تفسير سورة التكوير

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية وآياتها تسع وعشرون. وهي، حقا مرعبة مفزعة، فما يقرأها متدبر خاشع أو يتملاها وخياله وجنانه حتى تأخذه موجة من الذهول العارم، وتغشاه غاشية من الفزع والوجوم. ذلك ما يستشعره المرء وهو يتلو هاتيك الآيات المتتابعة من هذه السورة العجيبة. آيات مفعمة عجاب يتبع بعضها بعضا في تعاقب رتيب مثير، وفي إيقاع شديد بالغ يصخّ رنينه أعماق القلب و الحس فيشدههما شدها. ولا عجب فإنك ترى السورة بآياتها الندية وكلماتها المفخمة العذاب تنشر للخيال صورة وافية متكاملة عن أحداث القيامة وقوارعها العظام. فما يتلو القارئ هذه الآيات والكلمات حتى ليوشك أن ينظر إلى القيامة فيراها رأي العين. وفي ذلك أخرج أحمد والترمذي والطبراني والحاكم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ :﴿ إذا الشمس كوّرت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت ﴾ ".
أما يوم القيامة فإنه بفظاعته وجسيم أحداثه ونوازله لهو أشبه بانقلاب كوني رعيب مخوف يأتي على الوجود كله فيهدّه هدّا ويدركه أيما اندكاك ثم يبدل كل شيء فيه تبديلا.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إذا الشمس كوّرت ١ وإذا النجوم انكدرت ٢ وإذا الجبال سيّرت ٣ وإذا العشار عطلت ٤ وإذا الوحوش حشرت ٥ وإذا البحار سجّرت ٦ وإذا النفوس زوّجت ٧ وإذا الموءودة سئلت ٨ بأي ذنب قتلت ٩ وإذا الصحف نشرت ١٠ وإذا السماء كشطت ١١ وإذا الجحيم سعرت ١٢ وإذا الجنة أزلفت ١٣ علمت نفس ما أحضرت ﴾.
هذه جملة أحداث مريعة في يوم القيامة، وهي تكشف عن فظاعة هذا اليوم العصيب. لا جرم أن الساعة حدث مفظع هائل يفوق البال ويجاوز كل تصور وحسبان. إنه انفلات كامل لنواميس هذا الكون ونهاية عظمى لحركة الحياة في هذه الدنيا. بل إنه انقلاب شامل يأتي على الوجود كله فيبدله تبديلا. وهذه حقائق كبريات تكشف عنها هذه الآيات المؤثرة المصوّرة أيما تأثير وتصوير وهي قوله :﴿ إذا الشمس كوّرت ﴾ من التكوير وهو جمع الشيء بعضه على بعض. ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض. وكورت، أي جمع بعضها إلى بعض ثم لفت فرمي بها وطرحت عن فلكها. وقيل : طرحت في جهنم لازدياد حرها ولهيبها.
قوله :﴿ وإذا النجوم انكدرت ﴾ أي تناثرت، أوتساقطت فزالت من أماكنها وانكدر الشيء أي أسرع وانقضّ١.
١ مختار الصحاح ص٥٦٤.
قوله :﴿ وإذا الجبال سيّرت ﴾ أي سيرها الله فذهبت من أماكنها فكانت سرابا وهباء منبثا في أجواء الفضاء، فعادت الأرض قاعا صفصفا لا عوج فيها ولا أمت.
قوله :﴿ وإذا العشار عطّلت ﴾ العشار، جمع عشراء وهي التي أتى عليها عشرة شهور من حملها، فهذه النوق الحوامل التي يرغب فيها الناس ويتنافسون على امتلاكها، إذا وقعت الواقعة، أهملت وتركها أهلها لفرط الهول النازل بهم في هذا اليوم.
قوله :﴿ وإذا الوحوش حشرت ﴾ الحشر، معناه الجمع، أي إذا جمعت الوحوش ليقتص لبعضها من بعض. فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها : كوني ترابا فتكون. كل ذلك يكشف عن شدة الهول وفظاعة المشاهد المنظورة في يوم القيامة.
قوله :﴿ وإذا البحار سجّرت ﴾ أي فاضت وملئت، فيفيض بعضها إلى بعض لتصير بحرا واحدا. وقيل : سجّرت، من سجرت التنور أسجره سجرا إذا ملأته بالحطب وأحميته. قال ابن عباس : إذا انقضت الدنيا سجّرت البحار فصارت كلها نارا يدخلها الله أهلها. وبذلك فإن تسجير البحار، معناه تفجير بعضها إلى بعض لتكون بحرا هادرا واحدا ثم يصير نارا مضطرمة مستعرة.
