالِهم عما جاء به الشرع
69
﴿لُعِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي لعنهم الله عز وجل وبناءُ الفعل للمفعولِ للجَرْي على سَنن الكبرياءِ ﴿مِن بني إسرائيل﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منَ الموصولِ أو مِنْ فاعل كفروا وقوله تعالى ﴿على لسان داود وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ متعلق بلُعن أي لعنهم الله تعالى في الزبور والإنجيل على لسانهمها وقيل إن أهل أَيْلةَ لما اعتدَوا في السبت دعا عليهم داود عليه السلام وقال اللهم العنهم واجعلهم آيم فمسخهم الله قردة وأصحابُ المائدة لمكا كفروا قال عيسى عليه السلام اللهم عذِّبْ من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذِّبْه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازيرَ وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي ﴿ذلك﴾ إشارة إلى اللعن المذكور وإيثارُه على الضمير للتنبيه على كمال ظهورِه وامتيازِه عن نظائره وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى ﴿بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ والجملة مستأنَفةٌ واقعة موقع الجواب عما نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل بأي سبب وقع ذلك فقيل ذلك اللعنُ الهائل الفظيعُ بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمر كما يفيده الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبل وينبىء عنه قوله تعالى
﴿كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ فإنه استئناف مفيد بعبارته لاستمرار عدم التناهي عن المنكر ولا يمكن استمرارُه إلا باستمرار تعاطي المنكرات وليس المراد بالتناهي أن ينْهَى كلُّ واحد منهم الآخَرَ عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهورُ لصيغة التفاعل بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير اعتبارِ أنْ يكون كلُّ واحدٍ منهم ناهياً ومنهياً معاً كما في تراءَوْا الهلالَ وقيل التناهي بمعنى الانتهاء يقال تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع عنه وتركه فالجملة حينئذ مفسرةٌ لما قبلها من المعصية والاعتداء ومفيدة لاستمرارهما صريحاً وعلى الأول مفيدة لاستمرار انتفاء النهي عن المنكر بأن لا يوجد فيما بينهم من يتولاه في وقتٍ من الأوقاتِ ومن ضرورته استمرارُ فعل المنكر حسبما سبق وعلى كل تقدير فما يفيده تنكيرُ المنكر من الوحدة
69
المائدة آية ٨٠ ٨١
نوعية لا شخصية فلا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق انهي به لِما أن متعلَّق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلقُ به النهي والانتهاء من مطلق المنكر باعتبار تحقّقه في ضمن أيِّ فردٍ كان من أفراده على أن المضي المعتبر في الصفة إنما هو بالنسبة إلى زمان النزول لا إلى زمان النهي حتى يلزمَ كونُ النهي بعد الفعل فلا حاجة إلى تقدير المعاودة أو المِثْل أو جعلِ الفعل عبارةً عن الإرادة على أن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول فلا بد من المصير إلى أحد ما ذُكر من الوجهين أو إلى تقدير المثل أو إلى جعل الفعل عبارة عن إرادته وفي كل ذلك تعسفٌ لا يخفى
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ تقبيح لسوء أعمالهم وتعجيب منه بالتوكيد القسمي كيف لا وقد أداهم إلى ما شُرح من اللعن الكبير وليس في تسبُّبه بذلك دلالةٌ على خروج كفرهم عن السببية مع الإشارةِ إلى سببيته له فيما سبقَ من قولِه تعالى لُعِنَ الذين كَفَرُواْ فإن إجراءُ الحُكم على الموصول مُشعرٌ بعِلِّية ما في حين الصلة له لما أن ما ذكر في حين السببية مشتملٌ على كفرهم أيضاً
70
﴿ترى كَثِيراً مّنْهُمْ﴾ أي من أهل الكتاب ككعبِ بن الأشرف وأضرابِه حيث خرجوا إلى مشركي مكةَ ليتّفقوا على محاربة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والرؤيةُ بصريةٌ وقوله تعالى ﴿يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ﴾ حال من كثيراً لكونه موصوفاً أي يوالون المشركين بُغضاً لرسول الله ﷺ والمؤمنين وقيل مِنْ منافقي أهل الكتاب يتولَّوْن اليهود وهو قولُ ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا ومجاهدٌ والحسن وقيل يوالون المشركين ويُصافوُنهم ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾ لبئس شيئاً قدّموا ليَرِدوا عليه يوم القيامة ﴿أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ﴾ هو المخصوصُ بالذم على حذف المضاد وإقامةِ المضافِ إليهِ مُقامَهُ تنبيهاً على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد ومبالغةً في الذم أي موجبُ سُخطِه تعالى ومحله الرفع على الابتداء والجملة قبله خبرُه والرابط عند من يشترطه هو العموم أو لا حاجة إليه لأن الجملةَ عينُ المبتدأ أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوف ينبىء عنه الجملة المتقدمة كأنَّه قيلَ ما هُو أو أيُّ شيء هو فقيل هو أنْ سخِط الله عليهم وقيل المخصوصُ بالذم محذوف وما اسم تامٌّ معرفةٌ في محل رفع الفاعلية لفعل الذم وقدمت لهم أنفسهم جملة في محلِ الرفعِ على أنها صفة للمخصوصِ بالذم قائمةٌ مَقامه والتقدير لبئس الشيءُ شيءٌ قدّمتْه لهم أنفسُهم فقوله تعالى أَن سَخِطَ الل عَلَيْهِمْ بدلٌ من شيء المحذوفِ وهذا مذهب سيبويه ﴿وَفِى العذاب﴾ أي عذابَ جهنَم ﴿هُمْ خالدون﴾ أبد الآبدين
﴿وَلَوْ كَانُواْ﴾ أي الذين يتولون المشركين من أهل الكتاب
﴿يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ﴾ أي نبيهم
﴿وَمَا أُنْزِلَ إليه﴾ من الكتاب أولو كان المنافقون يؤمنون بالله ونبينا إيماناً صحيحاً
﴿مَا اتخذوهم﴾ أي المشركين أو اليهود
﴿أَوْلِيَاء﴾ فإن الإيمان بما ذُكر وازعٌ عن تولِّيهم قطعاً
﴿ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون﴾ خارجونَ عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أو متمرِّدون في النفاق مفرطون فيه
70
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً للذين آمنوا اليهود والذين أَشْرَكُواْ﴾ جملةٌ مستأنَفة مَسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وعَراقتهم في الكفر وسائرِ أحوالهم الشنيعة التي من جملتها موالاتُهم للمشركين أُكِّدت بالتوكيد القسَميّ اعتناءً ببيان تحققِ مضمونها والخطابُ إمَّا لرسولِ الله ﷺ أو لكل أحد صالح له إيذاناً بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس والوُجدانُ متعدَ إلى اثنين أحدُهما أشدُّ الناس والثاني اليهودُ وما عُطف عليه وقيلَ بالعكس لأنهما في الأصل مبتدأٌ وخبرٌ مصب الفائدةِ هُوَ الخبرُ لا المبتدأ ولا ضيرَ في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهههنا دليل واضح عليه وهو أن المقصودَ بيانُ كون الطائفتين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين لا كونِ أشدِّهم عداوةً لهم الطائفتين المذكورتين وأنت خبير بأنه بمعزلٍ من الدلالةِ على ذلك كيف لا والإفادة في الصورة الثانية أتمّ وأكملُ مع خلوها عن تعسُّف التقديم والتأخير غذ المعنى أنك إن قصدتَ أن تعرِفَ من أشدُّ الناس عداوةً للمؤمنين وتتبعْتَ أحوالَ الطوائف طُراً وأحطتَ بما لديهم خُبْراً وبالغْتَ في تعرُّف أحوالهم الظاهرةِ والباطنة وسعَيْتَ في تطلُّب ما عندهم من الأمور البارزة والكامنة لتجدن الأشدَّ تَيْنِك الطائفتين لا غيرُ فتأملْ واللام الداخلة على الموصول متعلقةٌ بعداوةً مقويةٌ لعملها ولا يضرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء مبنية عليها كما في قولِه ورهبةً عقابَك وقيل متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لعداوة أي كائنةً للذين آمنوا وصفهم الله تعالى بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعُف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرُّنهم على التمرّد والاستعصاء على الأنبياء والاجتراء على تكذيبهم ومُناصَبَتِهم وفي تقديم اليهود على المشركين بعد لَزِّهما في قَرنٍ واحد إشعارٌ بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن تقديمهم عليهم في قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ إيذاناً بتقدُّمهم عليهم في الحرص
﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مودة للذين آمنوا﴾ أعيد الموصولُ مع صلته رَوْماً لزيادة التوضيح والبيان
﴿الذين قالوا إنا نصارى﴾ عبر عنهم بذلك إشعار بقرب مودتهم حيث يدّعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقدا حقية الإسلام وعلى هذه النكتنى مبنى الوجه الثاني في تفسيرِ قولِه تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي سبق والعجول عن جعْل ما فيه التفاوتُ بين الفريقين شيئاً واحداً قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخِراً ولتجدن أضعفَهم عداوة الخ أو بأن يقال أو لا لتجدن أبعد الناس مودة الخ للإيذان بكمال تبايُن ما بينَ الفريقينِ من التفاوتِ ببيان أن أحدَهما في أقصى مراتبِ أحدِ النقيضين والآخَرَ في أقربِ مراتب النقيض الآخر
﴿ذلك﴾ أي كونهم أقربَ مودةً للمؤمنين
﴿بأن منهم﴾ بسبب أن منهم
﴿قِسّيسِينَ﴾ وهم علماءُ النصارى وعبّادهم ورؤساؤهم والقِسّيسُ صيغةُ مبالغةٍ من تقَسَّسَ الشيءَ إذا تتبَّعه وطلبه بالليل سُموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب وقيل القَسُّ بفتح القاف تتبُّعُ الشيء ومنه سمي عالم النصارى قسيساً لتتبعه العلم وقيل قصَّ الأثرَ وقسه بمعنى وقيل
71
المائدة ٨٣ ٨٤
إنه أعجمي وقال قُطرُبُ القِسّ والقِسّيسُ العالم بلغة الروم وقيل ضيَّعت النصارى الإنجيلَ وما فيه وبقي منهم رجل يقال له قسيسا لم يبدِّلْ دينه فمن راعى هديه ودينه قيل له قسيس
﴿وَرُهْبَاناً﴾ وهو جمه راهب كراكب ورُكبان وفارس وفُرسان وقيل إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأُنشِدَ فيه قولُ من قول لو عايَنَتْ رُهبانَ ديْرٍ في قُلَل لأقبل الرهبانُ يعدو ونزَلْ والترهب التعبد في الصومعة قال الراغب الرهبانية الغلوُّ في تحمل التعبد من فرط الخوف والتنكير لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضاً إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفرادٍ كثيرة لجنسٍ بخصلةٍ مظِنةٌ لاتصاف الجنس بها وإلا فمن السهود أيضاً قوم مهتدون ألا يُرى إلى عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم وأضرا به قال تعالى مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيات الله آناء الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ الخ لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعدَّ حكمُهم إلى جنس اليهود
﴿وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموا ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود وهذه الخَصلةُ شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيّتُها لأقربيّتهم مودةً للمؤمنين واضحة وفيه دليلٌ على أنَّ التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودٌ وإن كان ذلك من كافر
72
﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول﴾ عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأن أعينَهم تفيض من الدمع عند سماع الرقآن وهو بيانٌ لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتِهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه ﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ أي تمتلىء بالدمع فاستُعير له الفيضُ الذي هو الانصبابُ عن امتلاءٍ مبالغةً أو جُعلت أعينُهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾ من الأُولى لابتداء الغايةِ والثانية تبعيضية لأن ما عرفوه بعضُ الحق وحيث أبكاهم ذلك فما ظنك بهم لو عرفوا كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة وقرىء تُرى أعينُهم على صيغة المبني للمفعول ﴿يقولون﴾ استئن مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل ماذا يقولون فقيل يقولون ﴿ربنا آمنا﴾ بهذا أو بمن أنزل هذا عليه أو بهما وقيلَ حالٌ من الضميرِ في عرفوا أو منَ الضميرِ المجرورِ في أعينهم لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ أي الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته أو مع أمته الذين هم شهداءُ على الأممِ يومَ القيامةِ وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك
﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق﴾ كلام مستأنَفٌ قالوه تحقيقاً لإيمانهم وتقريراً له بإنكار سبب انتفائه ونفيِه بالكلية على أنَّ قولَه تعالى لاَ نُؤْمِنُ حال من الضمير في لنا والعاملُ ما فيه من الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ حصل لنا
72
المائدة آية ٨٥ ٨٧
غيرَ مؤمنينَ على توجيه الإنكارِ والنَّفي إلى السببِ والمسبَّب جميعاً كَما في قوله تعالى ومالي لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى ونظائرِه لا إلى السببِ فقط مع تحقق المسبب كما في قوله تعالى فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وأمثاله فإنَّ همزةَ الاستفهامِ كَما تكونُ تارةً لإنكارِ الواقعِ كَما في أتضرِبُ أباكَ وأخرة لإنكار الوقوعِ كما في أأضربُ أبي كذلكَ ما الاستفهاميةُ قد تكونُ لإنكارِ سببِ الواقعِ ونفْيِه فقطْ كما في الآية الثانية وقولُه تعالى مَّا لَكُمْ لاَ تجون لِلَّهِ وَقَاراً فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ محُققاً فإنَّ كلاً من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرَّجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكر ونفي سببه وقد يكون الإنكارُ سببَ الوقوعِ ونفيَه فيسريانِ إلى المسببِ أيضاً كَما في الآية الأولى فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ مفروضاً قطعاً فإنَّ عدمَ العبادةِ أمرٌ مفروضٌ حتماً وقوله تعالى
﴿وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين﴾ حال أخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدأ والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيداً بها أيْ أيُّ شيءٍ حصلَ لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين أو من الضميرِ في لا نؤمن على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين وقيل معطوف على نؤمن على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع المذكور
73
﴿فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ﴾ أي عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أن مُعتقدُه وقرىء فآتاهم الله ﴿جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَاء المحسنين﴾ أي الذينَ أحسنوا النظر والعمل أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور والآيات الأربع رُوي أنَّها نزلتْ في النجاشي وأصحابه بعث إليه رسول الله ﷺ بكتابه فقرأه ثم دعا جعفرَ بنِ أبي طالبٍ والمهاجرين معه وأحضر القسيسين والرهبان فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فقرأ عليهم سورة مريم فبكَوا وآمنوا
﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم﴾ عطَفَ التكذيب بآيات الله على الكفر مع أنه ضربٌ منه لِما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكَرهم بمقابلة المصدِّقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ أي ما طاب ولذ منه كأنه لمّا تضمّن ما سلف من مدح النصارى على الترهيب ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقّب ذلك بالنهي عن الإفراط في الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغةً منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً ورويَ أنَّ رسولَ الله ﷺ وصف القيامة لأصحابه يوماً فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار فرقّوا واجتمعوا في بيت
73
المائدة آية ٨٨ ٨٩
عثمانَ بنِ مظعونٍ واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين وأن لا يناموا على الفُرش ولا يأكلوا اللحم والودَك ولا يقرَبوا النساء والطيِّب ويرفضوا الدنيا ويلْبَسوا المُسوح ويَسيحُوا في الأرض ويجبوا مناكيرهم فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال لهم إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقو وأنام وأصوم وأُفطر وآكلُ اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغِب عن سنتي فليس مني فنزلت
﴿وَلاَ تعتدوا﴾ أي ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات أو جَعَلَ تحريمَ الطيبات اعتداءً وظلماً فنهى عن مطلق الاعتداء ليدخُل تحته النهيُ عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده عَقيبه أو أريدَ ولا تعتدوا بذلك
﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ تعليل لما قبله
74
﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّباً﴾ أي ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالاً مفعول كلوا ووما رزقكم إما حال منه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً أو متعلق بكلوا ومِنْ ابتدائية أو هو المفعول وحلالاً حالٌ منَ الموصولِ أو مِنْ عائدِه المحذوف أو صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي أكلاً حلالاً وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزظق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة ﴿واتقوا الله الذى أَنتُم به مؤمنون﴾ توطكيد للوصية بما أَمَر به فإن الإيمانَ بهِ تعالى يوجب المبالغة في التقوى والانتهاء عما نهى عنه
﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم﴾ اللغو في اليمين الساقطُ الذي لا يتعلق به حُكم وهو عندنا أن يحلِف على شيء يظن أنه كذلك وليس كما يظن وهو قول مجاهد قيل كانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظنِّ أنه قُربة فلما نزل النهي قالوا كيف بأيماننا فنزلت وند الشافعي رحمه اللله تعالوا ما يبدوا من المرء من غير قصد كقوله لا والله وبلى والله وهو قول عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها وفي أيمانكم صلةُ يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه
﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان﴾ أي بتعقيدكم اليمان وتوثيقها عليه بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقّدتموه إذا حنِثتم أو بنَكْثِ ما عقّدتم فحُذِف للعلم به وقرىء بالتخفيف وقرىء عاقدتم بمعنى عقدتم
﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾ أي فكفارةُ نكْثِه وهي الفعلة التي من شأنِها أنْ تكفّرَ الخطيئة وتسترها واستدل بظاهره على جواز التكفير قبل الحِنْث وعندنا لا يجوز ذلك لقوله ﷺ من حلف على يمين ورأى غيرَها خيراً فليأتِ الذي هو خيرٌ ثم لْيُكفِّرْ عن يمينه
﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ أي من أقصَدِه في النوع أو المقدار وهو نصفُ صاعٍ منْ بُر لكلِّ مسكين ومحلُّه النصبُ لأنه صفةُ مفعول
74
المائدة آية ٩٠
محذوف تقديرُه أن تُطعموا عشرة مساكينَ طعاماً كائناً من أوسط ما تطعمون أو الرفعُ عَلى أنَّه بدل منإطعام وأهلون جمعُ أهلٍ كأَرَضون جمع أرض جمع أرض وقرىء أهاليكم بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهذا أيضاً جمع أهلٍ كالأراضي في جمع أرض والليالي في جمع ليل وقيل جمع أهلاة
﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ عطف على إطعامُ أو على محلَّ من أوسط على تقدير كونِه بدلاً من إطعام وهو ثوب يغطي العورة وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار وقُرىء بضمِّ الكافِ وهي لغة كقدرة في قُدوة وإسوة في أُسوة وقرىء أو كأُسوتهم على أن الكافُ في محل الرفعِ تقديره أو إطعامهم كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم غسرافا وتقتيراً تواسون بينهم وبينهم إن لم تُطعموهم الأوسط
﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ أي أو إعتاقُ إنسان كيفما كان وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه الإيمان قياساً على كفارة القتل ومعنى أو غيجاب إحدى الخصال مطلقاً وخيارُ التعيين للمكلف
﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ أيْ شيئاً من الأمور المذكورة
﴿فَصِيَامُ﴾ أي فكفارتُه صيام
﴿ثلاثة أَيَّامٍ﴾ والتتابع شرط عندنا لقراءة ثلاثة أيام متتابعات والشافعي رضي الله عنه لا يرى الشواذ حجة
﴿ذلك﴾ أي الذي ذُكرَ
﴿كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ أي وحنِثْتم
﴿واحفظوا أيمانكم﴾ بأن تضِنوا بها ولا تبذُلوها كما يُشعر بهِ قولُه تعالى إِذَا حَلَفْتُمْ وقيل بأن تَبَرّوا فيها ما استطعتم ولم يفُتْ بها خير أو بأن تكفروها إذا حنِثتم وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها
﴿كذلك﴾ غشارة لي مصدر الفعل الآتي لا إلى تبيينٍ آخَرَ مفهومٍ مما سبق والكاف مقحمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحله في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير يبين الله تبييناً كائناً مثلَ ذلك التبيين فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصل نفسَ المصدر لا نعتاً له وقد مر تفصيله في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا أي ذلك البيان البديع
﴿يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته﴾ أعلام شريعته وأحكامه لا بياناً أدنى منه وتقديم لكم على المفعول لما مر مراراً
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج
75
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب﴾ أي الأصنامُ المنصوبةُ للعبادة
﴿والازلام﴾ سلف تفسيرها في أوائل السورةِ الكريمة
﴿رِجْسٌ﴾ قذر تعاف عنه العقول وإفراده لأنه خبرُ الخمر وخبرُ المعطوفات محذوفٌ ثقةً بالمذكور أو المضاف محذة وف أي شأن الخمر والميسر إلخ
﴿رجس مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾ في محلِ الرفعِ على أنه صفةُ رجس أي كائن من عمله لأنه مسبَّبٌ من تسويله وتزيينه
﴿فاجتنبوه﴾ الرجس أو ما ذكر
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي راجين فلاحكم وقيل لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قولِه تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ولقد أُكِّد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد حيث صُدِّرت الجملة بإنما وقُرِنا بالأصنام والأزلام وسُمِّيا رجساً من عمل الشيطان تنبيهاً على أن تعاطيهما شرٌّ بحْتٌ وأَمَر بالاجتناب عن عينهما وجعل ذلك
75
المائدة آية ٩١ ٩٣
سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خَيبة ومَحْقة ثم قرر ذلك بيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقيل
76
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر﴾ وهو إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة﴾ إشارة إلى مفاسدهما الدينية وتخصيصُهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيانُ حالهما وذكرُ الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلُهما في الحرمة والشرارة لقوله ﷺ شارب الخمر كعابد الوثن وتخصيصُ الصلاة بالإفراد مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصادَّ عنها كالصادِّ عن الإيمان لما أنها عِمادُه ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتَّباً على ما تقدم من أصناف الصوارف فقيل ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ أيذاناً بأن الأمر في الزجر والتحذير وكشفِ ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية وأن الأعذارَ قد انقطعت بالكلية
﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾ عطف على اجتنبوه أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه ﴿واحذروا﴾ أي مخالفتَهما في ذلك فيدخل فيه مخالفةُ أمرِهما ونهْيِهما في الخمر والميسر دخولاً أولياً ﴿فَإِن توليتم﴾ أي أعرضتم عن الامتثال بما أُمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر وعن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله ﷺ والاحترازِ عن مخالفتهما ﴿فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين﴾ وقد فعل ذلك بكما لا مزيد عليه وخرج عن عُهدة الرسالة أيَّ خروج وقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل وما بقي بعذ ذلك إلا العقاب وفيه من عظم التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى فاعلموا أنكم لم تضُروا بتولِّيكم الرسولَ لأنه ما كُلّف إلا البلاغَ المبينَ بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كُلِّفتموه فلا يساعده المقام إذ لا يُتوهم منهم ادعاءُ أنهم بتوليهم يضرونه ﷺ حتى يردَ عليهم بأنهم لا يضرونه وإنما يضرون أنفسهم
﴿ليس على الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ﴾ أي إثم وحرج
﴿فِيمَا طَعِمُواْ﴾ أي تناولوا أكلاً أو شرباً فإن استعماله في الشرب أيضاً مستفيضٌ منه قوله تعالى ومن لم يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى قيل لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر بعد غزوة الأحزاب قال رجال من أصحابِ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسلام أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أحد وهو يشربونها ونحن نشهد أنهم في الجنة وفي رواية أخرى لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهو يشربون الخمر ويأكلون الميسر وفي
76
المائدة
رواية أخرى قال أبُو بكرٍ رضيَ الله تعالى عنه يا رسولَ الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار فنزلت وليست كلمة ما في طعموا عبارةً عن المباحات خاصة وإلا لزم تقييد غباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله تعالى
﴿إِذَا مَا اتقوا﴾ واللازمُ منْتفٍ بالضرورة بل هي عبارة على عمومها موصولوة كانت أو موصوفة وإنما تخصصت بذلك القيد الطارىء عليها والمعنى ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائناً ما كان إذا اتقَوْا أنْ يكونَ في ذلكَ شيء من المحرمات وإلا لم يكن نفْيُ الجُناح في كل ما طعموه بل في بعضه ولا محذورَ فيه إذِ اللازمُ منه تقييد غباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقيد إباحة بعضه باتقاء بعضٍ آخرَ منه كما هو اللازمُ من الأول
﴿وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات﴾ أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة وقوله تعالى
﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ عطف على اتقوا داخلٌ معه في حيِّز الشرط أي اتقوا ما حُرّم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق
﴿وآمنوا﴾ أي بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه إما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمن به واستمروا على الإيمان
﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ أي ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحاً من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة غباحة كل ما طعِموه في ذلك الوقت لا إباحةُ كل ما طعموه قبله لانتساخ إباحةِ بعضِه حينئذ
﴿وَأَحْسِنُواْ﴾ أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ الجميلة المنظمة لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية وليس تخصيص هذه المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرر بالغاً ما بلغ والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمالِ الصالحةِ وكانوا في طاعة الله ومراعاةِ أوامرِه ونواهيه بحيث كلما حرِّم عليهم شيء من المباحات اتقَوْه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المطاعم والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طُعْمِه وأنت خبير بأن ما عدا اتنقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخْلَ لها في انتفاء الجُناح وإنما ذكرت في حين إذا شهادةً باتصاف الذين سُئل عن حالهم بها ومدحاً لهم بذلك وحمداً لأحوالهم وقد أُشير إلى ذلك حيث جُعلت تلك الصفاتُ تبعاً للاتقاء في كل مرةٍ تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن مَساقَ النظمُ الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المصنفين بما ذُكِرَ من النعوتِ فيما سيأتي بقضية كلمة إذا ما لكنه قد أُخرج مُخْرَجَ الجواب عن حال الماضين لأثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهانيّ بطريق دلالة النص بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل ليس عليهم جمناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعنه تعالى مع ما لَهُم منَ الصفات الحميدة بحيث كلما أمِروا بشيء تلقَّوْه بالامتثال وإنما كانوا يتعاطَوْن الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذا ذاك ولو حُرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة هذا وقد قيل التكريرُ باعتبار الأوقات الثلاثة أو باعتبار الحالات الثلاث استعمالِ الإنسان التقوى بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبين الله عز وجل ولذلك جيءَ بالإحسان في الكرة الثالثة بدلَ الإيمان إشارة إلى ما قله عليه الصلاة والسلام في تفسيره أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى أو باعتبار ما يُتَّقى فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب والشبُهاتِ توقياً من الوقوع في الحرام وبعضَ المباحات حفظاً للنفس عن الخِسة وتهذيباً لها عن دنَس الطبيعة وقيل التكريرُ لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ونظائرِه وقيل المرادُ بالأول اتقاءُ الكفر وبالثاني
77
المائدة آية ٩٤
اتقاءُ الكبائر وبالثالث اتقاءُ الصغائر ولا ريب في أنه لا تعلُّقَ لهذه الاعتبارات بالمَقام فأَحسِنِ التأمل
﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أبلغَ تقرير
78
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله ليُعامِلَّنكم معاملة من يختبركم لبتعرف أحوالَكم
﴿بِشَىْء مّنَ الصيد﴾ أي من صيدِ البَرّ مأكولا أو غير مأكول ما عجا المستثنياتِ من الفواسق فاللام للعَهْد نزلت عام الحُدَيْبية ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم مُحرِمون كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدِها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وذلك قوله تعالى
﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم﴾ فهمُّوا بأخذها فنزلت ورُوي أنه عَنَّ لهم حمارُ وحشٍ فحمل عليه أبو اليَسَر بنُ عمرو فطعنه برمحه وقتله فقيل له قتلته وأنت مُحرم فأتى رسول الله ﷺ وسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية فالتأكيد القَسَميُّ في ليبلونكم إنما هو لتحقيق أن ما وقع من عدم توحُّش الصيد عنهم ليس إلا لابتلائهم لا لتحقيق وقوعِ المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء وتنكير شيء للتحقير المُؤْذِن بأنَّ ذلك ليس من الفِتن الهائلة التي تزِلُّ فيها أقدامُ الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلافِ الأموال وإنما هو من قبيل ما باتلي به أهلُ أَيْلَةَ من صيد البحر وفائدتُه التنبيهُ على أن من لم يتثبت في مثل هذا كيف يتثبت عند شدائد المحن فمن في قوله تعالى من الصيد بيانية قطعاً أي بشيء حقير هو الصيد وجعلُها تبعيضيةً يقتضي اعتبارَ قِلَّته وحقارته بالنسبة إلى كل الصيد لا بالنسبة إلى عظائم البلايا فيَعْرَى الكلامُ عن التنبيه المذكور
﴿لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب﴾ أي ليتميز الخائفُ من عقابه الأخروي وهو غائبٌ مترقبٌ لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد ممن لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيُقدم عليه وإنما عبر عنْ ذلك بعلم الله تعالى اللازم له إيذاناً بمدار الجزاءِ ثواباً وعقاباً فإنه أدْخَلُ في حملهم على الخوف وقيل المعنى ليتعلق علمه تعالى يمن يخافه بالفعل فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقاً به قبل خوفه لكنّ تعلُّقَه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمرُ الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ والتقدير ليعلم أولياءَ الله وقرىء ليُعلِمَ من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليُعْلِمَ الله عباده الخ والعلمُ على القراءتين متعدَ إلى واحد وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة
﴿فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك﴾ أي بعد بيانِ أن ما وقع ابتلاءٌ منْ جهتِه تعالَى لِما ذُكر من الحِكمة لا بعد تحريمِه أو النهي عنه كما قاله بعضهم إذ النهي والتحريم ليس أمراً حادثاً يترتب عليه الشرطية بالفاء ولا بعد الابتلاء كما اختاره آخرون لأن نفس الابتلاء لا يصلح مداراً لتشديد العذاب بل ربما يتوهم كونُه عذراً مسوِّغاً لتخفيفه وإنما الموجب للتشديد بيانُ كونه ابتلاءً لأن الاعتداء بعد ذلك مكابرةٌ صريحة وعدمُ مبالاةٍ بتدبير الله تعالى وخروجٌ عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحُّشه منهم ابتلاءٌ مؤدَ إلى تمييز المطيع من العاصي
﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
78
لما ذكر من أنه مكابرة محضة ولأن من لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهيِّنة لا يكاد يُراعيه في عظائم المداحض والمراد بالعذاب الأليم عذاب الدارين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يُوسَعُ ظهرُه وبطنه جَلداً وينزع ثيابه
79
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ شروعٌ في بيان ما يتدارك به الاعتداءُ من الأحكام إثر بيانِ ما يلحقه من العذاب والتصريح بالنهي في قوله تعالى
﴿لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ مع كونه معلوماً لا سيما من قوله تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبُه عليه واللام في الصيد للعهد حسبما سلف وحُرُم جمع حَرام وهو المُحرم وإن كان في الحِل وفي حكمه من في الحَرَم وإن كان حَلالاً كرُدُح جمع رداح والجملة حالٌ من فاعل لا تقتلوا أي لا تقتلوه وأنتم محرمون
﴿وَمَن قَتَلَهُ﴾ أي الصيد المعهود وذِكرُ القتل في الموضعين دون الذبح اللذان بكونه في حكمه الميتة
﴿منكم﴾ متعلق بمحذوفوقع حالاً من فاعل قتله أي كائناً منكم
﴿مُّتَعَمّداً﴾ حال منه أيضا ذاكراً لإحرامه عالماً بحُرمة قتل ما يقتله والتقييدُ بالتعمّد مع أن محظوراتِ الإحرام يستوي فيها العمْدُ والخطأ لِما أنَّ الآيةَ نزلتْ في المتعمِّد كما مرَّ من قصة أبي اليَسَر ولأن الأصل فعلُ المتعمّد والخطأ لاحقٌ به للتغليظ وعن الزُهري نزل الكتاب بالعمد وورد السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط التعمّد في الآية وهو قول داودَ عن مجاهد والحسن أن المراد بالتعمد هو تعمدُ القتل مع نسيان الإحرام أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى الله عزَّ وجلَّ لأنه أعظمُ من أن يكون له كفارة
﴿فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ﴾ برفعهما أي فعليه جزاءٌ مماثلٌ لما قتله وقرىء برفع الأول ونصب الثاني على إعمال المصدر وقرىء بجرِّ الثاني على إضافته إلى مفعوله وقرىء فجزاؤه مثلُ ما قتل على الابتدجاء واخبرية وقرىء بنصبهما على تقدير فليجْزِ جزاءً أو فعليه أن يجزى جزاءً مثلَ ما قتل والمرادُ به عند أبي حنيفة وأي يوسف رضي الله عنهما المثل باعتبار القيمة يوم الصيد حيث صِيدَ أو في أقرب الأماكن إليه فإن بلغَت قيمتُه قيمةَ هدْيٍ يُخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمةَ الصيد فيُهدِيَه إلى الحرم وبين أن يشتريَ بها طعاماً فيُعطيَ كل مسكينٍ نصفُ صاعٍ منْ بر أو صاعامن غيره وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فإن فضل مالا يبلغُ طعامَ مسكين تصدّق به أو صام عنه يوماً كاملاً إذ لم يُعهد في الشرع صومُ ما دونه فيكون قوله تعالى
﴿مِنَ النعم﴾ بياناً للهدْي المشترى بالقيمة على أحد وجوه اتخيير فإنَّ من فعل ذلك يصدق علبيه أنه جزىء بمثل ما قتل من النعم وعند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى ومن يرى رأيهما هو المِثْلُ باعتبار الخِلْقة والهيئة لأن الله تعالى أوجب مثلَ المقتول مقيداً بالنعم فمن اعتبر
79
المائدة آية ٩٥
المِثْل بالقيمة فقد خالف النص وعن الصحابةِ رضيَ الله عنُهم أنهم أوجبوا في النَّعامة بدنةً وفي الظبْيِ شاةً وفي حمار الوَحش بقرَةً وفي الأرنب عَناقاً وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه قال الضبُع صيدٌ وفيه شاةٌ إذا قتله محرم ولنا أن النصَّ أوجبَ المثْل والمِثْلُ المطلق في الكتاب والسنة وإجماعِ الأمة والمعقولِ يُراد به إما المثلُ صورةً ومعنى وإما المثلُ صورةً بلا معنى فلا اعتبارَ له في الشرع أصلاً وإذا لم يمكن إرادةُ الأول إجماعاً تعيّنت إرادةُ الثاني لكونه معهودا في الشرح كما في حقوق العباد ألا يرى أن المماثلة بين أفراد نوعٍ واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبْرها الشرع ولم يجعل الحيوانَ عند الإتلاف مضموناً بفردٍ آخَرَ من نوعه مماثلٍ له في عامة الأوصاف بل مضموناً بقيمتِه مع أن المنصوص عليه في أمثاله إنما هو المثل قال تعالى فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ فحيث لم تُعتبرْ تلك المماثلةُ القويةُ مع تيسُّر معرفتها وسهولة مراعاتها فلئلا تُعتبرُ ما بين أفراد أنواع مختلفةٍ من المماثلة الضعيفة الخفيةِ مع صعوبة مأخذِها وتعسُّرِ المحافظة عليها أولى وأحرى ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظيرَ له إجماعاً فلم يبق غيرُه مراداً إذْ لا عمومَ للمشترَك في مواقع الإثبات والمراد بالمرويِّ إيجابُ النظير باعتبار القيمة لا باعتنبار العيب ثم الموجبُ الأصليُّ للجناية والجزاءِ المماثلِ للمقتول إنما هو قيمتُه لكن لا باعتبار أن يعنمد الجاني إليها فيصرِفَها إلى المصارف ابتداءً بل باعتبار أن يجعلَها معياراً فيقدِّرَ بها إحدى الخصال الثلاث فيُقِيمَها مُقامها فقوله تعالى مّثْلُ مَا قَتَلَ وصفٌ لازم للجزاء غيرُ مفارِقٍ عنه بحال وأما قوله تعالى مِنَ النعم فوصفٌ له معتبرٌ في ثاني الحال بناءً على وصفه الأول والذي هو المعيارُ له ولِما بعده من الطعام والصيام فحقُّهما أن يُعطفا على الوصف المفارِق لا على الوصف اللازم فضلاً عن العطف على الموصوف كما سيأتي بإذن الله تعالى ومما يرشدك إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل
﴿يَحْكُمُ بِهِ﴾ أي بمثل ما قتل
﴿ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ﴾ أي حكَمان عادلان من المسلمين لكنْ لا لأن التقويمَ هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العُدول دون الأشياء المشاهدةَ التي يستوي في معرفتها كلُّ أحد من الناس فإن ذلك ناشىء من الغفلةِ عما أرادوا بما به المماثلة بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النَّعم من ضربِ مشاكَلةٍ ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التبايُن بينهما في بقية الأحوال مما لا يَهتدي إليه من أساطينِ أئمة االاجتهاد وصناديدِ أهل الهداية والإرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية ألا يُرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل الحمامة شاةً بناء على ما أثبتَ بينهما من المماثلة من حيث إن كلا منهما يعُبّ ويهدِر مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضّبّ والنون فكيف يُفوَّضُ معرفةُ أمثالِ هذه الدقائق العويصة إلى رأي عجلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عُيِّن بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوعٌ من أنواع النعم يتم الحُكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجةٌ إلى حكمٍ أصلاً وقرىء يحكم به ذو عدل على إرادة جنس العادل دون الوَحْدة وقيل بل على إرادة الإمام والجملة صفة لجزاءٌ أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصفة وقوله تعالى
﴿هَدْياً﴾ حالٌ مقدرة من الضمير في به أو من جزاء لما ذكر من تخصصه بالصفة أو بدلٌ من مثل فيمن نصبه أو مِنْ محله فيمن جرَّه أو نصبٌ على المصدر أي يهديه هدياً والجملة صفة أخرى لجزاء
﴿بالغ الكعبة﴾ صفةٌ لهدياً لأن الإضافة غير حقيقية
﴿أَوْ كَفَّارَةٌ﴾ عطف على محل من النعم على أنه خبر
80
المائدة آية ٩٦
مبتدأ محذوف والجملةُ صفة ثانية لجزاء كما أشير إليه وقوله تعالى
﴿طَعَامُ مساكين﴾ عطفُ بيانٍ لكفارةٌ عند من لا يخصصه بالمعارف أو بدلٌ منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين وقوله تعالى
﴿أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً﴾ عطف على طعام الخ كأنه قيل فعليه جزاءٌ مماثلٌ للمقتول هو من النَّعم أو طعامُ مساكينَ أو صيامُ ايام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفاً لازماً للجزاء يقدَّر به الهدْي والطعام والصيام أما الأولان فبلا واسطة وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلاًّ منها بدلاً من الآخرَيْن هذا وقد قيلَ إنَّ قوله تعالى أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على جزاء فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدَّر به الطعام والصيام والإلتجاء إلى إلى القيامس على الهدْي تعسفٌ لا يخفى هذا على قراءة جزاء بالرفع وعلى سائر القراءات فقوله تعالى أَوْ كَفَّارَةٌ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ معطوفة على جملة هو من النعم وقرىء أو كفارةُ طعامِ مساكين بالإضافة لتبيين نوع الكفارة وقرىء طعامُ مِسْكين على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرىء أو عِدْل بكسر العين والفرق بينهما أن عَدلَ الشيء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعِدْلَه ما عُدِل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام وصياما تمييز للعَدْل والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وللحَكَمين عند محمد رحمه الله
﴿لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ متعلق بالاستقرارِ في الجارِّ والمجرور أي فعليه جزاءٌ ليذوق الخ وقيل بفعل يدل عليه الكلامُ كأنَّه قيل شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أي سوءَ عاقبةِ هَتْكه لحُرمة الإحرامِ والوبال في الأصل المكروهُ والضررُ الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثِقَله ومنه قوله تعالى فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً ومنه الطعام الوبيلُ وهو الذي لا تستمرِئُه المَعِدة
﴿عَفَا الله عَمَّا سَلَف﴾ من قتل الصيد مُحرِماً قبل أن يسألوا رسول الله ﷺ وقيل عما سلف منه في الجاهلية لأنهم كانوا متعبَّدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرّماً
﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم
﴿فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه فهو ينتقم الله منه ولذلك دخلت الفاء كقوله تعالى فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً أي فذلك لا يخاف الخ وقوله تعالى وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ أي فأنا أمتعه والمراد بالانتقام التعذيبُ في الآخرة وأما الكفارة فعن عطاءٍ وإبراهيمَ وسعيدِ بن جبير والحسن أنها واجبة على العائد وعن ابن عباس رضي الله عنهما وشُريح أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر
﴿والله عَزِيزٌ﴾ غالب لا يُغالَب
﴿ذُو انتقام﴾ شديد فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء
81
﴿أُحِلَّ لَكُمُ﴾ الخطاب للمُحْرمين
﴿صَيْدُ البحر﴾ أي ما يصاد في المياه كلها بحراً كان أو نهراً أو غديراً وهو ما لا يعيش إلا في الماء مأكولاً أو غير مأكول
﴿وَطَعَامُهُ﴾ أي وما يُطْعَم من صيده وهو تخصيص بعد تعميم والمعنى أحل لكم التعرّضُ لجميع ما يصاد في المياه والانتفاعُ به وأكلُ ما يؤكل منه وهو السمك عندنا وعند ابن أبي ليلى جميعُ ما يصاد فيه على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيدُ حيوانِ البحر وأن تطعموه وقرىء
81
المائدة آية ٩٧
وطُعْمه وقيل صيدُ البحر ما صيد فيه وطعامُه ما قذمه أو نَضَب عنه
﴿متاعا لَّكُمْ﴾ نُصِب على أنَّه مفعولٌ له مختص بالطعام كما أن نافلة في قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إسحق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً حالٌ مختصة بيعقوبَ عليه السلام أي أحل لكم طعامه تمتيعاً للمقيمين منكم يأكلونه طرياً
﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ منكم يتزودونه قَديداً وقيل نسب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لفعل مقدر أي متّعكم به متاعاً وقيل مؤكد لمعنى أُحل لكم فإنه في قوة متّعكم به تمتيعاً كقوله تعالى كتاب الله عَلَيْكُمْ
﴿وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر﴾ وقرىء على بناء الفعلِ للفاعل ونسب صيدَ البر وهو ما يُفْرِخُ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كطير الماء
﴿مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ أي محرمين وقرىء بكسر الدال من دامَ يدامُ وظاهرُه يوجب حرمة ما صاده الحَلالُ على المُحرم وإن لم يكن له مَدْخلٌ فيه وهو قول عمر وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم وعن أبي هريرة وعطاءٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير رَضِيَ الله عنهُم أنَّهُ يحلُّ له أكلُ ماصاده الحلالُ وإن صاده لأجله إذا لم يُشِرْ إليه ولم يُدلَّ عليه وكذا ما ذبحه قبل إحرامِه وهو مذهبُ أبي حنيفةَ لأن الخِطاب للمحرمين فكأنه قيل وحرم عليكم ما صِدتُّم في البر فيَخرُج منه مَصيدُ غيرهم وعند مالك والشافعي وأحمد لا يباح ما صِيدَ له
