مكية في قول الجمهور وقال علي بن أبي طلحة مدنية وآيها اثنتان وثلاثون آية في الحجازي وثلاثون في الكوفي والشامي وتسع وعشرون في البصري ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وجوه يومئذ خاشعة ووجوه يومئذ ناعمة أتبعه تعالى بذكر الطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها يا أيتها النفس المطمئنة وأيضا فيها ما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها وقال الجلال السيوطي لم يظهر لي في وجه ارتباطها سوى أن أولها كالأقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها أو على ما بضمنته من الوعد والوعيد هذا مع أن جملة ألم تر كيف فعل ربك مشابهة لجملة أفلا ينظرون وها كما ترى
ﰡ
مكية في قول الجمهور. وقال علي بن أبي طلحة: مدنية وآيها اثنتان وثلاثون آية في الحجازي، وثلاثون في الكوفي والشامي، وتسع وعشرون في البصري. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ [الغاشية: ٣] ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ [الغاشية: ٨] أتبعه تعالى بذكر الطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة، وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: ٢٧] وأيضا فيها مما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها. وقال الجلال السيوطي: لم يظهر لي في وجهه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها أو على ما يتضمنه من الوعد والوعيد هذا مع أن جملة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفجر: ٦] مشابهة لجملة أَفَلا يَنْظُرُونَ [الغاشية: ١٧] وها كما ترى.
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: ١٨] فالمراد به الفجر المعروف كما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس وابن الزبير وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. وقيل: المراد عموده وضوءه الممتد وأصله شق الشيء شقا واسعا، وسمي الصبح فجرا لكونها فاجرا لليل وهو كاذب لا يتعلق به حكم الصوم والصلاة وصادق به يتعلق حكمهما وقد تكلموا في سبب كل بما يطول وتقدم بعض منه، ولعل المراد به هنا الصادق فهو أحرى بالقسم به والمراد عند كثير جنس الفجر لا فجر يوم مخصوص. وعن ابن عباس ومجاهد فجر يوم النحر، وعن عكرمة فجر يوم الجمعة، وعن الضحاك فجر ذي الحجة، وعن مقاتل فجر ليلة جمع. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قال: هو فجر المحرم فجر السنة، وروي نحوه عن قتادة وعن الحبر أيضا أنه النهار كله. وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال: يعني صلاة الفجر وروي نحوه عن زيد بن أسلم فهو إما على تقدير مضاف أو على إطلاقه على الصلاة مجازا وهو شائع. وقيل: المراد فجر العيون من الصخور وغيرها وَلَيالٍ عَشْرٍ هن العشر الأولى من الأضحى كما أخرج الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس، وروي عن ابن الزبير ومسروق ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم وأخرج ذلك أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبزار وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر يرفعه، ولها من الفضل ما لها.
وقد أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أيام فيهن العمل أحب إلى الله عز وجل وأفضل من أيام العشر» قيل:
يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل جاهد في سبيل الله بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء»
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهن العشر الأواخر من رمضان. وروي أيضا عن الضحاك بل زعم التبريزي الاتفاق على أنهن هذه العشر وأنه لم يخالف فيه أحد واستدل له بعضهم بالحديث المتفق على صحته.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا دخل العشر- تعني العشر الأواخر من رمضان- شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله
وتعقبه بعضهم بأن ذلك محتمل لأن يحظى عليه الصلاة والسلام بليلة القدر لأنها فيها لا لكونه العشر المرادة هنا. وعن ابن جريج أنهن العشر الأول من رمضان، وعن يمان وجماعة أنهن العشر الأول من المحرم وفيها يوم عاشوراء وقد ورد في فضله ما ورد.
أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال: قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما هذا اليوم الذي تصومونه» ؟ قالوا: يوم عظيم أنجى الله تعالى فيه موسى وأغرق آل فرعون فيه، فصامه موسى عليه السلام شكرا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فنحن أحق بموسى منكم» فصامه صلّى الله عليه وسلم وأمر بصيامه
وصح في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة «من كان أصبح صائما فليتمّ يومه، ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه» فكان الصحابة بعد ذلك يصومونه ويصوّمونه صبيانهم الصغار ويذهبون بهم إلى المسجد ويجعلون لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه إياها حتى يكون الإفطار
وأخرج أحمد وغيره عن الحبر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما وبعده يوما»
وجاء في الأمر بالتوسعة فيه على العيال عدة أحاديث ضعيفة لكن قال البيهقي هي وإن كانت ضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أحد قوة وأيّا ما كان فتنكيرها للتفخيم وقل للتبعيض لأنها بعض ليالي السنة أو الشهر والتفخيم أولى. قيل: ولولا قصد ما ذكر كان
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ هما على ما في حديث جابر المرفوع الذي أشرنا إليه فيما تقدم يوم النحر ويوم عرفة.
وقال الطيبي: روينا عن الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال: «الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» ثم قال: «هذا هو التفسير الذي لا محيد عنه» انتهى. وقد رواه عن عمران أيضا عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم
وصححه، لكن في البحر أن حديث جابر أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين ووراء ذلك أقوال كثيرة، فأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: «أقسم ربنا بالعدد كله منه الشفع ومنه الوتر» وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه قال «الخلق كله شفع ووتر فأقسم سبحانه بخلقه» وأخرج ابن المنذر وجماعة عنه أنه قال: الله تعالى الوتر وخلقه سبحانه الشفع الذكر والأنثى» وروي نحوه عن أبي صالح ومسروق وقرآ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات:
٤٩] وقيل: المراد شفع تلك الليالي ووترها، وقيل الشفع أيام عاد والوتر لياليها. وقيل: الشفع أبواب الجنة والوتر أبواب النار وقيل غير ذلك. وقد ذكر في كتاب التحرير والتحبير مما قيل فيهما ستا وثلاثين قولا وفي الكشاف: قد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه. وقال بعض الأفاضل: لا إشعار للفظ الشفع والوتر بتخصيص شيء مما ذكروه وتعيينه بل هو إنما يدل على معنى كلّي متناول لذلك، ولعل من فسّرهما بما فسرهما لم يدع الانحصار فيما فسر به بل أفرد بالذكر من أنواع مدلولهما ما رآه أظهر دلالة على التوحيد أو مدخلا في الدين أو مناسبة لما قبل أو لما بعد أو أكثر منفعة موجبة للشكر أو نحو ذلك من النكات، وإذا ثبت من الشارع عليه الصلاة والسلام تفسيرهما ببعض الوجوه فالظاهر أنه ليس مبنيا على تخصيص المدلول بل وارد على طريق التمثيل بما رأى في تخصيصه بالذكر فائدة معتدا بها فحينئذ يجوز للمفسر أن يحمل اللفظ على بعض آخر من محتملاته لفائدة أخرى انتهى.
