تفسير سورة سورة التكوير من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحداد اليمني
.
المتوفي سنة 800 هـ
ﰡ
﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ ؛ أي لُفَّتْ كما تُلَفُّ العمامةُ، يقال : كوَّرتُ العمامةَ على رأسِي أكُورُهَا وكَوَّرْتُهَا تَكْوِيراً إذا لفَفتُها، وقال الكلبيُّ ومقاتل :((كُوِّرَتْ أيْ ذهَبَ ضَوءُهَا)). وقال مجاهدُ :((اضْمَحَلَّتْ)). وقال المفسِّرون : تُجمَعُ الشمسُ بعضُها إلى بعضٍ، ثم تُلَفُّ فيُرمَى بها في النار، ويقالُ : نعوذُ باللهِ من الْحَوْر بعدَ الكَوْر ؛ أي من التشتُّتِ بعدَ الأُلفَةِ، ومِن النُّقصان بعد الزِّيادةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴾ ؛ أي تساقَطت وتناثرَت، يقالُ : انكدرَ الطائرُ في الهواءِ إذا انقَضَّ، قال الكلبيُّ وعطاء :((تُمْطِرُ السَّمَاءُ يُوْمَئِذٍ نُجُوماً، فَلاَ يَبْقَى نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ إلاَّ وَقَعَ عَلَى الأَرْضِ)) وذلك أنَّ النجومَ كالقناديلِ معلَّقةٌ بسَلاسل من نورٍ بأيدي ملائكةٍ من نور، فإذا ماتَ الملائكةُ تساقَطت تلك السَّلاسل من أيدِيهم فتنكَدِرُ النجومُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ ؛ أي تسيرُ على وجهِ الأرض كما يسيرُ السَّحاب، فتصيرُ هَباءً مُنبَثّاً.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴾ ؛ العِشَارُ : هي النُّوقُ الحواملُ إذا أتَتْ عليها عشرةُ أشهُرٍ وبقيَ شَهران، فهي أحسَنُ ما يكون في الإبلِ وأعزُّها على أهلِها، وليس يعطِلُها أهلُها إلاَّ في حالةِ الشدَّة العظيمةِ، واحدُها عِشْراً وليس في القيمةِ عِشَارٌ، ولكنْ هذا على وجهِ التَّمثيل حتى لو كان الرجلُ يومئذ عَشَّاراً لعطَّلها واشتغلَ بنفسهِ، ونظيرهُ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ ﴾[الحج : ٢]، ومعنى (عُطِّلَتْ) أي تُرِكَتْ هَملاً بلا راعٍ لِمَا جاءَهم من أهوالِ يوم القيامةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ ؛ الوحوشُ : جمعُ الوَحْشِ، وهو ما يأوي إلى الفَلَوَاتِ، وينفِرُ عن الناسِ، وقولهُ تعالى ﴿ حُشِرَتْ ﴾ أي جُمعت حتى يَقْتَصَّ بعضُها من بعضٍ، وقال ابنُ عبَّاس :((حَشْرُ الْبَهَائِمِ مَوْتُهَا)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ ؛ قرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير مخفَّفاً، وقرأ الباقون بالتشديد، ومعناه واحدٌ ؛ أي وإذا البحارُ مُلِئَتْ وفُجِّرَ بعضُها في بعضٍ، ثم صُيِّرت بَحراً واحداً. وقال بعضُهم : أُحمِيَتْ من قولهم : سَجَرْتُ التَّنورَ إذا أحميتَهُ.
والمراد بالبحار على هذا القولِ بحَارٌ في جهنَّم تُملأ من الحميمِ لتعذيب أهلِ النار. وفي الحديثِ :" أنَّ اللهَ تَعَالَى يُفْنِي مَاءَ هَذِهِ الْبحَار " كما رُوي أن البحارَ كلها تسيلُ حتى تبلغَ إلى الثور الذي على قَرنه الأرضون، فإذا بلغَته فتحَ فاهُ فابتلعَها كلَّها، فإذا وقعت المياهُ كلها في جوفهِ يَبست، فلا يُرى منها قطرةٌ بعدَ ذاكَ!