﴿واتقوا الله﴾ فيما نهاكُم عنْهُ أو في جميع المعاصي التي من جُمْلتِها ذلكَ
﴿الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ لا إلى غيره حتى يُتَوهَّمَ الخلاصُ من أخذه تعالى بالالتجاء إليه
82
﴿جَعَلَ الله الكعبة﴾ قال مجاهد سميت كعبها لكونها مُكَعبّةً مُربَّعة وقيل لانفرادها من البناء وقيل لارتفاعها من الأرض ونتوئها وقوله تعالى
﴿البيت الحرام﴾ عطفُ بيانٍ على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء الصفة وقيل مفعولٌ ثانٍ لجعل وقوله تعالى
﴿قِيَاماً لّلنَّاسِ﴾ نُصبَ على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما سيجيء بل هذا هو المفعول الثاني وقيل الجعلُ بمعنى الإنشاءِ والخلق وهو حال كما مر ومعنى كونه قياماً لهم أنه مدارٌ لقيام أمر دينهم ودنياهم إذ هو سببٌ لانتعاشهم في أمور معاشِهم ومَعادِهم يلوذ به الخائفُ ويأمَن فيه الضعيف ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعُمّار وقرىء قِيَماً على أنه مصدر على وزن شِبَع أُعلَّ عينه بما أُعلَّ في فعله
﴿والشهر الحرام﴾ أي الذي يؤدى فيه الحجُ وهو ذو الحجة وقيل جنس الشهر الحرام وهو وما بعده عطف على الكعبة فالمفعول الثاني محذوف ثقةً بما مر أي وجعل الشهر الحرام
﴿والهدى والقلائد﴾ أيضاً قياماً لهم والمرادُ بالقلائد ذواتُ القلائد وهي البُدْنُ خُصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر وبهاءَ الحجَّ بها أظهر
﴿ذلك﴾ إشارة إلى الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره ومحلُّه النصبُ بفعل مقدر يدل عليه السياق وهو العامل في اللام بعده أي شرَعَ ذلك
﴿لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السماوات وَمَا فِي الارض﴾ فإن تشريع هذه الشرائعِ المستَتْبِعةِ لدفع المضارِّ الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلبِ المنافع الأولوية والأخروية من أوضحِ الدلائلِ على حكمة الشارع وعدمِ خروجِ شيء عن علمه المحيط وقوله تعالى
﴿وَأَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ﴾
82
المائدة آية ٩٨ ١٠٠
تعمبيم إثْرَ تخصيصٍ للتأكيد ويجوز أن يراد بما قي السموات والأرض الأعيانُ الموجودة فيهما وبكل شيء الأمورُ المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قَبيل المعاني
83
﴿اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ وعيد لمن انتهك محارِمَه أو أصر على ذلك وقوله تعالى ﴿وَأَنَّ الله غفور رحيم﴾ وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو أقلع عن الانتهاك بعد تعاطيه ووجهُ تقديمِ الوعيد ظاهر
﴿مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ﴾ تشديد في إيجاب القيام بما أَمَرَ به أي الرسول قد أتى بما وجب عليه من التَّبليغِ بما لا مزيدَ عليهِ وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد في التفريط ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ فيؤاخذكم بذلك نقيرا أو قطميرا
﴿قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب﴾ حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وبين جيِّدها قَصَد به الترغيب في جيِّد كل منها والتحذيرَ عن رديئها وإن كان سببَ النزول شريحُ بن ضبة البكريُّ الذي مرت قصته في تفسيرِ قولِه تعالى يأيها الذين آمنوا لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله الخ وقيل نزل في رجل سأل رسول الله ﷺ إن الخمر كانت تجارتي وإني اعتقدت من بيعها مالاً فهل ينفعني من ذلك المال إن عمِلت فيه بطاعة الله تعالى فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدِلْ جَناحَ بعوضة إن الله لا يقبل إلا الطيب وقال عطاءٌ والحسن رضي الله عنهما الخبيث والطيب الحرامُ والحلال وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أولِ الأمرِ بأنَّ القصورَ الذي ينبىءُ عنه عدم الاسواء فيه لا في مقابِلِه فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئينِ المتفاوتينِ زيادةً ونقصاناً وإن جازَ اعتبارُهُ بحسبِ زيادةُ الزائدِ لكنْ المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر كما في قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير إلى غير ذلك وأما قولُهُ تعالى هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ فلعلَّ تقديمَ الفاضلِ فيه لما أن صلَتَهُ ملكةٌ لصلةِ المفضولِ
﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث﴾ أي وإن أسرك كثرته والخطاب لكل واحد من الذين أُمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بخطابهم والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدَّر وقيل للحال وقد مر أي لو لم تُعجِبْك كثرة الخبيث ولو أعجبتك وكلتاهما في موقع الحالِ من فاعل لا يستوي أي لا يستويان كائنين على كل حالٍ مفروض كما في قولك أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك أي أحسِنْ إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء إليك أي كائناً على كلِّ حال مفروض وقد حُذفت الأولى حذفا مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دِلالةً واضحةً فإن الشيء إذا تحقق مع المعارِض فلأن يتحقق بدونه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في لو وإن الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه وسيأتي تمام
83
المائدة آية ١٠١
تحقيقه في مواقعَ عديدةٍ بإذنِ الله عزَّ وجلَّ
﴿فاتقوا الله يا أُوْلِى الالباب﴾ أي في تحرِّي الخبيث وإن كثر وآثِروا عليه الطيِّب وإن قلّ فإن مدارَ الاعتبار هو الجُودة والرداءةُ لا الكثرةُ والقِلة فالمحمودُ القليلُ خيرٌ من المذموم الكثير بل كلما كثر الخبيثُ كان أخبثَ
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ راجين أن تنالوا الفلاح
84
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تسألوا عن أشياء﴾ هو اسمُ جمعٍ على رأي الخليل وسيبويه وجمهور البصريين كطرفاء وقصباء أصله شيآه بهمزتين بينهما ألف فقُلبت الكلمة بتقديم لامها على فائها فصار وزنها لفعاء ومُنعت الصرفَ لألف التأنيث الممدودة وقيل هو جمع شيْء على أنه مخفف من شيء كهَيْنٍ مخففٌ من هيِّن والأصل أشيئاه كأهوناء بزنة أفعِلاء فاجتمعت همزتان لام الكلمة والتي للتأنيث إذ الألف كالهمزة فخففت الكلمة بأن قلبت الهمزة الأولى ياءً لانكسار ما قبلها فصارت أشيياء فاجتمعت ياءان أولاهما عين الكلمة فحذفت تخفيفا فصارت أشياء وزنها أفلاء ومُنعت الصرفَ لألف التأنيث وقيل إنما حذفت من أشيِياءَ الياءُ المنقلبةُ من الهمزة التي هي لام الكلمة وفتحت الياء المقصورة لتسلم ألف الجمع فوزنها أفعاء وقوله تعالى
﴿إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ صفةٌ لأشياء داعيةٌ إلى الانتهاء عن السؤال نها وحيث كانت المَساءةُ في هذه الشرطية معلقةً بإبدائها لا بالسؤال عنها عُقّبت بشرطية أخرى ناطقةٍ باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجِبِ للمحظور قطعاً فقيل
﴿وإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ ينزلُ القُرْآن تُبْدَ لَكُم﴾ أي تلك الأشياء الموجِبة للمَساءة بالوحي كما ينبىء عنه تقييدُ السؤال بحينِ التنزيل والمراد بها ما يشُق عليهم ويغمُهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقون بها والأسرارِ الخفية التي يفتضحون بها بظهورها ونحوُ ذلكَ مما لا خيرَ فيه فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستَتْبِعٌ لإبدائها كذلك السؤالُ عن تلك التكاليف مستتبعٌ لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب واجترائِهم على المسألة والمراجعة وتجاوزِهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمرِ الله عزَّ وجلَّ من غير بحث فيه ولا تعرّضٍ لكيفيته وكمِّيته أي لا تُكثروا مُساءلةَ رسول الله ﷺ عما لا يَعْنيكم من نحو تكاليف شاقة وعليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أُوحيَ إليه ولم تطيقوا بها نحو بعضِ أمورٍ مستورة تكرهون بروزها وذلك ما رُوي عن عليَ رضيَ الله عنه أنَّه قال خطبنا رسول الله ﷺ فحمِد الله تعالى وأثنى عليه ثمَّ قالَ إنَّ الله تعالى كتَب عليكم الحجَّ فقام رجل من بني أسدٍ يقال لهُ عكاشة ابن محسن وقيل هو سُراقة بنُ مالك فقال أفي كل عامٍ يا رسول الله فأعرضَ عنه حتى أعاد مسألتَه ثلاثَ مرات فقال رسول الله ﷺ ويحك وما يُؤْمِنُك أن اقول نعم لوجبت ولو وجبتْ ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاترُكوني ما تركتكم فإنما هلَك من كان قبلَكم بكثرة سؤالِهم واختلافِهم على أنبيائهم فإذا أمرتُكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه ومِثلُ ما رُوي عن أنسٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه سأل الناسُ رسول الله ﷺ عن أشياءَ حتى أحفَوْه في المسألة فقام ﷺ مغضبا خطيبا
84
المائدة آية ١٠١
فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وقال سلوني فوالله ما تسألوني عن شيءٍ ما دُمْت في مقامي هذا إلا بيّنتُه لكم فأشفق اصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أن يكون بين يَدَيْ أمرٍ قد حضَر قال أنسٌ رضيَ الله عنه فجعلتُ ألتفتُ يميناً وشِمالاً فلا أجدُ رجلاً إلا وهو لافٌّ رأسَه في ثوبه يبكي فقام رجل من قريشٍ من بني سَهْمٍ يقال له عبدُ اللَّه بنُ حُذافة وكان إذا لاحى الرجال يدعى إلى غير أبيه وقال يا نبيَّ الله مَنْ أبي فقال ﷺ أبوك حذافةُ بنُ قيسٍ الزهري وقام آخرُ وقال أين أبي قال ﷺ في النار ثم قام عمر رضي الله عنه فقال رضِينا بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً نبياً نعوذ بالله تعالى من الفتن إنا حديثو عهدٍ بجاهلية وشِرْكٍ فاعفُ عنا يا رسول الله فسكن غضبه ﷺ
﴿عَفَا الله عَنْهَا﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتِهم عن المَساءة بل لأنها في نفسها معصيةٌ مستتبِعةٌ للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه مِنْ حثّهم على الجِدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى وضميرُ عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا أي عفا الله تعالى عن مسائلِكم السالفةِ حيث لم يفرِضْ عليكم الحج في كل عام جزاءً بمسألتكم وتجاوَزَ عن عقوبتكم الأخروية بسائر مسائلكم فلا تعودوا إلى مثلها وأما جعلُه صفةً أخرى لأشياء على أن الضمير لها بمعنى لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلّفْكم إياها فمما لا سبيلَ إليه اصلا لاقتدائه أن يكون الحجُّ قد فُرض أولاً في كل عام ثم نسخ بطرق العفو وأن يكون ذلك معلوماً للمخاطَبين ضرورةَ أن حقَّ الوصف أن يكونَ معلومَ الثُبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعلِه وصفاً له وكلاهما ضروريُّ الانتفاء قطعاً على أنه يستدعي اختصاصَ النهْي بمسألة الحجِّ ونحوِها إن سلِمَ وقوعُها مع أن النظم الكريمَ صريحٌ في أنه مَسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي التي يسوؤُهم إبداؤُها سواءٌ كانت من قبيل الأحكام والتكاليفِ الموجبة لِمَساءتهم بإنشائها وإيحابها بسبب السؤال عقوبة وتجديدا كمسألة الحج لولا عفوُه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعةِ قبل السؤال الموجبةِ للمساءة بالإخبار بها كمسألة مَنْ قال أين أبي إن قلتَ تلك الأشياءُ غير مُوجبةٍ للمَساءة البتةَ بل هي محتمِلةٌ لإيجاب المَسرَّة أيضاً لأن إيجابَها للأولى إن كانت من حيث وجودُها فهي من حيث عدمُها موجبةٌ للأخرى قطعاً وليست إحدى الحيثيتَيْن محقّقةً عند السائل وإنما غَرَضُه من السؤال ظهورُها كيف كانت بل ظهورُها بحيثية إيجابها للمسرة فلم يعبر عنها بحيثية إيجابها للمَساءة قلتُ لتحقيق المنهيِّ عنه كما ستعرِفه مع ما فيه من تأكيد النهْي وتشديدِه لأن تلك الحيثيةَ هي الموجبةُ للانتهاء والانزجار لا حيثيةُ إيجابِها للمسرة ولا حيثيةُ تردّدِها بين الإيجابين إن قيل الشرطية الثانية ناطقةٌ بأن السؤالَ عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزمٌ لإبدائها البتةَ كما مر فلا تخلَّفَ الإبداءُ عن السؤال في مسئلة الحج حيث لم يُفرَضْ في كل عام قلنا لوقوع السؤال قبل ورودِ النهي وما ذُكر في الشرطية إنما هو السؤال الواقعُ بعد وروده إذ هو الموجبُ للتغليظ والتشديد ولا تخلُّفَ فيه إن قيل ما ذكرتَه إنما يتمشى فيم إذا كان السؤالُ عن الأمور المترددةِ بين الوقوع وعدمِه كما ذُكرَ من التكاليف الشاقةِ وأما إذا كان عن الأمور الواقعةِ قبله فلا يكادُ يتسنّى لأن ما يتعلق به الإبداءُ هو الذي وقع في نفس الأمرِ ولا مرد له سواء كان السؤالُ قبل النهي أو بعده وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسئلة عبد الله بن حذافة فيكون هو الذي يتعلق به الإبداء لا غيره فيتعين للتخلف حتماً قلنا لا احتمالَ للتخلف فضلاً عن التعيُّن فإن المنهيَّ عنه في الحقيقة إنما هو السؤالُ عن الأشياء الموجبة
85
المائدة ١٠٢ ١٠٣
للمَساءة الواقعةِ في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال أين أبي لا عما يعمها وغيرهما مما ليس بواقع لكنه محتمِلٌ للوقوع عند المكلفين حتى يلزمَ التخلّفُ في صورةِ عدم الوقوع وجملة الكلام أن مدلول النظمُ الكريم بطريق العبارة إنما هو النهيُ عن السؤال عن الأشياء التي يوجبُ إبداؤها المساءة البتنة إما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداً كما في صورة كونِها من قبيل التكاليف الشافة وإما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداكما في صورة كونِها من قبيل التكاليف الشافة وإما بأن تكون واقعةً في نفس الأمر قبل السؤال فتُبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلفُ ممتنِعٌ في الصورتين معاً ومنشأ توهّمِه عدمُ الفرق بين المنهي عنه وبين غيرِه بناءً على عدم امتياز ما هو موجودٌ أو بعَرَضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم وفائدةُ هذا الإبهام الانتهاءُ عن السؤال عن تلك الأشياء على الإطلاق حِذارَ إبداء المكروه
﴿والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لعفوه تعالى أي مبالغٌ في مغفرة الذنوب والإغضاءِ عن المعاصي ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخِذْكم بعقوبة ما فَرَط منكم
86
﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ﴾ أي سألوا هذه المسألةَ لكنْ لا عينَها بل مثلَها في كونها محظورةً ومستتْبِعة للوبال وعدمُ التصريح بالمثل للمبالغة في التَّحذيرِ ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ متعلق بسألها ﴿ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا﴾ أي بسببها أو بمرجوعها ﴿كافرين﴾ فإن بني إسرائيلَ كانوا يستفتون أنبياءَهم في أشياءَ فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا
﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾ ردٌّ وإبطال لما ابتدعه أهلُ الجاهلية حيث كانوا إذا نُتِجَت الناقةُ خمسةَ أبطنٍ آخرُها ذكرٌ بَحروا أُذنها أي شقُّوها وحرَّموا ركوبها ودَرَّها ولا تُطرد عن ماءٍ ولا عن مرعى وكان يقول الرجل إذا قدِمْت من سفري أو برِئْتُ من مرضي فناقتي سائبةٌ وجعلَها كالبَحيرة في تحريم الانتفاعِ بها وقيل كان الرجل إذا أعتق عبداً قال هو سائبة فلا عقْلَ بينهما ولا ميراث وإذا ولَدت الشاةُ أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصَلَتْ أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وإذا نُتجت من صُلب الفحل عشَرةَ أبطُنٍ قالوا قد حمَى ظهرَه فلا يُركب ولا يُحمل عليه ولا يُمنع من ماء ولا مرعى ومعنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عُدِّيَ إلى مفعول واحد هو بَحيرة وما عطف عليها ومن مزيد لتأكيد النفي فإن الجعلَ التكوينيَّ كما يجيء تارة متعدياً إلى مفعولين وأخرى إلى واحدٍ كذلك الجعلُ التشريعيُّ يجيء مرة متعدياً إلى مفعولينِ كما في قوله تعالى جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ وأخرى إلى واحد كَما في الآيةِ الكريمةِ
﴿ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب﴾ حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون الله أمرنا بهذا وإمامُهم عمْروُ بنُ لُحَيَ فإنه أولُ مَنْ فعلَ هذهِ الأفاعيلَ الباطلة هذا شأن رؤسائهم وكُبرَائهم
﴿وَأَكْثَرُهُمُ﴾ وهم أراذلُهم الذين يتبعونهم من
86
المائدة آية ١٠٤ ١٠٥
معاصري رسول الله ﷺ كما يشهد به سياقُ النظم الكريم
﴿لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أنه افتراء باطلٌ حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فيبقَوْن في أسر التقليد وهذا بيان لقصور عقولِهم وعجزِهم عن الاهتداء بأنفسهم وقوله عز وجل
87
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أي للذين عبَّر عنهم بأكثرُهم على سبيل الهداية والإرشاد ﴿تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله﴾ من الكتاب المبين للحلال والحرام ﴿وَإِلَى الرسول﴾ الذي أُنزل هو عليه لتقفوا على حقيقة الحال وتُميِّزوا الحرامَ من الحلال ﴿قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عليه آباءنا﴾ بيان لعنادهم واستعصائهم على الهدى إلى الحق وانقيادِهم للداعي إلى الضلال ﴿أولو كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شيئا ولا يهتدون﴾ قيل الواو للحال دخلت عليها الهمزة للإنكار والتعجيب أي أحَسْبُهم ذلك ولو كان آباؤهم جَهَلةً ضالين وقيل للعطف على شرطية أخرى مقدّرة قبلها وهو الأظهر والتقدير أحَسْبهم ذلك أو أيقولون هذا القولَ لو لم يكن آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا لا يعلمون الخ وكلتاهما في موقعِ الحالِ أي أحسْبُهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حالٍ مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفا مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحةً كيف لا وإنَّ الشيءَ إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى كما في قولك أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك أي أحسِنْ إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء أي أحسن إليه كائناً على كلِّ حال مفروض وقد حذفت الأولى لدلالةِ الثانية عليها دَلالة ظاهرةً إذِ الإحسانُ حيث أُمِر به عند المانع فلأَنْ يُؤْمَرَ به عند عدمه أولى وعلى هذا السرِّ يدورُ ما في إنْ ولو الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما سبقَ عليه أي لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يعلمون شيئا ولا يهتدون حسبُهم ذلك أو يقولون ذلك وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا إلى نفس الأمر وفائدتُه المبالغةُ في الإنكار والتعجيب ببيان أن ما قالوه موجبٌ للإنكار والتعجيب إذا كان كونُ آبائهم جَهلةً ضالين في حيز الاحتمال البعيد فكيف إذا كان ذلك واقعاً لا ريبَ فيه وقيل مآلُ الوجهين واحدٌ لأن الجملة المقدرة حالٌ فكذا ما عُطف عليها وأنت خبيرٌ بأن الحالَ على الوجه الأخير مجموعُ الجملتين لا الأخيرةُ فقط وأن الواو للعطف لا للحال وقد مر التحقيق في قوله تعالى أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ فتدبر
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي الزموا أمرَ أنفسِكم وإصلاحِها وقُرِىءَ بالرفعِ على الابتداءِ أي واجبة عليكم أنفسُكم وقوله عز وجل
﴿لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم﴾ إما مجزومٌ على أنه جوابٌ للأمر أو نهْيٌ مؤكِّد له وإنما ضُمَّتِ الراء إتباعاً لضمِّه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة إذِ الأصلُ لا يضْرُرْكم ويؤيده القراءةُ بفتح الراء وقراءةُ مَنْ قرأ لا يضِرْكم بكسر الضاد وضمها من ضار يضيره ويضوره وإما مرفوع على أنه كلام
87
المائدة آية ١٠٦
مستأنفٌ في موقع التعليل لما قبله ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ لا يضيرُكم أي لا يضركم ضلالُ مَنْ ضل إذا كنتم مهتدين ولا يُتوهَّمَنَّ أن فيه رخصةً في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما كيف لا ومن جملة الاهتداء أن يُنكَر على المنكَر حسْبما تفي به الطاقة قال ﷺ من رأي منكم منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيْره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطِعْ فبقلبه وقد روي أن الصديقَ رضي الله تعالى عنه قال يوماً على المنبر يأيها الناس إنكم تقرأون هذه الآيةَ وتضعونها غيرَ موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعتُ رسول الله ﷺ إن الناس إذا رأو منكراً فلم يغيِّروه عمهم الله بعقاب فأمُروا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر ولا تغتروا بقولِ الله عزَّ وجلَّ يأيها الذين آمنوا الخ فيقول أحدكم عليَّ نفسي والله لتأمُرنّ بالمعروف وتنهَوُنّ عن المنكر أو ليستعلمن الله عليكم شرارَكم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعُوَنَّ خيارُكم فلا يستجابُ لهم وعنه ﷺ ما من قوم عُمل فيهم منكرٌ أو سُن فيهم قبيحٌ فلم يغيِّروه ولم ينكروه إلا وحقٌّ على الله تعالَى أنْ يعُمَّهم بالعقوبة جميعاً ثم لا يستجابُ لهم والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسَّرون على الكفرة وكانوا يتمنون إيمانهم وهم من الضلال بحيث لا يكادون يرعَوون عنه بالأمر والنهي وقيل كان الرجل إذا أسلم لاموُه وقالوا له سفّهتَ آباءك وضلّلتهم أي نسبتهم إلى السَّفاهة والضلال فنزلت تسليةً له بأن ضلال آبائه لا يضرُّه ولا يَشينُه
﴿إِلَى الله﴾ لا إلى أحدٍ سواه
﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ رجوعُكم يوم القيامة
﴿جَمِيعاً﴾ بحيث لا يتخلفَ عنه أحدٌ من المهتدين وغيرِهم فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
﴿في الدنيا﴾ من أعمال الهداية والضلال فهو وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخَذُ بعمل غيره
88
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ استئناف مَسوقٌ لبيان الأحكامِ المتعلقة بأمور دنياهم إثرَ بيانِ الأحوال المتعلقةِ بأمور دينهم وتصديره بحر في النداءِ والتنبيه لإظهار كمالِ العناية بمضمونه وقوله عز وجل
﴿شهادة بَيْنِكُمْ﴾ بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعاً إما باعتبار جَرَيانِها بينهم أو باعتبار تعلّقِها بما يجري بينهم من الخصومات مبتدأ وقوله تعالى
﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ أي شارفه وظهرت علائمُه ظرفٌ لها وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت ورودِه عليها فإنه أدخلُ في تهوين أمر الموت وقولُه تعالى
﴿حِينَ الوصية﴾ بدلٌ منه لا ظرف للموت كما تُوُهِّم ولا لحضوره كما قيل فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المَهَمّات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهَلَ عنها وقوله تعالى
﴿اثنان﴾ خبرٌ للمبتدأ بتقدير المضاف أي شهادةُ بينكم حينئذ شهادةُ اثنين أو فاعلُ شهادةُ بينكم على أن خبرها محذوف أي فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان وقرىء شهادةٌ بالرفع والتنوين والإعرابُ كما سبق وقرىء شهادة بالنصب
88
المائدة آية ١٠٦
والتنوين على أن عاملها مضمر هو العامل في اثنان أيضاً أي ليُقِمْ شهادةً بينكم اثنان
﴿ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ﴾ أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحرِّي ما هو أصلح له وقيل من المسلمين وهما صفتان لاثنان
﴿أَوْ آخَرَان﴾ عطف على اثنان تابع له فيما ذُكر من الخبرية والفاعلية أي أو شهادةُ آخَرَيْن أو أن يشهد بينكم آخران أو ليقم شهادةً بينكم آخران وقوله تعالى
﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ صفةٌ لآخَران أي كائنان من غيركم أي من الأجانب وقيل من أهل الذمة وقد كان ذلك في بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما في السفر ثم نسخ وعن مكحول أنه نسخها قوله تعالى وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ
﴿إِنْ أَنتُمْ﴾ مرفوعٌ بمُضْمرٍ يفسرُه ما بعده تقديره إن ضربتم فلما حُذف الفعل انفصل الضمير وهذا رأيُ جمهور البَصْريين وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأٌ بناءً على جواز وقوعِ المبتدأ بعد إنْ الشرطية كجواز وقوعِه بعد إذا فقوله تعالى
﴿ضَرَبْتُمْ فِى الارض﴾ أي سافرتم فيها لا محلَّ له من الإعراب عند الأولين لكونه مفسِّراً ومرفوع على الخبرية عند الباقين وقوله تعالى فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت عطفٌ على الشرطية وجوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه أي إن سافرتم فقاربَكم الأجلُ حينئذ وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام مَنْ يتولى أمرَ الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار فليشهد آخرانِ أو فاستشهدوا آخَرَيْن أو فالشاهدانِ آخرانِ كذا قيل والأنسب أن يقدر عين ماسبق أي فآخرانِ على معنى شهادةُ بينِكم شهادةُ آخَرَيْن أو فأَنْ يشهَدَ آخران على الوجوه المذكورة ثمَةَ وقوله تعالى
﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ استئنافٌ وقعَ جوابا عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل فكيف نصنع إنِ ارْتبْنا بالشاهدين فقيل تحبِسونهما أي تقفونهما وتصبرونهما للتحليف
﴿من بعد الصلاة﴾ وقيل هو صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف اعتراضٌ فائدته الدلالة على أن اللائق إشهادُ الأقارب أو أهلِ الإسلام وأما إشهادُ الآخَرِين فعند الضرورة المُلجئةِ إليه وأنت خبير بأنه يقتضي اختصاصَ الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضاً قطعاً على أن اعتبارَ اتصافهما بذلك يأباه مقامُ الأمر بإشهادهماإذ مآلُه فآخرانِ شأنُهما الحبسُ والتحْليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قَيدِ الارتياب بهما كما يفيده الاعتراضُ الآتي والمرادُ بالصلاة صلاةُ العصر وعدمُ تعيينها لتعيُّنِها عندهم بالتحْليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادُمِ ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار ولأن جميع أهل الأديان يعظّمونه ويجتنبون فيه الحلِفَ الكاذب وقد رُويَ أن النبيَّ ﷺ وقتئذ حلّف من حلف كما سيأتي وقيل بعد أي صلاة كانت لأنها داعيةٌ إلى النطق بالصدق وناهيةٌ عن الكذِب والزور إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفحشاء والمنكر
﴿فيقسمان بالله﴾ عطف على تحبسونهما وقوله تعالى
﴿إِنِ ارتبتم﴾ شرطية محذوفةُ الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه سيقت من جهته تعالى معترِضةً بين القسمَ وجوابِه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب أي إن ارتاب بهما الوارِثُ منكم بخيانةٍ وأخذِ شيءٍ من التركة فاحبِسوهما وحلِّفوهما بالله وقولُه تعالى
﴿لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً﴾ جوابٌ للقسم وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قَسَمٌ وشرط فاكتُفِيَ بذكر جوابِ سابقِهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالباً فإن ذلك إنما يكون عند سدِّ جواب السابق مَسدَّ جوابِ اللاحق لاتحاد مضمونهما كما
89
المائدة ١٠٧
في قولك والله إن أتيتَني لأكرمنك ولا ريب في استحالة ذلك ههنا لأن القسم وجوابه كلاهما وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى والاجتراء هو استبدال السلعة بالثمن أي أخذها بدلا منه لا بذلُه لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزِماً له فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب المعتبر في عقد البيع ثم استُعير لأخذ شيءٍ بإزالة ما عنده عيناً كان أو معنى على وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل كما هو المعتبرُ في المستعار منه حسبما مرَّ تفصيلُه في قولِهِ تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والضمير في به لله والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله أي من رحمته عرضا من الدنيا بأن نهتِكَها ونُزيلَها بالحلف الكاذب أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال وقيل الضمير للقسم فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ البتةَ أي لا نستبدل بصحة القسم بالله أي لا نأخذ لأنفسنا بدلاً منها عرضا من الدنيا بأن نُزيلَ عنه وصفَ الصدق ونصفَه بالكذب أي لا نحلف كاذبين كما ذكر وإلا فلا سِدادَ للمعنى سواءٌ أريد به القسمُ الصادقُ أو الكاذب أما إن أريدَ به الكاذبُ فلأنه يفوِّتُ حينئذ ما هو المعتبرُ في الاستعارة من كون الزائل شيئاً مرغوباً فيه عند الحالف كحُرمة اسمِ الله تعالى ووصفِ الصحة والصدق في القسم ولا ريب في أن القسم الكاذبَ ليس كذلك وأما إن أريد به الصادقُ فلأنه وإن أمكن أن يُتوسَّلَ باستعمالِه إلى عرض الدنيا كالقم الكاذب لكن لا محظور فيه وأما التوسلُ إليه بترك استعماله فلا إمكان له ههنا حتى يصح التبرؤ منه وإنما يُتوسَّلُ إليه باستعمال القسم الكاذب وليس استعمالُه من لوازم ترْكِ استعم الالصادق ضرورةَ جوازِ تركِهما معاً حتى يتصور دجعل ما أخذ بتركِ استعمالِ الصادق كما في صوره تقديرِ المضاف فإن إزالةَ وصْفِ الصدق عن القسم مع بقاء الموصوفِ مستلزِمةٌ لثبوت وصفِ الكذِب له البتة فتأمل وقوله تعالى
﴿وَلَوْ كَانَ﴾ أي المقسَمُ له المدلولُ عليه بفحوى الكلام
﴿ذَا قربى﴾ أي قريباً منا تأكيد لتبرئهم ما لالحف كاذباً ومبالغةٌ في التنزه عنه كأنهما قالا لا نأخذ لأنفسنا بدلا من حُرمة اسمه تعالى مالاً ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانبِ الأقرباء فكيف إذا لم يكنْ كذلك وصيانةُ أنفسِهما وإن كانت أهمَّ من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمةً للمال بل هي راجعة إليه وجواب لو محذوفٌ ثقة بدلالة ما سبق عليه أي لا نشترى به ثمنا والجملة معطوفة على أخرى مثلِها كما فُصِّل في تفسيرِ قولِه تعالى وَلَوْ أعجبك الخ وقوله عز وجل