وهو ميل إلى أن أل فيهما للجنس لا للعهد، والظاهر أن ما تقدم من الحديثين من باب القطع بالتعيين دون التمثيل لكن يشكل أمر التوفيق بينهما حينئذ وإذا صح ما قال في البحر كان المعول عليه حديث جابر رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقرأ حمزة والكسائي والأغر عن ابن عباس وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن بخلاف عنه «والوتر» بكسر الواو وهي لغة تميم والجمهور على فتحها وهي لغة قريش وهما لغتان كالحبر والحبر بمعنى العالم على ما قال صاحب المطلع في الوتر المقابل للشفع وأما في الْوَتْرِ بمعنى الترة أي الحقد فالكسر هو المسموع وحده والأصمعي حكى فيه أيضا اللغتين وقرأ يونس عن أبي عمرو بفتح الواو وكسر التاء وهو إما لغة أو نقل حركة الواو في الوقف لما قبلها.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي يمضي كقوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: ٣٣] واللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التكوير: ١٧] والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة ووجه الشبه كالنهار وإِذا على ما صرح به العلامة
إن الطيور على أمثالها تقع وهذا كما قيل في قوله تعالى ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: ٢٨] أنه لما عدل عن باغية أسقطت منه التاء ولم يقل بغية، ومثله من بدائع اللغة العربية ويمكن التعليل بنحوه على تفسير يَسْرِ بيمضي لما فيه من العدول عن الظاهر في المعنى أيضا علمت من أنه مجاز في ذلك. وقرأ أبو الدينار الأعرابي و «الفجر» و «الوتر» و «يسر» بالتنوين في الثلاثة. قال ابن خالويه: هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على أواخر القوافي بالتنوين وإن كانت أفعالا أو فيها أل نحو قوله:
أقلي اللوم عاذل والعتابن | وقولي إن أصبت لقد أصابن |
مجدا تليدا بناه أوله | أدرك عادا وقبلها إرما |
وآخرين ترى الماذي عدتهم | من نسج داود أو ما أورثت إرما |
أخوه في الضعف بل لم تصح روايته كما ذكره الحافظ ابن حجر فهو موضوع كخبر ابن قلابة. وروي عن مجاهد أن إِرَمَ مصدر أرم يأرم إذا هلك، فأرم بمعنى هلاك منصوب على نحو نصب المصدر التشبيهي مضاف إلى ذاتِ والَّتِي صفة ل ذاتِ الْعِمادِ مرادا بها المدينة وكيف فعل في قوة كيف أهل فكأنه قيل: ألم تر كيف أهلك ربك عادا كهلاك ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وهو قول غريب غير قريب. وقرأ الحسن «يعاد رام» بإضافة عاد إلى إرم فجاز أن يكون إرم جدا والوصفان لعاد، وأن يكون مدينة والوصفان لازم وجوز أن يكون لعاد. وقرأ ابن الزبير «بعاد أرم» بالإضافة أيضا إلّا أن أرم بفتح الهمزة وكسر الراء، قيل: وهي لغة في المدينة لا غير. وعن الضحاك أنه قرأ «بعاد» مصروفا وغير مصروف «أرم» بفتح الهمزة وسكون الراء للتخفيف وأصله أرم كفخذ. وقرىء «إرم ذات» بإضافة إرم إلى ذات فقيل الإرم عليه العلم والمعنى بعاد أعلام ذات العماد وهي مدينتهم، والَّتِي صفة ل ذاتِ الْعِمادِ على الأظهر. وعن ابن عباس أنه قرأ «أرم» بالتشديد فعلا ماضيا ذات بالنصب على المفعول به أي جعل الله تعالى ذات العماد رميما، ويكون أرم على ما في البحر بدلا من فعل أو تبيينا له، والمراد بذات العماد عليه إما عاد نفسها ويكون فيه وضع المظهر موضع المضمر والنكتة فيه ظاهرة، وإما مدينتهم ويكون جعلها رميما أي إهلاكها كناية عن جعلهم كذلك. وقرأ ابن الزبير «لم يخلق» مبنيا للفاعل وهو ضميره عز وجل مثلها بالنصب على المفعولية، وعنه أيضا «لم نخلق» بنون العظمة.
ولا رأيت قلوصا قبلها حملت | ستين وسقا ولا جابت بها بلدا |
أحارث إنا لو تساط دماؤنا | تزايلن حتى لا يمس دم دما |
وقوله تعالى فَأَمَّا الْإِنْسانُ إلخ متصل بما عنده كأنه قيل إنه سبحانه لبالمرصاد من أجل الآخرة فلا يطلب عز وجل إلّا السعي لها، فأما الإنسان فلا يهمه إلّا الدنيا ولذاتها، فإن نال منها شيئا رضي الله وإلّا سخط وكان اللائق أن لا يهمه إلا ما يطلبه الله عز وجل ولا يكون حاله ذلك. وقيل: هو متصل به متفرع عليه على معنى فالإنسان يؤاخذ لا محالة لأنه بين غنى مهلك موجب للتكبر والافتخار بالدنيا، وبين فقر لا يصبر عليه ويكفر لأجله بالجزع والقول بما لا ينبغي وهو كما ترى إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار ليرى هل يشكر أم لا. والفاء في قوله سبحانه فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ تفسيرية فإن الإكرام والتنعيم عين المراد بالابتلاء، ولما كان الإكرام والتنعيم في حكم شيء واحد اقتصر على قوله أَكْرَمَنِ في قوله سبحانه فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ولم يضم إليه ونعمتي. وهذه الجملة خبر للمبتدأ الذي هو الإنسان، والفاء لما في أما من معنى الشرط والظرف أعني إذا متعلق بيقول وهو على نية التأخير ولا تمنع الفاء من ذلك كما صرح به الزمخشري وغيره من متقدمي النحاة وتبعهم من بعدهم كأبي حيان والسمين والسفاقسي مع جمع غفير من المفسرين، وهو كما قال الشهاب الحق الذي لا محيد عنه، وخالفهم في ذلك الرضي ومن تبعه كالبدر الدماميني في شرح المغني، فقالوا: إنما يجوز تقديم ما بعد الفاء عليها إذا كان المقدم هو الفاصل بين أما والفاء لما يتعلق بتقديمه من الأغراض فإن كان ثمت فاصل آخر امتنع تقديم غيره فيمتنع أما زيد طعامك فآكل وإن جاز أما طعامك فزيد آكل، وقالوا في ذلك أنهم لما التزموا حذف الشرط لزم دخول أداته على فاء الجواب وهو مستكره فدعت الضرورة للفصل بينهما بشيء مما بعد الفاء والفاصل الواحد كاف فيه فيجب الاقتصار عليه. وزعم الجلبي محشي المطول أن هذا متفق عليه فرد به على المفسرين إعرابهم السابق وقال إنه خطأ، والصواب أن يجعل الظرف متعلقا بمقدر وهو ابتدأ في الحقيقة، والتقدير فأما شأن الإنسان إذا إلخ. فالظرف
تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وهو فرار من السحاب إلى الميزاب وذهب أبو البقاء إلى أن إِذا شرطية وقوله تعالى فَيَقُولُ جوابها والجملة الشرطية خبر الإنسان ويلزمه حذف الفاء بدون القول وقد قيل إنه ضرورة. وقوله عز وجل وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ عامله معاملة من يبتليه ويختبره بالحاجة والفقر ليرى هل يصبر أم لا فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ بتقدير وأما هو أي الإنسان إذا ما ابتلاه إلخ ليصح التفصيل ويتم التوازن، وبقية الكلام فيه كما في سابقه. والظاهر أن كلتا الجملتين متضمنة لإنكار قول الإنسان الذي تضمنته وإنكار قوله إذا ضيق عليه رزقه رَبِّي أَهانَنِ لدلالته على قصور نظره وسوء فكره حيث حسب أن تضييق الرزق إهانة مع أنه قد يؤدي إلى كرامة الدارين ولعدم كونه إهانة أصلا لم يقل سبحانه في تفسير الابتلاء فأهانه «وقدر عليه رزقه» نظير ما قال سبحانه أولا فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ وإنكار قوله إذا أكرم ربي أكرمني مع قوله تعالى فَأَكْرَمَهُ أولا من حيث إنه أثبت إكرام الله تعالى له على خلاف ما أثبت الله تعال وهو قصد أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا ومستوجبا قصدا جاريا على ما كانوا عليه من افتخارهم وزعمهم جلالة أقدارهم. والحاصل أن المنكر كونه عن استحقاق لحسب أو نسب في المفصل ما يدل على أن أصل الإكرام منكر لا كونه عن استحقاق، وإنكار أصل الإهانة يعضده. ووجهه ما أثبته تعالى من الإكرام أن الله عز وجل أثبت الإكرام بإيتاء المال والتوسعة وهو جعله إكراما كليا مثبتا للزلفى عنده تعالى فأنكر أنه ليس من ذلك الإكرام في شيء، وجوز أن يكون الإنكار للإهانة فقط يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله تعالى وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس به قيل، ويعضده ذكر الإكرام في قوله تعالى فَأَكْرَمَهُ وفي الآية مع ما بعد شمة من أسلوب قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: ١٩- ٢١] ولا يخفى أن الوجه هو الأول. وقرأ ابن كثير «أكرمني» و «أهانني» بإثبات الياء فيهما ونافع بإثباتها وصلا وحذفها وقفا وخير في الوجهين أبو عمرو وحذفها باقي السبعة فيهما وصلا ووقفا من حذفها وقفا سكن النون فيه. وقرأ أبو جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه وابن عامر «فقدّر» بتشديد الدال للمبالغة.
