تفسير سورة الأنبياء

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن الفرس . المتوفي سنة 595 هـ
هي مكية وفيها مواضع من الأحكام ١.
١ "من الأحكام" كلام ساقط في غير (أ)، (ز). وقد أوصلها ابن الفرس إلى ثلاث آيات..

قوله تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث.... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وعلما ﴾ :
تفسير ما جاء في هذه الآية أن داود عليه السلام كان من بني إسرائيل وكان يحكم بين الناس فوقعت بين يديه هذه النازلة وكان ابنه سليمان إذ ذاك قد كبر، وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم ١، وكانوا يدخلون من باب ويخرجون من آخر. فتخاصم إلى داود عليه السلام رجلان : أحدهما : له زرع ٢ وقيل له كرم ٣ ويقال لهما جميعا حرث والآخر : له غنم. وذكر صاحب الحرث أن غنم صاحبه دخلت حرثه فأفسدته عليه فرأى داود أن يدفع صاحب الغنم غنمه إلى صاحب الحرث. واختلف الناس هنا. فقال بعضهم على أن يبقى حرثه بيده. وقال آخرون بل دفع صاحب الغنم غنمه إلى صاحب الحرث ودفع صاحب الحرث حرثه إلى صاحب الغنم. فلما خرج الخصمان على سليمان تشكى صاحب الغنم. فجاء سليمان إلى داود فقال : يا نبي الله إنك حكمت بكذا وكذا، وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع. فقال وما هو ؟ قال : أن يدفع إلى صاحب الزرع الغنم ليصيب من ألبانها وأصوافها حتى يعود الزرع كما كان. وقيل إنه قال أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل وغير ذلك، وإذا عاد الحرث إلى هيئته صرف كل واحد مال صاحبه. فقال داود : وفقت يا بني. وقضى بينهما بذلك٤ واختلف هل حكم كل واحد منهما باجتهاد أو بتوقيف ووحي. فذهب الجمهور إلى أن حكمهما إنما كان عن اجتهاد. قال بعضهم : اجتهد داود فلم يصب الأشبه وأصابه سليمان. وقال آخرون بل أخطأ خطأ مغفورا له ٥. وذهب قوم إلى أنه عن توقيف ووحي، منهم ابن فورك، وحمل قوله تعالى :﴿ ففهمناها سليمان ﴾ أي فهمناه القضاء الفاصل الذي أراد الله تعالى أن يستقر في النازلة ٦. وعلى هذا يكون ٧ حكم سليمان ناسخا لحكم داود على حقيقة النسخ. وهذا تأويل بعيد، بل الأولى أن يحمل على ظاهره من أنه فهمها الله تعالى سليمان فحكم فيها برأيه. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلاف الأصوليين في جواز تعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالاجتهاد. فمنهم من أجازه ومنهم من منعه ٨ وأما الوقوع فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال : قال به قوم وعلى ذلك يحملون الآية، ونفاه آخرون وتأولوا الآية على مذهبهم، وتوقف قوم إذ لم يثبت فيه قاطع. واختلف الأصوليون هل كل مجتهد في المسائل الضمنية مصيب أم لا اختلافا كثيرا. فذهب قوم إلى أن كل مجتهد مصيب وأنه ليس في الواقعة حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتعين بالظن. وإليه ذهب القاضي ٩. وذهب قوم إلى أن كل مجتهد مصيب إلا أنهم رأوا في النازلة المحكوم فيها حكما معينا يتوجه إليه الطلب إذ لا بد للطلب من مطلوب، لكن لم يكلف المجتهد إصابته فبذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين، بمعنى أنه أدى ما كلف وأصاب ما عليه. وذهب قوم إلى أن المصيب واحد وأن في الواقعة حكما معينا. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا القول بعد ذلك في الدليل على ذلك الحكم اختلافا كثيرا ليس هذا بموضع ذكره، ومن أبين ما يحتجون به هذه الآية لأنه تعالى قال :﴿ ففهمناها سليمان ﴾، قالوا يدل على اختصاص سليمان بإدراك الحق وأن الحق واحد. فأجابت المصوبة ١٠ عن هذا بأجوبة لا يتبين الانفصال بها ١١ منها، وإن قال بل الآية على نقيض مذهبكم ١٢ أدل لأنه تعالى قال :﴿ وكلا آتينا حكما وعلما ﴾، والباطل والخطأ لا يكون حكما. ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله سبحانه وأنه الحكم والعلم الذي أنزل الله عز وجل لا سيما في معرض المدح والثناء. فإن قيل فما معنى قوله تعالى :﴿ ففهمناها سليمان ﴾ فالجواب عن ذلك من وجهين : أحدهما : أن يقال لا يلزمنا ذكر ذلك بعد أن أبطلنا نسبة الخطأ إلى داود. والثاني : أن يقال معناه أنه فهم الحكم الذي هو أرجح في النازلة. ومنها أنه يحتمل أنهما كانا مأذونا لهما في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان. ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان، فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي على سليمان بخلافها لكن لنزوله على سليمان أضيف إليه. ويتعين تنزيل ذلك على الوحي إذا قد نقل المفسرون أن سليمان حكم بأن تسلم الماشية إلى صاحب الزرع حتى ينتفع بدرها ونسلها وصوفها حولا كاملا. وهذا إنما يكون حقا وعدلا إذا علم أن الحاصل منه في جميع السنة يساوي ما تلف على صاحب الزرع، وذلك لا يدركه علام الغيوب ولا يدرك بالاجتهاد. ويتعلق بهذه ١٣ الآية رجوع الحاكم بعض قضائه إلى ١٤ اجتهاد آخر أرجح منه، فإن داود عليه السلام قد فعل ذلك في هذه النازلة. وقد اختلف في ذلك، فقال مطرف وابن الماجشون ذلك له ما دام في ولايته، وهو ظاهر قول مالك. وقال سحنون وابن عبد الحكم ليس له ذلك إذا وافق قولا. وقال أشهب إن كان ذلك في مال فله نقض الأول وإن في نكاح أو طلاق أو عتق فليس له نقضه. وحجة القول الأول الآية، وما كان من داود من الرجوع ١٥.
– وقوله تعالى :﴿ إذ نفشت فيه غنم القوم ﴾ :
النفش بالليل، والهمل بالنهار وقيل في الليل والنهار. وقد رأى بعضهم أن هذه الآية اقتضت تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار وكذلك سائر الدواب. قال لأن النفش لا يكون إلا بالليل ١٦. وهذه مسألة قد اختلف فيها عندنا على أقوال : أحدها : أن كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن ليلا كان أو نهارا يضمن قيمة ما أفسدت كائنا ما كان، وإلى نحو هذا ذهب عطاء. والثاني : أن ١٧ صاحبها ضامن ليلا كان ١٨ أو نهارا ولا يضمن أكثر من قيمة الدابة وهو قول الليث بن سعد. والثالث : أنه ضامن لما أصابت بالليل ما عدا الدماء ولا يضمن ما أصابت بالنهار وهو قول مالك والشافعي. والرابع : أنه غير ضامن ما أصابت ١٩ ليلا كان أو نهارا وهو قول أبي حنيفة والثوري في أحد قوليه. والخامس : أنه يضمن بالليل دون النهار في الحيطان المخطرة، وأما غير المخطرة فيضمن أرباب الغنم ما أفسدت من ليل أو نهار، وهذا القول في كتاب ابن سحنون. والسادس الفرق بين الأموال والدماء. وضعف أبو الوليد الباجي الحجة بالآية على تضمين أرباب المواشي بالليل، قال : لأنه لو كان في الآية التصريح بالحكم أنه ضمن أهل الماشية التي نفشت لم يكن نفي الحكم بذلك في الراعية بالنهار إلا من دليل الخطاب وليس عندي ذلك دليل صحيح، فكيف والآية لم تتضمن تفسير الحكم ولا ثبوته وإنما فسر ذلك أقوال تفسير ولا حجة فيها. وحجة مالك في التضمين بالليل دون النهار الآية. وقد جاء في الحديث ما يعضدها وذلك أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحائط حفظها بالنهار وإنما ما أفسدت المواشي بالليل مضمون٢٠ على أهلها. وعن الزهري أن شاة وقعت في كرى حائط فاختصموا إلى شريح، فقال الشعبي : انظروا ليلا وقعت فيه أو نهارا، فإن كان بالليل ضمن صاحبها وإن كان بالنهار لم يضمن ثم قرأ :﴿ إذ نفشت فيه غنم القوم ﴾، فالآية على هذا في التضمين لما أفسدت الماشية بالليل محكمة جاريا على أحكام شرعنا. واحتج من لم ير التضمين ليلا كان أو نهارا بقوله عليه الصلاة والسلام : " جرح العجماء جبار " ٢١ وحملوه على العموم ورأوه ناسخا للآية. وهذا القول ضعيف من أوجه : أحدها : أنه لا يصح النسخ إلا على القول بأن شريعة من قبلنا لازمه لنا. والثاني : أنه لا يصح النسخ إلا على القول بجواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة، ومن يسلم أن هذا الحديث متواتر. والثالث : أنه قد يمكن الجمع بين الآية والحديث فلم يضطر إلى النسخ وذلك أن الحديث عام يحتمل الخصوص، فيحتمل أن يريد بذلك فيما ليس على صاحب العجماء حفظها منه. فأما ما على صاحبها حفظها منه ثم أصابته فليس بجبار. وأما صفة التضمين الذي جاء في قصص الآية فمنها ما يحتمل أن يخرج على شرعنا، وذلك ما قضى به داود من أن ٢٢ الغنم لصاحب الزرع، فيحتمل أن تكون قيمة الزرع على الرجاء والخوف مثل قيمة الغنم أو أكثر ولا مال لصاحب الغنم غيرها، فلذلك قضى بها لصاحب الزرع. وأما تضمين سليمان فليس بخارج عن مألوف شرعنا. وحكا أبو الحسن أن الحسن صار إلى مثل ما حكم به سليمان من أن تدفع الغنم إلى صاحب الزرع ليصيب من ألبانها وأصوافها حتى يعود الزرع كما كان. قال وإنما صار إلى ذلك إذ لم ير في شرعنا ناسخا مقطوعا به عنده٢٣.
١ "الخصوم" كلمة ساقطة في (أ)..
٢ قاله قتادة. راجع أحكام القرآن لابن العربي ٣/ ١٢٥٤..
٣ قاله ابن مسعود وشريح. راجع الجامع لأحكام القرآن ١١/ ٣٠٧..
٤ راجع القصة في المحرر الوجيز ١١/ ١٥٠، وفي الجامع لأحكام القرآن ١١/ ٣٠٦..
٥ ذكره الكيا الهراسي في أحكام القرآن ٤/ ٢٥٧..
٦ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ١١/ ١٥٠..
٧ "يكون" كلمة ساقطة في (ب)، (هـ)..
٨ قال الفخر الرازي: احتج الجبائي على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء عليهم السلام بأمور... راجع القول في التفسير الكبير ٢٢/ ١٩٦. وقال ابن عاشور:.... وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام. راجع التحرير والتنوير ١٧/ ١١٧..
٩ من قوله: "فذهب قوم... إلى قوله: ذهب القاضي" كلام ساقط في (ب)، (ح)، (هـ)..
١٠ "المصوبة" كلمة ساقطة في (ب)..
١١ "بها" كلمة ساقطة في (هـ)..
١٢ في (ج)، (ح): "مذهبهم"..
١٣ "بهذه" كلمة ساقطة في (ج)، (ح)..
١٤ في غير (أ)، (ز): "في"..
١٥ راجع مختلف هذه الأقوال في أحكام القرآن لابن العربي ٣/ ١٢٥٤، ١٢٥٥، وفي المحرر الوجيز ١١/ ١٥٠ – ١٥٤، وفي الجامع لأحكام القرآن ١١/ ٣٠٩ – ٣١٣..
١٦ قال ابن العربي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت بالنهار.... وقال الليث يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار. راجع أحكام القرآن لابن العربي ٣/ ١٢٥٦..
١٧ "أن" ساقط في (أ)، (ب)، (ح)..
١٨ " كان" ساقط في (ب)، (ج)، (ح)، (هـ)..
١٩ من قوله: "بالليل.... إلى: ما أصبت" كلام ساقط في (ح)..
٢٠ في غير (أ)، (ز): "ضامن"..
٢١ الحديث أخرجه النسائي عن أبي هريرة. كتاب الزكاة، باب: المعدن ٥/ ٤٥..
٢٢ "أن" ساقط في غير (أ)، (ز)..
