تفسير سورة البينة

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة البينة من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
سورة البينة
مدنية، وآياتها ثمان.

سُورَةُ الْبَيِّنَةِ مَكِّيَّةٌ (١) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) ﴾
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وَهْمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، ﴿وَالْمُشْرِكِينَ﴾ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ [مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ] :(٢) زَائِلِينَ مُنْفَصِلِينَ، يُقَالُ: فَكَكْتُ الشَّيْءَ فَانْفَكَّ، أَيِ: انْفَصَلَ، ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ لَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي، أَيْ: حَتَّى أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ، يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ لَهُمْ [ضَلَالَاتِهِمْ] (٣) وَجَهَالَتَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ آمَنَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ حَتَّى أَتَاهُمُ الرَّسُولُ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَآمَنُوا فَأَنْقَذَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ. ثُمَّ فَسَّرَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو﴾ يَقْرَأُ ﴿صُحُفًا﴾ كُتُبًا، يُرِيدُ مَا يَتَضَمَّنُهُ الصُّحُفُ مِنَ الْمَكْتُوبِ فِيهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْلُو عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ لَا عَنِ [الْكِتَابِ] (٤)، قَوْلُهُ: ﴿مُطَهَّرَةً﴾ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالزُّورِ. ﴿فِيهَا﴾ أَيْ فِي الصُّحُفِ، ﴿كُتُبٌ﴾ يَعْنِي الْآيَاتِ وَالْأَحْكَامِ الْمَكْتُوبَةِ فِيهَا، ﴿قَيِّمَةٌ﴾ عَادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ غَيْرُ ذَاتِ عِوَجٍ.
﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) ﴾
ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ:
(١) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة (لم يكن) بالمدينة، انظر: الدر المنثور: ٨ / ٥٨٥.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٣) في "ب" ضلالتهم.
(٤) في "ب" كتاب.
493
﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ أَيِ الْبَيَانُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ مُجْتَمِعِينَ فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِ واختلفوا، فآمن ١٩٨/أبِهِ بَعْضُهُمْ، وَكَفَرَ آخَرُونَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ "مُنْفَكِّينَ": هَالِكِينَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: انْفَكَّ [صَلَا] (١) الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ فَلَا يَلْتَئِمُ فَتَهْلِكُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَمْ يَكُونُوا هَالِكِينَ مُعَذَّبِينَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا أُمِرُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ فَقَالَ: ﴿وَمَا أُمِرُوا﴾ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا [بِالْإِخْلَاصِ فِي] (٢) الْعِبَادَةِ لِلَّهِ مُوَحِّدِينَ، ﴿حُنَفَاءَ﴾ مَائِلِينَ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ الْمَكْتُوبَةَ فِي أَوْقَاتِهَا، ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ عِنْدَ مَحَلِّهَا، ﴿وَذَلِكَ﴾ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، ﴿دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ أَيِ الْمِلَّةُ وَالشَّرِيعَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ. أَضَافَ الدِّينَ إِلَى الْقَيِّمَةِ وَهِيَ نَعْتُهُ، لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، وَأَنَّثَ "الْقَيِّمَةَ" رَدًّا بِهَا إِلَى الْمِلَّةِ.
وَقِيلَ: الْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: "الْقَيِّمَةُ" هِيَ الْكُتُبُ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا، أَيْ وَذَلِكَ دِينُ الْكُتُبِ الْقَيِّمَةِ فِيمَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَتَأْمُرُ بِهِ، كَمَا قَالَ: "وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ" (الْبَقَرَةِ ٢١٣).
قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ عَنْ قَوْلِهِ: "وَذَلِكَ دِينُ الْقِيمَةِ"؟ فَقَالَ: "الْقَيِّمَةُ":
(١) وسط الظهر منا ومن كل ذي أربع.
(٢) في "ب" بإخلاص.
496
جَمْعُ الْقَيِّمِ، والقِّيمُ وَالْقَائِمُ وَاحِدٌ، وَمَجَازُ الْآيَةِ: وَذَلِكَ دِينُ الْقَائِمِينَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) ﴾
﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨) ﴾
ثُمَّ ذَكَرَ مَا لِلْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ "الْبَرِيئَةِ" بِالْهَمْزَةِ فِي الْحَرْفَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ مُشَدَّدًا بِغَيْرِ هَمْزٍ كَالذَّرِيَّةِ تُرِكَ هَمَزُهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ وَتَنَاهَى عَنِ الْمَعَاصِي.
وَقِيلَ: الرِّضَا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: رِضًا بِهِ وَرِضًا عَنْهُ، فَالرِّضَا بِهِ: رَبًّا وَمُدَبِّرًا، وَالرِّضَا عَنْهُ: فِيمَا يَقْضِي وَيُقَدِّرُ.
قَالَ السُّدِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا كُنْتَ لَا تَرْضَى عَنِ اللَّهِ فَكَيْفَ تَسْأَلُهُ الرِّضَا عَنْكَ؟
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا" قَالَ: وَسَمَّانِي؟ قَالَ: "نَعَمْ" فَبَكَى (١).
وَقَالَ هُمَامٌ عَنْ قَتَادَةَ: "أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ" (٢).
(١) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة البينة - ٨ / ٧٢٥.
(٢) أخرجه البخاري في الموضع السابق، وفي فضائل أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باب مناقب أبي بن كعب، ومسلم في صلاة المسافرين، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل والحذق فيه.. برقم: (٧٩٩) : ١ / ٥٥٠.
Icon