قوله :﴿ وإذا النفوس زوّجت ﴾ ذكر في تأويلها عدة أقوال، منها : أنها قرنت الأرواح بالأجساد. ومنها : أن الناس يصيرون ثلاثة أزواج وهم أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون. ومنها : أن تقترن كل نفس بمثلها من حيث الطاعة والمعصية فينضم كل واحد إلى طبقته في الخير والشر. ومنها : أن النفوس تقترن بأعمالها.
قوله :﴿ وإذا الموءودة سئلت ﴾ سئلت سؤال توبيخ وتعنيف لقاتلها، لأنه قتلها بغير ذنب. والموءودة، المدفونة حية. وأد بنته أي دفنها حية١ قال ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة وتمخضت على رأسها. فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة وردّت التراب عليها وإن ولدت غلاما حبسته.
وقال قتادة : كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغدو كلبه فعاتبهم الله على ذلك وتوعدهم بقوله :﴿ وإذا الموءودة سئلت ٨ بأي ذنب قتلت ﴾ وهذه واحدة من العوائد الذميمة البشعة التي تلبست بها بعض قبائل العرب في جاهليتهم، إذ كانوا يدفنون بناتهم أحياء في التراب خشية الفقر والحاجة ومخافة السبي والاسترقاق والعار. إن هذه واحدة من أسوأ ما تتصوره الأذهان والأخيلة عن إجرام مفظع مقبوح تتلطخ به أيدي العتاة من المشركين وهم يجترأون على وأد بناتهم البريئات في التراب.
١ مختار الصحاح ص ٧٠٥..
قوله :﴿ بأي ذنب قتلت ﴾ سألت الموءودة وائدها : بأي ذنب قتلتني. وذلك على جهة التوبيخ والتبكيت، وليس له حينئذ أيما عذر. ويستدل من ذلك على أن أطفال المشركين لا يعذبون يوم القيامة، لأن التعذيب لا يستحق إلا بذنب.
قوله :﴿ وإذا الصحف نشرت ﴾ والمراد بذلك صحف الأعمال التي كتبت فيها الملائكة أعمال بني آدم من خير وشر. فإن هذه الصحف تطوى بالموت حتى إذا قامت القيامة فتحتها الملائكة ونشرت ما فيها من مضمون ليعلم ما فيها.
قوله :﴿ وإذا السماء كشطت ﴾ الكشط معناه النزع والقلع والتنحية ١.
والمراد أن السماء تنزع من مكانها كما ينزع الغطاء عن الشيء. أو إذا نزعت. ثم طويت. أو كشفت وأزيلت عما فوقها وهو الجنة وعرش الرحمان كما يكشط الإهاب عن الذبيحة.
١ مختار الصحاح ص ٥٧٢ والمصباح المنير جـ ٢ ص ١٩٥..
قوله :﴿ وإذا الجحيم سعّرت ﴾ سعّرت بالتشديد للمبالغة، يعني أوقدت إيقادا شديدا.
قوله :﴿ وإذا الجنة أزلفت ﴾ أي أدنيت وقرّبت من المتقين وذلّلت لهم تذليلا.
قوله :﴿ علمت نفس ما أحضرت ﴾ وهذا جواب لقوله :﴿ إذا الشمس كوّرت ﴾ وما بعدها. والمعنى : أن لكل نفس حينئذ ما أحضرت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شر فتصير به إلى النار١.
١ تفسير الطبري جـ ٣٠ ص ٤٦، ٤٧ والكشاف جـ ٤ ص ٢٢٢، ٢٢٣ وتفسير الرازي جـ ٣١ ص ٧٠، ٧١..
قوله تعالى :﴿ فلا أقسم بالخنّس ١٥ الجوار الكنّس ١٦ والليل إذا عسعس ١٧ والصبح إذا تنفّس ١٨ إنه لقول رسول كريم ١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين ٢٠ مطاع ثم أمين ٢١ وما صاحبكم بمجنون ٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين ٢٣ وما هو على الغيب بضنين ٢٤ وما هو بقول شيطان رجيم ٢٥ فأين تذهبون ٢٦ إن هو إلا ذكر للعالمين ٢٧ لمن شاء منكم أن يستقيم ٢٨ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ﴾.
يقسم الله بجملة أجزاء مما خلق على أن القرآن حق وأنه منزل من عند الله على رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم. وهو قوله :﴿ فلا أقسم بالخنّس ﴾ لا، زائدة. يعني أقسم بالخنس وهي الكواكب الخمسة : زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة. وقيل : المراد بها النجوم التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل. والخنس جمع خانس، من الخنوس وهو الانقباض والاستخفاء. وقد سمي الشيطان بالخناس، لأنه إذا ذكر الله، خنس أي انقبض. وقيل : المراد بذلك الكواكب السيارة دون الثابتة.