٢٣ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢٧٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٨:قوله تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث.... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وعلما ﴾ :
تفسير ما جاء في هذه الآية أن داود عليه السلام كان من بني إسرائيل وكان يحكم بين الناس فوقعت بين يديه هذه النازلة وكان ابنه سليمان إذ ذاك قد كبر، وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم ١، وكانوا يدخلون من باب ويخرجون من آخر. فتخاصم إلى داود عليه السلام رجلان : أحدهما : له زرع ٢ وقيل له كرم ٣ ويقال لهما جميعا حرث والآخر : له غنم. وذكر صاحب الحرث أن غنم صاحبه دخلت حرثه فأفسدته عليه فرأى داود أن يدفع صاحب الغنم غنمه إلى صاحب الحرث. واختلف الناس هنا. فقال بعضهم على أن يبقى حرثه بيده. وقال آخرون بل دفع صاحب الغنم غنمه إلى صاحب الحرث ودفع صاحب الحرث حرثه إلى صاحب الغنم. فلما خرج الخصمان على سليمان تشكى صاحب الغنم. فجاء سليمان إلى داود فقال : يا نبي الله إنك حكمت بكذا وكذا، وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع. فقال وما هو ؟ قال : أن يدفع إلى صاحب الزرع الغنم ليصيب من ألبانها وأصوافها حتى يعود الزرع كما كان. وقيل إنه قال أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل وغير ذلك، وإذا عاد الحرث إلى هيئته صرف كل واحد مال صاحبه. فقال داود : وفقت يا بني. وقضى بينهما بذلك٤ واختلف هل حكم كل واحد منهما باجتهاد أو بتوقيف ووحي. فذهب الجمهور إلى أن حكمهما إنما كان عن اجتهاد. قال بعضهم : اجتهد داود فلم يصب الأشبه وأصابه سليمان. وقال آخرون بل أخطأ خطأ مغفورا له ٥. وذهب قوم إلى أنه عن توقيف ووحي، منهم ابن فورك، وحمل قوله تعالى :﴿ ففهمناها سليمان ﴾ أي فهمناه القضاء الفاصل الذي أراد الله تعالى أن يستقر في النازلة ٦. وعلى هذا يكون ٧ حكم سليمان ناسخا لحكم داود على حقيقة النسخ. وهذا تأويل بعيد، بل الأولى أن يحمل على ظاهره من أنه فهمها الله تعالى سليمان فحكم فيها برأيه. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلاف الأصوليين في جواز تعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالاجتهاد. فمنهم من أجازه ومنهم من منعه ٨ وأما الوقوع فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال : قال به قوم وعلى ذلك يحملون الآية، ونفاه آخرون وتأولوا الآية على مذهبهم، وتوقف قوم إذ لم يثبت فيه قاطع. واختلف الأصوليون هل كل مجتهد في المسائل الضمنية مصيب أم لا اختلافا كثيرا. فذهب قوم إلى أن كل مجتهد مصيب وأنه ليس في الواقعة حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتعين بالظن. وإليه ذهب القاضي ٩. وذهب قوم إلى أن كل مجتهد مصيب إلا أنهم رأوا في النازلة المحكوم فيها حكما معينا يتوجه إليه الطلب إذ لا بد للطلب من مطلوب، لكن لم يكلف المجتهد إصابته فبذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين، بمعنى أنه أدى ما كلف وأصاب ما عليه. وذهب قوم إلى أن المصيب واحد وأن في الواقعة حكما معينا. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا القول بعد ذلك في الدليل على ذلك الحكم اختلافا كثيرا ليس هذا بموضع ذكره، ومن أبين ما يحتجون به هذه الآية لأنه تعالى قال :﴿ ففهمناها سليمان ﴾، قالوا يدل على اختصاص سليمان بإدراك الحق وأن الحق واحد. فأجابت المصوبة ١٠ عن هذا بأجوبة لا يتبين الانفصال بها ١١ منها، وإن قال بل الآية على نقيض مذهبكم ١٢ أدل لأنه تعالى قال :﴿ وكلا آتينا حكما وعلما ﴾، والباطل والخطأ لا يكون حكما. ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله سبحانه وأنه الحكم والعلم الذي أنزل الله عز وجل لا سيما في معرض المدح والثناء. فإن قيل فما معنى قوله تعالى :﴿ ففهمناها سليمان ﴾ فالجواب عن ذلك من وجهين : أحدهما : أن يقال لا يلزمنا ذكر ذلك بعد أن أبطلنا نسبة الخطأ إلى داود. والثاني : أن يقال معناه أنه فهم الحكم الذي هو أرجح في النازلة. ومنها أنه يحتمل أنهما كانا مأذونا لهما في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان. ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان، فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي على سليمان بخلافها لكن لنزوله على سليمان أضيف إليه. ويتعين تنزيل ذلك على الوحي إذا قد نقل المفسرون أن سليمان حكم بأن تسلم الماشية إلى صاحب الزرع حتى ينتفع بدرها ونسلها وصوفها حولا كاملا. وهذا إنما يكون حقا وعدلا إذا علم أن الحاصل منه في جميع السنة يساوي ما تلف على صاحب الزرع، وذلك لا يدركه علام الغيوب ولا يدرك بالاجتهاد. ويتعلق بهذه ١٣ الآية رجوع الحاكم بعض قضائه إلى ١٤ اجتهاد آخر أرجح منه، فإن داود عليه السلام قد فعل ذلك في هذه النازلة. وقد اختلف في ذلك، فقال مطرف وابن الماجشون ذلك له ما دام في ولايته، وهو ظاهر قول مالك. وقال سحنون وابن عبد الحكم ليس له ذلك إذا وافق قولا. وقال أشهب إن كان ذلك في مال فله نقض الأول وإن في نكاح أو طلاق أو عتق فليس له نقضه. وحجة القول الأول الآية، وما كان من داود من الرجوع ١٥.
– وقوله تعالى :﴿ إذ نفشت فيه غنم القوم ﴾ :
النفش بالليل، والهمل بالنهار وقيل في الليل والنهار. وقد رأى بعضهم أن هذه الآية اقتضت تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار وكذلك سائر الدواب. قال لأن النفش لا يكون إلا بالليل ١٦. وهذه مسألة قد اختلف فيها عندنا على أقوال : أحدها : أن كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن ليلا كان أو نهارا يضمن قيمة ما أفسدت كائنا ما كان، وإلى نحو هذا ذهب عطاء. والثاني : أن ١٧ صاحبها ضامن ليلا كان ١٨ أو نهارا ولا يضمن أكثر من قيمة الدابة وهو قول الليث بن سعد. والثالث : أنه ضامن لما أصابت بالليل ما عدا الدماء ولا يضمن ما أصابت بالنهار وهو قول مالك والشافعي. والرابع : أنه غير ضامن ما أصابت ١٩ ليلا كان أو نهارا وهو قول أبي حنيفة والثوري في أحد قوليه. والخامس : أنه يضمن بالليل دون النهار في الحيطان المخطرة، وأما غير المخطرة فيضمن أرباب الغنم ما أفسدت من ليل أو نهار، وهذا القول في كتاب ابن سحنون. والسادس الفرق بين الأموال والدماء. وضعف أبو الوليد الباجي الحجة بالآية على تضمين أرباب المواشي بالليل، قال : لأنه لو كان في الآية التصريح بالحكم أنه ضمن أهل الماشية التي نفشت لم يكن نفي الحكم بذلك في الراعية بالنهار إلا من دليل الخطاب وليس عندي ذلك دليل صحيح، فكيف والآية لم تتضمن تفسير الحكم ولا ثبوته وإنما فسر ذلك أقوال تفسير ولا حجة فيها. وحجة مالك في التضمين بالليل دون النهار الآية. وقد جاء في الحديث ما يعضدها وذلك أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحائط حفظها بالنهار وإنما ما أفسدت المواشي بالليل مضمون٢٠ على أهلها. وعن الزهري أن شاة وقعت في كرى حائط فاختصموا إلى شريح، فقال الشعبي : انظروا ليلا وقعت فيه أو نهارا، فإن كان بالليل ضمن صاحبها وإن كان بالنهار لم يضمن ثم قرأ :﴿ إذ نفشت فيه غنم القوم ﴾، فالآية على هذا في التضمين لما أفسدت الماشية بالليل محكمة جاريا على أحكام شرعنا. واحتج من لم ير التضمين ليلا كان أو نهارا بقوله عليه الصلاة والسلام :" جرح العجماء جبار " ٢١ وحملوه على العموم ورأوه ناسخا للآية. وهذا القول ضعيف من أوجه : أحدها : أنه لا يصح النسخ إلا على القول بأن شريعة من قبلنا لازمه لنا. والثاني : أنه لا يصح النسخ إلا على القول بجواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة، ومن يسلم أن هذا الحديث متواتر. والثالث : أنه قد يمكن الجمع بين الآية والحديث فلم يضطر إلى النسخ وذلك أن الحديث عام يحتمل الخصوص، فيحتمل أن يريد بذلك فيما ليس على صاحب العجماء حفظها منه. فأما ما على صاحبها حفظها منه ثم أصابته فليس بجبار. وأما صفة التضمين الذي جاء في قصص الآية فمنها ما يحتمل أن يخرج على شرعنا، وذلك ما قضى به داود من أن ٢٢ الغنم لصاحب الزرع، فيحتمل أن تكون قيمة الزرع على الرجاء والخوف مثل قيمة الغنم أو أكثر ولا مال لصاحب الغنم غيرها، فلذلك قضى بها لصاحب الزرع. وأما تضمين سليمان فليس بخارج عن مألوف شرعنا. وحكا أبو الحسن أن الحسن صار إلى مثل ما حكم به سليمان من أن تدفع الغنم إلى صاحب الزرع ليصيب من ألبانها وأصوافها حتى يعود الزرع كما كان. قال وإنما صار إلى ذلك إذ لم ير في شرعنا ناسخا مقطوعا به عنده٢٣.