كَلَّا ردع للإنسان عن قوليه المحكيين وتكذيب له فيهما لا عن الأخير فقط كما في الوجه الأخير، وقد نص الحسن على ما قلنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المعنى لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ بل ذلك لمحض القضاء والقدر. وقوله سبحانه بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ إلخ انتقال وترق من ذمه بالقبيح من القول إلى الأقبح من الفعل والالتفات إلى الخطاب لتشديد التقريع وتأكيد التشنيع.
وقيل: هو بتقدير قل فلا التفات. نعم فيه من الإشارة إلى تنقيصهم ما فيه والجمع باعتبار معنى الإنسان إذ المراد هو الجنس أي بل لكم أفعال وأحوال أشد شرا مما ذكر وأدل على تهالككم على المال حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة به والإحسان إليه.
وفي الحديث «أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه يتيم مكرم».
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو
وزعم أبو حيان أن الأولى أن يراد به الشيء المطعوم، ويكون الكلام على حذف مضاف أي على بذل طعام المسكين، والمراد بالمسكين ما يعم الفقير. وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن عليّ وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي كقراءة الجماعة إلّا أنهم ضموا تاء «تحاضون» من المحاضة. وقرأ أبو عمرو ومن سمعت الحسن ومن معه «ولا يحضون» بياء الغيبة ولا ألف بعد الحاء، وباقي السبعة بتاء الخطاب كذلك وكذا الفعلان بعد والفعل على القراءتين جوز أن يكون متعديا ومفعوله محذوف. فقيل أنفسهم أو أنفسكم، وقيل أهليهم أو أهليكم، وقيل أحدا. وجوز وهو الأولى أن يكون منزلا منزلة اللازم للتعميم. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أي الميراث وأصله وارث فأبدلت الواو تاء كما في تخمنة وتكأة ونحوهما أَكْلًا لَمًّا أي ذا لمّ أو هو نفس اللم على المبالغة واللم الجمع، ومنه قوله النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه... على شعث أي الرجال المهذب
والمراد به هنا الجمع بين الحلال والحرام وما يحمد وما لا يحمد، ومنه قول الحطيئة:
إذا كان لما يتبع الذم ربه... فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا
يعني إنكم تجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم. ويروى أنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا صغار الأولاد فيأكلون نصيبهم. ويقولون: لا يأخذ الميراث إلّا من يقاتل ويحمي الحوزة هذا وهم يعلمون من شريعة إسماعيل عليه السلام أنهم يرثون فاندفع ما قيل إن السورة مكية وآية المواريث مدنية ولا يعلم الحل والحرمة إلّا من الشرع، فإن الحسن والقبح العقليين ليسا مذهبا لنا. وقيل يعني تأكلون ما جمعه الميت الموروث من حلال وحرام عالمين بذلك فتلمون في الأكل بين حلاله وحرامه. وفي الكشاف يجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا واسعا جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ونحوها كما يفعله الورّاث الباطلون، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي كثيرا كما قال ابن عباس وأنشد قول أمية:
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك لا ألما
والمراد أنكم تحبونه مع حرص وشره كَلَّا ردع لهم عن ذلك وقوله تعالى إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا إلى آخره استئناف جيء به بطريق الوعيد تعليلا للردع. والدك قال الخليل: كسر الحائط والجبل ونحوها وتكريره للدلالة على الاستيعاب فليس الثاني تأكيد للأول بل ذلك نظير الحال في نحو قولك: جاؤوا رجلا رجلا، وعلمته الحساب بابا بابا أي إذا دكت الأرض دكا متتابعا حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور وغيرها حين زلزلت المرة بعد المرة وصارت هباء منثورا. وقال المبرد: الدك حط المرتفع بالبسط والتسوية، واندكّ سنام البعير إذا افترش في ظهره، وناقة دكّاء إذا كانت كذلك، والمعنى عليه إذا سويت تسوية بعد تسوية ولم يبق على وجهها شيء حتى صارت كالصخرة الملساء، وأيّا ما كان فهو على ما قيل عبارة عما عرض للأرض عند النفخة الثانية وَجاءَ رَبُّكَ قال منذر بن سعيد: معناه ظهر سبحانه للخلق هنالك وليس ذلك بمجيء نقلة وكذلك مجيء الطامة والصاخة. وقيل: الكلام على حذف المضاف للتهويل، أي وجاء أمر ربك وقضاؤه سبحانه واختار جمع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى وتبين آثار قدرته