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ ؛ أي رُدَّت الأرواحُ إلى أجسادِها، فقُرنت كلُّ روحٍ إلى جسدِها، وسُئل عمر رضي الله عنه عن ذلكَ فقالَ :((مَعْنَاهُ : يُقْرَنُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، وَيُقْرَنُ الرَّجُلُ السُّوءُ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ فِي النَّار، فَذلِكَ تَزْويجُ النَّفْسِ)) ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾[الصافات : ٢٢] وقُرَنَاءَهُمْ.
وقال عطاءُ : زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بالْحُور الْعِين، وَقُرِنَتْ نُفُوسُ الْكُفَّار بالشَّيَاطِينِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً ﴾[النساء : ٣٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ﴾ ؛ قال الفرَّاءُ :((سُئِلَتِ الْمَوْءُدَةُ فَقِيلَ لَهَا :﴿ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ﴾ )) ومعنى سُؤالها توبيخُ قاتِلها، لا يقولُ : قَتلتُ بغيرِ ذنبٍ. والموءودَةُ : المقتولَةُ بثِقَلِ التُّراب الذي يطرحُ عليها، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾[البقرة : ٢٥٥] أي لا يثقلُ حفظُ عليه السَّموات والأرضِ، وكانت العربُ تَئِدُ البناتِ من أولادها حيَّةً ؛ كَيلا يُخطَبْنَ إليهم، ومخافةَ الإملاقِ كما قالَ تعالى﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ﴾[الإسراء : ٣١].
قال المفسِّرون : هي الْمَوْءُدَةُ المقتولَةُ المدفونَةُ حيَّةً، سُميت بذلك لما يطرحُ عليها من التُّراب فيَؤُودهَا ؛ أي يُثقِلُها حتى تموتَ، قالوا : وكان الرجلُ من العرب إذا وُلِدت له بنتٌ، فإذا أرادَ أن يستبقيها ألبسَها جُبَّة من صُوفٍ ترعَى له الإبلَ والغنمَ، وإذا أرادَ أن يقتُلَها تركَها حتى إذا صارت سُداسيَّةً ثم يقولُ لأُمِّها : طيِّبيهَا وزَيِّنيها حتى أذهبَ بها إلى بيتِ أقَاربها، وقد حفرَ لها بئراً في الصَّحراء، فإذا بلغَ البئرَ قال لها : انظُرِي إلى هذا البئرِ فيدفَعُها من خلفِها في البئرِ، ثم يُهِيلُ عليها الترابَ حتى يُسوِّيَها بالأرضِ.
قال قتادةُ :((كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ أحَدُهُمُ ابْنَتَهُ وَيَغْذُو كَلْبَهُ)). ويجوز أنْ يكون معنى سُئِلَتْ : طَلَبَتْ من قاتِلها لِمَ قتلَها كما تقولُ : سألتُ حقِّي من فلانٍ إذا أخذتَهُ وطلبتَ حقَّكَ منه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾ ؛ أرادَ به ديوَانَ الحسناتِ والسيِّئات، وذلك أنَّهُ إذا ماتَ ابنُ آدمَ طُويت صَحيفتهُ على مقدار عمله، فإذا كان يومُ القيامةِ نُشِرَتْ وأُعطِيَ كلُّ واحدٍ منهم صحيفتَهُ على مراتبهم، فينبغِي لكلِّ عاقلٍ أن يذكُرَ حالةَ الطَّيِّ في آخرِ عُمره، وحالةَ النشرِ يومَ القيامةِ، ويجتهدُ أن يَملِي صحيفتَهُ في حياتهِ من الطَّاعاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ ﴾ ؛ أي نُزعت عن أماكنِها فطُوِيَتْ كما يُكشَطُ الغطاءُ عن الشَّيءِ، وقال الزجَّاجُ :((قُلِعَتْ كَمَا يُقْلَعُ السَّقْفُ))، ومعنى الكَشْطِ رفعُ الشيءِ عن شيءِ قد غطَّاهُ، كما يُكشَطُ الجلدُ عن الشَّاةِ. وفي قراءةِ ابن مسعودٍ (قُشِطَتْ) بالقافِ، والمعنى واحدٌ. ويقالُ : معنى الكشطِ أن ينْزَعَ عنها ما فيها من الشَّمسِ والقمر والنجومِ، يقال كَشَطْتُ الحرفَ عن البياضِ إذا قَلَعْتُهُ ومَحوتُه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴾ ؛ أي أُوقِدَتْ للكافرِين والمنافقين، قرأ نافعُ بالتشديدِ ؛ أي أُوقِدَتْ مرَّةً بعد مرَّةٍ، وزيدَ في وقُودِها وشدَّة لَهبها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴾ ؛ أي أُدْنِيَتْ من المتَّقين وقُرِّبت لهم، ودنَا دخولُهم إياها، كما قالَ في آيةٍ أُخرى﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[ق : ٣١] ومن ذلك الْمُزْدَلِفَةُ لِقُربها من عرفات.