﴿وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله﴾ أي الشهادة التي أمرَنا الله تعالى بلإقامتها معطوفٌ على لا نشتري به داخلٌ معه في حكم القسم وعن الشعبي أنه وَقَفَ على شهادة ثم ابتدأ آلله بالمد على حذف حرف االقسم وتعويض حرف الاستفهام منه وبغير مد كقولهم الله لأفعلن
﴿إنا إذا لمن الاثمين﴾ أي إن كتمناها وقرىء لملائمين بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وإدخال النون فيها
90
﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ أي اطُّلع بعد التحليف
﴿على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً﴾ حسبما اعترفا به بقولهما إنا إذاً لمن الآثمين أي فعلا ما يوجبُ إثماً من تحريف وطكتم بأن ظهر
90
المائدة آية ١٠٧
بأيديهما شيءٌ من التركة وادَّعيا استحقاقَهما له بوجهٍ من الوجوه كما وقع في سبب النزول حسبما سيأتي
﴿فَآخَرَانِ﴾ أي رجلان آخران وهو مبتدأ خبرُه
﴿يقومان مقامهما﴾ ولا محظور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وبين وَصفِه الذي هو الجارُّ والمجرور بعده أي يقومان مَقام اللذين عُثر على خيانتهما وليس المراد بمقامهما مقامَ أداءِ الشهادة التي تولَّياها ولم يؤدِّياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لإظهار الحق وإبراز كذِبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما
﴿مِنَ الذين استحق﴾ على البناء للفاعل على قراءة عليَ وابنِ عباس وأُبيَ رضي الله عنهم أي من أهل الميت الذين استحق
﴿عَلَيْهِمُ الاوليان﴾ من بينهم أي الأقربانِ إلى الميت الوارثانِ له الأحقانِ بالشهادة أي باليمين كما ستعرفه ومفعولُ استحق محذوفٌ أي استحقا عليهم أن يجرِّدوهما للقيام بها لأنها حقُّهما ويُظهروا بهما كذِبَ الكاذبَيْن وهما في الحقيقة الآخرانِ القائمان مَقام الأوَّلَيْن على وُضع المُظْهر مقامَ المُضْمَر وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ وهو الأظهر أي من الذين استُحق عليهم الإثمُ أي جُنيَ عليهم وهم أهلُ الميت وعشيرتُه فالأَوْليان مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف كأنه قيل ومن هما فقيل الأوليان أو هو بدلٌ من الضمير في يقومان أو من آخران وقد جوِّز ارتفاعَه باستَحق على حذفِ المضافِ أي استحقّ عليهم انتدابُ الأوَّلَيْن منهم للشهادة وقرىء الأولِّين على أنهم صفة للذين الخ مجرور أو منصوبٌ على المدحِ ومعنى الأولية التقدمُ على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها وقرىء الأوليين على التثنية وانتصابُه على المدح وقرىء الأولان
﴿فَيُقْسِمَانِ بالله﴾ عطف على يقومان
﴿لشهادتنا﴾ المرادُ بالشهادة اليمينُ كما في قوله تعالى فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله أي لَيَمينُنا على أنهما كاذبان فيما ادَّعيا من الاستحقاق مع كونِها حقةً صادقةً في نفسها
﴿أَحَقُّ﴾ بالقبول
﴿مِن شهادتهما﴾ أي من يمينهما مع كونها كاذبةً في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقُهما للإثم ويمينُنا منزهةٌ عن الرَّيْب والرِّيبة فصيغةُ التفضيلِ مع أنَّه لا حقيةَ في يمينهما رأساً إنما هي لإمكان قَبولِها في الجُملة باعتبار احتمالِ صدقِهما في ادعاء تملُّكِهما لما ظهر في أيديهما
﴿وَمَا اعتدينا﴾ عطفٌ على جوابِ القسمِ أيْ ما تجاوزنا فيها الحقَّ أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما
﴿إنا إذا لَّمِنَ الظالمين﴾ استئنافٌ مقرَّرٌ لما قبله أي إنا إنِ اعتدَيْنا في يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى أو لمن الواضعين الحقَّ في غير موضعه ومعنى النظم الكريم أن المُحتَضَرَ ينبغي أن يُشهدَ على وصيته عدلين من ذوِي نسبِه أو دينه فإن لم يجدْهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع ارتيابٌ بهما أقسما على أنهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة شيئاً بالتغليظ في الوقت فإنِ اطُّلعَ بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر بأيديهما شيءٌ من التركة وادعيا تملُّكه من جهة الميت حلفَ الورثةُ وعُمل بأيْمانهم ولعل تخصيص الاثنين لخصوص الواقعة فإنه رُوي أن تميمَ بنَ أوسٍ الداري وعديَّ بنَ يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصْرانيين ومعهما بديلُ بنُ أبي مريم مولى عمْرو بنِ العاص وكان مسلماً مهاجراً فلما قدِموا الشامَ مرضَ بديلٌ فكتب كتاباً فيه جميعُ ما معه وطرحه في متاعِه ولم يخبرْهما بذلك وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعَه إلى أهله ومات ففتشاه فوجدا فيه إناءً من فضة وزْنُه ثلثمائةِ مثقالٍ منقوشاً بالذهب فغيَّباه ودفعا المتاعَ إلى أهله فأصابوا فيه الكتاب فطلبوا منهما الإناءَ فقالا ما ندري إنما أوصى إلينا بشيءٍ وأمرَنا أن ندفعه إليكم
91
المائدة آية ١٠٨
ففعلنا وما لنا بالإناء من علم فرفعوهما إلى رسول الله ﷺ فنزل يأيها الذين أآمنوا الآية فاستحلَفَهما بعد صلاة العصر عند المِنْبر بالله الذي لا إلَه إِلاَّ هو أنهما لم يخْتانا شيئاً مما دَفَع ولا كتما فحلَفا على ذلك فخلى ﷺ سبيلهما ثم إن الإناءَ وُجد بمكةَ فقال مَنْ بيده اشتريتُه من تميم وعدي وقيل لما طالت المدةُ أظهراه فبلغ ذلك بني سهمٍ فطلبوه منهما فقالا كنا اشتريناه من بديل فقالوا ألم نقلْ لكما هل باع صاحبُنا من متاعه شيئاً فقلتما لا قالا ما كان لنا بينة فكر هنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله ﷺ فنزل قوله عز وجل فَإِنْ عُثِرَ الآية فقام عمروُ بنُ العاص والمطَّلِبُ بنُ أبي وداعةَ السَّهْميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كَذَبا وخانا فدفع الإناءَ إليهما وفي رواية إلى أولياء الميت واعلم أنهما إن كانا وارثين لبديل فلا نسخ إلا في وصف اليمين فإن الوارثَ لا يُحَلَّفُ على البَتات وإلا فهو منسوخ
92
﴿ذلك﴾ كلامٌ مستأنفٌ سيقَ لبيانِ أن ما ذُكر مستتبِعٌ للمنافع واردٌ على مقتضى الحِكمة والمصلحة أي الحُكم الذي تقدم تفصيلُه
﴿أدنى أن يأتوا بالشهادة على وَجْهِهَا﴾ أي أقربُ إلى أن يؤدِّيَ الشهودُ الشهادةَ على وجهها الذي تحمَّلوها عليه من غير تحريفٍ ولا خيانة خوفاً من العذاب الأخروي وهذه كما ترى حكمةُ شَرْعيةِ التحليفِ بالتغليظ المذكور وقوله تعالى
﴿أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم﴾ بيانٌ لحِكمة شرعيةِ ردِّ اليمين على الورثة معطوفٌ على مقدَّرٍ ينبأ عنه المقامُ كأنه قيل ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذابَ الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاحِ على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعملِ بأَيْمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأيُّ الخوفين وقع حصل المقصِدُ الذي هو الإتيانُ بالشهادة على وجهها وقيل هو عطفٌ على يأتوا على معنى أن ذلك أقربُ إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى أن يخافوا الافتضاحَ برد اليمين على الورثة فلا يحلِفوا على موجَب شهادتِهم إنْ لم يأتوا بها على وجهها فيظهرُ كذبُهم بنكولهم وأما ما قيل من أن المعنى أن ذلك أقربُ إلى أحد الأمرين اللذين أيُّهما وقع كان فيه الصلاح أداءُ الشهادة على الصدق والامتناعُ عن أدائها على الكذب فيأباه المقام إذ لا تعلّق له بالحادثة أصلاً ضرورةَ أن الشاهدَ مضطرٌّ فيها إلى الجواب فالامتناعُ عن الشهادة الكاذبة مستلزمٌ للإتيان بالصادقة قطعاً فليس هناك أمران أيُّهما وقع كان فيه الصلاحُ حتى يَتوسَّطَ بينهما كلمةُ أو وإنما يتأتى ذلك في شهودٍ لم يُتَّهموا بخيانة على أن إضافةَ الامتناع عن الشهادة الكاذبة إلى خوف رد اليمين على الورثة ونِسبةَ الإتيانِ بالصادقة إلى غيره مع أن ما يقتضي أحدُهما يقتضي الآخَرُ لا محالة تحكُّمٌ بحْتٌ فتأمل
﴿واتقوا الله﴾ في مخالفة أحكامه التي من جملتها هذا الحكمُ
﴿واسمعوا﴾ ما تؤمرون به كائناً ما كانَ سمعَ طاعةٍ وقَبول
﴿والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين﴾ الخارجين عن الطاعة أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين أي إلى طريق الجنةِ أو إلى ما فيه نفعهم
92
﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل﴾ نصب على أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة فإن مدار البدلية ليس ملابسةَ الظرفية والمظروفية ونحوِها فقط بل هو تعلّقٌ ما مُصحِّحٌ لانتقال الذهن من المُبدلَ منه إلى البَدَل بوجه إجماليَ كما فيما نحن فيه فإن كونَه تعالى خالقَ الأشياء كافةً مالكَ يومِ الدين خاصةً كافٍ في الباب مع أن الأمرَ بتقوى الله تعالى يتبادر منه إلى الذهن أن المتقى أيُّ شأنٍ من شئونه وأيُّ فعلٍ من أفعاله وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ به يتحقق الاشتمال أي اتقوا عقاب الله فحينئذ يجوزُ انتصابُه منه بطريق الظرفية وقيل منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على اتقوا وما عُطف عليه أي واحذروا أو اذكروا يوم الخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يُضْطرُّهم إلى تقوى الله عز وجل وتلقِّي أمره بسمع الإجابة والطاعة وقيل هو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى لاَّ يَهِدِّى أي لا يهديهم يومئذ إلى طريق الجنة كما يهدي إليه المؤمنين وقيل منصوب بقوله تعالى واسمعوا بحذف مضاف أي اسمعوا خبرَ ذلك اليوم وقيل منصوب بفعل مؤخّرٍ قد حُذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعةِ ما يقع فيهِ من الطَّامةِ التَّامةِ والدواهي العامة كأنه قيل يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فيقول الخ يكونُ من الأحوالِ والأهوال مالا يفي ببيانه نطاقُ المقال وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وتشديد التهويل وتخصيصُ الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم كيف لا وذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وقد قال الله تعالى يَوْمَ ندعو كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ بجمعِ غيرِهم بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم ولإظهار سقوطِ منزلتهم وعدم لياقتهم بالانتظام في سلك جمع السرل كيف لا وهم عليهم السلام يُجمعون على وجه الإجلال وأولئك يسحبون على وجوههم بالأغلال
﴿فَيَقُولُ﴾ لهم مشيراً إلى خروجهم عن عُهدة الرسالة كما ينبغي حسبما يُعربُ عنه تخصيصُ السؤال بجواب الأمم إعراباً واضحا إلا لصدر الخطاب بأن يقال هل بلغتنم رسالاتي وماذا في قولِه عزَّ وجلَّ
﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ﴾ عبارةٌ عن مصدر الفعل فهو نصْبٌ على المصدرية أيْ أيَّ إجابةٍ أُجبتم من جهة أُممِكم إجابةَ قَبول أو إجابةَ قَبول أو إجابةَ رد وقيل عبارة عن الجواب فهو في محل النصب بعد حذف الجارِّ عنه أيْ بأيِّ جوابٍ أجبتم وعلى التقديرين ففي توجيه السؤال عما صدرَ عنهم وهم شهودٌ إلى الرُّسلِ عليهم السَّلامُ كسؤال الموءودة بمَحْضرٍ من الوائد والعدولِ عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال ماذا أجابوا من الأنباء عن كمال تحقيرِ شأنهم وشدة الغيظ والسُّخط عليهم ما لا يخفي
﴿قالوا﴾ استئنماف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا يقول الرسل عليهم السلام هنالك فقيل يقولون
﴿لاَ عِلْمَ لَنَا﴾ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التقرر والتحقق كما في قوله تعالى وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب الاعراف ونظائرِهما وإنما يقولون ذلك تفويضاً للأمر إلى علمه تعالى وإحاطتِه بما اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال وعَرْضاً لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعتِه
﴿إِنَّكَ أَنتَ علامُ الغيوب﴾ تعليل لذلك أي فتعلَمُ ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمْه مما أضمَروه في قلوبهم وفيه إظهارٌ للشَّكاةِ وردّ للأمر إلى علمه تعالى بما لَقُوا من قبلهم من
93
المائدة آية ١١٠
الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاءٌ إلى ربهم في الانتقام منهم وقيل المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة ورُدَّ ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرُهم وأنت خبير بأن مُرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا في زمانهم على الحق ثم صاروا كَفَرة وعن ابن عباس ومجاهد والسدي رضي الله عنهم أنهم يفزَعون من أول الأمر ويذهَلون عن الجواب ثم يجيبون بعد ما ثابت إليهم عقولُهم بالشهادة على أممهم ولا يلائمه التعليل المذكور وقيل المرادُ به المبالغةُ في تحقيق فضيحتهم وقرىء علامَ الغيوب بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح على أنَّ الكلامَ قد تمَّ عند قولِه تعالى أَنتَ أي إنك أنت المنعوتُ بنعوتِ كمالِك المعروفُ بذلك
94
﴿إذ قال الله يا عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ شروعٌ في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيلِ إثرَ بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأُنموذج لتفاصيلِ أحوال الباقين وتخصيصُ شأن عيسى عليه السلام بالبيان تفصيلاً من بين شئون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالتها على كمال هو ل ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل لما أنه شأنه عليه السلامُ متعلِّقٌ بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نُعِيتْ عليهم في السورة الكريمة جناياتُهم فتفصيلُه أعظمُ عليهم وأجلبُ لحسرتهم وندامتِهم وأفتُّ في أعضادهم وأدخَلُ في صرفهم عن غيهم وعنادهم وإذ بدلٌ من يومَ يجمع الله الخ وصيغة الماضي لما ذُكر من الدلالة على تحقق الوقوع وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمار لما مر من المبالغة في التهويل وكلمة على في قوله تعالى
﴿اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك﴾ متعلقة بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً أي اذكر إنعامي عليكما أو بمحذوفٍ هو حالٌ منها إنْ جُعلت اسماً أي اذكر نعمتي كائنة عليكما وليس المرادُ بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفَه عليه السلام شكرَها والقيامَ بمواجبها ولاتَ حينَ تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أيَّ خروج بل إظهارَ أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتداداً بها وتلذذا بذكرها على رءوس الأشهاد لتكون حكايةُ ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخاً ومزجرةً للكفرة المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً وإبطالاً لقولهما جميعاً
﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ﴾ ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لك أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت تأييدي لك وقرىء آيدتُك والمعنى واحد أي قويتك
﴿بِرُوحِ القدس﴾ بجبريلَ عليه السلام لتثبيت الحجة
94
المائدة آية ١١٠