فقد أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها». وفي رواية بزيادة «حتى تنصب عن يسار العرش لها تغيظ وزفير»
وجاء في بعض الآثار أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فناجاه ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلاة والسلام منكسر الطرف فسأله عليّ كرم الله وجهه تعالى فقال صلّى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام بهذه الآية كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ الآية. فقال له عليّ كرم الله تعالى وجهه: كيف يجاء بها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يقوده سبعون ألف ملك، فبينما هم كذلك إذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلولا أنهم أدركوها فأخذوها لأحرقت من في الجمع»
وفي رواية لولا أن الله تعالى حسبها لأحرقت السماوات والأرض،
وتأويل كل ما ذكر ونحوه مما ورد وحمله على المجاز لا يدعو إليه إلا استحالة الانتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي على جهنم وهو لعمري غير مستحيل، فيجوز أن تخرج وتنتقل من محلها في المحشر ثم تعود إليه، والحال في ذلك اليوم وراء ما تتخيله الأذهان.
يَوْمَئِذٍ بدل من إِذا دُكَّتِ وظاهر كلام الزمخشري أن العامل فيه هو العامل نفسه في المبدل منه أعني قوله تعالى يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وهو قول قد نسب إلى سيبويه. وفي البحر المشهور خلافه وهو أن البدل على نية تكرار العامل والظاهر عندي الأول ويتذكر من الذكر ضد النسيان أي يتذكر الإنسان ما فرط فيه بتفاصيله بمشاهدة آثاره وأحكامه، أو بإحضار الله تعالى إياه في ذهنه وإخطاره له وإن لم يشاهد بعد أثرا أو بمعاينة عينه بناء على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة فتبرز بما يناسبها من الصور حسنا وقبحا أو من التذكر بمعنى الاتعاظ، أي يتعظ بما يرى من آثار قدرة الله عز وجل وعظيم عظمته تعالى وشأنه. وقوله تعالى وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى اعتراض جيء به لتحقيق أنه ليس بتذكر حقيقة لعرائه عن الجدوى لعدم وقوعه في أوانه وأَنَّى خبر مقدم والذِّكْرى مبتدأ ولَهُ متعلق بما تعلق به الخبر، أي ومن أين تكون له الذكرى وقد فات أوانها، وقيل: هناك مضاف محذوف أي وأنى له منفعة الذكرى ولا بد من تقديره لئلا يكون تناقض وقد علمت أن هذا يتحقق بما قرر أولا على أنه إذا جعل اختصاص اللام مقتصرا على النافع استقام من غير تقدير، ويكون إنكار أن تكون الذكرى له لا عليه. وأما كونه حكاية لما كان عليه في الدنيا من عدم الاعتبار والاتعاظ فليس بشيء. واستدل بالآية على أن التوبة من حيث هي توبة غير واجبة القبول عقلا كما زعم
فَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ الهاء إما لله عز وجل أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه أحد سواه عز وجل وكأنه قيل: لا يفعل عذاب الله تعالى ووثاقه ولا يباشرهما أحد، وذلك لأن الفعل في ضمن كل فعل خاص واستعمل ذلك استعمالا شائعا في مثل:
وقد حيل بين العير والنزوان وإن نظن إلّا ظنا فالعذاب مفعول به وكذا الوثاق، وفيه تعظيم عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه لهذا الإنسان الذي شرح من أحواله ما شرح على طريق الكناية. فما ادعاه ابن الحاجب من عدم قوة المعنى على تقدير عود الضمير إليه تعالى بناء على فوات التعظيم الذي يقتضيه السياق للغفول عن نكتة الكناية، وإما للإنسان الموصوف والإضافة إلى المفعول أي لا يعذب ولا يوثق أحد من الزبانية أحدا من أهل النار مثل ما يعذبونه ويوثقونه كأنه أشدهم عذابا ووثاقا لأنه أشدهم سيئات أفعال وقبائح أحوال وهو وجه حسن بل هو أرجح من الأول على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو: «لا يعذب» «ولا يوثق» بالبناء للمفعول فالهاء في عذابه ووثاقه للإنسان الموصوف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب إما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلخ حكاية لأحوال من اطمأن بذكر الله تعالى وطاعته عز وجل إثر حكاية من اطمأن بالدنيا وسكن إليها. وذكر أن على إرادة القول أي يقول الله تعالى يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ إلخ. إما بالذات كما كلم سبحانه موسى عليه السلام أو على لسان الملك واستظهر أن ذل القول عند تمام الحساب.