وقولهُ تعالى :﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ ﴾ ؛ جوابهُ هذه الأشياء، يقولُ : إذا كانت هذه الأشياءُ التي تكون في القيامةِ عَلمت ذلك الوقت كلُّ نفسٍ ما أحضَرتْهُ من خيرٍ أو شرٍّ تُجزَى بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ﴾ ؛ معناه أقسِمُ برب الْخُنَّسِ، و(لاَ) في هذا الموضعِ مؤكِّدَةٌ زائدةٌ، وقوله تعالى :﴿ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ﴾ ؛ أي الجاريةُ في الأفلاكِ، وتَخْنُسُ في مَجراها ؛ أي ترجعُ إلى مَطالعِها في سَيرها، ثم تستَتِرُ عند غُروبها، فتغيبُ في الموضعِ التي تغيبُ فيها كما تُكنِسُ الظِّبَاءُ بأن تستترُ في كنَاسِها.
والْخَنْسُ : هو التأخُّر، ومنه الْخَنْسُ في الأنفِ تَأَخُّرهُ في الوجهِ، يقال : رجلٌ أخْنَسُ والمرأة خَنْسَاءٌ، وسُمي الأَخْنَسُ بن شَريف بهذا الاسم لتأخُّره عن يومِ بدرٍ عن أصحابهِ. ومنه الْخَنَّاسُ وهو الشيطانُ ؛ لأنه يغيبُ عن أعيُن الناسِ. والْخُنَّسُ : جمعُ خَانِسٍ، وهي النجومُ الخمسة : زُحَلُ والمشترِي والمرِّيخُ والزُّهرة وعطاردُ، تجرِي في الأفلاكِ وتَخْنُسُ في مجرَاها ؛ أي ترجعُ إلى مجرَاها في سيرها.
ورُوي : أنَّ رَجُلاً مِنْ خَثْعَمَ جَاءَ إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا الْخُنَّسُ ؟ قَالَ :((ألَسْتَ رَجُلاً عَرَبيّاً؟!)) قَالَ : بَلَى، وَلَكِنْ أكْرَهُ أنْ أُفَسِّرَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ مَا أُنْزِلَ ؟، فَقَالَ :((الْخُنَّسُ هِيَ النُّجُومُ الْخَمْسَةُ : الزُّهْرَةُ وَالْمُشْتَرِي وَبَهْرَامُ وَعَطَاردُ وزُّحَلُ)).