قوله :﴿ الجوار الكنّس ﴾ أي تجري في فلكها. والكنّس، جمع كانس وكانسة. يقال : كنس إذا دخل الكناس وهو مقر الوحش، وتقول العرب : أوى الظبي إلى كناسه إذا تغيب فيه. والكانس، الظبي يدخل في كناسه وهو موضعه في الشجر يكتنّ فيه ١.
والمراد النجوم الخمسة التي تخنس في مجراها وتكنس، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار وهو الكناس.
١ مختار الصحاح ص ٥٨٠..
قوله :﴿ والليل إذا عسعس ﴾ يقسم الله بالليل إذا عسعس. أي أدبر بظلامه. وقيل : عسعس من الأضداد. فيقال : عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس الليل إذا أدبر.
قوله :﴿ والصبح إذا تنفّس ﴾ يقسم الله بالصبح إذا تنفس يعني إذا أسفر ولاح ضوؤه وإشراقه. والتنفس معناه خروج النسيم من الجوف. فإذا أقبل الصبح، أقبل بإقباله روح غامر فياض ونسيم رخيّ كريم. وجيء هنا بحرف السين الهامس الخافت ليناسب إقبال الصبح بنوره الساطع وإشراقه المضيء، والكون حينئذ هاجع وادع ساكن. وفي ذلك من حلاوة النغم وعذوبة البيان بحروفه الحلوة الشجية ما يدل على أن هذا الكلام، معجز وفذ.
قوله :﴿ إنه لقول رسول كريم ﴾ وهذا جواب القسم. والمراد بالرسول الكريم، جبريل. وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم. والأول أظهر. ويدل على هذا قوله :﴿ ذي قوة عند ذي العرش مكين ﴾.
قوله :﴿ ذي قوة عند ذي العرش مكين ﴾ وقوة جبريل عظيمة فهو الذي قلع مدائن قوم لوط ثم جعل عاليها سافلها ﴿ عند ذي العرش مكين ﴾ منزلته عند الله مكينة فهو ذو مكانة عالية ودرجة رفيعة.
قوله :﴿ مطاع ثم أمين ﴾ ثم، ظرف. فجبريل مطاع في ملائكة الله المقربين، إذ يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه. وقد وصفه بأنه أمين أي مؤتمن على الوحي والرسالة.
قوله :﴿ وما صاحبكم بمجنون ﴾ المراد بصاحبهم محمد صلى الله عليه وسلم أي ليس محمد بمجنون كما يتهمه السفهاء والحمقى.
قوله :﴿ ولقد رآه بالأفق المبين ﴾ أي رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل ( عليه الصلاة والسلام ) في صورته الهائلة ﴿ بالأفق المبين ﴾ أي بمطلع الشمس من المشرق.
قوله :﴿ وما هو على الغيب بضنين ﴾ من الضّنّ، وهو البخل. أي لا يبخل محمد بالوحي فيخفي بعضه ولا يبلغه، أو يسأل عنه فلا يذكره. وقرأها آخرون " بظنين " من الظنة وهي التهمة. أي ليس محمد بمتهم.
قوله :﴿ وما هو بقول شيطان رجيم ﴾ يعني ما هذا القرآن بقول شيطان لعين طريد مسترق للسمع في السماء. ولكنه تنزيل من رب العالمين.
قوله :﴿ فأين تذهبون ﴾ يعني أين تعدلون عن هذا القرآن بنظمه الكريم الباهر ومضمونه الرفيع الظاهر.
قوله :﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين ﴾ يعني ما هذا القرآن إلا موعظة وعبرة لسائر العباد ليتدبروه ويعوه وينتفعوا به.
قوله :﴿ لمن شاء منكم أن يستقيم ﴾ أي يستقيم على طريق الحق والسداد فيتبعه ويقيم عليه.
قوله :﴿ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ﴾ يعني ما تشاءون الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله لكم ذلك. وبذلك لا يعمل العبد من خير إلا بتوفيق الله ولا يعمل من شر إلا بخذلانه١.
١ تفسير الطبري جـ ٣٠ ص ٤٦- ٥٤ والكشاف جـ ٤ ص ٢٢٥، ٢٢٦ وتفسير القرطبي جـ ١٩ ص ٢٤٠- ٢٤٤ وتفسير الرازي جـ ٣١ ص ٧٤- ٧٦..
Icon