ولينظر التفاوت ما بين ذلك الإنسان وهذه النفس ذاك يقول يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي وهذه يقول الله تعالى لها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلخ وكأنه للإيذان بغاية التباين لم يذكر القول وتعطف الجملة على الجملة السابقة. والنفس قيل بمعنى الذات ووصفت بالاطمئنان بذلك لأنها لترقى بقوتها العاقلة في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر بالذات جلت صفاته وأسماؤه فتضطرب وتقلق قبل الوصول إلى معرفته تعالى، فإذا وصلت إليه عز وجل اطمأنت واستغنت به سبحانه عن وجودها وسائر شؤونها ولم تلتفت إلى ما سواه جل وعلا بالكلية وقيل: هي النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك ما ولا يمازجها سخونة اضطراب القلب في الحق أصلا وهو وجه حسن والارتباط عليه أن هذه النفس هي المتعظة الذاكرة على خلاف الإنسان الموصوف فيما قبل فإن التذكر على قدر قوة اليقين، ألا ترى إلى قوله تعالى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ٩] وقيل هي الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن يوم القيامة، أعني النفس المؤمنة اليوم المتوفاة على الإيمان. وأيد بقراءة أبيّ يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة وكأنه لأن الوصفين يعتبر تناسبهما في الأكثر وهي على هذا تقابل السابق وهو المتحسر والمتحزن. وقرأ زيد بن علي «يا أيها» بغير تاء وذكر صاحب البديع أن أيا قد تذكر مع المنادى المؤنث قيل ولذلك وجه من القياس وذلك أنها كما لم تثن ولم تجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث، واعتبار النفس هاهنا مذكرة ثم مؤنثة مما لا تلتفت إليه النفس المطمئنة ارْجِعِي أي من حيث حوسبت إِلى رَبِّكِ أي إلى محل عنايته تعالى وموقف كرامته عز وجل لك أولا وهذا لأن للسعداء قبل الحساب كما يفهم من الأخبار موقفا في المحشر مخصوصا يكرمهم الله تعالى به لا يجدون فيه ما يجده غيرهم في مواقفهم من النصب، ومنه ينادي الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب اقبضي أن يكون المعنى ما ذكر الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب اقبضي أن يكون المعنى ما ذكر ويجوز أن يكون المعنى ارجعي بتخلية القلب عن الأعمال والالتفات إليها والاهتمام بأمرها أتقبل أم لا، أي إلى
فَادْخُلِي فِي عِبادِي في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم وَادْخُلِي جَنَّتِي عطف على الجملة قبلها داخلة معها في حيّز الفاء المفيدة لكون ما بعدها عقيب ما قبلها من غير تراخ وكأن الأمر بالدخول في جملة عباد الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح، والأمر بدخول الجنة إشارة إلى السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول وجيء بالثاني على وجه التتميم. ونكتة الالتفات فيهما ظاهرة بأدنى التفات.