فَقَالَ : مَا الْكُنَّسُ ؟ قَالَ :((مُسْتَقَرُّهُنَّ إذا انْقَبَضْنَ، وَهُنَّ الْجَوَاري تَخْنُسُ خُنُوسَ الْقَمَرِ، يَرْجِعْنَ وَرَاءَهُنَّ وَلاَ يَقْدُمْنَ كَمَا يَقْدُمُ النُّجُومُ، وَلَيْسَ مِنْ نَجْمٍ غَيْرُهُنَّ إلاَّ يَطْلُعُ، ثُمَّ يَجْزِي حَتَّى يَقْطَعَ الْمَجَرَّةَ)). وَقِيْلَ : معنى خُنُوسِها أنَّها تستترُ بالنَّهار فتخفَى، وتنكسُ في وقت غُروبها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴾ ؛ أي إذا أقبلَ بظَلامهِ، وَقِيْلَ : إذا أدبرَ بظَلامهِ. والعَسُّ : طلبُ الشَّيء بالليلِ، ومنه العَسَسُ، ويقالُ : عَسْعَسَ الليلُ إذا أقبلَ، وعَسْعَسَ إذا أدبرَ، وهو مِن الأضدادِ، إلاّ أنَّ ما بعدَ هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ المرادَ به أدبرَ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾ ؛ أي إذا امتدَّ ضَوؤهُ حتى يصيرَ نَهاراً بيِّناً، ومنه تنَفَّسَ الصُّّعَدَاءَ، ومنه امتدادُ نَفَسِ الخوفِ بالخروج من الأنفِ والفمِ.
ثم ذكرَ جوابَ القسَمِ فقال :
قال تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ ؛ يعني القرآنَ أتَى به جبريلُ عليه السلام من عندِ الله وهو رسولٌ كريمٌ، فقرأهُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾ ؛ يعني جبريلَ عليه السلام ذي قوَّة فيما كُلِّفَ وأُمِرَ به، ومن قوَّته أنه قَلَبَ قُرى قومِ لوطٍ وهي أربعُ مدائنَ، في كلِّ مدينةٍ أربعمائة ألف مُقاتل سِوَى الذراري، فحمَلَهم من الأرضِ السُّفلى بقوادِمِ جناحهِ، ورفعَها إلى السَّماء حتى سَمِعَ أهلُ السَّماء أصواتَ الدَّجاجِ ونباحَ الكلاب، ثم قلبَها بأمرِ الله فَهَوَتْ بهم، كلُّ هذا من غيرِ كُلفَةٍ لَحِقَتْهُ.
قًوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾ عند خالقِ العرش ومالكِهِ، وَحْيُهُ رفيعُ القدر، يقالُ : فلانٌ مَكِينٌ عند الأمينِ ؛ أي ذُو قدرٍ ومَنْزلةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ ؛ أي مُطاعٍ في السَّموات، يطِيعهُ أهلُ السَّموات بأمرِ الله تعالى، يقالُ : فرضَ طاعتَهُ على أهلِ السَّماء كما فرضَ طاعةَ النبيِّ ﷺ في الأرضِ على أهلِ الأرض. وقوله ﴿ أَمِينٍ ﴾ أي فيما يؤدِّي عن اللهِ إلى أنبيائهِ عليهم السَّلامُ، حَقِيقٌ بالأمانةِ فيه، لم يَخُنْ ولم يَخُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ ؛ يعني محمداً ﷺ والخطابُ لأهلِ مكَّة، وذلك أنَّهم قالوا : إنَّ مُحَمَّداً مَجنونٌ، فأقسمَ اللهُ تعالى أنَّ القرآنَ نزلَ به جبريلُ، وأنَّ مُحَمَّداً ليس بمجنونٍ كما قالوهُ، وفي هذا بيانُ غايةِ جهلِ قريش حيث نسَبُوا أعقلَ خلقِ الله إلى الجنونِ. والمجنونُ في اللغة : هو المغطَّى على عقلهِ لآفةٍ نزَلت بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ ؛ أي ولقد رأى مُحَمَّدٌ جبريلَ بالأُفق الأعلَى وهو مَطلعُ الشَّمسِ الذي يجيءُ منه النهار، وقد تقدَّم في سورةِ النَّجم : أنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبيِّ، وَأنَّ النَّبيَّ ﷺ لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا إلاَّ مَرَّتَيْنِ.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِجِبْرِيلَ :" " إنِّي أُحِبُّ أنْ أرَاكَ فِي صُورَتِكَ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا فِي السَّمَاءِ " قَالَ : لَنْ تَقْوَى عَلَى ذلِكَ، قَالَ :" بَلَى " قَالَ : أيْنَ تَشَاءُ أتَخَيَّلُ لَكَ، قَالَ :" بالأَبْطَحِ " قَالَ : لَنْ يَسَعَنِي، قَالَ :" بمِنَى " قالَ " : لاَ يَسَعُنِي، قَالَ :" بعَرَفَاتٍ " قَالَ : فَهَبَطَ جِبْرِيلُ بعَرَفَات بخَشْخَشَةٍ وَكَلْكَلَةٍ قَدْ مَلأَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغِرِب، وَرَأسُهُ فِي السَّمَاءِ وَرجْلاَهُ فِي الأَرْضِ، فَخَرَّ النَّبيُّ ﷺ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ، فَتَحَوَّلَ جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ وَضَمَّهُ إلَى صَدْرهِ، وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ لاَ تَخَفْ، فَكَيْفَ لَوْ رَأيْتَ إسْرَافِيلَ وَرَأسُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَرجْلاَهُ فِي التُّخُومِ السَّابعَةِ وَالْعَرْشُ عَلَى كَاهِلِهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴾ ؛ قال بعضهم : أرادَ به جبريلَ ليس بمُتَّهَمٍ على تبليغِ الوحي والرسالة ولا تخيَّل، بل هو صادقٌ موثوق به. وقال بعضُهم : أرادَ به النبيَّ ﷺ، والمرادُ بقوله ﴿ عَلَى الْغَيْبِ ﴾ أي على الوحيِ، وقرأ الحسنُ والأعمش وعاصم وحمزة ونافعُ وابن عامر (بضَنِينٍ) بالضادِ، وكذلك هو في مُصحَفِ أُبَيِّ بن كعبٍ، ومعناهُ : وما هو على الغيب ببَخِيلٍ، لا يبخَلُ عليكم، بل يُعلِّمُكم وتُخبرُكم به، تقول العربُ : ضَنِنْتُ بالشَّي بكسرِ النونِ فأنا به ضَنِينٌ ؛ أي بخيلٌ، قال الشاعرُ : أجُودُ بمَضْنُونِ التَّلاَدِ وَإنَّنِي بسِرِّكَ عَمَّنْ سَألَنِي لَضَنِينُوقرأ الباقون بالظَّاء، وهي قراءةُ ابنِ مسعود وعروة بن الزُّبير وعمرَ بن عبدالعزيز، ومعناهُ :(بمُتَّهَمٍ)، والْمَظَنَّةُ التُّهمَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ ؛ هذا ردٌّ على الكفَّار، فإنَّهم كانوا يزعُمون أنَّ النبيَّ ﷺ يأتيه شيطانٌ اسمه الرَّيُ يتزَيَّا له فيُلقيه على لسانهِ، والرَّجِيمُ : اللعينُ الْمَرْجُومُ بالشُّهب. أو المعنى : وما القرآنُ بقولِ شيطان رجيمٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ﴾ ؛ خطابٌ لكفَّار مكة يقولُ : أيَّ طريقٍ تسلُكون أبْيَن من هذا الطريقِ بُيِّنَ لكم، ويقولُ : أين تذهَبُون بقُلوبكم عن معرفةِ ما بيَّن اللهُ لكم من صحَّة نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي ما القرآنُ إلاّ عِظَةٌ بليغةٌ لجميعِ الخلق. وقوله تعالى :﴿ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴾ ؛ أي يتمسَّكَ بطريقةِ الإيمان. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أعلمَ اللهُ أنَّ المشيئةَ والتوفيقَ والخذلان إليه تعالى، ولأنَّهم لا يعلَمُون شيئاً من الخيرِ والشرِّ إلاَّ بمشيئةِ الله.
وقد اختلَفُوا في تفسيرِ هذه الآية على قولَين، قال بعضُهم : هذا القرآنُ ذِكْرٌ لِمَن شاء اللهُ له أن يستقيمَ، وما تشاءون أن تستَقيموا إلاَّ أن يشاءَ اللهُ ذلك لكم. وقال بعضُهم : هذا ذِكرٌ عامٌّ للعالَمين، فمَن شاءَ أن يستقيمَ استقامَ.