١ "الخصوم" كلمة ساقطة في (أ)..
٢ قاله قتادة. راجع أحكام القرآن لابن العربي ٣/ ١٢٥٤..
٣ قاله ابن مسعود وشريح. راجع الجامع لأحكام القرآن ١١/ ٣٠٧..
٤ راجع القصة في المحرر الوجيز ١١/ ١٥٠، وفي الجامع لأحكام القرآن ١١/ ٣٠٦..
٥ ذكره الكيا الهراسي في أحكام القرآن ٤/ ٢٥٧..
٦ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ١١/ ١٥٠..
٧ "يكون" كلمة ساقطة في (ب)، (هـ)..
٨ قال الفخر الرازي: احتج الجبائي على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء عليهم السلام بأمور... راجع القول في التفسير الكبير ٢٢/ ١٩٦. وقال ابن عاشور:.... وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام. راجع التحرير والتنوير ١٧/ ١١٧..
٩ من قوله: "فذهب قوم... إلى قوله: ذهب القاضي" كلام ساقط في (ب)، (ح)، (هـ)..
١٠ "المصوبة" كلمة ساقطة في (ب)..
١١ "بها" كلمة ساقطة في (هـ)..
١٢ في (ج)، (ح): "مذهبهم"..
١٣ "بهذه" كلمة ساقطة في (ج)، (ح)..
١٤ في غير (أ)، (ز): "في"..
١٥ راجع مختلف هذه الأقوال في أحكام القرآن لابن العربي ٣/ ١٢٥٤، ١٢٥٥، وفي المحرر الوجيز ١١/ ١٥٠ – ١٥٤، وفي الجامع لأحكام القرآن ١١/ ٣٠٩ – ٣١٣..
١٦ قال ابن العربي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت بالنهار.... وقال الليث يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار. راجع أحكام القرآن لابن العربي ٣/ ١٢٥٦..
١٧ "أن" ساقط في (أ)، (ب)، (ح)..
١٨ " كان" ساقط في (ب)، (ج)، (ح)، (هـ)..
١٩ من قوله: "بالليل.... إلى: ما أصبت" كلام ساقط في (ح)..
٢٠ في غير (أ)، (ز): "ضامن"..
٢١ الحديث أخرجه النسائي عن أبي هريرة. كتاب الزكاة، باب: المعدن ٥/ ٤٥..
٢٢ "أن" ساقط في غير (أ)، (ز)..
٢٣ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٢٧٥..

قوله تعالى :﴿ ويدعوننا رغبا ورهبا ﴾ :
اختلف في معناه. فقيل رجاء وخوفا، وهو قول الجمهور. وقال بعضهم الرغب أن ترفع بطون الأكف نحو السماء والرهب أن ترفع ظهورها. وفي الآية على هذا القول دليل على جواز رفع الأيدي في الدعاء. وقد اختلف في ذلك، وقد مر الكلام على هذا المعنى فلا معنى لإعادته. والله الموفق لا رب سواه ١.
١ "والله الموفق لا رب سواه" كلام ساقط في غير (أ)، (ز)..
Icon