أو باكلام الذي يحيى به الدين وإضافته إلى القدس لأنه سبب الطهر عن أوضار الآثام أو يحيى به الموتى أو النفوسُ حياةً أبدية وقيل الأرواحُ مختلفةُ الحقائق فمنها طاهرةٌ نورانية ومنها خبيثةٌ ظُلمانية ومنها مشرقةٌ ومنها كَدِرةٌ ومنها حُرة ومنها نذْلة وكان روحه عليه السلام طاهرةً مشرقةً نورانية عُلوية وأيا ما كان غهو نعمة عليهما
﴿تُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً﴾ استئناف مبين لتأييده عليه السلام أو حال من الكاف وذكر تكليمه عليه السلام في حال الكهولة لبيان أن كلامه عليه السلام في تينك الحالتين كان على نسق واحد بديعٍ صادراً عن كمال العقل مقارِناً لرزانة الرأي والتدبير به واستدل على أنه عليه السلام سينزِل من السماء لِما أنه عليه السلامُ رفع قبل التكهُّل قال ابن عباس رضي الله عنهما أرسله الله تعالى وهو ابن ثلاثين سنة ومكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه اللع = هـ تعالى إليه
﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب﴾ عطف على قوله تعالى إِذْ أَيَّدتُّكَ منصوب بما نصبه أي اذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك والكتاب
﴿والحكمة﴾ أي جنسهما
﴿والتوراة والإنجيل﴾ خُصا بالذكر مما تناوله الكتابُ والحكمةُ إظهاراً لشرفهما وقيل الخطُّ والحكمةُ الكلام اتلمحكم الصواب
﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير﴾ أي تُصوَّر منه هيئةً مماثلة لهيئة الطير
﴿بِإِذْنِى﴾ بتسهيلي وتيسيري لا على أنْ يكونَ الخلقُ صادراً عنه عليه السلام حقيقة بل على أن يظهر ذلك يده عليه السلام عند مباشرة السباب مع كون الخلق حقيقةً لله تعالى كما قيل عنه قوله تعالى
﴿فَتَنفُخُ فِيهَا﴾ أي في الهيئة المصوَّرة
﴿فَتَكُونُ﴾ أي تلك الهيئة
﴿طَيْراً بِإِذْنِى﴾ فإن إذنه تعالى لو لم يكن عبارةً عن تكوينه تعالى للطير بل عن محضِ تيسيره مع صدور الفعل حقيقةً عما أُسند إليه لكان هذا تكوّناً من جهة الهيئة وتكريرُ قوله بِإِذْنِى في الطير مع كونه شيئاً واحداً للتنبيهِ على أنَّ كلاً من التصوير والنفخ أمرٌ معظّم بديعٌ لا يتسنى ولا يترتب عليه شيء إلا بإذنه تعالى
﴿وتبرئ الاكمه والابرص بِإِذْنِى﴾ عطف على تخلُق
﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِى﴾ عطف على إذ تخلق أعيد فيه إذْ لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صارت رميماً معجزةً باهرةً ونعمةً جليلة حقيقةً بتذكير وقتها صريحاً قيل أخرج سامَ بنَ نوح ورجلين وامرأةً وجاريةً وتكرير قوله بإذنى في المواضع الأربعة للاعتناء بتحقيق الحق ببيان أن تلك الخوارقَ ليست من قبل عيسى عليه الصلاة والسلام بل من جهته سبحانه قد أظهرها على يديه معجزةً له ونعمةً خصَّها به وأما ذكرُه في سورة آلِ عِمرانَ مرتين لما أن ذلك موضعُ الإخبار وهذا موضعُ تعداد النعم
﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسرائيل عَنكَ﴾ عطف على إذ تخرج أي منعت الهود الذين أرادوا بك السوء عن التعرُّض لك
﴿إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات﴾ بالمعجزات الواضحة ممَّا ذُكر ومَا لم يُذكر كالإخبار بما يأكلون وما يدّخِرون في بيوتهم ونحوِ ذلك وهو ظرفٌ لكففت لكن لا باعتبار المجيء بها فقط بل باعتبار ما يعقبُه منْ قولِه تعالى
﴿فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ فإن قولهم ذلك مما يدل على أنهم قصدوا اغتيالَه عليه السلام المُحوِجَ إلى الكف أي كففتُهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئِك إياهم بالبينات وإنما وضع ضميرِهم الموصولُ لذمِّهم بما في حيِّز الصلة فكلمة من بيانية وهذا إشارةٌ إلى ما جاءَ به والتذكير لأن إشارتهم إلى ما رأَوْه من نفس المسمّى من حيث هو أو من حيث هو سحر لا من حيث هو مسمى بالبينات وقرىء إن هذا إلا ساحر
95
المائدة آية ١١١ ١١٢
مبين فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه السلام
96
﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين﴾ عطف على ما قبله من أخواتها الواقعةِ ظروفاً للنعمة التي أُمر بذكرها وهي وإن كانت في الحقيقة عينُ ما يُفيده الجمل التي أضيف إليها تلك الظروفُ من التأييد بروح القدس وتعليم الكتاب والحكمة وسائرِ الخوارق المعدودة لكنها لمغايَرَتها لها بعنوانٍ منْبىءٍ عن غاية الإحسان أُمر بذكرها من تلك الحيثية وجُعلت عاملةً في تلك الظروف لكفاية المغايَرَة الاعتبارية في تحقيق ما اعتُبر في مدلول كلمةِ إذ من تعدد النسبة فإنه ظرف موضوعٌ لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومةُ الوقوعِ فيه للمخاطَب دون الأخرى فيُراد إفادةُ وقوعها أيضاً له فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى ويجعل ظرفاً معمولاً للنسبة الثانية ثم قد تكون المغايَرةُ بين النسبتين بالذات كما في قولك اذكر إحساني إليك إذ أحسنتَ إليّ تريد تنبيهَ المخاطَب على وقوع إحسانك إليه وقت وقوع إحسانه إليك وهما نسبتان متغايرتان بالذات وقد تكون بالاعتبار كما في قولك اذكرإحساني إليك غذ منعتُك من المعصية تريد تنبيهه على كون منعه إحساناً إليه لا على إحسانٍ آخرَ واقعٍ حينئذ ومن هذا القبيل عامةُ ما وقع في التنزيل من قوله تعالى يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً الآية وقولِه تعالى يايها الذين آمنوا اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ إلى غير ذلك من النظائر ومعنى إيحائه تعالى إليهم أمرُه تعالى إياهم في الإنجيل على لسانه عليه السلام وقيل إلهامُه تعالى إياهم كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى وأنْ في قولِه تعالَى ﴿إن آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾ مفسِّرة لما في الإيحاء من معنى القول وقيل مصدرية وإيرادعه عليه السلام بعنون الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه السلام كأنه قيل ى منوا بوحدانيتي في الألوهية والربوبية وبرسالة رسولي ولا تُزيِّلوه عن حيِّزه حطّاً ولا رفعاً وقولُه تعالى ﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا حين أوحِيَ إليهم ذلك فقيل قالوا ﴿آمنّا﴾ أي بما ذُكر من وحدانيته تعالى وبرسالة رسولِه كما يُؤذِنُ به قولهم ﴿واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ أي مخلِصون في إيماننا مِنْ أَسْلَمَ وجهَه لِلَّهِ وهذا القولُ منهم بمقتضى وحيه تعالى وأمرِه لهم بذلك نعمةٌ جليلة كسائر النعمم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام وكل ذلك نعمةٌ على والدته أيضاً رُوي أنه عليه السلام لما علم أنه سيُؤمر بذكر هاتيك النعم العِظامِ جعل يلبَسُ الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد يقول لكل يوم رزقُه لم يكن له بيت فيخرَبَ ولا ولد فيموتَ أينما أمسى بات
﴿إِذْ قَالَ الحواريون﴾ كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ بعض ما جَرَى بينَهُ عليهِ السلام وبين قومه منقطعٌ عما قبله كما يُنبىء عنه الإظهارُ في موقعِ الإضمارِ وإذ منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ ﷺ بطريق تلوين الخطاب والالتفات لكن لا لأن الخطاب السابق لعيسى عليه
96
المائدة آية ١١٣
السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكايةُ خطاب بل لأن الخطابَ لمن خوطب بقوله تعالى واتقوا الله الآية فتأمل كأنه قيل للنبي ﷺ عَقيبَ حكايةِ ما صدرَ عن الحواريين من المقالة المعجودة من نعمِ الله تعالَى الفائضة عَلَى عيسَى عليهِ السَّلامُ اذكُر للناس وقت قولهم الخ وقيل هو ظرف لقالوا أريد به التنبيهُ على أن ادعاءَهم الإيمانَ والإخلاصَ لم يكن عن تحقيقٍ وإيقان ولا يساعده النظمُ الكريم
﴿يا عيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء﴾ اختلف في أنهم هل كانوا مؤمنين أو لا فقيل كانوا كافرين شاكّين في قدرةَ الله تعالى على ما ذَكَروا وفي صدْقِ عيسى عليه السلام كاذبين في دعوى الإيمان والإخلاص وقيل كانوا مؤمنين وسؤالُهم للاطمئنان والتثبّت لا لإزاحة الشك وهل يستطيع سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبيراً عنه بلازمه وقيل الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة وقيل المعنى هل يطيع ربك بمعنى هل يجيبك واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب وقرىء هل تستطيعُ ربَّك أي سؤال ربك والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارفٍ يصرِفك عنه وهي قراءة علي وعائشةَ وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم وسعيدِ بن جبير في آخرين والمائدة الخِوانُ الذي عليه الطعام من مالده إذا أعطاه ورفدَه كأنها تَميدُ مَنْ تُقدَّم إليه ونظيرُه قولهم شجرة مطعمة وقال أبو عبيد هي فاعلة بمعنى مفعول كعيشة راضية
﴿قال﴾ أاستئناف مبني على سؤال ناشىءٍ مما قبله كأنه قيل فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك فقيل قال
﴿اتقوا الله﴾ أي من أمثال هذا السؤال
﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي بكمال قدرته تعالى وبصِحّة نبوتي أو إن صَدَقتم في ادّعاء الإيمانِ والإسلام فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعة لحصول المسئول كقوله تعالَى وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يحتسبُ وقوله تعالى يأَيُّهَا الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة
97
﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ كما سبق
﴿نريد أن نأكل منها﴾ تمهيدُ عذرٍ وبيانٍ لِمَا دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد بالسؤال إزاحةَ شُبهتِنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدحَ ذلك في الإيمان والتقوى بل نريد أن نأكلَ منها أي أكلَ تبرّكٍ وقيل أكلَ حاجةٍ وتمتُّع
﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ بكمال قدرته تعالى وإن كنا مؤمنين به من قبل فإن انضمامَ علم المشاهدةِ إلى العلم الاستدلالي مما يوجب ازديادَ الطُمأنينة وقوةَ اليقين
﴿وَنَعْلَمَ﴾ أي علماً يقينياً لا يحوم حوله شائبةُ شُبهةٍ أصلاً وقرىء ليُعْلَمَ على البناء للمفعول
﴿أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ أنْ هيَ المخففةُ منَ أن وضمير الشأن محذوف أي ونعلم أنه قد صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله يُجيب دعوتنا وإن كنا عالمين بذلك من قبل
﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين﴾ نشهد عليها عند الذين لم يحضُروها من بني إسرائيل ليزدادَ المؤمنون منهم بشهادتنا طُمأنينةً ويقيناً ويؤمنَ بسببها كفارُهم أو من الشاهدين للعَيْن دون السامعين للخبر وعليها متعلقٌ بالشاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف وبيانٌ لما يشهدون عليه
97
المائدة ١١٤ ١١٥
إن جُعلتْ موصولة كأنه قيل على أي شهيد يشهدون فقيل عليها فإن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول أو هو حالٌ من اسم كان أو هو متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين
98
﴿قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ لما رأى عليه السلام أن لهم غَرَضاً صحيحاً في ذلك وأنهم لا يُقلعون عنه أزمعَ على استدعائها واستنزالها وأراد أن يُلزِمَهم الحجةَ بكمالها رُوي أنه ﷺ اغتسل ولبس المِسْح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصرَه ثم قال ﴿اللهم ربنا﴾ ناداه سبحانه وتعالى مرتين مرةً بوصف الألوهية الجامعةِ لجميع الكمالات ومرةً بوصف الربوبية المُنْبئةِ عن التربية إظهارا لغاية التضرّع ومبالغةً في الاستدعاء ﴿أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ تقديمُ الظرف على قوله ﴿مَائِدَةً﴾ لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقوله ﴿مّنَ السماء﴾ متعلق بأنزل أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لمائدة أي كائنةً من السماء نازلةً منها وقوله ﴿تَكُونُ لَنَا عِيداً﴾ في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ لمائدة واسم تكون ضمير المائدة وخبرها إما عيدا ولنا حالٌ منه أو من ضمير تكون عند من يجوِّز إعمالَها في الحال وإما لنا وعيداً حال من الضمير في لنا لأنه وقع خبراً فيحمِلُ ضميراً أو من ضمير تكون عند من يرى ذلك أن يكون يومُ نزولها عيداً نعظمه وإنما أُسند ذلك إلى المائدة لأن شرَفَ اليوم مستعار من شرفها وقيل العيدُ السرورُ العائد ولذلك سمِّيَ يومُ العيد عيداً وقرىء تكن بالجزم على جواب الأمر كما في قوله تعالى فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى خلا أن قراءةَ الجزم هناك متواترة وههنا من الشواذ ﴿لأولنا وآخرنا﴾ بدل من لنا بإعادة العامل أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا رُوي أنها نزلت يوم الأحد ولذلك اتخذخ النصارى عيداً وقيل للرؤساء منا والأتباع وقيل يأكل منها أولُنا وآخرُنا وقرىء لأُولانا وأُخْرانا بمعنى الأمة والطائفة ﴿وآية﴾ عطف على عيجا ﴿منك﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لآية أي كائنةً منك دالةً على كمال قدرتك وصحةِ نبوتي ﴿وارزقنا﴾ أي المائدة أو الشكرعليها ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين﴾ تذييلٌ جارٍ مَجْرى التعليل أي خيرُ من يرزق لأنه خالقُ الأرزاق ومعطيها بلا عِوَض وفي إقباله عليه السلام على الدعاء بتكرير النداء المُنْبىءِ عن كمال الضراعة والابتهال وزيادته مالم يخطُرْ ببال السائلين من الأمور الدَّاعيةِ إلى الإجابة والقَبول دلالةٌ واضحةٌ على أنهم كانوا مؤمنين وأن سؤالهم كان لتحصيل الطمأنينة كما في قولِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ رب أرني كيف تحيى الموتى وإلا لما قبل اعتذارهم بما ذكروه ولما اضاف غليه من عنده ما يؤكده ويقربه إلى القبول
﴿قَالَ الله﴾ استئناف كما سبق
﴿إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ ورودُ الإجابة منه تعالى بصيغة التفعيل المُنْبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه السلام بصيغة الإفعال لإظهار كمال
98
المائدة آية ١١٥
اللطف والإحسان كما في قوله تعالى قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ الخ بعد قوله تعالى لَّئِنْ أنجانا مِنْ هذه الخ مع ما فيه من مراعاة ما وقعَ في عبارة السائلين وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعلِ خبرِها اسماً تحقيقٌ للوعد وإيذان بأنه تعالى منجزٌ له لا محالة من غير صارفٍ يَثنيه ولا مانعٍ يَلويه وإشعارٌ بالاستمرار أي إني منزلُ المائدة عليكم مراتٍ كثيرة وقرىء بالتخفيف وقيل الإنزالُ والتنزيلُ بمعنى واحد
﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ﴾ أي بعد تنزيلها
﴿مّنكُمْ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يكفرْ
﴿فَإِنّى أُعَذّبُهُ﴾ بسبب كفره بعد معاينة هذه الآيةِ الباهرة
﴿عَذَاباً﴾ اسم مصدرٍ بمعنى التعذيب وقيل مصدر بحذف الزوائد وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين وجَوَّز أن يكون مفعولاً به على الاتساع وقوله تعالى
﴿لاَّ أُعَذّبُهُ﴾ في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ لعذاباً والضمير له أي أعذبه تعذيباً لا أعذب مثل ذلك التعذيب
﴿أَحَداً مّن العالمين﴾ أي من عالَمِي زمانِهم أو من العالمين جميعاً قيل لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضُهم فاستعفَوْا وقالوا لا نريدها فلم تنزِلْ وبه قال مجاهدٌ والحسن رحمهما الله والصحيحُ الذي عليه جماعير الأمة ومشاهيرُ الأئمة أنها قد نزلت روي أنه عليه السلام لما دعا بما دعا وأُجيب بما أجيب إذا بسفْرةٍ حمراءَ نزلت بين غمامتين غمامةٌ من فوقها وغمامةٌ من تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمةً للعالمين ولا تجعلها مُثْلةً وعقوبة ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال بسم الله خيرِ الرازقين فإذا سَمَكةٌ مشوية بلا فلوس ولا شَوْك تسيل دسَماً وعند رأسها مِلْحٌ وعند ذنبها خَلٌّ وحولها من ألوان البقول ما خلا الكُرَّاثَ وإذا خمسةُ أرغفةٍ على واحد منها زيتونٌ وعلى الثاني عَسَلٌ وعلى الثالث سَمْنٌ وعلى الرابع جُبْنٌ وعلى الخامس قدَيدٌ فقال شمعون رأس الحوالريين يا روحَ الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقُدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يُمدِدْكم الله ويزِدْكم من فضله فقالوا يا روحَ الله لو أَرَيتَنا من هذه الآية آيةً أخرى فقال يا سمكةُ احْيَيْ بإذنِ الله فاضطربت ثم قال لها عُودي كما كنت فعادَتْ مشويةً ثم طارت المائدة ثكم عصو فمسخو قردةً وخنازيرَ وقيل كانت تأتيهم أربعين يوماً غِباً يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها ولم يأكل منها فقير إلا غَنِيَ مدةَ عُمُرِه ولا مريضٌ إلا برِىءَ ولم يمرَضْ أبداً ثم أوحى اللَّهُ تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أنِ اجعلْ مائدتي في الفقراء والمرضَى دون الأغنياء والأصحاء فاضطربت الناسُ لذلك فمُسِخَ منهم من مُسِخَ فأصبحوا خنازيرَ يسعَوْن في الطرقات والكُناسات ويأكلون العَذِرة في الحُشوش فلما رأى الناس ذلك فزِعوا إلى عيسى عليه والسلام وبكوا على الممسوخين فلما أبصرت الخنازيرُ عيسى عليه السلام بكتْ وجعلت تطيف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحد بعد واحد فيبكون ويسيرون برءوسهم ولا يقدِرون على الكلام فعاشوا ثلاثةَ أيام ثم هلَكوا ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ عيسى عليه السلام قالا لهم صوموا ثلاثين يوماً ثم سَلوا الله ما شئتم يُعطِكم فصاموا فلما فرَغوا قالوا إنا لو عمِلنا لأحدٍ فقضَيْنا عملَه لأطعَمَنا وسألوا الله تعالى المائدة فأقبلت الملائكةُ بمائدة يحمِلونها عليها سبعةُ أرغفةٍ وسبعةُ أحواتٍ حتى وضعتْها بين أيديهم فأكل منها آخِرُ الناس كما أكل منها أولهم قال طكعب نزلت منكوسةً تطير بها
99
المائدة آية ١١٦٧
الملائكةُ بين السماء والأرض عليها كلُّ الطعام إلا اللحمَ وقال قتادة كان عليها ثمرٌ من ثمار الجنة وقال عطيةُ العوفي نزلت من السماء سمكةٌ فيها طعمُ كل شيء وقال الكلبي نزلت سمكةٌ وخمسةُ أرغفةٍ فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألفٌ ونيِّفٌ فلما رجعوا إلى قُراهم ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهَدْ وقالوا ويحكم إنما سحر أعينك فمن أراد الله به الخيرَ ثبّته على بصيرة ومن أراد فتنته رجَع إلى كفره فمُسخوا خنازيرَ فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكُلوا ولم يشربوا وكذلك كلُّ ممسوخ
100
﴿وإذ قال الله يا عيسى ابن مَرْيَمَ﴾ معطوف على إذ قال الحواريون منصوب بما نصبه من المضمر المخاطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو بمُضمر مستقلَ معطوفٍ على ذلك أي اذكُرْ للناس وقت قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ له عليهِ السَّلامُ في الآخرة توبيخاً للكَفَرة وتبكيتاً لهم بإقراره عليه السلام على رءوس الأشهاد بالعبودية وأمرُه لهم بعبادته عز وجل وصيغة الماضي لما مرَّ من الدِلالة على التحقق والوقوع
﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين﴾ الاتخاذُ إما متعدَ إلى مفعولين فإلهين ثانيهما وإما إلى واحدٍ فهو حالٌ من المفعول وليس مدارُ أصل الكلامِ أن القول متيَقَّنٌ والاستفهامَ لتعيين القائل كما هو المتبادَرُ من إيلاء الهمزو المُبتدأ على الاستعمال الفاشي وعليه قوله تعالى أأنت فعلت هذا بآلهتنا ونظائرُه بل على أن المتيقَّنَ هو الاتخاذُ والاستفهامُ لتعيين أنه بأمره عليه السلام أو من تلقاءِ أنفسِهم كما في قوله تعالى أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أو هُمْ ضَلُّوا السبيل وقوله تعالى
﴿مِن دُونِ الله﴾ متعلق بالاتخاذ ومحله النصب على اية حال من فاعله أي متجاوزين الله أو بمحذوفٍ هو صفة لإلهين أي كائنيْن من دونه تعالى وأيا ما كان فالمرادُ اتخاذُهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أندادا وقوله عز وجل وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله إلى قوله سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إذْ به يتأتّى التوبيخُ ويتسنّى التقريعُ والتبكيت ومَنْ توهم أن ذلك بطريق الاستقلال ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزاتِ التي ظهرت على يد عيسى ومريمَ عليهما الصلاة والسلام لم يخلُقْها الله تعالى بل هم خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلَّيْن ولم يتخذوه تعالى إلها في حق ذلك البعض فقد أبعد عن الحق بمراحِلَ وأما من تعمق فقال إن عبادته تعالى مع عبادة غيره كلا عبادةٍ فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبُده تعالى فقد غفَل عما يجد به واشتغل بما لا يَعْنيه كدأب مَنْ قبلةَ فإن توبيخهم إنما يحصُل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحاً لا بما يلزَمُه بضربٍ من التأويل وإظهارُ الاسم الجليل لكونه في حيِّز القولِ المُسند إلى عيسى عليه السلام
﴿قَالَ﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا يقول عيسى عليه السلام حينئذ فقيل يقول وإيثارُ صيغة الماضي لما مرّ مراراً
﴿سبحانك﴾ سبحان عَلمٌ للتسبيح وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يذكر ناصبه
100
المائدة آية ١١٧
وفيهِ من المبالغةِ في التنزيه من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ وافبعاد في الأرض ومن جهة النَّقلِ إلى صيغة التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسمِ الموضوع له خاصةً المشيرِ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعل ما لا يخفى أي أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن أقول ذلك أو من أن يقالَ في حقك ذلك وأما تقديرُ مِن أنْ يكونَ لك شريكٌ في الألوهية فلا يساعده سياق النظم الكريم وسياقُه وَقَوْلُه تعالى
﴿مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ﴾ استئنافٌ مقرِّر للتنزيه ومبين للمنزه منه وما عبارة عن القول المذكور أي ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحِقّ لي أن أقوله وإيثارُ ليس على الفعل المنفيِّ لظهور دلالتِه على استمرار انتفاءِ الحقية وإفادةِ التأكيد بما في حيزه من الباء فإن اسمه ضميرُه العائد إلى ما وخبرَه بحق والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما في سُقياً لك ونحوه وقوله تعالى
﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ استئناف مقرِّرٌ لعدم صدورَ القولِ المذكورِ عنه عليه السلام بالطريق البرهاني فإن صدورَه عنه مستلزِمٌ لعلمه تعالى به قطعاً فحيثُ انتفى علمُه تعالى به انتفى صدورُه عنه حتماً ضرورةَ أن عدمَ اللازم مستلزِمٌ لعدم الملزوم
﴿تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى﴾ استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبله كأنه قيل لأنك تعلم ما أُخفيه في نفسي فكيف بما أُعلنُه وقوله تعالى
﴿وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ﴾ بيانٌ للواقع وإظهارٌ لقصوره أي ولا أعلم مات تُخفيه من معلوماتك وقوله فِى نَفْسِكَ للمشاكلة وقيل المرادُ بالنفس هو الذاتُ ونسبةُ المعلومات إليها لما أنها مرجعُ الصفات التي من جملتها العلمُ لمتعلق بها فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة وقوله تعالى
﴿إِنَّكَ أَنتَ علامُ الغيوب﴾ تعليلٌ لمضمون الجملتين منطوقاً ومفهوماً وقوله تعالى
101
﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما صدر عنه قد أُدرج فيه عدمَ صدورِ القول المذكورِ عنه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه حيثُ حكم بانتفاء صدور جميع الأقوالِ المغايِرَةِ للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القولِ المذكور دخولاً أولياً أي ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به وزإنما قيل ما قلت لهم نزولاً على قضية حسن الأدب ومراعاةً لما ورد في الاستفهام وقولُهُ تعالَى
﴿أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ﴾ تفسيرٌ للمأمور به وقيل عطفُ بيانٍ للضمير في به وقيل بدلٌ منه وليس من شرط البدل جوازُ طرحِ المُبْدَل منه مُطلقاً ليلزَمَ بقاءُ الموصول بلا عائد وقيل خبر مضمر او مفعول مثل عو أو أعني
﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ رقيباً أراعي أحوالهم وأحمِلُهم على العمل بموجب أمرك وأمنعهم عن المخالفة أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان
﴿مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ ما مصدرية ظرفية تقدَّر بمصدرٍ مضافٍ إليه زمانٌ ودمت صلتها أي كنت شهيداً عليهم مدة دوامي فيما بينهم
﴿فَلَمَّا توفيتني﴾ بالرفع إلى السمالء كما في قوله تعالى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ فإن التوفيَ أخذُ الشيء وافياً والموتُ نوع منه قال تعالى الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا
﴿كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ لا غيرَك فأنت ضميرُ الفصل أو تأكيدٌ وقرىء الرقيبُ بالرفع على أنه خبرُ أنت والجملة خبرٌ لكان وعليهم
101
المائدة آية ١١٨ ١١٩
متعلق به أي أنت كنت الحافظَ لأعمالهم والمراقبَ فمنعت من أدرت عِصْمتَه عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآياتِ وخذَلْتَ من خذلتَ من الضالين قال ما قالوا
﴿وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ﴾ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله وفيهِ إيذانٌ بأنَّه تعالَى كان هو الشهيدَ على الكل حين كونِه عليه السلام فيما بينهم وعلى متعلقةٌ بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة
102
﴿إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك ﴿وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز﴾ أي القويُّ القادرِ على جميع المقدوراتِ ومن جملتهات الثوابُ والعقاب ﴿الحكيم﴾ الذي لا يُريد ولا يفعلُ إلا ما فيهِ حكمةٌ ومصلحةٌ فإن المغفرة مستحسَنة لكل مجرم فإن عذّبت فعدلٌ وإن غفرت ففَضْلٌ وعدمُ غفرانِ الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد فلا امتناعَ فيه لذاته ليمنعَ الترديد وقيل الترديدُ بالنسبة إلى فرقتين والمعنى إن تعذبْهم أي مَنْ كفر منهم وإن تغفرْ لهم أي من آمن منهم
﴿قَالَ الله﴾ كلامٌ مستأنَفٌ خَتَم به حكايةَ ما حُكيَ مما يقعُ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُشير إلى نتيجته ومآله أي يقولُ الله تعالَى يومئذ عَقيبَ جواب عيسى عليه السلام مشيراً إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وصيغة الماضي لما مر في نظائره مراراً وقوله تعالى
﴿هذا﴾ غشارة إلى ذلك اليوم وهو مبتدأ خبرُه ما بعده أي هذا اليوم الذي حُكيَ بعضُ ما يقع فيه إجمالاً وبعضُه تفصيلاً
﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين﴾ بالرفع والإضافة والمراد بالصادقين كما يُنبىء عنه الاسمُ المستمرّون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ الذي نحن بصدده والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصُل الشهادةُ بصِدْق عيسى عليه السلام ومن المم المصدِّقين لهم المقتدين بهم عقدا وعملا به يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم لا كلِّ من صدَقَ في أي شيء كان ضرورةَ أن الجانِيَ المعترِفَ في الدنيا بجِنايته لا ينفعه يومئذ واعتبارُ استمراره في الدارين مع أنه لا حاجة إليه كما عرفت ولا دخل له في استتباع النفع والجزاء مما لا وجهَ لَهُ وهذه القراءةُ هي التي أطبق عليها الجمهورُ وهي الأليق بسياق النظم الكريم وسياقه وقد قرىء يومَ بالنصب إما على أنه ظرف لقال فهذا حينئذ إشارةٌ إلى قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ الخ وإما على أنه خبرٌ لهذا فهو حينئذ إشارة إلى جواب عيسى عليه السلام أي هذا الجواب منه عليه السلام واقعٌ يوم ينفع الخ أو إلى السؤال والجواب معاً وقيل هو خبر ولكنه بني على الفتح وليس بصحيح عند البصريين لأنه مضافٌ إلى متمكنَ وقرىء يومٌ بالرفع والتنوين كقوله تعالى واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى الآية
﴿لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً﴾ استئناف مَسوقٌ لبيان النفع المذكور كأنه قيل
102
المائدة آية ١٢٠
ما لهم من النفع فقيل لهم نعيمٌ دائم وثوابٌ خالد وقولُه تَعَالى
﴿رَّضِىَ الله عَنْهُمْ﴾ استئنافٌ آخر لبيان انه عز وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات ما لا قدْرَ لها عنده وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه كما ينبىء عنه قوله تعالى
﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه أعناقُ الهممِ
﴿وذلك﴾ إشارةٌ إلى نيل رضوانه تعالى وقيل إلى نيل الكل
﴿الفوز العظيم﴾ لما أن عِظَمَ شأنِ الفوز تابعٌ لعِظَم شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز وقد عرفت أن لا مطلبَ وراء ذلك أصلاً وقوله تعالى
103
﴿لله ملك السماوات والارض وَمَا فِيهِنَّ﴾ تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على كذِب النصارى وفسادِ ما زعَموا في حق المسيحِ وأمِّه أي له تعالى خاصة مُلْكُ السموات والأرض وما فيهما من العُقلاء وغيرِهم يتصرَّفُ فيها كيف يشاء إيجاد وإعداماً وإحياءً وإماتة وأمراً ونهياً من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخلٌ في ذلك وفي غيثار ما على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاةٌ للأصل وإشارةٌ إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسَب تساويهما في تحقيق المربوبية وعلى تقدير اختصاصِها بغير العقلاء تنبيهٌ على كمال قصورهم عن رتبة الألوهية وإهانة بهم بتغليب غيرِهم عليهم
﴿وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير﴾ منَ الأشياءِ
﴿قَدِيرٌ﴾ مبالِغٌ في القُدرة عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة المائدة أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسنات ومُحيَ عنه عشرُ سيئات ورُفع له عشرُ درجات بعدد كل يهوديَ ونصرانيَ يتنفس في الدنيا
103
الأنعام آية
﴿
سورة الأنعام
ممكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى قُل تَعالُوا أَتلُ وهى مائة وخمس وستون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
104