وتعدى الدخول أولا بفي وثانيا بدونها قال أبو حيان: لأن المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الاستعمال بفي، تقول: دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس وإذا كان ظرفا حقيقيا تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل. وقيل المراد ارجعي إلى موعد ربك واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون القول المذكور بعد تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون مع عباده تعالى الصالحين والفاء تفسيرية، واستشكل عليه الأمر بالرجوع إذ يقتضي أن تكون الجنة مقرا للنفس قبل ذلك، وأجيب بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودها بالقوة في ظهر آدم عليه السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: ٨٥] على ما
روي عن أمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون مكة
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يتم إلّا على القول بأن جنة آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا جنة أخرى كانت في الأرض، والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على من راجع كتاب مفتاح السعادة للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة الطرفين. وقيل: المراد ارجعي إلى أمر ربك، واستظهر أن المراد بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الرجوع، وقيل: المراد ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقبل الحساب في نوع منه والفاء عليه قيل تفسيرية أيضا. وعن عكرمة والضحاك أن ذلك القول عند البعث، فقيل النفس بمعنى الذات أيضا، والمراد بالرب هو الله عز وجل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر محل كرامته تعالى مرادا به
أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن جبير قال: قرئت عند النبي صلّى الله عليه وسلم يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الآية فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إن هذا لحسن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما إن الملك سيقولها لك عند الموت» وجاء نحو هذا من رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن الصديق رضي الله تعالى عنه
. والنفس عليه بمعنى الروح والمعنى على ما قيل ارجعي بالموت إلى عالم قدس ربك راضية بما تؤتين من النعيم أو راضية عن ربك مرضية عنده تعالى، فادخلي في زمرة عبادي المقربين سكنة حظائر القدس، وادخلي جنتي التي أعددتها لذوي النفوس المطمئنة، وهذان الدخولان يعقبان الرجوع إلّا أن الدخول الأول يعقبه بلا تراخ قبل يوم القيامة، والثاني يعقبه بتراخ لأنه يوم القيامة إن أريد الدخول الجنة دخولها على وجه الخلود إلا أن الأمر لتحققه يجوز تعقيبه بالفاء، وجوز أن يكون تعقيب الأمرين على هذا النمط إن أريد بالدخول في عبادة تعالى انتظامها في سلك العباد الصالحين المخلصين من جنسها، ويجوز على إرادة هذا التعقيب أن يراد فادخلي في أجساد عبادي. وجوز أن يكون تعقيب الأمرين بلا تراخ إن أريد بالدخول في العباد الدخول في زمرة المقربين من سكنة حظائر القدس وبالدخول في الجنة الدخول لا على وجه الخلود بل لنوع من التنعم إلى أن تقوم الساعة،
ففي الحديث أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور في الجنة
وفي بعض الآثار إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة
أي نصف جنته التي وعد دخولها يوم القيامة وذكر في وجه إدخالها مع الأرواح القدسية كالمرايا المصقولة فإذا انضم بعضها إلى بعض تعاكست أشعة أنوار المعارف فيظهر لكل منها ما يكملها فيكون سببا أنها لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات وهو عندي كلام خطابي، وعن بعض السلف ما يؤيد بعض هذه الأوجه.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح أنه قال في الآية ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ هذا عنوان الموت، ورجوعها إلى ربها خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها ادخلي في عبادي وادخلي جنتي وقيل: إن هذا القول بعد الموت وقبل القيامة، والمراد برجوعها إلى ربها رجوعها إلى جسدها لسؤال الملكين. أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية إن المؤمن إذا مات أري منزله من الجنة فيقول تبارك وتعالى: يا أيتها النفس المطمئنة عندي ارجعي إلى جسدك الذي خرجت منه راضية بما رأيت من ثوابي مرضيا عنك حتى يسألك منكر ونكير، وقيل إنه في مواطن ثلاثة. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية: بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع وتفسر عليه بما ينطبق على الجميع. وقيل: يجوز أن يكون ذلك في سائر أوقات النفس في حياتها الدنيا والمراد بالأمر بالرجوع إلى الرب الأمر بالرجوع إليه تعالى في كل أمر من الأمور، والمراد بالأمر بالدخول في العباد الأمر بالدخول في زمرة العباد الخلص الذي ليس للشيطان عليهم سلطان بالإكثار من العمل الصالح، وبالأمر بالدخول في الجنة الأمر بالدخول فيها بالقوة القريبة فكأنه سبحانه بعد أن بالغ جل وعلا في سوء حال الامارة
أخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: «اللهم إني أسألك نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك»